الكتاب: منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي (المتوفى: 1410هـ) الناشر: دار المنهاج - جدة الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول (ص) عبد الله عبادى اللحجى الكتاب: منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي (المتوفى: 1410هـ) الناشر: دار المنهاج - جدة الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم]ـ المؤلف: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي (المتوفى: 1410هـ) الناشر: دار المنهاج - جدة الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م عدد الأجزاء: 4 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب: منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي (المتوفى: 1410هـ) الناشر: دار المنهاج - جدة الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م عدد الأجزاء: 4 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المجلد الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كلمة الناشر الحمد لله خالق الثقلين الهادي إلى النجدين، والصلاة والسلام على رحمة الدارين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. يولد الإنسان على فطرة سليمة، وهيئة قويمة وطريقة مستقيمة، ثم ما يلبث أن يغمس في الفتن ويبلى بالمحن، ويتأرجح في الإحن، ويختلط عليه الحابل بالنابل، فلم يزل مرتبكا وغافلا؛ لا يستطيع أن يمسك بزمام نفسه، ولا يدري إلى أين تقوده، وكيف يكون مصيره إلى أحسن تقويم؟ أم إلى أسفل سافلين؟!. نعم؛ إن الإنسان في هذه الحياة مثله مثل الغريق السابح في بحر متلاطم يصارع أمواجه، ومن ثمّ تخور قواه، وينتظر طوق نجاة ينشله إلى برّ الأمان، ولكن ما هو طوق النجاة هذا؟ وما هي أحباله؟ إنه الإيمان، وأحباله شمائل الرسول النبي العربي الهاشمي المطّلبي أبي البتول، فإليها ينتهي السّول، وعلى وسائلها يتمّ الوصول إلى كل مأمول، ويكون بها القبول في المعلوم والمجهول، والكيف والكم، والأخص والأعم فيما علم وما لم يعلم؛ من الكنز المطلسم والسرّ المكتّم، والسلسبيل المطمطم، وفيض الله الأعظم؛ يلهمه من يلهم، وكل مغرم بصبابته متيّم، وفي علم الله هام وهيّم. اللهمّ؛ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد طوق النجاة، وعلى ذريّاته الطاهرات وزوجاته المطهرات، وأصحابه العدول الثقات، والتابعين من المحسنين والمحسنات، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات؛ عدد ما في الحياة والممات ويوم الحسرات، مما أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو جعلته عندك في الغيبيّات من الخيرات، وعدد ما جرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وتجري به الألسن من الدعوات، وما أتت وتأتي به الجوارح من الطاعات، وعدد ما لم تنبس به الشفاه، وما لم يمر بالنفوس من خطرات، وبالعقول من خاطرات؛ بعدد المعلومات والمجهولات، في عالم الأرضين والسماوات، وما بينهما وما فيهما من مخلوقات، صلاة تغفر لي بها الزلّات؛ الكبيرات منها والصغيرات، السابقات منها واللاحقات، وتصلح لي ما مضى من أعمالي وما هو آت، كما توفقني لجميع الخيرات، وتسدّدنا بجميع الصالحات، حتى تشهد ذاتي الفانية ذاتك الباقية؛ يا من بيده الفضل، ومنه الوصل وعليه الوكل، كن لي مخرجا من جميع الضائقات، ومتحمّلا عني جميع التبعات مما قصّرت فيه من التكليفات وأداء الأمانات، بدافع الشهوات أو بعارض السهوات، وانفحني اللهمّ بالنفحات في جميع الأويقات واللحظات، مع لطفك والعفو والعافية والمعافاة؛ من كافة الشرور وجميع الآفات والبليات. ربي؛ واجعل مثل ذلك لوالديّ ولزوجي وذرّيّتي أزواجا وزوجات، ولمن تعلّق بزمامي من محبين ومحبّات، وكان في خدمتي وكنت في خدمته من الصالحين والصالحات، والصدّيقين والصدّيقات من أهل الأرضين والسماوات. اللهمّ؛ إني أعوذ بك من شرّ النفس وسيئآتها والموبقات، والكفر والمكفرات؛ من الأقوال والأفعال والنيات. اللهم؛ بالنبوات المعجزات، والرسالات الباهرات، والولايات المتواصلات، والكلمات التامّات وبالباقيات الصالحات، وبالطاعات المتقبلات، وبالحسنات المضاعفات، وبالأمنيات المتحقّقات، وبالأعطيات الجزيلات، وبالخيرات الكثيرات، وبأهل الكرامات، وبأعلى المقامات للوارثين والوارثات، وبسيّد السادات طوق النجاة. اللهمّ؛ ألزمنا العروة الوثقى وأحملنا على المحجّة البيضاء، وجمّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أحوالنا بالتقوى، وألبسنا حلل السعادات وأكرمنا بدوام المناجاة، وأتحف البصيرة بالمشاهدات والشكر بالعبرات، ولا تجعل لي إلى غيرك التفاتا ولا عنك انفلاتا، لا إله إلّا أنت بك وعليك توكّلت في جميع الحالات. اللهمّ؛ إن الفوت موت وأنت الوارث الباعث؛ فانظر إلى عبادك وتقبّل منهم القليل يا جليل. اللهمّ؛ وانظر من عبيدك الحال يا ذا الجلال، ويا من عطاؤه وثوابه ليس بتحصيل حاصل الأعمال، بل بجود جواد وتفضّل مفضال، أكرمنا يا كريم بحسن خواتم الأعمال، وحسن الخاتمة عند دنوّ الآجال. اللهمّ؛ ولا تجعل في رزقنا حائلا بيننا وبينك يا شديد المحال، إنّ في تدبيرك ما يغنيني عن الحيل، وإنّ في كرمك ما هو فوق الأمل، وإنّ في حلمك ما يسدّ الخلل، وإنّ في عفوك ما يمحو الزلل. اللهمّ؛ فبقوّة تدبيرك وفيض كرمك وسعة حلمك وعظيم عفوك؛ صلّ وسلم في كلّ حال على سيدنا محمد مزيل الضلال، ودائرة كؤوس السلسال، ويتيمة عقد الآل؛ باب حضرة الجلال، وساقي كؤوس الوصال، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين بإحسان إلى يوم المآل، ولك الحمد كما قلت وكما ينبغي أن يقال. الناشر السيد الدكتور: هاشم محمد علي مهدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ترجمة الشّيخ عبد الله اللحجي بقلم: فضيلة العلامة الدكتور المحدث المسند السيد: محمد بن علوي المالكي من علماء البلد الحرام هو شيخنا العلّامة الفقيه المرجع، المحدّث المسند، العارف بالله الشيخ: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي. ولد سنة: 1343 بقرية نوبة عياض من قرى لحج، ثم سافر إلى المراوعة قبل البلوغ؛ وهو في الثانية عشرة لطلب العلم، فأخذ عن مشايخها وهم: السيد عبد الرحمن بن محمد الأهدل ، وهو شيخ التخرّج والانتساب في اليمن، فقد لازمه أكثر من عشر سنوات، وقرأ عليه كثيرا من المقروءات، وخدمه وانتفع به، وحضر دروسه وسمع منه، وقرأ عليه؛ في التفسير والحديث والفقه وقواعد الفقه وأصول الفقه والعقائد ومصطلح الحديث والتصوّف والفرائض والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والمنطق. وأجازه إجازة عامّة بكلّ ما تجوز له روايته، وفي العلوم الشرعية والعقلية والأحزاب والأوراد والأذكار والصلوات المأثورة وغير المأثورة، وكتب له الإجازة بخطّه الشريف. ومن شيوخ الشيخ اللحجي في المراوعة: الشيخ العلامة السيد: عبد الرحمن بن حسن بن عبد الله بن محمد معوّضه قاسم الأهدل المروعي، سمع منه وقرأ عليه، وحضر عنده في الفقه والحديث والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق وقواعد الفقه وغيرها، وأجازه إجازة عامّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي في اليمن: الشيخ العلّامة الحبر البحر الفهّامة أبو الفضائل عزّ الدين السيد: محمد حسن هند بن عبد الباري بن محمد بن حسن بن عبد الباري الأهدل، حضر دروسه وسمع منه، وقرأ عليه في الفقه والحديث والمنطق والعقائد والأصول والتجويد والعروض وغيرها، ولازمه واستفاد منه وقرأ عليه كثيرا، فله عليه منّة كبرى بعد شيخه السيد عبد الرحمن محمد الأهدل رحمهم الله تعالى. آمين وقد أجازه إجازة عامّة. رحلته إلى مكة المكرمة: رحل إلى مكة سنة: 1374 هـ، ومكث بها سنة واحدة، ثم عاد إلى اليمن، ثم رجع إلى الحجاز عام: 1377 هـ؛ واستقرّ به المقام في مكة المكرمة إلى وفاته. اتّصاله بالوالد السيد علوي المالكي: اتصل الشيخ عبد الله اللّحجي بالوالد في أول سنة جاء فيها إلى مكّة؛ وهي سنة: 1374 هـ، فقرأ عليه في المسجد الحرام، وأخذ عنه مدّة أقامته الأولى؛ وهي سنة كاملة. ثم رجع إلى بلاده، ثم جاء إلى مكة المكرمة مرّة ثانية عام: 1377 هـ، واستقرّ بها إلى وفاته؛ ملازما لسيّدي الوالد السيد علوي المالكي ملازمة تامّة. وقرأ عليه في المسجد الحرام بباب السلام، وفي بيته، وبالقرارة ثم بالحلقة، ثم بالعتيبية كتبا عديدة؛ في التفسير والحديث والأصول والمنطق والتاريخ وتاريخ التشريع والقواعد والتصوف. وممّا قرأه عليه: «موطأ الإمام مالك» ، و «صحيح البخاري» ، و «صحيح مسلم» ، و «سنن أبي داود» ، و «سنن الترمذي» . وكان الشيخ عبد الله هو القارىء أمام الوالد في الدرس في المسجد الحرام. وكذلك قرأ عليه كتاب «بلوغ المرام» و «رياض الصالحين» و «الشفا» و «الشمائل» للترمذي بالمسجد النبوي في الروضة الشريفة جوار الحجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 المشرّفة؛ في الدروس الخاصّة. و «ألفية السيوطي» ، و «طلعة الأنوار» ؛ وشرحها: «رفع الأستار» ، و «نيل المرام في تفسير آيات الأحكام» ؛ في الدروس العامّة بالمسجد الحرام. وكان الشيخ عبد الله هو القارىء فيها. و «رسالة» جدّي السيّد عبّاس المالكي في الاستعارات، و «رسالة في علم المناظرة» و «رسالة في علم الوضع» وطائفة من «الإتقان» ، وطائفة من «الموافقات» للشاطبي وكتبا كثيرة، ولازمه ملازمة تامّة، وخدمة في كثير من شؤونه العلمية، وكتب له كثيرا من فوائده، وأملى عليه كثيرا من رواياته. وكنت لا أرى مجلسا من مجالس والدي إلّا وأرى الشيخ عبد الله اللحجي في ذلك المجلس؛ سواء كان مجلس علم، أو مذاكرة، أو ضيافة، أو ذكر، أو دعوة. ونسخ بيده كثيرا من المخطوطات المفيدة، والمجاميع العديدة، والرسائل النادرة باسم سيّدي الوالد. أي: هديّة له. وكان كلّ منهما يحبّ الآخر وينظر إليه بعين الفضل. وكان الشيخ عبد الله المذكور يقول: أنا لا أشبع من مجالسة شيخنا السيد علوي. وإني إذا أصبحت أفكر في الذهاب إليه وأهيّىء نفسي لذلك، وكان يقول أيضا عنه: هو شيخنا الذي فتح قلوبنا وزكّى نفوسنا، وأمدّنا بما لا ننساه، وعرّفنا بالناس، وأخذنا إلى الأفاضل من أهل الحرمين الشريفين، واجتمعنا عنده وفي رحابه بكبار علماء المسلمين من الوافدين في الحج والعمرة والزيارة. واتّصلنا بهم وأخذنا عنهم واستجزناهم ببركته وإشارته، فعنه أخذنا، وبه تخرّجنا، ولولاه ما كنّا ولا أصبحنا ولا أمسينا. هكذا سمعته منه بلفظه رحمه الله. وقد كان لسيّدي الوالد الحبيب علوي المالكي عناية خاصّة وتامّة بالشيخ عبد الله اللحجي؛ فقد كان يأخذه معه في أكثر مجالسه واجتماعاته ورحلاته خارج مكّة المكرّمة للوعظ والإرشاد، أو للإصلاح بين الناس، أو لزيارة العلماء والصالحين، أو لحضور مجالس الذكر وقراءة القرآن. فقد حجّ معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 مرّات، وزار معه المدينة المنورة مرّات، وسافر معه إلى الطائف وجدّة مرّات. وكان سيّدي الوالد الحبيب علوي المالكي قد أعطاه غرفته الخاصّة التي تسمّى ب (الخلوة) في رباط السليمانية. ثم الخلوة الثانية المطلّة على الحرم من جهة باب السليمانية، والتي كانت تسمّى ب «المدرسة» . ثم خلوة أخرى في مشاريع توسعة الحرم الأولى. وكان الشيخ عبد الله متفرّغا للعلم والتعليم؛ يعيش مع طلبة العلم ويسكن معهم وينام، فكانت أوقاته كلّها مصروفة للعلم والدرس والتدريس والطلاب. وكان سيّدي الوالد يقضي أكثر أوقاته التي لا ارتباط فيها بمدرسة أو موعد في هذه الخلوة مع الشيخ عبد الله ومن معه من الطلاب في دروس خاصّة عالية، ومذاكرات وفوائد سامية. وعناية الوالد السيّد علوي المالكي بالوافدين معلومة وظاهرة للجميع ويعتبرها من وظائفه المهمة التي أوجبها هو على نفسه. يقول فضيلة الأخ الشيخ أحمد جمهوري البنجري- فيما كتب إليّ بخطه-: قال شيخنا العلّامة المحقق الشيخ إسماعيل «1» : إنه (أي السيد علوي المالكي) علّامة زمانه، فخر أوانه والمقدّم بين أقرانه المتفننين بشتّى فنون المنقول والمعقول، والقائم على هدي جدّه المصطفى الرسول صلّى الله عليه وسلّم- إلى أن قال- وله عليّ وعلى غيري من أهل العلم الوافدين إلى بلد الله الأمين للإقامة به منّة عظمى ونعمة كبرى؛ حيث إنّه يقوم برعاية الغرباء من الطلاب، ويسدي إليهم كلّ جميل، وساعدهم بكلّ ما في وسعه مما يحتاجونه مما يسهّل لهم سبيل الإقامة. فجزاه الله عنا أحسن الجزاء. ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرمة: الإمام العلّامة المحدّث شيخنا الشيخ: حسن بن محمد المشّاط المكّي المالكي،   (1) أي الشيخ إسماعيل الزين المتوفى بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 حضر دروسه وسمع منه، وقرأ عليه أشياء كثيرة في الحديث وغيره، ك «صحيح البخاري» ، و «صحيح مسلم» ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، و «موطأ الإمام مالك» ، و «مسند الإمام أحمد» ، و «مسند الشافعي» ، و «سنن الشافعي» ، و «سنن البيهقي» ، و «شمائل الترمذي» ، و «الشفاء» للقاضي عياض، و «الأوائل» السّنبلية بكمالها، وقرأ عليه كثيرا من المسلسلات والأثبات، كثبت الشيخ محمد بن علي الشنواني، وحسن الوفا بثبت الشيخ فالح الظاهري الحجازي. وثبت السيد حسين بن محمد الحبشي المكي ( «فتح القوي» ) ، وثبت الشيخ وليّ الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، وثبت الشيخ محمد ضمّا بن حسن البناني الفاسي، وقرأ عليه «رفع الأستار» ، و «شرح طلعة الأنوار» ، و «شرح البيقونية» كلاهما تأليفه، وغير ذلك من مقروءات ومسموعات، فله عليّ منّة كبرى. ولازمه مدّة طويلة واستفاد منه فوائد جمّة جزاه الله عنه خيرا، وأجازه إجازة عامة مرّات متعدّدة، وكتب ذلك بخطّه الشريف وألبسه الخرقة، وأسمعه حديث الرحمة المسلسل بالأولية. ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة الإمام المؤرّخ المحقق شيخ المشايخ السيد الشيخ محمد العربي ابن التبّاني الواحدي الجزائري المكي، سمع منه وحضره وقرأ عليه كتاب «الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير» للحافظ السيوطي، وطائفة من «تفسير الجلالين» ، وطائفة من كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد» للحافظ ابن القيم، وطائفة من «رياض الصالحين» للإمام النووي، وطائفة من «سيرة ابن هشام» ، وأوائل كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» صلّى الله عليه وسلّم للعلامة الشيخ يوسف النبهاني، وقرأ عليه تأليفه «محادثة أهل الأدب في أنساب العرب» واستفاد منه وقد أجازه إجازه إجازة عامّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومن مشايخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة المسند الشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكّي، قرأ عليه كتاب «آداب البحث والمناظرة» لطاش كبري زاده، و «الرسالة الشريفة في آداب البحث والمناظرة» ، ورسالته المسماة «تشنيف السمع في علم الوضع» ، وسمع عليه كثيرا من المسلسلات بأعمالها القولية والفعلية، وأضافه على الأسودين التمر والماء. وأجازه إجازة عامّة. ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي من أهل مكة المكرمة العلامة السيد: محمد أمين الكتبي المكيّ الحنفي، سمع منه وحضر لديه في درس التفسير والحديث والعربية ك «شرح ابن عقيل» ، و «شرح الأشموني على ألفية ابن مالك» في النحو والصرف، وكتاب «العزّي» في الصرف، و «شرح الجوهر المكنون في الثلاثة الفنون» ، و «دلائل الإعجاز» للشيخ عبد القاهر الجرجاني. ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: محمد يحيى أمان المكّيّ الحنفي القاضي بالمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة، وقرأ عليه من أوّل «سنن الترمذي» ، ومن أوّل «تفسير الجلالين» ، وأجازه إجازة عامّة في كلّ ما تجوز له روايته. ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللّحجي من أهل المدينة المنوّرة العلّامة الشيخ: أمين بن أحمد الطرابلسي- طرابلس الغرب- المالكيّ المدرّس بالمعهد العلمي بالمدينة المنورة، اجتمع به كثيرا في المدينة المنوّرة ومكّة المكرمة في منزله وغيره، واستفاد منه فوائد جمّة، وقد قرأ عليه شيئا من «المنظومة الشاطبية» المسمّاة «حرز الأماني» في علم القراءات السبع، وشيئا من شرحها لأبي شامة، وتعلّم منه شيئا من علم الفرائض، وأجازه بما تجوز له روايته. ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: إسحاق بن إبد بن محمد نور الصامولي، قرأ عليه كتابا في علم الصرف، وأجازه بماله من مرويّات ومقروءات ومسموعات إجازة عامّة. ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلامة الشيخ: حسن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سعيد بن محمد بن أحمد اليماني المكيّ الشافعي، اجتمع به في داره بمكّة مرارا وتردّد إليه، وحضر دروسه في المسجد الحرام؛ في «صحيح مسلم» ، و «شرح المحلي» في الفقه، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي، وسمع من فوائده كثيرا، وقد أجازه بكلّ ما تجوز له روايته؛ من منقول ومعقول، وأوراد وأذكار. روايته وأسانيده: يروي الشيخ عبد الله اللّحجي عن كثير من العلماء المحققين. ويأتي في الدرجة الأولى شيوخه الذين قرأ عليهم وجلس بين يديهم، فقد استجازهم وروى عنهم، وأخذ عمن اعتنى منهم بالإسناد والرواية المسلسلات القولية والفعلية؛ كالمسلسل بالأولية وصنّف فيه جزءا خاصّا سمّاه: «إعانة ربّ البرية على جمع تراجم رجال الحديث المسلسل بالأوّلية» ، وإضافة إلى ذلك فقد استجاز جملة من أئمة الحديث، واستفاد من مواسم الحج والعمرة والزيارة بلقاء العلماء وزيارتهم، واستجازتهم والرواية عنهم. ومنهم الشيخ أحمد بن عبد الباري بن علي عاموه اليماني الحديدي الحنفي، والشيخ محمد بن أحمد السالمي الزبيدي، والسيد علي بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن أبكر الأهدل الزبيدي، والسيد أبكر مهادن بن عبد الرحمن بن إسماعيل الأهدل الزبيدي، والسيد محمد بن سليمان إدريسي الأهدل الزبيدي، والسيد محمد بن يحيى دوم الأهدل (قاضي الزهرة باليمن) ، والشيخ عبد الله بن علي المعمودي الشافعي (قاضي أبي عريش) ، والشيخ محمد إبراهيم بن الملّا سعد الله الفضلي الختني، والمشهور ب «البخاري» وهو ليس من بخارا، والشيخ محمد يوسف البنّوري بن محمد زكريا الباكستاني، والشيخ محمد خير بن يار محمد الباكستاني ثم المكي، والسيد محمد المكي ابن السيد محمد بن جعفر الكتاني الفاسي ثم الشامي، والشيخ محمد زكريا بن محمد يحيى الكاندهلوي السهار نفوري؛ ثم المدني، والسيد سالم بن أحمد بن جندان آل الشيخ أبي بكر بن سالم، والسيد عبد الله بن أحمد الهدار آل الشيخ أبي بكر بن سالم، والشيخ سلامة العزّامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 القضاعي الشافعي المصري، والشيخ عبد السلام بن عبد القادر الفاسي. وأكثر هؤلاء اجتمع بهم في مواسم الحج في رحاب شيخه السيد علوي بن عبّاس المالكي الذي كان مجمعا للوفود من الحجاج والمعتمرين من علماء العالم الإسلامي. وقد صنف ثبتا صغيرا في حجمه؛ كبيرا في علمه، ضمّنه شيوخه ومرويّاتهم باختصار وختمه بفوائد نفيسة، وذكر فيه أنّه أجاز أهل عصره؛ فقال: هذا؛ وإني قد أجزت من أدرك حياتي ممن أراد الرواية عني، وقبل الإجازة مني؛ اقتداء بالأئمة الذين فعلوا ذلك وأجازوه. قال الشيخ العلامة المحقق محمد بن علي ابن علّان الصدّيقي المكي المتوفى سنة: 1057 هـ رحمه الله تعالى في آخر «شرح الأذكار» المسمّى «الفتوحات الربانية» ، قال الإمام النووي في «الإشاد» : (إذا أجاز لغير معين بوصف العموم؛ كقوله: أجزت للمسلمين، أو لكلّ أحد، أو لمن أدرك زماني، وما أشبهه.. ففيه خلاف للمتأخّرين المجوّزين لأصل الإجازة. فإن كان مقيّدا بوصف خاصّ فهو إلى الجواز أقرب، وجوّز جميع ذلك الخطيب، وجوّز القاضي أبو الطيّب، الإمام المحقّق الإجازة لجميع المسلمين الموجودين عندها، ثمّ قال: وأجاز أبو عبد الله بن منده لمن قال: لا إله إلّا الله، وأجاز أبو عبد الله بن عتّاب وغيره من أهل المغرب لمن دخل قرطبة من طلبة العلم، وقال أبو بكر الحازمي الحافظ: الذين أدركتهم من الحفّاظ، كأبي العلاء وغيره، كانوا يميلون إلى جواز هذه الإجازة العامّة. قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: ولم يسمع عن أحد يقتدى به أنّه استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا عن الشرذمة الّتي سوّغتها، وفي أصل الإجازة ضعف فتزداد بهذا ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله. وهذا الذي قاله الشيخ ابن الصلاح خلاف ظاهر كلام الأئمّة المحقّقين والحفّاظ المتقنين، وخلاف مقتضى صحّة هذه الإجازة، وأيّ فائدة إذا لم يرو بها) . انتهى كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى «1» .   (1) كتاب «المرقاة إلى الرواية والرواة» ؛ للشيخ عبد الله بن سعيد اللحجي ص 60- 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثم قال الشيخ اللحجي في آخر ثبته «المرقاة» : وأنا الفقير إلى الله عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي أجزت من أدرك حياتي بما أجاز به الحافظ ابن الدبيع رحمه الله تعالى، ورجوت ما رجاه من فضل الله وكرمه. ذا سندي؛ فإن قبلت حبّذا ... أو لم يناسب خلف ظهرك انبذا حرر في 28 شعبان المعظم سنة: 1398 هـ بمكة المكرمة بمنزلي في جبل الحفاير المطل على الشّبيكة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة وألف من هجرة من له العزّ والشرف، كتبه مؤلّفه الفقير إلى الله عزّ وجلّ: عبد الله بن سعيد اللحجي بن محمد عبادي اللحجي الحضرمي المكي؛ فتح الله عليه فتوح العارفين، وألحقه بالقوم الصالحين، وغفر ذنوبه أجمعين بمنه وكرمه. آمين. والشيخ عبد الله عالم فقيه نحويّ مشارك، له عناية كاملة بالحديث الشريف، يبذل في شراء كتبه ما يملك، وينقب عن نوادره، ويتصيّد نفائسه، يسعى للقاء الرجال والأخذ عنهم، حسن الاعتقاد فيهم، عفيف النفس، صادق العزم، عالي الهمة، بعيد عن المداراة والمجاملة. اشتغل بالتدريس في المراوعة في الجامع الكبير، وتصدّى لإفادة الطلاب ونشر العلم، وأقبل عليه الطلاب وكان هو خليفة الشيخ السيد عبد الرحمن هناك. وفي مكّة المكرّمة كان بجانب ملازمته لسيّدي الوالد وصحبته له وحضوره مجالسه ودروسه واشتغاله بكتابة رسائله وفتاويه وبحوثه حريصا على نفع الطلاب وإرشادهم بتدريسهم في المسجد الحرام في أوقاته الأخرى، وتدريسه في عدة مدارس؛ منها المدرسة الصولتية، ومدرسة دار العلوم الدينية، والفخرية. [ مناقبه ] ومن مناقبه الحميدة وخصاله المجيدة: أنه كان حريصا كلّ الحرص على اقتناء الكتب النفيسة عامّة، وخصوصا كتب الحديث والتاريخ والسيرة النبوية والتصوف، ويبذل في شرائها كلّ ما يملك، وقد يكون محتاجا إلى ثمنها؛ ولكنه كان رحمه الله يقدّم حاجة الروح على حاجة الجسم. ومن مناقبه الحميدة التي شهدناها ورأيناها فيه: حرصه العظيم على لقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الرجال من أئمة العلم (ذوي الأسانيد العالية) ، ومن العارفين بالله المشهورين بالولاية والصلاح. وكان ممّا يوصيني به عند سفري إلى مصر؛ أو المغرب؛ أو باكستان أو غيرها من البلاد: أن أستجيز له ممّن أستجيزه، ويقول لي: أشركني معك في إجازاتك. وقد طلبت له الإجازة من جملة من علماء العصر، ومنهم الشيخ عبد السلام بن عبد القادر ابن سودة الفاسي، والشيخ محمد عبد الله العربي العقوري، لكن الأخير لم يذكره في أسانيده فلعلّه نسيه!!. ومن مناقبه العظيمة وخصاله الكريمة رحمه الله: اعتناؤه العظيم بالنسخة التي يدرسها؛ أو يدرّسها، فيبحث عن النسخ الصحيحة القديمة، ويقابلها بالنسخة المطبوعة الجديدة، ويضبطها ضبطا متقنا معتنى به، ولمّا كنّا نقرأ «سنن أبي داود» ، و «الترمذي» على سيّدي الوالد في المسجد الحرام بعد العشاء، ويشكل علينا لفظ أو ضبط اسم، أو نشكّ في كلمة هل هي ساقطة أو زائدة؟؟ كان كثيرا ما يقول سيّدي الوالد للشيخ عبد الله في الدرس: (ماذا عندك في نسختك؛ يا شيخ عبد الله) ، فكان يقول قولا مفيدا يحلّ الإشكال ويزيل اللبس. وأحيانا كان سيّدي الوالد يقول له: (راجع لنا هذه المسألة؛ يا شيخ عبد الله) ، فكان يأتينا اليوم الثاني بالمفيد. ومن مناقبه الشريفة رحمه الله: أنّ أوقاته كلّها كانت مملؤة بالوظائف والواجبات بين علم وتعليم، ودرس وتدريس، وملازمة لدروس الوالد؛ والشيخ حسن المشاط. وهو مع جلالة قدره وعظيم رتبته وعلوّ مقامه وسعة علمه؛ إلّا أنه كان عظيم المواظبة على حضور دروس الوالد ومجالسه في الدرجة الأولى، ودروس الشيخ حسن المشاط. فقد كان يقضي مع سيّدي الوالد كلّ يوم من بعد العصر في ما بين المنزل والحرم إلى ما بعد العشاء بساعة فيما عدا قبل العشاء. فقد كان يذهب إلى درس الشيخ حسن المشاط (في الحديث) ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مواظبا على هذا الترتيب لا يكاد يتركه إلّا لعذر طارىء، أو لتوقّف الدروس في الصيف؛ أو رمضان. ومع توقّف الدروس العامة في الحرم إلّا أنه لا يترك الحضور عند الوالد في مجلسه يوميا بعد العصر إلى انقضاء المجلس في مواسم الحجّ. وقد كتبت عنه «جريدة المدينة» بعد وفاته تحقيقا بقلم الأستاذ المؤرخ عبد الرحمن مغربي جاء فيه: كان رائدنا من العلماء الأفاضل عالما ضليعا، وفقيها متمكّنا، وعاملا صالحا، هو واحد من العلماء الذين كرّسوا حياتهم لطلب العلم درسا وتدريسا؛ يجود بعلمه على العامّة والخاصّة. كان رحمه الله محبّا لطلابه ومحبّا لأساتذته ومشايخه قبل ذلك، إذ يعدّ مرجعا قويّا للكتابة عن العلماء بمكّة، وبعد حضور مجالس وحلقات العلم بالمسجد الحرام تصدّى للتدريس بالمسجد الحرام بعد أن أخذ الإجازة من علماء الحرم المكي؛ فعقد حلقته العلمية والدينية تحت أروقة المسجد الحرام، وكانت تكتظّ بالطلاب الذين انتفعوا بعلمه؛ فأقبل عليه عامّة الطلبة وخاصّتهم ينهلون من مورده العذب في كثير من علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية. وقد درّس شيخنا في حلقته بالحرم الشريف «الصحيحين» ، وكتب: «منهاج الطالبين» في فقه الشافعية، و «متن الغاية والتقريب» ، وعلوم اللغة العربية بفروعها، وقد أخذ عنه كثير من طلبة العلم الذين ينتمون إلى كثير من البلدان العربية، وأصبح لهم مكانة علمية مرموقة «1» . صلتي بالشيخ اللّحجي أما اتصالي بالشيخ عبد الله اللحجي؛ فقد كان اتصالا وثيقا وقويّا وعظيما. فقد لازمته بأمر والدي، وله عليّ فضل عظيم ومنّة كبرى؛ قرأت عليه وأخذت عنه، وحفظت عليه متونا كثيرة، ورافقته في خلوته برباط السليمانية؛ إذ كنت أذهب إليه كلّ يوم في الظهر ونقرأ ونذاكر ونحفظ تحت   (1) جريدة المدينة ملحق الأربعاء 20 جمادى الآخرة 1415 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 إرشاده، ثمّ نخرج معه إلى المسجد الحرام لصلاة العصر وتسميع بعض المتون، ثم نمشي معه إلى مجلس سيّدي الوالد السيّد علوي بعد العصر؛ حيث كان الشيخ اللحجي يحضر يوميا بعد العصر إليه؛ فيجلسان في مذاكرة ومدارسة وكتابة وإرشاد للناس، ثم نخرج جميعا معه في معيّة سيّدي الوالد إلى المسجد الحرام فنحضر جميعا الدرس الأول بعد المغرب. ثم يقوم الشيخ اللحجي بعد الدرس إلى مجلس شيخنا الشيخ حسن المشاط؛ وكنت أقوم معه إلى درس الشيخ حسن المشاط. ثم نرجع بعد العشاء إلى سيدي الوالد فنحضر معه درس الحديث لمدّة ساعة، وكان هو المقرىء، وقد حضرت بقراءته كتبا كثيرة بين يديّ سيدي الوالد (السّرّاد) منها: «سنن الترمذي» ، و «سنن أبي داود» ، وفي آخر «سنن أبي داود» هو الذي اقترح على سيّدي الوالد أن أقوم أنا بسرد الحديث والقراءة بين يديه، فبدأت بإرشاده واقتراحه بالقراءة بين يدي والدي؛ وحضور كبار تلاميذه في ذلك الدرس وو كنت أراجع الدّرس وأطالعه قبل القراءة مسترشدا بالشيخ عبد الله في كلّ مشكل من الأسماء؛ أو ضبط القراءة واستمر الحال على هذا إلى وفاة الوالد السيد علوي المالكي سنة 1391 هـ. صلة خاصة: ومما أعتزّ به وأفتخر تلك السنة التي تركت فيها مدرسة الفلاح وعزمت على التفرّغ لطلب العلم وحفظ المتون تفرّغا كاملا؛ بعيدا عن النظام المدرسي والمنهج المقرّر وجوّ الاختبارات، وكان سيّدي الوالد مشغولا بمدرسة الفلاح يوميّا. وكان من حسن الحظ والسعد أنّ الشيخ عبد الله اللحجي ترك التدريس بدار العلوم بتلك السنة فوقع الاتفاق بينه وبين سيّدي الوالد على أن يقوم بتدريسي يوميا من الصباح إلى الظهر، والالتزام بمنهج معين مرتّب، وجدول منظم؛ يشتمل الحديث والتفسير والمصطلح وأصول الفقه والقواعد والنحو والصرف والفرائض والفقه المالكي والتوحيد في يوم دراسيّ كامل. وقد اختار هو بنفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أن يأتي إلى دارنا في الحلقة القديمة المعروفة ب «حارة النقا» وهي ليست ببعيدة عن محل سكناه إذ ذاك، لأنه كان يسكن قريبا منا في بيت (الملاه) المعروف (جهة الراقوبة) . وقد قرأت عليه في تلك السنة كتبا كثيرة وحفظت متونا كثيرة، وكلّ ذلك مفصّل في محله من كتبي في الأسانيد والتراجم والإجازات، وقد استمرّ الحال على هذا الترتيب (سنة ونصفا) وهي سنة (98/ 99 هـ) ، وتأهّلت بعدها لدخول اختبار كلية الشريعة بالأزهر الشريف مع من كان أكبر منّي سنّا وأعلى شهادة بفضل الله تعالى، ثم بفضل والدي السيّد علوي، وشيخي الشيخ عبد الله اللحجي. مؤلفاته: له مؤلفات مفيدة في بابها، ونافعة لطلابها منها ما طبع في حياته وهي: 1- إيضاح القواعد الفقهية لطلاب المدرسة الصولتية. 2- إعانة ربّ البرية على جمع تراجم رجال الحديث المسلسل بالأولية. 3- المرقاة إلى الرواية والرواة. ذكر فيه شيوخه ومقروءاته عليهم. 4- رسالة جمع فيها أربعين حديثا. وهذه طبعت في حياته. 5- وله «منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» شرح فيه كتاب «الشمائل» للشيخ يوسف النبهاني، وهو الذي نقدّمه للقرّاء اليوم، والذي تبرّع بطبعه بعض المحسنين جزاهم الله خيرا، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم. 6- وله «إسعاف أهل الخبرة بحكم استعمال الصائم للإبرة» . 7- وله «فتح المنان في شمائل شيخنا عبد الرحمن» . 8- وله عدّة مناظيم منها: نظمه للقيلات المعتمدة في «المنهاج» للنووي. 9- وله «نظم في الغزوات» . 10- وله «حديقة الأبرار شرح بهجة الأنوار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وفاته: بعد حياة حافلة بالخير وطلب العلم والتدريس تحت أروقة الحرم المكي الشريف؛ انتقل شيخنا الشيخ عبد الله اللحجي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد الموافق للسادس والعشرين جمادى الأولى: 1410 هـ بمكّة المكرمة بعد مرض خفيف استمرّ يومين؛ أو ثلاثة. وصلّي عليه يوم الأحد بالمسجد الحرام وشيعت جنازته التي حضرها حشد كبير من العلماء والطلاب ومحبّيه رحمه الله رحمة الأبرار والصالحين. ودفن بمقبرة المعلاه بجانب شيوخه الكرام السيد علوي المالكي، والشيخ محمد العربي، والشيخ حسن المشاط وغيرهم. وقد ترك ولدين هما أحمد ومحمد، وثلاث بنات. وخلّف مكتبة قيّمة سعى في تكوينها وزيادتها واعتنى بها، وفيها الكثير من كتب التراث والعلوم الدينية. وبعد؛ فهذه كلمات مختارة مما كتبته عن شيخنا الشيخ عبد الله اللحجي في ثبتي الكبير، وضمن تراجم شيوخي وسيظهر إن شاء الله في وقته. والله يتولّى الجميع برعايته. وكتبه خادم العلم الشريف ببلد الله الحرام السيد محمد بن علوي بن عبّاس المالكي الحسني المكّي في ليلة الجمعة: 18 جمادى الأولى 1418 هـ مكة المكرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 تعريف بكتاب منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب (منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم) ، تأليف العالم العلّامة البحر الفهّامة، خاتمة المحققين، شهاب الملّة والدين، قطب زمانه، وسيّد أوانه؛ الشيخ عبد الله بن سعيد اللّحجي، ت 1410 هـ. بدأت معرفتي بهذا الكتاب في منتصف عام 1407 هـ حينما كنت جالسا مع شيخي الأجل مؤلّف الكتاب، وقال لي: نريد أن نقرأ هذا الكتاب وناولني الجزء الأوّل منه، وإذا به الكتاب الّذي كنت أسمع أنّ شيخنا رحمه الله تعالى ألّفه، في حقّ الجناب النّبويّ، ولكنّه كان يخفيه ولا يبديه.. فلبّيت مسرعا في إجابته؛ لأنّ ذلك ما كنت أبغي. فألفيت الكتاب كنيفا ملىء علما، إذ لم يؤلّف في زمانه مثله علما وتحقيقا.. شرح فيه وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم للشيخ يوسف بن إسماعيل النّبهانيّ ت 1350 هـ. دعاه إلى وضع هذا الشّرح عليه: أنّ هذا الكتاب من أجلّ ما ألّف في محاسن قطب الوسائل، ومنبع الفضائل، الحائز لكل المفاخر الفاخرة، وسيّد أهل الدّنيا والآخرة، سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنّه جمع شمائله من متفرّقات كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 علماء الإسلام، ورتّبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، بحيث إنّ القارىء لهذا الكتاب كأنّه يشاهد طلعة ذلك الجناب، ويرى محاسنه الشريفة في كلّ باب.. فأراد شيخنا الشارح أن يشرح لفظه ويجلّي معناه، ويوضّح مقصوده ومرماه. وذلك بإتمام مباحثه، وتوسيع دائرته، وإضافة فوائد، وتقييد شوارد.. فجاء بهذا الحجم الّذي بين يديك- أربعة أسفار كبار بينما متنه يقع في 208 صفحة من القطع الوسط. فهو بحقّ لم تكتحل عين زماننا بمثله، إذ خلا من الحشو الزائد، وجمع ما تطمح إليه نفوس مبتغي الفوائد، مع دقة تعبير، وسلامة أسلوب وجودة تحقيق، بأسلوب لا يقدر عليه في زماننا غيره، وهو أسلوب سبك عبارة المؤلف مع الشرح في قالب واحد، وكأنّها كتبت بقلم واحد، ولسان واحد، إذ كيف تجتمع موارد أفهامهما في أربعة أسفار ضخام إلّا لمثل هذا الشيخ الأجل، الّذي كان العلم قد مزج بلحمه ودمه، فكان منه ذلك الإبداع. ولا غرابة في ذلك، فمع ما كان عليه شيخنا من إمامة في العلم في سائر فنونه المعقولة والمنقولة.. إلّا أنّه مع ذلك ظلّ في تأليفه وتنقيحه نحوا من خمس وعشرين سنة تقريبا، حيث ابتدأ تأليفه في الخامس والعشرين من شهر صفر لسنة 1376 هـ وفرغ من تنقيحه وتبييضه في الخامس عشر من شهر محرم 1400 هـ. ولا عجب في أن يظل في تأليفه هذه الفترة كلّها؛ فإنّ الموضوع يتناول الجناب النّبويّ، الّذي يتعيّن أن تكون الكتابة فيه لائقة بعظمته، ومعتمدة على نصوص الكتاب المنزل عليه، ونصوص سنّته، وعبارات علماء أمته، ومستوحاة من كمال محبته وعظيم منزلته.. وإنّك إن أنعمت نظرك في عبارات هذا الكتاب، ستجد أنّ المؤلّف رحمه الله تعالى قد كتبه من ضوء ذلك، وأتى بما لا مزيد عليه لراغب وسالك، لذلك كان حريصا عليه ضنينا به، لأنّه مهجة روحه، وأعظم نسليه.. ولقد كلّفني في آخر سني حياته بتصويره، وكان ذلك في شهر ذي الحجّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الحرام من عام 1409 هـ، وكان يعطيني كل يوم جزءا، ويقول لي: لا تعد إلّا به. وذات يوم وأنا أقرأ لديه فيه، قال لي بعد فراغي من قراءتي عليه وهو يسمع: أنّى لي بهذا الكتاب أن يطبع؟! ففهمت أنّه يشير لي أن أقوم بهذا الدّور بعد وفاته، فتبسّمت في وجهه، وتبسّم لي كذلك، غير أنّي لم أستطع التّعبير بالاستعداد مهابة له وإجلالا، فقد كان والله كما قيل في الإمام مالك رحمه الله تعالى: يأبى الجواب فلا يراجع هيبة ... والسّائلون نواكس الأذقان أدب الوقار وعزّ سلطان التّقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان فما هو والله ببعيد عن حقيقة مضمون هذين البيتين، ويشهد لذلك كلّ من عرف الشيخ من قريب وبعيد. أخيرا ها هي الأمنية قد تحقّقت اليوم بعد عشر سنين، والحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصالحات. وكتبه الفقير إلى الله تعالى د/ أحمد بن عبد العزيز بن قاسم الحدّاد مدير إدارة الإفتاء والبحوث دائرة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة- دبي في 16 من شهر شعبان المكرّم لعام 1418 هـ الموافق 16 من شهر ديسمبر لعام 1997 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 صورة الصفحة الأولى من المخطوطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 صورة الصفحة الثانية من المخطوطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 منتهى السّول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم تأليف العلّامة الفقيه الشّيخ المؤرّخ عبد الله بن سعيد محمّد عبّادي اللّحجيّ (1344- 1410 هـ) رحمه الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 اصطلاح: حيث قلت: انتهى مناوي، ونحوه، فهو مما كتبه على «الشمائل» فإن كان من (شرح «الجامع الصغير» ) بيّنته بقولي: (مناوي على «الجامع» ) . والنقل عن ابن علّان هو من (شرح «الأذكار» ) و (شرح «رياض الصالحين» ) . والنقل عن الباجوري من (حاشيته على «الشمائل» ) والقليل من (حاشية ابن قاسم) ، و (حاشية الشنشوري) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 [ مقدمة المؤلف ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين على أمور الدنيا والدين الحمد لله الّذي جعل حظّنا «1» نبيّه وحبيبه؛ سيدنا محمّدا الذي أدّبه فأحسن تأديبه، وزكّى أوصافه وأخلافه ووفّر نصيبه، ووفّق للاقتداء به من أراد تهذيبه، وحرم عن التخلّق بأخلاقه من أراد تخييبه، صلوات الله تعالى عليه وسلامه، وتحيّاته وبركاته وإكرامه، وعلى آله أجمعين، وأصحابه والتابعين، ما ذكرت محاسنه وفضائله وسرّت السامعين؛ صلاة دائمة على تعاقب الأوقات والسنين. أمّا بعد؛ فيقول الفقير إلى رحمة العظيم الباري؛ عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي الحضرمي الشحاري، غفر الله ذنوبه، وستر بفضله عيوبه: إنّه يتعيّن على كلّ مؤمن أن يثابر على ما يتقرّب به إلى مولاه، ويبادر إلى اتّباع أوامره في سرّه ونجواه، ويقتفي في سيره آثار نبيّه المصطفى، ويقتدي به في أخلاقه التي تكسبه في الدارين شرفا، إذ هو الميزان الراجح الذي بأقواله وأعماله وأخلاقه توزن الأخلاق والأعمال والأقوال، وبمتابعته والاقتداء به يتميّز أهل الهدى من أهل الضلال، وهو قطب السعادة التي مدارها عليه، وباب الطريق التي جعلها سبحانه موصلة إليه، فلا نجاة لأحد إلّا به، ولا فلاح له في الدارين إلّا بالتعلّق بسببه، والوصول إلى الله سبحانه وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غير طريقه عين الخسران والوبال. وأنت باب الله أيّ امرىء ... أتاه من غيرك لا يدخل لذلك كان أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية؛ فنّ الشمائل المحمّدية؛ المشتمل على صفاته السنية، ونعوته البهيّة، وأخلاقه الزكيّة، التي هي وسيلة إلى امتلاء القلب بتعظيمه ومحبّته، وذلك سبب   (1) يشير به إلى ما رواه الإمام أحمد في «مسنده» : «أنا حظّكم من النبيين وأنتم حظّي من الأمم ... الخ» . انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 لاتّباع هديه وسنّته، ووسيلة إلى تعظيم شرعه وملّته، تعظيم الشريعة واحترامها وسيلة إلى العمل بها والوقوف عند حدودها، والعمل بها وسيلة إلى السعادة الأبديّة والسيادة السرمدية، والفوز برضا ربّ العالمين؛ الذي هو غاية رغبة الراغبين، ونهاية آمال المؤمّلين. ولمّا كان كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» من أجلّ ما ألّف في محاسن قطب الوسائل ومنبع الفضائل؛ الحائز لكل المفاخر الفاخرة، وسيّد أهل الدنيا والآخرة، فإنه جمع شمل شمائل سيّد الأنام؛ من متفرقات كتب علماء الإسلام، ورتّبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام؛ بحيث إنّ مطالع هذا الكتاب كأنه يشاهد طلعة ذلك الجناب، ويرى محاسنه الشريفة في كل باب. دعاني حبّ سيّد الأحباب إلى وضع تعليقات على هذا المجموع المستطاب؛ تكون مرجعا لي في تفهّم عبارته عند إقرائه وقراءته؛ راجيا أن أفوز بقسط من التعلّق بجناب الرسول الأعظم، وأن أكون معدودا من جملة خادميه وحزبه؛ صلّى الله عليه وسلّم، وأن أنخرط في سلك المحبّين لسيّد المرسلين، وأن أدلي بدلوي معهم في بحر فضل خاتم النبيين، إذ الخوض في جداول بحاره يكسب الإنسان شرفا وفخرا، والتعلّق بشيء من أسبابه فيه سعادة الدنيا والأخرى، مستمدّا ذلك مما كتبه الأئمة الأعلام على أصوله المأخوذة من دواوين الإسلام، ك «حاشية الباجوري» ، وشروح «المواهب» ، و «الإحياء» ، و «الجامع الصغير» ، وقليلا ما عرّجت على غيرها ك «شرح القاموس» ، و «نهاية» ابن الأثير؛ معتمدا عليها في عزو الأحاديث ومالها من تفسير، وربّما تصرّفت في النزر النادر بالتقديم والتأخير، أو راجعت لتخريج الأحاديث من الأمهات وغيرها وذلك شيء يسير، وسمّيته: «منتهى السّول على وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول» وأنا أسأل الله العظيم، ربّ العرش الكريم؛ أن يجعله سببا لمحبّته ومحبّة رسوله الرؤوف الرحيم، وأن ينفعني والمسلمين به كما نفع بأصله الأصيل، وأن يتقبّله مني ويعفو به عني، وهو حسبي ونعم الوكيل. قال المصنف- رحمه الله تعالى- في ذيل كتابه «وسائل الوصول» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قال جامعه الفقير: يوسف بن إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن محمد ناصر الدين النّبهاني؛ عفا الله عنه: لمّا كان هذا الكتاب الشريف الفائق، المشتمل على الكثير الطيّب من شمائل خير الخلائق؛ متفرّعا عن كتاب «الشمائل» للإمام أبي عيسى الترمذي، وأصول كتب الحديث المعتمدة التي أجلّها وأشهرها الكتب الستّة؛ وهي دواوين الإسلام. «صحيحا البخاري ومسلم» ، و «سنن أبي داود» ، و «جامع الترمذي» ، و «سنن النسائي» ، و «سنن ابن ماجه» ؛ رأيت من الصواب أن أذكر أسانيدي فيها إلى مؤلّفيها؛ فأقول: إنّي أروي هذه الكتب وغيرها بالإجازة عن علّامة عصره الإمام الكبير سيّدي الشيخ: إبراهيم السقا المصري الشافعي شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وقد ذكرت إجازته لي في ذيل كتابي «الشرف المؤبّد لآل محمد» في ضمن ترجمة لي، اقتصرت فيها على بيان بعض ما تمسّ الحاجة إليه من التعريف بي، وهو رحمه الله تعالى يرويها عن عدّة أشياخ أجلّاء؛ منهم الأستاذ العلّامة وليّ الله تعالى الشيخ ثعيلب، عن شيخيه الإمامين: الشهاب أحمد الملوي، والشهاب أحمد الجوهري؛ عن شيخهما مسند عصره وفريد زمانه الشيخ: عبد الله بن سالم البصري صاحب الثبت الشهير. ومنهم الأستاذ محمد بن محمود الجزائري، عن شيخه علي بن عبد القادر بن الأمين، عن شيخه أحمد الجوهري، عن شيخه: عبد الله بن سالم البصري. ومنهم الأستاذ العلّامة المحقّق الشيخ: محمد صالح البخاري، عن شيخه رفيع الدين القندهاري، عن الشريف الإدريسي، عن عبد الله بن سالم البصري رحمهم الله تعالى. قال عبد الله بن سالم بن محمد بن محمد بن عيسى البصري منشأ، المكيّ مولدا وإقامة وإفادة، الشافعي مذهبا: أخذت كتاب «الشمائل» للترمذي عن الحافظ البابلي؛ عن سالم السنهوري، عن النجم الغيطي، عن القاضي زكريا، عن الحافظ ابن حجر بسماعه؛ عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم المقدسي؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بسماعه عن الفخر علي بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاري، بسماعه عن أبي اليمن زيد بن حسن بن يزيد الكندي، قال: أنبأنا به أبو شجاع عمر بن عمر بن محمد بن عبد الله البسطامي، قال: أنبأنا به أبو القاسم أحمد بن محمد الخليل البلخي، قال: أنبأنا به أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، قال: أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشامي؛ قال: حدّثنا به مؤلّفه أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى. قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «صحيح البخاري» عن شمس الدين: أبي عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي القاهري من أوّله إلى قوله «بوادره» ، وأجازة لسائره في سنة سبعين وألف بقراءة الشيخ عيسى المغربي عام مجاورته بمكّة المشرّفة عليه؛ لكونه ضريرا، عن أبي النّجا سالم بن محمد السنهوري سماعا عليه لبعضه وإجازة لسائره. قال: قرأته جميعا على المسند النجم الغيطي؛ بقراءته لجميعه على شيخ الإسلام القاضي زكريا؛ بقراءته لجميعه على شيخ السّند أبي الفضل ابن حجر العسقلاني؛ بسماعه لجميعه على الأستاذ إبراهيم بن أحمد التنوخي؛ بسماعه لجميعه على أبي العبّاس أحمد بن أبي طالب الحجّار؛ بسماعه لجميعه على السراج الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي سماعا. قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي؛ قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداوودي؛ قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي؛ قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري؛ قال أخبرنا به مؤلّفه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ... ، فذكره. قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «صحيح مسلم» بن الحجاج القشيري؛ عن الشيخ محمد البابلي المذكور؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي المزبور، من أوّل (كتاب «الإيمان» ) إلى حديث ضمام بن ثعلبة، وسائره بالإجازة عن أبي النجا سالم بن محمد السنهوري؛ سماعا عليه لبعضه وإجازة لسائره؛ بقراءته على النجم الغيطي؛ بسماعه لجميعه على شيخ الإسلام القاضي زكريا؛ بقراءته لجميعه على الحافظ أبي نعيم رضوان بن محمد العقبي؛ بسماعه لجميعه على الشرف أبي الطاهر محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن الكويك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بقراءة الحافظ ابن حجر في أربعة مجالس سوى مجلس الختم؛ عن أبي الفرج عبد الرحمن بن عبد الحميد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي؛ سماعا عليه لجميعه، عن أبي العباس أحمد بن عبد الدائم النابلسي؛ سماعا لجميعه عن محمد بن علي بن صدقة الحرّاني؛ سماعا لجميعه عن فقيه الحرم: أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي؛ سماعا لجميعه عن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي سماعا؛ قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى الجلودي النيسابوري سماعا؛ قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد سماعا؛ قال: أخبرنا مؤلّفه إمام السند والمسلمين: أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري سماعا ... ، فذكره. قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت ( «سنن» الحافظ أبي داود) ؛ عن الشيخ محمد البابلي المذكور؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي المزبور، من أوّله إلى (باب كراهية استقبال القبلة عند الحاجة) ، وبإجازة سائره عن سليمان بن عبد الدائم البابلي؛ عن الجمال يوسف بن القاضي زكريا؛ عن والده قراءة، وسماعا لبعضه، وإجازة لسائره؛ قال: أخبرنا العزّ عبد الرحيم بن الفرات؛ سماعا عليه لبعضه وإجازة لسائره؛ عن أبي العباس أحمد بن محمد بن الجوخي إذنا؛ عن الفخر علي بن أحمد بن البخاري سماعا؛ عن أبي جعفر عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد البغدادي سماعا؛ قال: أخبرنا به الشيخان: أبو البدر إبراهيم بن محمد بن منصور الكروخي، وأبو الفتح مفلح بن أحمد بن محمد الدّومي سماعا عليهما ملفّقا؛ قالا: أخبرنا به الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، عن أبي عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي؛ عن أبي علي محمد بن أحمد اللؤلؤي؛ قال: أخبرنا به مؤلّفه: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني؛ سماعا لجميعه .... ، فذكره. قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «الجامع» للحافظ الترمذي؛ عن الشيخ محمد البابلي بقراءة الشيخ عيسى المغربي لجميعه عليه؛ عن علي بن يحيى الزيادي؛ عن الشهاب أحمد بن حمزة الرملي، عن الزين القاضي زكريا بن محمد الأنصاري؛ عن العزّ عبد الرحيم بن محمد بن الفرات مشافهة؛ بإجازته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أبي حفص عمر بن حسين المراغي؛ عن الفخر ابن البخاري؛ عن عمر بن طبرزد؛ قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل الكروخي؛ قال: أخبرنا بجميعه القاضي أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي؛ قال: أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن عبد الله الجراحي المروزي؛ قال: أخبرنا أبو العبّاس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي المروزي؛ قال: أخبرنا به مؤلّفه الحافظ الحجة: أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ... ، فذكره. قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «السنن الصغرى» المسمّاة ب «المجتبى» للنسائي عن الشيخ محمد البابلي؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي لجميعه؛ عن الشهاب أحمد بن خليل السبكي، وأبي النجا سالم بن محمد السنهوري؛ كلاهما عن النجم الغيطي؛ عن القاضي زكريا؛ سماعا لبعضه، وإجازة لسائره؛ بقراءته لجميعه على الزين رضوان بن محمد؛ عن البرهان إبراهيم بن أحمد التنوخي إجازة مشافهة لجميعه؛ بسماعه على أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار؛ بإجازته من أبي طالب عبد اللطيف بن محمد بن علي بن القبيطي؛ بسماعه لجميعه على أبي زرعة: طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني سماعا؛ قال: أخبرنا به القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الكسّار؛ قال: أخبرنا به أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ الشهير ب «ابن السّنّي» الدينوري؛ قال: أخبرنا به مؤلّفه الحافظ: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى ... ، فذكره. قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «السنن» لابن ماجه؛ عن الشيخ محمد البابلي؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي من أوّله إلى (باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، وبالإجازة لسائره عن البرهان: إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللّقاني، وعلي بن إبراهيم الحلبي، عن الشمس محمد بن أحمد الرملي؛ عن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري؛ عن أبي الفضل الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ قراءة عليه لغالبه، وإجازة لسائره؛ بقراءته على أبي العبّاس أحمد بن عمر بن علي البغدادي اللؤلؤي نزيل القاهرة؛ عن الحافظ أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزّي سماعا لجميعه؛ عن شيخ الإسلام عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة المقدسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 سماعا؛ عن الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة؛ سماعا على أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي؛ عن الفقيه أبي منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقوّمي القزويني سماعا؛ قال: أخبرنا به أبو طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب؛ قال: حدّثنا به أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطّان؛ قال: حدّثنا به مؤلّفه الحافظ: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني رحمه الله تعالى. قال المصنف الشيخ يوسف النبهاني أيضا: قلت: وقد رويت هذه الكتب وكثيرا من كتب العلم النقلية والعقلية؛ بعضها سماعا، وبعضها إجازة؛ من طرق أخرى؛ منها: طريق الشاميين: أجازني بها العلّامة السيد الشريف محمود أفندي حمزة (مفتي الشام كان) - عليه الرحمة والرضوان- بإجازة مطوّلة حافلة كتبها بخطه الفائق الحسن سنة: - 1292- اثنتين وتسعين بعد المائتين والألف؛ في شهر شعبان المعظّم بعد أن قرأت عليه قسما من أول «صحيح البخاري» في منزله في دمشق الشام. ومنها طرق أخرى كطريق شيخ المشايخ الراسخين، وعلّامة العلماء العاملين؛ شيخ مشايخي: الشيخ إبراهيم الباجوري؛ عن شيخيه العلّامتين: محمد الفضالي، وحسن القويسني، وغيرهما- رحمهم الله تعالى أجمعين-، فقد قرأت على علماء أعلام من أجلّاء تلامذته، وأجازوني؛ أجلّهم شيخنا العلّامة شيخ الإسلام سيدي الشيخ: محمد شمس الدين الأنبابي شيخ الجامع الأزهر الآن حفظه الله، وفيما ذكر هنا غنية عمّا لم يذكر. وصلّى الله وسلم على سيّدنا محمّد سيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. انتهى كلام النبهاني رحمه الله تعالى. يقول الفقير إلى الله مؤلّف هذا الشرح: عبد الله بن سعيد اللحجي وفقه الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 إنّي أروي الكتب الستة: «الصحيحين» البخاريّ ومسلما، وأبا داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ بالإجازة العامّة عن عدّة مشايخ أعلام؛ بأسانيدهم المعروفة لديّ عن علماء الإسلام، وأخصّ بالذكر منهم شيخي العلّامة وليّ الله تعالى وجيه الدين: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن حسن بن عبد الباري الأهدل، وهو يروي عن عدّة مشايخ كرام؛ أخصّهم والده العلّامة جمال الدين: محمد بن عبد الرحمن الأهدل، وهو يروي عن شيخه العلّامة مفتي الديار اليمنية، شيخ الإسلام البدر الساري الأكمل، السيد: محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، وهو يروي عن عمّه صنو أبيه وليّ الله تعالى شرف الإسلام: الحسن بن عبد الباري بن محمد بن عبد الباري بن محمد الطاهر الأهدل، عن شيخ الإسلام ومفتي الأنام العلّامة المسند وجيه الدين السيد: عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل الزبيدي، وهو يروي عن مشايخه المذكورين في ثبته: «النفس اليماني» ، ومن أخصّهم: والده العلّامة نفيس الإسلام السيد: سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل؛ عن شيخه العلّامة وليّ الله تعالى صفيّ الدين: أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل، عن شيخه وخاله خاتمة المحدّثين العلامة عماد الدين: يحيى بن عمر مقبول الأهدل؛ عن الشيخ العلّامة محدّث الحرمين: عبد الله بن سالم البصري المكي بأسانيده المذكورة في ثبته المسمّى ب «الإمداد» الذي جمعه ولده سالم بن عبد الله بن سالم البصري. وأما سندي إلى المؤلف فإني أروي كتابه هذا عن شيخنا العلامة: الشيخ محمد العربي بن التبّاني بن الحسين بن عبد الرحمن بن يحيى بن مخلوف الواحدي- نسبة إلى قبيلة في الجزائر يقال لهم بنو عبد الواحد-، الجزائري ولادة ومنشأ؛ قراءة لبعضه، وإجازة لباقيه، وكذلك سائر كتب المؤلف أرويها عن شيخي المذكور بالإجازة العامة، وشيخنا المذكور يروي عن المؤلّف الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني بالإجازة العامة «ح» . وأعلى من ذلك: إنّي أروي هذا الكتاب «وسائل الوصول» وسائر مؤلفات الشيخ يوسف النبهاني عن مؤلّفها مباشرة بالإجازة العامّة منه لأهل عصره؛ كما صرّح بذلك في كثير من مؤلفاته، ومنها كتاب «حزب الاستغاثات بسيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 السادات» ؛ فإنّه ذكر في طرّته ما نصّه: يقول مؤلّفه: قد أجزت بهذا الحزب وبكتابي «مفرج الكروب» و «مزدوجة الأسماء النبوية» وغيرها من مؤلفاتي ومرويّاتي كلّ من قبل الإجازة من أهل عصري بشرط الأهلية؛ ولو بعد حين، اقتداء بمن فعل ذلك من أئمة العلماء والمحدّثين رضي الله عنهم أجمعين. انتهى. وقد قبلت الإجازة، وأدركت من حياة المؤلف سبع سنوات تقريبا، فإنّ وفاة المؤلّف كانت في سنة: - 1350- خمسين وثلثمائة وألف هجرية؛ وولادتي في سنة: - 1343- ثلاث وأربعين وثلثمائة وألف هجرية تقريبا. ثم رأيت في «الفتوحات الربانية على الأذكار النووية» للشيخ محمد بن علي بن علّان الصدّيقي المكي في آخرها ما نصّه: قال المصنّف- يعني النووي- في «الإرشاد» : إذا أجاز لغير معيّن بوصف العموم؛ كقوله: «أجزت للمسلمين» ، أو «لكل أحد» أو «لمن أدرك زماني» ... وما أشبهه!!، ففيه خلاف للمتأخرين المجوّزين لأصل الإجازة، فإن كان مقيّدا بوصف خاصّ! فهو إلى الجواز أقرب، وجوّز جميع ذلك الخطيب، وجوّز القاضي أبو الطيب الإمام المحقّق الإجازة لجميع المسلمين الموجودين عندها. ثم قال: وأجاز أبو عبد الله بن منده؛ لمن قال «لا إله إلّا الله» . وأجاز أبو عبد الله بن عتاب وغيره من أهل المغرب لمن دخل قرطبة من طلبة العلم. وقال أبو بكر الحازمي الحافظ: الذين أدركتهم من الحفّاظ كأبي العلاء وغيره كانوا يميلون إلى جواز هذه الإجازة العامّة. قال الشيخ- يعني ابن الصلاح- رحمه الله تعالى: ولم يسمع عن أحد يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا عن الشرذمة التي سوّغتها. وفي أصل الإجازة ضعف؛ فتزداد بهذا ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله. وهذا الذي قاله الشيخ خلاف ظاهر كلام الأئمة المحقّقين والحفّاظ المتقنين، وخلاف مقتضى صحّة هذه الإجازة. وأيّ فائدة إذا لم يرو بها!!. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قلت: وقد أجاز كذلك جماعة من المتأخرين الحفّاظ؛ كالحافظ السيوطي، فأجاز لمن أدرك عصره، وأجاز كذلك ابن حجر الهيتمي في آخرين. انتهى كلام ابن علان في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى. وفي «النفس اليماني» : وقد اختار الخطيب صحّة هذه الإجازة، وكذلك الحافظ ابن منده؛ فإنّه أجاز لمن قال «لا إله إلا الله» . وإلى هذا ذهب الحافظ السلفي. وقال القاضي عياض: وإلى الإجازة للمسلمين «من وجد منهم ومن لم يوجد» ذهب جماعة من مشايخ الحديث. وذكر الحافظ السخاوي أنّ الإمام النووي استعملها، فإنّه رأى بخطه في بعض تصانيفه: وأجزت روايته لجميع المسلمين. حتى إنّه لكثرة من جوّزها أفردهم الحافظ أبو جعفر محمد بن الحسن البغدادي بمصنّف رتّبهم فيه على حروف المعجم. وكذلك جمعهم أبو رشيد بن الغزالي الحافظ في كتاب سمّاه «الجمع المبارك» . قال النووي مشيرا إلى التعقّب على ابن الصلاح، حتى إنّه لم ير من استعملها، ولا حتّى من سوّغها: إن الظاهر من كلام من صحّحها جواز الرواية بها. وهذا يقتضي صحّتها، وأيّ فائدة غير الرواية!!. ومن فروع هذه المسألة: ما سبق نقله عن المحقّقين من المحدثين والأصوليين والفقهاء؛ كالحافظ مغلطاي، وتلميذه الحافظ الزين العراقي، وتلميذه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وتلميذه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وتلميذه العلّامة: المحقّق ابن حجر الهيتمي من جواز الإجازة لفلان، ولمن سيولد له من ذريّته تبعا. وأنّه يجوز العمل بها؛ تحمّلا، وأداء، وأخذا. هذا؛ وقد استعمل جمع من علماء الحديث من المتقدمين والمتأخرين الإجازة لمن أدرك حياته، واستعمل ذلك من مشايخنا سيّدي الوالد، وسيّدي العلّامة عبد الله بن سليمان الجرهزي، فإنّهما في سنة: - 1194- أربع وتسعين ومائة وألف هجرية أجازا لمن أدرك حياتهما، وكان ذلك بمحضر جمع من العلماء والأعيان، واستدعى ذلك منهما السيد الولي العلامة قاسم بن سليمان الهجام. انتهى كلام «النفس اليماني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثم قال فيه أيضا: وأجزت كافّة من أدرك حياتي، ولا سيما من وقعت بيني وبينه المعرفة، وخصوصا من وقعت بيني وبينه الاستفادات العلمية، وأولادهم، ومن سيولد لهم؛ راجيا بذلك- إن شاء الله- من الربّ الكريم الخير الشّامل الكثير، فإنّه القادر على ذلك. انتهى ملخصا. وفي «النفس اليماني» أيضا: وهذا الشيخ المعمّر الحافظ الشهير سيّدي محمد بن سنّة العمري؛ هو شيخي بطريق الإجازة العامّة، لأنه أجاز لأهل عصره الموجودين، وكانت وفاته في عشر التسعين بعد مائة وألف، كما أفادني بذلك جمع من علماء الحرمين الشريفين رووا عن تلميذه العلّامة صالح الفلّاني المغربي عنه. انتهى كلام «النفس اليماني» . وممّن أجاز لمن أدرك حياته: أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء، وأبو الحسين عبيد الله بن الربيع القرشي، والقطب محمد بن أحمد بن علي القسطلّاني، وأبو الحجّاج المزّي الحافظ، والفخر ابن البخاري، وخلق من المسندين؛ كالحجّار، وزينب بنت الكمال. واستجاز بها خلق لا يحصون؛ منهم أبو الخطّاب بن دحية، فإنّه سأل أبا جعفر بن مضاء الإجازة العامة في كلّ ما يصحّ إسناده إليه على اختلاف أنواعه لجميع من أراد الرواية من طلبة العلم الموجودين حينئذ؛ فأسعفهم بها. ومنهم: أبو الحسن محمد بن أبي الحسن الورّاق، فإنّه سأل أبا الوليد بن رشد الإجازة لكلّ من أحبّ الحمل عنه من المسلمين حيث كانوا أحياء في عام الإجازة فأجابه لذلك؛ كما ذكره السخاوي في «شرح ألفية الحديث» رحمه الله تعالى. وكذلك أجاز لأهل عصره: الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني؛ ذكره الشيخ ابن عابدين في «ثبته» ؛ ناقلا من «القول السديد باتصال الأسانيد» ثبت الشهاب أحمد المنيني، فإنّه قال فيه: وقد أخبرني بإذنه لأهل عصره الشيخ محمد بن الطيب المغربي نزيل المدينة المنورة، وهو ثقة ثبت. والله أعلم. انتهى. وكذلك أجاز لأهل عصره: الشيخ العلّامة الفقيه المحدّث محمد عابد بن أحمد بن علي الحنفي السندي ثم المدني، فإنّه قال في كتابه «حصر الشارد» : وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أجزت كافّة من أدرك حياتي من المسلمين أن يروي عني جميع ما اشتمل عليه هذا السّفر بالأسانيد التي ذكرتها. وكذلك أجاز لأهل عصره: العلّامة الفاضل خاتمة المحققين مولانا الشيخ فالح بن محمد المدني؛ فإنّه قال في آخر ثبته «حسن الوفاء» : وقد أجزت بهذه المرويّات وبما تضمّنته من الأثبات المذكورة، وبجميع ما يؤثر عني كلّ من أراده ممن أدرك حياتي ... إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى. وممن أجاز لمن أدرك حياته: العلّامة الحافظ عبد الرحمن بن علي الدّيبع اليمني الزبيدي المتوفى سنة: - 922- اثنتين وعشرين وتسعمائة هجرية؛ قال رحمه الله تعالى نظما: أجزت لمدركي وقتي وعصري ... رواية ما تجوز روايتي له من المقروء والمسموع طرّا ... وما ألّفت من كتب قليله ومالي من مجاز من شيوخي ... من الكتب القصيرة والطّويله وأرجو الله يختم لي بخير ... ويرحمني برحمته الجزيله انتهى. ولنبدأ بترجمة المصنف؛ فنقول: هو بوصيريّ العصر، الأديب الشاعر المفلق، العلّامة المتقن الورع، الحجّة التقي العابد، الطائر الصيت، المحبّ الصادق المتفاني في حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم المكثر من مدائحه؛ تأليفا، ونقلا، ورواية، وإنشاء وتدوينا، ناصر الدين أبو الفتوح؛ وأبو المحاسن: يوسف بن إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن محمد بن ناصر الدين النبهاني. «نسبة لبني نبهان» : قوم من عرب البادية؛ نزلوا بقرية «اجزم» بصيغة فعل الأمر، وبها ولادته، وهي قرية واقعة في الجانب الشمالي من أرض فلسطين؛ تابعة لقضاء حيفا من أعمال عكا. وكانت ولادته يوم الخميس سنة: - 1265- خمس وستين ومائتين وألف هجرية تقريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وحفظ القرآن على والده؛ وكان شيخا معمّرا بلغ الثمانين، وكان إذ ذاك ممتعا بكمال عقله، وحواسّه وقوّته، وحفظه ومحافظته على ضروب الطاعات وحسن تلاوة القرآن العظيم، وكان يختم كلّ ثلاثة أيّام ختمة، ثم وفّق إلى قراءته ثلاث مرّات كلّ أسبوع، ولهذه المزايا والفضائل أبلغ الأثر في تكوين هذا الناشىء الذي تغذّى بلبان الهدى والتقى بين يدي والده الصالح؛ في تلك البيئة النقية الطاهرة. ولما أتمّ حفظ القرآن الكريم وحفظ بعض المتون؛ أرسله والده إلى مصر، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، فالتحق بالأزهر الشريف في غرّة محرّم الحرام سنة: - 1283- ثلاث وثمانين ومائتين وألف هجرية، وجاور في رواق الشوام، ودأب على الدرس والتحصيل، وتلقّى العلم من كبار الأئمّة وجهابذة علماء الأمّة؛ المبرّزين في علوم الشريعة واللغة العربية، من أهل المذاهب الأربعة، وكان موفّقا حسن الاختيار والاهتداء إلى الراسخين في العلم؛ المحققين في المعقول والمنقول، الذين لا يشقّ لهم غبار؛ كالشيخ إبراهيم السقا الشافعي المتوفى سنة: 1298، والشيخ محمد الدمنهوري الشافعي المتوفى سنة: 1286، والشيخ إبراهيم الزرو الخليلي الشافعي المتوفى سنة: 1287، والشيخ أحمد الأجهوري الضرير الشافعي المتوفى سنة: 1293، والشيخ عبد الهادي نجا الأبياري الشافعي المتوفى سنة: - 1305- خمس وثلثمائة وألف، والشيخ أحمد راضي الشرقاوي الشافعي، والشيخ مصطفى الإشراقي الشافعي، والشيخ عبد اللطيف الخليلي الشافعي، والشيخ صالح أجياوي الشافعي، والشيخ محمد العشماوي الشافعي، والشيخ محمد شمس الدين الأنبابي الشافعي (شيخ الجامع الأزهر) ، والشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، والشيخ أحمد البابي الحلبي الشافعي، والشيخ شريف الحلبي الحنفي، والشيخ فخر الدين اليانيه وي الحنفي، والشيخ عبد القادر الرافعي الطرابلسي الحنفي «شيخ رواق الشوام» ، وشقيقه الشيخ عمر مفتي طنطا الحنفي، والشيخ مسعود النابلسي الحنفي، والشيخ حسن العدوي المالكي المتوفى سنة: 1298، والشيخ محمد الحامدي المالكي، والشيخ محمد روبه المالكي، والشيخ حسن الطويل المالكي، والشيخ محمد البسيوني المالكي، والشيخ يوسف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 البرقاوي الحنبلي «شيخ رواق الحنابلة» رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الأمة المحمدية أحسن الجزاء. ثم بدا لصاحب الترجمة أن يسافر من مصر ليساهم في خدمة الإسلام؛ فرجع في رجب سنة 1289، وأقام في مدينة عكا ينشر العلم، فأفاد المسلمين، وأعلى منار الدين، ثم في سنة 1292 رحل إلى الشام، واجتمع على جماعة من العلماء، أحدهم بل أوحدهم- الإمام الفقيه المحدّث البارع في أكثر الفنون؛ مفتي الشام المرحوم السيد محمود أفندي الحمزاوي، وحصلت بينه وبينه مودّة، فاستجازه بعد أن قرأ عليه في منزله بحضور جملة من طلبة العلم الشريف؛ فأجازه بإجازة مطوّلة فائقة إجازة عامة بجميع مروياته، وجال في بلاد الشرق العربي، وبرّ الترك؛ فدخل الأستانة والموصل وحلب وديار بكر وشهر زور وبغداد وسامرّا وبيت المقدس والحجاز. ولما شاع ذكره، وأشرقت شمسه، واهتدى به الناس؛ تقلّب في مناصب القضاء في ولايات الشام؛ حتى صار رئيسا في محكمة الحقوق العليا ببيروت؛ وذلك سنة: - 1305- خمس وثلثمائة وألف، وحجّ عام ألف وثلثمائة وعشرة، ثم دخل الحجاز بعد ذلك، وأقام بالمدينة المنوّرة مدّة؛ وألّف المؤلفات النافعة التي سارت بها الركبان، وانتشرت في سائر البلدان، وهي: إتحاف المسلم بأحاديث الترغيب والترهيب من البخاري ومسلم. إرشاد الحيارى في التحذير من مدارس النصارى. أسباب التأليف. أفضل الصلوات في الصلاة على سيد السادات. الأحاديث الأربعين في أمثال أفصح العالمين. الأحاديث الأربعين في فضائل سيد المرسلين. الأحاديث الأربعين في وجوب طاعة أمير المؤمنين. أربعين الأربعين من أحاديث سيد المرسلين. الأنوار المحمدية مختصر «المواهب اللدنية» . أحسن الوسائل في أسماء النبي الكامل. الأساليب البديعة في فضل الصحابة وإقناع الشيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 - بلوغ الآمال مختصر كتاب «فتح المتعال في مثال النعال» . تهذيب النفوس في ترتيب الدروس؛ وهو مختصر «رياض الصالحين» للإمام النووي. تفسير «قرة العين من البيضاوي والجلالين» . جواهر البحار في فضائل النبي المختار صلّى الله عليه وسلم «أربع مجلدات» . جامع كرامات الأولياء «مجلدان» . جامع الصلوات على سيد السادات. جامع الثناء على الله تعالى. حزب الأولياء الأربعين المستغيثين بسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم. حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم. خلاصة الكلام في ترجيح دين الإسلام. الدلالات الواضحات شرح «دلائل الخيرات» . رياض الجنة في أذكار الكتاب والسنة. الرائية الصغرى في ذم البدعة ومدح السنة الغرا. الرائية الكبرى. سعادة الدارين في الصلاة على سيد الكونين صلّى الله عليه وسلم. سعادة الميعاد في موازنة «بانت سعاد» . السابقات الجياد في مدح سيد العباد صلّى الله عليه وسلم، وهي المعشّرات. سبيل النجاة في الحب في الله والبغض في الله. الاستغاثة الكبرى بأسماء الله الحسنى. الشرف المؤبّد لآل محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو أوّل مؤلفاته. شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق صلّى الله عليه وسلم. سعادة الأنام في اتّباع دين الإسلام. الصلوات الألفية في الكمالات المحمدية. الصلوات الأربعين للأولياء الأربعين. صلوات الأخيار على النبي المختار صلّى الله عليه وسلم. صلوات الثناء على سيد الأنبياء صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 - طيبة الغرّاء في مدح سيد الأنبياء. وهي همزيّته. العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية، وهو ديوانه. الفتح الكبير في ضمّ الزيادة إلى «الجامع الصغير» ، وهو كتاب جمع فيه بين «الجامع الصغير» وذيله المسمّى «زيادة الجامع الصغير» ؛ كلاهما للحافظ السيوطي في ثلاث مجلدات. الفضائل المحمدية. ترجمها بعض السادة العلوية للغة الجاوية. القول الحقّ في مدح سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلم. المجموعة النبهانية في المدائح النبوية، ومعها أسماء رجالها المسمّى «الخلاصة الوفية في رجال المجموعة النبهانية» «أربع مجلدات» . المزدوجة الغرّاء في الاستغاثة بأسماء الله الحسنى. مفرّح القلوب ومفرج الكروب. منتخب الصحيحين، مذيّلا بتعليقات اسمها «قرة العين على منتخب الصحيحين» . المبشّرات المنامية. مختصر «إرشاد الحيارى» . مثال نعله الشريف. وذكر حوله كثيرا من الفوائد. كتاب «الأسمى فيما لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من الأسما» . نجوم المهتدين ورجوم المعتدين في معجزات سيد المرسلين والرد على أعدائه إخوان الشياطين. النظم البديع في مولد الحبيب الشفيع صلّى الله عليه وسلم. الورد الشافي؛ يشتمل على الأدعية والأذكار النبوية. وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم. وهو الكتاب الذي نحن بصدد شرحه. هادي المريد إلى طرق الأسانيد. وهو ثبته الجامع النافع. البرهان المسدّد في إثبات نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم. دليل التجّار إلى أخلاق الأخيار. الرحمة المهداة في فضل الصلاة. حسن الشرعة في مشروعية صلاة الظهر بعد الجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 - رسالة التحذير من اتخاذ الصور والتصوير. تنبيه الأفكار لحكمة إقبال الدنيا على الكفار. كلها «1» طبعت في مجموعة واحدة، وكلّ هذه التصانيف مطبوعة تداولتها الأيدي في سائر بلاد الإسلام. وأوّل ما ظهر من مؤلفاته كتاب «الشرف المؤبّد لآل محمد صلّى الله عليه وسلم» ، ثم همزيته المسماة «طيبة الغراء» ؛ وبها اشتهر، وتناقل الناس ماله من خبر، وذلك لبلاغتها وانسجامها وطلاوتها. ثم عظم ذكره بما صنّف وابتكر، ونظم ونثر، وطبع ونشر، خصوصا في الجانب المحمدي الأعظم، فقد خدم السيرة المحمدية والجناب النبوي أرفع الخدمات، ووقف حياته على ذلك؛ فنشر وكتب ما لم يتيسّر لغيره في عصرنا هذا ولا عشر معشاره، وذلك من آثار بركته صلّى الله عليه وسلم. ولما أحيل إلى المعاش شدّ أزره وشمّر عن ساعد الجدّ، وأقبل على العبادة بهمّة عالية وعزيمة صادقة، وقلب دائب على الذكر وتلاوة القرآن، وكثرة الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأحيا ليله ونهاره بإقامة الفرائض ونوافل الطاعات؛ لا يفتر ولا يسأم، حتى عدّ ما يقوم به من خوارق العادات. وكان يتردّد إلى المدينة المنوّرة للزيارة النبوية ويقيم فيها مدّة أيام الشتاء، وكانت أنوار العبادة وتعظيم السنة والعمل بها ظاهرة على وجهه المبارك، ولم يزل على الحال المرضيّ حتّى دعاه مولاه؛ فأجابه ولبّاه. وكانت وفاته في بيروت في أوائل شهر رمضان الكريم سنة: - 1350- خمسين وثلثمائة وألف هجرية، عن عمر يناهز الخمس والثمانين، وهو قويّ البدن، تامّ الصحّة، مستوف لقراءة أوراده وما اعتاده من الطاعات وأعمال الخير. أجزل الله ثوابه، وألحقنا به على الإيمان الكامل في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة، بفضله ورحمته. آمين. وهذا أوان الشروع في المقصود مستعينا بالله ذي الكرم والجود:   (1) أي: الكتب الستة الأخيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 [ خطبة الكتاب ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال المصنف (بسم الله الرّحمن الرّحيم) بتقديم البسملة، وافتتاح كتب العلم بها جرى عمل الأئمة المصنّفين واستقرّ أمرهم؛ حسبما قاله الحافظ ابن حجر. قال: وكذا معظم كتب الرسائل، والقصد: 1- الاقتداء بالكتاب العزيز، فإنّ العلماء متّفقون على استحباب البسملة في أوّله في غير الصلاة، والإجماع منعقد على تقديمها في خطّ المصحف؛ وإن كانت ليست آية منه عند مالك. 2- والعمل بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم؛ فهو أبتر» . رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتاب «الجامع» ، وفي رواية: «أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» بالجيم والذال المعجمة، وهو من التشبيه البليغ في العيب المنفّر، ومعنى الجميع: أنّه ناقص البركة غير تامّ في المعنى؛ وإن تمّ في الحس. ومعنى «ذي بال» ؛ أي: حال يهتمّ به. ومعنى الابتداء بالبسملة: الاستعانة بالله عزّ وجلّ، على زيادة لفظ «اسم» ؛ أو أنّه هنا واقع على المسمّى. أو معناه: التبرّك باسمه سبحانه. فالباء للاستعانة، أو للملابسة، أو المصاحبة؛ بقصد التبرّك، و «الاسم» مشتقّ من السموّ؛ وهو العلوّ، وقيل: من السّمة؛ وهي العلامة. واسم الجلالة: علم على ذاته تعالى، فهو خاصّ به سبحانه وتعالى، إذ لا يسمّى به غيره تعالى، فهو أخصّ الأسماء، وهو أعرف المعارف وأعظم الأسماء، لأنه دالّ على الذات الموصوف بصفات الإلهية كلّها، فهو اسم جامع لمعاني الأسماء الحسنى كلّها، وما سواه خاصّ بمعنى، فلهذا يضاف إليه جميع الأسماء ولا يضاف هو إلى شيء، وكلّ أسمائه تعالى للتخلّق إلّا هذا الاسم؛ فإنّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الحمد لله ... للتعلّق فحسب، وحظّ العبد منه التولّه؛ وهو استغراق القلب والهمّة به تعالى، فلا يرى غيره، ولا يلتفت لسواه. وهو عربيّ عند الأكثر وهو الحق. واختلف فيه: هل هو مرتجل؛ أو مشتق، والأول هو المشهور والمختار. والرحمن والرحيم: صفتان للمبالغة من الرحمة. و «الاسم» مجرور بالباء، و «الجلالة» مجرور بالمضاف، و «الرحمن» نعت لاسم الله، وعلى أنّ «الرحمن» علم يكون بدلا من «اسم الله» ، أو عطف بيان؛ وصوّب. والرحيم نعت للجلالة على الأوّل، أو ل «الرحمن» على الثاني، إذ لا يتقدّم البدل؛ ولا العطف على النعت، والجملة تحتمل الخبرية والإنشائية، وقد قيل بكلّ منهما. (الحمد لله) أتى- رضي الله عنه- بالحمدلة بعد البسملة!!: 1- قضاء لبعض ما يجب من حمد الله تعالى والثناء عليه؛ بذكر أوصاف كماله، وشكر نعمه وآلائه؛ التي أعظمها الهداية للإيمان والإسلام، ومن جملتها تأليف هذا الكتاب. و2- اقتداء بالكتاب العزيز، وبالنبي صلّى الله عليه وسلم في ابتدائه بالحمد في جميع خطبه. و3- عملا بجميع روايات الحديث السابق؛ ففي رواية «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ب (الحمد لله) فهو أقطع» ، وفي رواية «بحمد الله» ، وفي رواية «كلّ كلام لا يبدأ فيه «بالحمد لله» فهو أجذم» وفي رواية: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ب «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فهو أقطع» ، وفي رواية «كلّ أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر» ؛ أو قال «أقطع» على التردّد. فرواية البسملة صريحة فيها، ورواية: «الحمد لله» - بالرفع- صريحة فيه. ورواية: «بالحمد لله» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ربّ العالمين، ... - بالخفض-، أو «بحمد الله» !! يحتمل أن يكون المراد الابتداء بلفظ «الحمد لله» بهذه الصيغة، ويحتمل أن يكون المراد الابتداء بمادة الحمد؛ وإن لم يكن بهذه الصيغة. حتّى لو قال: «حمدت الله» أو: «أحمده» لأجزأه، ويحتمل أن يكون المراد الثناء، ولو لم يكن بهذه المادة، حتى لو أتى بالبسملة لاكتفي بها. وعلى هذا المعنى رواية: «بذكر الله» . ولما تعارضت رواية البسملة ورواية الحمدلة ظاهرا- إذ الابتداء بأحد الأمرين يفوّت الابتداء بالآخر، وكان الجمع بينهما ممكنا؛ بأن يقدّم أحدهما على الآخر فيقع الابتداء به حقيقة، وبالآخر بإضافته إلى ما سواه- أتى بهما معا. وقدّم البسملة!! لأنها أولى بالتقديم، لأنّ حديثها أقوى، وعملا بكتاب الله الوارد بتقديمها. والحمد هو: الثناء على المحمود بجميل صفاته على جهة التعظيم؛ سواء كان في مقابلة نعمة، أو لا. وكلّ من صفاته تعالى جميل، فهو ثناء على الله تعالى بجميع صفاته. واختار الجملة الاسمية!! اقتداء بالكتاب العزيز، ولأنها تفيد الدوام والاستمرار، والجملة خبرية لفظا؛ إنشائية معنى. (ربّ) أي: مالك. وأصل التربية: نقل الشيء من أمر إلى أمر حتى يصل إلى غاية أرادها المربّي، ثم نقل إلى المالك والمصلح للزوم التربية لهما غالبا. (العالمين) اسم جمع خاص بمن يعقل؛ وهم الجنّ والإنس والملائكة، وقيل: جمع سلامة ل «العالم» على غير قياس، والعالم- في اللغة-: كلّ نوع، أو جنس فيه علامة يمتاز بها على سائر الأنواع والأجناس الحادثة. فيقال في الأنواع: «عالم الإنسان» ؛ و «عالم الطير» ؛ و «عالم الخيل» . ويقال في الأجناس: «عالم الحيوان» ، و «عالم الأجسام» ، و «عالم الناميات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ......... ويحتمل أن تكون المناسبة في تسمية النوع والجنس ب «العالم» أنّ لهما من الفصول والخواصّ ما يعلمان به. ونقله المتكلمون إلى كلّ حادث. والمناسبة في هذه التسمية: أن كلّ حادث فيه علامة تميّزه عن موجده المولى القديم، حتّى لا يلتبس به أصلا، ولهذا ردّ مولانا جلّ وعلا على الضالين الذين جعلوا له شركاء من الحوادث، فقال تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) [الرعد/ 33] أي: اذكروا أوصافهم حتى ينظر أفيها ما يصلح للألوهية؛ أم لا!!. ويحتمل أن تكون المناسبة أنّ كلّ حادث يحصل العلم للناظر فيه بما يجب للمولى العظيم من عليّ الصفات، وتنزّهه عن سمات المحدثات. فالمناسبة الأولى تقتضي أن العالم مأخوذ من العلامة، والمناسبة الثانية تقتضي أنّه مأخوذ من العلم. وقد أشعر قوله «ربّ العالمين» أنّ التربية كلّها- وهي: إيصال كلّ حادث إلى كماله الذي أريد له- ليست إلّا من المولى تبارك وتعالى. وهذه التربية على قسمين: عامة؛ وخاصّة. فالعامّة: التربية بالإيجاد والتنمية والإمداد بالحياة والحواسّ وغيرهما مما هو مشترك بين عموم الأجساد. والخاصّة: التربية الروحانية بالعلوم والمعارف العلمية والعملية، وضبط الحركات والسّكنات للجري على مقتضاهما. وهذه التربية هي العزيزة الشريفة الموصلة إلى الفوز برضا مولانا جلّ وعلا، والتمتّع بما لا يحاط بوصفه من نعيم الجنان أبد الآباد، وقد جعل الله سبحانه هذه التربية الخاصّة لا تحصل لأحد من أهل الأرض إلّا على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجعل الحاصل منها على يد نبينا ومولانا محمد صلّى الله عليه وسلم الحظّ الأوفر والنصيب الأكثر؛ مع سهولة فيها وقلّة معاناة، كما قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة/ 185] ، وقال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 حمدا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، ... وصف أمّة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف/ 157] ، وقد عرف كثرة من تربّى على يده صلّى الله عليه وسلم هذه التربية الخاصّة من حديث ورد بأن أهل الجنة مائة وعشرون صفا؛ ثمانون صفا منها لهذه الأمة، ولعلهم إن كانوا ثلثي أهل الجنة يكون لهم من الجنة ونعيمها أكثر من الثلثين؛ كثلاثة أرباع أو تسعة أعشار أو نحو ذلك، لما علم من تخصيص المولى تبارك وتعالى لهم بكرامة تضعيف الثواب لهم بالعمل والزمان والمكان والحال، فلم ينل غيرهم من الجنة إلّا اليسير، فكأنها إنما خلقت لهم ومن أجلهم. (حمدا) ؛ أي: حمدت حمدا (يوافي نعمه) أي: يقابلها ويوجد معها بحيث يكون بقدرها؛ فلا تقع نعمة إلّا مقابلة بهذا الحمد، بحيث يكون الحمد بإزاء جميع النعم، وهذا على سبيل المبالغة بحسب ما ترجّاه، وإلّا! فكل نعمة تحتاج لحمد مستقلّ. والنّعم جمع نعمة؛ وهي: ملائم تحمد عاقبته. ومن ثمّ قيل: لا نعمة لله على كافر، وإنما ملاذّة استدراج. (ويكافىء) - بهمز في آخره- (مزيده) المزيد: مصدر ميمي؛ من (زاده الله النعم) أي: حمدا يساوي ويطابق نعمه التي أنعم بها علينا، المزيدة على نعم سائر الأمم الماضية؛ كفضل يوم الجمعة، وصيرورة وجه الأرض مسجدا، والتراب طهورا- مثلا-، مطابقة النعل بالنعل؛ لا ينقص عنها بأدنى نقصان. قال أصحابنا؛ كالقاضي حسين والمتولي وإمام الحرمين والغزالي: لو حلف إنسان (ليحمدنّ الله تعالى بمجامع الحمد) ، ومنهم من قال: ب «أجلّ التحاميد» ؛ فطريقه في برّ يمينه أن يقول «الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده» . قال في «الروضة» : وليس لهذه المسألة دليل معتمد، أي: من الأحاديث، وإلّا! فدليله من حيث المعنى ظاهر؛ نقله ابن حجر في «الإمداد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ويضاهي كرمه. وأشهد أن لا إله إلّا الله ... وفي «التحفة» : ولو قيل يبرّ ب: «يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك» ؛ لكان أقرب، بل ينبغي أن يتعيّن؛ لأنّه أبلغ معنى، وصحّ به الخبر. انتهى. قال النووي في «الأذكار» : قال أصحابنا: ولو حلف إنسان «ليثنينّ على الله تعالى أحسن الثناء» ؛ فطريق البرّ أن يقول: لا أحصي ثناء عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك. وزاد بعضهم في آخره: فلك الحمد حتّى ترضى. وصوّر أبو سعيد المتولّي المسألة؛ فيمن حلف «ليثنينّ على الله تعالى بأجلّ الثناء وأعظمه» ، وزاد في أول الذكر: سبحانك. انتهى. (ويضاهي) أي: يشابه في الكثرة (كرمه) الواسع. (وأشهد) ؛ أي: أعترف بلساني مع الإذعان بالقلب الذي هو حديث النفس التابع للمعرفة. ولا يكفي الاعتراف باللسان فقط- كما كان يفعله المنافقون- ولا المعرفة من غير إذعان، لأن بعض الكفّار يعرفون الحقّ لكنّهم غير مؤمنين؛ لعدم الإذعان. (أن) ؛ أي: أنّه؛ أي: الحال والشأن (لا إله إلّا الله) ، ف «أن» مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، و «لا» نافية للجنس، و «إله» اسمها مبنيّ معها على الفتح في محلّ نصب، و «إلّا» أداة حصر، ولفظ الجلالة [الله] بالرفع- بدل من الضمير المستتر في الخبر، أو [الله]- بالنصب- على الاستثناء؛ لا على البدلية من محل اسم «لا» ، لأنّها لا تعمل إلّا في النّكرات، واسم «الله» معرفة. وهل يقدّر الخبر من مادة الوجود، أو من مادّة الإمكان!؟ اختار بعضهم الأوّل؛ لأنه لو قدّر من مادة الإمكان لم يفد وجود الله تعالى، والراجح الثاني، لأنه لو قدّر من مادة الوجود لم يفد نفي إمكان غيره تعالى من الإلهية؛ مع أنّه المقصود من الكلمة المشرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الملك الحقّ المبين، وأشهد ... وأمّا وجوده تعالى!! فمتّفق عليه بين أرباب الملل كلّها، فلا ضرر في عدم إفادته على هذا التقدير. والمعنى عليه: لا إله ممكن إلّا الله، فإنّه ممكن؛ أي: غير ممتنع. فيصدق بالواجب والجائز. والواقع أنّه واجب. والحقّ أنّ المنفيّ- في الكلمة المشرّفة- المعبود بحقّ غير الله تعالى؛ باعتبار الواقع، كما انحطّ عليه كلام الشيخ الأمير. والمعنى: لا معبود بحقّ في الواقع إلّا الله. هكذا قرّره الباجوري رحمه الله تعالى. (الملك) - بكسر اللام؛- من الملك- بضم الميم- أي: المتصرّف بالأمر والنهي؛ سواء كان له أعيان مملوكة؛ أم لا. وأما «مالك» - بالألف-! فهو من الملك- بكسر الميم- أي: المتصرّف في الأعيان المملوكة، سواء كان متصرّفا أيضا بالأمر والنهي، أم لا. فبينهما العموم والخصوص الوجهي على هذا. والله تعالى متصرّف بالأمر والنهي، ومتصرّف في الأعيان المملوكة له، فهو ملك مالك. ولذلك قرىء بهما في قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (4) [الفاتحة] . والتفرقة بين الملك- بضم الميم- والملك- بكسرها- عرف طارىء، وإلّا فهما لغتان في مصدر «ملك» كما قاله البيضاوي في «تفسيره» ؛ نقله الباجوري رحمه الله تعالى. (الحقّ) أي: الثابت، من: حقّ الشيء: ثبت، فهو تعالى ثابت أزلا وأبدا، فلم يسبقه عدم؛ ولا يلحقه عدم، بخلاف ما عداه! فإنّه مسبوق بعدم وملحوق به؛ ولو بالقابلية كالجنة والنار. وهو المراد بالبطلان في قوله: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ... (المبين) أصله مبين- بسكون الباء وكسر الياء: نقلت حركة الياء إلى الساكن قبلها- ومعناه: المظهر للحقّ فيتّبع، وللباطل فيجتنب، أو المظهر للأمور العجيبة الدالّة على ملكه وحقّيّته، وهذا كلّه إن أخذ من «أبان» بمعنى: أظهر. فإن أخذ من «أبان» بمعنى: بان، أي: ظهر!! كان معناه البيّن الظاهر الذي لا خفاء فيه. (وأشهد) إنما كرّر لفظ الشهادة مع الاستغناء عنه ب «أشهد» الأول!! لمزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أنّ سيّدنا محمّدا عبده ورسوله ... الاعتناء بالشهادة المتعلّقة بنبينا صلّى الله عليه وسلم (أنّ سيّدنا) ؛ أي: [سيد] جميع المخلوقات إنسا وجنّا وملائكة وغيرهم. والسيد: يطلق على الحليم الذي لا يستفزّه غضب، وعلى من كثر سواده، أي: جيشه، وعلى غير ذلك. (محمّدا) بدل من «سيدنا» ، وهذا الاسم أشرف أسمائه صلّى الله عليه وسلم وأشهرها بين العالمين، ولذا خصّت به الكلمة المشرّفة (عبده ورسوله) خبران ل «أنّ» . وإنّما قدّم الوصف بالعبودية على الوصف بالرسالة!! امتثالا لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولكن قولوا عبد الله ورسوله» . ومعنى العبودية: التذلّل والخضوع. وهي وصف شريف جليل، ولذلك وصف بها في أسنى المقامات؛ كمقام الإسراء، ومقام إنزال الكتاب، وغير ذلك. ومما يعزى للقاضي عياض رحمه الله تعالى. وممّا زادني شرفا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثّريّا دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيّرت أحمد لي نبيّا ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلم: أنّ الله تعالى خاطبه بالنبوة والرسالة في القرآن؛ دون سائر أنبيائه. والنبي: رجل اختصّه الله بسماع وحيه بملك، أو دونه. وقيل: هو رجل أوحي إليه بالعمل بشرع معيّن. وقال القرافي: إنّ النبوّة ليست هي مجرّد الوحي كما يعتقده كثير، لحصوله لمن ليس ك (مريم) ؛ وليست بنبيّة على الصحيح. بل النبوة عند المحققين إيحاء الله تعالى الرجل بحكم إنشائي. انتهى. ثم اختلف فيما يفترق به النبيّ والرسول، وما يزيد الرسول على النبي!! فقيل: إن الرسول هو النبيّ المأمور بتبليغ ما أوحي إليه. فهو أخصّ من مطلق النبيّ، لزيادته عليه بالأمر بالتبليغ. وقيل: إن حكم التبليغ والإرسال يعمّهما، وإنّما يفترقان في أمر آخر من كون الرسول يأتي بشرع جديد؛ أو نسخ لبعض شرع من قبله، أو له كتاب مخصوص، والنبيّ إنما يأتي مؤكّدا لشرع غيره؛ كيوشع بن نون، فإنه بعث مؤكّدا لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام. ثم النبي والرسول إذا أطلقا في القرآن والسنة؛ فإنما المراد بهما نبينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 سيّد الخلق أجمعين. اللهمّ؛ ... محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو الرسول المطلق لكافّة الخلق من الأولين والآخرين. فرسالته عامّة، ودعوته تامّة، ورحمته شاملة، وإمداداته في الخلق عامّة، وكلّ من تقدّم من الأنبياء والرسل قبله؛ فعلى حسب النيابة عنه، فهو الرسول على الإطلاق. (سيّد الخلق) قد ورد إطلاق «السيّد» عليه صلّى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صحيحة؛ كما في حديث الترمذي: «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة» ... الحديث، وفي حديث الشفاعة: «انطلقوا إلى سيّد ولد آدم» .. وفي حديث «الصحيحين» : «أنا سيّد النّاس يوم القيامة» . وسيادته صلّى الله عليه وسلم أعلى وأظهر وأوضح من أن يستدلّ عليها، فهو سيّد العالم بأسره من غير تقييد؛ ولا تخصيص، وفي الدنيا والآخرة. وإنما قال في الحديث: «أنا سيّد النّاس يوم القيامة» !! لظهور انفراده بالسؤدد والشفاعة فيه من غيره حين يلجأ إليه الناس في ذلك؛ فلا يجدون سواه، وجميع الخلائق مجتمعون؛ أوّلهم وآخرهم، وإنسهم وجنّهم وفيهم الأنبياء والمرسلون، وتلك الدار دار الدوام والبقاء؛ فهي المعتبرة. وقد كان صلّى الله عليه وسلم معلوما بالسيادة نسبا وطبعا، وخلقا وأدبا، إلى غير ذلك من المكارم قبل ظهوره بالنبوة، يعرف ذلك من اعتنى بالسّير؛ وتعرّف أحواله من الصغر إلى الكبر، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه. (أجمعين) توكيد لاستغراق أفراد المنحصر في المضاف إليه. (اللهمّ) هو توجّه للمطلوب، وطلب لحصول المرغوب؛ بالتوسّل بالاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب؛ وإذا سئل به أعطى. ولفظ به بصيغة حذف فيها «ياء» النداء المتضمّنة لوجود البينونة النفسانية، إذ حذفها يقتضي زوال ذلك. وتعويض الميم من حرف النداء في لفظ الجلالة! يقتضي قوّة الهمّة في الطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 صلّ أفضل صلاة وأكملها، وأدومها، وأشملها، على سيّدنا محمّد عبدك ... والجزم. وإنّما جعل هذا الاسم العظيم في أوائل الأدعية غالبا!! لأنه جامع لجميع معاني الأسماء الكريمة؛ وهو أصلها. (صلّ) ، الصّلاة من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم. ولفظها مختصّ بالمعصوم؛ من نبيّ وملك؛ تعظيما لهم، وتمييزا لمراتبهم عن غيرهم. (أفضل صلاة وأكملها) - أي: أتمّها- (وأدومها وأشملها) - أعمّها- (على سيّدنا محمّد) الصحيح: جواز الإتيان بلفظ «السيد» و «المولى» ونحوهما مما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في الصلاة على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على تركه، ويقال في الصلاة وغيرها. وقال صاحب «مفتاح الفلاح» : وإياك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيه سرّ يظهر لمن لازم هذه العبادة. (عبدك) سمّاه الله تعالى عبدا وشرّفه بهذا الاسم، وذلك غاية التفضيل والتكريم حيث أجلّ قدره، وعظّم أمره؛ فقال (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [1/ الإسراء] . والعبد: اسم مضاف لاسم الرب والسيّد والمالك، فإن العبد من له ربّ، فمن عرف نفسه بالعبودية عرف ربّه بالربوبية. فشهود العبودية مستلزم لشهود الربوبية. ومن لا يغفل عن العبودية بالكلية هو العبد علما وحالا وتحقّقا ووجودا، وعدم الغفلة عن العبودية كمال الإنسان، وذلك موقوف على العبودية. فالعبودية كمال، وهو عين الكمال الإنساني. ولما كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كمال الرسالة وجب أن يكون له كمال العبودية. فكان صلى الله عليه وسلم أكمل الكمّل على الإطلاق، وعبوديته أكمل كلّ كمال. ولما كانت العبودية عين الكمال؛ وكان له صلى الله عليه وسلم كمال العبودية؛ أثنى الله عليه باسم العبد وسمّاه به في أشرف مقاماته، فقال تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [1/ الإسراء] ، وقال (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (10) [النجم] ، وقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [1/ الكهف] ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول- كما في البخاري-: «لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله» فاستثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الّذي خصّصته بالسّيادة العامّة، فهو سيّد العالمين على الإطلاق، ورسولك الّذي بعثته بأحسن الشّمائل وأوضح الدّلائل؛ ... ما هو ثابت له، وأسلم لله بما هو له لا سواه. وليس للعبد إلّا اسم العبد، ولذا كان «عبد الله» أحبّ الأسماء إلى الله تعالى، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم. ولما خيّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا؛ اختار أن يكون نبيا عبدا. فاختار ما هو الأتمّ والأحبّ إلى الله تعالى وما يضاف إليه، لأن النبي والعبد تصحّ إضافتهما، إذ يقال «نبيّ الله» و «عبد الله» ؛ بخلاف الملك؛ إذ لا يحسن أن يقال: «ملك الله» !! لما يوهم من عكس النسبة؛ قاله الفاسي. (الّذي خصّصته بالسّيادة العامّة) على جميع المخلوقات- أي: جعلتها مقصورة عليه؛ أي: أعطيته هذه المرتبة دون غيره-، (فهو سيّد العالمين) : جميع الخلق؛ الإنس والجنّ والملائكة وغيرهم في الدنيا والآخرة (على الإطلاق) من غير تقييد؛ ولا تخصيص، (ورسولك) المختصّ منك بالرّسالة الجامعة الكاملة المحيطة السارية في تضاعيف الوجود بالإمداد من عين الجود؛ المستولية على أطوار العوالم وحركات أدوارها، وإدراج جزئيّاتها في أسوار كلّيّاتها على الإحاطة والشمول؛ بحكم (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) [79/ النساء] ، - أي: مطلقا لم تتقيّد بقيد- ولم تختصّ رسالته بمخصّص، فهو رسول للكافّة بالكافّة من الإمداد بمنافعهم؛ من وجود ونموّ ورزق وهداية، ودلالة على طرق رشادهم، وما هو الأصلح بهم في معاشهم ومعادهم، وما يلتحق بذلك من الرحمة المرسل بها بمقتضى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] (الّذي بعثته بأحسن الشّمائل) : كريم الأخلاق، وجميل الأفعال، واستقامة الطريق. والشمائل: جمع شمال- بالكسر- وهي الأخلاق والصفات المحمودة. (و) بعثته ب (أوضح) - أي: أبين- (الدّلائل) ؛ أي: الحجج البالغة القاطعة، والبراهين الواضحة الساطعة؛ الدالّة على صدقه وصحّة نبوّته ورسالته دلالة واضحة، كانشقاق القمر، وتسليم الحجر والشجر، وحنين الجذع، ونبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ليتمّم مكارم الأخلاق. صلاة تناسب ما بينك وبينه من القرب الّذي ما فاز به أحد، وتشاكل ما لديكما من الحبّ الّذي انفرد به في الأزل والأبد. الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى في كفّه، ومجيء الشجر لدعوته، وكذا شهادة الكتب المنزّلة، واتصافه بأنواع الكمالات، وما اشتمل عليه من محاسن الصفات: لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... لكان منظره ينبيك بالخبر (ليتمّم مكارم الأخلاق) قال الباجي: كانت العرب أحسن الناس أخلاقا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلّوا بالكفر عن كثير منها؛ فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمّم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلّوا عنه، وبما قضي به في شرعه. انتهى. وهذا مقتبس من حديث: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» . رواه الإمام أحمد، والحاكم، والبيهقي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ورواه الإمام مالك في «الموطّأ» بلاغا؛ بلفظ «إنّما بعثت ... الخ» . (صلاة تناسب ما بينك وبينه من القرب) المعنويّ الذي هو قرب المكانة الرفيعة لا قرب المكان (الّذي ما فاز) - أي: ظفر- (به أحد) من الخلق، (و) صلاة (تشاكل) - أي: تشابه- (ما لديكما من الحبّ) : اسم من المحبّة، ومحبّة الله للعبد: إرادة تقريبه وإكرامه، ومحبّة العبد لله: معنى يجعله الله في قلبه، وهو تعلّق الهيبة والأنس، يعرف بآثاره ويظهر بأنواره، وهو الذي يقطع الوساوس، ويلذّ بالخدمة، ويسلّي عن المصائب، ويبعث على إيثار الحق على كلّ شيء، ولا يزال مجموعا على ربّه بكلّيّته؛ فبدنه للخدمة، وقلبه للذكر، وروحه للمحبّة، وسرّه للمشاهدة، وهو مقام الحبيب (الّذي انفرد به) ، ويعطي كلّ من أهّل له على مقدار ما قسم له منه؛ نبيّا كان أو وليّا. وقوله (في الأزل والأبد) الأزل: استمرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 صلاة لا يعدّها ولا يحدّها قلم ولا لسان، ولا يصفها ولا يعرفها ملك ولا إنسان. صلاة تسود كافّة الصّلوات كسيادته على كافّة المخلوقات. صلاة يشملني نورها من جميع جهاتي في جميع أوقاتي، ويلازم ذرّاتي في حياتي وبعد مماتي. وعلى آله ... الوجود في أزمنه مقدّرة غير متناهية في جانب الماضي، والأبد: استمرار الوجود في أزمنة مقدّرة غير متناهية في جانب المستقبل. (صلاة لا يعدّها) - أي: لا يحصيها- (ولا يحدّها) المراد حدّ العدد ومنتهاه: أي لا ينهيها (قلم) بالكتابة، (ولا لسان) بالكلام، (ولا يصفها) أي: ينعتها- (ولا يعرفها ملك ولا إنسان) لعظمها وكثرتها، فلا يحاط بها ولا يدرى حقيقتها. (صلاة تسود) ؛ أي: تشرف وتفضل (كافّة) - أي: جميع- (الصّلوات) التي صلّى بها الناس عليه صلى الله عليه وسلم؛ أي: تصير أفضل عند التفاضل (كسيادته) الجامعة لجوامع السؤدد؛ أي: مثل سيادته؛ أو فضله (على كافّة المخلوقات) ؛ فيكون فضل صلاة المصنّف على صلاة الناس مطابقة لفضله صلى الله عليه وسلم على الناس، وبينهما بون بعيد، لأنّه أفضل الخلق على الإطلاق، فتكون الصلاة المطلوبة أفضل الصلوات على الإطلاق. (صلاة يشملني) - أي: يعمّني- (نورها من جميع جهاتي) الستّ: يمين، وشمال، وأمام، وخلف، وفوق، وتحت (في جميع) أجزاء (أوقاتي) الليليّة والنهاريّة، (ويلازم جميع ذرّاتي) : - أجزائي- (في) حال (حياتي وبعد مماتي) ، والقصد من ذلك إحاطة النور به، وتعميم جوارحه، وعدم مفارقته لذلك النور؛ ولو بعد موته، وذلك ببركة الصلاة والسلام على سيّد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام (وعلى آله) ، فصل بينه وبين آله ب «على» !! ردّا على الشيعة، فإنّهم يمنعون ذلك، وينقلون فيه حديثا موضوعا لفظه: «من فرّق بيني وبين آلي ب «على» لم تنله شفاعتي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الأطهار، وأصحابه الأخيار، ... والصحيح جواز إضافة «آل» إلى الضمير. وآل نبيّنا عند الشافعي: مؤمنو بني هاشم والمطلب، وهذا بالنسبة للزكاة؛ دون مقام الدعاء. ومن ثمّ اختار الأزهريّ وغيره من المحققين أنّهم هنا «كلّ مؤمن تقيّ» لحديث فيه. (الأطهار) جمع: طهير وطهر؛ كما في «القاموس» أي: المطهّرين في عناصرهم، وهو مقتبس من قوله تعالى (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (33) [الأحزاب] ، وفي وصف «الآل» بالأطهار تصريح بأنهم مستحقّون للصلاة عليهم تبعا له صلى الله عليه وسلم كما علمناه في حديث: كيف نصلّي عليك!! قال: «قولوا اللهمّ؛ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد» ولم يقل: «آل محمد الأتقياء» أو السالمين من المعاصي والتبعات ... أو نحو ذلك، فدلّ على أن ذلك حقّ لهم كيفما كانوا. ولله درّ الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى آمين- حيث يقول: يا أهل بيت رسول الله حبّكم ... فرض من الله في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم القدر أنّكم ... من لّم يصلّ عليكم لا صلاة له فظهر بهذا أن تارك الصلاة على الآل تارك لفضيلة عظيمة وسنّة جسيمة. (وأصحابه) اسم جمع ل «صاحب» ، بمعنى الصحابي؛ وهو: من اجتمع مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد نبوته في حال حياته ومات على ذلك؛ ولو أعمى، أو غير مميز، أو ملكا، أو جنيّا- على الأصح- كما شملته «من» . وهم أفضل من آل لا صحبة لهم. وإنما قدّم الآل؛ لأنّ الصلاة وردت عليهم بالنصّ، وأما الصلاة على الصحب؛ فبالقياس. (الأخيار) فيه إشارة إلى أنّ الصحابة كلّهم عدول، وأنّ طعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وسلّم تسليما كثيرا. أمّا بعد: الطاعن في بعضهم غير مرضيّ ولا مقبول. وبين الآل والصّحب عموم وخصوص من وجه؛ لاجتماع الآل والصحب فيمن كان من أقاربه واجتمع به؛ كسيدنا علي بن أبي طالب، وانفراد الآل فيمن كان من أقاربه ولم يجتمع به؛ كأشراف زماننا هذا، وانفراد الصحب فيمن اجتمع به ولم يكن من أقاربه؛ كأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. (وسلّم تسليما كثيرا) السلام: هو تسليمه من كلّ آفة ونقص. (أمّا بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر. وأتى بها!! تأسّيا به صلى الله عليه وسلم، فإنّه كان يأتي بها في خطبه ونحوها كما صحّ عنه، بل رواها عنه اثنان وثلاثون صحابيا؛ كما قاله ابن علّان. وقال الزرقاني: روى ذلك أربعون صحابيا؛ كما أفاده الرهاوي في «أربعينه» المتباينة الأسانيد. انتهى. وأوّل من قالها داود عليه السلام- كما قيل- فهي «فصل الخطاب» الذي أوتيه. لأنها تفصل بين المقدمات والمقاصد، والخطب والمواعظ. قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : وبهذا قال كثير من المفسرين. وقيل: أول من قالها قسّ بن ساعدة الإيادي، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: «سحبان وائل» بالإضافة الذي كان في الجاهلية، لا سحبان بن وائل الذي كان في زمان معاوية، خلافا لمن وهم فيه. نبّه عليه البلغيثي عن التلمساني في «حاشية الشفا» . قال: ولا يدلّ قول سحبان بن وائل: «لقد علم الحيّ اليمانون أنّني ... إذا قلت: «أمّا بعد» أنّي خطيبها» على أنّه أوّل من قالها. انتهى. وعلى هذه الأقوال ف «فصل الخطاب» الذي أوتيه داود عليه الصلاة والسلام هو: «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فقد خطر لي أن أجمع كتابا أجعله وسيلة لبلوغي من رضا الله تعالى ورسوله المرام، وذريعة للانتظام في سلك خدّامه ... وقال المحققون: فصل الخطاب الفصل بين الحق والباطل. وهي ظرف مبنيّ على الضّم؛ كغيره من الظروف المقطوعة عن الإضافة. ويجوز ضمّ الدّال مع التنوين، كما يجوز نصبه منّونا؛ وغير منوّن. ووجوه ذلك مفصّلة في كتب النحو؛ ك «شرح القطر» وغيره. وهي ظرف زمان كثيرا؛ ك «جاء زيد بعد عمرو» ، وظرف مكان قليلا؛ ك «دار زيد بعد دار عمرو» . وهي هنا صالحة للزمان باعتبار اللفظ، وللمكان باعتبار الرّقم. ولكون «أمّا» نابت مناب اسم الشرط الذي هو «مهما» ؛ أجيبت بالفاء، إذ التقدير: مهما يكن من شيء بعد ما تقدّم من الحمد والشهادتين والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ (فقد خطر لي) . الخاطر: ما يخطر في القلب من تدبير أمر، فيقال: خطر ببالي، وعلى بالي، خطرا، وخطورا من بابي «ضرب، وقعد» ؛ (أن أجمع) ؛ أي: أؤلّف (كتابا) - أي- مكتوبا، وتنوينه للتعظيم. وهو- في الأصل- مصدر سمّي به المكتوب على التوسّع، ثم غلب في العرف على جمع من الكلمات المستقلة بالتعيين المفردة بالتدوين (أجعله وسيلة) - أي: سببا- (لبلوغي) : وصولي (من رضا الله تعالى) . هو كناية عن فعله به ما يفعل الراضي عمن يرضى عنه. وهو إيصال الخير إليه، لأن البلوغ الوصول والانتهاء إلى غاية مقصودة، لكن مع اعتبار ضرب من التمكّن والقوّة، لأنّ المادّة بتقاليبها دائرة على هذا المعنى، والغاية المقصودة هنا رضا الله تعالى، (و) رضا (رسوله) صلى الله عليه وسلم، وذلك غاية المطالب والمقاصد. وقوله (المرام) أي: المطلوب مفعول «بلوغي» ، كقوله تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (8) [مريم] (وذريعة) أي: وسيلة (للانتظام) أي: الاندراج (في سلك) - بكسر السين- أصل معناه: الخيط، ومقصوده بذلك التقرّب إليه صلى الله عليه وسلم حتى يكون معدودا من جملة (خدّامه) بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة-: جمع خادم مثل كاتب وكتّاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عليه الصّلاة والسّلام. ثمّ نظرت إلى قلّة علمي، ... والمراد كونه من المشتغلين بخدمة الجناب النبوي لينخرط في سلك المحبوبين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدلي بدلوه معهم في بحر فضله الذي لا يخيب قاصده، ولا يظمأ وارده، مستمطرا سحائب إحسانه، مستنزلا غزير برّه وامتنانه، لأنّ أدنى انتساب إليه صلى الله عليه وسلم يحصل غاية النفع والشرف، إذ لم يخلق الله خلقا أكرم عليه منه صلى الله عليه وسلم، ولم يخلق جاها أعظم من جاهه؛ فيحصل لخادمه من الجاه بحسب ماله صلى الله عليه وسلم من العزّ والشرف. قال سيّدي عبد الوهّاب الشعراني: ما في الوجود من جعل الله له الحلّ والربط، دنيا وأخرى؛ مثل النبي صلى الله عليه وسلم، فمن خدمه على الصدق والمحبّة والوفاء، دانت له رقاب الجبابرة، وأكرمه جميع المؤمنين كما ترى ذلك فيمن كان مقرّبا عند ملوك الدنيا. ومن خدم السيّد خدمته العبيد. وكما أن غلام الوالي لا يتعرّض له إذا سكر مثلا؛ إكراما للوالي، فكذلك خدّام النبي صلى الله عليه وسلم لا تتعرض لهم الزبانية يوم القيامة؛ إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد فعلت الحماية مع التقصير ما لا تفعله كثرة الأعمال الصالحة مع عدم الاستناد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاستناد الخاصّ. ولله درّ من قال: وإذا ما الجناب كان عظيما ... مدّ منه لخادميه لواء وإذا عظّمت سيادة متبو ... ع أجلّ أتباعه الكبراء وقد كان المصنّف رحمه الله تعالى ممّن له القدح المعلّى في خدمة الجناب النبوي؛ بالتأليف والمديح والصلوات ونشر علوم السنة النبوية، نظمنا الله تعالى في سلك أحبابه المتعلّقين بجنابه (عليه الصّلاة والسّلام) بمنّه وكرمه. آمين. (ثمّ نظرت إلى قلّة علمي) . في «القاموس» : نظره ونظر إليه؛ نظرا، ومنظرا: تأمّله بعينه. قال الشارح: هكذا فسّره الجوهري. وفي «البصائر» : والنظر أيضا تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته. وقد يراد به التأمّل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص. وقوله تعالى (قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ) [يونس/ 101]- أي: تأمّلوا-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وضعف فهمي، وكثرة ذنوبي، ووفرة عيوبي.. فأحجمت إحجام من عرف حدّه فوقف عنده، ثمّ تخطّرت سعة الكرم، وكوني من أمّة هذا النّبيّ الكريم.. فأقدمت إقدام الطّفل على الأب الشّفيق الحليم، ... واستعمال النظر في البصر أكثر استعمالا عند العامّة، وفي البصيرة أكثر استعمالا عند الخاصّة. ويقال: نظرت إلى كذا؛ إذا مددت طرفك إليه، رأيته؛ أو لم تره، ونظرت إليه إذا رأيته وتدبّرته، ونظرت في كذا: تأمّلته. ثم قال: وإذا قلت «نظرت إليه» لم يكن إلّا بالعين، وإذا قلت «نظرت في الأمر» ؛ احتمل أن يكون تفكّرا وتدبرا بالقلب. انتهى. (وضعف فهمي) هذا منه تواضع رحمه الله تعالى، (وكثرة ذنوبي) ؛ جمع ذنب، وهو الإثم والمعصية. وقد أذنب الرجل صار ذا ذنب. وقد قالوا: إن هذا من الأفعال التي لم يسمع لها مصدر على فعلها، لأنه لم يسمع إذناب ك «إكرام» ، (ووفرة) ، أي: كثرة (عيوبي) ؛ جمع عيب: وهو الوصمة (فأحجمت) عمّا أردت من تأليف الكتاب المذكور، أي: كففت عنه. يقال «حجمته عن الشيء» ؛ أي كففته عنه، وأحجم هو عنه أي: كفّ. وهو من النوادر مثل: كببته فأكبّ؛ قاله الجوهري (إحجام) ، أي: إحجاما مثل إحجام (من عرف حدّه) - أي: عرف نفسه بالقصور- (فوقف عنده) أي: عند حدّه، حيث كان قاصرا عن بلوغ هذه الرتبة. (ثمّ تخطّرت) أي: تذكّرت (سعة الكرم) من الله سبحانه وتعالى، (و) تخطّرت (كوني من أمّة هذا النّبيّ الكريم ف) رجوت أن يكرمني الله بنيل هذا الأرب؛ لأجل نبيه صلّى الله عليه وسلم فقوي رجائي، و (أقدمت) على تنفيذ هذا العزم، وهو تأليف الكتاب (إقدام) أي: إقداما مثل إقدام (الطّفل على الأب) أي: أبيه (الشّفيق) كثير الشفقة (الحليم) على ولده؛ فلا يعاقبه إذا أساء، لأن حلمه وشفقته يمنعانه. والنبي صلّى الله عليه وسلم هو أبو المؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، لا سيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بعد أن سمعت قول الله تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128] . فكم من أعرابيّ فدم، لا أدب له ... (بعد أن سمعت قول الله تعالى) في سورة التوبة واصفا له بالرحمة والرأفة لأمته، حيث قال (لَقَدْ جاءَكُمْ) - أيها العرب- (رَسُولٌ) - هو محمد صلّى الله عليه وسلم- (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - أي: منكم تعرفون نسبه وحسبه، وأنّه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وهو ترغيب للعرب في نصره، فإنّه تم شرفهم بشرفه، وعزّهم بعزه، وفخرهم بفخره، فإنه من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة والصيانة والعفاف وطهارة النسب والأخلاق الحميدة- (عَزِيزٌ) - أي: شديد- (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) - أي: عنتكم، أي مشقّتكم ولقاؤكم المكروه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أن تهتدوا- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) - شديد الرحمة- (رَحِيمٌ) (128) مريد لهم الخير. وقيل: بالمؤمنين رؤوف؛ أي: بالطائعين منهم، رحيم بالمذنبين. قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى إلّا للنبي صلّى الله عليه وسلم فسمّاه رؤوفا رحيما. وقال (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (65) [الحج] . (فكم) خبرية، بمعنى عدد كثير ومميّزها قوله (من أعرابيّ) فهو مجرور ب «من» ؛ كما في قوله تعالى (* وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) [النجم/ 26] ، والأعرابيّ: ساكن البادية (فدم) - بفتح فسكون- هو من الناس العييّ عن الكلام في ثقل ورخاوة وقلّة فهم، وهو أيضا: الغليظ الأحمق الجافي؛ كما في «القاموس» . ويصحّ إرادة كلّ من المعنيين هنا. (لا أدب له) ، قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : الأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا. وقيل: الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل: تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، يقال: إنه مأخوذ من المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سمّي به!! لأنّه يدعى إليه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ولا فهم، ولا عقل له ولا علم، ولا كرم ولا حلم.. قابل جنابه الشّريف بما غضب له المكان والزّمان، ... (ولا فهم) الفهم: سرعة انتقال النفس من الأمور الخارجية إلى غيرها. وقيل: الفهم تصوّر المعنى من اللفظ. وقيل: هيئة للنفس يتحقق بها ما يحسن. وفي «إحكام الآمدي» : الفهم جودة الذهن من جهة تهيّئه لاقتناص ما يرد عليه من المطالب. (ولا عقل له) كامل. والعقل: نور روحاني يقذف به في القلب؛ أو الدماغ، به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية. واشتقاقه من العقل؛ وهو: المنع!! لمنعه صاحبه عما لا يليق، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو ويزيد إلى أن يكمل عند البلوغ. وقيل: إلى أن يبلغ أربعين سنة، فحينئذ يستكمل عقله، كما صرّح به غير واحد. وفي الحديث: «ما من نبيّ إلّا نبّىء بعد الأربعين» وهو يشير إلى ذلك. (ولا علم) العلم: هو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع لموجب. وقال الحكماء: هو حصول صورة الشيء في العقل. والأوّل أخصّ من الثاني. وقيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو به. وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، والجهل نقيضه. وقيل: العلم صفة راسخة يدرك بها الكليات والجزئيات. وقيل: العلم وصول النفس إلى معنى الشيء. وقيل: هو مستغن عن التعريف. (ولا كرم) الكرم: هو الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه. (ولا حلم) الحلم: حالة توقّر وثبات عند الأسباب المحركات. (قابل جنابه الشّريف) الجناب- بفتح الجيم- أصله الجانب؛ وهو: شقّ الإنسان. فكأنّ للإنسان شيئا محسوسا يسمّى بالجناب والقدر؛ يحتشم صاحبه لأجله. والمراد هنا: ذاته صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: فكم من أعرابيّ جلف واجهه صلّى الله عليه وسلم (بما) أي: بخلق سيّء (غضب له) أي: لأجل ذلك الخلق الصادر منه (المكان والزّمان) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وخاطبه بما عبس له وجه السّيف واحتدّ له لسان السّنان ... غيرة عليه صلّى الله عليه وسلم أن تنتهك حرمته؛ كما وقع له مع قومه الذين وطئوا ظهره، وأدموا وجهه، وكسروا رباعيته، فأبى أن يقول إلّا خيرا. وقال: «اللهمّ؛ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» . ولما تصدّى له غورث بن الحارث ليفتك به ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في ناحية تحت شجرة وحده قائلا؛ والناس قائلون في غزوة ذات الرقاع، فلم يستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا وهو قائم بيده السيف صلتا. فقال: من يمنعك مني؟. فقال: «الله» . فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقال: «من يمنعك منّي؟» قال: كن خير آخذ. فتركه وعفا عنه، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. صلّى الله عليه وسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابيّ بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد؛ احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك؛ ولا من مال أبيك. فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده» ، ثم قال: «ويقاد منك يا أعرابيّ ما فعلت بي!» قال: لا. قال: «ولم؟» قال: لأنّك لا تكافىء بالسيئة السيئة!! فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى آخر تمر. وإسناد الغضب إلى الزمان والمكان مجار عقلي لوقوعه فيهما. (و) كم من أعرابي غليظ الطبع (خاطبه) صلّى الله عليه وسلم (بما) ، أي: بكلام خشن (عبس) من باب (ضرب) عبوسا: قطب وجهه فهو عابس (له) ، أي: لأجل هذا الكلام (وجه السّيف، واحتدّ) أي: غضب (له لسان السّنان) - بكسر السين؛ ككتاب. المراد به الرمح- ومعناه في الأصل: نصل الرمح؛ أي: حديدته. يعني أنّه استحق القتل، فكأنّ السيف والرمح هاج بهما الغضب على هذا الأعرابي يريدان الانتقام منه؛ نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. كما وقع له صلّى الله عليه وسلم مع الرجل الذي قال له: اعدل؛ فإنّ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، فلم يردّ عليه إلّا بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فكان جوابه الإغضاء، والعفو عمّن أساء، بل أدناه وقرّبه، وما لامه وما أنّبه، بل أفرغته أخلاقه المحمّديّة في قالب ... «ويحك فمن يعدل إن لم أعدل!! خبت وخسرت إن لم أعدل» ، ونهى من أراد من أصحابه قتله. وفي الكلام استعارتان بالكناية؛ حيث شبّه كلا من السيف والسنان بإنسان يريد الانتقام نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وحذف المشبّه به الذي هو الإنسان، ورمز له بشيء من لوازمه؛ وهو الوجه واللسان، والعبوس والاحتداد (ترشيح) «1» . (فكان جوابه) صلّى الله عليه وسلم لذلك المسيء (الإغضاء) ، أي: الإمساك وعدم المؤاخذة. وفي «المصباح» : أغضى عينيه: قارب بين جفنيهما. ثم استعمل في الحلم فقيل: أغضى؛ إذا أمسك عفوا عنه. وفي «المحكم» : أغضى على قذى، صبر على أذى. انتهى. (و) كان جوابه (العفو عمّن أساء) ، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمات الله تعالى؛ فينتقم لله. كما عفا عن اليهودية التي سمّته في الشاة بعد اعترافها، ولم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره؛ وقد أعلم به وأوحي إليه بشرح أمره!! (بل أدناه) ؛ أي: ذلك الأعرابي المسيء (وقرّبه) عطف تفسير، (وما لامه) : عذله، (وما أنّبه) أي: عنّفه. يقال: أنّبه تأنيبا: عنّفه ولامه ووبّخه، والتأنيب أشدّ العذل؛ وهو التوبيخ والتثريب. والتأنيب المبالغة في التوبيخ والتعنيف، ومنه حديث توبة كعب بن مالك: ما زالوا يؤنّبوني. (بل أفرغته أخلاقه المحمّديّة) أي: صبّته (في قالب) - بفتح اللام وكسرها-: هو الشيء يفرغ فيه الجواهر ليكون مثالا لما يصاغ منها، وهو دخيل. والصواب أنّه معرّب، وأصله كالب، لأن هذا الوزن ليس من أوزان العرب ك «الطابق» ونحوه؛ وإن ردّه الشهاب في «شرح الشفا» بأنه غير صحيح، فإنها   (1) الترشيح: ضرب من ضروب البلاغة، بمعنى: تأكيد المعنى السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 كيمياء السّعادة بأيادي الإحسان، حتّى اضمحلّت حدّة ذلك الوحش وانقلبت حديدته جوهرة إنسان، فتبدّل بغضه بالحبّ، وبعده بالقرب، وحربه بالسّلم، وجهله بالعلم ... دعوى خالية عن الدليل. وصيغته أقوى دليل على أنّه غير عربي، إذ فاعل- بفتح العين- ليس من أوزان العرب، ولا من استعمالاتها. انتهى «شرح القاموس» . (كيمياء السّعادة) المراد بذلك تهذيب النفس باجتناب الرذائل وتزكيتها عنها، واكتساب الفضائل وتحليتها بها. والكيمياء لغة مولّدة من اليونان؛ أصل معناها الحذق والحيلة؛ قاله الخفاجي. (بأيادي الإحسان) جمع يد؛ وهي الجارحة. ثم أطلقت على النعمة مجازا. ويحتمل أن يكون المعنى بأياد هي الإحسان، فالإضافة بيانيّة. (حتّى اضمحلّت) : ذهبت (حدّة) - بكسر الحاء وتشديد الدّال المهملتين-: هي ما يعتري الإنسان من الخفّة والطيش والغضب، تقول: حددت على الرجل أحدّ بالكسر- حدّة أيضا؛ عن الكسائي. (ذلك الوحش) أصل الوحش: حيوان البرّ الّذي لا يستأنس. فشبه به الإنسان الذي لم يتهذّب بالأخلاق الحسنة بجامع النّفرة من كلّ، (وانقلبت) أي: تبدّلت (حديدته) : القطعة من الحديد المعروف (جوهرة إنسان) كامل بالإضافة. والمراد أنّ هذا الأعرابي الجلف الذي كان سيّء الأخلاق نافرا كالوحش يشبه الحديد في القسوة؛ لمّا أشرقت عليه شمس النبوة، ورأى تلك الطلعة البهيّة، وأبصر الأخلاق المحمدية، وسمع الحكم المصطفيّة «1» ؛ تهذّبت نفسه، وحسنت أخلاقه، وتغيّرت طباعه؛ (فتبدّل بغضه) للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ وللإسلام (بالحبّ) لهما، (و) تبدّل (بعده) عنهما (بالقرب) منهما، (و) تبدّل (حربه بالسّلم) - بكسر السين: الصلح- (و) تبدّل (جهله بالعلم) .   (1) تقتضي قواعد اللغة: المصطفوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 واستحال إنسانا بعد أن كان ثعبانا، وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا. فهذا وأمثاله من شواهد مكارم أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم.. أطمعني بإمكان قبولي في جملة خدمه، ودخولي في عداد حشمه، ولا يبعد عن سعة كرم الله تعالى أن يهب لي إكراما لرسوله فوق ما أمّلته من الرّضا والقبول. وللجلال السيوطي رحمه الله تعالى فيما يقال بكسر أوّله وضدّه بفتح أوله، هذان البيتان: عن الأوائل أسماء أوائلها ... بالكسر جاء، وأضداد لها فتحا العلم والحلم والسّلم الغنى وتلا ... خصب وفتح لأضداد لها وضحا وذيّل عليهما السيد المرغني حفيد السيد محمد عثمان المرغني في «شرحه» لمولد جدّه المذكور ذاكرا أضداد ذلك؛ وهو ما كان أوّله مفتوحا؛ فقال: وذاك جهل وحرب يا فتى سفه ... جدب وفقر لربّ فضله طفحا (واستحال) أي: صار (إنسانا) حقيقيّا (بعد أن كان) إنسانا صوريّا يشبه في أخلاقه (ثعبانا) ، وهو: الحية الضخمة الطويلة تصيد الفأر، (وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا) ؛ أي: كالذيب في الخبث والدّهاء. (فهذا؛ وأمثاله من شواهد مكارم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم أطمعني) ، أي: جعلني طامعا (بإمكان قبولي في جملة خدمه) المشتغلين بنشر محاسنه ونصرة دينه، (ودخولي في عداد) - بكسر العين المهملة: المثل- (حشمه) - بفتح أوّليه للواحد والجمع- وهم خاصّة الرجل الذين يغضبون له من أهل وعبيد أو جيرة؛ إذا أصابه أمر. وفي «الصحاح» : حشم الرجل: خدمه ومن يغضب له. سمّوا بذلك!! لأنهم يغضبون له. انتهى. (ولا يبعد عن سعة كرم الله تعالى أن يهب لي) أي: يعطيني (إكراما لرسوله) مفعول لأجله- (فوق) - أي: زيادة على- (ما أمّلته) ؛ أي: رجوته (من الرّضا والقبول) بيان ل «ما» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وها أنا قد توكّلت عليه سبحانه، وقبضت قبضة من أثر الرّسول، فجمعت هذا الكتاب ... (وها) - بفخامة الألف- حرف تنبيه للمخاطب ينبّه بها على ما يساق إليه من الكلام. وتفصل «ها» التنبيه المذكورة من اسم الإرشاة ب (أنا) وأخواته من ضمائر الرفع المنفصلة كثيرا، نحو: ها أنا ذا أفعل كذا. والإخبار عن هذا الضمير بغير اسم الإشارة كما هنا شاذّ؛ كما صرح به ابن هشام في «حاشية التسهيل» ؛ وإن وقع في ديباجة «المغني» حيث قال: (وها أنا بائح بما أسررته) . ومثله قول المصنف. (قد توكّلت عليه سبحانه) قيل: التوكّل ترك تدبير النفس، والانخلاع عن الحول والقوة. وهو فرع التوحيد والمعرفة، (وقبضت قبضة من أثر الرّسول) . هذا اقتباس، وهو جائز عند المالكية والشافعية باتفاق، غير أنّهم كرّهوه في الشعر خاصّة. هكذا حكى اتفاق المذهبين الشيخ داود الشاذلي الباهلي. وقد نصّ على جوازه القاضي عياض، وابن عبد البر، وابن رشيق، والباقلاني، وهم من أجلّة المالكية، والنووي شيخ الشافعية، ورواه الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد إلى الإمام مالك أنّه كان يستعمله. قال السيوطي: وهذه أكبر حجّة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه، وقد نفى الخلاف في مذهبه الشيخ داود، وهو أعرف بمذهبه، وأما مذهبنا!! فأنا أعرف أنّ أئمّته مجمعون على جوازه، والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم. فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه، فقد فشر، وأبان عن أنه أجهل الجاهلين. انتهى ذكره الزرقاني على «المواهب» . (فجمعت هذا الكتاب) ، قال الأردبيلي: يطلق الكتاب على مطلق الخطّ، وعلى الكلام المكتوب؛ تسمية لاسم المفعول بالمصدر، وعلى مطلق الكلام؛ اتساعا، كما في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) [105/ النساء] . ثمّ شاع استعماله في التعارف فيما جمع فيه الألفاظ الدالّة على نوع من المعنى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 من آثاره في شمائله الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم، وأدخلت فيه جميع الشّمائل الّتي رواها الإمام الحافظ أبو عيسى محمّد بن عيسى التّرمذيّ أو أكثر، لما بين المصدر والمكان من التعلّق الخاصّ، فيقال: أتاني كتاب عن فلان، وسيّرت إلى فلان كتابا، ومنه (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) [28/ النمل] وأمّا في عرف المؤلفين؛ فيطلق تارة على مكتوب مشتمل على حكم أمر مستقل منفرد عن غيره؛ وعن آثاره ولواحقه وتوابعه وأسبابه وشروطه، وتارة على مكتوب مشتمل على مسائل علم أو أكثر. وقد يسمّى ذلك المكتوب باسم خاصّ، وهو المراد هنا. (من آثاره) ؛ أي: محاسنه (في شمائله) جمع شمال- بالكسر- أي: أخلاقه (الشّريفة صلّى الله عليه وسلم) وصفاته المحمودة، (وأدخلت) - أي: أدرجت- (فيه) ؛ أي: في هذا الكتاب (جميع) كتاب ( «الشمائل) النبوية» (الّتي رواها) بأسانيده (الإمام الحافظ أبو عيسى محمّد بن عيسى) بن سورة بن موسى بن الضحّاك؛ (التّرمذيّ) . قال الأصفهاني في كتابه «لبّ اللباب في الأنساب» : التّرمذي- بضمّ التاء، وفتحها، وكسرها- نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له: «جيحون» ، خرج منها جماعة، منهم: الترمذي صاحب «الجامع» و «العلل» . انتهى. وسكت عن بيان حركة ميمه، وبيّنها أصل أصله: السمعانيّ، وعبارته: التّرمذي؛ بكسر المثناة من فوق والميم، وبضمّها، وبفتح المثناة وكسر الميم. انتهى. وفي الراجح من هذه اللغات خلاف. فقال ابن سيّد الناس: المتداول بين أهل تلك المدينة فتح التاء وكسر الميم، والذي نعرفه قديما كسرهما معا، والذي يقوله المتقنون أهل المعرفة بضمّهما. وكلّ واحد يقول لها معنى يدّعيه. انتهى. وفي «طبقات الحفاظ» للذهبي: قال شيخنا ابن دقيق العيد: ترمذ- بالكسر- هو المستفيض على الألسنة حتى يكاد يكون كالمتواتر. وقال الباجي: سمعت عبد الله بن محمد الأنصاري يقول: هو بضمّ التاء. انتهى. وهو الحافظ الضرير أحد الأئمة الستّة، قيل: إنّه ولد أكمه، طاف البلاد فسمع من قتيبة وعلي بن حجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 رضي الله تعالى عنه بعد حذف مكرّرها وأسانيدها، ولم أتقيّد بترتيبه وتبويبه، بل سلكت أسلوبا غير أسلوبه، وأضفت إليها من كتب الأئمّة الآتي ذكرهم أكثر منها بكثير، ... وأبي كريب وخلائق، وأخذ علم العلل والرجال عن البخاري، وروى عنه حمّاد بن شاكر، وأحمد بن حسنويه، ومحمد بن أحمد بن محبوب، وآخرون. وقد سمع منه البخاري أيضا. قال ابن حبان في «الثقات» : كان ممّن جمع وصنّف وحفظ وذاكر. ولد سنة: - 209- مائتين وتسع- بتقديم المثناة على المهملة- قال المستغفري: مات في شهر رجب سنة: - 279- تسع- بتقديم المثناة على المهملة- وسبعين- بتقديم المهملة على الموحدة- ومائتين، فعمره سبعون سنة بتقديم المهملة على الموحدة-. (رضي الله تعالى عنه) ورحمه رحمة واسعة. آمين. (بعد حذف مكرّرها) أي: حذف الأحاديث المكرّرة فيها من نوع واحد بدون زيادة. (و) بعد حذف (أسانيدها) جمع إسناد؛ وهو: الإخبار عن طريق المتن، والسند: رجال المتن. وقيل: هما بمعنى وعليه جرى الجلال السيوطي في «ألفيته» حيث قال: والسّند الإخبار عن طريق ... متن كالاسناد لدى فريق وعبّر المصنف بالحذف الذي يكون عادة بعد الذكر!! إشعارا بأن السند مما يعتني به أرباب الإتقان، فكأنّه ذكره ثم حذف، ولو عبّر بالترك ونحوه لما فهم ذلك. (ولم أتقيّد بترتيبه) ، أي: الترمذي، (و) لم أتقيّد بألفاظ (تبويبه) أي: تراجم الأبواب، (بل سلكت أسلوبا غير أسلوبه) أي: طريقة غير طريقته، (وأضفت) ؛ أي: ضممت (إليها) - أي: «شمائل الترمذي» - (من كتب الأئمّة الآتي ذكرهم) زيادات (أكثر منها) ؛ أي: «الشمائل الترمذية» . (بكثير) ؛ بحيث أن الزيادة تبلغ نحو ثلاثة أمثال «الشمائل الترمذية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وألحقت بغريب الألفاظ ما تدعو إليه الحاجة من ضبط أو تفسير. فجاء كتابا حافلا ليس له في بابه نظير. وسمّيته: «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول» وهذا بيان الكتب الّتي نقلته منها، ورويته عنها: 1- «كتاب الشّمائل» للإمام التّرمذيّ. 2- «المصابيح» ... (وألحقت بغريب الألفاظ) اللغوية، أي: التي هي غير مألوفة الاستعمال، أي: أتبعتها (ما تدعو إليه الحاجة من ضبط) لحروفه نحو «بالفوقية، أو التحتية» وبيان ما قد يشتبه من الحركات، (أو تفسير) أي: شرح معنى للفظ خفيّ؛ بأن يكون فيه غموض بحيث يعسر فهم معناه من مبناه إلّا للعارف، أو تكون دلالته فيها غموض، بأن يكون ذلك اللفظ مصروفا عن ظاهره لمقتض. (فجاء) - أي: فبعد إتمامه- على الكيفية التي ذكرها صار (كتابا حافلا ليس له في بابه نظير) ، لما جمع فيه مما تفرّق في غيره؛ من صحيح الأخبار ومشهورها؛ المشتملة على شمائله وأخلاقه الحميدة وعباداته وغيرها. (وسمّيته «وسائل الوصول) - الوسائل: جمع وسيلة؛ وهي ما يكون سببا لتحصيل شيء- (إلى شمائل الرّسول» ) صلّى الله عليه وسلم. (وهذا بيان) أسماء (الكتب الّتي نقلته منها، ورويته عنها: كتاب «الشّمائل» للإمام) أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) الحافظ الضرير، وقد تقدّمت ترجمته قريبا. (المصابيح) أي: كتاب «مصابيح السنة» ، قيل: إنّ مؤلّفه لم يسمّه ب «المصابيح» نصّا منه، وإنما صار هذا الاسم علما بالغلبة من حيث إنّه قال في مقدّمتها: أما بعد؛ فهذه ألفاظ ... إلى أن قال: هن مصابيح الدجى ... الخ. قسمه مؤلفه إلى صحاح وحسان، مريدا بالصحاح: ما أخرجه الشيخان: البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 للإمام البغويّ. 3- «الإحياء» للإمام الغزاليّ. ومسلم، أو أحدهما. وبالحسان: ما أخرجه أرباب السنن الأربعة مع الدارمي، أو بعضهم؛ وهو اصطلاح له، ولم يعيّن فيه من أخرج كلّ حديث على انفراده، ولا الصحابي الذي رواه (للإمام) ركن الدين محيي السنة: أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفرّاء (البغويّ) نسبة إلى «بغا» : قرية من قرى خراسان بين مرو وهراة، الفقيه الشافعي المحدّث المفسر صاحب المصنّفات المبارك له فيها، لقصده الصالح، المتعبّد الناسك الرباني، المولود سنة: - 436- ست وثلاثين وأربعمائة، والمتوفّى بمرو سنة: - 516- ست عشرة وخمسمائة هجرية، له كتاب «التهذيب» في الفقه الشافعي، و «شرح السنة» في الحديث، و «مصابيح السنة» في الحديث، و «الجمع بين الصحيحين» ، وتفسير «معالم التنزيل» ، وغير ذلك رحمه الله تعالى. آمين. (الإحياء) ؛ أي «إحياء علوم الدين» الذي هو أجلّ كتب المواعظ وأعظمها، حتى قيل فيه: إنّه لو ذهبت كتب الإسلام وبقي «الإحياء» لأغنى عما ذهب. (للإمام) حجّة الإسلام: أبي حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد (الغزاليّ) بالتخفيف للزاي في المشهور؛ نسبة إلى «غزالة» : قرية من قرى طوس، أو بتشديد الزاي [غزّالي] نسبة إلى صناعة الغزل. الشافعي، جامع أشتات العلوم، المبرز في المنطوق منها والمفهوم، من شاع ذكره في البلاد، واشتهر فضله بين العباد. ولد ب «الطابران» : قصبة طوس بخراسان سنة: - 450- خمسين وأربعمائة، ورحل إلى نيسابور، ولازم إمام الحرمين؛ حتى برع في المذهب والخلاف والجدل والأصلين والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كلّ ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدّى للردّ على مبطليهم؛ وإبطال دعاويهم، وصنّف في كلّ فنّ من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها، وأجاد وصفها وترصيفها، ورحل إلى بغداد؛ فالحجاز؛ فبلاد الشام؛ فمصر، وكان شديد الذكاء، سديد النظر، عجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 4- «الشّفا» للقاضي عياض. الفطرة، مفرط الإدراك، قويّ الحافظة، بعيد الغور، غوّاصا على المعاني الدقيقة، جبل علم، مناظرا محجاجا. ثم عزفت نفسه عن الدنيا؛ فرفض ما فيها من التقدّم والجاه، وأخذ يجول في البلاد، ويجاهد نفسه جهاد الأبرار، ويكلّفها مشاقّ العبادات، ويبلوها بأنواع القرب والطاعات، إلى أن صار قطب الوجود؛ وتكلّم على لسان أهل الحقيقة، وحدّث بكتاب «الإحياء» ، وقد شهد له أبو العباس المرسي بالصدّيقيّة العظمى. وكانت وفاته بطوس سنة: - 505- خمس وخمسمائة هجرية. رحمه الله تعالى. ( «الشّفا) بالتعريف بحقوق المصطفى» صلّى الله عليه وسلم، وهو كتاب عظيم النفع كثير الفائدة، لم يؤلّف مثله في الإسلام، وقد جربت قراءته لشفاء الأمراض المزمنة، وتفريج الكروب، ودفع الخطوب؛ شكر الله سعي مؤلّفه، وجازاه عليه بأتمّ الجزاء وأعظمه. ولم ينصف الذهبي في قوله: إنه محشوّ بالأحاديث الموضوعة والتأويلات الواهية الدالّة على قلّة نقده بما لا يحتاج قدر النبوة له. انتهى. نعم؛ في كتاب «الشفا» أحاديث ضعيفة، وأخرى قيل فيها: إنها موضوعة، تبع فيها «شفاء الصدور» للخطيب أبي الربيع سليمان بن سبع السبتي. والله أعلم. (للقاضي) أبي الفضل: (عياض) بن موسى بن عياض اليحصبي نسبا؛ نسبة إلى يحصب بن مالك «قبيلة من حمير» ، السّبتي دارا وبلدا؛ نسبة إلى «سبتة» مدينة مشهورة بالمغرب، الأندلسي أصلا، المالكي مذهبا. الإمام البارع المتفنّن، عالم المغرب، المتمكّن في علم الحديث، والأصلين، والفقه والعربية. وكان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم. وله مصنفات في كلّ نوع من العلوم المهمّة. وكان من أصحاب الأفهام الثاقبة. وكانت ولادته في نصف شعبان سنة: - 476- ست وسبعين وأربعمائة. وقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 5- «التهذيب» للإمام النّوويّ. الأندلس طالبا للعلم، وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم، وجمع من الحديث كثيرا. واستقضي ببلده مدّة طويلة حمدت سيرته فيها. ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة؛ فلم يطل أمره بها، وتوفي بمراكش سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة. ودفن بباب «ايلان» داخل المدينة. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار. آمين. (التّهذيب) ؛ أي: «تهذيب الأسماء واللّغات» جمع فيه مؤلفه الألفاظ الموجودة في «مختصر المزني» ، و «المهذّب» ، و «الوسيط» ، و «التنبيه» ، و «الوجيز» ، و «الروضة» ، وقال: إن هذه الستة تجمع ما يحتاج إليه من اللغات. وضمّ إلى ما فيها جملا مما يحتاج إليه مما فيها من أسماء الرجال والنساء والملائكة والجن وغيرهم ممن له ذكر في هذه الكتب برواية؛ أو غيرها، مسلما كان؛ أو كافرا، برّا كان؛ أو فاجرا. ورتّبه على قسمين: الأول في الأسماء؛ وصدّره باسم النبي صلّى الله عليه وسلم والكلام على أحواله وشمائله، والثاني في اللغات. وهو كتاب جيّد في بابه مفيد مشهور. (للإمام) الحافظ الحجّة الهادي الناس إلى المحجّة، أستاذ المتأخرين، وشيخ الإسلام والمسلمين، وقدوة الحفّاظ والمحدثين، حامل لواء مذهب الشافعي على كاهله، ومحرّر دلائله في بكره وأصائله، المتّفق على جلالته وعلوّ رتبته وولايته، وارتقاء مكانته: أبي زكريا يحيى بن شرف بن مرّي بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة الشيخ محيي الدين (النّوويّ) نسبة ل «نوى» : قرية من قرى حوران دمشق، الشافعي، صاحب التصانيف النافعة. ولد سنة: - 631- إحدى وثلاثين وستمائة ب «نوى» . واجتهد في جميع العلوم، واعتنى بالحديث فسمع من كثير من الشيوخ، وسمع الكتب الستة و «المسند» و «الموطّأ» و «شرح السنة» ، و «سنن الدراقطني» وأشياء كثيرة. وتفقّه على الكمال سلّار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 6- «الهدي النّبويّ» للإمام محمّد ابن أبي بكر الشّهير بابن قيّم الجوزيّة. 7- «الجامع الصّغير» ... وكان حافظا للحديث وفنونه، وصحيحه وعليله، رأسا في معرفة مذهب الشافعي. وتخرّج به جماعة من العلماء؛ منهم علاء الدين بن العطّار، وحدّث عنه الحافظ المزّي، وغيرهما. وكان له الزهد والقناعة، ومتابعة السلف من أهل السنة والجماعة، والمثابرة على أنواع الخير؛ لا يصرف ساعة في غير طاعة، مع التفنّن في أصناف العلوم، فقها، ومتون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة ونحوا وصرفا وغير ذلك. وحجّ حجّتين، ونفع الله بتصانيفه في حياته وبعد وفاته. ولم يزل على الحال المرضيّ إلى أن وافاه الحمام في الرابع والعشرين من شهر رجب الحرام سنة: - 676- ست وسبعين وستمائة. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار. آمين. (الهدي النّبويّ) المسمى «زاد المعاد في هدي خير العباد» (للإمام) شمس الدين أبي عبد الله (محمّد بن أبي بكر) بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي (الشّهير ب «ابن قيّم الجوزيّة» ) الحنبلي العلّامة الحافظ المحدّث المصنّف المشهور. ولد سنة: - 691- إحدى وتسعين وستمائة، وأخذ عن والده، والصفي الهندي، وابن تيمية، وبرع في جميع العلوم، وغلب عليه حبّ ابن تيمية حتّى كان لا يخرج عن شيء من أقواله؛ بل ينتصر له في جميع ذلك. وهو الذي نشر علمه بما صنّفه من التصانيف، وهو طويل النّفس في تصانيفه، يتعانى الإيضاح جهده؛ فيسهب جدّا، ومعظمها من كلام شيخه، متصرّف في ذلك، وله ملكة قوية، ولا يزال يدندن حول مفرداته، ينصرها ويحتجّ لها. ومات في شهر رجب الحرام سنة: - 751- إحدى وخمسين وسبعمائة هجرية. رحمه الله تعالى. ( «الجامع الصّغير) في أحاديث البشير النذير» . وهو المعجم الوحيد الآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 للإمام السّيوطيّ. 8- و «شرحه» للإمام ... المتداول بين الناس، وهو من أكبر منن مؤلّفه على المسلمين الذي يعرفون به كلم نبيّهم، ومخرّجيها، ومظانّها، ومرتبتها في الجملة (للإمام) فخر المتأخّرين، علم أعلام الدين، خاتمة الحفّاظ والمحدّثين: أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري المصري (السّيوطيّ) الشافعي. ويقال «الأسيوطي» ؛ نسبة إلى «سيوط» . قال في «القاموس» : «سيوط» أو «أسيوط» بضمّهما: بلدة بصعيد مصر. انتهى. ولد سنة: - 849- تسع وأربعين وثمانمائة، ونشأ على التجرّد في العلم فجمع غالب فنونه، وكان نادرة من نوادر الإسلام في القرون الأخيرة؛ حفظا، واطّلاعا، ومشاركة، وكثرة تأليف، وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه؛ رجالا، وغريبا، ومتنا، وسندا، واستنباطا للأحكام منه. وأخذ العلم عن نحو ستمائة شيخ، وادّعى الاجتهاد، وكان يرى النبي صلّى الله عليه وسلم يقظة ويسأله عن أحاديث. وله من المصنفات نحو ستمائة. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في «حواشي الموطأ» : تصانيفه كلّها مشتملة على فوائد لطيفة، وفرائد شريفة، تشهد كلّها بتبحّره، وسعة نظره، ودقّة فكره، وأنه حقيق بأن يعدّ من مجدّدي الملّة المحمدية في بدء المائة العاشرة وآخر التاسعة كما ادّعاه بنفسه، وشهد بكونه حقيقا به من جاء بعده ك «علي القاري» المكي، في «المرآة» شرح «المشكاة» . انتهى. قال العارف الشعراني: ولو لم يكن للسيوطي من الكرامات؛ إلّا إقبال الناس على تآليفه في سائر الأقطار بالكتابة والمطالعة؛ لكان في ذلك كفاية. انتهى. وكانت وفاته في سنة: - 911- إحدى عشرة وتسعمائة هجرية. رحمه الله تعالى. (وشرحه) المسمّى «السّراج المنير شرح الجامع الصغير» (للإمام) العالم العلّامة، الفقيه الفهّامة الشيخ: علي بن أحمد بن محمد نور الدين بن إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 العزيزيّ. 9- «المواهب» للإمام القسطلّانيّ. المصري (العزيزيّ) - نسبة ل «العزيزية» من الشرقية بمصر- البولاقي الشافعي المتوفى سنة: - 1070- سبعين وألف هجرية ببولاق. رحمه الله تعالى. ( «المواهب) اللدنية بالمنح المحمدية» كتاب جليل المقدار، عظيم الوقع، كثير النفع، ليس له نظير في بابه، وهو من الكتب المشهورة المخدومة. أشرقت من سطوره أنوار الأبّهة والجلالة، وقطرت من أديمه ألفاظ النبوة والرسالة، أحسن فيه ترتيبا وصنعا، وأحكمه ترصيعا ووضعا، وكساه الله فيه رداء القبول، ففاق على كثير مما سواه عند ذوي العقول. فالله يتولّى جزاءه ويرحمه رحمة واسعة. آمين. ومما ينسب لبنت الباعوني «زوجة القسطلّاني» هذان البيتان مدحا في كتابه «المواهب» : كتاب «المواهب» ما مثله ... كتاب جليل وكم قد جمع إذا قال غمر: له مشبه ... يقول الورى: منك لا يستمع (للإمام) العلّامة الحجّة الرّحلة المحدّث المسند الحافظ: شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين أحمد بن الجمال محمد بن الصفي محمد بن المجد حسين بن التاج علي الخطيب (القسطلّانيّ) بضم القاف وسكون السين وضمّ الطاء المهملة وتشديد اللّام- المصري الشافعي. ولد سنة: - 851- إحدى وخمسين وثمانمائة بمصر، وأخذ عن الشهاب العبّادي، والبرهان العجلوني، والشيخ خالد الأزهري النّحوي، والحافظ السخاوي وغيرهم، وحجّ مرارا، وجاور بمكّة مرّتين، وكان متعفّفا جيّد القراءة للقرآن والحديث والخطابة، شجيّ الصوت، مشاركا في الفضائل، متواضعا، متودّدا، لطيف العشرة، اشتهر بالصلاح والتعفّف. وصنّف التصانيف التي سارت بها الركبان في حياته، وأشهرها: شرحه على «البخاري» الذي هو أجمع الشروح وأحسنها من حيث الجمع وسهولة الأخذ والتكرار والإفادة. وهو للمدرّس أحسن وأقرب من «فتح الباري» وغيره، وما ألطف قول بعضهم في مدحه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 10- «كشف الغمّة» للإمام الشّعرانيّ. تطالبني بجمع الكتب نفسي ... وفيها لذّتا بصري وسمعي فقلت لها: الدّفاتر ليس تحصى ... وما رمتيه يقصر عنه وسعي نعم شرح الإمام القسطلاني ... له في النّفس وقع أيّ وقع إذا ظفرت به كفّاي يوما ... ظفرت بمفرد يأتي بجمع وله «منهاج الابتهاج شرح مسلم بن الحجاج» في ثمانية أجزاء؛ لم يكمل. ومات ليلة الجمعة سابع المحرم سنة: - 923- ثلاث وعشرين وتسعمائة هجرية، ودفن بقرب الأزهر عند الإمام العيني «شارح البخاري» . رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار. ( «كشف الغمّة) عن جميع الأمّة» في الحديث. ذكر مؤلفه أنه جمعه من كتب الحفّاظ المعتمدة؛ كالستة، ومعاجم الطبراني، ومجاميع السيوطي، مرتبّا على أبواب كتب الفقه، ولم يعز فيه الأحاديث إلى مخرّجيها، وأنه لا يذكر فيه إلّا محل الاستدلال فيقول: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل كذا» أو «يسكت على كذا» أو «يقول كذا» أو «يقرّ أصحابه على كذا» . ولا يذكر القصة إلّا إذا اشتملت على موعظة؛ أو اعتبار، أو أدب. وقد خرّج أحاديثه مؤرّخ مكّة المكرّمة الشهاب أحمد الحضراوي الشافعي المتوفّى سنة: - 1327- سبع وعشرين وثلاثمائة وألف هجرية في كتاب سمّاه «سراج الأئمة» في تخريج أحاديث «كشف الغمة عن جميع الأمة» » (للإمام) الفقيه المحدّث الصوفي العارف المسلّك، العلّامة المتبحّر في علوم الشريعة والحقيقة، القطب الرباني سيدي أبي المواهب عبد الوهّاب بن أحمد بن علي (الشّعرانيّ) نسبة إلى «ساقية أبي شعرة» ؛ من قرى «المنوفية» ، ويقال: «الشعراوي» ، الشافعي الأنصاري، وذكر في بعض كتبه أنّه من ذرية محمد بن الحنفية أفضل أولاد سيدنا عليّ بعد السبطين رضي الله تعالى عنهم. ولد سنة: - 898- ثمان وتسعين وثمانمائة في «قلقشندة» بمصر، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحبب إليه الحديث فلازم الاشتغال به، ومع ذلك لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 11- «طبقات الأولياء» . 12- و «كنوز الحقائق» للإمام المناويّ. يكن عنده جمود المحدّثين، وأخذ عن مائتي شيخ، وأخذ الطريق عن نحو مائة شيخ، اطّلع على سائر أدلّة المذاهب غالبا؛ المستعملة والمندرسة، وعلم استنباط كلّ مذهب منها لكثرة محفوظاته. وتآليفه تزيد على ثلاث مائة كتاب في علوم الشريعة وآلاتها، وكان جيّد النظر، صوفي الخبر، له دراية بأقوال السلف ومذاهب الخلف، وكان مواظبا على السنّة، مجانبا للبدعة، مبالغا في الورع؛ مؤثرا لذي الفاقة على نفسه. وتوفي في سنة: - 973- ثلاث وسبعين وتسعمائة هجرية. رحمة الله تعالى عليه. «طبقات الأولياء» الكبرى المسمى: «الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية» ابتدأها بمقدّمة في كرامات الأولياء، ثم أتبع ذلك بثمانية أبواب في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم بالخلفاء الراشدين، يلي ذلك تراجم الصوفية: في عشر طبقات لكل مائة سنة طبقة؛ مرتبا على حروف المعجم. ( «وكنوز الحقائق) في حديث خير الخلائق» ؛ فيه عشرة آلاف حديث في عشرة كراريس، في كلّ كراسة ألف حديث، وفي كل ورقة مائة حديث، مرتّبا على حروف المعجم، لكن من غير ذكر للصحابي الراوي للحديث، وهو مشحون بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفي رموزه بعض تحريف يغلب على الظنّ أنه من النّسّاخ. وهذان الكتابان كلاهما (للإمام) الكبير الحجة الثّبت، القدوة العلّامة الحافظ: عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الملقب «زين الدين الحدادي» (المناويّ) - بضم الميم، نسبة إلى «منية بن حصيب» - القاهري الشافعي، صاحب القلم السيّال والتصانيف السائرة، أجلّ أهل عصره من غير ارتياب. وكان إماما فاضلا، زاهدا عابدا، قانتا لله خاشعا له، كثير النفع، وكان متقربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 13- «حاشية الشّمائل» لشيخ مشايخي، أستاذ الأستاذين،.. يحسن العمل، مثابرا على التسبيح والأذكار، صابرا صادقا. وكان يقتصر يومه وليلته على أكلة واحدة من الطعام. وقد جمع من العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها وتباين أقسامها ما لم يجتمع في أحد ممن عاصره. ومن مشايخه: الشمس الرملي، والشعراني، والنجم الغيطي. وحضر دروس الأستاذ سيّدي محمد البكري في التفسير والتصوف. وكانت ولادته في سنة: - 952- اثنتين وخمسين وتسعمائة هجرية، ووفاته في صفر سنة: - 1031- إحدى وثلاثين وألف هجرية يوم الخميس، وصلّي عليه يوم الجمعة بالجامع الأزهر. رحمه الله تعالى. آمين. (حاشية الشّمائل) الترمذية المسماة «المواهب اللّدنّية على الشّمائل المحمدية» (لشيخ مشايخي) الذين منهم الشيخ إبراهيم السّقّا، والشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد شمس الدين الأنبابي، والشيخ عبد الهادي نجا الأبياري رحمهم الله تعالى. آمين. (أستاذ الأستاذين) ، قال في «شرح القاموس» : لفظ «الأستاذ» من الألفاظ الدائرة المشهورة التي ينبغي التعرّض لها وإيضاحها؛ وإن كان أعجميا. وكون الهمزة أصلا هو الذي يقتضيه صنيع الشهاب الفيّومي، لأنه ذكره في الهمزة، وقال: الأستاذ كلمة أعجمية، ومعناها: الماهر بالشيء العظيم، وفي «شفاء العليل» : ولم يوجد في كلام جاهلي. والعامة تقوله بمعنى الخصيّ، لأنه يؤدّب الصغار غالبا. وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتاب له سمّاه «المطرب في أشعار أهل المغرب» : الأستاذ كلمة ليست بعربية، ولا توجد في الشعر الجاهلي، واصطلحت العامة إذا عظّموا المحبوب أن يخاطبوه ب «الأستاذ» . وإنما أخذوا ذلك من الماهر بصنعته!! لأنه ربما كان تحت يده غلمان يؤدّبهم، فكأنه أستاذ في حسن الأدب؛ حدثنا بهذا جماعة ببغداد، منهم أبو الفرج ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 خاتمة العلماء العاملين: الشيخ إبراهيم الباجوريّ ... الجوزي؛ قال: سمعته من شيخنا اللّغوي أبي منصور الجواليقي في كتابه «المعرّب» من تأليفه. قاله شيخنا رحمه الله تعالى. انتهى. (خاتمة) - أي: آخر- (العلماء العاملين) بعلمهم؛ بملازمة الاستقامة والأخذ بالعزائم حسب الاستطاعة، أي: أنّه محافظ على العمل بالعلم زيادة على غيره، فلا ينافي أن غيره من العلماء يعملون بعلمهم، ولا يخلو عالم من العمل بالعلم، ولو لم يكن من ذلك إلّا معرفته بالمعصية: أنّها معصية إذا وقع فيها، وهذا أقلّ فائدة العلم. بخلاف الجاهل، فإنه قد يفعل المعصية وهو يعتقدها طاعة يحتسب عليها الثواب؛ كالذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. قال العارف الشعراني في «البحر المورود» : كان سيّدي عليّ الخوّاص يقول: قم لأهل العلم مطلقا، فإنّه لا يوجد لنا عالم إلّا وهو عامل بعلمه، وذلك لأنّه إذا زلّ يعرف أنّه عصى الله تعالى؛ فيستغفر الله تعالى ويندم ويتوب، فقد عمل بعلمه، ولو أنه كان جاهلا ما اهتدى للتوبة، فلولا علمه ما كان تاب، فقد نفعه علمه. انتهى. (الشّيخ) العلّامة: المحقّق شيخ الجامع الأزهر برهان الدين (إبراهيم) بن محمد بن أحمد (الباجوريّ) - نسبة إلى «باجور» ؛ قرية من قرى «المنوفية» بمصر-. ولد سنة: - 1198- ثمان وتسعين ومائة وألف هجرية بمصر، ونشأبها. وتعلّم في الأزهر فأخذ عن مشايخ كثيرين، منهم: العلّامة المحقّق الشيخ حسن القويسني، والمحقّق الشيخ محمد الفضالي، وكان من العلماء الصالحين والأئمة المحققين في سائر الفنون، وألّف المؤلفات النافعة بالعبارة القريبة السهلة مع جودة الإيضاح. وتقلّد مشيخة الأزهر سنة: - 1263- ثلاث وستين ومائتين وألف، وتخرّج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فهذه أصوله، لم يخرج عنها شيء منه. اللهمّ إلّا أن يكون ذلك في تفسير الغريب، فإنّي راجعت فيما لم أجده فيها كتب اللّغة، وذلك نزر يسير. على يده جمع كثير من العلماء، منهم خليفته شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الأنبابي، ومنهم الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، والشيخ إبراهيم السقّا، والشيخ عبد الرحمن الشربيني. واستمر في مشيخة الأزهر إلى أن توفي بالقاهرة سنة: - 1277- سبع وسبعين بتقديم المهملة على الموحدة- ومائتين وألف هجرية. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار. (رضي الله تعالى عنهم أجمعين) ، ونفعنا بعلومهم، وأعاد علينا من فهومهم. آمين. (فهذه) الكتب (أصوله) التي يستند إليها، والأصول: جمع أصل؛ وهو أسفل الشيء. يقال: قعد في أصل الجبل وأصل الحائط، وقلع أصل الشجرة. ثم كثر حتّى قيل: أصل كل شيء ما يستند وجود ذلك الشيء إليه. فالأب أصل للولد، والنهر أصل للجدول؛ قاله الفيومي. (لم يخرج عنها شيء منه) يعني: أنّ ما فيه هو موجود في هذه الكتب (اللهمّ؛ إلّا أن يكون ذلك) الخارج (في تفسير الغريب) من الألفاظ بحيث لم يوجد في هذه الكتب، وذلك نادر؛ (فإنّي راجعت فيما) أي: غريب الألفاظ الذي (لم أجده) ؛ أي: لم أجد شرح معناه (فيها) أي: هذه الكتب الأصول راجعت (كتب اللّغة) ، مفعول «راجعت» ؛ أي: بحثت عن معناه في كتب اللغة ك «النهاية» لابن الأثير، و «لسان العرب» لابن منظور، (وذلك) - أي: الذي لم أجده في الأصول (نزر) - أي: قليل- (يسير) جدّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقد ذكرت في بعض «الشّمائل» اسم الصّحابيّ راوي الحديث والإمام المخرّج له، وفي بعضها اسم الصّحابيّ فقط، ولم أذكر في بعضها غير متن الحديث تابعا في جميع ذلك الأصول المذكورة. تنبيه: تستعمل «اللهمّ» على ثلاثة أوجه؛ أحدها: النداء المحض، وهو المعروف في كتب النحو. ثانيها: أن يذكرها المجيب تمكينا للجواب في ذهن السامع؛ نحو «اللهم نعم» ، في جواب: أزيد قائم؟ ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ نعم» . في جواب ضمام لمّا سأله بقوله: أسألك بربّك وربّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كافة؟! آلله أمرك أن تصلي هذه الصلوات؟! ... إلى آخر أسئلته. وفي كلّها يجيبه صلّى الله عليه وسلم بقوله: «اللهمّ نعم» . الثالث: أن تستعمل دليلا على النّدرة وقلّة الوقوع؛ أو بعده، نحو: «أنا أزورك اللهم؛ إذا لم تدعني» . إذ الزيارة مع عدم الطلب قليلة. ومنه قول المؤلفين «اللهم؛ أن يقال كذا» . قيل: وهي على هذين موقوفة؛ لا معربة، ولا مبنية؛ لخروجها عن النداء. فهي غير مركّبة، لكن استظهر الصبّان بقاءها على النداء مع دلالتها على التمكين، أو الندرة، فتكون معربة كالأوّل. ولو سلّم! فيقال إنّه منادى صورة؛ فله حكمه. والله أعلم؛ قاله «الخضري على ابن عقيل» . (وقد ذكرت في بعض) هذا الكتاب ( «الشّمائل» اسم الصّحابيّ راوي الحديث) كابن عباس وأنس وأبي هريرة (و) ذكرت (الإمام المخرّج) - بضم الميم- (له) . أي: للحديث؛ كالبخاريّ ومسلم، (و) ذكرت (في بعضها اسم الصّحابيّ فقط) بدون ذكر اسم الإمام المخرج للحديث، (ولم أذكر في بعضها غير متن الحديث) مقتصرا عليه بدون ذكر الصحابي؛ ولا غيره (تابعا في جميع ذلك الأصول) التي هي الكتب (المذكورة) آنفا. والمصنّف لم يتبع الأصول المذكورة فيما ذكر، فإنّه حذف كثيرا من أسماء الرواة المخرجين الذين وعد بهم؛ إيثارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 [ فهرست مطالب الكتاب ] وقد رتّبته على مقدّمة، ... للاختصار ولا سيما فيما أوّله: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متّصفا بكذا؛ أو يفعل كذا. فإنه جعل ذلك أوّل الكلام وحذف اسم راوي الحديث، ومخرّجه؛ اعتمادا على ما ذكره في الخطبة من الكتب التي نقل الأحاديث منها، فيلزم حذف قوله «تابعا في جميع ذلك الأصول المذكورة» ؛ نبّه عليه المصنف رحمه الله تعالى نفسه في طرّة بعض مؤلفاته. (وقد رتّبته) أي: الكتاب؛ أي المقصود منه بالذات، فلا ينافي أنّ الخطبة مقصودة. والترتيب- لغة-: جعل كلّ شيء في مرتبته، وعرفا-: جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى بعضها بالتقدّم والتأخر. والمراد ألّفته مرّتبا حال كونه مشتملا (على مقدّمة) : ما يذكر قبل الشروع في المقاصد، وهي بكسر الدال وفتحها، فإن كسرتها؛- وعليه اقتصر السعد في «شرحي التلخيص» - فإمّا من «قدّم» اللازم مثقّلا- من باب التفعيل- بمعنى «تقدّم» ، ومنه قوله تعالى (لا تُقَدِّمُوا) [الحجرات/ 1] !!، أي: لا تتقدموا. وإمّا من «قدّم» المتعدي مثقّلا أيضا، والمفعول هو نفسها، لأنها اشتملت على أمور تقتضي تقديمها، أو المفعول هو قارئها وعارفها. وإن فتحت الدّال؛ فهي اسم مفعول من «قدّم» المتعدي مثقّلا أيضا. لكن الكسر أحسن؛ لإشعاره بأن التقديم لها ذاتيّ؛ لا جعلي، ولأجل هذا- والله أعلم- اقتصر عليه السعد. وصرّح الجلال المحلي في شرح «جمع الجوامع» بأن فتح الدال فيها قليل. واعلم أنّ المقدمة؛ إمّا مقدمة علم، وإما مقدّمة كتاب. فمقدمة الكتاب تطلق على طائفة من كلامه؛ قدّمت أمام المقصود لارتباط بها وانتفاع بها فيه. ومقدمة العلم تطلق على أمور يتوقّف الشروع في العلم بالبصيرة على معرفتها، كحدّه، وموضوعه، وغايته؛ كما أفاده السعد في «المطوّل» و «المختصر» . فمقدمة الكتاب: اسم للألفاظ المخصوصة الدالّة على المعاني المخصوصة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وثمانية أبواب، وخاتمة. المقدّمة تشتمل على تنبيهين: التّنبيه ... ومقدّمة العلم: اسم للمعاني المخصوصة. فبين المقدمتين التباين، أي: باعتبار الحقيقة والتعقّل، وأما باعتبار المصدوق الخارجي، فبينهما العموم والخصوص بإطلاق، فمقدّمة العلم أعمّ، فكل مقدّمة علم فهي مقدمة كتاب، ولا عكس. فمقدّمة كتابنا هذا هي مقدّمة علم، لأنه ينتفع بها في هذا الكتاب وغيره من كلّ ما ألّف في فنه، وهي مقدمة كتاب أيضا، لأن هذا الكتاب مؤلّف في ذلك الفن الذي جعلت مقدمة له. ومقدمة الإمام النووي في «المنهاج» الذي أشار لها بقوله: فحيث أقول «في الأظهر» أو «المشهور» فمن القولين أو الأقوال.. الخ ما قال، هي مقدمة كتاب فقط، لأنه إنما ينتفع بها في ذلك الكتاب الذي هو «المنهاج» ، ولا ينتفع بها في غيره من الكتب المؤلفة في فن الفقه، إذ لم يلتزم فيها اصطلاح «المنهاج» ، وهناك أبحاث تتعلّق بنسبة ما بين المقدمتين فراجعها إن شئت. (وثمانية أبواب) عدد أبواب الجنة، وحريّ به أن يقال فيه: هذا الكتاب جنّة ... أبوابها ثمانيه أما تراها وهي لا ... تسمع فيها لاغيه!! (وخاتمة) ، الخاتمة- في الأصل-: وصف؛ أي مسائل خاتمة. لكن صارت علما بالشخص على المسائل المذكورة فيها. (المقدّمة) المذكورة- ف «أل» للعهد الذكري- (تشمل) أي: تحتوي (على تنبيهين) اثنين. (التّنبيه) هو- لغة-: الإيقاظ. وقال الجرجاني: هو- لغة-: الدلالة عما غفل عنه المخاطب. وفي الاصطلاح-: ما يفهم من مجمل بأدنى تأمّل إعلاما بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل. والتّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم. الباب الأوّل: في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسمائه الشّريفة، وفيه فصلان: الفصل الأوّل: في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّاني: في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم. الباب الثّاني: في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبها من أوصافه الشّريفة، وفيه عشرة فصول: في ضمير المتكلّم للمخاطب. وقيل: التنبيه قاعدة تعرف بها الأبحاث الآتية مجملة. انتهى. (الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل) لغة واستعمالا. (والتّنبيه الثّاني: في) ذكر (الفوائد المقصودة) بالذّات (من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلم) ، ليكون ذلك من أكبر الدواعي إلى صرف العناية إليها، والاهتمام بها. (الباب الأوّل: في) ذكر (نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسمائه الشّريفة) المنبئة عن كمال أخلاقه المنيفة، (وفيه) أي: هذا الباب (فصلان: الفصل الأوّل: في) ذكر (نسبه الشّريف) الذي طهّره الله من سفاح الجاهلية، والذي هو أشرف الأنساب، فهو (صلّى الله عليه وسلم) سلالة آباء كرام. (الفصل الثّاني: في) ذكر (أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلم) مع ذكر من اعتنى بجمعها وألّف فيها من العلماء. (الباب الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: كون أجزاء بدنه تامّة معتدلة المقادير، (وما يناسبها من أوصافه الشّريفة) القائمة به، (وفيه عشرة فصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 - الفصل الأوّل: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها. الفصل الثّاني: في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله. الفصل الثّالث: في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم وشيبه وخضابه، وما يتعلّق بذلك. الفصل الرّابع: في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة. الفصل الخامس: في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه. الفصل السّادس: في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الأوّل: في) ذكر (جمال صورته) ؛ أي: حسنها الظاهر في جسده بتناسب أعضائه، وصفاء لونه، واعتدال قدّه (صلّى الله عليه وسلم وما شاكلها) . وقيل: المراد حسن وجهه، وحسن الصورة أمر محمود يدلّ على حسن السريرة، ويمدح به كمّل الرجال. (الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة بصره صلّى الله عليه وسلم) ، لكونه يرى من خلفه كما يرى من أمامه؛ ونحو ذلك. (و) بيان صفة (اكتحاله) ؛ أي: استعماله الكحل. وما يتعلّق بذلك. (الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة شعره صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: مقداره؛ طولا، وكثرة، وغير ذلك. (و) في بيان ما ورد في (شيبه وخضابه) أي: تلوين الشعر، (وما يتعلّق بذلك) من الترجيل والادّهان. (الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة عرقه) - بفتح العين والراء- أي: رشح بدنه (صلّى الله عليه وسلم) لونا وريحا وكثرة. (و) صفة (رائحته الطّبيعيّة) من غير أن يمس طيبا. (الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة طيبه صلّى الله عليه وسلم وتطيّبه) ؛ أي: استعماله الطّيب وما يلحق بذلك. (الفصل السّادس: في) بيان ما ورد في (صفة صوته صلّى الله عليه وسلم) من كونه حسنا يبلغ حيث لا يبلغ صوت غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 - الفصل السابع: في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره. الفصل الثّامن: في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه. الفصل التّاسع: في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته. الفصل العاشر: في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم. الباب الثّالث: في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه، وفيه ستّة فصول: (الفصل السّابع: في) بيان ما ورد في (صفة غضبه صلّى الله عليه وسلم وسروره) ، من كونه يرى رضاه وغضبه في وجهه؛ فصفاء بشرته، وكونه إذا غضب احمرّت وجنتاه ... ونحو ذلك. (الفصل الثّامن: في) بيان ما ورد في (صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلم) ؛ لكونه جلّ ضحكه التبسّم، (وبكائه) ؛ من كونه ليس بشهيق ورفع صوت، بل بدمع العين، (وعطاسه) - بضم العين المهملة: على وزن غراب-. (الفصل التّاسع: في) بيان ما ورد في (صفة كلامه صلّى الله عليه وسلم) أي: تكلّمه، أو ما يتكلّم به، ويصحّ إرادة كلّ منهما، (و) صفة (سكوته) ككونه كثير السكوت لا يتكلّم في غير حاجة ونحو ذلك. (الفصل العاشر: في) بيان ما ورد في (صفة قوّته) واحدة القوى، مثل غرفة وغرف، وذلك ككونه (صلّى الله عليه وسلم) تامّ القوة في الجماع وغيره، شديد البطش عند الاحتياج إلى ذلك. (الباب الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم) من قميص وإزار وعمامة وغيرها، (و) صفة (فراشه) - بكسر الفاء- وخاتمه ونعله، (و) في صفة (سلاحه) - بكسر السين- كالحربة والرمح والسيف، (وفيه ستّة فصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 - الفصل الأوّل: في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم؛ من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها. الفصل الثّاني: في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبه. الفصل الثّالث: في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الرّابع: في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه. (الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة لباسه صلّى الله عليه وسلم) - بوزن كتاب-: ما يلبس. (من قميص) : اسم لما يلبس من المخيط الذي له كمّان وجيب ويسلك به في العنق، (وإزار) : ما يستر أسفل البدن، (ورداء) : ما يستر أعلاه. (وقلنسوة) - بفتح القاف واللام؛ وسكون النون، وضمّ المهملة، وفتح الواو-: غشاء مبطّن يستر الرأس، ويقال لها في عرفنا: «طاقيّة» ؛ أو «كوفيّة» ، (وعمامة) : كلّ ما يلف على الرأس (ونحوها) ، أي: المذكورات: كجبّة، وبرد. (الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة فراشه صلّى الله عليه وسلم) - بكسر الفاء- بمعنى مفروش؛ ك «كتاب» بمعنى مكتوب، وهو: اسم لما يفرش كاللباس لما يلبس. (و) ذكر (ما يناسبه) ؛ أي: الفراش كالوسادة والدّثار. (الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة خاتمه) - بفتح التاء وكسرها- وفيه صفة تختّمه (صلّى الله عليه وسلم) ، أي: لبسه الخاتم. والمراد بالخاتم: الطابع الذي كان يختم به الكتب، لا خاتم النبوة، فإنّه البضعة الناشرة بين كتفيه، وليس مرادا هنا. (الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة نعله صلّى الله عليه وسلم) وكيفية لبسه إياها، والنعل: كلّ ما وقيت به القدم عن الأرض، وهو مؤنث، وربّما ذكّر باعتبار الملبوس، لأنّ تأنيثه غير حقيقي. والنعل لا يشمل الخفّ عرفا؛ فلذلك أفرده بترجمة؛ فقال: (و) في بيان ما ورد في صفة (خفّه) صلّى الله عليه وسلم، والخفّ معروف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 - الفصل الخامس: في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل السّادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه. الباب الرّابع: في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه ونومه، وفيه ستّة فصول: الفصل الأوّل: في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه. جمعه: خفاف؛ ك «رمح ورماح» . (الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلم) والسلاح: آلة الحرب، فكلّ عدّة للحرب فهو سلاح، ويطلق السلاح على السيف وحده. (الفصل السّادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلم أن يسمّي سلاحه) ، كدرعه «ذات الفضول» و «ذات الوشاح» . (و) أن يسمّي (دوابّه) ؛ جمع دابّة، وهي لغة-: كلّ ما يدبّ على الأرض، خصّها العرف العامّ بذوات الأربع، (و) أن يسمّي (متاعه) المتاع- في اللغة-: كلّ ما ينتفع به؛ كالطعام والبز، وأثاث البيت. وأصل المتاع: ما يتبلغ به من الزاد، وهو اسم من «متّعته» بالتثقيل: إذا أعطيته ذلك، والجمع أمتعة. (الباب الرّابع) من الكتاب (في) بيان ما ورد في (صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وإدامه، والأكل- بفتح الهمزة-: إدخال الطعام الجامد من الفم إلى البطن، سواء كان بقصد التغذّي، أو غيره كالتفكّه. (و) بيان ما ورد في صفة (شربه) أي: كيفية شربه، وفيه ذكر شرابه. (و) بيان ما ورد في صفة (نومه) صلّى الله عليه وسلم، والنوم: حالة طبيعية تتعطّل معها القوى تسير في البخار إلى الدماغ. (وفيه ستّة فصول) ستأتي. (الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة عيشه صلّى الله عليه وسلم) أي: كيفية معيشته حال حياته إلى وقت مماته. (و) في بيان ما ورد في صفة (خبزه) - بضم الخاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 - الفصل الثّاني: في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه. الفصل الثّالث: فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطّعام وبعده. الفصل الرّابع: في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الخامس: في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه. الفصل السّادس: في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم. المعجمة وإسكان الباء-: الشيء المخبوز، أي اسم ما يؤكل من نحو برّ. (الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة أكله صلّى الله عليه وسلم) من الأخباز، (و) في بيان ما ورد في (إدامه) صلّى الله عليه وسلم، والإدام- بكسر الهمزة-: ما يساغ به الخبز ويصلح به الطعام، فيشمل الجامد كاللحم والجبن بحسب اللغة؛ لا العرف. (الفصل الثّالث: فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: في بيان الأخبار الواردة في الذكر الذي كان يقوله صلّى الله عليه وسلم (قبل الطّعام) ؛ وهو التسمية، (وبعده) ؛ أي: بعد الفراغ من الطعام، وهو الحمدلة، ومثل الطعام الشراب. (الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلم) والفاكهة: ما يتفكّه أي: يتنعّم ويتلذّذ- بأكله؛ رطبا كان أو يابسا، كتين وعنب ورطب وزبيب ورمّان وبطّيخ. (الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة شرابه صلّى الله عليه وسلم) ، والشراب: ما يشرب من المائعات. وفي هذا الفصل بيان الأحاديث التي فيها كيفية شربه صلّى الله عليه وسلم. قال في «المصباح» : الشّرب مخصوص بالمصّ حقيقة، ويطلق على غيره مجازا. (و) في بيان ما ورد في (قدحه) صلّى الله عليه وسلم. والقدح- بفتحتين-: ما يشرب فيه، وهو إناء لا صغير ولا كبير، وجمعه: أقداح؛ ك «سبب وأسباب» . (الفصل السّادس: في) بيان ما ورد في (صفة نومه صلّى الله عليه وسلم) ؛ من كونه على اليمين، أو غيره، وقدره ووقته، وما يرقد عليه، وما كان يفعله قبل النوم وبعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الباب الخامس: في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته وصدقه، وحيائه ومزاحه، وتواضعه وجلوسه، وكرمه وشجاعته، ... (الباب الخامس) من الكتاب (في) بيان ما ورد في (صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - بضم الخاء واللام-: الطبع والسجيّة، وهو اسم للأوصاف الباطنة. (وحلمه) - بكسر الحاء المهملة- قال في «الشفاء» : هو حالة توقّر وثبات عند الأسباب المحركات. (و) صفة (عشرته) - بكسر العين المهملة-: اسم من المعاشرة والتعاشر؛ وهي المخالطة (مع نسائه) وغيرهم، (و) في صفة (أمانته) في كلّ شيء يحفظه. (و) صفة (صدقه) وهو: مطابقة خبره للواقع، (و) صفة (حيائه) . قال القاضي عياض في «الشفاء» : الحياء رقّة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقّع كراهته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله. (و) صفة (مزاحه) - بكسر أوله- مصدر مازحه وهو: الانبساط مع الغير من غير إيذاء له فيتولّد منه الضحك. (و) صفة (تواضعه) - بضم الضاد المعجمة-: هضم النفس. قال ملا علي قاري: وهو من الملكات المورثة للمحبّة الربانية والمودّة الإنسانية. انتهى. قال بعضهم: ومعنى التواضع عند المحققين: أن لا يرى العبد لنفسه قدرا ولا قيمة ولا مزية، ويرى الحال التي هو فيها أعظم من أن يستحقّها. (و) صفة (جلوسه) ؛ أي: من كونه على شبه الحبوة، وإلى القبلة، وصفة جلوسه مع أصحابه، ونحو ذلك. (و) صفة (كرمه) - بفتح أوّليه- قال في «الشفاء» : هو الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه. انتهى. أي: فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقلّ نفعه. (و) صفة (شجاعته) - مثلث الشين-؛ مصدر شجع- بالضمّ- شجاعة، وهي- كما قال الشامي-: انقياد النفس مع قوة غضبيّة، وملكة يصدر عنها انقيادها في إقدامها مقدرته على ما ينبغي في زمن ينبغي وحال ينبغي. انتهى. والشّجاع- بالضم-: الشديد القلب عند البأس، المستهين بالحروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وفيه ستّة فصول: الفصل الأوّل: في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه. الفصل الثّاني: في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ. (وفيه) - أي: هذا الباب- (ستّة فصول) ستأتي: (الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة خلقه صلّى الله عليه وسلم) - بضمتين- حقيقته أنّه صورة الإنسان الباطنة؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، المختصّة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع؛ قاله في «النهاية» . (و) صفة (حلمه) - بكسر الحاء المهملة- قال الخفاجي: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب، وعدم إظهاره. انتهى. واعلم أنّ الحلم من أصحّ السّمات على محمود الصفات، وهو يدرك بالتخلّق وحمل النفس عليه، فهو مكتسب؛ كما يدلّ عليه الحديث: «إنّما العلم بالتّعلّم، وإنّما الحلم بالتّحلّم» . وقال علي رضي الله عنه: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد. وللحلم عشرة أسباب: رحمة الجهّال، والقدرة على المعفو عنه، والترفّع شرفا وعلوّ همّة، والاستهانة أنفة وعجبا، والحياء، والفضل، والاستكفاف أي: جعل السكوت والصبر سببا لكفّ الجاهل، وخوف العقوبة؛ إما لضعف نفس، أو لرأي وحزم، ورعاية نعمة أو حرمة، وتوقع الفرصة دهاء ومكرا. فإن خلا الحلم عن هذه الأسباب كلّها كان ذلّا. وكلّ واحد منها يحمل على عدم الانتقام في الحال؛ أو دواما. (الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة عشرته صلّى الله عليه وسلم مع نسائه) : أزواجه وغيرهن (رضي الله تعالى عنهنّ) ، وقد كان حسن العشرة معهنّ رضوان الله عليهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 - الفصل الثّالث: في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه. الفصل الرّابع: في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلّم ومزاحه. الفصل الخامس: في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه. الفصل السّادس: في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم ... (الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة أمانته صلّى الله عليه وسلم) في كلّ شيء، وكونه موثوقا به في أموال الناس وأحوالهم، (و) مما ورد في (صدقه) صلّى الله عليه وسلم؛ وهو مطابقة خبره للواقع. (الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة حيائه صلّى الله عليه وسلم) ، والحياء هنا بالمدّ. وأمّا بالقصر! فهو بمعنى: المطر. والممدود معناه- في الشرع-: خلق يبعث- أي: يحمل- من قام به على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ. (و) صفة (مزاحه) - بكسر أوّله مصدر مازحه؛ فهو بمعنى الممازحة- وهو الانبساط مع الغير من غير إيذاء له. وبه فارق الاستهزاء والسخرية. (الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلم) - بضمّ الضاد المعجمة-: أي تذلّله وخشوعه؛ قاله الباجوري. وقال ابن القيم: التواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلّ والرحمة للخلق حتى لا يرى له على أحد فضلا، ولا يرى له عند أحد حقّا، بل ويرى الحقّ لذلك الأحد. انتهى؛ نقله الزرقاني. (و) صفة (جلوسه) ككونه محتبيا، ومتوفّرا، ومستقبل القبلة، ونحو ذلك. (الفصل السّادس: في) بيان ما ورد في (صفة كرمه صلّى الله عليه وسلم) ، والكرم والجود والسخاء معانيها متقاربة، وبعضهم جعل بينها فرقا؛ فقال: الكرم- بفتحتين-: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره. والجود: إعطاء ما ينبغي شرعا لمن ينبغي أن يعطى؛ لاستحقاقه لأجل الصفة القائمة به؛ كالفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وشجاعته. الباب السّادس: في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته. وصومه، وقراءته، وفيه ثلاثة فصول. الفصل الأوّل: في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته. الفصل الثّاني: في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم. والسّخاء: سهولة الإنفاق، وتجنّب اكتساب ما لا يحمد من الصنائع المذمومة؛ كالحجامة، وأكل ما لا يحلّ، مأخوذ من الأرض السّخاويّة؛ وهي الرخوة اللينة، ولذا وصف الله تعالى ب «جواد» دون «سخي» . وقيل- في الثلاثة- غير ما ذكرنا. والله أعلم. (و) في بيان ما ورد في صفة (شجاعته) - مثلث الشين المعجمة-: مصدر شجع- بالضمّ- شجاعة؛ فهو شجيع وشجاع- بضم الشين- وبنو عقيل تفتحها؛ حملا على نقيضه، وهو جبان. وبعضهم كسرها للتخفيف؛ فرارا من توالي حركات متوالية من جنس واحد. (الباب السّادس) من الكتاب (في) بيان ما ورد في (صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) قال الباجوري: العبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلّل. وتعورفت في الشرع فيما جعل علامة على ذلك؛ من صلاة وصوم وجهاد وقراءة وغير ذلك. انتهى. والمراد بالعبادة هنا: ما هو أعمّ من العبادات الظاهرة والباطنة؛ كالتفكّر والخوف والخشية، فلذا عطف عليها قوله (و) صفة (صلاته) ، من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام، لأنها عمود الإسلام، وكذا قوله (و) صفة (صومه وقراءته) صلّى الله عليه وسلم، (وفيه) أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) يأتي بيانها: (الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة عبادته صلّى الله عليه وسلم) - بكسر العين وتخفيف الموحدة- (و) صفة (صلاته) النافلة كمّا وكيفا. (الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة صومه صلّى الله عليه وسلم) ، والصوم والصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 - الفصل الثّالث: في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم. الباب السّابع: في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعض أذكار وأدعية كان يقولها في أوقات مخصوصة، وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم، كلاهما مصدر ل «صام» ؛ فهما بمعنى واحد، وهو- لغة-: الإمساك؛ ولو عن الكلام، وشرعا-: الإمساك عن المفطّرات جميع النهار بنيّة، والمراد به هنا ما يشمل الفرض والنفل. (الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة قراءته صلّى الله عليه وسلم) للقرآن. والمراد بصفة القراءة: الترتيل، والمدّ، والوقف، والإسرار، والإعلان، والترجيع وغيرها. (الباب السّابع) من الكتاب (في) ذكر (أخبار) - بالتنوين- جمع خبر؛ وهو مرادف للحديث. وقيل: الحديث ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، والخبر: ما جاء عن غيره، ومن ثمّ قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها «الأخباري» ، ولمن يشتغل بالسنة النبوية «المحدّث» . (شتّى) - بتشديد المثناة الفوقية-: جمع شتيت؛ ك (مريض ومرضى) ، أي: متفرّقة مختلفة (من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) كالكلام على فضلاته وريقه، وكونه ولد مختونا، (و) في ذكر (بعض أذكار) بالتنوين جمع ذكر- وهو لغة: كلّ مذكور، وشرعا: قول سيق لثناء؛ أو دعاء. وقد يستعمل شرعا أيضا لكلّ قول يثاب قائله. (و) ذكر بعض (أدعية) جمع دعاء، وهو: الطلب على سبيل التضرّع. وقيل: رفع الحاجات إلى رافع الدرجات. (كان يقولها) ؛ أي: هذه الأذكار والأدعية (في أوقات) وحالات (مخصوصة) ؛ كعند رؤية الهلال، وسماع الرعد، وإذا عصفت الرياح، ونحو ذلك، (و) في ذكر (ثلاث مائة وثلاثة عشر حديثا) مرتّبة على حروف المعجم. وخصّ هذا العدد! لأنه عدّة أصحاب طالوت، وعدّة أهل بدر رضوان الله عليهم (من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ من إضافة الصفة للموصوف، أي: كلمه الجوامع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأوّل: في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّاني: في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة. الفصل الثّالث: في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم. الباب الثّامن: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه ووفاته، ورؤيته وهي ما قلّ لفظه وكثر معناه، أو التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة. (وفيه) ؛ أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) تأتي: (الفصل الأوّل: في) ذكر (أخبار شتّى) ؛ أي: مختلفة (من أحواله صلّى الله عليه وسلم) القولية والفعلية والخلقية. (الفصل الثّاني: في) ذكر (بعض أذكار وأدعية) - بالتنوين- جمع دعاء، وهو أفضل من تركه عند جمهور العلماء، ومن أعظم العبادات (كان يقولها) ؛ أي: هذه الأذكار والأدعية النبي (صلّى الله عليه وسلم في أوقات) وحالات (مخصوصة) ؛ كالصباح والمساء، وعند الكرب، وعند الخروج من بيته، ونحو ذلك. (الفصل الثّالث: في) ذكر (ثلاث مائة وثلاثة عشر حديثا) - تقريبا- (من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: كلمه الجوامع للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة بنظم لطيف لا يعثر الفكر في طلبه، ولا يلتوي الذهن في فهمه. (الباب الثّامن) من الكتاب؛ وهو آخر الأبواب (في) بيان الأحاديث الواردة في (طبّه) - بكسر الطاء- اسم مصدر؛ من طبّه طبّا- بالفتح- إذا داواه، والمراد بيان ما يتداوى به (صلّى الله عليه وسلم) من الأمراض البدنية، (و) بيان الأحاديث الواردة في (سنّة) أي: مقدار عمره الشريف، (و) في (وفاته) أي: تمام أجله، (و) في (رؤيته) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 في المنام، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأوّل: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّاني: في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته. الفصل الثّالث: في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام. الخاتمة: تشتمل على خمسين حديثا، أكثرها صحاح الرؤية- التي بالتاء- تشمل: رؤية البصر في اليقظة، ورؤية القلب، ولهذا احتاج المصنف إلى تقييدها بقوله (في المنام) ، أمّا التي بالألف! فهي خاصّة برؤية القلب في المنام، وقد تستعمل في رؤية البصر أيضا. (وفيه) أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) تأتي: (الفصل الأوّل: في) ذكر شيء من الأحاديث الواردة في (طبّه صلّى الله عليه وسلم) الذي تطبّب به، والذي وصفه لغيره؛ سواء كان طبّا روحانيا؛ أو جسمانيا. (الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (سنّه صلّى الله عليه وسلم) أي: مقدار عمره الشريف، والسّنّ بهذا المعنى مؤنّثة؛ لأنها بمعنى المدّة، (و) بيان ما ورد في (وفاته) ؛ أي: تمام أجله الشريف، فإن الوفاة- بفتح الواو- مصدر «وفى؛ يفي» بالتخفيف، أي: تمّ أجله. وهذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان. (الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (رؤيته صلّى الله عليه وسلم في المنام) ، مذهب أهل السنة أنّ حقيقة الرؤيا اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب النائم كما يخلقها في قلب اليقظان؛ يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة. (الخاتمة) المذكورة، ف «أل» فيها للعهد الذكري (تشتمل على خمسين) هكذا ذكر هنا في الخطبة أنّها خمسون، لكن زاد عليها المصنّف عشرين حديثا؛ فكان المجموع سبعين- (حديثا، أكثرها صحاح) - جمع صحيح-؛ وهو: الحديث الذي رواه العدل الضابط ضبطا تامّا عن مثله إلى منتهاه؛ من غير شذوذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم. وأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجعل هذا الكتاب من أفضل الحسنات الجاري نفعها في الحياة وبعد الممات، ... ولا علّة قادحة. (وحسان) جمع حسن؛ وهو: الحديث الذي رواه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علّة قادحة، فالحسن مساو للصحيح في التعريف والشروط. فكلّ ما يشترط في الحديث الصحيح يشترط في الحديث الحسن؛ إلّا الضّبط، فإنّه يشترط في الصحيح الضبط التامّ، ولا يشترط في الحسن إلّا مطلق الضبط. (من أدعيته) الواردة عنه (صلّى الله عليه وسلم) ؛ منقسمة إلى قسمين: استعاذات، ودعوات؛ معتبرا فيها أوّل الحديث، فما كان استعاذة جعل في القسم الأول، وما كان دعاء جعل في القسم الثاني. وافتتحها بالدّعوات القرآنية. (وأسأل الله العظيم) البالغ أقصى مراتب العظمة؛ وهو الذي لا يتصوّره عقل، ولا يحيط بكنهه بصر، فلا يتعاظمه مسؤول؛ وإن عظم، ومنه مطلوب المصنّف؛ وهو كون كتابه من الحسنات الجارية؛ أي: المستمر ثوابها في حياته وبعد موته.، (ربّ العرش الكريم) - بالجرّ- نعت للعرش، ويجوز نصبه؛ نعتا لله سبحانه. ومن وسعت ربوبيّته العرش الذي وسع المخلوقات بأسرهم جدير بأن يعطي المصنّف مطلوبه، وينيله مرغوبه، وهو قوله (أن يجعل هذا الكتاب) «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم» (من أفضل الحسنات؛ الجاري) ؛ أي: المستمر (نفعها) للناس وللمصنّف (في الحياة) الدّنيا، ومعنى النفع في حقّ المؤلف في الدنيا: أن يتذكّر بها، ومعنى النفع في حقّ الناس في الدنيا: هو أن يلهمهم الله الاشتغال بها تعلّما وتعليما، وأن يوفّقهم للعمل بما فيها. (و) معنى النفع للناس وللمصنّف (بعد الممات) : أن تكون سببا لحلولهم في دار النعيم. أخرج الطبراني في «الكبير» : «ما من قوم يجتمعون على كتاب الله تعالى يتعاطونه بينهم إلّا كانوا أضيافا لله تعالى؛ وإلّا حفّتهم الملائكة حتّى يقوموا، أو يخوضوا في حديث غيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بجاه نبيّه سيّد الرّسل الكرام، عليه وعليهم الصّلاة والسّلام. وما من عالم يخرج في طلب علم؛ مخافة أن يموت، أو ينسخه؛ مخافة أن يدرس! إلّا كان كالغادي الرّائح في سبيل الله، ومن بطؤ به عمله لم يسرع به نسبه» . وفي هذا الحديث وأمثاله؛ كحديث مسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية- أي: وهي الوقف- أو علم ينتفع به، أو ولد صالح «أي: مسلم» - يدعو له» . وكالأحاديث فيمن سنّ سنة حسنة؛ أو سيئة. بشرى عظيمة لمن نسخ علما نافعا؛ وهي أنّه يكون له أجره، وأجر من قرأه، أو نسخه، أو عمل به من بعده ما بقي خطّه والعمل به، وإنذار عظيم لمن نسخ علما فيه إثم؛ وهو أنّ عليه وزره، ووزر من قرأه، أو نسخه، أو عمل به بعده ما بقي خطّه والعمل به. انتهى؛ ذكره ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» في «الكبيرة الثامنة والتاسعة والأربعين» . والله أعلم. (بجاه نبيّه سيّد الرّسل الكرام) أي: أتوسّل بما له صلّى الله عليه وسلم من المنزلة والحظّ والرتبة عند الله سبحانه وتعالى، إذ هو صلّى الله عليه وسلم سيّد أهل الوجاهة، وأفضل السّادات الذين هم الرّسل الكرام (عليه وعليهم الصّلاة والسّلام) ، وآل كلّ وأصحابه الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيام. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 [المقدّمة: وهي تشتمل على تنبيهين] المقدّمة: وهي تشتمل على تنبيهين [التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل] التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل هي في الأصل: الأخلاق والطّبائع. قال في «القاموس» : (الشّمال: الطّبع، والجمع: شمائل) اهـ وقال في «لسان العرب» : (مفردها: شمال؛ بكسر الشّين. قال جرير: (المقدّمة) - بكسر الدّال- أي: المقدّمة نفسها، لأنّها اشتملت على أمور تقتضي تقديمها، وقد سبق فيما قرّرناه أنها مقدّمة علم؛ لأنها ينتفع بها في هذا الكتاب وفي غيره من كلّ ما ألّف في فنّ الشمائل، وهي مقدّمة كتاب أيضا؛ لأن هذا الكتاب مؤلّف في ذلك الفنّ الذي جعلت مقدّمة له. (وهي) - أي: هذه المقدّمة- (تشتمل) أي: تحتوي (على تنبيهين: التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل) في اللغة، (هي في الأصل) أي: أصل معنى الشمائل- لغة-: (الأخلاق) ؛ جمع: خلق- بسكون اللام وضمّها- (والطّبائع) جمع: طبيعة، وهي الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان. (قال) أي: المجد الفيروز آبادي (في) كتاب ( «القاموس) المحيط» شاهدا على ما قاله المصنف: (الشّمال) - بكسر الشين-: (الطّبع) والخلق، (والجمع شمائل. انتهى.) كلام «القاموس» . وقال الراغب: قيل للخليقة شمال لكونه مشتملا على الإنسان اشتمال الشمال على البدن. ومن سجعات «الأساس» : ليس من شمائلي وشمالي أن أعمل بشمالي. (وقال) ؛ أي: ابن منظور (في) كتاب ( «لسان العرب» ) في مادة (شمل) شاهدا لما قاله المصنف: (مفردها) - أي: مفرد الشّمائل- (شمال- بكسر الشّين) المعجمة-: (قال جرير) بن عطيّة بن حذيفة الخطفى بن بدر الكلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 .. وما لومي أخي من شماليا وقال صخر أخو الخنساء: اليربوعي؛ من تميم. أشعر أهل عصره. ولد سنة: - 28- ثمان وعشرين، ومات سنة: - 110- مائة وعشر في اليمامة، وعاش عمره كلّه يناضل شعراء زمنه ويساجلهم، وكان هجّاء مرّا؛ فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وكان عفيفا، وهو من أغزل الناس شعرا، وقد جمعت نقائضه مع الفرزدق وطبعت في ثلاثة أجزاء. وديوان شعره مطبوع في جزأين. وأخباره مع الشعراء وغيرهم كثيرة جدّا، وكان يكنى ب «أبي حزرة» . انتهى. وقد نسب هذا البيت في «شرح القاموس» لعبد يغوث بن وقّاص الحارثي؛ تبعا لابن برّي وغيره وهو: ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليل (وما لومي أخي من شماليا) يجوز أن يكون واحدا؛ أي: من طبعي، وأن يكون جمعا؛ من باب «هجان «1» ودلاص» ؛ أي: يستوي فيه المذكّر والمؤنّث؛ والجمع والواحد، أو تقديره: من شمائلي فقلب. (وقال صخر) بن عمرو بن الشرّيد السّلمي: قتل في الجاهلية؛ وهو (أخو الخنساء:) الصحابيّة الشاعرة، واسمها: تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية السّلمية، من بني سليم من قيس عيلان؛ من مضر، أجمعوا على أنه لم تكن امرأة أشعر منها على الإطلاق من أهل نجد، عاشت أكثر عمرها في العهد الجاهلي، وأدركت الإسلام فأسلمت، ووفدت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع قومها بني سليم، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستنشدها ويعجبه شعرها، فكانت تنشد؛ وهو يقول: «هيه يا خنساء» . أكثر شعرها وأجوده رثاؤها لأخويها صخر ومعاوية، وكانا قد قتلا في الجاهلية. لها ديوان شعر طبع فيه ما بقي محفوظا من شعرها. روي أنها شهدت حرب القادسية سنة ستّ عشرة ومعها أربعة بنين لها؛ فلم تزل   (1) ورد في هامش (اللحجي) : هجان ككتاب: الخيار من كل شيء. ودلاص ككتاب أيضا: ملساء لينة. يستوي فيه الواحد والجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أبا الشّتم إنّي قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا وقال آخر: هم قومي وقد أنكرت منهم ... شمائل بدّلوها من شمالي تحضّهم على القتال وتذكر لهم الجنّة بكلام فصيح؛ فأبلوا يومئذ بلاء حسنا واستشهدوا. فكان عمر رضي الله تعالى عنه يعطيها أرزاقهم. (أبا الشّتم) - في «شرح القاموس» : أبا الفخر- (إنّي قد أصابوا كريمتي) ؛ أي: فجعوني بها. وعنى بقوله «كريمتي» أخاه معاوية بن عمرو؛ إذ قتله الأعداء. يريد أنه حسيب، لأن من معاني الكريمة: الحسيب، يقال: هو كريمة قومه. قال الشاعر: وأرى كريمك لا كريمة دونه ... وأرى بلادك منقع الأجواد وفي الحديث: «إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه» أي: كريم قوم. (وأن) - مخفّفة من الثقيلة- واسمها: ضمير الشأن محذوف؛ أي: أنّه (ليس إهداء) - أي: إرسال- (الخنا) - بفتح الخاء المعجمة-: فاحش الكلام (من شماليا) ، أي: من أخلاقي وطباعي. (وقال) شاعر (آخر) - بفتح الخاء المعجمة- بمعنى مغاير. أمّا بكسر الخاء؛ فهو مقابل الأول. وقد نظم ذلك بعضهم فقال: وآخر بكسر خاء معجمه ... مقابل لأوّل فلتفهمه وآخر بفتحها ما قابلا ... للغير فاعلم وادع للّذي جلا وسيأتي عزو هذا البيت ل (لبيد) ، وهو قوله: (هم قومي وقد أنكرت منهم شمائل) كذا في «لسان العرب» ك «التهذيب» ، أي: أنكرت أخلاقهم. كما سيأتي للمصنف. وفي رواية: وهم أنكرن منّي شمائل (بدّلوها) - بضمّ أوّله؛ مبنيّا للمفعول؛ كما ضبطه في «التهذيب» على كلا الروايتين (من شمالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أي: أنكرت أخلاقهم) . ثمّ قال في مادّتها أيضا: (والشّمال: خليقة الرّجل، وجمعها: شمائل. وإنّها لحسنة الشّمائل، ورجل كريم الشّمائل؛ أي: في أخلاقه ومخالطته) اهـ وقد استعمل علماء الحديث الشّمائل في أخلاقه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم على أصلها، وفي أوصاف صورته الظّاهرة أيضا ... أي: أنكرت أخلاقهم) المقتبسة من أخلاقي. وهذا على الرواية التي في المصنف. وعلى الرواية الأخرى معناه: أنّهم أنكروا مني أخلاقي المعروفة عندهم. (ثمّ قال) ؛ أي: ابن منظور (في) «لسان العرب» في (مادّتها) - أي: مادّة شمل- (أيضا) بعد نحو ثلاث صفحات (والشّمال) - بالكسر- (خليفة الرّجل) ؛ أي: طبيعته وسجيّته (وجمعها: شمائل) . وقال لبيد: هم قومي وهم أنكرن منّي ... شمائل بدّلوها من شمالي وقال الراغب: قيل للخليفة شمال!! لكونه مشتملا على الإنسان اشتمال الشمال على البدن. (وإنّها لحسنة الشّمائل، ورجل كريم الشّمائل؛ أي: في أخلاقه ومخالطته) ، ويقال فلان مشمول الخلائق؛ أي: كريم الأخلاق، أخذ من الماء الذي هبّت به الشّمال فبرّدته. ورجل مشمول: مرضيّ الأخلاق، طيّبها. قال ابن سيده: أراه من الشّمول. (انتهى) أي: كلام ابن منظور في «لسان العرب» . (وقد استعمل علماء الحديث الشّمائل) ؛ أي: لفظة «الشمائل» (في) معنييها الحقيقي والمجازي فجعلوها اسما ل (أخلاقه الشّريفة صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: صورته الباطنة (على أصلها) ؛ أي: أجروا هذه اللفظة على حقيقتها اللّغوية حيث استعملوها في صورته الباطنة؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها الخاصّة بها، (و) استعملوها (في أوصاف صورته الظّاهرة) ؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها (أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 على سبيل المجاز فاعلم ذلك. [التّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة: من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم] التّنبيه الثّاني: في الفوائد ... على سبيل المجاز) ، ولكلّ من الصورتين أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع. كقوله: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» . وقوله: «إنّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصّائم القائم» ، وقوله: «بعثت، لأتمّم مكارم الأخلاق» . وكذلك جاءت في ذمّ سوء الخلق أيضا أحاديث كثيرة، (فاعلم ذلك) والله يتولّى هداك. فائدة: قال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: الأحاديث التي فيها صفة النبي صلّى الله عليه وسلم داخلة في قسم المرفوع بالاتفاق، مع أنّها ليست قولا له صلّى الله عليه وسلم، ولا فعلا، ولا تقريرا. انتهى. (التّنبيه الثّاني: في) بيان (الفوائد) جمع فائدة؛ وهي- لغة-: ما استفدته من علم، أو مال، أو غيرهما؛ كجاه، واصطلاحا-: المصلحة المترتّبة على الفعل من حيث إنّها ثمرته ونتيجته. وأما من حيث إنّها في طرف الفعل: فتسمّى «غاية» . فالفائدة والغاية متّحدان ذاتا؛ مختلفان اعتبارا، كما أن العلّة والغرض كذلك. فالعلّة: هي المصلحة المترتبة على الفعل من حيث إنّها باعثة للفاعل على الفعل، وأما من حيث إنّها مقصودة للفاعل من الفعل؛ فتسمى «غرضا» . والفائدة والغاية أعمّ من العلّة والغرض عموما مطلقا، فتجتمع الأربعة فيما لو حفر بقصد الماء وبعد تمام الحفر ظهر الماء، فإنّ هذا الماء يسمّى «فائدة» من حيث إنّه نتيجة الحفر، ويسمّى «غاية» من حيث إنه في طرف الحفر، ويسمّى «علّة» من حيث إنّه باعث على الحفر، ويسمّى «غرضا» من حيث إنّه مقصود من الحفر. فاختلفت العبارات باختلاف الاعتبارات، وقد يوجد الأوّلان- أي: الفائدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المقصودة: من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم ليس المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه النّفوس، وتجنح إليه القلوب، ويتحدّث به في المجالس، ويستشهد به على المقاصد، ونحو ذلك من الفوائد. وإنّما المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم فوائد أخرى مهمّة في الدّين. منها: التّلذّذ بصفاته العليّة وشمائله الرّضيّة صلّى الله عليه وسلّم. والغاية- ولا يوجد الأخيران- أي: العلة والغرض- كما لو حفر بقصد الماء فبعد تمام الحفر ظهر كنز؛ فيقال له «فائدة» ؛ لأنه نتيجة الحفر، ويقال له «غاية» ؛ لأنه في آخر الحفر، ولا يقال له علة؛ ولا غرض!! لأنه لم يكن باعثا على الحفر، ولا مقصودا للحافر من الحفر. والله أعلم. (المقصودة) للمؤلفين (من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلم) في الكتب. اعلم أنّه (ليس المقصود من جمع شمائله) : أوصافه (صلّى الله عليه وسلم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه) الأفئدة، وترتاح إليه (النّفوس) ، وتسرّ به الأرواح، وتنشرح له الصدور، (وتجنح إليه القلوب) ، وتلتذّ به الأسماع، وتتنزّه فيه الأبصار، (ويتحدّث) - بضمّ أوّله- (به) أي: يذكر ويروى (في المجالس) للاطلاع على سيرة من تقدّم، وللإحاطة بأخبار من سبق، (ويستشهد) - مبنيا للمجهول- أي: يؤتى (به) شاهدا (على المقاصد) والأغراض التي تراد، (ونحو ذلك من الفوائد) التاريخية. لا؛ ليس المقصود ذلك. (وإنّما المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلم) في الكتب (فوائد) - أي: حصول فوائد (أخرى) - زائدة على ما تقدّم (مهمّة) - أي: يهتم بها- (في الدّين) ويتقرّب بها إلى ربّ العالمين. (منها) أي: هذه الفوائد الأخرى: (التّلذّذ) أي: حصول اللذّة- (بصفاته العليّة) الكاملة، (وشمائله الرّضيّة) ، لأنّ في ذكرها وسماعها تنعّما وتلذّذا بحبيب القلوب وقرّة العيون (صلّى الله عليه وسلم) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 - ومنها: التّقرّب إليه صلّى الله عليه وسلّم، واستجلاب محبّته ورضاه بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة، كما يتقرّب الشّاعر إلى الكريم بذكر أوصافه الجميلة، وخصاله النّبيلة. ولا شكّ أنّ جمع ... وهو ضرب من الوصال به صلّى الله عليه وسلم، ووجه من وجوه القرب منه صلّى الله عليه وسلم والاجتماع به؛ لما فيه من إمتاع حاسّة السمع واللسان بأوصاف المحبوب الذي هو وسيلة إلى حضوره بالقلب، فإذا فات النظر إليه بالبصر؛ لم يفت التمتّع به بالسمع والنظر إليه بالبصيرة. كما قال بعضهم: يا واردا من أهيل الحيّ يخبرني ... عن جيرتي شنّف الأسماع بالخبر ناشدتك الله يا راوي حديثهم ... حدّث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري وقال بعضهم في مدح الشمائل مشيرا إلى المعنى: أخلّاي إن شطّ الحبيب وربعه ... وعزّ تلاقيه وناءت منازله وفاتكم أن تنظروه بعينكم ... فما فاتكم بالسّمع هذي شمائله وقال بعضهم في المعنى: يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشطّ مزاره فلقد ظفرت من الحبيب بطائل ... إن لّم تريه فهذه آثاره (ومنها التّقرّب إليه) ؛ أي: طلب القرب منه (صلّى الله عليه وسلم، واستجلاب) أي: طلب جلب (محبّته ورضاه) ؛ بأن يكون جامع الشمائل محبوبا عنده صلّى الله عليه وسلم، وراضيا عنه؛ بسبب خدمة جنابه صلّى الله عليه وسلم، وتعظيم قدره والثناء عليه (بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة) ، وفي ذلك تعلّق به وتودّد، واستعطاف وانتساب، وتعرّض لنفحات فضل الممدوح، واستمطار لسحائب إحسانه، واستنزال لغزير برّه وامتنانه، وتقرّب إليه بفتح أبواب خزائن ما يأتي من قبله، (كما يتقرّب الشّاعر إلى) الممدوح (الكريم بذكر أوصافه الجميلة) الحسنة، (وخصاله النّبيلة) العظيمة، لأنّ الكرام إذا مدحوا أجزلوا المواهب والعطايا، (ولا شكّ أنّ جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 شمائله صلّى الله عليه وسلّم ونشرها.. هو أفضل وأكمل من مدحه بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها ك: حسّان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنهم، وكافأهم على ذلك. شمائله صلّى الله عليه وسلم ونشرها) بين الناس لتتعطّر بها المجالس والمدارس (هو أفضل وأكمل من مدحه) صلّى الله عليه وسلم (بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها؛ ك «حسّان) بن ثابت بن المنذر الأنصاري الخزرجي، أبي الوليد، الصحابي شاعر النبي [صلّى الله عليه وسلم] ، وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وعاش ستين سنة في الجاهلية وستّين سنة في الإسلام، وكان من سكّان المدينة المنورة، وتوفي بها سنة: - 54- أربع وخمسين. وعمي قبيل موته. رضي الله تعالى عنه. (وعبد الله بن رواحة) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي؛ أبي محمد، صحابي، يعدّ من الأمراء والشعراء الراجزين، كان يكتب في الجاهلية، وشهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية، واستخلفه النبي صلّى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى غزواته، وصحبه في عمرة القضاء، وله فيه رجز، وكان أحد الأمراء في وقعة مؤتة- بأدنى البلقاء، من أرض الشام- فاستشهد فيها سنة: - 8- ثمان من الهجرة النبوية. رضي الله تعالى عنه. آمين. (وكعب بن زهير) بن أبي سلمى المازنيّ؛ أبي المضرّب، شاعر عالي الطبقة؛ من أهل نجد، له ديوان شعر، وكان ممن اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلّى الله عليه وسلم، وأقام يشبّب بنساء المسلمين؛ فهدر النبي صلّى الله عليه وسلم دمه؛ فجاء كعب مستأمنا وقد أسلم، وأنشده لاميّته المشهورة التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... فعفا عنه النبي صلّى الله عليه وسلم، وخلع عليه بردته، وكانت وفاته سنة: ست وعشرين هجرية. رحمهم الله تعالى و (رضي الله تعالى عنهم) أجمعين. (و) قد (كافأهم) النبي صلّى الله عليه وسلم (على ذلك) المديح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها صلّى الله عليه وسلّم. - ومنها: تعرّضنا لمكافأته صلّى الله عليه وسلّم على إحسانه إلينا، وإنقاذه إيّانا من ظلمات الضّلال إلى أنوار الهدى، ومن الشّقاوة الأبديّة إلى السّعادة السّرمديّة، وهذه نعمة كبرى لا تمكن مقابلتها بشيء، ولا يقدر على مكافأته عليها إلّا الله تعالى. فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه (فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها) للناس تعلّما وتعليما؛ على أنّ في ذلك تعرّضا لنفحات الرحمة الإلهية، لأنه إذا كانت رحمته تعالى تتنزّل عند ذكر الصالحين؛ فما بالك بسيّد الصالحين وسندهم وممدّهم (صلّى الله عليه وسلم) !!! فأدنى انتساب إليه يحصّل غاية النفع والشرف، إذ لم يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه من نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. (ومنها) - أي: الفوائد-. (تعرّضنا لمكافأته صلّى الله عليه وسلم على إحسانه إلينا) ؛ أداء لبعض ما يجب له صلّى الله عليه وسلم، إذ هو الواسطة بين الله وبين عباده، فكل خير ونعمة وبركة؛ قلّت أو جلّت، منه حصلت، وبطلعته ظهرت، (و) أعظمها إحسانه إلينا ب (إنقاذه) أي: تخليصه (إيّانا من ظلمات الضّلال) : الكفر (إلى أنوار الهدى) : الإسلام، (و) إخراجه إيّانا (من الشّقاوة الأبديّة) أي: التي لا نهاية لها، (إلى السّعادة السّرمديّة) المستمرّة، (وهذه نعمة كبرى) ، بل هي أكبر النعم على الإطلاق، إذ (لا تمكن مقابلتها) ؛ أي: موازنتها (بشيء) من النّعم الباقية الواصلة إلينا منه صلّى الله عليه وسلم، (ولا يقدر على مكافأته) : جزائه (عليها إلّا الله تعالى) ، وإذا كان الإنسان يحبّ من منحه من دنياه- مرّة؛ أو مرتين- معروفا فانيا منقطعا، أو استنقذه من هلكة، فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد ولا تزول، ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول؟!! (فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه) - أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس، دائنين بدينه الّذي ارتضى واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه من خلقه، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت ... الله- تعالى (أنقذنا) : خلّصنا (به) ببعثته صلّى الله عليه وسلم (من الهلكة) ؛ أي: الهلاك، وهو ظلمة الكفر، إلى نور الإيمان، وأخرجنا به من نار الجهل إلى جنان المعارف والإيقان، (وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس) ، وخيريّة الأمّة بخيرية نبيّها (دائنين) ؛ أي: متعبّدين (بدينه الّذي ارتضى) ؛ وهو الإسلام، (واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه) به (من خلقه) من النبيين والصّديقين، والشهداء والصالحين، وسائر عباده المؤمنين، (فلم تمس) - بضمّ أوله- ولم تصبح (بنا نعمة) من الله علينا (ظهرت ولا بطنت) ؛ مأخوذ من قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [20/ لقمان] . وقد أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عطاء قال: سألت ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [20/ لقمان] قال: هذا من كنوز علمي؛ سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أمّا الظّاهرة؛ فما سوّى من خلقك، وأمّا الباطنة؛ فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم» . وأخرج البيهقيّ، والديلميّ، وابن النّجار؛ عنه أيضا: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: «أمّا الظّاهرة؛ فالإسلام، وما سوّى من خلقك، وما أسبغ عليك من رزقه، وأمّا الباطنة؛ فما ستر من عملك» . وفي رواية عنه موقوفة: «النّعمة الظاهرة: الإسلام، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب والعيوب والحدود» ؛ أخرجه ابن مردويه عنه. وفي رواية عنه موقوفة أيضا: «النّعمة الظاهرة والباطنة هي: لا إله إلّا الله» ؛ أخرجها عنه ابن جرير وغيره. وتفسيرهما ما قاله مجاهد: نعمة ظاهرة؛ هي لا إله إلّا الله على اللسان، وباطنة؛ قال: في القلب. أخرجها سعيد بن منصور، وابن جرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 نلنا بها حظّا في دين ودنيا، أو رفع بها عنّا مكروه فيهما، أو في أحد منهما.. إلّا ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم سببها القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها. (نلنا بها) ؛ أي: بسببها (حظّا) : نصيبا (في دين) ، كالعلم والعمل والمعرفة، (ودنيا) ، كالجاه والقبول، (أو رفع بها) : بسببها (عنّا مكروه) : شيء نكرهه (فيهما) ، أي: في الدين والدنيا؛ (أو في أحد منهما) في الدين أو الدنيا (إلّا و) حبيبنا (محمّد صلّى الله عليه وسلم سببها) ؛ أي: سبب في حصولها، وواسطة في وصولها، وهو (القائد) : اسم فاعل، من: «قاده يقوده» ؛ أي: جذبه من أمامه بسبب حسّي؛ أو معنوي ليتبعه (إلى خيرها، والهادي) : الدّالّ (إلى رشدها) . فله صلّى الله عليه وسلم علينا من الأيادي العظيمة، والمنن الجسيمة؛ دين ودنيا وآخرة ما لا يحصى بحيث أنّا نسبح فيها؛ ونتقلب ظهرا لبطن. ولا منعم من الخلق مثله، لأنه الواسطة لنا في كلّ خير، وجميع النعم التي وصلت إلينا من الله تعالى السابقة واللاحقة من نعمة الإيجاد والإمداد في الدنيا والآخرة، فنعمه علينا تابعة لنعم الله تعالى، ونعم الله تعالى لا يحصيها عدد (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) [34/ إبراهيم] ، فهو صلّى الله عليه وسلم الواسطة بين الله وبين خلقه في كلّ نعمة؛ يفيضها الباري أوّلا عليه، ومنه تتفرّع إلى المخلوق. قال سيدي عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس: كلّ من حصلت له الرحمة في الوجود، أو خرج له قسم من رزق الدنيا والآخرة، والظاهر والباطن، والعلوم والمعارف والطاعات؛ إنما خرج له ذلك على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبواسطته صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي يقسم الجنّة بين أهلها، ولذلك عدّوا من خصائصه صلّى الله عليه وسلم أنّه أعطي مفاتيح خزائن أجناس العالم، فيخرج لهم بقدر ما يطلبون بحسب القسمة الإلهية، فكلّ ما ظهر في هذا العالم؛ فإنما يعطيه سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، فلا يخرج شيء من الخزائن الإلهية إلّا على يديه صلّى الله عليه وسلم، وهو معنى اسم «الخليفة» ، فلا طاقة لأحد بالنّفي والشهود بدون واسطته صلّى الله عليه وسلم، فهو المرآة الكبرى والمجلى الأعظم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ......... وأقواله وأفعاله كلّها دائرة على الدلالة على الله تعالى والتعريف به، ولا نهاية للمعرفة، فما دام الإنسان يترقّى فيها؛ فهو مغترف من بحره ومستمدّ منه، حتى الأنبياء والمرسلون، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكلّهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم انتهى. ملخّصا من «تقريب الوصول» للسيد أحمد دحلان رحمه الله تعالى. وقال سيّدي عبد العزيز الدبّاغ- رضي الله تعالى عنه، ونفعنا ببركاته- في كتاب «الإبريز» : إنّ أرباب الكشف والعيان يشاهدون سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم، ويشاهدون ما أعطاه الله عزّ وجلّ وما أكرمه الله به مما لا يطيقه غيره، ويشاهدون غيره من المخلوقات؛ الأنبياء والملائكة وغيرهم، ويشاهدون ما أعطاهم الله من الكرامات، ويشاهدون المادّة سارية من سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم إلى كلّ مخلوق في خيوط من نور فائضة من نوره صلّى الله عليه وسلم؛ ممتدّة إلى ذوات الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام وذوات غيرهم من المخلوقات، ويشاهدون عجائب ذلك الاستمداد وغرائبه. قال رضي الله تعالى عنه: ولقد أخذ بعض الصالحين طرف خبزة ليأكله، فنظر فيه وفي النعمة التي رزقها بنو آدم؛ قال: فرأى في ذلك الخبز خيطا من نور، فتبعه بنظره فرآه متصلا بخيط نوره الذي اتصل بنوره صلّى الله عليه وسلم، فرأى الخيط المتصل بالنور الكريم واحدا، ثم بعد أن امتدّ قليلا جعل يتفرّع إلى خيوط؛ كلّ خيط متّصل بنعمة من نعم تلك الذوات. قال تلميذه سيّدي أحمد بن المبارك: وصاحب هذه الحكاية هو الشيخ نفسه. قال: وقال رضي الله تعالى عنه: ولقد وقع لبعض أهل الخذلان- نسأل الله تعالى السلامة- أنّه قال: «ليس لي من سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم إلّا الهداية إلى الإيمان، وأما نور إيماني؛ فهو من الله عزّ وجلّ، لا من النبي صلّى الله عليه وسلم» . فقال له الصالحون: أرأيت إن قطعنا ما بين نور إيمانك وبين نوره صلّى الله عليه وسلم، وأبقينا لك الهداية التي ذكرت؛ أترضى بذلك!؟ فقال: نعم، رضيت. قال رضي الله عنه: فما تمّ كلامه حتّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وهذه العبارة من قوله: (.. فجزاه الله ... إلى آخرها) عبارة إمامنا الشّافعيّ ... سجد للصليب وكفر بالله ورسوله؛ ومات على كفره!! نسأل الله تعالى السلامة والحماية، والتوفيق والهداية. انتهى ملخّصا، نقله المصنف في كتابه «حجّة الله على العالمين» وأطال في هذا الموضوع، فليراجع ثمة. وقد ضمّن المصنف هذا المعنى الذي قاله سيّدي عبد العزيز في همزيته: «طيبة الغراء» ؛ فقال: مصدر المكرمات موردها العذ ... ب كرام الورى به كرماء أفرغ الله فيه كلّ العطايا ... والبرايا منه لها استعطاء إنّما ما حوى الزّمان من الفض ... ل وما حازه به الفضلاء كلّه عنه فاض من غير نقص ... مثل ما فاض عن ذكاء الضّياء قال المصنف: (وهذه العبارة من قوله: (فجزاه الله ... إلى آخرها) عبارة إمامنا) وإمام الأئمة المجتهد المطلق: أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع (الشّافعيّ) ؛ نسبة إلى جدّه شافع، القرشي المطّلبي المكي، أحد الأئمة الأربعة؛ أصحاب المذاهب المتبوعة المشتهرة، عالم قريش ومجدد الدين على رأس المائتين. ولد ب «غزّة» ؛ من أرض فلسطين، سنة: - 150- مائة وخمسين هجرية، وحمل منها إلى مكة؛ وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن؛ وهو ابن سبع سنين، وحفظ «الموطأ» ؛ وهو ابن عشر، وأفتى؛ وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان يحيي الليل إلى أن مات. وزار بغداد مرتين، وبها ألّف مذهبه القديم. وقصد مصر ونزلها سنة: - 199- تسع وتسعين ومائة، وبها ألّف مذهبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 رضي الله تعالى عنه نقلتها من «رسالته» الّتي رواها عنه صاحبه الرّبيع بن سليمان رحمه الله تعالى. ومنها: أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي محبّته صلّى الله عليه وسلّم؛ ... الجديد، وتوفي بها (رضي الله تعالى عنه) سنة: - 204- أربع ومائتين هجرية؛ وعمره أربع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة، وقبره معروف يزار. قال المبرّد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم، وأعرفهم بالفقه والقراءات. وقال الإمام أحمد ابن حنبل: ما أحد ممّن بيده محبرة، أو ورق؛ إلّا وللشافعي في رقبته منّة. وكان من أحذق قريش بالرمي؛ يصيب من العشرة عشرة. برع في ذلك أوّلا كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث. وكان ذكيا مفرط الذكاء، آية في الحفظ، له تصانيف كثيرة تدلّ على سعة علمه وتحقيقه ومتانة دينه. رحمه الله تعالى. آمين. ومناقبه جمّة أفردها العلماء بالتصنيف. (نقلتها من رسالته) المعروفة باسم «الرسالة» : في أصول الفقه، وهي (الّتي رواها عنه صاحبه) وتلميذه أبو محمد (الرّبيع بن سليمان) بن عبد الجبّار بن كامل (المرادي بالولاء) ، المصري (راوي كتب الإمام الشافعي) وراوي مذهبه الجديد. وهو المراد عند إطلاق «الربيع» . وهو أوّل من أملى الحديث بجامع ابن طولون، وكان مؤذّنا، وفيه سلامة وغفلة. ومولده سنة: - 174- أربع وسبعين ومائة بمصر، ووفاته بها سنة: - 270- سبعين ومائتين هجرية. (رحمه الله تعالى) ونفعنا بعلومه. آمين. (ومنها) ؛ أي: الفوائد (أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي) ، أي: تقتضي (محبّته صلّى الله عليه وسلم) التي هي روح الإيمان؛ الذي هو أصل كلّ سعادة وسيادة. والمحبة: ميل روحاني يستجلب الودّ ويسلب البعد، وللناس في حدّها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 لأنّ الإنسان مجبول على حبّ الصّفات الجميلة ومن اتّصف بها، ولا أجمل ولا أكمل من صفاته صلّى الله عليه وسلّم. فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها ولم يكن مطبوعا على قلبه بطابع الضّلال.. يحبّ صاحبها صلّى الله عليه وسلّم بيقين، ... اختلاف كثير، وعباراتهم فيها؛ كما قيل: وإن كثرت! إنما هي في الحقيقة اختلاف أحوال، وليست باختلاف أقوال. وأكثرها يرجع إلى ثمراتها؛ دون حقيقتها. وقيل: إنها من المعلومات التي لا تحدّ، وإنّما يعرفها من قامت به؛ وجدانا. ولا يمكن التعبير عنها، ولا تحدّ بحدّ أوضح منها. (لأنّ الإنسان مجبول) ؛ أي: مطبوع (على حبّ الصّفات الجميلة، و) على حبّ (من اتّصف بها) من أفراد المؤمنين؛ فكيف بعباده الصالحين!! فكيف بسيّد الأوّلين والآخرين!! (و) لا ريب أنّه (لا أجمل؛ ولا أكمل من صفاته صلّى الله عليه وسلم) ، وإذا كان المرء يحبّ غيره على ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة؛ فكيف بهذا النبي الكريم، والرسول الواسع الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم!! (فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها) - أي: على شمائله، (و) الحال أنّه (لم يكن مطبوعا) ؛ أي: مختوما (على قلبه بطابع الضّلال) وعمى البصيرة- (يحبّ صاحبها صلّى الله عليه وسلم بيقين) ، وفي محبّتنا له صلّى الله عليه وسلم منن عظيمة علينا، لأنّها موجبة لمعيّته ومجاورته وصحبته، لحديث: «المرء مع من أحبّ» . رواه الشيخان؛ عن أنس، وابن مسعود. ولحديث: «أنت مع من أحببت» . رواه مسلم. ومحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يظهر أثرها في اتباع سنّته، وسلوك طريقته، ولها مع ذلك علامات أخرى؛ منها: أن تحبّ بحبّه، وتبغض ببغضه، فلا تحبّ إلّا ما أحبّ، ولا تبغض إلّا ما أبغض، فيكون هواك تبعا له ولما جاء به. ومنها: أن توالي بولايته، وتعادي بعداوته، لأنّ محبّ المحبوب ومحبوبه محبوبان، ومبغضه وبغيضه مبغوضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وبمقدار زيادة محبّته ونقصها تكون زيادة الإيمان ونقصه، ... ومن علامات محبّته أيضا: إيثار محبّته على كلّ محبوب، واشتغال الباطن بذكره بعد ذكر الله عز وجل، والإكثار من الصلاة عليه، وأن يودّ رؤيته بجميع ما يملك؛ أو بملء الأرض ذهبا؛ لو كان له. ومنها: التخلّق بأخلاقه، والتأدّب بشمائله وآدابه؛ من الجود، والإيثار، والحلم، والصبر، والتواضع، والزهد في الدنيا؛ والإعراض عن أبنائها، ومجانبة أهل الغفلة واللهو، والإقبال على أعمال الآخرة؛ والتقرّب من أهلها، والحبّ للفقراء والتحبّب إليهم والتقرّب منهم، وكثرة مجالستهم، واعتقاد تفضيلهم على أبناء الدنيا، ثم الحبّ في الله لأهل العلم والدين والصلاح والزهد، والبغض في الله للظّلمة والمبتدعة والفسقة المعلنين، واتّباعه في مقامات اليقين؛ مثل الخوف والرجاء، والشكر والحياء، والتسليم والتوكّل، والشوق والمحبة، وإفراغ القلب لله عزّ وجلّ، وإفراد الهمّ به تعالى، ووجود الطمأنينة بذكره سبحانه، والرّضا بما شرعه؛ حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضى، ونصرته ونصرة دينه باتّباع سنّته واعتقادها، وإيثارها على الرأي والهوى، واجتناب البدع كلّها، والذّبّ عن شريعته، والتسلّي عن المصائب شغلا بحاله، وجمعا في محبّة محبوبه؛ واغتباطا به، وتسلية بما أصاب محبوبه؛ وتعظيمه عند ذكره، وكثرة الشوق إلى لقائه؛ إذ كل حبيب يحبّ لقاء حبيبه، ومحبّة القرآن الذي أتى به، والتلذّذ بذكره، والطرب عند سماع اسمه، فمن تخلّق بهذا كلّه؛ فله من الآية نصيب موفور، وهي قوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [31/ آل عمران] ، فجعل الله تعالى جزاء العبد على حسن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلم محبّة الله تعالى إياه، ولا يكون متّبعا له إلّا عن محبّة الله تعالى إيّاه، وأثرته إيّاه عمّن سواه. (و) يتفاوت الناس في المحبة، ف (بمقدار زيادة محبّته) صلّى الله عليه وسلم (و) بمقدار (نقصها؛ تكون زيادة الإيمان ونقصه) ، فمن كان في محبّته أقوى؛ كان في الإيمان أبلغ وأثبت، ومن لا محبّة له؛ لا إيمان له، إذ الإيمان مشروط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بل رضا الله تعالى والسّعادة الأبديّة، ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم فيها، جميع ذلك يكون بمقدار محبّة العبد له صلّى الله عليه وسلّم زيادة ونقصا، كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة وعذاب أهل النّار ودركاتهم ... بمحبّته صلّى الله عليه وسلم، أصله بأصلها، وكماله بكمالها، فمحبّته صلّى الله عليه وسلم ركن للإيمان؛ لا يثبت إيمان عبد ولا يقبل إلّا بمحبّته صلّى الله عليه وسلم، (بل رضا الله) الذي هو الإنعام؛ أو إرادة الإنعام منه (تعالى) ؛ أي: ترفّع، جملة معترضة، أو حاليّة للتعظيم والتمييز، ولا يقال ذلك في غير الله سبحانه، مثل «تبارك» و «عزّ وجلّ» ، لأنّه صار شعارا لله عزّ وجلّ. (والسّعادة الأبديّة) الحاصلة بالموت على الإيمان، (ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم) ؛ أي: مراتبهم العليّة (فيها) ؛ أي: الجنة. (جميع ذلك) مبتدأ ثان، وخبره الجملة بعده، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو «رضا الله» وما عطف عليه. (يكون) متفاوتا (بمقدار محبّة العبد له صلّى الله عليه وسلم زيادة ونقصا) ، وهذا في الحقيقة حثّ للمؤمن على تقوية رابطته وزيادة محبّته لنبيه صلّى الله عليه وسلم، فإنّ العاقل لا يترك الخير الكثير ما أمكنه، فمن أراد رضا الله سبحانه وسعة النعيم في الآخرة؛ فليكثر من الأسباب التي تزيد في محبّته له صلّى الله عليه وسلم، لأنّ المحبّة أساس الخيرات، وبها تزكو الأعمال وتحسن الأحوال. وللمحبّة درجات، وللناس فيها مقامات، وأصلها حاصل لكلّ مسلم، لأنّها أصل الدين، ومن ليس فيه محبّة- كما قيل- لا يساوي حبّة. ولا حدّ للمحبة، وما يجب للنبي صلّى الله عليه وسلم منها؛ لا يقدر أحد على القيام به، إذ لا منّة لأحد بعد الله كما له علينا، فاستحقّ أن يكون حظّه من محبّتنا له أوفى وأزكى من محبّتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين، بل لو كان في كلّ منبت شعرة منا محبّة تامّة له صلّى الله عليه وسلم؛ لكان ذلك بعض ما يستحقّه. (كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة) الحاصلة بالموت على الكفر والعياذ بالله من ذلك-، (وعذاب أهل النّار ودركاتهم) ؛ أي: منازلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فيها.. يكون بمقدار بغضه صلّى الله عليه وسلّم، زيادة ونقصا. ومنها: اتّباعه والاقتداء به لمن وفّقه الله تعالى فيما يمكن به الاقتداء؛ كسخائه وحلمه، وتواضعه، وزهده، وعبادته، وغيرها من مكارم أخلاقه، وشرائف أحواله صلّى الله عليه وسلّم، ... (فيها) ؛ أي: النار (يكون) ذلك (بمقدار بغضه صلّى الله عليه وسلم؛ زيادة ونقصا) ، فمن كان شديد البغض له صلّى الله عليه وسلم؛ كان السّخط عليه أكثر، وعذابه أوفر، نعوذ بالله من بغضه؛ ومن بغض عباد الله الصالحين. ونسأل الله أن يميتنا على محبّته، ويحيينا على سنّته، ويحشرنا في زمرته. آمين. (ومنها) ؛ أي: من الفوائد المقصودة بجمع شمائله صلّى الله عليه وسلم: (اتّباعه) فيما كان عليه هو وأصحابه، ويشمل ذلك الاعتقادات، والأقوال والأفعال، والأخلاق والأحوال، (والاقتداء به) فيها (لمن وفّقه الله تعالى) . التوفيق: هو خلق قدرة الطاعة في العبد. ولا يكون الاقتداء به صلّى الله عليه وسلم في كلّ شيء، بل (فيما يمكن به الاقتداء) ، لأن أفعاله صلّى الله عليه وسلم على قسمين: قسم لا يجوز الاقتداء به فيه، وذلك كإباحة المكث في المسجد؛ وهو جنب، وكالوصال في الصوم، وكإباحة النظر إلى الأجنبيات، ونكاح أكثر من أربع نسوة، والنكاح بلفظ الهبة، وبلا وليّ ولا شهود. فهذه الأشياء من خصائصه صلّى الله عليه وسلم، لا يقتدى به فيها. وقسم يجوز الاقتداء به فيها، بل يندب التأسّي به فيها، وذلك (كسخائه) صلّى الله عليه وسلم؛ وهو: سهولة الانفاق، وتجنّب اكتساب ما لا يحمد؛ وهو الجود، (وحلمه) ؛ وهو: حالة توقر وثبات عند الأسباب المحركات، (وتواضعه) ؛ أي: هضم النفس في غير منقصة ولا مذلّة، (وزهده) ، وهو: عدم الميل إلى الدنيا، وقلّة المبالاة بوجودها وفقدها؛ اعتمادا على خالقها، (وعبادته) المتعارفة في الشرع؛ من نحو طهارة وصلاة وصيام، (وغيرها من مكارم أخلاقه) : أوصافه، (وشرائف أحواله صلّى الله عليه وسلم) ؛ كحيائه، وصدقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وذلك مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين. قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31] . وأمانته، وكرمه، وشجاعته، إذ من علامة محبّته التخلّق بأخلاقه في الجود، والإيثار، والحلم، والصبر، والتواضع، وغيرها من أخلاقه العظيمة. وأعظم العلامات لمحبّته صلّى الله عليه وسلم: الاقتداء به، واستعمال سنّته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه، والتأدّب بآدابه، والوقوف مع ما حدّ لنا من شريعته صلّى الله عليه وسلم، (وذلك) كلّه (مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين) : دار الدنيا ودار الأخرى. ولمحبّة الله تعالى علامات، منها: تقديم أمره على هوى النفس، ورعاية حدود الشرع، والتزام التقوى والورع، والتشوّق إلى لقائه تعالى، والخلوّ عن كراهية الموت، والرضا بقضائه، ومحبّة كلامه والتلذّذ بتلاوته وسماعه، والطّرب عند ذكره أو سماع اسمه، وعدم الصبر على ذلك، ومحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم واتّباعه، كما (قال تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) - في جميع ما جئت به- (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [31/ آل عمران] والمراد بمحبّة الله تعالى للعبد: قبوله والإثابة على أعماله، إذ معنى المحبّة الأصلي محال في حقّه تعالى، والمعنى أنّ اتّباع النبي صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به دليل على محبّة الإنسان لربّه، فمن يدّعي حبّ الله ولا يحبّ رسوله لا ينفعه ذلك. كما قيل: ألا يا محبّ المصطفى زد صبابة ... وضمّخ لسان الذّكر منك بطيبه ولا تعبأن بالمبطلين فإنّما ... علامة حبّ الله حبّ حبيبه وحبّ الله تعالى يوجد بصدق المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويلزم من محبّة الله تعالى إيثار طاعته على هوى نفسه، فمن ادّعى المحبّة من غير طاعة؛ فدعواه باطلة لا تقبل. تعصي الإله وأنت تظهر حبّه!! ... هذا لعمري في القياس بديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 جعلنا الله تعالى من المتّبعين له صلّى الله عليه وسلّم في شرعه القويم، وصراطه المستقيم، وحشرنا تحت لوائه، في زمرة أهل محبّته، عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم. لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحبّ لمن يحبّ يطيع وإذا تحقّق العبد بمحبّة الله ورسوله، وصدق في متابعة أمره ونهيه؛ خشع وتأدّب ظاهرا وباطنا، لأنّ ما في الباطن يلوح على الظاهر ويعود عليه؛ لما بينهما من الارتباط، ولما أن الإنسان عمدته والمعتبر فيه هو باطنه؛ به يصلح وبه يفسد، والمحبّة تنتج الخوف، لأن مقامات اليقين مرتبط بعضها ببعض، فمن حصلت له المحبّة؛ نال من مقام الخوف والرجاء والحياء وغيرها من المقامات والأحوال قسطا وافرا، حسبما نصّ على هذا أئمة الطريق. وإذا صحّت المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ نتج عنها بفضل الله تعالى تطهير السريرة وتنوير البصيرة، وكان عن ذلك خالص الحبّ وصفاء الودّ، والله ذو الفضل العظيم. (جعلنا الله تعالى من المتّبعين) المقتفين (له صلّى الله عليه وسلم في شرعه القويم) ، لأن التابع له واصل لسعادة الدارين، (و) في (صراطه) الصراط- بالصاد وبالسين-: الطريق المستوي؛ أو الواضح (المستقيم) الذي لا عوج فيه، (وحشرنا) الحشر: الجمع والاجتماع من الأماكن إلى المحشر الذي هو مكان الجمع. والاجتماع أبدا لا يكون إلّا على عظيم القوم؛ فهو سلطان ذلك اليوم العظيم (تحت لوائه) لواء الحمد، (في زمرة) ؛ أي: جماعة (أهل محبّته) ووداده (عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم) . آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 [الباب الأوّل في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسمائه الشّريفة] الباب الأوّل (الباب الأول) الباب: هو الطريق إلى الشيء والموصل إليه. وهو حسيّ حقيقي؛ كباب الدار، ومعنويّ مجازي؛ ككلّ سبب موصل إلى أمر، وكتراجم الكتب المترجمة بالأبواب. والباب في عرف المصنفين: اسم لجملة من العلم مشتملة على مسائل غالبا. وكذا يعرّف: ما أفرد من كتاب أو فصل. فإن جمعت الثلاثة فقل: الكتاب: اسم لجملة من العلم مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالبا. والباب: اسم لجملة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالبا. والفصل: اسم لجملة من الباب مشتملة على مسائل غالبا. ووضع العلماء التراجم تسهيلا للوقوف على مظانّ المسائل؛ وتنشيطا للنفوس. قال الزمخشري: وذلك لأنّ القارىء إذا ختم بابا من كتاب ثم أخذ في آخر؛ كان ذلك أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل، بخلاف ما لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر إذا علم أنّه قطع ميلا وطوى فرسخا؛ نفّس ذلك عنه ونشط للسير. ومن ثمّ كان القرآن سورا وأجزاء وأعشارا. انتهى. ثم لتعرف أنّ الأولى بالقارئ أن يصرّح بقراءة الترجمة، أمّا أوّلا! فلأنها جزء من التصنيف الذي أخذ في قراءته، ويتأكّد ذلك في حقّ مريد الرواية، وأمّا ثانيا! فلأنها تفتقر إلى البيان كغيرها من مسائل ذلك التصنيف الذي أخذ في قراءته؛ قاله الأبّي في «شرح مسلم» . قال أبو العبّاس الهلالي بعد نقله بأخصر من هذا: ولأنّ فيها إشارة إجمالية إلى جميع المسائل المترجم لها، ولمعرفة المسائل بوجه إجمالي ضابط لجميعها فائدة عظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسمائه الشّريفة وفيه فصلان (في) ذكر (نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) محرّكة، واحد الأنساب، معروف، وهو: أن تذكر الرجل؛ فتقول هو فلان بن فلان، أو تنسبه إلى قبيلة؛ أو بلد؛ أو صناعة (و) في ذكر (أسمائه الشّريفة) جمع اسم؛ وهو: اللفظ الدالّ على المسمّى- بفتح الميم-. ووجه ذكر أسمائه صلّى الله عليه وسلم التي هي كالتتمة لفضائله صلّى الله عليه وسلم!! أنّ ذكر أسمائه صلّى الله عليه وسلم تعيّنه وتشخّصه، ويحصل بها معرفة تامّة به صلّى الله عليه وسلم وبأسمائه وصفاته، وبعظيم قدره عند خالقه. وقد قال في «الشفاء» : ومن خصائصه تعالى له أن ضمّن أسماءه ثناءه؛ وطوى أثناء ذكره عظيم شكره. ومعرفته صلّى الله عليه وسلم مقصودة لذاتها. ثم معرفة أنّ له أسماء كثيرة تدلّ على عظمه، وذلك يحصّل تعظيمه ويزيد في محبّته، ثم معرفتها تفصيلا تفيد زيادة في محبّته وتعظيمه أيضا. (وفيه) أي: هذا الباب (فصلان) يأتي بيانهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 [الفصل الأوّل في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الأوّل في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم هو سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عبد الله ... (الفصل الأوّل) بالصاد المهملة- لغة: الحاجز بين الشيئين، والفصل في الأصل مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي: الفاصل بين ما قبله وما بعده والحاجز بينهما، أو بمعنى اسم المفعول؛ إذ مسائله مفصولة عما قبله وعمّا بعده. والفصل في عرف المصنفين: اسم لجملة من الباب مشتملة على مسائل غالبا، وقد مرّ آنفا الكلام على ذلك بأوسع. (في) ذكر (نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلم) ، وهو خير أهل الأرض نسبا على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة. وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به أبو سفيان عدوّه إذ ذاك بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه؛ ف (هو) صلّى الله عليه وسلم النبيّ العربي، الأبطحي الحرمي، القرشي الهاشمي، نخبة بني هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب، وأعرقها في النسب، وأشرفها في الحسب، وأنضرها عودا، وأطولها عمودا، وأطيبها أرومة، وأعزّها جرثومة، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأرجحها ميزانا، وأصحّها إيمانا، وأعزّها نفرا، وأكرمها معشرا؛ من قبل أبيه وأمّه، ومن أكرم بلاد الله على الله وعباده؛ (سيّدنا محمّد) اسم مفعول على الصفة؛ للتفاؤل بأن يكثر حمده. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلّق به. قال في «الفتح» : المحمّد: الذي حمد مرّة بعد أخرى، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم (ابن عبد الله) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ابن عبد المطّلب بن هاشم ... قال الحافظ: لم يختلف في اسمه. انتهى. قال ابن الأثير: وكنيته أبو قثم- بقاف فثاء مثلثة- وهو من أسمائه صلّى الله عليه وسلم؛ مأخوذ من القثم؛ وهو الإعطاء، أو من الجمع؛ يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو أحمد. انتهى. فإن قلنا بالمشهور من وفاته والمصطفى حمل!! فلعله كنّي بالإلهام، وإن قلنا بعد ولادته!! فظاهر. (ابن) شيخ البطحاء (عبد المطّلب) مجاب الدعوة، محرّم الخمر على نفسه. قال ابن الأثير: وهو أوّل من تحنّث بحراء؛ كان إذا دخل شهر رمضان صعده وأطعم المساكين. وقال ابن قتيبة: كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رءوس الجبال، فكان يقال له: «الفيّاض» لجوده. ويقال له «مطعم طير السماء» ، واسمه «شيبة الحمد» ، وكنيته «أبو الحارث» بابن له هو أكبر أولاده. وإنّما سمّي «عبد المطّلب» !! قيل: لأن عمّه المطّلب جاء به إلى مكّة رديفه؛ وهو بهيئة رثّة، فكان يسأل عنه؛ فيقول: «هو عبدي» ؛ حياء من أن يقول: «ابن أخي» . فلما أدخل مكة وأصلح من حاله أظهر أنّه ابن أخيه؛ فلذلك قيل له «عبد المطلب» . وهو أوّل من خضب بالسّواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة، كما قاله عالم النسب الزّبير بن بكّار وتبعوه؛ قاله الزرقاني. (ابن هاشم) ، واسمه: عمرو، وإنّما قيل له «هاشم» ؛ لأنه كان يهشم الثريد لقومه في الجدب. وكان هاشم أفخر قومه وأعلاهم، وكانت مائدته منصوبة لا ترفع؛ لا في السّراء، ولا في الضّراء. وكان يحمل ابن السبيل، وكان نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وجهه يتوقّد شعاعه، ويتلألأ ضياؤه، ولا يراه حبر إلّا قبّل يده، ولا يمرّ بشيء إلا سجد إليه. تغدو إليه قبائل العرب ووفود الأحبار؛ يحملون بناتهم يعرضون أن يتزوّج بهنّ، حتّى بعث إليه هرقل ملك الروم، وقال: إنّ لي ابنة لم تلد النساء أجمل منها؛ ولا أبهى وجها، فاقدم عليّ حتى أزوّجكها؛ فقد بلغني جودك وكرمك. وإنّما أراد بذلك نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم الموصوف عندهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ابن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب ... الإنجيل، فأبى هاشم. ومات وسنّه عشرون، وقيل: خمس وعشرون سنة. انتهى. «زرقاني» . (ابن عبد مناف) - بفتح الميم وخفّة النون-، من: «أناف ينيف إنافة» ؛ إذا ارتفع. وقيل: الإنافة: الإشراف والزيادة. لقّب بذلك!! لأنّ أمه حبّى- بضم الحاء المهملة وموحدة مشددة ممالة- أخدمته صنما عظيما لهم يسمّى «مناة» ، ثم نظر أبوه فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوّله «عبد مناف» ، واسمه: المغيرة، كما قال الشافعي؛ منقول من الوصف، والهاء للمبالغة، سمّي به!! تفاؤلا أنّه يغير على الأعداء. وساد في حياة أبيه. وكان مطاعا في قريش، ويدعى «القمر» لجماله. قال الواقدي: وكان فيه نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي يده لواء نزار وقوس إسماعيل. قال ابن هشام: ومات ب «غزّة» . (ابن قصيّ) - بضمّ القاف- تصغير قصي- بفتح فكسر؛ فياء ساكنة- من: (قصا يقصو) ؛ إذا بعد. ولقّب بذلك!! لأنّه بعد عن عشيرته في بلاد قضاعة حين احتملته أمّه فاطمة بنت سعد العذري في قصّة طويلة. ذكرها ابن إسحاق. واسمه «مجمّع» ؛ بالتشديد اسم فاعل، قال الشاعر: أبوكم قصيّ كان يدعى «مجمّعا» ... به جمّع الله القبائل من فهر وكان قصيّ أوّل بني كعب أصاب ملكا طاع له به قومه، وكانت له الحجابة والسقاية والرّفادة والندوة واللواء، وحاز شرف مكّة جميعا، وكان رجلا جلدا جميلا، وعالم قريش وأقومها بالحقّ. (ابن كلاب) - بكسر الكاف وتخفيف اللام- وهو، إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة؛ نحو: كالبت العدوّ مكالبة، وإما من الكلاب؛ جمع كلب: الحيوان المعروف!! كأنهم يريدون الكثرة؛ كما يسمون ب «سباع» و «أنمار» وغير ذلك. وسئل أعرابي: لم تسمّون أبناءكم بشرّ الأسماء؛ نحو كلب وذئب، وعبيدكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ابن مرّة بن كعب بن لؤيّ ... بأحسن الأسماء؛ نحو رزق ومرزوق ورباح؟! فقال: إنّما نسمّي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا. يريد الأعرابي: أنّ الأبناء عدة للأعداء وسهام في نحورهم؛ فاختاروا لهم هذه الأسماء دون عبيدهم، لأنهم لا يقصد منهم قتال غالبا، بل كان عارا عند العرب. واسم كلاب: «حكيم» ، قال الحافظ: ولقّب ب «كلاب» !! لمحبّته كلاب الصيد، وكان يجمعها، فمن مرّت به فسأل عنها قيل: هذه كلاب ابن مرّة، وقال القسطلّاني: لمحبّته الصيد، وكان أكثر صيده بالكلاب؛ قاله المهلب وغيره. (ابن مرّة) بضمّ الميم، منقول من وصف الرجل بالمرارة، فالتاء للمبالغة. وله ثلاثة أولاد: يقظة؛ وبه يكنّى، وكلاب، وتيم؛ ومن نسله الصدّيق وطلحة. (ابن كعب) قال السهيلي: سمّي بذلك؛ لستره على قومه ولين جانبه لهم. منقول من «كعب القدم» . وقال ابن دريد وغيره: من «كعب القناة» ، وسمّي بذلك!! لارتفاعه وشرفه فيهم، فكانوا يخضعون له حتى أرّخوا بموته إلى عام الفيل؛ فأرّخوا به، ثم بموت عبد المطلب. وكعب أوّل من جمع الناس يوم العروبة- وهو: اسم يوم الجمعة- في الجاهلية اتفاقا. ولم يكن ثمّ صلاة يجمعهم إليها، بل كانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم. وكان فصيحا يأمرهم بتعظيم الحرم، ويذكّرهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، ويعلمهم بأنّه من ولده، ويأمرهم باتّباعه والإيمان به. وينشد في ذلك أبياتا. منها قوله: يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحقّ خذلانا وكان بين موت كعب ومبعث النبي صلّى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . (ابن لؤيّ) - بضم اللام والهمزة، ويسهّل بإبدال همزته واوا-. وفي «النور والإرشاد» : الهمز أكثر عند الأكثرين. ولؤي تصغير «لأى» بوزن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ابن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة ... (عصا) ؛ وهو الثور الوحشيّ، وكنية لؤي: «أبو كعب» ، وله سبعة أولاد ذكور. (ابن غالب) - بالمعجمة وكسر اللام- منقول من اسم فاعل مشتق من الغلب بفتحات، أو فتح فسكون- ويقال غلبة: بهاء. وله ولدان: لؤيّ وتيم، وبه يكنّى. (ابن فهر) - بكسر الفاء وسكون الهاء فراء- منقول من الفهر: الحجر الطويل؛ قاله السهيلي. وقال الخشني: الفهر: حجر ملء الكفّ؛ يذكّر ويؤنّث. وخطّأ الأصمعيّ من أنّثه، وفي «الفتح» : الفهر: الحجر الصغير. وفي «الإرشاد» : الطويل الأملس. واسم فهر «قريش» ، وإليه تنسب قبائل قريش؛ كما قاله جماعة، ونسب للأكثر. قال الزّهري: وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نسّاب العرب: أنّ من جاوز فهرا؛ فليس من قريش، بل يقال له «كنانيّ» ؛ نسبة إلى كنانة بن خزيمة بن مدركة. على القول الصحيح الذي صحّحه الدمياطيّ والعراقيّ وغيرهما، والحجّة لهم حديث مسلم والترمذي؛ مرفوعا: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة» ... الحديث. وقيل غير ذلك. وقبائل قريش فرقتان: بطاح، وظواهر. فقريش البطاح: من دخل مكّة مع قصي. والظواهر: من أقام بظاهر مكة؛ ولم يدخل الأبطح. (ابن مالك) اسم فاعل من ملك يملك؛ فهو مالك، والجمع: ملّاك، ويكنّى «أبا الحارث» ؛ قاله في «الخميس» . سمّي «مالكا!!» ؛ لأنه كان ملك العرب. (ابن النّضر) - بفتح النون وإسكان الضاد المعجمة فراء- واسمه «قيس» ، ولقب ب «النضر» !! لنضارة وجهه وإشراقه وجماله؛ منقول من «النضر» : اسم الذهب الأحمر، وله من الذكور مالك والصّلت، ويخلد- بفتح التحتيّة وسكون المعجمة، وضمّ اللام فدال مهملة- وبه يكنّى أبوه، ولكن لم يعقب إلّا من مالك. (ابن كنانة) - بكسر الكاف ونونين مفتوحتين، بينهما ألف، ثم هاء-؛ منقول من «الكنانة» التي هي الجعبة- بفتح الجيم وسكون العين المهملة-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس ... سمّي بذلك!! تفاؤلا بأنه يصير كالكنانة الساترة للسهام؛ فكان سترا على قومه، وقيل غير ذلك. (ابن خزيمة) تصغير خزمة- بمعجمتين مفتوحتين- وهي: مرّة واحدة من الخزم، وهو: شدّ الشيء وإصلاحه. وقال الزّجّاجي: يجوز أنّه من الخزم- بفتح فسكون- تقول: خزمته؛ فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام؛ قاله في «الفتح» . وفي «تاريخ الخميس» : إنّما سمّي «خزيمة» ؛ تصغير خزمة!! لأنّه اجتمع فيه نور آبائه؛ وفيه نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم. انتهى. قال ابن عباس: ومات خزيمة على ملّة إبراهيم. (ابن مدركة) - بضمّ فسكون فكسر ففتح، ثم هاء مبالغة-؛ منقول من اسم فاعل من الإدراك، لقّب به!! لإدراكه كلّ عزّ وفخر كان في آبائه، وكان فيه نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم ظاهرا بيّنا، واسمه «عمرو» عند الجمهور. وهو الصحيح. (ابن إلياس) - بتحتيّة مع كسر الهمزة؛ في قول ابن الأنباري، وهي همزة قطع تثبت في الابتداء والدّرج- والمعروف أنّه اسمه، وفي «سيرة مغلطاي» : أنّ اسمه حبيب. وفي «تاريخ الخميس» : إنما سمّي «إلياس» !! لأنّ أباه كبر ولم يولد له، فولد على الكبر واليأس؛ فسمّي «إلياس» ، وكنيته «أبو عمرو» ، وله أخ يقال له «إلناس» - بنون-؛ ذكره ابن ماكولا والجوهريّ. وقال قاسم بن ثابت العوفي الأندلسيّ المالكيّ: إنّه بفتح الهمزة ضدّ الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة للوصل. قال السهيلي: وهذا أصحّ من قول ابن الأنباري. انتهى. وإلياس أوّل من أهدى البدن إلى البيت الحرام. ويذكر أنّه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلّى الله عليه وسلم. ولم تزل العرب تعظّمه تعظيم أهل الحكمة؛ ك «لقمان» وأشباهه. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ابن مضر بن نزار بن معدّ ... يدعى كبير قومه وسيد عشيرته، ولا يقطع أمر ولا يقضى بينهم دونه. قال الزبير بن بكّار: ولمّا أدرك إلياس أنكر على بني إسماعيل ما غيّروا من سنن آبائهم وسيرتهم، وبان فضله عليهم، ولان جانبه لهم، حتّى جمعهم رأيه ورضوا به، فردّهم إلى سنن آبائهم وسيرهم. قال ابن دحية: وهو وصيّ أبيه، وكان ذا جمال بارع. (ابن مضر) - بضم الميم وفتح الضاد المعجمة- غير مصروف للعلمية والعدل. قال الحافظ: قيل سمّي به؛ لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر؛ وهو الحامض، وفيه نظر، لأنّه يستدعي أنّه كان له اسم غيره قبل أن يتّصف بهذه الصفة، نعم؛ يمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متّصفا بهذه الصفة: وقيل: سمّي به لبياضه. وقيل: لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله. وهو أوّل من سنّ الحداء للإبل. قال البلاذري: وذلك أنّه سقط عن بعيره وهو شابّ؛ فانكسرت يده، فقال: يا يداه.. يا يداه. فأتت إليه الإبل من المرعى، فلما صحّ وركب حدا؛ وكان من أحسن الناس صوتا. (ابن نزار) - بكسر النون، فزاي، فألف، فراء- مأخوذ من النّزر؛ وهو القليل. قيل: إنّه لما ولد ونظر أبوه إلى نور محمد صلّى الله عليه وسلم بين عينيه فرح فرحا شديدا، ونحر وأطعم؛ وقال: إنّ هذا كلّه نزر- أي: قليل- لحقّ هذا المولود؛ فسمّي «نزارا» لذلك، وكان اسمه «خلدان» ، وكنيته «أبو إياد» ، وقيل: «أبو ربيعة» ، وكان أجمل أهل زمانه وأكبرهم عقلا، وكان مقدّما، وانبسطت إليه اليد عند الملوك. وفي «الوفا» : يقال إنّ قبر نزار. ب «ذات الجيش» قرب المدينة. (ابن معدّ) - بفتح الميم والمهملة وشدّ الدال- وسمّي «معدّا» !! لأنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ابن عدنان. إلى هنا إجماع الأمّة، وما بعده إلى آدم لا يصحّ فيه شيء يعتمد. صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل، ولم يحارب أحدا إلّا رجع بالنصر والظّفر. وكنيته «أبو قضاعة» . وقيل: أبو نزار. (ابن عدنان) - بزنة فعلان- من المعدن، أي: الإقامة؛ قاله الحافظ وغيره. وفي «الخميس» : سمي به!! لأنّ أعين الجن والإنس كانت إليه وأرادوا قتله. وقالوا: لئن تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدرك الرجال ليخرجنّ من ظهره من يسود الناس. فوكّل الله به من يحفظه. انتهى. وحكى الزّبير: أنّ عدنان أوّل من وضع أنصاب الحرم، وأوّل من كسى الكعبة، أو كسيت في زمانه. وقال البلاذري: أوّل من كساها الأنطاع عدنان. ولما استشعر المصنف قول سائل: «لم لم توصل النسب إلى آدم؟» قال: (إلى هنا إجماع الأمّة) ، والإجماع. حجّة، لعصمة الأمة عن الخطأ، لقوله صلّى الله عليه وسلم «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» . (وما بعده) ؛ أي: بعد عدنان (إلى) إسماعيل بن إبراهيم، ومنه إلى (آدم) قال العلماء: (لا يصحّ فيه شيء يعتمد) . قال العسقلاني في «السيرة» : اختلف فيما بين عدنان وإسماعيل اختلافا كثيرا، ومن إسماعيل إلى آدم متّفق على أكثره، وفيه خلف يسير في عدد الآباء، وفيه خلف في ضبط بعض الأسماء. انتهى. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون بأسمائهم. وقال عروة بن الزّبير: ما وجدنا أحدا يعرف بعد معدّ بن عدنان. وسئل الإمام مالك؛ عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم!! فكره ذلك. قيل له: فإلى إسماعيل. فكره ذلك أيضا. وقال: من أخبره بذلك!!؟ وكذا روي عنه في نسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالذي ينبغي: الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ وعواصة تلك الأسماء مع قلّة الفائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انتسب.. لم يجاوز في نسبته معدّ بن عدنان بن أدد، ثمّ يمسك ويقول: «كذب النّسّابون» ؛ قال الله تعالى (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان: 38] . وهذا النّسب أشرف الأنساب على الإطلاق. فعن العبّاس ... (وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا انتسب) - أي: ذكر نسبه- (لم يجاوز في نسبته معدّ بن عدنان بن أدد) - بضمّ الهمزة ودال مهملة مفتوحة- (ثمّ يمسك) عما زاد؛ توطئة لقوله (ويقول: «كذب النّسّابون» ) أي: الرافعون النسب إلى آدم، يقولها مرتين أو ثلاثا. رواه في «مسند الفردوس» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. لكن قال السّهيلي: الأصحّ في هذا الحديث أنّه من قول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. وقال غيره: كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [9/ إبراهيم] قال: كذب النسّابون. يعني: أنّهم يدّعون علم الأنساب، ونفى الله علمها عن العباد بقوله (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [9/ إبراهيم] ، و (قال الله تعالى) في سورة الفرقان ((وَقُرُوناً) - أقواما- (بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (38) لا يعلمهم إلا الله (وهذا النّسب أشرف الأنساب على الإطلاق، ف) - قد روى الترمذيّ وقال: حديث حسن؛ (عن العبّاس) بن عبد المطّلب أبي الفضل الهاشمي، عمّ النبي صلّى الله عليه وسلم، كان أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسنتين؛ أو ثلاث، وكان رئيسا جليلا في قريش قبل الإسلام، وكان إليه عمارة المسجد الحرام والسقاية. قيل: أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه؛ مقيما بمكة يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعظّمه ويكرمه ويبجّله. وكان وصولا لأرحام قريش؛ محسنا إليهم، ذا رأي وكمال عقل، جوادا؛ أعتق سبعين عبدا. وكانت الصحابة تكرمه وتعظّمه وتقدّمه، وتشاوره وتأخذ برأيه. وله من الأولاد عشرة؛ وثلاث بنات. وتوفي رضي الله عنه بالمدينة المنورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، ثمّ تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثمّ تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» . يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة: اثنتين وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين؛ وهو ابن ثمان وثمانين سنة (رضي الله تعالى عنه. أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال) . وفي الترمذيّ: قال العبّاس: قلت: يا رسول الله؛ إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة- أي: كناسة. أي: هو كالشجرة المثمرة وأصلها خبيث. فقد مدحوه وذمّوا أصله- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مبينا أن أصله طيّب: ( «إنّ الله خلق الخلق) - أي: المخلوقات، و «أل» للاستغراق، فتدخل الملائكة، فهو نصّ في أفضلية جنس البشر على جنس الملك. أو المراد: الثقلان، أو المراد: بنو آدم فرقا- (فجعلني) - أي: صيّرني- (من خيرهم) - أي: خير فرقهم؛ أي: أشرفها، والمراد بالفرق الذي هو خيرهم: العرب- (ثمّ تخيّر القبائل) - من العرب أي: اختار خيارهم؛ فضلا منه- (فجعلني من خير قبيلة) - منهم؛ وهم قريش، أي: قدّر إيجادي في خير قبيلة- (ثمّ تخيّر البيوت) - أي: اختارهم شرفا- (فجعلني من خير بيوتهم) أي: أشرفها؛ وهم بنو هاشم، وإذا كان كذلك- (فأنا خيرهم نفسا) - أي: روحا وذاتا- (وخيرهم بيتا) - أي: أصلا، إذ جئت من طيّب إلى طيّب، إلى صلب أبي بفضل الله عليّ ولطفه في سابق علمه. ولم يقل «ولا فخر» ؛ كما في خبر: «أنا سيّد ولد آدم» !! لأنّ هذا بحسب حال المخاطبين في صفاء قلوبهم بما يعلمه من حالهم، أو هذا بعد ذاك. وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «إنّ الله حين خلق الخلق بعث جبريل؛ فقسم النّاس قسمين؛ فقسم العرب قسما، وقسم العجم قسما، وكانت خيرة الله في العرب. ثمّ قسم العرب قسمين؛ فقسم اليمن قسما، وقسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وعن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه ... مضر قسما وقريشا قسما، وكانت خيرة الله في قريش، ثمّ أخرجني من خير من أنا منهم» رواه الطبراني، وحسّن العراقي إسناده، وهو شاهد لخبر المصنّف وكالشرح له. قال بعض العلماء: والتفاضل في الأنساب والقبائل والبيوت باعتبار حسن خلقة الذات والتفاضل فيما قام بها من الصفات؛ حتى في الأقوات وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [71/ النحل] وهذا جار في سائر المخلوقات، فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا اتجاه لما عساه يقال: الإنسان كلّه نوع؛ فما معنى التفاضل في الأنساب!! انتهى «زرقاني» . (و) روى مسلم، والترمذيّ بأتمّ منه- وقال: حديث صحيح غريب- (عن) أبي شدّاد (واثلة بن الأسقع) بن عبد العزّى بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني اللّيثي (رضي الله تعالى عنه) قيل: أسلم والنبيّ صلّى الله عليه وسلم يتجهّز إلى تبوك، وشهدها معه، وشهد فتح دمشق وحمص. وقيل: إنّه خدم النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاث سنين؛ وكان من أهل الصّفّة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثا؛ روى له البخاري حديثا، ومسلم حديثا آخر. سكن الشام؛ فسكن دمشق، ثم استوطن «بيت جبرين» ؛ وهي بلدة بقرب بيت المقدس، ودخل البصرة؛ وكان له بها دار. روى عنه أبو إدريس الخولاني، ومكحول، وأبو المليح، ويونس بن ميسرة وخلق سواهم. وتوفي بدمشق سنة: ست- أو خمس- وثمانين هجرية؛ وهو ابن ثمان وتسعين سنة رحمه الله تعالى، وأبوه صحابيّ؛ كما في «الإصابة» . رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ... (قال) واثلة: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله اصطفى) - أي: اختار- (من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة) - وهم عدّة قبائل؛ أبوهم كنانة بن خزيمة- (واصطفى من بني كنانة قريشا) - وفيه إبطال للقول بأن جماع قريش مضر، وإبطال للقول الآخر بأنّ جماعهم إلياس- (واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ؛ زاد ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر-: «ثمّ اختار بني هاشم من قريش، ثمّ اختار ابن عبد المطّلب من بني هاشم» . انتهى. قال الحليمي: أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم، كرجل يقول «كان أبي فقيها» لا يريد الفخر؛ بل تعريف حاله دون ما عداه. وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله تعالى عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. انتهى. ونقله عنه البيهقيّ في «الشّعب» . وأقرّه. وقال الحافظ ابن حجر: ذكره لإفادة الكفاءة، والقيام بشكر النعم. والنهي عن التفاخر بالآباء موضعه مفاخرة تفضي إلى تكبّر؛ أو احتقار مسلم. انتهى؛ نقله الزرقاني على «المواهب» . (و) روى الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ (عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب: أبي عبد الرحمن العالم المجتهد العابد، لزوم السنة، الفرور من البدعة، الناصح للأمّة (رضي الله تعالى عنه) . روى ابن وهب عن مالك؛ قال: بلغ ابن عمر ستّا وثمانين سنة، وأفتى ستّين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اختار خلقه؛ فاختار منهم بني آدم، ثمّ اختار بني آدم فاختار منهم العرب، ثمّ اختار العرب فاختار منهم قريشا، ثمّ اختار قريشا فاختار منهم بني هاشم، ثمّ اختار بني هاشم فاختارني، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحبّ العرب فبحبّي أحبّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» . وقال نافع: ما مات حتى أعتق أكثر من ألف، وشهد الخندق وما بعدها. قال الحافظ ابن حجر: ولد في السنة الثانية؛ أو الثالثة من المبعث، لأنه ثبت أنّه كان يوم بدر ابن ثلاث عشرة سنة؛ وهي بعد المبعث بخمس عشرة، ومات في أوائل سنة ثلاث وسبعين. رحمه الله تعالى. (قال) - أي: ابن عمر- (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله اختار) - أي: اصطفى- (خلقه) - مميّزا لهم على غيرهم ممّن لو تعلّقت بهم الإرادة ووجدوا كانوا دونهم في الفضل، لكونهم لم يختاروا، فلا يرد أنّ الاختيار إنّما يكون فيما يختار من شيء، ولا يقال: اختار شيئا، إذ لابدّ من مختار ومختار منه. ومحصّل الجواب: اختيارهم ممن يقدّر وجودهم- (فاختار منهم بني آدم، ثمّ اختار بني آدم) - أي: نظر إليهم- (فاختار منهم العرب) - وبهذا التأويل اندفع ما يقال: لا حاجة لقوله «ثمّ اختار بني آدم» بل لا يصحّ، لأنه عين ما قبله- (ثمّ اختار العرب) - أي: نظر إليهم- (فاختار منهم قريشا) - أي: قبائل قريش- (ثمّ اختار قريشا) - أي: نظر إليهم- (فاختار منهم بني هاشم) - دون غيرهم- (ثمّ اختار بني هاشم) - أي: نظر إليهم- (فاختارني) - من بني هاشم- (فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحبّ العرب فبحبّي) - أي: فبسبب حبّه لي- (أحبّهم، ومن أبغض العرب) - أظهر للتعظيم- (فببغضي) - أي: بسبب بغضه لي- (أبغضهم» ) . وقد روى الترمذي؛ وقال: حسن غريب؛ عن سلمان رفعه: «يا سلمان؛ لا تبغضني فتفارق دينك.» قلت: يا رسول الله؛ كيف أبغضك وبك هداني الله؟! قال «تبغض العرب فتبغضني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ......... وروى الطبرانيّ؛ عن علي رفعه: «لا يبغض العرب إلّا منافق» . انتهى. وقد ألّف الحافظ العراقيّ «رسالة في فضائل العرب» . وتلاه الشيخ ابن حجر الهيتمي، رحمهم الله تعالى، فألّف رسالة سماها «مبلغ الأرب في فضائل العرب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 [الفصل الثّاني في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الثّاني في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم اعلم.. أنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسماء كثيرة. (الفصل الثّاني) من الباب الأوّل (في) ذكر بعض (أسمائه) جمع: اسم؛ وهو كلمة وضعتها العرب بإزاء مسمّى، متى أطلقت فهم منها ذلك المسمّى. فعلى هذا لا بدّ من مراعاة أربعة أشياء: 1- الاسم، و 2- المسمّى- بفتح الميم-، و 3- المسمّي- بكسرها-، و 4- التسمية. فالاسم: هو اللفظ الموضوع على الذّات لتعريفها وتخصيصها عن غيرها؛ كلفظ «زيد» . والمسمّى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم كشخص زيد. والمسمّي- بالكسر-: هو الواضع لذلك اللفظ. والتسمية: هي اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات. والوضع: تخصيص لفظ بمعنى إذا أطلق فهم منه ذلك المعنى للعالم بالوضع. (الشّريفة) وذكر شيء من معانيها (صلّى الله عليه وسلم) وشرّف وكرّم. (اعلم أنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أسماء كثيرة) ، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى؛ للعناية به وبشأنه. ولذا ترى المسمّيات في كلام العرب أكثر محاولة واعتناء؛ كما في «الشامية» . يعني: أنّهم أكثر ما يحاولون في المسمّيات تمييزها بالأسماء الكثيرة المميزة لها والدالّة على شرفها؛ لا سيما إذا لوحظت المناسبة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قال الإمام النّوويّ في «التّهذيب» : (قال الإمام الحافظ ... كلّ اسم ومسمّاه. وقد سمّى الله تعالى نبيّنا محمدا صلّى الله عليه وسلم بأسماء كثيرة في القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. (قال الإمام) الحافظ وليّ الله تعالى الشيخ محيي الدين (النّوويّ) الشافعيّ صاحب التصانيف النافعة المباركة (في) كتاب ( «التّهذيب» ) ؛ أي: «تهذيب الأسماء واللغات» : (قال الإمام الحافظ) هو أحد مراتب خمسة لأهل الحديث، أوّلها 1- الطالب؛ وهو: المبتدىء، ثمّ 2- المحدّث؛ وهو: من تحمّل روايته واعتنى بدرايته، ثمّ 3- الحافظ؛ وهو: من حفظ مائة ألف حديث متنا وإسنادا، ثمّ 4- الحجّة؛ وهو من حفظ ثلثمائة ألف حديث، ثمّ 5- الحاكم؛ وهو: من أحاط بجميع الأحاديث، ذكره المطرّزي. فائدة: أخرج ابن أبي حاتم في كتاب «الجرح والتعديل» ؛ عن الزّهري: لا يولد الحافظ إلّا في كلّ أربعين سنة. ولعل ذلك في الزمن المتقدّم، وأما في زماننا هذا؛ فقد عدم فيه الحافظ؛ كذا قاله الباجوري في «حاشيته على الشمائل الترمذية» . قال السيد عبد الحي الكتاني في «فهرس الفهارس» : وهو عجيب، لأن الحافظ ما دام كما وصفه به الحافظ ابن الجزري: من روى ما يصل إليه، ووعى ما يحتاج إليه. انتهى. وكما وصفه به الخفاجيّ؛ من أنه: من أكثر من رواية الحديث وأتقنها!! فغير منقطع، ولم يختم بالسيوطي والسخاوي؛ كما قيل. فمن طالع واطّلع، وتوسّع في تتبع تراجم الشاميين والمصريين واليمنيين والهنديين والمغاربة من القرن التاسع إلى الآن لم يجد الزمان خلا عمّن يتّصف بأقل ما يشترط فيمن يطلق عليه اسم الحافظ في الأعصر الأخيرة. وغاية ما يشترط فيه عندي الآن: أن يكون على الأقل قد اشتهر بالتعاطي والإتقان لهذه الصناعة؛ فأخذ فيها وأخذ عنه، وأذعن من يعتبر إذعانه لقوله فيها، بعد تجريبه عليه: الصدق والتحرّي فيما ينقل ويقول، وبعد الغور. وتمّ له سماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 القاضي أبو بكر ابن العربيّ المالكيّ ... مثل الكتب الستّة والمسانيد الأربعة على أهل الفن المعتبرين، وعرف الاصطلاح معرفة جيدة، ودرس كتب ابن الصلاح وحواشيه، وشروح الألفية وحواشيها، وترقّى إلى تدوين معتبر في السنّة وعلومها، وعرف فيه بالإجادة قلمه، والاطلاع والتوسعة مذهبه، والاختيار والترجيح في ميادين الاختلاف نظره، مع اتساع في الرواية؛ بحيث أخذ عن شيوخ إقليمه ما عندهم، ثم شره إلى الرواية عمّن هم في الأقاليم الأخر بعد الرحلة إليهم، وعرف العالي والنازل، والطبقات والخطوط والوفيات، وحصّل الأصول العتيقة؛ والمسانيد المعتبرة، والأجزاء والمشيخات المفرّقة، وجمع من أدوات الفنّ ومتعلّقاته أكثر ما يمكن أن يحصل عليه، مع ضبطه وصونه لها، واستحضاره لأغلب ما فيها، وما لا يستحضره عرف المظانّ له منها على الأقلّ، ويشبّ ويشيخ وهو على هذه الحالة من التعاطي والإدمان والانقطاع له. فمن حصّل ما ذكر، أو تحقّق وصفه ونعته به؛ جاز أن يوصف بالحفظ عندي بحسب زمانه ومكانه. انتهى كلام الشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى. قال: فلذلك أردت أن أرشدك إلى من وقفت على وصفه من الأئمة المعتبرين بالحفظ والإتقان، وإنه من كبار محدّثي الزمان، ووجد مع الحافظ ابن حجر وبعده إلى الآن، لتعلم أنّ فضل الله لا ينحصر بزمان؛ أو مكان؛ أو جهة من الجهات، فهو سبحانه يعطي بلا امتنان؛ ولا تحجير عليه من أهل الزمان. ثم ذكر ثمانية وخمسين شخصا بأسمائهم من أهل القرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وترجم لجميعهم. رحمهم الله تعالى. آمين. (القاضي أبو بكر بن العربيّ) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي (المالكيّ) ، ولد في «إشبيلية» سنة: - 468- ثمان وستين وأربعمائة، ورحل إلى المشرق، وبرع في الأدب، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وصنّف كتبا في الحديث والفقه، والأصول والتفسير، والأدب والتاريخ، وولي قضاء «إشبيلية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 في كتابه «عارضة الأحوذيّ في شرح التّرمذيّ» : قال بعض الصّوفيّة: ... قال ابن بشكوال: هو ختام علماء الأندلس، وآخر أئمّتها وحفّاظها. ومن مؤلفاته «العواصم من القواصم» ، و «عارضة الأحوذي شرح الترمذي» ، و «أحكام القرآن» ، و «القبس شرح موطأ مالك بن أنس» ، و «الإنصاف في مسائل الخلاف» ، و «أعيان الأعيان» وغيرها. ومات بقرب «فاس» سنة: - 543- ثلاث وأربعين وخمسمائة، ودفن بها. رحمة الله تعالى عليه. آمين. (في كتابه «عارضة الأحوذيّ في شرح) جامع (التّرمذيّ» ) رحمه الله تعالى، (قال بعض الصّوفيّة) : اعلم أن المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها. فقيل لهم «الصحابة» ، ولمّا أدركهم أهل العصر الثاني سمّي من صحب الصحابة «التابعين» . ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم «أتباع التابعين» ، ثم اختلفت الناس بعدهم وتباينت المراتب فيهم، فقيل لخواصّ الناس ممّن لهم شدّة عناية بأمر الدين «الزّهّاد والعبّاد» . ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادّعوا أن فيهم زهادا، فانفرد خواصّ أهل السنّة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم «الصوفية» . ثم التسمية ب «الصوفية» ، غلبت على هذه الطائفة؛ فيقال «رجل صوفي» ، وللجماعة «صوفية» ، لأنّ الحقّ صافاهم وأخلص لهم النعم بما أطلعهم عليه، ومن يتوصّل إلى التصوّف بالاكتساب والتشبّه بهم يقال له «متصوّف» ، وللجماعة «المتصوفة» . والتصوّف اسم جامد؛ كاللّقب، وقع على كلّ من اجتمع قلبه وقت ذكره، وتفرّق في أحوال أسباب فكره، وتزايدت أشواقه عند السماع، وخفيت حقائقه عند الاجتماع. ولهم فيه تعاريف كثيرة. والقول بأنه مشتقّ من الصّفا، أو من لبس الصوف، أو من الصف الأوّل؛ يحوج إلى تكلّف، مع عدم الشاهد على ذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 لله عزّ وجلّ ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألف اسم) انتهى. وعن جبير بن مطعم بن عديّ رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لي أسماء، أنا محمّد، وأنا أحمد، معظم الأقوال؛ وإن كان معانيها لا يخلو عنها الصوفي باعتبار رسمه وحاله. واعلم أن حقيقة الصوفيّ: من له جدّ وصدق وإخلاص في متابعة سيّد المرسلين وإمام المرشدين؛ عليه وعلى إخوانه صلوات ربّ العالمين. انتهى. من «شرح الرسالة القشيرية» وحواشيها. (لله عزّ وجلّ ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف اسم. انتهى) كلام النووي المنقول عن ابن العربي رحمهم الله تعالى. قال الشّاميّ: والذي وقفت عليه من ذلك خمسمائة اسم، مع أن في كثير منها نظرا. أو المراد الأوصاف؛ لا أنّها كلّها أعلام وضعت له. انتهى. (و) روى البخاريّ ومسلم؛ (عن جبير) - بضم الجيم وموحدة، مصغّرا- (ابن مطعم بن عديّ) بن نوفل القرشي النوفلي الصحابي العالم بالأنساب، أسلم بين الحديبية والفتح، وقيل: في الفتح. وتوفي سنة: سبع وخمسين- أو ثمان، أو تسع وخمسين- هجرية. (رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ لي أسماء) - كذا رواه الأكثر عن الزّهري عن شعيب؛ عند الشيخين. ومعمر ويونس وعقيل وسفيان بن عيينة؛ عند مسلم والترمذيّ. ورواه مالك في «الموطأ» ؛ عن الزهري، ومن طريقه أخرجه البخاريّ أيضا بلفظ: «لي خمسة أسماء» ولم ينفرد بها مالك، بل تابعه محمد بن ميسرة عن الزهري. أخرجه البيهقي وأشار إليه عياض، ف «خمسة» زيادة ثقة غير منافية؛ فيجب قبولها. ولهذا تعقّب الحافظ وغيره من زعم أنّها من الراوي كما يأتي. انتهى. «زرقاني على «المواهب» » . (أنا محمّد، وأنا أحمد) - أفعل من الحمد، قطع متعلّقه للمبالغة. وبدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ، ... بهما!! لأنهما أشهر أسمائه، وقدّم محمّدا!! لأنه أشهرهما- (وأنا الماحي) بحاء مهملة- (الّذي يمحو الله بي الكفر) أي: يزيله، لأنه بعث والدنيا مظلمة بغياهب الكفر؛ فأتى صلّى الله عليه وسلم بالنور الساطع حتّى محاه. قال القاضي عياض: أي: من مكة وبلاد العرب، وما زوي له من الأرض ووعد أنّه يبلغ ملك أمته. قال: أو يكون المحو عامّا بمعنى الظهور والغلبة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [33/ التوبة] . وفي «الفتح» : استشكل بأنه ما انمحى من جميع البلاد. وأجيب بحمله على الأغلب، أو على جزيرة العرب، أو أنّه يمحى بسببه أولا فأوّلا، إلى أن يضمحلّ في زمان عيسى، فإنّه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وتعقّب بأن الساعة لا تقوم إلّا على شرار الناس. ويجاب بجواز أن يرتدّ بعضهم بعد موت عيسى، وترسل الريح اللّيّنة فتقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة؛ فحينئذ فلا يبقى إلا الشّرار. (وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ) بكسر الميم وبتخفيف الياء؛ بالإفراد، و [قدميّ] بتشديد الياء مع فتح الميم على التثنية، روايتان. وفي معنى القدم قولان: الأثر، أو الزمان. فعلى الأوّل معنى «على قدمي» : على أثري. أي: أنّه يحشر قبل الناس. ويرجّحه رواية نافع بن جبير «بعثت مع السّاعة» . وعلى الثاني معنى «على قدميّ» أي: وقت قيامي على قدميّ؛ بظهور علامات الحشر، إشارة إلى أنّه لا نبي بعده؛ ولا شريعة. واستشكل التفسير باقتضائه أنّه محشور؛ فكيف يفسّر به حاشر اسم فاعل؟!. وأجيب: بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافة؛ وهي تصحّ بأدنى ملابسة، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وأنا العاقب الّذي ليس بعده نبيّ» . وعن حذيفة ... كان لا أمّة بعد أمته، لأنّه لا نبيّ بعده؛ نسب الحشر إليه لوقوعه عقبه. أو معناه أول من يحشر؛ كحديث: «أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض» ، أو على مشاهدتي قائما لله شاهدا على الأمم، وقيل: معنى القدم السبب. (وأنا العاقب) زاد يونس في روايته عن الزهري: (الّذي ليس بعده نبيّ» ) وقد سمّاه الله رؤوفا رحيما. قال البيهقي: «وقد سمّاه» مدرج من قول الزهري. قال الحافظ: وهو كما قال. وكأنه أشار إلى ما في آخر سورة براءة «1» ، وأما قوله: «الّذي ليس بعده نبيّ» . فظاهره الإدراج أيضا، لكن في رواية ابن عيينة عند الترمذي وغيره؛ بلفظ «الّذي ليس بعدي نبيّ» . انتهى. وجزم السيوطي على «الموطأ» بأنه مدرج من تفسير الزهري لرواية الطّبراني الحديث من طريق معمر إلى قوله: «وأنا العاقب» . قال معمر: قلت للزّهري: ما العاقب؟! قال: الذي ليس بعده نبي. قال أبو عبيد: قال سفيان: العاقب آخر الأنبياء. انتهى. ولا ينافيه رواية «بعدي» بياء المتكلم!! لأنّها قد ترد على لسان المفسّر حكاية عن لسان من فسّر كلامه إذا قوي تفسيره عنده؛ حتّى كأنّه نطق به. وفي رواية نافع بن جبير: فإنّه عقب الأنبياء. قال الحافظ: وهو محتمل للرفع والوقف. انتهى. (و) روى التّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن) أبي عبد الله (حذيفة) بن [اليمان:] حسل بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن   (1) من قوله تبارك وتعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 رضي الله تعالى عنه قال: لقيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة؛ فقال: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا نبيّ الرّحمة، نزار بن معدّ بن عدنان العبسي؛ حليف بني عبد الأشهل؛ من الأنصار. قالوا: واليمان لقب «حسل» لقّب به. لأنه أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل من الأنصار، فسمّاه قومه «اليمان» ، لأنّه حالف الأنصار؛ وهم من اليمن. أسلم حذيفة وأبوه، وهاجرا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشهدا جميعا أحدا «1» وقتل أبوه يومئذ؛ قتله المسلمون خطأ فوهب لهم دمه، وأسلمت أمّ حذيفة وهاجرت. وكان صاحب سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنافقين يعلمهم وحده، وكان كثير السؤال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أحاديث الفتن والشرّ ليجتنبها. وتوفي بالمدائن سنة: - 36- ست وثلاثين، بعد قتل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما بأربعين ليلة، ولم يدرك حذيفة وقعة الجمل، لأنّها كانت في جمادى الأولى سنة: - 36- ست وثلاثين. (رضي الله تعالى عنه) ؛ وعن والده ووالدته، وعن الصحابة أجمعين. آمين. (قال: لقيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة) - أي: سككها- (فقال: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا نبيّ الرّحمة) أي: سببها. قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] . فقد رحم الله جميع المخلوقات، لأمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال، وما بعث به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، فبعث رحمة لأمّته، ورحمة للعالمين، ورحيما بهم، ومترحّما مستغفرا لهم، وجعل أمته مرحومة؛ ووصفها بالرحمة، وأمرها بالتراحم وحضّ عليه؛ فقال: «إنّ الله يحبّ من عباده الرّحماء» ، وقال: «الرّاحمون   (1) وإنما لم يشهدا بدرا!! لأن كفار قريش حينما عارضوهما في طريق الهجرة أخذوا منهما عهدا ألّا يقاتلا مع محمد [صلّى الله عليه وسلم] ، فاستشار حذيفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمره بأن يبر عهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ونبيّ التّوبة، وأنا المقفّي، وأنا الحاشر، ونبيّ الملاحم» . يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» ... إلى غير ذلك. فكانت الرحمة في هذه الأمّة أكثر من غيرها من الأمم. وبالجملة فقد ظهر على يد النبي صلّى الله عليه وسلم ما لم يظهر على يد غيره. (ونبيّ التّوبة) أي: الآمر بها بشروطها المقررّة، أو كثير التوبة إلى الله تعالى، كثير الرجوع إليه؛ «إنّي أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة؛ أو مائة مرّة» . (وأنا المقفّي) - بكسر الفاء على أنّه اسم فاعل، أو [المقفّى] بفتحها على أنّه اسم مفعول-. فمعناه على الأوّل: الذي قفّى آثار من سبقه من الأنبياء، وتبع أطوار من تقدّمه من الأصفياء. قال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [90/ الأنعام] أي: في أصل التوحيد ومكارم الأخلاق؛ وإن كان مخالفا لهم في الفروع اتفاقا. ومعناه على الثاني: الذي قفّى به على آثار الأنبياء وختم به الرسالة، قال تعالى (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) [27/ الحديد] . وفي ذلك من الفضل له صلّى الله عليه وسلم أنّه وقف على أحوالهم وشرائعهم؛ فاختار الله له من كلّ شيء أحسنه، وكان في قصصهم له ولأمته عبر وفوائد. (وأنا الحاشر، ونبيّ الملاحم» ) - بفتح الميم وكسر الحاء المهملة- جمع الملحمة؛ وهي: الحرب ذات القتل الشديد، وسمّيت بها!! لاشتباك الناس فيها كالسّدى واللّحمة في الثوب. وقيل: لكثرة لحوم القتل فيها. وسمّي «نبيّ الملاحم!!» لحرصه على الجهاد ومسارعته إليه، ولم يجاهد نبيّ وأمّته ما جاهد المصطفى صلّى الله عليه وسلم وأمّته. أو سمّي «نبيّ الملاحم!!» لأنه سبب لتلاحمهم واجتماعهم. قال الخطّابي: فإن قيل: كيف الجمع بين كونه «نبيّ الرحمة» و «نبيّ الملاحم» ؛ لا سيما مع قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ومعنى (المقفّي) : المتّبع من قبله من الرّسل، وكان آخرهم وخاتمهم. و (الملاحم) هي: الحروب. ففي تسميته صلّى الله عليه وسلّم نبيّ الملاحم إشارة إلى ما بعث به من القتال بالسّيف. ولم يجاهد نبيّ وأمّته قطّ ما جاهد ... ومع قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّما أنا رحمة مهداة» !!؟ فالجواب: أن بعثه صلّى الله عليه وسلم بالحرب والسيف من وجوه الرحمة، لأن الله تعالى أيّد رسله عليهم الصلاة والسلام بالمعجزات، وجرت عادته تعالى في الأمم السابقة أنهم إذا كذّبوا عوجلوا بالعذاب المستأصل إثر التكذيب، واستؤنيء «1» بهذه الأمة؛ ولم يعاجلوا بالعذاب المستأصل، وأمر بجهادهم ليرتدعوا عن الكفر، ولم يجاحوا «2» بالسيف، لأن للسيف بقية، وليس للعذاب المستأصل بقية. ومن وجوه الرحمة: ما صحّ أنّه صلّى الله عليه وسلم جاءه ملك الجبال؛ فقال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحّده؛ ولا يشرك به شيئا» . ومن وجوه الرحمة أيضا: أنّ الله تعالى وضع عن أمّته الإصر والأغلال التي كانت على الأمم قبلها. قال العلماء: وإنما اقتصر على هذه الأسماء!! لأنها معلومة للأمم السابقة؛ بكونها في كتبهم. (ومعنى المقفّي) - بكسر الفاء؛ وفتحها-: (المتّبع من قبله من الرّسل) في أصل التوحيد ومكارم الأخلاق، (وكان آخرهم وخاتمهم) ؛ لكونه قفّى آثارهم. (والملاحم) - بفتح الميم وكسر الحاء المهملة- (هي: الحروب، ففي تسميته صلّى الله عليه وسلم «نبيّ الملاحم» إشارة إلى ما بعث به من القتال بالسّيف) المشعر بكثرة الجهاد مع الكفار في أيام دولته، (ولم يجاهد نبيّ وأمّته قطّ ما جاهد) المصطفى   (1) استؤخر. (2) من الجوح: الهلاك والاستئصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 صلّى الله عليه وسلّم وأمّته. والملاحم الّتي وقعت وتقع بين أمّته وبين الكفّار.. لم يعهد مثلها قبله؛ فإنّ أمّته يقاتلون الكفّار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار إلى أن يقاتلوا الأعور الدّجّال. وفي «التّهذيب» : (سمّاه الله عزّ وجلّ في القرآن رسولا، نبيّا، أمّيّا، شاهدا، مبشّرا، نذيرا، داعيا إلى الله بإذنه، (صلّى الله عليه وسلم وأمّته) ، ونصر بالرعب وأحلّت له الغنائم. واستشعر نقض هذا النفي بنحو قتال يوشع الجبّارين، وقتال داود جالوت، وحمل الإسرائيلي السلاح ألف شهر في سبيل الله؛ فأشار للجواب بقوله: (والملاحم الّتي وقعت وتقع بين أمّته وبين الكفّار لم يعهد مثلها قبله) صلّى الله عليه وسلم، (فإنّ أمّته) لا يزالون (يقاتلون الكفّار في أقطار الأرض) - جمع قطر- بضم القاف- هو: الناحية- (على تعاقب الأعصار) - جمع عصر؛ وهو الدهر- والجهاد ماض ومستمرّ في أمّته منذ بعث الله نبيّه صلّى الله عليه وسلم (إلى أن يقاتلوا) - أي: أمّته- (الأعور الدّجّال) لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، فاستمراره منهم ودوامه لم يوجد لغيرهم، فإنّ قتال من قبلهم؛ وإن حصل فيه شدّة، لكنه مضى وانقطع. (وفي «التّهذيب» ) للإمام النووي رحمه الله تعالى: (سمّاه الله عزّ وجلّ في القرآن) في سورة الأعراف (رسولا نبيّا أمّيّا) ؛ في قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) [157/ الأعراف] ، وفي قوله (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) [158/ الأعراف] والأمّيّ: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسب: إمّا للأمّ؛ لأنه باق على حالته التي ولد عليها، أو ل «أمّ القرى» وهي: مكة، لكونه ولد بها؛ قاله الصاوي. وسمّاه في سورة الأحزاب: (شاهدا) على من أرسل إليهم، (مبشّرا) من صدّقه بالجنة، (نذيرا) منذرا من كذّبه بالنار، (داعيا إلى الله) : إلى طاعته؛ (بإذنه) : بأمره. والحكمة في الإذن: تسهيل الأمر وتيسيره، لأنّ الدخول في الشيء من غير إذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، ومذكّرا، وجعله رحمة ... متعذّر، فإذا حصل الإذن سهل وتيسر. ومن هنا أخذ الأشياخ استعمال الإجازة للمريدين، فمن أجازه أشياخه أشياخه بشيء من العلم والإرشاد؛ فقد سهلت له الطريق وتيسّرت، ومن لم تحصل له الإجازة وتصدّر بنفسه؛ فقد عطّل نفسه وغيره، وانسدّت عليه الطرق؛ قاله الصاوي. (وسراجا منيرا) ؛ أي: مثله في الاهتداء، فهو صلّى الله عليه وسلم تقتبس منه الأنوار الحسيّة والمعنوية، قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (46) [الأحزاب] (و) سمّاه الله تعالى في سورة التوبة (رؤوفا) : شديد الرحمة؛ (رحيما) : يريد لهم الخير. قال تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (128) [التوبة] . قال الحسن بن المفضّل: لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى إلّا للنبي صلّى الله عليه وسلم فسمّاه «رؤفا رحيما» ؛ وقال (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (143) [البقرة] . (و) سمّاه (مذكّرا) في سورة الغاشية في قوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (21) [الغاشية] (وجعله رحمة) للعالمين، ورحمة مهداة، قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] فهو رحمة لجميع الخلق: المؤمن بالهداية، والمنافق بالأمان من القتل، والكافر بتأخير العذاب عنه. وروى الحاكم؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- رفعه: «إنّما أنا رحمة مهداة» . وللطبراني: «بعثت رحمة مهداة» ، قال ابن دحية: معناه: أن الله بعثني رحمة للعباد لا يريد لها عوضا، لأن المهدي إذا كانت هديّته عن رحمة لا يريد لها عوضا. انتهى. وقال أبو بكر بن طاهر- رحمه الله تعالى-: زيّن الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكوّنه وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، وحياته رحمة، وموته رحمة، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم» ، وكما قال «إذا أراد الله رحمة بأمّة قبض نبيّها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا» . انتهى؛ قاله الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ونعمة وهاديا صلّى الله عليه وسلّم. قال: وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما ... (و) جعله (نعمة) - بالكسر-: الحالة الحسنة. فهو صلّى الله عليه وسلم النعمة العظمى على العالم؛ لكونه رحمة للعالمين ونورا. قال سهل بن عبد الله التّستري- في قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) [34/ إبراهيم]- قال: نعمته محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال تعالى (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [83/ النحل] يعني: يعرفون أنّ محمدا نبيّ بالمعجزات الظاهرات ثم يكذّبونه؛ عنادا وافتراء. وهذا التفسير مرويّ عن مجاهد، والسّدّي؛ وقال به الزجّاج. انتهى «زرقاني» . (و) جعله (هاديا صلّى الله عليه وسلم) أي: دالّا، وداعيا؛ أي: ذا دلالة ودعاء، لأنه اسم فاعل من هدى؛ هداية. وأصل معنى الهداية: الدلالة بلطف لما يوصل، أو الموصلة- على الخلاف المشهور-. وهي أنواع: ما يعمّ كلّ مكلّف من العقل والعلوم الضروريّة، ودعاؤه إيّاهم على ألسنة رسله، والتوفيق الذي يختصّ به من اهتدى، والتي في الآخرة في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [43/ الأعراف] ولا يقدر الإنسان يهدي إلا بالدعاء؛ أي: الدعوة. ومنه قوله (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (7) [الرعد] أي: داع. وتطلق على خلق الاهتداء؛ وهو التوفيق، وذلك مختصّ بالله، ولذا قال (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [56/ القصص] . انتهى «زرقاني» . و (قال) ؛ أي النووي أيضا؛ في كتاب «التهذيب» بعد ما سبق-: (وعن) أبي العبّاس عبد الله (بن عبّاس) بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي المكي الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حبر الأمة، وبحر العلوم، وترجمان القرآن، دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحكمة، وحنّكه بريقه حين ولد؛ وهم في الشّعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين في الرواية، وكانت تشدّ إليه الرّحال، ويقصد من جميع الأقطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اسمي في القرآن: محمّد، وفي الإنجيل: أحمد، وفي التّوراة: أحيد، ... روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة حديث وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاريّ بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وكانت وفاته بالطائف سنة: ثمان وستين. وصلّى عليه محمد بن الحنفية، وقال: اليوم مات ربّانيّ هذه الأمّة. رحمه الله تعالى ورضي عنه. آمين. (قال) ؛ أي: ابن عباس؛ فيما أخرجه ابن عدي وابن عساكر بسند واه عنه. (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اسمي في القرآن: محمّد،) هو في الأصل اسم مفعول الفعل المضاعف؛ وهو حمّد، سمّي بذلك إلهاما من الله تعالى، ورجاء لكثرة الحمد له. ولذلك قال جدّه (لما قيل له: لم سمّيت ابنك محمدا؟ وليس من أسماء آبائك ولا قومك!!) : رجوت أن يحمد في السماء والأرض. وقد حقّق الله رجاءه، فإنّ الله حمده حمدا كثيرا بالغا غاية الكمال، وكذلك الملائكة والأنبياء والأولياء في كلّ حال، وأيضا يحمده الأوّلون والآخرون وهم تحت لوائه يوم القيامة عند الشفاعة العظمى. (وفي الإنجيل: أحمد،) هو في الأصل أفعل تفضيل، سمّي بذلك!! لأنه أحمد الحامدين لربّه. ففي «الصحيح» : أنه يفتح عليه يوم القيامة بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله. ولذلك يعقد له لواء الحمد، ويخصّ بالمقام المحمود. وبالجملة: فهو أكثر الناس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي «أحمد» و «محمد» . ولهذين الاسمين الشريفين مزيّة على سائر الأسماء؛ فينبغي تحرّي التسمية بهما. (وفي التّوراة أحيد،) - بهمزة مضمومة، ثم حاء مهملة مكسورة؛ فمثناة تحتية ساكنة، ثم دال مهملة- هكذا ضبطه بعضهم على وزن الفعل فهو عربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وإنّما سمّيت أحيد لأنّي أحيد أمّتي عن نار جهنّم» . وزاد نقلا عن ابن عساكر: ... والمشهور ضبطه [أحيد]- بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية؛ على وزن اسم التفضيل-، وبه ضبطه البرهان في «المقتفى» . قال الشّمنيّ: وهو المحفوظ. وهو غير عربي. (وإنّما سمّيت «أحيد» لأنّي أحيد أمّتي عن نار جهنّم» ) ؛ أي: أدفعهم وأباعدهم عنها بشفاعتي. أو لأنّه حاد عن الطريق الباطل، وعدل بأمّتّه إلى سبيل الحق. وهو غير منصرف؛ للعلمية والعجمة على الثاني، أو وزن الفعل مع العلمية على الأول. نقله الشامي؛ عن البلقيني. (وزاد) - أي: النووي في «التهذيب» - (نقلا عن) «تاريخ دمشق» للإمام علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي الدمشقي أبي القاسم (ابن عساكر) ؛ أحد أكابر حفاظ الحديث ومن عني به؛ سماعا وجمعا، وتصنيفا واطلاعا، وحفظا لأسانيده ومتونه، وإتقانه لأساليبه وفنونه. وقد أكثر في طلب الحديث من الترحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وهو رفيق أبي سعد بن السّمعاني (صاحب «الأنساب» ) في رحلاته. وكان «1» ولادة ابن عساكر في دمشق سنة: - 499- تسع وتسعين وأربعمائة هجرية. وصنّف «تاريخ الشام الكبير» في ثمانين مجلدا، فحاز فيه قصب السبق. ومن نظر فيه وتأمّله رأى ما وصفه فيه وأصّله، وحكم بأنه فريد دهره في التواريخ، وأنّه الذروة العلياء من الشماريخ. وقد اختصره الشيخ عبد القادر بدران بحذف الأسانيد والمكرّرات، وسمّى المختصر «تهذيب تاريخ ابن عساكر» . وطبع من «التهذيب» نحو سبعة أجزاء.   (1) يجوز تذكير الفعل وتأنيثه إذا كان الفاعل مؤنثا مجازيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الفاتح، وطه، ... وله غيره من المؤلفات في الحديث. وغيره؛ مثل: «أطراف الكتب الستة» ، و «المعجم المشتمل لشيوخ النبل» ، و «كشف المغطّى في فضل الموطّا» ، و «تبيين الامتنان في الأمر بالاختتان» . وكتاب «أربعين حديثا عن أربعين شيخا؛ من أربعين مدينة» ، و «تاريخ المزة» ، و «معجم الصحابة» ، و «معجم النسوان» ، و «تهذيب الملتمس من عوالي مالك بن أنس» ، و «معجم أسماء القرى والأمصار» ، و «تبيين كذب المفتري في ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» . وكانت وفاته في الحادي عشر من رجب الحرام سنة: - 571- إحدى وسبعين وخمسمائة، وعمره: اثنان وسبعون سنة. وحضر السلطان صلاح الدين جنازته، ودفن بمقابر باب الصغير. رحمه الله تعالى. آمين. ( «الفاتح) في حديث الإسراء؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا؛ من طريق الربيع بن أنس: قول الله تعالى له فيما خاطبه به ليلة المعراج: «وجعلتك فاتحا وخاتما» . وفي حديث أبي هريرة أيضا في الإسراء قوله صلّى الله عليه وسلم حين أثنى على ربه: «وجعلني فاتحا وخاتما» ، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا، وفتح أمصار الكفر، وفتح أبواب الجنة، وفتح به أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا، وفتح به طرق العلم النافع، وطرق العمل الصالح؛ فسلكهما المؤمنون. وفتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار، وقد يكون المراد ب «الفاتح» : المبدّأ، أي: المقدّم في الأنبياء والخاتم لهم. كما قال عليه الصلاة والسلام: «كنت أوّل النّبيّين في الخلق وآخرهم في البعث» . انتهى؛ من «المواهب» . (وطه) روى الحافظ النقّاش؛ عنه عليه الصلاة والسلام: «لي في القرآن سبعة أسماء: محمّد، وأحمد، وياسين، وطه، والمزّمّل، والمدّثّر، وعبد الله» وهذا إن صحّ؛ فيفيد أنّ خمسة في حديث جبير بن مطعم السابق الواقع في بعض الروايات، المراد منها: الحصر المقيّد؛ لا المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وياسين، ... وقد روى ابن عدي في «الكامل» ؛ عن جابر وغيره مرفوعا: «إنّ لي عند ربّي عشرة أسماء» فذكر الخمسة التي في حديث جبير؛ وزاد: «وأنا رسول الرّحمة، ورسول التّوبة، ورسول الملاحم، وأنا المقفّي؛ قفّيت النّبيّين عامّة، وأنا قثم» : والقثم: الكامل الجامع. وروى ابن مردويه، وأبو نعيم في «الدلائل» ؛ عن أبي الطفيل رفعه: «لي عشرة أسماء عند ربّي: أنا محمّد، وأنا أحمد، والفاتح، والخاتم، وأبو القاسم، والحاشر، والعاقب، والماحي، وياسين، وطه» . قيل: معنى طه: يا رجل. وقيل: هو اسم الله. وقيل معناه: يا انسان. وقيل معناه: يا طاهر؛ يا هادي، وقيل معناه: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملّة. (وياسين) ، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: «لي عند ربّي عشرة أسماء» ... الحديث السابق آنفا الذي رواه ابن مردويه وأبو نعيم؛ عن أبي الطّفيل، لكن ضعّفه ابن دحية؛ وتبعه السيوطي بأنّ فيه أبا يحيى وضّاع، وسيف بن وهب ضعيف. قال الشامي: وليس كذلك، فإن أبا يحيى التيميّ اثنان: 1- إسماعيل بن يحيى الوضّاع المجمع على تركه؛ وليس هو الذي في سند هذا الحديث!!. و2- إسماعيل بن إبراهيم التيمي، كذا سمّي هو وأبوه في رواية ابن عساكر؛ وهو- كما قال الحافظ في «التقريب» - ضعيف. انتهى. أي: لا وضّاع، فيكون في سنده ضعيفان، فهو ضعيف فقط. ورواه البيهقيّ؛ عن محمد بن الحنفية مرسلا؛ فيعتضد. انتهى «زرقاني» . وقيل: معنى ياسين: «يا إنسان» بلغة طي؛ قاله ابن عباس والحسن. وقيل: يا محمد؛ قاله ابن الحنفية والضحّاك. وقيل: يا رجل؛ قاله أبو العالية. وعن أبي بكر الوراق: يا سيّد البشر. وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيّد؛ مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه من تعظيمه وتمجيده ما لا يخفى. انتهى «مواهب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وعبد الله، ... (وعبد الله) ، سمّاه الله تعالى به في أشرف مقاماته صريحا؛ في قوله (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ) [19/ الجن] . أو معنى؛ كبقية الآيات لإضافة «عبد» فيها إلى ضميره تعالى، فساوى في المعنى «عبد الله» فلا يرد: أنّه لم يسمّه به إلّا في آية واحدة. قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [23/ البقرة] . (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (1) [1/ الفرقان] ، وقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [1/ الكهف] ، فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه، وفي مقام التحدّي بأن يأتوا بمثله، وقال تعالى (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) [19/ الجن] فذكره في مقام الدعوة إليه بالعبودية، وقال تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [1/ الإسراء] ، وقال (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) [10/ النجم] . ولو كان له اسم أشرف منه لسمّاه به في تلك الحالات العلية!!. ولمّا رفعه الله تعالى إلى حضرته السنيّة، ورقّاه إلى أعلى المعالي العلوية، ألزمه- تشريفا له- اسم العبودية. وقد جمع بين صفتها ظاهرا وباطنا؛ فكان يجلس للأكل جلوس العبد، وكان يتخلّى عن وجوه الترفّعات كلّها في مأكله وملبسه ومبيته ومسكنه، كما يأتي تفصيل ذلك كلّه في شمائله؛ إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان، صدقا عمّا في باطنه من تحقّق العبودية لربّه، تحقيقا لمعنى (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [33/ الزمر] . ولما خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا؛ اختار أن يكون نبيّا عبدا، فاختار ما هو الأتمّ، فكان صلّى الله عليه وسلم يقول- كما في «الصحيح» ؛ من حديث عمر-: «لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى، ولكن قولوا (عبد الله ورسوله) » . فأثبت ما هو ثابت له من العبودية والرّسالة، وأسلم لله ما هو له؛ لا لسواه. وليس للعبد إلّا اسم العبد، ولذا كان «عبد الله» أحبّ الأسماء إلى الله؛ كما قال صلّى الله عليه وسلم: «أحبّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن» . رواه مسلم. انتهى «مواهب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وخاتم الأنبياء. وقال القسطلّانيّ في «المواهب» ، والباجوريّ في «حاشية الشّمائل» : ذكر صاحب كتاب «شوق العروس وأنس النّفوس» ، وهو حسين بن محمّد الدّامغانيّ نقلا عن كعب الأخبار (وخاتم الأنبياء) ؛ هو اسم مستقلّ في العدّ؛ وإن كان بمعنى خاتم النبيين. (وقال) العلّامة الحافظ أبو العبّاس: أحمد بن محمد شهاب الدين (القسطلّانيّ) المصريّ الشافعي رحمه الله تعالى؛ (في «المواهب) اللّدنيّة بالمنح المحمّديّة» . الذي كلّه حسنات، (و) الإمام العالم العامل برهان الدين: إبراهيم بن محمد بن أحمد (الباجوريّ) شيخ الجامع الأزهر؛ (في «حاشية الشّمائل» ) الترمذية المسماة «المواهب اللدنيّة على الشمائل المحمديّة» (ذكر صاحب كتاب «شوق العروس، وأنس النّفوس» ؛ وهو) الإمام أبو عبد الله: (حسين بن محمّد) بن إبراهيم (الدّامغانيّ) - بفتح الميم والمعجمة- نسبة إلى «دامغان» : مدينة من بلاد «قومس» المتوفّى سنة: - 478- ثمان وسبعين وأربعمائة هجرية، رحمه الله تعالى، من مؤلفاته كتاب «الزوائد والنظائر وفوائد البصائر» ، و «شوق العروس وأنس النفوس» ، وكذا ذكره الحافظ ابن الجوزيّ في كتاب «التّبصرة» ؛ (نقلا عن) أبي إسحاق (كعب الأحبار) التابعيّ المشهور ابن ماتع بن هينوع- ويقال: هيسوع- ويقال: عمرو بن قيس بن معن بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن جمهر بن قطن بن عوف بن زهير بن أيمن بن حمير بن سبأ الحميري. أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ ولم يره، وأسلم في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما. وصحب عمر وأكثر الرواية عنه، وروى أيضا عن صهيب، وروى عنه جماعة من الصحابة؛ منهم ابن عمر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وأبو هريرة، وخلائق من التابعين؛ منهم ابن المسيّب. وكان يسكن حمص، ذكره أبو الدرداء، فقال: إن عنده علما كثيرا. واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه. ولا عبرة بكلام من طعن فيه؛ كابن كثير في «البداية» . وكان قبل إسلامه على دين اليهود، وكان يسكن اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أنّه قال: اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند أهل الجنّة: عبد الكريم، وعند أهل النّار: عبد الجبّار، وعند أهل العرش: عبد الحميد، وعند سائر الملائكة: عبد المجيد، وعند الأنبياء: عبد الوهّاب، وعند الشّياطين: عبد القهّار، ... وتوفّي في خلافة عثمان سنة: اثنتين وثلاثين؛ وقد جاوز المائة، ودفن بحمص متوجّها إلى الغزو. وما وقع في «الكشاف» وغيره «أنّه أدرك زمن معاوية» !! فلا عبرة به. وروى له الستّة؛ إلا البخاري، فإنّ له فيه حكاية لمعاوية عنده. ومناقبه وحكمه وأحواله كثيرة مشهورة. رحمه الله تعالى آمين. (أنّه قال) - فيما تلقّاه من الكتب السابقة؛ لأنّه حبرها-: (اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عند أهل الجنّة «عبد الكريم» ) ، لأنّ الذي أوصلهم إليها فتكرّم الله عليهم فيها بما لا عين رأت؛ ولا أذن سمعت؛ ولا خطر على قلب بشر: هو المصطفى صلّى الله عليه وسلم بشفاعته في فصل القضاء الذي تنصّل منه الرؤساء، ولأنّه الذي ابتدأ فتح بابها لهم، ولأنّ تكرّم الله عليه فيها لا يضارعه شيء. (وعند أهل النّار «عبد الجبّار» ) لأنّه جبرهم وقهرهم بالخلود فيها؛ لمخالفته صلّى الله عليه وسلم، ومخالفة من قبله، لأنّ تكذيب واحد تكذيب للجميع (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (105) [الشعراء] . (وعند أهل العرش «عبد الحميد» ) لحمده على إسرائه إليه، وحمدهم على رؤيته صلّى الله عليه وسلم عنده. (وعند سائر الملائكة «عبد المجيد» ) ، لأنّ كلا منهم يمجّد الله تعالى ويعبده بنوع، وجمعها الله كلّها له صلّى الله عليه وسلم. (وعند الأنبياء «عبد الوهّاب» ) ، لأنّ الله تعالى وهبهم النبوّة والآيات البينات، ثم وهبه ما وهبهم ورفعه عليهم درجات. (وعند الشّياطين «عبد القهّار» ) ؛ لأنه قهرهم وأذلّهم ببعثته، ومنعهم من استراق السمع وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وعند الجنّ: عبد الرّحيم، وفي الجبال: عبد الخالق، وفي البراري: عبد القادر، وفي البحار: عبد المهيمن، وعند الحيتان: عبد القدّوس، وعند الهوامّ: عبد الغياث، وعند الوحوش: عبد الرّزّاق، وعند السّباع: عبد السّلام، وعند البهائم: عبد المؤمن، وعند الطّيور: عبد الغفّار، ... (وعند الجنّ «عبد الرّحيم» ) ؛ لأنه رحمهم برسالته؛ فلم يكلّفهم الأعمال الشاقّة كالمحاريب والتماثيل، وعادت بركته على كثير منهم فآمنوا به. (وفي الجبال «عبد الخالق» ) ؛ الذي خلقه بشرا ليس كالأبشار، كما أنّه خلقها أرضا؛ لا كالأرض. (وفي البراري «عبد القادر» ) ؛ الذي من قدرته أنّه خلق منه سيّد الأوّلين والآخرين. (وفي البحار «عبد المهيمن» ) ، لأنّه أجلّ من يؤمن بأنّه لا يحصي قطراته، ولا يحفظه إلّا الله تعالى. (وعند الحيتان «عبد القدّوس» ) لأنّها؛ وإن قدّست الله تعالى كثيرا حتى قيل: ما صيدت سمكة حتى ينقطع تسبيحها؛ فهو في جنب تقديسه صلّى الله عليه وسلم لا شيء. (وعند الهوامّ «عبد الغياث» ) ؛ الذي أغاث الناس من أذاها ببركته، ثم أغاثها هي بأن سخّر لها رزقها ببركته. (وعند الوحوش «عبد الرّزّاق» ) ؛ الذي يرزقها ببركة هذا الذي كلّه رحمة للعالمين. (وعند السّباع «عبد السّلام» ) ؛ الذي سلّم الناس من عدائها. (وعند البهائم «عبد المؤمن» ) ، لأنه أجلّ من يؤمن بأن تسخيرها منه تعالى. (وعند الطّيور «عبد الغفّار» ) ؛ الذي يغفر الذنوب ويسترها أقوى من سترها بيضها وفراخها بجناحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وفي التّوراة: مؤذ مؤذ، وفي الإنجيل: طاب طاب، وفي الصّحف: عاقب، وفي الزّبور: فاروق، وعند الله: طه، وياسين، وعند المؤمنين: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. (وفي التّوراة «موذ.. موذ» ) بالتكرير، ويروى بألف بدل الواو: «ماذ ماذ» ؛ ومعناه: طيّب.. طيّب. ولا ريب أنّه صلّى الله عليه وسلم طيّب الطيّبين، وحسبك أنّه كان يؤخذ من عرقه ليطيّب به، فهو صلّى الله عليه وسلم طيّب الله نفحه في الوجود؛ فتعطّرت به الكائنات وسمت، واغتذت به القلوب فطابت، وتنسّمت به الأرواح فنمت؛ قاله في «المواهب» . وقال المصنّف في كتاب «الأسمى فيما لسيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من الأسما» : وقد بسط الكلام على «ماذ.. ماذ» ابن القيّم في «جلاء الأفهام» ، ونقلته عنه في «سعادة الدارين» ، وهو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة. ومن عرف قاعدة لغتهم ونطقهم بالحروف: علم يقينا أنّ معناه محمّد بلا شك، ومن راجع عبارة ابن القيم المذكورة يظهر له ذلك ظهورا بيّنا. انتهى. (وفي الإنجيل «طاب.. طاب» ) بالتكرير، قال العزفي: من أسمائه في التوراة. ومعناه طيب. وقيل: معناه ما ذكر بين قوم إلّا طاب ذكره بينهم. (وفي الصّحف) التي نزّلت على موسى قبل التوراة؛ وصحف إبراهيم: ( «عاقب» ) هو الذي جاء عقب الأنبياء فليس بعده نبيّ، لأن العاقب هو الآخر؛ أي: عقب الأنبياء. قيل: وهو اسمه في النار. فإذا جاء لحرمة شفاعته خمدت النار، وسكنت. كما روي أنّ قوما من حملة القرآن يدخلونها فينسيهم الله تعالى ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم. حتى يذكّرهم جبريل فيذكرونه؛ فتخمد النار وتنزوي عنهم. (وفي الزّبور «فاروق» ) هو: كثير الفرق بين الحق والباطل. (وعند الله «طه» و «ياسين» ) تقدّم الكلام عليهما. (وعند المؤمنين «محمّد» صلّى الله عليه وسلم) تقدّم الكلام عليه أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وكنيته: أبو القاسم؛ لأنّه يقسم الجنّة بين أهلها. قال كعب الأحبار: (وكنيته) - قال الحافظ ابن حجر: بضمّ الكاف وسكون النون؛ من الكناية، تقول (كنيت عن الأمر) إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحا- واشتهرت الكنى في العرب حتّى ربما غلبت على الأسماء ك «أبي طالب» ، وقد يكون للواحد كنية فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعا. فالاسم والكنية واللّقب يجمعها العلم- بفتحتين- وتتغاير بأن اللّقب: ما أشعر بمدح أو ذمّ، والكنية: ما صدّرت ب «أب» أو «أم» ، وما عدا ذلك؛ فالاسم. انتهى. وقال ابن الأثير في كتابه «المرصّع» : الكنية من الكناية؛ وهي: أن تتكلّم بالشيء وتريد غيره، جيء بها لاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه؛ كيلا يصرّح في الخطاب باسمه، ومنه قول الشاعر: أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبه، والسّوءة اللّقب ولقد بلغني أن سبب الكنى في العرب: أنّه كان لهم ملك من الأول ولد له ولد توسّم فيه النجابة؛ فشغف به، فلما نشأ وصلح لأدب الملوك أحبّ أن يفرد له موضعا بعيدا عن العمارة، يقيم فيه ويتخلّق بأخلاق مؤدّبيه، ولا يعاشر من يضيّع عليه بعض زمانه، فبنى له في البرّيّة منزلا ونقله إليه، ورتّب له من يؤدّبه بأنواع الآداب العلمية والملكية، وأقام له حاجته من الدنيا، وأضاف له من أقرانه بني عمّه وغيرهم ليؤنسوه ويحببوا إليه الأدب بالموافقة، وكان الملك كلّ سنة يمضي له؛ ومعه من له عنده ولد، فيسأل عنهم ابن الملك؛ فيقال له: هذا أبو فلان، وهذا أبو فلان. للصبيان الذين عنده، فيعرفهم بإضافتهم إلى أبنائهم؛ فظهرت الكنى في العرب. انتهى. (أبو القاسم) باسم أكبر أولاده عند الجمهور. وقال العزفي وغيره: (لأنّه يقسم الجنّة بين أهلها) يوم القيامة. وقيل: لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قوله: (مؤذ مؤذ) : نقل في «المواهب» عن السّهيليّ: جعلت قاسما أقسم بينكم» . وقد جاء تكنيته «بأبي القاسم» في عدّة أحاديث صحيحة؛ كقول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في «الصحيح» : قال أبو القاسم. وقال أنس: كان صلّى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم. فالتفت صلّى الله عليه وسلم، فقال: إني لم أعنك إنّما دعوت فلانا، فقال: «سمّوا باسمي، ولا تكنّوا بكنيتي» . رواه الشيخان البخاري ومسلم. وظاهره المنع مطلقا، وهو المشهور عن الشافعي. وقيل: يختصّ بمن اسمه محمّد، لحديث: نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته. ومذهب مالك وأكثر العلماء- كما قال القاضي عياض في «شرح مسلم» -: الجواز مطلقا. والنّهي مختصّ بزمانه، لإذنه صلّى الله عليه وسلم لجماعة أن يسمّوا من يولد لهم بعده «محمدا» ويكنّوه ب «أبي القاسم» . وهذه أشهر كناه صلّى الله عليه وسلم. (قوله «موذ.. موذ» نقل) العلامة أحمد بن محمد بن علي بن حسن بن إبراهيم الشهاب الحجازي الأنصاري الخزرجي، الفاضل الأديب، الشاعر البارع، صاحب التصانيف، أجاز له العراقيّ والهيثميّ. ومات في رمضان سنة: - 875- خمس وسبعين وثمانمائة. رحمه الله تعالى في «حاشية الشفاء» ؛ كما (في «المواهب) اللّدنيّة» ؛ (عن) الحافظ العلامة البارع أبي القاسم وأبي زيد: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن إصبغ بن حسين بن سعدون الخثعمي الأندلسي المالقي (السّهيليّ) نسبة إلى قرية قريبة من بلد «مالقة» ، سمّيت بالكوكب «سهيل» !! لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلّا من جبل مطلّ على هذه القرية يرتفع- نحو درجتين- ويغيب، الإمام صاحب التصانيف الأنيقة. ولد بإشبيلية سنة- 508- ثمان وخمسمائة هجرية، كان واسع المعرفة غزير العلم، نحويا متقدّما لغويا، بل كان إماما في لسان العرب. عالما بالتفسير وصناعة الحديث، عارفا بالرجال والأنساب، عارفا بعلم الكلام وأصول الفقه، حافظا للتاريخ القديم والحديث، ذكيّا نبيها، صاحب اختراعات واستنباطات مستغربة، وكان ضرير البصر؛ عمي وهو ابن سبع عشرة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أنّه بضمّ الميم، وإشمام الهمزة ضمّا بين الواو والألف، ممدودا. وقال: نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال معناه: طيّب طيّب) انتهى. وحمل الناس عنه، وسمع منه أبو الخطاب ابن دحية الحافظ، وجماعة. وصنّف كتاب «الروض الأنف» كالشرح ل «السيرة النبوية» ، فأجاد وأفاد، وذكر أنّه استخرجه من مائة وعشرين مصنّفا. وله كتاب «التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام» ، و «الإيضاح والتبيين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين» ، و «نتائج الفكر» و «كتاب الفرائض» . قال ابن دحية: كان يتسوّغ بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف، حتى نمي خبره إلى صاحب مرّاكش فطلبه وأحسن إليه، وأقبل عليه. وأقام بها نحوا من ثلاثة أعوام. وتوفي بها في الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة: - 581- إحدى وثمانين وخمسمائة هجرية. رحمه الله تعالى. آمين. (أنّه) ضبطه (بضمّ الميم وإشمام الهمزة؛ ضمّا بين الواو والألف، ممدودا وقال) - أي: السّهيلي-: (نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال) أي: هذا المسلم العالم-: (معناه: طيّب.. طيّب) . والتكرار للتأكيد، أو المراد طيّب في نفسه؛ أو دنياه، وطيّب في صفاته وآخرته. وكونه اسما واحدا مثل «مرمر» أو مركّب خلاف الأصل. وزعم أنّ داله مهملة لم يقله أحد. (انتهى) كلام «المواهب» مع شيء من الشرح. وقال المصنف بعد أن ذكر «موذ ماذ» . و «ماذ ماذ» ، و «موذ موذ» و «ميذ ميذ» ؛ كلّها بمعنى محمّد. وقد بسط الكلام على (ماذ ماذ) ابن القيم في «جلاء الأفهام» ، ونقلته عنه في «سعادة الدارين» . وهو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة. ومن عرف قاعدة لغتهم ونطقهم بالحروف؛ علم يقينا أنّه محمد بلا شك. ومن راجع عبارة ابن القيم المذكورة يظهر له ذلك ظهورا بيّنا. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فيكون بمعنى الاسم الآخر وهو: (طاب.. طاب) . وأمّا الفاروق: فهو الّذي يفرّق بين الحقّ والباطل، وهو معنى اسم (البار قليط) المذكور في «إنجيل يوحنّا» . وقد ألّف خاتمة الحفّاظ جلال الدّين السّيوطيّ رسالة سمّاها: «البهجة السّنيّة في الأسماء النّبويّة» جمع ... وأما على ما نقله السّهيلي عن العالم الإسرائيلي! (فيكون بمعنى الاسم الآخر، وهو «طاب.. طاب» في أنّ كلّا منهما معناه طيّب. (وأمّا الفاروق! فهو الّذي يفرّق بين الحقّ والباطل) ، وقد سبق لنا: أنّ معناه كثير الفرق بين الحق والباطل، (وهو معنى اسم «البار قليط» ) ؛ بالموحدة- «وبالفاء بدلها» - وفتح الراء والقاف بعدها لام مكسورة فتحتية ساكنة فطاء مهملة؛ وبسكون الراء مع فتح القاف بعدها لام مكسورة، وبفتح الراء مع سكون القاف، وكسر الراء وسكون القاف. قال ثعلب: معنى البار قليط الذي يفرّق بين الحق والباطل. وقيل معناه: روح الحق، لأنّه صلّى الله عليه وسلم قائم بالحق؛ كقيام الروح بالحيوان. قال التقي الشمنّي: وأكثر أهل الإنجيل على أن معناه المخلّص، وهذا الاسم هو (المذكور في إنجيل يوحنّا) ، من أتباع عيسى؛ وليس نبيّا. إذ ليس بين عيسى ونبينا نبيّ، كما قال صلّى الله عليه وسلم وهو الصحيح. وقال صاحب «الخميس» ؛ عن «المنتقى» : إنما قال في «إنجيل يوحنا» !! لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين: متّى، ويوحنّا، وقيسر، ولوقا. فتكلّم كلّ واحد من هؤلاء بعبارة لملاءمة الذين اتبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافا شديدا. (وقد ألّف) الإمام العلّامة المجتهد (خاتمة الحفّاظ) الجامع بين الشريعة والحقيقة؛ نادرة علماء الدنيا الحافظ: (جلال الدّين) عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر (السّيوطيّ) نسبة إلى «إسيوط» ؛ قرية من قرى مصر. وقد تقدّمت ترجمته- (رسالة سمّاها «البهجة السّنيّة في الأسماء النّبويّة» جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فيها نحو الخمس مئة. ونقل في «المواهب» عن كتاب «أحكام القرآن» لأبي بكر ابن العربيّ: أنّ لله تعالى ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألف اسم. قال القسطلّانيّ: (والمراد: الأوصاف، فكلّ الأسماء الّتي وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك.. فله صلّى الله عليه وسلّم من كلّ وصف اسم. فيها) من الأسماء (نحو الخمس مائة) ، وألّف قبله الحافظ ابن دحية كتابا سمّاه «المستوفى في أسماء المصطفى صلّى الله عليه وسلم» في نحو مجلّدين، جمع فيه للنبي صلّى الله عليه وسلم فوق الثلاث مئة. وذكر أماكنها في القرآن والأخبار، وضبط ألفاظها، وشرح معانيها. واستطرد كعادته إلى فوائد كثيرة غالبها صفات له صلّى الله عليه وسلم. قال ملّا علي قاري: وكان شيخ مشايخنا السيوطيّ اختصره في كراريس؛ وسمّاه «بالبهجة البهية في الأسماء النبوية» . (ونقل) ؛- أي: القسطلّاني- (في «المواهب) اللّدنّية» ؛ (عن كتاب «أحكام القرآن» ) ، وكذلك في «عارضة الأحوذي شرح الترمذي» - كما تقدّم- وكلاهما (لأبي بكر بن العربيّ) المالكي المشهور: (أنّ لله تعالى ألف اسم) وهذا العدد قليل في حقه تعالى، (وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف اسم) قال الشامي: والذي وقفت عليه من ذلك: خمس مائة اسم. مع أن في كثير منها نظرا. (قال) العلامة (القسطلّانيّ) في «المواهب اللدنية» : (والمراد الأوصاف) ، لا أنّها كلّها أعلام وضعت له! (فكلّ الأسماء الّتي وردت أوصاف مدح) ، وكثير ما يطلق الاسم على الصفة للتغليب، أو لاشتراكهما في تعريف الذات وتمييزها عن غيرها. (وإذا كان كذلك؛ فله صلّى الله عليه وسلم من كلّ وصف اسم) . قال ابن عساكر: وإذ اشتقّت أسماؤه من صفاته كثرت جدا. انتهى. ويمكن أن هذا مستند من قال من الصوفية: «إنّها ألف» - كما تقدم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ثمّ إنّ منها ما هو مختصّ به، أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك. وكلّ ذلك بيّن بالمشاهدة لا يخفى. وإذا جعلنا له من كلّ وصف من أوصافه اسما.. بلغت أسماؤه ما ذكر، بل أكثر. قال: والّذي رأيته في كلام شيخنا- يعني الحافظ السّخاويّ-.. (ثمّ إنّ منها ما هو مختصّ به؛ أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك) بينه وبين غيره، (وكلّ ذلك بيّن بالمشاهدة لا يخفى) . وقال ابن القيّم: ينبغي أن يفرّق بين 1- الوصف المختصّ به؛ أو الغالب عليه؛ فيشتق له منه اسم، وبين 2- المشترك فلا يكون له منه اسم يخصّه. قال الزرقاني: قال شيخنا: ولا منافاة، لجواز أن مراده إذا ورد مصدر؛ أو فعل معناه مشترك بينه وبين غيره؛ ثم اشتقّ له منه اسم لا يكون مختصّا به، بل هو باق على اشتراكه، ولكنه يحمل عليه بقرينة. (وإذا جعلنا له من كلّ وصف من أوصافه اسما بلغت أسماؤه ما ذكر) - أي: ابن دحية من الثلاث مائة- (بل) بلغت (أكثر) . و «بل» انتقالية. (قال) - أي- القسطلّاني: (والّذي رأيته في كلام شيخنا يعني: الحافظ) محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد شمس الدين (السّخاويّ) الأصل؛ نسبة إلى «سخا» ؛ قرية من قرى مصر، القاهري الشافعي المؤرّخ الحجّة الثبت، العلامة؛ في التفسير والحديث والأدب. ولد في ربيع الأول سنة: - 831- إحدى وثلاثين وثمان مائة بالقاهرة، أخذ عن مشايخ عصره بمصر ونواحيها حتى بلغوا أربعمائة شيخ؛ منهم ابن هشام، والعلم البلقيني، والشرف المناوي، والشمنّي، وابن الهمام، وابن حجر، ولازمه وانتفع به؛ وتخرّج به في الحديث. وأقبل على هذا الشأن بكليته وتدّرب فيه، وسمع العالي والنازل، وساح البلدان سياحة طويلة. وحجّ مرات، وجاور هو وأهله وأولاده بالحرمين مجاورات، وانتفع به أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في «القول البديع» ، والقاضي عياض في «الشّفا» ، وابن العربيّ في «القبس» و «الأحكام» ، وابن سيّد النّاس ... الحرمين، وبرع في الحديث وفاق الأقران، وحفظ من الحديث ما صار به متفرّدا عن أهل عصره، وطار اسمه في الآفاق، وأخذ عنه علماء الآفاق، من المشايخ والطلبة والرفاق. وله اليد الطّولى في المعرفة بأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، وبعده مات فنّ الحديث، وأسف الناس على فقده؛ ولم يخلّف بعده مثله. وصنّف زهاء مائتي كتاب أشهرها «الضوء اللامع» في أهل القرن التاسع. ولو لم يكن له إلّا هذا الكتاب؛ لكان أعظم دليل على إمامته. وكانت وفاته بالمدينة المنورة في عصر يوم الأحد سادس عشر شعبان سنة: 902- تسع مائة واثنتين هجرية، رحمه الله تعالى رحمة الأبرار. (في «القول البديع) في الصلاة على الحبيب الشفيع» ، (و) في كلام الإمام العلّامة (القاضي عياض) بن موسى اليحصبي رحمه الله تعالى- وقد تقدّمت ترجمته- (في «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى» . الذي كلّه حسنات، (و) في كلام الحافظ القاضي أبي بكر (ابن العربيّ) المالكي (في «القبس) على موطأ مالك بن أنس» ، (و) في ( «الأحكام» ) له (و) في كلام الإمام العلامة المحدّث الحافظ الأديب البارع: أبي الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن محمد بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز (ابن سيّد النّاس) بن أبي الوليد بن منذر بن عبد الجبار بن سليمان اليعمري الأندلسيّ الأصل، المصري. ولد في ذي القعدة سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة، وسمع من خلائق نحو الألف، ولازم ابن دقيق العيد وتخرّج عليه، وأعاد عنده عليه، وكان يحبّه ويثني عليه، وأخذ العربية عن البهاء ابن النحّاس. وكتب الخط المغربي والمصري فأتقنهما، وكان أحد الأعلام الحفّاظ؛ إماما في الحديث، ناقدا في الفن، خبيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وغيرهم.. يزيد على الأربع مئة، ثمّ سردها مرتّبة على حروف المعجم) . وذكر منها الإمام الجزوليّ ... بالرجال والعلل والأسانيد، عالما بالصحيح والسقيم، حسن التصنيف، صحيح العقيدة، أديبا شاعرا بارعا، متفنّنا في البلاغة، ناظما ناثرا مترسّلا. وصنف «السيرة الكبرى» ، و «الصغرى» ، و «شرح الترمذي» ولم يكمله، فكمّل عليه الحافظ العراقي؛ ولم يتمّ أيضا. ومات في شعبان سنة: - 734- أربع وثلاثين وسبعمائة هجرية رحمه الله تعالى؛ ولم يخلّف في مجموعه مثله. رحمه الله تعالى. آمين. (وغيرهم يزيد على الأربعمائة) قال السيوطي: وكثير منها لم يرد بلفظ الاسم، بل بصيغة المصدر، أو الفعل. وقد اعتبر ذلك عياض وابن دحية، وهو خلاف ما اعتبره الجمهور؛ خصوصا أهل الحديث في أسمائه تعالى. انتهى. ونقل الغزالي الاتفاق- وأقرّه في «الفتح» - على أنّه لا يجوز لنا أن نسمّيه صلّى الله عليه وسلم باسم لم يسمّه به أبوه؛ ولا سمّى به نفسه. انتهى. أي: لا يجوز أن نخترع له علما؛ وإن دلّ على صفة كمال، ولا يرد على الاتفاق وجود الخلاف في أسمائه تعالى، لأن صفات الكمال كلّها ثابتة له عزّ وجلّ، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما يطلق عليه صفات الكمال اللائقة بالبشر، فلو جوّز ما لم يرد به سماع لربّما وصف بأوصاف تليق بالله دونه على سبيل الغفلة؛ فيقع الواصف في محظور وهو لا يشعر. (ثمّ سردها) ؛ أي: الأسماء التي وقف عليها؛ أي: ذكرها (مرتّبة على حروف) الخط (المعجم) ؛ اسم مفعول من أعجمت الكتاب بالألف: أزلت عجمته بما يميّزه عن غيره بنقط وشكل؛ كما في «المصباح» ، وكأنّه أراد الإزالة الكاملة، وإلّا! فهي حاصلة بالنّقط فيما ينقط كجيم وباء، فلا حاجة لزيادة، والإهمال. انتهى «زرقاني» . (وذكر منها الإمام) العلّامة الوليّ الصالح محمد بن سليمان بن عبد الرحمن (الجزوليّ) السّملالي الشريف الحسني الشاذلي. صاحب «دلائل الخيرات» ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 في «دلائل الخيرات» ... من أهل «سوس» المراكشية. تفقّه «بفاس» ، وحفظ «المدوّنة» في فقه مالك وغيرها. وحجّ وقام بسياحة طويلة ثم استقرّ «بفاس» . ودخل الخلوة للعبادة نحو أربعة عشر عاما، ثم خرج للانتفاع به، فأخذ في تربية المريدين، وتاب على يده خلق كثير، وانتشر ذكره في الآفاق، وظهرت له الخوارق العظيمة، والكرامات الجسيمة والمناقب الفخيمة، واجتمع عنده من المريدين أكثر من اثني عشر ألفا. ومن كراماته رضي الله عنه أنّه بعد وفاته بسبع وسبعين سنة نقلوه من قبره في بلاد سوس إلى مراكش، فوجدوه كهيئته يوم دفن ولم تقدر عليه الأرض، ولم يغيّر طول الزمن من أحواله شيئا، وأثر الحلق من شعر رأسه ولحيته ظاهر كحاله يوم موته، إذ كان قريب العهد بالحلق. ووضع بعض الحاضرين إصبعه على وجهه حاصرا بها فحصر الدم عما تحتها؛ فلما رفع إصبعه رجع الدم، كما يقع ذلك في الحي. وقبره بمراكش عليه جلالة عظيمة، والناس يزدحمون عليه، ويكثرون من قراءة «الدلائل» عنده. وثبت أن رائحة المسك توجد من قبره من كثرة صلاته على النبي صلّى الله عليه وسلم. والجزولي نسبة إلى «جزولة» أو «كزولة» ؛ بطن من البربر، وكانت وفاته سنة: - 870- سبعين وثمانمائة رحمه الله تعالى آمين، وأعاد علينا من بركاته آمين؛ (في) كتابه ( «دلائل الخيرات» ) الذي قيل؛ في سبب تأليفه: إنّ مؤلّفه سيّدي محمد بن سليمان الجزولي حضره وقت الصلاة، فقام يتوضّأ؛ فلم يجد ما يخرج به الماء من البئر. فبينما هو كذلك إذ نظرت إليه صبيّة من مكان عال؛ فقالت له: من أنت؟ فأخبرها. فقالت له: أنت الرجل الذي يثنى عليك بالخير؛ وتتحيّر فيما تخرّج به الماء من البئر!! فبصقت في البئر ففاض ماؤها على وجه الأرض، فقال الشيخ بعد أن فرغ من وضوئه: أقسمت عليك؛ بم نلت هذه المرتبة؟! فقالت: بكثرة الصلاة على من كان إذا مشى في البرّ الأقفر تعلّقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 مئتين وواحدا. الوحوش بأذياله صلّى الله عليه وسلم. فحلف يمينا أن يؤلّف كتابا في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم. (مائتين وواحدا) قال الفاسي شارح «الدلائل» : وهو جمع الشيخ أبي عمران الزّناتي أتى بها الجزولي على ترتيبه ولفظه. انتهى. ثم جاء بعد الجزولي الحافظ السّيوطي؛ فجمع منها ما ذكره ابن دحية وغيره، وما استخرجه هو من القرآن والحديث؛ فبلغ ذلك ثلثمائة وبضعة وأربعين اسما. وشرحها بكتاب سمّاه «الرياض الأنيقة في أسماء خير الخليقة» صلّى الله عليه وسلم. وجمعها معاصره الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه «القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع» صلّى الله عليه وسلم، فأبلغها إلى أربعمائة وثلاثين اسما. ثم ذكرها القسطلّاني تلميذ السّخاوي في «المواهب اللدنيّة» ، وزاد على شيخه المذكور قليلا. ثم أبلغها الحافظ الشاميّ تلميذ الحافظ السيوطي إلى أكثر من ثمانمائة. وذكر زياداته الزرقانيّ في «شرح المواهب» مفرّقة في حروفها. وكلّهم رتّبوها على الحروف ماعدا صاحب «الدلائل» . وكلّ واحد منهم ذكر أسماء لم يذكرها غيره، حتى إنّ صاحب «الدلائل» الذي هو أقلّهم عددا ومتقدّم عليهم في الزمن؛ ذكر منها أسماء لم يذكروها. ثم جاء المصنّف الشيخ يوسف النبهاني فجمع جميع ما ذكروه كلّهم في مؤلّف مختصر سمّاه كتاب «الأسمى فيما لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من الأسما» ؛ فبلغت نحو الثمانمائة وستين اسما مرتّبة على حروف المعجم شرحها شرحا مختصرا. ولم يجتمع هذا العدد لأحد غير المصنّف في هذا الكتاب. ثم نظم هذا المؤلّف في رسالة مزدوجة سمّاها «أحسن الوسائل في نظم أسماء النبي الكامل» وحذف من المزدوجة الأسماء الأعجمية؛ ك «البار قليط» ، واشتملت المزدوجة على نحو ثمانمائة وأربعة وعشرين اسما، والتزم في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 المزدوجة في الشطر الخامس أن يذكر فيه ضمير النبي صلّى الله عليه وسلم لتتمكّن الصلاة عليه، وهذا أوّل «المزدوجة» ، قال رحمه الله تعالى بعد البسملة: الحمد لله الغنيّ الأحد ... الواحد الفرد العليّ الصّمد السّيّد المطلق خير سيّد ... مولي أسامي عبده محمّد خير الورى ذاتا ووضعا وسما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما صلّى عليه ربّنا وشرّفا ... والآل والصّحب وكلّ الحنفا وبعد؛ فاسمع يا محبّ المصطفى ... نظم أساميه تجد فيها الشّفا نظمت منها فيه ما قد علما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما أبلغتها الثّماني المئينا ... بالنّظم والنّيّف والعشرينا نظمتها عقدا له ثمينا ... زيّن صدر عصرنا تزيينا بحسنه فاق اللآلي قيما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما سمّيتها ب «أحسن الوسائل ... في نظم أسماء النّبيّ الكامل» أبغي رضى الله لهذا القائل ... وكلّ قارىء لها وقابل ممّن غدا له محبّا مسلما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما قال المصنف: ويمكن إبلاغ أسمائه الشريفة صلّى الله عليه وسلم إلى الألف، ولكن بذكر أوصافه صلّى الله عليه وسلم المنقولة عن الصحابة في شمائله الشريفة عليه الصلاة والسلام. وقد ذكروا منها كثيرا في أسمائه المجموعة هنا؛ ولكنهم لم يستوفوها، وبقي منها مما لم يذكروه أوصاف كثيرة؛ هي أولى بعدّها في أسمائه صلّى الله عليه وسلم من بعض الأسماء التي ذكروها!! ولعل الحامل لهم على ذلك اشتراط أن تكون أوصافه التي عدّوها في أسمائه صلّى الله عليه وسلم واردة عنه صلّى الله عليه وسلم في الحديث، ولم يعتبروا جميع ما ورد عن الصحابة في وصفه عليه الصلاة والسلام، إلا إذا كان موافقا لما ورد عنه بلفظه صلّى الله عليه وسلم، وإن كان الظاهر خلاف ذلك، فإن كثيرا من الأسماء المذكورة هي من أوصاف شمائله الواردة عنهم ك «الأزجّ» و «الأبلج» و «المفلّج» و «الأدعج» ، وما أشبه ذلك من أوصافه صلّى الله عليه وسلم الواردة عنهم. فقد كان يمكن مع ذكر «الوسيم» في ذكر الأسماء ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقال في «التّهذيب» : (وكنيته صلّى الله عليه وسلّم المشهورة: أبو القاسم، وكنّاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم: أبا إبراهيم) . «القسيم» أيضا، فإنّه وارد منه في «الشمائل» ومعناهما واحد؛ وهو الجميل. وهو أولى من ذكر الجمل التي ذكروها في الأسماء، ولا سيما إذا كان فيها خطاب من الله للمؤمنين؛ كقوله (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) [128/ التوبة] ، أو خطاب من المؤمنين لله كقوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [7/ الفاتحة] ، فقد عدّوا هذين في الأسماء، وعدوا أوصافا لم ترد مورد التسمية؛ مثل «المقصوص عليه» ، «المتلوّ عليه» ... ونحوهما. وعدّوا من أوصاف شمائله الشريفة الواردة عن أصحابه «الأنوار المتجرّد» ومثل هذا كثير في شمائله لم يعدّوه. والقصد أنّهم لو تتبّعوا أوصافه الشريفة الواردة عن أصحابه في الشمائل؛ لوجدوا مثل هذه الأسماء المتقدّمة كثيرا. وكانت تبلغ ألفا أو تزيد، فمن ذلك وصف أصحابه له صلّى الله عليه وسلم بأنه كان فخما مفخّما، حسن الجسم، معتدل الخلق، بادنا ونحو ذلك مما هو مذكور في «الشمائل» من أوصافه الشريفة الواردة عن أصحابه؛ ولم يذكروه في الأسماء، مع أنهم ذكروا ما هو مثله أو أقلّ مناسبة منه، وقد ذكروا في الأسماء «المفخّم» ؛ ولم يذكروا «الفخم» مع أنهما سواء مثل «القسيم» و «الوسيم» !!. وقولهم: إن أكثرها أوصاف لا أسماء أعلام؛ يظهر أنّهم كانوا يتتبعونها من الكتاب والسنة، ويستنبطونها من المصادر والأفعال الواردة فيهما، وعن الصحابة في شمائله الشريفة حتى بلغت هذا المبلغ. وقد كان يمكنني أن أزيدها من «الشمائل» فتبلغ الألف؛ لكني لم أتجاسر على ذلك بعدّ ذلك من أسمائه صلّى الله عليه وسلم؛ وإن كان واردا عن أصحابه. انتهى كلام المصنف ملخصا. (وقال) الإمام النووي (في «التّهذيب» : وكنيته صلّى الله عليه وسلم) - وقد سبق الكلام على الكنية وسببها- (المشهورة) ، ولذا بدأ بها ( «أبو القاسم» ) ؛ باسم أكبر أولاده عند الجمهور. وقال العزفي وغيره: لأنّه يقسم الجنة بين أهلها يوم القيامة. وقيل: لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّي جعلت قاسما أقسم بينكم» - كما تقدّم-. (وكنّاه جبريل صلّى الله عليه وسلم «أبا إبراهيم» ) باسم آخر أولاده؛ كما جاء في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وأفضل أسمائه صلّى الله عليه وسلّم: محمّد. قال القسطلّانيّ: أنس عند البيهقي في مجيء جبريل إليه عليهما الصلاة والسلام، وقوله: «السلام عليك؛ يا أبا إبراهيم» وذلك لما وقع في نفسه صلّى الله عليه وسلم، من تردّد «مابور» الغلام الذي أهدي مع مارية عليها، فبعث عليّا ليقتله؛ فوجده ممسوحا، فرجع فأخبره صلّى الله عليه وسلم. فقال: «الحمد لله الّذي صرف عنّا أهل البيت» . ولفظ الحديث عند البيهقي وابن الجوزي رحمهما الله تعالى؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه: لمّا ولد إبراهيم من مارية كاد يقع في نفس النبي صلّى الله عليه وسلم منه، حتى أتاه جبريل فقال: «السلام عليك يا أبا إبراهيم» . وعند الطبراني؛ من حديث ابن عمرو بن العاص في القصّة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب: «ألا أخبرك يا عمر؛ أنّ جبريل أتأني فأخبرني أنّ الله برّأها وقرينها ممّا وقع في نفسي، وبشّرني أنّ في بطنها غلاما منّي، وأنّه أشبه النّاس بي، وأمرني أن أسمّيه إبراهيم، وكنّاني ب «أبي إبراهيم» ، ولولا أنّي أكره أن أحوّل كنيتي الّتي عرفت بها لتكنّيت ب «أبي إبراهيم» كما به كنّاني جبريل» . انتهى. ويكنى صلّى الله عليه وسلم ب «أبي الأرامل» ، وب «أبي المؤمنين» انتهى «زرقاني» . (وأفضل أسمائه صلّى الله عليه وسلم: محمّد) ، لما فيه من خصائص، منها: أنّه لا يصحّ إسلام كافر إلّا به، وتعيّن الإتيان به في التشهّد عند قوم فيهما. ومنها كون سفينة نوح جرت به، ومنها أنّ آدم تكنّى به في الجنة؛ دون سائر بنيه. ومنها أنّه يخرج منه بالضرب والبسط عدد المرسلين ثلثمائة وثلاثة عشر، لأنّ الميم إذا كسرت فهي ميم، والحرف المشدّد بحرفين؛ فهي ثلاث ميمات بمائتين وسبعين «1» ، ودال بخمسة وثلاثين، والحاء بثمانية بلا تكسير. (قال) العلّامة (القسطلّانيّ) - بضم القاف وسكون السين المهملة، وضمّ   (1) على حساب الجمّل الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 (وقد سمّاه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي عام، كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه. الطاء المهملة وتشديد اللام بعدها نون وياء، نسبة ل «قسطيلية» بلد بالأندلس. أو من إقليم إفريقية غربي «قفصة» على خلاف في ذلك، ولا مانع من أن تكون قسطيلية اسما للبلدة والإقليم معا، وهو الظاهر لي من كلامهم. انتهى؛ ذكره في «فتح ربّ الأرباب» . (وقد سمّاه الله تعالى بهذا الاسم) - وهو اسم محمد- (قبل الخلق بألفي عام) ؛ أي: بمدّة لو قدّرت بالزمان كان مقدارها ذلك، وإلّا فقبل الخلق؛ لا ليل ولا نهار، (كما ورد في حديث) أبي نعيم الطويل المرويّ؛ عن (أنس) بن مالك بن النّضر بن ضمضم- بفتح الضادين المعجمتين- ابن زيد بن حرام بالراء- بن جندب- بضم الدال وفتحها- ابن عامر بن غنم- بفتح الغين المعجمة وإسكان النون- ابن عديّ بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة الأنصاري الخزرجي النّجّاري النضري «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» كان يتسمّى بذلك ويفتخر به. وحقّ له ذلك، كنّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أبا حمزة» ببقلة كان يحبّها، وأمّه أمّ سليم وكانت خدمته للنبي صلّى الله عليه وسلم عشر سنوات، مدّة إقامته بالمدينة المنورة؛ ثبت ذلك في «الصحيح» ، وحمل عنه حديثا كثيرا. فروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم ألفي حديث ومائتين وستّة وثمانين حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على مائة وثمانية وستّين، وانفرد البخاريّ بثلاثة وثمانين، وانفرد مسلم بأحد وسبعين حديثا. وكان أكثر الصحابة مالا وأولادا، لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلم له بذلك. (رضي الله عنه) . قال ابن قتيبة في «المعارف» : ثلاثة من أهل البصرة لم يموتوا حتّى رأى كلّ واحد منهم مائة ذكر من صلبه: أنس بن مالك، وأبو بكرة، وخليفة بن بدر. واتفق العلماء على مجاوزة عمره مائة سنة، لأنه ثبت في «الصحيح» أنّه كان له قبل الهجرة عشر سنين، وكانت وفاته سنة: ثلاث وتسعين- بتقديم المثناة على السين- هذا هو القول الصحيح في وفاته. وهو الذي عليه الجمهور. فعمره- كما ترى- يزيد على المائة رحمه الله تعالى ورضي عنه. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار: أنّ آدم أوصى ابنه شيثا فقال: أي بنيّ؛ أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التّقوى والعروة الوثقى، ... (وروى) الحافظ عليّ بن الحسن الدمشقي أبو القاسم (ابن عساكر) رحمه الله تعالى (عن كعب الأحبار) جمع حبر- بفتح الحاء وكسرها- وإليه يضاف كالأول لكثرة كتابته بالحبر؛ حكاه أبو عبيد، والأزهريّ؛ عن الفراء. وقال ابن قتيبة وغيره: كعب الأحبار: العلماء؛ واحدهم حبر؛ كما في «مشارق» القاضي، و «تهذيب» النووي، و «مثلثات» ابن السيّد، والنور وغيرهم. وأغرب صاحب «القاموس» في قوله: كعب الحبر، ولا تقل «الأحبار» فإنّها دعوى نفي غير مسموعة مع مزيد عدالة المثبتين، بل إضافته إلى الجمع أقوى في المدح؛ سواء قلنا إنّه المداد، أو العلماء؛ أي: ملجؤهم. انتهى «زرقاني» وتقدّمت ترجمته رحمه الله تعالى. (أنّ آدم) عليه الصلاة والسلام (أوصى ابنه شيثا) الذي هو أجمل أولاده وأشبههم به وأحبّهم إليه وأفضلهم، وعلّمه الله الساعات والعبادة في كلّ ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وزوّجه الله أخته التي ولدت بعده؛ وكانت جميلة كأمّها حوّاء، وخطب جبريل وشهدت الملائكة، وكان آدم وليّها، ورزقه الله أولادا في حياة أبيه، وعمّر تسعمائة واثنتي عشرة سنة- وقيل: عشرين- ومات لمضيّ ألف واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم، ودفن في غار أبي قبيس، وكان وصيّا لآدم على أولاده، ولم يمت آدم حتّى بلغ أولاده وأحفاده أربعين ألفا، الصلبية منهم أربعون. انتهى «زرقاني؛ على «المواهب» » . (فقال) - أي: آدم- (أي) بفتح الهمزة؛ حرف نداء للقريب أي يا- (بنيّ؛ أنت خليفتي من بعدي، فخذها) - أي: الخلافة- (بعمارة التّقوى) ؛ أي: بعمارتك إيّاها بالتقوى فيها، بأن تقوم بحقّ الخلافة (والعروة الوثقى) : العقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وكلّما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمّد، فإنّي رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، ثمّ طفت السّماوات فلم أر فيها موضعا إلّا ورأيت اسم محمّد مكتوبا عليه، وإنّ ربّي أسكنني الجنّة، فلم أر فيها قصرا ولا غرفة إلّا وجدت اسم محمّد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمّد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنّة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، ... المحكم، تأنيث الأوثق؛ مأخوذ من الوثائق- بالفتح- وهو حبل- أو قيد- يشدّ به الأسير، والدابّة. مستعارة للتمسّك بالحق. (وكلّما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمّد، فإنّي رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش) أي: قوائمه (ثمّ) إني (طفت السّماوات فلم أر فيها موضعا إلّا ورأيت اسم محمّد مكتوبا عليه، وإنّ ربّي أسكنني الجنّة؛ فلم أر فيها قصرا ولا غرفة إلّا وجدت اسم محمّد مكتوبا عليه) ؛ أي: المذكور (ولقد رأيت اسم محمّد مكتوبا على نحور) ؛ جمع نحر: موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصّدر أي على صدور (الحور العين) : ضخام العيون، كسرت عينه بدل ضمّها!! لمجانسة الياء، ومفرده عيناء؛ كحمراء، (وعلى ورق قصب آجام) - جمع أجمة: الشجر الملتفّ؛ أي: على أغصان شجر- (الجنّة) . والقصب: كلّ نبات لساقه أنابيب وكعوب؛ كما في «مختصر العين» . (وعلى ورق شجرة طوبى) تأنيث الأطيب: شجرة في الجنة، (وعلى ورق سدرة المنتهى) ؛ وهما من عطف الجزء على الكلّ، لأنهما من جملة شجر الجنة، (وعلى أطراف الحجب) الأستار الّتي في الجنة، أو المحلّات التي لا يتجاوزها الرائي إلى ما وراءها إن صحّ ما يروى؛ من أن ثّمّ سبعين ألف حجاب مسيرة كلّ حجاب خمسمائة عام، لأنها في حقّ المخلوق. أما الخالق!! فمنزّه عن أن يحجبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره؛ فإنّ الملائكة تذكره في كلّ ساعاتها. قال حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أغرّ عليه للنّبوّة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن: أشهد وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد شيء، ولم يصحّ في ذلك غير ما في مسلم «حجابه النور» انتهى «زرقاني» . (وبين أعين الملائكة فأكثر ذكره؛ فإنّ الملائكة تذكره في كلّ ساعاتها) : بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فأسماؤه في العرش من قبل تكتب (قال حسّان بن ثابت) الأنصاري شاعره المؤيّد بروح القدس (رضي الله تعالى عنه) آمين: (أغرّ عليه للنّبوّة خاتم) كائن (من الله) ؛ أي: موجود له وكائن (من نور «1» ) صفتان ل «خاتم» ، فلم يتّحد حرفا جرّ بعامل واحد (يلوح) : يظهر، (ويشهد) : يشاهد. (وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذّن «أشهد» ) وهذا من خواصّ هذا الاسم أيضا؛ وهو أنّ الله قرنه مع اسمه. (وشقّ) - مبنيّ للفاعل؛ من (شقّ الشيء) إذا جعله قطعتين؛ أي: اشتق (- له من إسمه) بقطع الهمزة للضرورة اسما (ليجلّه) : يعظّمه (فذو العرش محمود، وهذا محمّد) . أخرج البخاريّ في «تاريخه الصغير» ؛ من طريق علي بن زيد بن جدعان؛ قال: كان أبو طالب يقول: وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد   (1) المحفوظ- كما في ديوانه-: من الله مشهود يلوح ويشهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فتوارد حسّان معه، أو ضمّنه شعره. وبه جزم في «الخميس» ، ولم يعرف في العرب من تسمّى محمدا قبل النبي صلّى الله عليه وسلم إلّا جماعة حصرهم الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ؛ في خمسة عشر نفسا: الأول- وهو أشهرهم-: محمد بن عديّ بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي. الثاني: محمد بن أحيحة- بضم الهمزة وفتح المهملة- ابن الجلاح- بضم الجيم وتخفيف اللام آخره حاء مهملة- الأوسي. الثالث: محمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر بن تميم العنبري التميمي. الرابع: محمد بن البراء؛ ويقال: البر بن طريف- بمهملتين بوزن رغيف- ابن عتواره بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري العتواري. الخامس: محمد بن الحارث بن حديج- بمهملتين فتحتية: فجيم مصغّر- ابن حويص. السادس: محمد بن حرماز- بكسر المهملة وسكون الراء وآخره زاي- ابن مالك بن عمرو بن تميم اليعمري. السابع: محمد بن حمران بن أبي حمران، واسمه ربيعة بن أبي ربيعة؛ واسمه: مالك الجعفي؛ المعروف ب «الشّويعر» مصغّر شاعر. الثامن: محمد بن خزاعي- بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين فألف فمهملة فتحتية؛ اسم بلفظ النسب- ابن علقمة بن حرابة السّلمي؛ من بني ذكوان بطن من سليم. التاسع: محمد بن خولي- بالخاء المعجمة: وسكون الواو- الهمداني. العاشر: محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأمّا اسم أحمد: فقد قال الباجوريّ في «حاشيته» : هو في الأصل أفعل تفضيل، ... الحادي عشر: محمد بن اليحمد- بضمّ التحتية وسكون المهملة وكسر الميم- الأزدي. الثاني عشر: محمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة التميمي. الثالث عشر: محمد بن الأسيّدي- بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر التحتية الثقيلة-. الرابع عشر: محمد الفقيمي- بضم الفاء وفتح القاف وسكون التحتية-. الخامس عشر: محمد بن عمرو بن مغفل- بضمّ أوّله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام-، والد هبيب- بموحدتين مصغّر-. وكلّهم لم يدركوا الإسلام إلّا الأوّل؛ وهو محمد بن عدي، ففي سياق خبره الذي رواه البغويّ وابن سعد وابن شاهين وابن السّكن وغيرهم ما يشعر بإدراكه الإسلام. ولفظ الخبر؛ عن خليفة بن عبدة النصري قال: سألت محمد بن عدي: كيف سمّاك أبوك في الجاهلية محمدا؟! قال: سألت أبي عمّا سألتني؛ فقال: خرجت رابع أربعة من تميم أنا أحدهم، وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن عمرو، وأسامة بن مالك؛ نريد الشام، فنزلنا على غدير عند دير؛ فأشرف علينا الديراني؛ فقال لنا: إنّه يبعث منكم وشيكا نبي فسارعوا إليه. فقلنا: ما اسمه؟ قال: محمد. فلما انصرفنا ولد لكلّ منا ولد فسمّاه محمدا لذلك. انتهى. وقد ذكره ابن سعد والبغويّ والباروديّ وغيرهم في الصحابة، وأنكره ابن الأثير على ابن منده؛ وتبعه الذهبي، فقال: لا وجه لذكره فيهم. قال في «الإصابة» : ولا إنكار عليه، لأن سياقه يقتضي أنّ له صحبة. (وأمّا اسم أحمد!! فقد قال) الشيخ العلّامة إبراهيم (الباجوريّ) رحمه الله تعالى (في «حاشيته» ) على «الشمائل» : (هو في الأصل «أفعل» تفضيل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وسمّي بذلك لأنّه أحمد الحامدين لربّه؛ ففي «الصّحيح» : أنّه يفتح عليه يوم القيامة بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وكذلك يعقد له لواء الحمد، ويخصّ بالمقام المحمود. وبالجملة: فهو أكثر النّاس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي أحمد ومحمّدا. ولهذين الاسمين الشّريفين مزيّة على سائر الأسماء، فينبغي تحرّي التّسمية بهما، ... حذف المفضّل عليه قصدا للتعظيم نحو «الله أكبر» ، أي: من كلّ شيء. ثم نقل ولحظ أصله، فلا يرد عليه أنّه علم؛ فكيف يفيد ما ذكره؟. (وسمّي بذلك!! لأنّه أحمد الحامدين لربّه) ، وكذلك معنى «أحمد» فاسمه مطابق لمعناه (ففي «الصّحيح» ) : البخاري ومسلم (أنّه يفتح عليه يوم القيامة) في المقام المحمود (بمحامد) - جمع محمدة، بمعنى حمد- (لم يفتح بها على أحد قبله) ؛ أي: يلهمه الله محامد عظيمة لم يلهمها لغيره، وأصل الفتح ضدّ الغلق؛ فاستعير للإلهام، (وكذلك يعقد له لواء الحمد) الحقيقي وعلم حقيقته عند الله؛ أي: لواء يتبعه كلّ حامد ومحمود، وأصحاب الحمد من لهم الشفاعة يومئذ كالأنبياء، أو هو تمثيل لشهرته في الموقف وعدم التأويل أسدّ- كما قيل- (ويخصّ بالمقام المحمود) ؛ وهو مقام الشفاعة العظمى الذي يحمده فيه الأوّلون والآخرون. (وبالجملة فهو) صلّى الله عليه وسلم (أكثر النّاس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي أحمد ومحمّدا) ، لأنّ هذين الاسمين اشتقّا من أخلاقه صلّى الله عليه وسلم وخصائله المحمودة: التي لأجلها استحقّ أن يسمّى «محمدا» و «أحمد» . (ولهذين الاسمين الشّريفين مزيّة) أي: فضل (على سائر الأسماء) ؛ أي: سوى «عبد الله» و «عبد الرحمن» - على ما اعتمده العلامة ابن حجر في «التحفة» ؛ من أفضليتهما على اسمي «محمد» و «أحمد» - (فينبغي تحرّي التّسمية بهما) ؛ أي: باسمي «محمد» و «أحمد» ، وقد سمّى الإمام الشافعيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فقد ورد في الحديث القدسيّ: «إنّي آليت على نفسي أن لا أدخل النّار من اسمه أحمد، ولا محمّد» . ورواه الدّيلميّ عن عليّ ... ولده محمدا؛ وقال: سمّيته بأحبّ الأسماء إليّ. ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلم أنّ اسمه ميمون ونافع في الدنيا والآخرة، (فقد ورد في الحديث القدسيّ) الذي رواه أبو نعيم: «قال الله عزّ وجلّ: «وعزّتي وجلالي؛ لا عذّبت أحدا تسمّى باسمك في النّار» » . كما جاء في التسمية ب «محمد» و «أحمد» فضائل عليّة في عدّة أحاديث. فمنها ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «يوقف عبدان بين يدي الله تعالى فيأمر بهما إلى الجنّة، فيقولان: ربّنا بم استأهلنا الجنّة؛ ولم نعمل عملا تجازينا به الجنّة!؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنّة؛ (إنّي آليت على نفسي أن لا أدخل النّار من اسمه أحمد ولا محمّد» ) . ومنها ما (رواه) (الدّيلميّ) في «مسند الفردوس» ؛ (عن) أمير المؤمنين الإمام (عليّ) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المكي المدني الكوفي أمير المؤمنين «ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية. وهي أوّل هاشمية ولدت هاشميا. أسلمت وهاجرت إلى المدينة. وتوفيت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ونزل في قبرها. وكنية علي: «أبو الحسن» . وكنّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أبا تراب» ، فكان أحبّ ما ينادى به إليه. وهو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيّدة نساء العالمين، وأبو السّبطين، وأوّل هاشمي ولد بين هاشميين، وأوّل خليفة من بني هاشم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 رضي الله تعالى عنه: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمّد أو أحمد.. إلّا قدّس الله ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين) انتهى. وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربّانيين؛ والشّجعان المشهورين، وأحد الزّهّاد المذكورين، وأحد السابقين إلى الإسلام. توفي في الكوفة ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان سنة: أربعين. ضربه ابن ملجم «أشقى الآخرين لعنه الله» بسيف مسموم في جبهته فأوصله دماغه، ليلة الجمعة الموافق 17 رمضان سنة: أربعين هجرية في قصة يطول شرحها، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة على الأصحّ. والأحاديث الصحيحة الواردة في فضله كثيرة، ومناقبة جمّة أفردت بالتأليف (رضي الله تعالى عنه) وكرّم وجهه في الجنة. آمين. (ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه «محمّد» أو «أحمد» إلّا قدّس الله ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين. انتهى) . قال العلّامة السيد عبد الله بن محمد بن الصّديق الغماري: وللحافظ أبي عبد الله: الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي جزء مطبوع في فضل التسمية ب «محمد» و «أحمد» . انتهى. لكن قال المجد صاحب «القاموس» في خاتمة «سفر السعادة» ؛ باب فضيلة التسمية ب «محمد» و «أحمد» : والمنع من ذلك لم يصحّ فيه شيء. وتبعه العجلوني في «كشف الخفا» ، وسبقهما الحافظ ضياء الدين أبو حفص عمر بن بدر الموصلي في كتاب «المغني عن الحفظ والكتاب» ؛ فقال: قال أبو حاتم الرازي: قد ورد في هذا الباب أحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس فيها ما يصحّ. وتعقّبه الشيخ حسام القدسي في رسالته «انتقاد المغني» بما فيه نظر، فليراجعه من أراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 [الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبها من أوصافه الشّريفة وفيه عشرة فصول (الباب الثّاني) من الأبواب الثمانية (في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: صورته التي خلق عليها، (وما يناسبها من أوصافه الشّريفة) ؛ كصفة بصره، وشعره، وشيبه، وخضابه، وعرقه، وطيبه، وتطيّبه. (وفيه عشرة فصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 [الفصل الأوّل في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها] الفصل الأوّل في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها الفصل الأوّل: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلم) ؛ وهي: ما يظهر للناظرين من جسده (صلّى الله عليه وسلم) ، وفي «المصباح» ؛ قال سيبويه: الجمال رقّة الجسد، والأصل جمالة بالهاء مثل (صبح صباحة) لكنهم حذفوا الهاء تخفيفا لكثرة الاستعمال. وما شاكلها) ، أي: ناسبها. واعلم أنّ الكلام على خلقته صلّى الله عليه وسلم يستدعي الكلام على ابتداء وجوده؛ فاحتيج إلى ذكره، وإن أغفله المصنّف رحمه الله تعالى. وملخصه أنه صحّ في «مسلم» أنّه قال: «إنّ الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . ومن جملة ما كتب في الذكر؛ وهو «أمّ الكتاب» : أنّ محمدا خاتم النبيين. وصحّ أيضا: «إنّي عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته» أي: لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه. وصحّ أيضا: يا رسول الله؛ متى كنت نبيّا؟! قال: «وآدم بين الرّوح والجسد» . وروي «كتبت» ؛ من الكتابة. وروى الترمذي وحسّنه: يا رسول الله؛ متى وجبت لك النبوة؟! فقال: «وآدم بين الرّوح والجسد» . ومعنى وجوب النبوة وكتابتها ثبوتها وظهورها في الخارج؛ أي: للملائكة، وروحه صلّى الله عليه وسلم في عالم الأرواح؛ إعلاما بعظيم شرفه وتميّزه عن بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ......... وخصّ الإظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد!! لأنّه أوان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد، والتمايز حينئذ أتمّ وأظهر فاختصّ صلّى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه حينئذ، ليتميّز على غيره تميّز أظهر وأتمّ. وأجاب الغزالي في بعض كتبه عن وصف نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته، وخبر «أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا» : بأن المراد بالخلق هنا التقدير، لا الإيجاد، فإنه قبل أن تحمل به أمّه لم يكن مخلوقا موجودا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير؛ لا حقة في الوجود. فقوله: «كنت نبيّا» - أي: في التقدير- قبل تمام خلقة آدم. إذ لم ينشأ إلّا لينتزع من ذريّته محمد صلّى الله عليه وسلم. وتحقيقه أنّ للدار في ذهن المهندسين وجودا ذهنيّا؛ سببا للوجود الخارجي وسابقا عليه، فالله تعالى يقدّر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا. انتهى. وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين؛ وهو أنّه جاء: «إنّ الأرواح خلقت قبل الأجساد» . والإشارة ب «كنت نبيّا» إلى روحه الشريفة، أو حقيقة من حقائقه لا يعلمها إلّا الله تعالى، ومن حباه بالاطلاع عليها. ثم إنّ الله تعالى يؤتي كلّ حقيقة منها ما شاء؛ في أيّ وقت شاء، فحقيقته صلّى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف بأن خلقها متهيئة له؛ وأفاضه عليه فصار نبيا، وكتب اسمه على العرش ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت؛ وإن تأخّر جسده الشريف المتّصف بها؛ فحينئذ فإيتاؤه النبوة والحكمة وسائر أوصاف حقيقته وكمالاته معجّل لا تأخير فيه، وإنما المتأخّر تكوّنه وتنقّله في الأصلاب والأرحام الطاهرة إلى أن ظهر صلّى الله عليه وسلم. ومن فسّر ب (علم الله تعالى أنّه سيصير نبيّا) !! لم يصل لهذا المعنى، لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء، فالوصف بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنّه أمر ثابت له، وإلّا لم يختصّ بأنه نبيّ حينئذ، إذ الأنبياء كلّهم كذلك بالنسبة لعلمه تعالى. وقال العماد ابن كثير؛ في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية [81/ آل عمران] : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ......... إنّ الله تعالى لم يبعث نبيا إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلم إن بعث؛ وهو حي: ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأخذ العهد بذلك. وأخذ السبكي من الآية: أنّه على تقدير مجيئه في زمانهم مرسل إليهم؛ فتكون نبوّته ورسالته عامّة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة. وتكون الأنبياء والأمم كلّهم من أمته. فقوله: «وبعثت إلى النّاس كافّة» يتناول من قبل زمانه أيضا، وبه يتبيّن معنى قوله «كنت نبيّا وآدم بين الرّوح والجسد» ، وكذا حكمة كون الأنبياء تحت لوائه في الآخرة وصلاته بهم ليلة الإسراء. فأوّل الأشياء على الإطلاق: النور المحمّدي، ثم الماء، ثم العرش، ثم القلم. ولما خلق الله آدم جعل ذلك النور في ظهره؛ فكان يلمع في جبينه، ولما توفي كان ولده شيث وصيّه، فوصّى ولده بما وصّاه به أبوه «أن لا يوضع هذا النور إلّا في المطهّرات من النساء» ، ولم يزل العمل بهذه الوصية إلى أن وصل ذلك إلى عبد الله مطهّرا من سفاح الجاهلية كما أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك في عدّة أحاديث. ثم زوّج عبد المطلب ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا؛ فدخل بها، وحملت بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فظهر في حمله ومولده عجائب تدلّ لما يؤول إليه أمر ظهوره ورسالته. وقد صح أنّ أمّه صلّى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاء له قصور الشام، وولد مختونا في قول- عام الفيل، وحكي الاتفاق عليه، والمشهور أنّه بعده بخمسين يوما، وقيل: بأربعين، وقيل: بعشر سنين، وقيل غير ذلك. ثم الجمهور على أنّه ولد في شهر ربيع الأول، فقيل: ثانيه. وقيل: ثامنه. وانتصر له كثير من المحدّثين. وقيل: عاشره. وقيل: ثاني عشره وهو المشهور. وقيل غير ذلك، وذلك في يوم الاثنين- كما صحّ في «مسلم» - عقب الفجر- كما في رواية ضعيفة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قال في «المواهب» : (اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم.. الإيمان بأنّ الله تعالى جعل خلق بدنه الشّريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدميّ مثله. ومدّة حمله تسعة أشهر، أو عشرة، أو ثمانية، أو سبعة، أو ستة: أقوال. بمكة بمولده المشهور الآن؛ وهو الأصحّ. وقيل: بالشّعب. وقيل: بالروم. ثم أرضعته حليمة السعدية، والمشهور موت أبيه بعد حمله بشهرين، وقيل: وهو في المهد، وماتت أمه ودفنت بالأبواء، وقيل: بالحجون. وجمع بعض كما في «الخميس» بأنها دفنت أوّلا بالأبواء؛ وكان قبرها هناك، ثم نبشت ونقلت إلى مكة؛ كما في الزرقاني على «المواهب» . ومات جدّه كافله عبد المطلب؛ وله ثمان سنين، أو: تسع، أو: عشر، أو ست: أقوال. ثم كفله عمّه شقيق أبيه أبو طالب. وتزوّج خديجة؛ وهي بنت أربعين. وهدمت قريش الكعبة وعمره خمس وثلاثون سنة. ثم لما بلغ أربعين سنة- أو: وأربعين يوما، أو: وشهرين- بعثه الله رحمة للعالمين يوم الاثنين؛ لخبر «مسلم» ، في رمضان، وقيل: ربيع. فأقام بمكّة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين. (قال) - أي- العلّامة القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنّيّة بالمنح المحمّديّة» : (اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلّى الله عليه وسلم، الإيمان) ؛ أي: التصديق والاعتقاد (بأنّ الله تعالى جعل خلق) - أي: تقدير- (بدنه الشّريف على وجه) - أي: حال؛ وهيئة- (لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدميّ مثله) ؛ أي: لم يجتمع في بدن آدمي من المحاسن الظاهرة ما اجتمع في بدنه صلّى الله عليه وسلم. وسرّ ذلك: أنّ المحاسن الظاهرة آيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ولله درّ الأبوصيريّ حيث قال: فهو الّذي تمّ معناه وصورته ... ثمّ اصطفاه حبيبا بارىء النّسم على المحاسن الباطنة، والأخلاق الزكية؛ ولا أكمل منه صلّى الله عليه وسلم، ولا مساو له في هذا المدلول؛ فكذلك الدالّ، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتّضح من عظيم خلق نفسه الكريمة. وما يتّضح من عظيم أخلاق نفسه، آيات على ما تحقّق له من سرّ قلبه المقدّس، أي: ما اشتمل عليه من المعاني البديعة. فالمعاني مكنونة فيه لا يطّلع عليها، ولكن يستدلّ عليها بما ظهر من أخلاقه وكمالاته. وهو صلّى الله عليه وسلم؛ وإن ظهر منه كمالات لا تحصى؛ فهي بالنسبة لما خفي كنقطة من بحر. فالمراتب إذن ثلاث: المشاهد دليل على الباطن، وذلك الباطن دليل على ما أودع في قلبه من العلوم والمعارف. (ولله درّ الأبوصيريّ) : محمد بن سعيد الصّنهاجي الدّلاصي المولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ. ولد ب «دلاص» أول شوال سنة: - 608- ثمان وستمائة، وبرع في النظم. قال فيه الحافظ ابن سيّد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق. ومات سنة: - 695- 694- خمس؛ أو: أربع وتسعين وستمائة. كان أحد أبويه من «بوصير الصعيد» والآخر من «دلاص» بفتح الدال المهملة: قرية ب «البهنسا» ، فركّبت النسبة منها؛ فقيل الدلاصيري. ثم اشتهر بالبوصيري؛ لنشأته بها، أو لأنّها بلد أبيه. فقوله «الأبوصيري» منتقد، لأنّ القرية إنما هي «بوصير» والنسبة إليها البوصيري، كما في «المراصد» و «اللباب» و «لبّه» في باب الموحدة؛ لا الهمزة. (حيث قال) في «بردة المديح» : (فهو الّذي تمّ) : كمل (معناه) : حال باطنه، (وصورته) : حال ظاهره؛ بالرفع عطف على «معناه» والنصب مفعول معه (ثمّ اصطفاه) : اختاره (حبيبا بارىء) : خالق (النّسم) : جمع نسمة- بفتحتين-: وهي الإنسان. و «ثمّ» للترتيب في الإخبار؛ دون الصفات، أو في الاصطفاء؛ كما قال المحلّي، نظرا للوجود الخارجي، فإن اتخاذه حبيبا ومخاطبته به بعد تمام معناه وصورته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم وقد حكى القرطبيّ رحمه الله تعالى في (كتاب الصّلاة) ، أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه.. لما طاقت أعيننا رؤيته صلّى الله عليه وسلّم) انتهى. (منزّه) : مبعّد (عن شريك في محاسنه) ؛ جمع محسن؛ بمعنى الحسن أي: لا شريك له في حسنه، (فجوهر الحسن) أصله (فيه غير منقسم) ؛ أي: متفرّق. ومعنى البيتين: هو الذي كمل باطنه في الكمالات، وظاهره في الصفات. ثم اختاره خالق الإنسان حبيبا لا شريك له في الحسن. وجوهره لا يقبل القسمة بينه وبين غيره. كما أن الجوهر الفرد المتوهّم في الجسم، ويقول المتكلمون: الجسم مركّب منه غير منقسم بوجه؛ لا بالفرض، ولا بالوهم، ومن كان موصوفا بكمال الصفات ظاهرا وباطنا كان محبوبا؛ قاله الشيخ خالد. (وقد حكى) الشيخ العلّامة محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح- بإسكان الراء وبالحاء المهملتين- أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي (القرطبيّ) - بضم القاف والطاء المهملة وموحدة-؛ نسبة إلى قرطبة مدينة بالأندلس، المفسّر وكان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزّاهدين المشغولين بأمور الآخرة. أوقاته ما بين توجّه وعبادة وتصنيف. وله تصانيف كثيرة. أخذ عن أبي العبّاس أحمد بن عمر القرطبي شارح «مسلم» المتوفى بالإسكندرية سنة: - 626- ست وعشرين وستمائة. وأخذ عن غيره واستقر ب «منية ابن خصيب» ، وبها مات سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة (رحمه الله تعالى في كتاب الصّلاة) ؛ عن بعضهم: (أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلّى الله عليه وسلم) ؛ رفقا من الله تعالى بنا، (لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه لما طاقت أعيننا رؤيته صلّى الله عليه وسلم) ؛ لعجزنا عن ذلك. (انتهى) ما في «المواهب» . ولقد أحسن البوصيري حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الجسم. رواه غير واحد. وروى التّرمذيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس بالطّويل ... أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم كالشّمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكلّ الطّرف من أمم «1» و (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسن الجسم) ، والحسن- كما قال بعضهم-: عبارة عن كلّ بهج مرغوب فيه حسّا؛ أو عقلا. وهو هنا صادق بهما جميعا. والجسم: هو الجسد من البدن والأعضاء. والمراد بحسن جسمه أنّه معتدل الخلق، متناسب الأعضاء؛ كما في المناوي. (رواه) أي: ما ذكر من حسن جسمه (غير واحد) من المحدّثين؛ منهم الحافظ الترمذي في «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه. ومنهم الحافظ البيهقيّ عن رجل من الصّحابة؛ كما في الزرقاني. وذكره الإمام النووي في «التهذيب» . (وروى) مسلم في «صحيحه» ، و (التّرمذيّ) في «الشمائل» ؛ (عن أنس) «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين» . والمراد حيث أطلق أنس بن مالك؛ وإن كان هناك جماعة يسمّى كلّ منهم أنسا. وقد تقدّمت ترجمته (رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) «كان» مع المضارع لا تفيد التكرار، كما نقله النووي في «شرح مسلم» ؛ عن المحققين. وقال ابن الحاجب: تفيده، وليس المراد أنّها تفيده مطلقا، بل في مقام يقبله، لا كما هنا. (ليس بالطّويل) خبر «كان» وليس لنفي مضمون الجملة حالا؛ وهو   (1) أمم: قرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، ... المناسب هنا. وقيل: إنها لنفي مضمونها في الماضي، وعليه فتكون حالا ماضية قصد دوام نفيها (البائن) - بالهمز- ووهم من جعله بالياء لوجوب إعلال اسم الفاعل؛ إذا أعل فعله، كبائع وقائل. وهو إمّا من «بان يبين بيانا» ؛ إذا ظهر على غيره، وعليه فهو بمعنى الظاهر طوله. أو من «بان يبون بونا» ؛ إذا بعد، وعليه فهو بمعنى البعيد عن حدّ الاعتدال، ويصحّ أن يكون من البين؛ وهو القطع، لأن من رأى فاحش الطول تصوّر أنّ كلّا من أعضائه مبان عن الآخر. انتهى «مناوي» . (ولا) عطف على خبر «ليس» ولا مؤكّدة للنفي، (بالقصير) - أي- المتردّد الداخل بعضه في بعض- كما سيأتي-. والمعنى أنّه كان متوسّطا بين الطول والقصر، لا زائد الطول ولا القصر. وفي نفي أصل القصر ونفي الطول البائن لا أصل الطول إشعار بأنه صلّى الله عليه وسلم كان مربوعا؛ مائلا إلى الطول، وأنّه كان إلى الطول أقرب؛ كما رواه البيهقي. ولا ينافيه وصفه الآتي بأنه ربعة!! لأنه أمر نسبي، ويوافقه خبر البراء: كان ربعة؛ وهو إلى الطول أقرب. وقد ورد عند البيهقي؛ وابن عساكر أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يماشيه أحد من الناس إلّا طاله صلى الله عليه وسلم، ولربّما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب إلى الرّبعة. وفي «خصائص ابن سبع» : كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من الجالس. قيل: ولعل السرّ في ذلك أنّه لا يتطاول عليه أحد صورة، كما لا يتطاول عليه معنى. (ولا) - عطف على خبر «ليس» ولا مؤكّدة للنفي- (بالأبيض الأمهق) ؛ أي: الشديد البياض الخالي عن الحمرة والنّور؛ كالجص؛ وهو كريه المنظر ربّما توهّمه الناظر أبرص، بل كان بياضه نيّرا مشرّبا بحمرة؛ كما في روايات أخر؛ منها أنّه كان أزهر اللون. فالنفي للقيد فقط. واعلم أنّ أشرف الألوان في هذه الدار البياض المشرّب بالحمرة، وفي الآخرة البياض المشرّب بصفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ولا بالآدم، ولا بالجعد ... فإن قيل: من عادة العرب أن تمدح النساء بالبياض المشرّب بصفرة، كما وقع في لاميّة امرئ القيس. وهذا يدلّ على أنّه فاضل في هذه الدار أيضا. أجيب بأنه لا نزاع في أنه فاضل فيها، ولكن البياض المشرّب بحمرة أفضل منه فيها، وحكمة التفرقة بين هذه الدار؛ وتلك الدار: أن الشّوب بالحمرة ينشأ عن الدم وجريانه في البدن وعروقه، وهو من الفضلات التي تنشأ عن أغذية هذه الدار، فناسب الشوب بالحمرة فيها. وأما الشّوب بالصفرة التي تورث البياض صقالة وصفاء؛ فلا ينشأ عادة عن غذاء من أغذية هذه الدار؛ فناسب الشوب بالصفرة في تلك الدار، فظهر أنّ الشوب في كلّ من الدارين بما يناسبه، وقد جمع الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم بين الأشرفين، ولم يكن لونه في الدنيا كلونه في الأخرى!! لئلا يفوته أحد الحسنيين. انتهى ملخصا من المناوي وابن حجر رحمهما الله تعالى. (ولا بالآدم) ، أي: ولا بالأسمر الآدم؛ أي: شديد الأدمة أي: السمرة، وآدم- بمدّ الهمزة- أصله: أأدم- بهمزتين- على وزن «أفعل» أبدلت الثانية ألفا، وعلم مما ذكر أن المنفيّ إنّما هو شدّة السمرة، فلا ينافي إثبات السمرة في الخبر الآتي، لكن المراد بها الحمرة، لأن العرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر. ومما يؤيّد ذلك رواية البيهقي كان أبيض؛ بياضه إلى السمرة. وفي «مسند أحمد» ؛ عن الحبر: جسمه ولحمه أحمر. وفي رواية: أسمر إلى البياض. فثبت بمجموع هذه الروايات أنّ المراد بالسمرة: حمرة تخالط البياض، وبالبياض المثبت ما يخالط الحمرة. وأما وصف لونه في أخبار بشدّة البياض كخبر البزار؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان شديد البياض. وخبر الطبراني؛ عن أبي الطّفيل: ما أنسى شدّة بياض وجهه!! فمحمول على البريق واللّمعان، كما يشير إليه حديث: كأنّ الشمس تحرك في وجهه، انتهى «مناوي وباجوري» . (ولا بالجعد) - بفتح الجيم وسكون العين- من الجعودة؛ وهي في الشعر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 القطط ولا بالسّبط. ومعنى (البائن) : الظّاهر طوله. و (الأمهق) : الشّديد البياض، الخالي عن الحمرة. و (الآدم) : الأسمر. و (الجعد) : من في شعره التواء. و (القطط) : شديد الجعودة. و (السّبط) : مسترسل الشّعر. يتكسّر تكسّرا تامّا، ولا يترسّل (القطط) - بفتحتين- كجسد على الأشهر، وبكسر الثاني؛ وهو شدّة الجعودة. قال المناوي: والجعد يرد بمعنى: الجواد، والكريم، والبخيل، واللئيم جميعا، ومقابل السّبط، ويوصف بالقطط في الكلّ؛ فالقطط لا يعيّن المراد، فلذا قابله بقوله: (ولا بالسّبط) - بفتح المهملة وكسر الموحدة، وتسكن، وبفتحتين-. والمراد أنّ شعره ليس نهاية في الجعودة؛ وهي تكسره الشديد، ولا نهاية في السبوطة؛ وهي عدم تكسّره وتثنّيه بالكلية، بل كان وسطا بينهما، و «خير الأمور أوسطها» . قال الزمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته. وقد أحسن الله لرسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرق في غيره من الفضائل. (ومعنى البائن) - بالهمزة-: (الظّاهر طوله، و) معنى (الأمهق: الشّديد البياض الخالي عن الحمرة) ، والنّور كالجصّ؛ وهو كريه المنظر ربما توهّمه الناظر برصا، بل كان بياضه صلّى الله عليه وسلم نيّرا مشرّبا بحمرة- كما تقدم-. (و) معنى (الآدم: الأسمر) ، والسّمرة: منزلة بين البياض والسواد. (و) معنى (الجعد: من في شعره التواء) ، وفي «المصباح» : جعد الشعر بضم العين وكسرها- جعودة، إذا كان فيه التواء وانقباض. (و) معنى (القطط) - بفتحتين، وبفتح فكسر-: (شديد الجعودة، و) معنى (السّبط: مسترسل الشّعر) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمّة ... (و) في «الشمائل الترمذية» ؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا) - بفتح الراء وكسر الجيم- وهو: الذي بين الجعودة والسّبوطة؛ قاله الأصمعيّ وغيره: ووقع في الروايات المعتمدة بضم الجيم!! فيحتمل أن يكون المراد به المعنى المتبادر المتعارف الذي يراد بلفظ الرجل؛ وهو المقابل للمرأة، ومعناه واضح، وهو خبر موطّىء، لأن الخبر في الحقيقة قوله (مربوعا) إذ هو يفيد الفائدة المعتدّ بها، كقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (13) [الحشر] ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (55) [النمل] . والمربوع يرادف الرّبعة؛ وهو: المتوسط بين الطويل والقصير. وهذا تقريب؛ لا تحديد، فلا ينافي أنّه كان يضرب إلى الطول؛ كما في خبر ابن أبي هالة الآتي: كان أطول من المربوع؛ وأقصر من المشذّب. (بعيد ما بين المنكبين) ، روي بالتكبير، و [بعيد] بالتصغير، و «ما» موصولة، أو موصوفة، لا زائدة؛ كما زعمه بعضهم. والمنكبان- تثنية منكب- وهو: مجمع العضد والكتف، والمراد بكونه بعيد ما بين المنكبين: أنّه عريض أعلى الظهر، ويلزمه أنّه عريض الصدر، ومن ثمّ جاء في رواية: «رحب الصدر» ، وذلك آية النّجابة، وفي رواية التصغير إشارة إلى تقليل البعد؛ إيماء إلى أن بعد ما بين منكبيه لم يكن منافيا للاعتدال. (عظيم الجمّة) - بضم الجيم وتشديد الميم- أي: كثيفها. قال حسوس: والجمّة عند جمهور أهل اللغة: ما سقط من شعر الرأس إلى المنكبين. وأما الوفرة!! فهي: التي تصل إلى شحمة الأذن، وأما ما نزل عن الأذنين؛ ولم يصل إلى المنكبين!! فهو اللّمّة، وعلى هذا قول من قال: الوفرة الشّعر لشحمة الأذن ... وجمّة إن هي لمنكب تكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 إلى شحمة أذنيه. ومعنى (الرّجل) : من في شعره تكسّر قليل. و (الجمّة) : مجتمع شعر الرّأس؛ وهي أكثر من الوفرة واللّمّة. وسمّ ما بينهما باللّمّة ... قد قال ذا جمهور أهل اللّغة وقال الزّمخشريّ في المقدمة: الجمّة: ما تدلّى من الشعر إلى شحمة الأذن. وفي «الصحاح» : الجمّة: الشّعر المجموع على الرأس وظاهره مطلقا. وفي «ديوان الأدب» : إن الجمّة هي الشعر إذا تدلّى من الرأس إلى شحمة الأذن، وإلى المنكبين، وإلى أكثر من ذلك. فتحصّل أنّ في الجمّة ثلاثة أقوال: 1- ما وصل إلى المنكبين. 2- ما وصل إلى شحمة الأذن. 3- ما تدلّى من شعر الرأس مطلقا. فقوله (إلى شحمة أذنيه) إنّما يأتي على القول الثاني والثالث؛ دون الأول. انتهى «كلام حسّوس» . (ومعنى الرّجل) - بكسر الجيم- (: من في شعره تكسّر قليل. والجمّة) - بضمّ الجيم وتشديد الميم-؛ قال في «الصحاح» : هي (مجتمع شعر الرّأس؛ وهي) - أي: الجمّة- (أكثر من الوفرة و) أكثر من (اللّمّة) ، لأن الجمّة ما وصلت المنكب، والوفرة: ما بلغت شحمة الأذن، واللّمّة ما بينهما. كما تقدّم. وعلى هذا فترتيبها «ولج» فالواو للوفرة، واللام للّمة، والجيم للجمّة. وهذه الثلاثة اضطرب أهل اللغة في تفسيرها، وأقرب ما وفّق به أنّ فيها لغات، وكل كتاب اقتصر على شيء منها، كما يشير إليه كلام «القاموس» في مواضع؛ قاله الباجوري رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شثن الكفّين والقدمين، ضخم الرّأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفّأ تكفّؤا؛ (و) روى الترمذي في «الشمائل» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شثن) - بمعجمة مفتوحة ومثلثة ساكنة- كذا في الشروح!! وفسّره ابن حجر العسقلاني بغليظ الأصابع والراحة. وهي المتبادر، ويؤيّده رواية «ضخم الكفّين والقدمين» . قال ابن بطّال: كانت كفّه صلّى الله عليه وسلم ممتلئة لحما غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت ليّنة، كما ثبت في حديث أنس: «ما مسست خزّا، ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الكفّين) - تثنية كفّ- وهي: الراحة مع الأصابع، سمّيت به!! لأنّها تكفّ الأذى عن البدن؛ وهي مؤنّثة، (والقدمين) - تثنية قدم- وهي من الإنسان معروفة؛ وهي أنثى، وتصغيرها «قديمة» بالهاء. وجمعها: أقدام، وجمع بين الكفين والقدمين في مضاف واحد! لشدّة تناسبهما، ومن ثمّ لم يجمع بين الرأس والكراديس حيث قال: (ضخم الرّأس) ؛ أي: عظيمه. وفي رواية «عظيم الهامة» وعظم الرأس دليل على كمال القوى الدماغية؛ وهو آية النّجابة. (ضخم الكراديس) ؛ أي: عظيم رؤوس العظام، وهو بمعنى جليل المشاش الآتي. والكراديس- جمع كردوس؛ بوزن عصفور- وهو: رأس العظم. وقيل: مجمع العظام؛ كالرّكبة والمنكب. وعظم ذلك يستلزم كمال القوى الباطنية. (طويل المسربة) - بضم الراء كمكرمة، وقد تفتح الراء- وأمّا محل خروج الخارج! فهو مسربة- بالفتح فقط-، كما في «المصباح» . وسيأتي تفسير المسربة في المصنف: بأنها الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة. (إذا مشى تكفّأ تكفّؤا) - بالهمز فيهما- وحينئذ يقرأ المصدر بضمّ الفاء؛ ك «تقدّم تقدّما» ، أو بلا همز تخفيفا، وحنيئذ يقرأ المصدر بكسر الفاء، ك «تسمّى تسمّيا» . وعلى كلّ فهو مصدر مؤكد، أي: يسرع المشي كأنه يميل بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 كأنّما ينحطّ من صبب. ومعنى (شثن) : غليظ. و (الكراديس) - جمع كردوس- وهو: مجمع العظام كالرّكبة والمنكب. و (المسربة) : الشّعر الدّقيق الّذي كأنّه قضيب من الصّدر إلى السّرّة. يديه من سرعة مشيه كما تتكفّأ السفينة في جريها. (كأنّما ينحطّ من صبب) ، وفي رواية كأنّما يهوي من صبب. وعلى كلّ فهو مبالغة في التكفّؤ، والانحطاط: النزول. وأصله الانحدار من علوّ إلى سفل، وأسرع ما يكون الماء جاريا؛ إذا كان منحدرا. (ومعنى شثن) - بشين معجمة وثاء مثلثة- وضبطه الجلال السيوطي بالمثناة فوق بدل المثلثة؛ وعلى كلّ فمعناه- (: غليظ) . ونقل عن الأصمعي أنّه فسّر «الشّثن» بالغلظ مع الخشونة. فقيل له: إنه ورد في وصف كفّه صلّى الله عليه وسلم اللّين والنعومة!! فآلى على نفسه أن لا يفسّر شيئا في الحديث أبدا. وتفسير أبي عبيدة بالغلظ مع القصر!! ردّ بما صحّ أنّه كان سائل الأطراف. وفي «القاموس» : شثنت كفّه: خشنت وغلظت. فمقتضاه أنّ الشثن معناه: الخشن الغليظ. وعليه فهو محمول على ما إذا عمل في الجهاد؛ أو مهنة أهله، فإنّ كفّه الشريفة تصير خشنة للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجعت إلى النعومة؛ كذا قاله الباجوري. (والكراديس: جمع «كردوس» ) - بضمتين-: (وهو: مجمع العظام) ، فكلّ عظمين التقيا في مفصل يقال له «كردوس» ؛ على ما في «القاموس» ، وذلك (كالرّكبة، والمنكب) ، والورك. (والمسربة) - بفتح الميم وسكون السين المهملة؛ وضم الراء وبالموحدة- هو: شعر بين الصدر والسرّة. على ما في «المهذب» . وظاهر الروايات أنّه ما دقّ من شعر الصّدر سائلا إلى السّرّة؛ كما ورد في حديث علي رضي الله عنه: المسربة (الشّعر) - بفتح العين وتسكن- (الدّقيق الّذي كأنّه قضيب) أي: غصن نظيف، أو سيف لطيف؛ على ما في «القاموس» . أو سهم ظريف؛ على ما في «المهذب» . ابتداؤها (من) أعلى (الصّدر) ، وانتهاؤها (إلى السّرّة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 و (التّكفّؤ) : الميل إلى سنن المشي، وهو: ما بين يديه كالسّفينة في جريها. و (الصّبب) : المكان المنحدر من الأرض. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهّم؛ وأما (التّكفّؤ) !! فهو مصدر تفعّل- من الصحيح- تفعّلا ك «تقدّم تقدّما» ، وتكفّأ تكفؤا. والهمز حرف صحيح، ومعناه: (الميل إلى سنن المشي) - مثلث السين وبضمتين-: نهجه وجهته؛ كما في «القاموس» . وهذا التفسير قطع به الأزهريّ مخطّئا تفسيره بتمايل يمينا وشمالا؛ كالسفينة؛ بأنه من الخيلاء. وتكفّؤ السفينة: تمايلها على سمتها الذي يقصد. ويردّه قوله كأنما ينحطّ من صبب، فإنه مفسّر له. وقال الكسائي: أكفأت الإناء وكفأته: إذا كببته، وأكفأته: إذا أملته. ومنه الحديث أي: تمايل إلى قدام كما تتكفّأ السفينة في جريها. انتهى. وأجاب القاضي عياض بأن التمايل يمينا وشمالا إنّما يذمّ بالقصد؛ لا إن كان خلقة كالغصن، وهو حسن صواب. انتهى «زرقاني» . فلأجل هذا قال المصنف: (وهو: ما بين يديه) أي: التمايل إلى قدام (كالسّفينة في جريها. والصّبب) - بفتح الصاد والموحدة الأولى- معناه: (المكان المنحدر من الأرض) ، يقال: انحدرنا في صبوب وصبب، أي: مكان منحدر. (و) روى الترمذيّ في «الشمائل» بسند فيه انقطاع؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنّه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعدا رجلا) الجعد- بفتح الجيم وسكون العين المهملة-: هو الشعر المتجعّد؛ أي: المتثنّي. والرّجل- قال الحافظ ابن حجر: بفتح الراء وكسر الجيم، وقد يضمّ، وقد يفتح، وقد يسكّن- ما فيه تكسّر يسير. انتهى. فكان شعره بين السّبوطة والجعودة. (ولم يكن بالمطهّم) الرواية فيه بلفظ اسم المفعول فقط، وسيأتي تفسيره في كلام المصنف بالبادن: الكثير اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرّب، أدعج العينين، ... (ولا بالمكلثم) الرواية فيه بلفظ اسم المفعول فقط. ومعناه: مدوّر الوجه؛ كما سيأتي في كلام المصنف. والمراد أنّه أسيل الوجه مسنون الخدين، ولم يكن مستديرا غاية التدوير، بل كان بين الاستدارة والإسالة، وهو أحلى عند كلّ ذي ذوق سليم وطبع قويم. ونقل الذهبيّ؛ عن الحكيم أنّ استدارة الوجه المفرطة دالّة على الجهل. (وكان في وجهه تدوير) أي: شيء قليل منه، وليس كلّ تدوير حسنا كما علمت، وهذه الجملة كالمبيّنة لقوله «ولا بالمكلثم» . (أبيض) - بالرفع- خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أبيض (مشرّب) بحمرة؛ كما في رواية ومشرب- بالتخفيف- من الإشراب؛ وهو: خلط لون بلون كأنه سقي به، أو [مشرّب] بالتشديد من التشريب؛ وهو مبالغة في الإشراب. وهذا لا ينافي ما في بعض الروايات: «وليس بالأبيض» ، لأن البياض المثبت ما خالطه حمرة، والمنفيّ ما لا يخالطه؛ وهو الذي تكرهه العرب؛ وتسمّيه «أمهق» . تنبيه: صرّح العلماء رحمهم الله تعالى بكفر من قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم أسود، لأن وصفه بغير صفته في قوّة نفيه فيكون تكذيبا به، ومنه يؤخذ أنّ كلّ صفة علم ثبوتها بالتواتر كان نفيها كفرا، للعلّة المذكورة. وقول بعضهم «لا بد في الكفر في أن يصفه بصفة تشعر بنقصه، كالسواد هنا» لأنه لون مفضول!! فيه نظر، لأن العلّة ليست هي النقص، بل ما ذكر فالوجه أنّه لا فرق. انتهى «باجوري» . (أدعج) - بمهملتين فجيم- (العينين) ؛ أي: شديد سواد حدقة العين مع سعتها. كما سيأتي في كلام المصنف، فلا يشكل بأنه أشكل. لأنّ الشّكلة في البياض؛ لا في السواد. كما يأتي. وقيل: الأدعج شديد بياض البياض وسواد السواد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد، ذا مسربة، شثن الكفّين والقدمين، إذا مشى.. تقلّع كأنّما ينحطّ من صبب، ... (أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بالضم ويفتح- وهو حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر. ويقال له الهدب- بضم الهاء وسكون المهملة بعدها موحدة-. والأهدب: الذي شعر أجفانه كثير مستطيل. وفي كلامه حذف مضاف أي: أهدب شعر الأشفار هي الأجفان التي تنبت عليها الأهداب ويحتمل أنّه سمّى النابت باسم المنبت للملابسة. (جليل) - أي عظيم- (المشاش) - بضم الميم فمعجمتين بينهما ألف- جمع مشاشة- بالضم والتخفيف-: رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين. (و) جليل (الكتد) - بمثناة فوقية مفتوحة أو مكسورة- وسيأتي في كلام المصنف: أنّه مجمع الكتفين وهو الكاهل؛ أي: عظيم ذلك كلّه. وهو يدلّ على غاية القوّة ونهاية الشجاعة. (أجرد) أي: هو أجرد؛ أي: غير أشعر؛ وهو: من عمّ الشعر جميع بدنه، فالأجرد: من لم يعمّه الشعر فيصدق بمن في بعض بدنه شعر كالمسربة والساعدين والساقين. وقد كان له صلّى الله عليه وسلم في ذلك شعر؛ فوصفه صلّى الله عليه وسلم بأنه أجرد باعتبار أكثر مواضعه، إما بجعل الأكثر في حكم الكلّ، أو تغليب ما لا شعر له على ما له شعر. (ذا مسربة) - تقدّم شرحه- (شثن الكفّين والقدمين) تقدّم الكلام عليهما. (إذا مشى تقلّع) في مشيه كأنه يقلع رجله من رجل، إذا أراد قوّة مشيه كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعا بائنا متداركا إحداهما بالأخرى؛ مشية أهل الجلادة والهمّة، لا كمن يمشي اختيالا ويقارب خطاه، فإنّ ذلك من مشي النساء. فالتقلّع قريب من التكفّي. وقد سبق. (كأنّما ينحطّ من صبب) ، وهذا مؤكّد لمعنى التقلّع، وتقدّم إيضاحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وإذا التفت.. التفت معا، بين كتفيه خاتم النّبوّة. وهو خاتم النّبيّين، أجود النّاس صدرا، ... (وإذا التفت التفت معا) ؛ أي: بجميع أجزائه، فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة إذا نظر إلى الشيء، لما في ذلك من الخفّة وعدم الصيانة، وإنّما كان يقبل جميعا ويدبر جميعا، لأنّ ذلك أليق بجلالته ومهابته. وفي «ألفيّة العراقي» : يقبل كلّه إذا ما التفتا ... وليس يلوي عنقا تلفّتا وينبغي- كما قاله الدّلجي- أن يخصّ هذا بالتفاته وراءه، أما لو التفت يمنة أو يسرة!! فالظاهر أنّه بعنقه الشريف. وقيل: أراد بذلك أنّه لا يسارع. قال القسطلّاني: وهو أقرب لما يأتي: أنه كان جلّ نظره الملاحظة. انتهى. (بين كتفيه خاتم) - بفتح التاء وكسرها، والكسر أشهر وأفصح، وهو في الأصل-: ما يختم به كالطابع. والمراد هنا الأثر الذي بين كتفيه المنعوت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة أنّه النبي الموعود به في تلك الكتب. وهو: قطعة لحم بارزة بين كتفيه بقدر بيضة الحمامة أو غيرها بحسب اختلاف الروايات فيه، وإضافته إلى (النّبوّة) لكونه علامتها. وهذه الجملة غير معطوفة على ما قبلها لعدم المناسبة. (وهو خاتم النّبيّين) أي: آخرهم، فلا نبيّ بعده تبتدأ نبوّته. فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام لأنّ نبوّته سابقة؛ لا مبتدأة بعد نبينا صلّى الله عليه وسلم. فعيسى إنّما ينزل حاكما بشريعته ومتابعا لها مستمدّا أحكامه من الكتاب والسنة. وهذه الجملة حاليّة مكمّلة لما قبلها؛ أو معطوفة عليها لوجود المناسبة. (أجود النّاس صدرا) ؛ أي: من جهة الصدر، والمراد به هنا القلب تسمية للحال باسم المحلّ، إذ الصدر محلّ القلب الذي هو محلّ الجود. والمعنى: أنّ جوده عن طيب قلب وانشراح صدر؛ لا عن تكلّف وتصنّع. وفي رواية: أوسع الناس صدرا؛ وهو كناية عن عدم الملل من الناس على اختلاف طباعهم وتباين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وأصدق النّاس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة.. هابه، ... أمزجتهم، كما أن ضيق الصّدر كناية عن الملل. انتهى «باجوري» . (وأصدق النّاس لهجة) - بسكون الهاء وتفتح؛ والفتح أفصح- واللهجة: هي اللسان. لكن لا بمعنى العضو المعروف؛ بل بمعنى الكلام. لأنه هو الذي يتّصف بالصّدق؛ فلا مجال لجريان صورة الكذب في كلامه. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله «أصدق الناس» !! لزيادة التمكّن؛ كما في قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ) (2) [الإخلاص] . وإنما لم يجر على سننه فيما بعد!! اكتفاء في حصول النكتة بهذا. (وألينهم عريكة) ألين، من اللّين؛ وهو ضدّ الصلابة. والعريكة: الطبيعة؛ وزنا ومعنى، ومعنى لينها: انقيادها للخلق في الحقّ. فكان معهم على غاية من التواضع وقلّة الخلاف والنفور. وهذه الجملة منبئة عن كمال مسامحته صلّى الله عليه وسلم ووفور حلمه؛ ما لم تنتهك حرمات الله تعالى. (وأكرمهم عشرة) - بالكسر- اسم من المعاشرة؛ وهي المخالطة. فمعاشرته صلّى الله عليه وسلم ومخالطته أكرم من جميع مخالطة الناس كما يدلّ عليه قوله: (من رآه بديهة) ؛ أي: رؤية بديهة، فهو مفعول مطلق، يعني فجأة من غير سابقة مخالطة ومعرفة أحواله، أو قبل النظر في أخلاقه العليّة وأحواله السّنيّة (هابه) ؛ أي: خافه لما فيه من صفة الجلال الربّانيّة، ولما عليه من الهيبة الإلهية والفيوضات السماوية. قال ابن القيّم: والفرق بين المهابة والكبر: أنّ المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الربّ ومحبّته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حلّ فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة؛ فكلامه نور؛ وعلمه نور، إن سكت علاه الوقار، وإن نطق أخذ بالقلوب والأبصار. وأما الكبر! فإنّه أثر من آثار امتلاء القلب بالجهل والظلم والعجب. فإذا امتلأ القلب بذلك ترحّلت عنه العبودية، وتنزّلت عليه الظلمات الغضبية، فمشيته بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله. تبختر، ومعاملته لهم تكبّر، لا يبدأ من لقيه بالسلام؛ وإن ردّ عليه يريه أنّه بالغ في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه. وقد حمى الله حبيبه من هذه الأخلاق. (ومن خالطه) ؛ أي: عاشره وصاحبه (معرفة) ؛ أي: مخالطة معرفة، أو لأجل المعرفة (أحبّه) حبّا شديدا حتى يصير أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين، لظهور ما يوجب الحبّ من كمال حسن خلقه ومزيد شفقته. وخرج بقوله «معرفة» من خالطه تكبّرا، كالمنافقين، فلا يحبّه. (يقول ناعته) ؛ أي: واصفه بالجميل على سبيل الإجمال، لعجزه عن أن يصفه وصفا تامّا بالغا على سبيل التفصيل: (لم أر قبله ولا بعده مثله) ؛ أي: من يساويه صورة وسيرة وخلقا وخلقا، إذ ليس في الناس من يماثله في الجمال، ولا في الخلق من يشابهه على وجه الكمال. هذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو هو في العلم والمعرفة، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» بعد أن عدّد بعض البعض من صفات جماله ونعوت كماله صلّى الله عليه وسلم- اعترف بالعجز عن استقصاء محاسن هذا الجناب الأرفع، ورجع إلى القصور عن إدراك كمالات هذا الشفيع المشفّع؛ إشارة إلى أن الجناب المذكور في غاية العلوّ ونهاية الارتفاع، فمن طاوله ورام استقصاء كمالاته عجز وانقطع. ثمّ اعلم أنّ المنفيّ عموم الشّبه؛ لا أصله أو معظمه، فلا ينافي ما ذكره العلماء من أنّ الذين كانوا يشبهونه صلّى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وابنته فاطمة، وابناها الحسن والحسين، وجعفر بن أبي طالب، والسائب بن عبيد «جدّ الإمام الشافعي» ، وعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي، وكابس بن ربيعة «رجل من أهل البصرة» ؛ كان أنس إذا رآه بكى، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ومسلم بن معتب بن أبي لهب، وعبد الله بن أبي طلحة الخولاني، في آخرين من التابعين. وذكر أيضا فيهم عثمان بن عفان. قال في «المواهب» : وعدّهم بعضهم سبعا وعشرين نفسا. وإنّما ذكر المصنف في باب الخلق ما ليس منه محافظة على تمام الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومعنى (المطهّم) : البادن الكثير اللّحم. و (المكلثم) : المدوّر الوجه. و (أدعج العينين) : شديد سوادهما. و (أهدب الأشفار) : طويل شعر الأجفان. و (المشاش) : رؤوس العظام. و (الكتد) : مجتمع الكتفين. و (أجرد) : غير أشعر. و (تقلّع) : مشى بقوّة. (ومعنى المطهّم) - بفتح الهاء المشددة-: (البادن) ؛ أي: عظيم البدن بكثرة لحمه، فقوله (الكثير اللّحم) صفة كاشفة للبادن؛ للمبالغة والتوضيح. (و) معنى (المكلثم) : (المدوّر الوجه) ولا يكون إلّا مع كثرة اللحم. (و) معنى (أدعج) - بمهملتين وجيم- (العينين: شديد سوادهما) ؛ أي: شديد سواد حدقتهما مع سعة العين وشدّة بياضها. فالدّعج: شدّة بياض البياض وسواد السواد، وهو الأنسب بمقام المدح. وقد تقدّم قول آخر ثمّ. (و) معنى (أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بضمّ أوله وقد يفتح-: (طويل شعر الأجفان) . ومعنى (المشاش) - بمعجمتين جمع مشاشة بالضمّ والتخفيف-: (رءوس العظام) كالمرفقين والكتفين والرّكبتين، أو: هي رءوس المناكب، أو العظام اللّيّنة، أو التي يمكن مضغها. (و) معنى (الكتد) - بمثناة فوقية تفتح وتكسر-: (مجتمع الكتفين) ؛ تثنية كتف- بفتح أوله وكسر ثانيه، وبكسر أوله أو فتحه مع سكون ثانيه؛ كما في «القاموس» - (و) معنى (أجرد غير أشعر) قال في «القاموس» : رجل أجرد لا شعر عليه. فوصفه به مع وجود الشعر في مواضع من بدنه غالبيّ. وقول البيهقيّ في «التاج» : معنى «أجرد» هنا: صغير الشعر!! ردّ بقول «القاموس» : الأجرد إذا جعل وصفا للفرس كان بمعنى صغر شعره، وإذا جعل وصفا للرجل فمعناه: لا شعر عليه، على أن لحيته الشريفة كانت كثّة. وقيل: معنى «أجرد» : أي لا غش فيه ولا غلّ، فهو على أصل الفطرة. (و) معنى (تقلّع: مشى بقوّة) : أراد قوّة مشيه، كأنه يرفع رجله من الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 و (اللهجة) : الكلام. و (العريكة) : الطّبيعة. و (البديهة) : المفاجأة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهل الخدّين، ضليع الفم، رفعا قويا. وذلك أبعد عن الكبر وأعون على قطع الطريق، لا كمن يختال يقارب خطاه، فإنّه شأن النساء. (و) معنى (اللهجة) - بسكون الهاء وجيم، و [اللهجة] تحرّك أفصح: (الكلام) والمعنى كلامه أصدق الكلام، فلا مجال لجريان صورة الكذب عليه. (و) معنى (العريكة: الطبيعة) وزنا ومعنى. (و) معنى (البديهة: المفاجأة) بالهمز، أي: البغتة، ومنه البديهي: الحاصل من غير التروّي. يقال بدهته بأمر؛ أي: فجأته. وفجأه الأمر: إذا جاءه بغتة. تنبيه: قال الحافظ أبو نعيم: قد اختلفت ألفاظ الصحابة في نعته وصفاته، وذلك لما ركّب في الصدور من جلالته وعظيم مهابته، ولما جعل في جسده الشريف من النّور الذي يتلألأ ويغلب على بشرته، فأعياهم ضبط نعته وصفة حليته، حتّى قال بعضهم: كان مثل الشمس طالعة. وقال بعضهم: كان يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر. وقال بعضهم: لم أر قبله ولا بعده مثله. ولذلك السبب كان اختلافهم في نعت خلقته ولونه. انتهى «مناوي» . (وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - فيما رواه مسلم، والترمذي؛ من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، والترمذي؛ من حديث هند بن أبي هالة، بألفاظ مختلفة- (سهل الخدّين) ؛ أي: غير مرتفع الوجنتين. وهو بمعنى خبر البزّار والبيهقي: كان أسيل الخدّين. وذلك أعلى وأغلى وأحلى عند العرب. (ضليع الفم) - بضاد معجمة مفتوحة: عظيمه، أو واسعه. والعرب تتمدح بسعة الفم وتذمّ ضيقه، لأن سعته دليل على الفصاحة. وكما تتمدح العرب بعظم الفم تتمدح بكثرة ريقه عند المقامات والخطب والحروب، لدلالته على ثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 سواء البطن والصّدر، أشعر المنكبين والذّراعين وأعالي الصّدر، طويل الزّندين، رحب الرّاحة، أشكل العينين، ... الجنان، بخلاف الجبان؛ فإنّه يجفّ ريقه في هذه المحافل (سواء) - بفتح السين والواو والألف الممدودة وبالإضافة إلى (البطن والصّدر) وبعدمها، والمعنى أنّ بطنه وصدره الشريفان مستويان لا ينتأ أحدهما عن الآخر، فلا يزيد بطنه على صدره؛ ولا يزيد صدره على بطنه. (أشعر) ؛ أي: كثير شعر (المنكبين) - بفتح الميم وكسر الكاف- تثنية منكب؛ وهو: مجتمع رأس الكتف والعضد. (و) أشعر (الذّراعين) - بكسر الذال- تثنية ذراع. وهو: من المرفق إلى الأصابع. (و) أشعر (أعالي) - جمع أعلى- (الصّدر) ؛ أي: أنّ شعر هذه الثلاثة كثير غزير. وفي «القاموس» : والأشعر: كثير الشعر وطويله. انتهى. (طويل الزّندين) - بفتح الزاي وسكون النون وبالدال المهملة- تثنية زند كفلس، وهو- كما قال الزمخشري في «الفائق» -: ما انحسر عنه اللحم من الذراع. قال الأصمعي: لم ير أحد أعرض زندا من الحسن البصري كان عرض زنده شبرا. (رحب) الرواية بفتح الراء- ويجوز الضم في اللغة- بمعنى السعة (الرّاحة) ؛ أي: واسع الكفّ حسّا ومعنى. قيل: رحب الراحة دليل الجود، وضيقها دليل البخل، والراحة: بطن الكفّ مع بطون الأصابع وأصلها من الرّوح؛ وهو الاتساع. (أشكل العينين) ؛ أي: في بياضهما شيء من الحمرة، يقال: شكلت العين بكسر الكاف- إذا خالط بياضها حمرة، وفي جميع كتب الغريب: الشّكلة- بضم الشين-: حمرة في بياض العين. قال الشاعر: ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الخيل شكل عيونها والأشكل محمود ومحبوب. قال الحافظ العراقي: وهي- أي: الشّكلة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أحمر المآقي، منهوس العقبين. ومعنى (ضليع الفم) : واسعه، وهو ممدوح لدلالته على الفصاحة. و (أشكل العينين) : في بياضهما حمرة. و (منهوس العقبين) : قليل لحمهما. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظيم العينين، أهدب الأشفار، إحدى علامات النبوة، ولمّا سافر إلى الشام مع ميسرة وسأل عنه الراهب ميسرة؛ فقال: في عينه حمرة. فقال: هو هو. انتهى. وأما الشّهلة! فهي حمرة في سواد العين. (أحمر المآقي) - جمع: موق وماق- وهو: شقّ العين مما يلي الأنف، والذي يلي الصّدغ؛ يقال له «لحاظ» . (منهوس) - ضبطه الجمهور بالسين المهملة- أي: قليل لحم (العقبين) بفتح العين وكسر القاف-: تثنية عقب؛ هو: مؤخر القدم. (ومعنى ضليع الفم) - بالضاد المعجمة-: (واسعه) ، وقيل: عظيمه (وهو ممدوح) عند العرب (لدلالته على الفصاحة) وسعة البلاغة. (و) معنى (أشكل العينين: في بياضهما حمرة) يقال: ماء أشكل إذا خالطه دم. وهذا التفسير للشّكلة هو الصواب المعروف في كتب اللغة والغريب. (و) معنى (منهوس) - بسين مهملة وفي رواية بمعجمة-: منهوش (العقبين) والمعنى واحد، أي: (قليل لحمهما) . (و) روى البيهقيّ؛ عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عظيم العينين) ؛ أي: شديد اتساعهما، فهو بمعنى رواية الترمذي وغيره المارّة عن علي. «أدعج العينين» . قال الجوهري: الدّعج محرّكا-: شدّة سواد العين مع سعتها. (أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بالضمّ وتفتح- وهي: حروف الأجفان التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مشرّب العين بحمرة. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبلج الحاجبين، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة. وكانت عيناه نجلاوين، أدعجهما، وكان في عينيه تمزّج من حمرة، وكان أهدب الأشفار حتّى تكاد تلتبس من كثرتها. ينبت عليها الشعر. أي: الهدب. وإيهامه أنّ الأشفار هي الأهداب غير مراد، فقد قال ابن قتيبة: العامّة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط. وفي «المغرب» وغيره: لم يذكر أحد من الثقات أنّ الأشفار الأهداب، فهو إمّا على حذف مضاف؛ أي: الطويل شعر الأشفار، أو سمّي النابت باسم المنبت للملابسة. (مشرّب العين) - بصيغة اسم المفعول مخفّفا ومشدّدا- (بحمرة) ؛ وهي عروق حمر دقاق، من علاماته في الكتب السابقة. (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم أبلج الحاجبين، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة) ؛ أي: كأن بين حاجبيه بلجة، أي: فرجة بيضاء دقيقة: لا تتبيّن إلّا لمتأمّل، فهو غير أقرن في الواقع؛ وإن كان أقرن بحسب الظاهر عند من لم يتأمّله، لأنّهما سبغا حتى كادا يلتقيان. قال الأصمعيّ: كانت العرب تكره القرن وتستحبّ البلج، والبلج هو: أن ينقطع الحاجبان؛ فيكون ما بينهما نقيّا. (وكانت عيناه نجلاوين) - أي: واسعتين- (أدعجهما) ؛ أي: شديد سواد حدقتهما. (وكان في عينيه تمزّج من حمرة) ؛ هو بمعنى كونه أشكل العينين، وقد مرّ أن الشّكلة- بضمّ الشين-: الحمرة تكون في بياض العين. والشّهلة غير الشّكلة؛ وهي حمرة في سوادها. (وكان أهدب الأشفار) جمع شفر- بالضم- وهو: حرف الجفن الذي ينبت عليه الهدب. قال ابن قتيبة: والعامّة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط، وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر. انتهى. (حتّى تكاد تلتبس من كثرتها) روي ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ومن حديث علي رضي الله تعالى عنه بألفاظ مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وكان صلّى الله عليه وسلّم ضخم الرّأس واليدين والقدمين. وكان صلّى الله عليه وسلّم سهل الخدّين صلتهما، ليس بالطّويل الوجه، ولا المكلثم. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطّول ما هو، ... (و) روى البخاريّ في «باب اللباس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم ضخم الرّأس) ؛ أي: عظيمه، لأنه يدلّ على قوّة الحواسّ والذكاء والفطنة. وفي رواية ضخم الهامة (واليدين) - يعني: الذراعين؛ كما جاء مبيّنا هكذا في رواية- (والقدمين) - يعني: ما بين الكعب إلى الركبة. وجمع بين الرأس واليدين والقدمين في مضاف واحد!! لشدّة تناسبها، إذ هي جميع أطراف الحيوان، وهو بدونها لا يسمّاه. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم سهل الخدّين صلتهما) ، أي: سائلهما من غير ارتفاع وجنتيه، وذلك أحلى عند العرب. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقيّ، والطبرانيّ؛ من حديث هند بن أبي هالة. وروى البزار والبيهقي: كان أسيل الخدين. وأصلت الخدين: أسيلهما، هو المستوي الذي لا يفوت بعض لحم بعضه بعضا. انتهى شرح «الإحياء» ) . (ليس بالطّويل الوجه ولا المكلثم) ؛ أي: لم يكن شديد تدوير الوجه. والمكلثم: هو المدوّر الوجه، يقول: فليس كذلك ولكنه مسنون. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث علي: لم يكن بالمطهّم؛ ولا بالمكلثم. وكان في وجهه تدوير. الحديث. والمطهّم: هو المنتفخ الوجه، وقيل: الفاحش السّمن. انتهى «شرح الإحياء» . (و) روى البيهقيّ في «دلائل النبوة» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس صفة) ؛ أي: صفة كمال، (وأجملها) ؛ أي: الناس، لما منحه الله تعالى من الصفات الحميدة الجليلة. (كان ربعة إلى الطّول، ما هو) يحتمل أنّ «ما» صلة، أو صفة لمصدر محذوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدّين، شديد سواد الشّعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه.. وطىء بكلّها، ليس له أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبيه.. فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك.. يتلألأ. ومعنى (أسيل الخدّين) : ليس فيهما ارتفاع. و (الأكحل) : أسود أجفان العين خلقة. والجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف؛ أي: هو يميل إلى الطول ميلا قليلا. (بعيد) - بفتح فكسر- (ما بين المنكبين) ؛ أي: عريض أعلى الظهر؛ ويلزمه عرض الصدر. وذلك علامة النجابة. (أسيل الخدّين) - بكسر المهملة- وفي رواية الترمذي «سهل الخدين» ؛ أي: ليس في خدّيه نتوء؛ ولا ارتفاع. وأراد أنّ خدّيه أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلد. (شديد سواد الشّعر، أكحل العينين) ؛ أي: شديد سواد أجفانهما. والكحل بفتحتين-: سواد في أجفان العين خلقة. (أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه وطىء بكلّها) ؛ أي: لا يلصق القدم بالأرض عند الوطء، وهو مشي الشجاع، (ليس له أخمص) - بفتح الميم- أي: خارج عن الحدّ؛ فله خموصة أزيد من الناس لكنها مع عدم الإفراط المخلّ بالجمال؛ (إذا وضع رداءه عن منكبيه؛ فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك) ؛ أي: تبسّم (يتلألأ) ؛ أي: يلمع ويضيء، ويظهر من ثغره نور. ولا يخفى ما في تعدّد هذه الصفات من الحسن، وذلك لأنّها بالتعاطف تصير كأنّها جملة واحدة. (ومعنى «أسيل الخدّين» ) : أنّهما (ليس فيهما ارتفاع. (و) معنى (الأكحل) هو: (أسود أجفان العين خلقة) أي: من أصل الخلقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وكان صلّى الله عليه وسلّم شبح الذّراعين، بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين. ومعنى (شبح الذّراعين) : عريضهما ممتدّهما. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبل العضدين والذّراعين، (و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم شبح الذّراعين) - قال المناوي: بشين معجمة فموحّدة مفتوحة، فحاء مهملة-: عريضهما ممتدّهما. والذّراعان: تثنية ذراع؛ وهو: ما بين مفصل الكفّ والمرفق، أو من المرفق إلى أطراف الأصابع. (بعيد) - بفتح فكسر- (ما بين المنكبين) ؛ أي: عريض أعلى الظهر. و «ما» موصولة أو موصوفة؛ لا زائدة. لأنّ «بين» من الظروف اللازمة للإضافة، فلا وجه لإخراجه عن الظرفية بالحكم بزيادة «ما» . والمنكب: مجتمع رأس العضد والكتف، وبعد ما بينهما يدلّ على سعة الصدر، وذلك آية النجابة. وجاء في رواية: «بعيد» مصغّرا، تقليلا للبعد المذكور؛ إيماء إلى أنّ بعد ما بين منكبيه لم يكن وافيا منافيا للاعتدال. (أهدب أشفار العينين) ؛ أي: طويلهما غزيرهما- على ما مرّ-. (ومعنى «شبح الذّراعين» ) : عبلهما (عريضهما ممتدّهما) ؛ ففي «المجمل» شبحت الشيء: مددته. (و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبل) - بفتح العين المهملة وسكون الموحدة تليها لام، كذا ضبطه بعضهم بإسكان الباء. فإن كان الرواية، وإلّا! ففيه أيضا كسر الباء؛ بزنة فرخ- أي: ضخم قوي (العضدين) - تثنية: عضد؛ بفتح العين وضمّ الضاد المعجمة وتسكّن تخفيفا؛ وهو ما بين المرفق والكتف. (و) عبل (الذّراعين) : ضخمهما، والذراعان: تثنية ذراع؛ وهو: ما بين مفصل الكفّ والمرفق، أو: من المرفق إلى أطراف الأصابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وما تحت الإزار من الفخذين والسّاق، طويل الزّندين، رحب الرّاحتين، سائل الأطراف، كأنّ أصابعه قضبان الفضّة. وكان صلّى الله عليه وسلّم معتدل الخلق في السّمن، فبدن في آخر عمره، ... (و) عبل (ما تحت الإزار من الفخذين والسّاق) ، وذلك كلّه مما يؤذن بكمال قوّته؛ لما في الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلم أعطي قوّة ثلاثين رجلا. (طويل الزّندين) ؛ أي: عظيمهما إذ الزند موصل عظم الذّراع؛ وهما زندان: الكوع والكرسوع؛ قاله في «شرح الإحياء» . وقد مرّ أن: الزند ما انحسر من الذراع. (رحب الرّاحتين) ؛ أي: واسعهما حسّا ومعنى، والراحة: باطن الكف. (سائل الأطراف) - بالسين المهملة- أي: ممتدّها، وهي الأصابع امتدادا معتدلا بين الإفراط والتفريط. ويروى بالشين المعجمة: أي مرتفعها. (كأنّ) - بالتشديد- (أصابعه) صلّى الله عليه وسلم (قضبان) - جمع قضيب؛ وهو: الغصن. والمراد تشبيهها بقضبان- (الفضّة) في امتدادها وصفاء لونها. وهذا رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقيّ، والطبرانيّ بألفاظ شتّى مفرّقة؛ من حديث أبي هريرة، وعائشة، وهند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم معتدل الخلق) - بفتح الخاء المعجمة- (في السّمن) ، والمراد أنّه معتدل الصورة الظاهرة، بمعنى أن أعضاءه متناسبة غير متنافرة، وكلّ متناسب معتدل، وكلّ متوسط في كمّ وكيف معتدل، وكلّ مستقيم قويم معتدل. (فبدن في آخر عمره) ، ولما كان إطلاق البادن يوهم الإفراط في السّمن المستدعي لرخاوة البدن وعدم استمساكه وهو مذموم اتفاقا؛ استدرك ونفى ذلك؛ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وكان مع ذلك لحمه متماسكا، يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطّويل البائن، ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الرّبعة إذا مشى وحده، ... (وكان مع ذلك لحمه متماسكا) ؛ أي: كان أعضاؤه يمسك بعضها بعضا؛ من غير ترجرج (يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ) ؛ أي: الطعن في العمر والتقدّم في السن، وأراد أنّه في السنّ الذي شأنه استرخاء اللحم كان كالشباب. (و) روى البخاريّ، ومسلم؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس وجها) حتّى من يوسف. قال السيوطي: من خصائصه أنّه أوتي كلّ الحسن؛ ولم يؤت يوسف إلّا شطره. (وأحسنهم خلقا) . قال القرطبي: الرواية بفتح الخاء وسكون اللام. قال: والمراد حسن جسمه، بدليل قوله بعده: ليس بالطويل ... الخ. وأما ما في حديث أنس؛ فروايته بضمّ الخاء واللام، لأنه عنى به حسن المعاشرة بدليل بقية الخبر؛ نقله المناوي، وردّ ما جزم به ابن حجر من ضمّ الخاء واللام في هذا الحديث. (ليس بالطّويل البائن) - بالهمز وجعله بالياء وهم- والمراد نفي الطول المفرط، (ولا بالقصير) هذه رواية الشيخين. وزاد في «الإحياء» : (بل كان ينسب إلى الرّبعة) - بفتح فسكون- وقد يحرّك، وتأنيثه!! باعتبار النفس، ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث. إذ يقال في جمع كلّ منهما: ربعات بالسكون والتحريك- أي: أنّه يوصف بها، فيقال: هو ربعة لقربه منها، وذلك (إذا مشى وحده) ، فهو من نسبة الجزئي إلى كلّيّه. واستأنفت السيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها جوابا لسؤال نشأ من مفهوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من النّاس وهو ينسب إلى الطّول.. إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما، فإذا فارقاه.. نسبا إلى الطّول؛ ونسب هو صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّبعة. وحدّه قولها: (ومع ذلك) ؛ أي: مع كونه ربعة معتدلا (فلم يكن يماشيه أحد من النّاس) بأن يمشي معه وبجنبه؛ (وهو ينسب إلى الطّول) ، المراد بنسبته إلى الطول اتصافه به وكونه معروفا به مشهورا؛ (إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: زاد عليه في الطول. (ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما) ؛ أي: يزيد عليهما في الطول؛ إكراما من الله حتى لا يزيد أحد عليه صورة؛ (فإذا فارقاه نسبا إلى الطّول؛ وينسب هو صلّى الله عليه وسلم إلى الرّبعة) . والسرّ في ذلك: هو التنبيه على أنّه لا يتطاول عليه أحد من الأمّة صورة، كما لا يتطاولون عليه معنى. وهذه الزيادة المذكورة في «الإحياء» رواها ابن عساكر، والبيهقي، وابن أبي خيثمة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- كما في «المواهب» ببعض اختلاف في الألفاظ-: وفي «الدلائل» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان ربعة إلى الطول مائل ... الحديث. وعند المنذري في «الزهريات» ؛ من حديثه: كان ربعة؛ وهو إلى الطول أقرب. وإسناده حسن. وعند البيهقي؛ من حديث علي: وهو إلى الطول أقرب. وعنده أيضا؛ من حديث عائشة: كان ينسب إلى الرّبعة. وفي «زوائد المسند» لعبد الله بن أحمد: ليس بالذاهب طولا وفوق الرّبعة. ولا تنافي بين الأخبار، لأنه أمر نسبيّ. فمن وصفه بالرّبعة أراد الأمر التقريبي؛ ولم يرد التحديد. ومن ثمّ قال ابن أبي هالة: كان أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب؛ وهو البائن الطول في نحافة. رواه الترمذي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ويقول صلّى الله عليه وسلّم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» . وزاد ابن سبع في «الخصائص» : أنّه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس.. يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين. «الشمائل» ، والطبرانيّ، والبيهقي. انتهى شرح «الإحياء» . (و) كان (يقول صلّى الله عليه وسلم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» ) يعني المعتدل القامة. رواه أبو بكر بن لال في «مكارم الأخلاق» . والديلمي؛ من حديث عائشة رضي الله عنها. ويروى عن الحسن بن علي: أنّ الله جعل البهاء والهوج في الطوال. قال السخاوي: وما اشتهر على الألسنة: «ما خلا قصير من حكمة!!» لم أقف عليه. انتهى شرح «الإحياء» . (وزاد) الإمام أبو الربيع (ابن سبع) - بإسكان الموحدة: بلفظ العدد، وقد تضمّ؛ كما في «التبصير» - (في) كتاب (الخصائص) ، ورزين (أنّه صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين) . قال الشهاب الخفاجي في «نسيم الرياض» : وهل هذا محض إراءة لذلك؛ أو حقيقيّ يرجع عنه!؟ فيه تردّد. ولم يخلق أطول من غيره!! لخروجه عن الاعتدال الأكمل المحمود، ولكن جعل الله له هذا في رأي العين معجزة خصّه الله تعالى بها!! لئلا يرى تفوّق أحد عليه بحسب الصورة، وليظهر من بين أصحابه تعظيما له بما لم يسمع لغيره، فإذا فارق تلك الحالة زال المحذور وعلم التعظيم، فظهر كماله الخلقي. انتهى. وقال الزرقاني: وحكمة ما رأيت ودليله قول علي: إذا جامع القوم غمرهم. إذ هو شامل للمشي والجلوس. فقصّر من توقف فيه بأنه لم يره إلّا في كلام رزين وكلام الناقلين عنه. انتهى. (و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، والطبراني في «الكبير» ؛ عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وكان صلّى الله عليه وسلّم فخما مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، ... خالي هند بن أبي هالة- وكان وصّافا- عن حلية النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلّق به، فقال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم فخما) - بفاء مفتوحة فمعجمة ساكنة- (مفخّما) اسم مفعول من التفعيل، وهو خبر بعد خبر ل «كان» ، أي: كان عظيما في نفسه، معظّما في الصدور والعيون، لا يستطيع مكابر أن لا يعظّمه؛ وإن حرص على ترك تعظيمه، ولم يرد بالفخامة فخامة الجسم؛ وإن كان ضخما في الجملة (يتلألأ وجهه) ؛ أي: يشرق ويضيء كاللؤلؤ. وأصل تلألأ: ابيضّ فأشبه بياضه اللؤلؤ. وسمي «لؤلؤا» !! لضوئه. وإنما بدأ الوصّاف بالوجه!! لأنه أشرف ما في الإنسان، ولأنه أوّل ما يتوجّه إليه النظر. وقوله (تلألؤ القمر) ؛ أي: مثل إشراقه واستنارته (ليلة البدر) ؛ وهي ليلة أربع عشرة؛ ليلة كماله. وإنما سمّي فيها «بدرا» !! لأنّه يبدر بالطلوع فسبق طلوعه مغيب الشمس. وتشبيه بعض صفاته صلّى الله عليه وسلم بنحو الشمس والقمر إنّما جرى على عادة الشعراء والعرب، أو على التقريب والتمثيل، وإلّا! فلا شيء يعادل شيئا من أوصافه، إذ هي أعلى وأجلّ من كلّ مخلوق. وشبّه الوصّاف تلألؤ الوجه بتلألؤ القمر؛ دون الشمس!! لأنّه ظهر في عالم مظلم بظلام الكفر؛ ونور القمر أنفع من نورها، فنور وجهه أنفع من نور الشمس. وهذا كما ترى أحسن من الجواب: بأن القمر يتمكّن من النظر إليه، ويؤنس من يشاهده من غير أذى يتولّد عنه، بخلاف الشمس، فإنها تغشي البصر وتؤذي، على أنّه ورد تشبيهه بالشمس أيضا؛ كما سيأتي؛ كذا قال المناوي رحمه الله تعالى. (أطول) - بالنصب- خبر آخر (من المربوع) عند إمعان النظر وتحقيق التأمّل، وقد عرفت أنّ وصفه بالربعة- فيما مرّ- تقريبي، فلا ينافي أنّه أطول من المربوع، ولا ريب أنّ القرب من الطول في القامة أحسن وألطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وأقصر من المشذّب، عظيم الهامة، رجل الشّعر، إن انفرقت عقيقته.. فرقها، ... ومن معجزاته أنّه صلّى الله عليه وسلم إذا دخل بين جماعة طوال كان في نظر الحاضرين أطول منهم جميعا، كما روي أنّه لم يكن أحد يماشيه من الناس إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان فيطولهما؛ فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ونسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الرّبعة، وقد مرّ ذلك قريبا. (وأقصر من المشذّب) - بصيغة اسم المفعول-؛ أي: من الطويل البائن في نحافة. وأصل المشذّب: النخلة الطويلة التي شذّب عنها جريدها، أي: قطع وفرّق، لأن بذلك تطول. كذا قيل؛ نقله في «جمع الوسائل» . (عظيم الهامة) - بالتخفيف- أي: الرأس، وعظم الرأس ممدوح، لأنّه أعون على الإدراكات والكمالات (رجل) - بكسر الجيم وسكونها- (الشّعر) - بفتح العين وسكونها- أي: في شعره تكسّر وتثنّ قليل. (إن انفرقت عقيقته) ؛ أي: شعر رأسه الذي على ناصيته. وأصل العق: الشق والقطع. والعقيقة في الحقيقة: الشعر الذي يولد عليه المولود قبل أن يحلق في اليوم السابع، فإذا حلق ونبت ثانيا فقد زال عنه اسم العقيقة، وربّما سمّي الشعر عقيقة بعد الحلق أيضا على المجاز، لأنّه منها؛ ونباته من نباتها. وبذلك جاء الحديث؛ لئلا يلزم أن يكون شعره باقيا من حيث ولادته، فإنّه مستبعد جدّا في العادة، فإنّ عادتهم حلق شعر المولود في السابع، وكذا ذبح الغنم وإطعام الفقراء. اللهم إلّا أن يقال إنه من الكرامات الإلهية؛ لئلا يذبح باسم الآلهة. ويؤيده ما قاله القفّال المروزي في «فتاويه» من أنه يستحبّ لمن لم يعقّ عنه أن يعقّ عن نفسه، فإنّه صلّى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوّة، لكن يحتمل أنه ما اعتبر عقيقتهم لكونها على اسم غيره سبحانه. وفي رواية عقيصته- بالصاد المهملة؛ بدل القاف الثانية- والمشهور عقيقته- بقافين- ومعنى الخبر: أنّه إذا قبلت عقيقته الفرق بسهولة؛ بأن كان حديث عهد بنحو غسل (فرقها) - بالتخفيف- أي: جعل شعره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وإلّا.. فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره. أزهر اللّون، ... نصفين: نصفا عن اليمين، ونصفا عن اليسار، قيل: بالمشط، وقيل: بيده. (وإلّا) ؛ أي: وإن لم تقبل الفرق بأن كان شعره مختلطا متلاصقا، (فلا) يفرقها، بل يسدلها؛ أي: يرسلها على جبينه، فيجوز الفرق والسّدل، لكن الفرق أفضل، لأنّه الذي رجع إليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن المشركين كانوا يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلونها؛ فكان صلّى الله عليه وسلم يسدل رأسه، لأنه كان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق واستمرّ عليه. قال الحافظ العراقي في «ألفية السيرة» : يحلق رأسه لأجل النّسك ... وربّما قصّره في نسك وما قرّرناه مبنيّ على جعله قوله «وإلّا فلا» كلاما تاما، وما بعده مستأنف ليس من مدخول النفي؛ وهو ما حقّقه العصام، وعليه شرح ابن حجر والمناويّ والقاري وحسّوس، وتبعهم الباجوري. ثم قال: ويصحّ أن يكون ما بعده من مدخول النفي، فيصير التركيب هكذا: وإلّا فلا (يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره) أي: جعله وفرة، وتقدّم أنّ الوفرة الشعر النازل من شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين. وحاصل المعنى على التقرير الأول أنّ شعره صلّى الله عليه وسلم يجاوز شحمة أذنيه إذا جعله وفرة؛ ولم يفرقه، فإن فرقه؛ ولم يجعله وفرة وصل إلى المنكبين؛ وكان جمّة: وعلى التقرير الثاني: أنّ عقيقته صلّى الله عليه وسلم إذا لم تنفرق؛ بل استمرت مجموعة لم يجاوز شعره شحمة أذنيه، بل يكون حذاء أذنيه فقط. فإن انفرقت عقيقته! جاوز شعره شحمة أذنيه، بل وصل إلى المنكبين. انتهى. (أزهر اللّون) ؛ أي: أبيضه بياضا نيّرا، لأنه مشرّب بحمرة. كذا قال الأكثر، لكن قال السّهيلي: الزّهرة- في اللغة-: إشراق في اللون؛ بياضا وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 واسع الجبين، أزجّ الحواجب؛ سوابغ في غير قرن، ... (واسع الجبين) ؛ أي: ممتدّ الجبين طولا وعرضا، وسعة الجبين محمودة عند كلّ ذي ذوق سليم. والجبين- كما في «الصحاح» - فوق الصّدغ؛ وهو: ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال، فهما جبينان، فتكون الجبهة بين جبينين، وبذلك تعلم أن «أل» في «الجبين» للجنس، فيصدق بالجبينين كما هو المراد. (أزجّ الحواجب) بمعنى مقوّس الحاجبين مع وفور الشعر وطوله في طرفه وامتداده، أو دقيقهما مع طول، لأن الزّجج- بزاي وجيمين محرّكة-: استقواس الحاجبين مع طول؛ كما في «القاموس» . أو دقّة الحاجبين مع سبوغهما إلى مؤخّر العين؛ كما في «الفائق» . وإنّما قيل: «أزج الحواجب» ؛ دون «مزجّج الحواجب» !! لأن الزجج خلقة والتزجيج صنعة؛ والخلقة أشرف. وعليه قوله: ومقلة وحاجبا مزجّجا وقوله: وزجّجن الحواجب والعيونا أي: صنعن ذلك بدليل عطف العيون عليه. والحواجب: جمع حاجب؛ وهو: ما فوق العين بلحمه وشعره، وهو صفة غالبة. أو هو الشعر الذي على العظم وحده، وسمّي به لمنعه الشمس عن العين، ووضع الحواجب موضع الحاجبين!! لأن التثنية جمع؛ أو للمبالغة في امتدادهما حتّى صارا كالحواجب. (سوابغ) - بالسين والصاد والسين أفصح- جمع سابغة؛ أي: كوامل، وهو حال من الحواجب، لأنه في المعنى فاعل؛ أي: دقّت وتقوّست حال كونها سوابغ أي- كاملات. والأظهر أنّه منصوب على المدح (في غير قرن) - بالتحريك؛ مصدر قولك: رجل أقرن- أي: مقرون الحاجبين. وهو مكمل للوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى العرنين، ... المذكور، والمراد أنّ حاجبيه قد سبغا حتّى كادا يلتقيان ولم يلتقيا. والقرن غير محمود عند العرب ويستحبون البلج، وهو الصحيح في صفته صلّى الله عليه وسلم، بخلاف ما روته أمّ معبد حيث قالت في صفته: أزجّ أقرن. ويمكن أن يجمع بينهما على تقدير صحّة رواياتها: بأن يقال: كان بين حاجبيه فرجة دقيقة لا تتبين إلّا للمتأمل، فهو غير أقرن في الواقع؛ وإن كان أقرن بحسب الظاهر، فكأنه جمع من لطافة العرب وظرافة العجم صلّى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات «في غير قرن» . ففي بمعنى «من» ، و «غير» بمعنى «لا» ، أي: بلا قرن، وهو حال أيضا من الحواجب على الترادف؛ أو التداخل، والتداخل هو الأحسن. (بينهما) ؛ أي: الحاجبين، وفيه تنبيه على أن الحواجب في معنى الحاجبين. (عرق) أجوف يكون فيه الدم- وهو بكسر العين- والعصب غير أجوف. وهذا حال من الحواجب. وترك الواو في الجملة الاسمية جائز. (يدرّه الغضب) ؛ من الإدرار- على الرواية الصحيحة- أي: بين الحاجبين عرق يصيّره الغضب ممتلئا دما؛ كما يصير الضرع ممتلئا لبنا. وفي ذلك دليل على كمال قوّته الغضبية التي عليها مدار حماية الديار وقمع الأشرار. والجملة صفة «عرق» . (أقنى) - بقاف فنون مخففة- أي: طويل الأنف. يقال رجل أقنى وامرأة قنواء. (العرنين) - بكسر العين المهملة وسكون الراء وكسر النون الأولى- قيل: هو ما صلب من الأنف. وقيل: الأنف كله، وهو المناسب هنا. والمراد أنّه طويل الأنف مع دقّة أرنبته، ومع حدب في وسطه، فلم يكن طوله مع استواء، بل كان في وسطه بعض ارتفاع، وهو وصف مدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمّله أشمّ، كثّ اللّحية، سهل الخدّين، ضليع الفم، ... (له نور يعلوه) الظاهر أنّ الضميرين راجعان إلى العرنين، لأن ما بعده من تتمات صفات الأنف، ويحتمل أنّه عائد للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّه الأصل، وكذا الضمير في قوله بعده «يحسبه من لم يتأمّله أشمّ» . والنور: قال السعد التفتازاني: أجود تعريفاته: كيفية تدركها الباصرة أولا، وبواسطتها تدرك سائر المبصرات. (يحسبه) - بكسر السين وفتحها- أي: يظن النبي صلّى الله عليه وسلم (من لم يتأمّله) : يمعن النظر فيه. والتأمّل إعادة النظر في الشيء مرّة بعد أخرى حتى يعرفه ويتحقّقه. (أشمّ) مفعول ثان ل «يحسبه» . والشّمم- بفتحتين-: ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها، ومع إشراف الأرنبة قليلا. وحاصل المعنى: أنّ الرائي له صلّى الله عليه وسلم يظنّه أشمّ لحسن قناه ولنور علاه، ولو أمعن النظر لحكم بأنه غير أشمّ. (كثّ) - بتشديد المثلثة، وفي رواية. كثيف- (اللّحية) ، وفي أخرى: عظيم اللحية، وعلى كلّ؛ فالمعنى أنّ لحيته صلّى الله عليه وسلم كانت عظيمة غليظة. واللّحية- بكسر اللام على الأفصح-: الشّعر النابت على الذّقن، وهو مجتمع اللحيين (سهل الخدّين) غير مرتفع الوجنتين، وهو بمعنى خبر البزار والبيهقي (كان أسيل الخدين) ، وذلك أعلى وأغلى وأحلى عند العرب. (ضليع الفم) - بضاد معجمة مفتوحة-: عظيمه. وقيل: واسعه. والعرب تتمدح بسعة الفم وتذمّ بضيقه، لأنّ سعته دليل على الفصاحة. قال الزمخشري: والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه ووفرت؛ فأجفر جنباه، ثم استعمل في موضع العظم؛ وإن لم يكن ثمّ أضلاع. انتهى. ومن فسر ضليعه بعظيم الأسنان!! ففي كلامه نظر من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أشنب، مفلّج الأسنان، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جيد دمية في صفاء الفضّة، ... الأول: أنّ إضافته إلى الفم تمنع منه، لأنها تقتضي أنّ المراد عظيم الفم؛ لا عظيم الأسنان. والثاني: أن المقام مقام مدح، وليس عظم الأسنان بمدح؛ بخلاف عظم الفم. (أشنب) - بشين معجمة ونون بعدها موحدة- أي: أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها (مفلّج الأسنان) ؛ بصيغة اسم المفعول من التفليج- بالفاء والجيم- أي: منفرجها، وهو خلاف متراصّ الأسنان. والفلج: انفراج ما بين الثنايا. وفي «القاموس» : مفلّج الثنايا: منفرجها. وظاهره اختصاص الفلج بالثنايا. ويؤيده: إضافته إلى الثّنيّتين في خبر ابن عبّاس الآتي، وما قاله العصام من «أنّه يحتمل أنّ المراد الانفراج مطلقا» !! يردّه أن المقام مقام مدح، وقد صرح جمع من شرّاح «الشفاء» وغيرهم بأن انفراج جميع الأسنان عيب عند العرب: والألصّ ضد المفلج فهو متقارب الثنايا. والفلج، أبلغ في الفصاحة، لأنّ اللسان يتّسع فيها. (دقيق) - بالدال، وفي رواية: بالراء- (المسربة) - بفتح الميم وسكون السين المهملة وضمّ الراء-: الشعر المستدقّ ما بين اللّبّة إلى السّرة، ووصفها بالدقّة للمبالغة. (كأنّ) - بتشديد النون- (عنقه) - بضمّتين ويسكّن- (جيد دمية) ؛ أي: كأن عنقه الشريف عنق صورة متّخذة من عاج ونحوه (في صفاء الفضّة) فالجيد بكسر الجيم وسكون المثناة التحتية-: العنق، والدّمية- بضم الدال المهملة وسكون الميم بعدها مثناة تحتية-: الصورة المتّخذة من عاج ونحوه. فشبّه عنقه الشريف بعنق الدّمية في الاستواء والاعتدال؛ وحسن الهيئة والكمال؛ والإشراق والجمال، لا في لون البياض، بدليل قوله «في صفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 معتدل الخلق. بادن متماسك، ... الفضة» !! لبعد ما بين لون العاج ولون الفضة من التفاوت. وقد بحث فيه بأن في أنواع المعادن ما هو أحسن نضارة من العاج ونحوه، كالبلور، فلم آثر العاج؟ وأجيب بأن هذه الصورة قد تكون مألوفة عندهم؛ دون غيرها، لأن مصورها يبالغ في تحسينها ما أمكنه. (معتدل الخلق) - بفتح الخاء المعجمة-: أي: معتدل الصورة الظاهرة بمعنى أن أعضاءه متناسبة غير متنافرة. وهذا الكلام إجمال بعد تفصيل بالنسبة لما قبله، وإجمال قبل التفصيل بالنسبة لما بعده. وهذه الفقرة بالنصب والرفع، والنصب أظهر. (بادن) أي: سمين سمنا معتدلا، بدليل قوله فيما تقدم «لم يكن بالمطهّم» . فالحقّ أنّه لم يكن سمينا جدّا؛ ولا نحيفا. وفي «جمع الوسائل» : قال الحفني: قوله «بادن» روايتنا إلى هنا بالنصب، ومن هنا إلى آخر الحديث بالرفع. ويحتمل- كما قيل- أن يكون قوله «بادن» منصوبا كما يقتضيه السياق، ويكتفى بحركة النصب عن الألف كما هو رسم المتقدمين. ويؤيده ما وقع في «جامع الأصول» : بادنا- بالألف- وكذا في «الفائق» ، وكذا في «الشفاء» للقاضي عياض. ولما كانت البدانة قد تكون من الأعضاء؛ وقد تكون من كثرة اللحم والسمن المفرط المستوجب لرخاوة البدن وهو مذموم؛ أردفه بما ينفي ذلك فقال: (متماسك) يمسك بعض أجزائه بعضا من غير ترجرج، وقيل: معناه ليس بمسترخي البدن، حتّى أنه في السنّ الذي شأنه استرخاء البدن كان كالشاب. ولذلك قال الغزالي: لحمه متماسك يكاد يكون على الخلق الأول فلم يضرّه السنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 سواء البطن والصّدر، عريض الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرّد، موصول ما بين اللّبّة والسّرّة ... (سواء) - بفتح السين والواو والألف- (البطن والصّدر) برفع «سواء» منونا، ورفع «البطن» و «الصّدر» ، وفي بعض النسخ: سواء البطن والصدر؛ برفع «سواء» غير منون، وجرّ البطن والصدر على الإضافة. والمعنى: أن بطنه وصدره الشريفين مستويان لا ينتأ أحدهما عن الآخر؛ فلا يزيد بطنه على صدره؛ ولا يزيد صدره على بطنه. (عريض الصّدر) ؛ كالمؤكّد لقوله «سواء البطن والصدر» ، وكون الصدر عريضا مما يمدح به في الرجال. (بعيد ما بين المنكبين) روي بالتكبير والتصغير، والمراد بكونه (بعيد ما بين المنكبين) : أنّه عريض أعلى الظهر كما تقدّم. و «ما» موصولة. (ضخم الكراديس) : غليظها عظيمها. قال في «الصحاح» : الضخم الغليظ من كلّ شيء. وفي «المصباح» : الضخم العظيم، وضخم عظم. ومن كلامهم: العظم أساس البدن. (أنور المتجرّد) - بكسر الراء المشددة؛ على أنّه اسم فاعل، وبفتحها على أنه اسم مكان، قيل: وهو أشهر، بل قيل: إنه الرواية-. والمعنى أنّه نيّر العضو المتجرّد عن الشعر؛ أو عن الثوب، فهو على غاية من الحسن ونصاعة اللون. وعلم من ذلك أنّه وضع «أفعل» موضع «فعيل» ؛ كما قاله جمع. (موصول ما بين اللّبّة والسّرّة) «ما» موصولة؛ أو موصوفة، واللّبّة- بفتح اللام وتشديد الباء-: النّقرة التي فوق الصدر، أو موضع القلادة منه، والسّرّة بضم أوّله المهملة-: ما بقي بعد القطع، والذي يقطع سرّ. قال في «الصحاح» . تقول: عرفت ذلك قبل أن يقطع سرّك، ولا تقل سرّتك. لأنّ السرة لا تقطع، وإنما هي الموضع الذي قطع منه السّرّ- بالضم-. والمعنى: وصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بشعر يجري كالخطّ، عاري الثّديين والبطن ما سوى ذلك، أشعر الذّراعين والمنكبين وأعالي الصّدر، ... ما بين لبّته وسرّته (بشعر) جار ومجرور متعلق بموصول. (يجري) ؛ أي: يمتد ذلك الشعر، فشبّه امتداده بجريان الماء؛ وهو امتداده في سيلانه (كالخطّ) ؛ أي: خطّ الكتابة. وروي كالخيط، والتشبيه بالخطّ أبلغ، لإشعاره بأن الشعرات مشبهة بالحروف، وهذا معنى «دقيق المسربة» الذي مرّ الكلام عليه. وفي رواية لابن سعد: له شعر من لبّته إلى سرّته يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره؛ أي: ما عدا أعاليه. أخذا مما يأتي شعر غيره. (عاري) - أي: خالي- (الثّديين) - بفتح المثلثة: وسكون الدال-. (و) عاري (البطن) من الشعر (ما سوى ذلك) الخطّ. وفي رواية: ممّا سوى ذلك. وهي أنسب وأقرب؛ أي: سوى محلّ الشعر المذكور، أما هو!! ففيه الشعر الذي هو المسربة. والمعنى: لم يكن على ثدييه وبطنه شعر غير مسربته. ويؤيّده ما وقع في حديث ابن سعد: له شعر من لبّته إلى سرّته، يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره. قال بعضهم: ولا شعر تحت إبطيه، ولعله أخذه من ذكر أنس وغيره «بياض إبطيه» . وردّه المحقق أبو زرعة بأنه لا يلزم من البياض فقد الشعر، على أنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتف شعر إبطيه؛ كما في «جمع الوسائل» . (أشعر) ؛ أي: كثير شعر (الذّراعين) - بكسر الذال- تثنية ذراع من المرفق إلى الأصابع. (و) أشعر (المنكبين) تثنية منكب- بفتح الميم وكسر الكاف-: مجتمع رأس الكتف والعضد، (و) أشعر (أعالي) جمع أعلى (الصّدر) ؛ أي: أن شعر هذه الثلاثة غزير كثير. وهذا من تتمة الصفتين المارتين. والأشعر ضدّ: الأجرد، وهو أفعل صفة لا أفعل تفضيل. وفي «القاموس» : الأشعر كثير الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 طويل الزّندين. رحب الرّاحة، شثن الكفّين والقدمين، ... وطويله. وفي أكثر الشروح: أي كثيره. وقيل: طويله، والمقام يحتملهما والله أعلم. (طويل الزّندين) - بفتح الزاي وسكون النون وبالدال المهملة؛ تثنية زند كفلس-: ما انحسر عنه اللحم من الذراع، وله رأسان: الكوع والكرسوع. قال في «القاموس» : الكوع- بالضمّ-: طرف الزّند الذي يلي الإبهام. والكاع طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الكرسوع- بالعين المهملة- كما في «القاموس» ولبعضهم: فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي ... لخنصره الكرسوع والرّسغ ما وسط وعظم يلي إبهام رجل ملقّب ... ببوع، فخذ بالعلم واحذر من الغلط والزّند مذكّر. قال الأصمعي: لم ير أحد أعرض زندا من الحسن البصري، كان عرض زنده شبرا. (رحب الرّاحة) واسع الكفّ حسّا ومعنى. ولله درّ حسان بن ثابت الصحابي رضي الله عنه حيث قال: له راحة لو أنّ معشار جودها ... على البرّ كان البرّ أندى من البحر له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر والرواية بفتح الراء في «رحب» ، ويجوز الضمّ في اللّغة. وقيل: رحب الراحة دليل الجود، وضيقها دليل البخل. والرّاحة: بطن الكفّ مع بطون الأصابع، وأصلها من الرّوح؛ وهو الاتساع. (شثن الكفّين والقدمين) ، سبق معناه، وأنّه فسّره ابن حجر العسقلاني بغليظ الأصابع والراحة، وهو المتبادر، ويؤيّده رواية «ضخم الكفين والقدمين» . قال ابن بطّال: كانت كفّه صلّى الله عليه وسلم ممتلئة لحما، غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت ليّنة؛ كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 سائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء؛ ... ثبت في حديث أنس: ما مسست خزّا؛ ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (سائل الأطراف) - بالسين المهملة وبهمز مكسور بعد ألف وفي آخره لام- أي: ممتدّ الأصابع طويلها طولا معتدلا بين الإفراط والتفريط، فكانت مستوية مستقيمة؛ وذلك مما يتمدّح به. (خمصان) - بضمّ الخاء المعجمة وسكون الميم كعثمان، وبضمتين وبفتح فسكون- (الأخمصين) - بفتح الميم بلفظ التثنية- والأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء؛ مأخوذ من الخمص- بفتحتين-، وهو: ارتفاع وسط القدم عن الأرض. والخمصان المبالغ فيه؛ أي: أن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض؛ كذا في «النهاية» . ولم يرتض ابن الأعرابي جعل الصيغة للمبالغة. وقال: إذا كان معتدل الخمص؛ لا مرتفعه جدا ولا منخفضه كذلك؛ فهو أحسن، بل غيره مذموم. انتهى. ورجّح مقال ابن الأعرابي لأنه الأنسب بأوصافه؛ إذ هي في غاية الاعتدال. ولا يعارضه خبر أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا وطىء بقدمه وطىء بكلّها، ليس له أخمص» !! لأنّ مراده سلب نفي الاعتدال، فمن أثبت الأخمص أراد أنّ في قدميه خمصا يسيرا، ومن نفاه نفى شدّته. (مسيح القدمين) أي: أملسها من ظهرهما لوجود الخموصة في بطنها. ومستويهما: ليّنهما بلا تكسّر؛ ولا تشقّق جلد بحيث (ينبو) على وزن: يدعو؛ أي: يتباعد ويتجافى (عنهما الماء) ؛ أي: إذا صبّ عليهما الماء مرّ سريعا لملاستهما ولينهما، وكان غليظ أصابعهما. يقال: نبا الشيء تجافى وتباعد وبابه «سما» ؛ كما في «المختار» . وروى الإمام أحمد وغيره أنّ سبّابتي قدميه صلّى الله عليه وسلم كانتا أطول من بقيّة أصابعهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إذا زال.. زال قلعا، يخطو تكفّيا ويمشي هونا، ... وما اشتهر من إطلاق «أنّ سبّابتيه كانتا أطول من وسطاه» !؟ غلط، بل ذلك خاصّ بأصابع رجليه؛ كما قاله بعض الحفاظ. (إذا زال زال قلعا) ؛ أي: إذا مشى رفع رجليه بقوّة كأنّه يقلع شيئا من الأرض؛ لا كمشي المختال. وقلعا حال؛ أو مصدر على تقدير مضاف؛ أي: زوال قلع؛ وفيه خمسة أوجه: 1/ 3- فتح أوّله مع تثليث ثانيه؛ أي: فتحه وكسره وسكونه، و 4/ 5- ضمّ أوّله مع سكون ثانيه وفتحه. والقلع- في الأصل-: انتزاع الشيء من أصله، أو: تحويله عن محلّه. وكلاهما صالح لأن يراد هنا، لأنّه يرفع رجله بقوّة ويحوّلها كذلك. (يخطو) - بوزن: يعدو-؛ أي: يمشي (تكفّيا) - بكسر الفاء المشددة بعدها ياء-؛ أي: مائلا إلى سنن المشي؛ لا إلى طرفيه. وهذه الجملة مؤكّدة لمعنى قوله «زال قلعا» . (ويمشي هونا) - بالنون ك «ضربا» ، نعت لمصدر محذوف؛ أي: مشيا هونا، أو حال-؛ أي: هيّنا في تؤدة وسكينة. وهذه الجملة قيل: إنّها تفنّن في العبارة حيث عبّر عن المشي بعبارتين فرارا من كراهة تكرار لفظه. وقيل: تتميم لكيفية مشيه صلّى الله عليه وسلم، فقوله «إذا زال زال قلعا» بيان لكيفيّة رفع رجليه عن الأرض، وقوله «ويمشي هونا» بيان لكيفية وضعهما على الأرض. وبهذا عرف أنّه لا تدافع بين الهون والتقلّع والانحدار، والهون: الرفق واللين. فكان صلّى الله عليه وسلم يمشي برفق ولين، وتثبّت ووقار، وحلم وأناة، وعفاف وتواضع، فلا يضرب برجله، ولا يخفق بنعله. وقد قال الزّهري: إنّ سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. يريد الإسراع الخفيف، لأنه يخلّ بالوقار، إذ الخير في الأمر الوسط. وهذه الصفة قد وصف الله تعالى بها عباده الصالحين بقوله (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [63/ الفرقان] . ولا يخفى أنّه صلّى الله عليه وسلم أثبت منهم في ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ذريع المشية، إذا مشى.. كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت.. التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السّماء، ... لأن كلّ كمال في غيره فهو فيه أكمل. (ذريع المشية) - بكسر الميم- أي: واسع الخطو خلقة؛ لا تكلّفا. قال الراغب: الذريع: الواسع. يقال: فرس ذريع؛ أي: واسع الخطو، فمع كونه صلّى الله عليه وسلم كان يمشي بسكينة كان يمدّ خطوه حتّى كأن الأرض تطوى له. (إذا مشى) - يصحّ أن يكون ظرفا لقوله «ذريع المشية» ، ولقوله- (كأنّما ينحطّ من صبب) ؛ أي: محلّ منحدر، والاحتمال الثاني هو المتبادر. (وإذا التفت التفت) عطف على الجملة الشرطية الأولى. أعني «إذا زال زال قلعا» . لأنّ ما بعدها من لواحقها. (جميعا) على وزن «فعيل» ، وفي بعض الروايات «جمعا» على وزن «ضربا» ، وهو منصوب على المصدر؛ أو الحال، أراد أنّه لا يسارق النظر، ولا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف، ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا؛ أي: بجميع أجزائه لمّا أن ذلك أليق بجلالته ومهابته. (خافض) - بالرفع- خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو خافض (الطّرف) - بفتح الطاء وسكون الراء-: هو العين، وأما الطرف- بالتحريك- فهو آخر الشيء. فطرف الحبل آخره. والمراد أنّه خافض البصر، لأن هذا شأن المتأمّل المشتغل بربّه، فلم يزل مطرقا متوجّها إلى عالم الغيب؛ مشغولا بحاله، متفكّرا في أمور الآخرة، متواضعا بطبعه. ثم أردف ذلك بما هو كالتفسير له؛ أو التأكيد، فقال: (نظره) ، أي: مطالعته (إلى الأرض أطول) ، أي: أكثر، أو زمن نظره إليها أطول؛ أي: أزيد وأمدّ (من نظره إلى السّماء) ، والمراد أنّ نظره إلى الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ... حال السكوت وعدم التوجّه إلى أحد أطول من نظره إلى السماء، فلا ينافي ما ورد من حديث أبي داود؛ عن عبد الله بن سلام قال: «كان صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء. مع أنّه قد يحتمل أنّ الرفع محمول على حال توقّعه انتظار الوحي في أمر ينزل إليه. وقيل: الأكثر لا ينافي الإكثار؛ وإنما كان نظره إلى الأرض أطول لكونه أجمع للفكرة؛ وأوسع للاعتبار؛ لاشتغاله بالباطن وإعمال جنانه في تدبير ما بعث بسببه، أو لكثرة حيائه وأدبه مع ربّه، أو أنّه بعث لتربية أهل الأرض؛ لا لتربية أهل السماء. والنظر- كما في «المصباح» -: تأمّل الشيء بالعين. والأرض- كما قال الراغب-: الجرم المقابل للسماء. ويعبّر بها عن أسفل الشيء كما يعبر بالسماء عن أعلى الشيء. والطول: الامتداد. يقال «طال الشيء» : امتدّ. وأطال الله بقاءك: مدّه ووسّعه. (جلّ نظره) - بضم الجيم واللام المشددة- أي: معظم نظره إلى الأشياء لا سيما إلى الدنيا وزخرفها (الملاحظة) ؛ أي: النظر باللّحاظ- بفتح اللام- وهو: شقّ العين مما يلي الصّدغ. وأما الذي يلي الأنف!! فالموق، ويقال له: الماق. فلم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشّره، بل كان يلاحظها في الجملة؛ امتثالا لقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [131/ طه] الآية. (يسوق أصحابه) ؛ أي: يقدّمهم بين يديه ويمشي خلفهم؛ كأنه يسوقهم، لأنّ الملائكة كانت تمشي خلف ظهره. روى الدارمي بإسناد صحيح أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «خلّوا ظهري للملائكة» . وأخرج أحمد؛ عن جابر رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم يمشون أمامه، ويدعون ظهره للملائكة. انتهى. ولأن من كمال التواضع أن لا يدع أحدا يمشي خلفه، وإيماء إلى مراعاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ويبدر من لقيه بالسّلام. أضعفهم؛ فيتأخّر عنهم رعاية للضعفاء وإعانة للفقراء، لأن شأن الولي مع المولّى عليهم أن ينظر إليهم، ويربّي من يستحق التربية، ويعاتب من تليق به المعاتبة، ويؤدّب من يناسبه التّأديب، ويكمّل من يحتاج إلى التكميل، وإنما تقدّمهم في قصّة جابر؛ كما قال النووي!! لأنّه دعاهم إليه، فكان كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم. (ويبدر) - بضم الدال؛ من باب «نصر» بمعنى: يسبق ويبادر، وفي نسخة: ويبدأ- (من لقيه) حتّى الصبيان؛ كما صرّح به جمع في الرواية عن أنس (بالسّلام) : بالتسليم، والمعنى أنّه كان يبادر ويسبق من لقيه من أمّته بتسليم التحية؛ لأنّه من كمال شيم المتواضعين؛ وهو سيّدهم. وليست بداءته بالسلام لأجل إيثار الغير بالجواب الذي هو فرض؛ وثوابه أجزل من ثواب السنة؛ كما قاله العصام، لأنّ الإيثار في القرب مكروه؛ كما بيّنه النووي في «المجموع» في «باب التيمم» أتمّ بيان، ووضّحه ناظم «القواعد الفقهية» مع شرحها للجرهزي؛ تبعا للسيوطي في «الأشباه» . وفي هذه الأفعال السابقة عن المصطفى صلّى الله عليه وسلم من تعليم أمّته كيفية المشي، وعدم الالتفات، وتقديم الصحب، والمبادرة بالسلام؛ ما لا يخفى على الموفّقين لفهم بعض أسرار أحواله حتى العاديّة؛ نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنّه وكرمه. آمين. تنبيه: من فضائله صلّى الله عليه وسلم أنّ الحقّ سبحانه ذكر أعضاءه عضوا عضوا في التنزيل، وذكره بجملته؛ فذكر وجهه في (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [144/ البقرة] ، وعينيه في (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [131/ طه] ، ولسانه في (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [97/ مريم] ، ويده وعنقه في (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [29/ الإسراء] ، وصدره وظهره في (أَلَمْ نَشْرَحْ) [1/ الشرح] ، وقلبه في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [193- 194/ الشعراء] ، وجملته في (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4) [القلم] ؛ ذكره المناوي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ومعنى (الفخم) : العظيم في نفسه. و (المفخّم) : المعظّم عند غيره. و (المشذّب) : الظّاهر الطّول مع نحافة. و (رجل الشّعر) : مسترسله. و (العقيقة) : شعر الرّأس. و (وفره) : جعله وفرة، وهي الشّعر النّازل عن شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين. و (أزهر) : مشرق اللّون، نيّره. و (أزجّ الحواجب) : مقوّسها مع طول. (ومعنى الفخم) ؛ في قوله «فخما» : (العظيم في نفسه. و) معنى (المفخّم) ؛ في قوله «مفخّما» : (المعظّم عند غيره) حتّى الكفّار، وما وقع من بعضهم من رميه بالحجارة ونحو ذلك!! إنما هو من العناد في الكفر مع اعتقاد عظمته وتفخيمه. (و) معنى (المشذّب) - بميم مضمومة فشين معجمة؛ فذال معجمة مشدّدة مفتوحتين فباء موحدة، على صيغة اسم المفعول؛ من التشذيب-: (الظّاهر الطّول مع نحافة) ؛ أي: نقص في اللحم. (و) معنى (رجل) - بكسر الجيم؛ أفصح من فتحها وسكونها-: (الشّعر) بفتح العين وسكونها- (مسترسله) . (و) معنى (العقيقة) - بقافين على المشهور-: (شعر الرّأس) سمّي «عقيقة» !! تشبيها بشعر المولود قبل أن يحلق، فإذا حلق ونبت ثانيا زال عنه اسم العقيقة، وربما سمّي الشعر «عقيقة» بعد الحلق؛ على الاستعارة، ومنه هذا الحديث. (و) معنى (وفره: جعله وفرة) ؛ أي: مجموعا. (وهي) أي: الوفرة: (الشّعر النّازل عن شحمة الأذن؛ إذا لم يصل إلى المنكبين) - على ما سبق-. (و) معنى (أزهر) اللون: (مشرق اللّون؛ نيّره) في كلّ أجزاء بدنه. (و) معنى (أزجّ الحواجب: مقوّسها مع طول) في طرفه- على ما في «القاموس» -. وفي «الصحاح» : دقّة الحاجبين بالطول. وفي «الأساس» : الدقّة والاستقواس. ويمكن الجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 و (السّوابغ) : الكاملات. و (أقنى العرنين) : طويل الأنف مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع. و (الأشمّ) : مرتفع قصبة الأنف. و (الأشنب) : أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها. و (المفلّج) : منفرج الثّنايا. و (الدّمية) : صورة من رخام ونحوه. و (البادن) : السّمين سمنا معتدلا. (و) معنى (السّوابغ) - بالسين والصاد؛ والسين أعلى، جمع سابغة-: (الكاملات) ؛ أي: غزيرات الشعر، حتّى أنّ من لم يتأمّلها يظنّه أقرن، وفي نفس الأمر لا قرن. (و) معنى (أقنى) - بقاف فنون مخفّفة مفتوحة- (العرنين) بكسر المهملة وسكون الراء وكسر النون الأولى-: (طويل الأنف مع دقّة أرنبته؛ في وسطه بعض ارتفاع) ، فالعرنين: الأنف، وأوّله حيث يكون الشم، وجمعه: عرانين. والقنا: طول الأنف ودقّة أرنبته وحدب في وسطه. (و) معنى (الأشمّ: مرتفع قصبة الأنف) مع استواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا. (و) معنى (الأشنب) - بشين معجمة فنون فموحدة-: (أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها) . (و) معنى (المفلّج) - بصيغة اسم المفعول-: (منفرج الثّنايا) ؛ جمع: ثنيّة، أي: بين ثناياه فرجة لطيفة. والثّنايا: هي الأسنان الأربع التي في مقدّم الفم؛ ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. والرّباعيات: أربع أسنان بجانب الثنايا. وسيأتي أنّه كان أفلج الثنيّتين. (و) معنى (الدّمية) - بضم الدال المهملة وإسكان الميم وتحتية مفتوحة-: (صورة) منقوشة (من رخام ونحوه) كالعاج، وكانوا يبالغون في تحسين عنقها. (و) معنى (البادن) - بالدال المهملة-: (السّمين سمنا معتدلا) بلا إفراط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 و (المتجرّد) : العضو العاري عن الشّعر. و (اللّبّة) : النّقرة الّتي فوق الصّدر. و (الرّحب) : الواسع. و (سائل الأطراف) : طويلها طولا معتدلا. و (خمصان الأخمصين) : متجافيهما عن الأرض. و (الأخمص) : الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء من وسط القدم. (و) معنى (المتجرّد) - بجيم وراء مشددة مفتوحتين-: (العضو العاري عن الشّعر) ؛ أو الثوب. (و) معنى (اللبّة) - بفتح اللام وتشديد الباء الموحدة المفتوحة-: (النّقرة الّتي فوق الصّدر) ، أي: المنحر، وهي المتطامن الذي فوق الصدر وأسفل الحلق من الترقوتين، وفيه تنحر الإبل. (و) معنى (الرّحب) - بفتح الراء وإسكان الحاء-: (الواسع) (و) معنى (سائل الأطراف) - بالسين المهملة وبهمز مكسور بعد ألف؛ وفي آخره لام-: (طويلها طولا معتدلا) بين الإفراط والتفريط. (و) معنى (خمصان) ؛ بضمّ المعجمة وفتحها مع سكون الميم فيها (الأخمصين) - بفتح الميم بصيغة التثنية-: (متجافيهما عن الأرض) ، ليس بالأرحّ الذي يمسّها أخمصاه. والأرحّ: بالراء والحاء المهملة المشددة. (و) معنى (الأخمص) بزنة «الأحمر» - كما قال الزرقاني، وابن الأثير-: (الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء) ؛ أي: المشي (من وسط القدم) ؛ وهو ما رقّ من أسفلها؛ مأخوذ من الخمص- بفتحتين-؛ وهو: ارتفاع وسط القدم عن الأرض، يقال منه: خمص القدم خمصا؛ من باب «تعب» ، فالرّجل أخمص، والمرأة خمصاء، والجمع خمص؛ مثل أحمر وحمراء وحمر، لأنّه صفة، وسمّي أخمصا!! لضموره، والخمصان: المبالغة فيه، أي: أنّ ذلك المحلّ من بطن قدميه شديد التجافي عن الأرض- على ما سبق ما فيه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 و (المسيح) : الأملس. و (ينبو) : يتباعد. و (إذا زال.. زال قلعا) : إذا مشى.. رفع رجليه بقوّة. و (ذريع المشية) : واسع الخطو خلقة لا تكلّفا. و (الملاحظة) : النّظر باللّحاظ؛ وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ. و (يسوق أصحابه) : يقدّمهم بين يديه. و (يبدر) : يبتدىء. (و) معنى (المسيح) - بميم مفتوحة فسين مهملة مكسورة، فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة آخره-: (الأملس) . (و) معنى (ينبو) - على وزن يدعو-: (يتباعد) ، ويتجافى. (و) معنى (إذا زال زال قلعا) - بفتح القاف وسكون اللام-: أنه (إذا مشى رفع رجليه) رفعا (بقوّة) ؛ لا كمشي المختال. (و) معنى (ذريع) - بوزن سريع- (المشية) - بكسر الميم-: (واسع الخطو خلقة؛ لا تكلّفا) ؛ أي: مع كون مشيه بسكينة كان يمدّ خطوه حتّى كأن الأرض تطوى له. (و) معنى (الملاحظة) : مفاعلة من اللّحظ؛ وهو: (النّظر باللّحاظ) بفتح اللام-: (وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ) ، يقال: لحظه ولحظ إليه؛ أي: نظر إليه بمؤخّر العين، وأما الذي يلي الأنف!! فالموق والماق، واللّحاظ بالكسر مصدر-: لاحظته إذا راعيته. والصّدغ: ما بين العين والأذن. (و) معنى (يسوق أصحابه: يقدّمهم بين يديه) ويمشي خلفهم كأنه يسوقهم. (و) معنى (يبدر) ؛ كينصر: (يبتدىء) ويسبق. قال في «الصحاح» : بدر إلى الشيء: أسرع، وتبادر القوم: تسارعوا. وفي «المصباح» : بدرت منه بادرة: سبقه غضبه. انتهى. (و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، والدارمي في «مسنده» ، و «البيهقي» ؛ كلهم عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفلج الثّنيّتين، إذا تكلّم ريء كالنّور يخرج من بين ثناياه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن البشر قدما. (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفلج الثّنيّتين) تثنية: ثنيّة- بتشديد الياء-، والأفلج من الفلج؛ أي: بعيد ما بين الثنايا والرباعيات. قال الطيبي: الفلج هنا: الفرق، بقرينة إضافته إلى الثنايا، فاستعمل الفلج مكان الفرق، إذ الفلج: فرجة بين الثنايا والرباعيات، والفرق: فرجة بين الثنايا. انتهى. لكن ظاهر كلام «الصحاح» : أنّ الفلج مشترك بينهما! وعليه فلا حاجة إلى ما قاله الطيبي. وفي الفم أربع ثنايا، وهي الأسنان التي في مقدّم الفم؛ ثنتان من أعلى، وثنتان من أسفل، فمراده بالثنيتين الجنس، وإلّا! فهي أربع- كما علمت-. والرباعيات: أربع أسنان بجانب الثنايا. يعني: أنّ بين ثنيّتيه فرجة لطيفة. وذلك يدلّ على الفصاحة والقدرة على الكلام، وتعدّه العرب جمالا. (إذا) هي ومدخولها (تكلّم) خبر ثان ل «كان» (ريء) - بكسر الراء- بزنة قيل؛ على الأفصح، ويقال: بضمّ الراء وكسر الهمزة- وبني للمجهول!! إشارة إلى أن الرؤية لا تختصّ بأحد؛ دون أحد، ولذا لم يقل إذا تكلّم يخرج (كالنّور) ؛ أي: شعاع مثله، فالكاف بمعنى «مثل» ، فلا حاجة لتقدير شيء. (يخرج من بين ثناياه) ، إمّا من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم وطريقه من بينها؛ معجزة له، وهو نور حسّيّ. ووهم من قال: معنوي. والمراد ألفاظه بالقرآن أو السنة، لأنه خلاف الظاهر المتبادر من قوله «ريىء» . (و) روى ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عبد الله بن بريدة مرسلا- كما في «المواهب» و «الجامع الصغير» -؛ قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أحسن البشر قدما) - بفتحتين-؛ وهي: من الإنسان معروفة، وهي أنثى، وتصغيرها قديمة، والجمع أقدام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وعن ميمونة بنت كردم؛ قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة على سائر أصابعه. رواه الإمام أحمد ... (و) في «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» : (عن ميمونة بنت كردم) - بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة بزنة «جعفر» - الثقفية، صحابيّة صغيرة لها حديث، ابنة صحابي رضي الله تعالى عنهما، حديثها عند أهل الطائف؛ لا عند أهل البصرة؛ كما ادّعى ابن عبد البر. نبّه عليه في «الإصابة» . إلّا أن يجاب بأن مراده يزيد بن هارون روايه عن أهل الطائف، لأنه بصري واسطي، وأصحاب الحديث يقولون: لم يرو هذا غير أهل البصرة ويريدون واحدا من أهلها؛ كما في «الألفية» . (قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة) ؛ بدل من «إصبع» ؛ أي: ما نسيت طول كلّ أصبع من أصبعي قدميه السبابتين (على سائر) أي: باقي- (أصابعه. رواه) إمام السّنّة (الإمام) البارع المجمع على جلالته وإمامته، وورعه وزهادته وحفظه، ووفور علمه وسيادته: أبو عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان- بالمثناة- ابن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب- بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة- ابن أفصى- بالفاء والصاد المهملة- ابن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ الشيباني؛ المروزي، ثم البغدادي. خرج من «مرو» حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها إلى أن توفي. ودخل مكة والمدينة، والشام واليمن، والكوفة والبصرة والجزيرة، وسمع من خلق كثير؛ منهم: يحيى القطان، وابن عيينة، وابن مهدي، وعبد الرزاق. وروى عنه شيخه عبد الرزاق، وعلي ابن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وخلائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وغيره. وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة: - 164- أربع وستين ومائة، وتوفي ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة: - 241- إحدى وأربعين ومائتين هجرية، وعمره سبع وسبعون سنة تقريبا. ودفن ببغداد، وقبره مشهور معروف يتبرّك به. وأحواله ومناقبه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف. رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه وأنواره وأسراره. آمين. (وغيره) ؛ أي: غير أحمد؛ كالطبراني في حديث طويل. قال في «المواهب» : وقد اشتهر على الألسنة أن سبّابة النبي صلّى الله عليه وسلم كانت أطول من الوسطى. قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط ممّن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه! وقال شيخنا الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» : حديث سبابة النبي صلّى الله عليه وسلم وأنها كانت أطول من الوسطى!! اشتهر هذا على الألسنة كثيرا، وسلف جمهورهم الكمال الدميري، وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. انتهى ملخصا. هذا؛ وقد اشتهر في المدائح قديما وحديثا أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه وأثرت. وأنكره السيوطي، وقال: لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت من خرّجه في شيء من كتب الحديث!! وكذا أنكره غيره، لكن صاحب «المواهب» ذكر في «الخصائص» في بعض نسخه تقويته بما حاصله: أنّه ما خصّ نبي بمعجزة أو كرامة إلّا ولنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم مثلها، وأثر قدمي إبراهيم بالمقام بمكّة متواتر، وفيه يقول أبو طالب: وموطىء إبراهيم في الصّخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل وفي البخاري حديث تأثير ضرب موسى في الحجر ستا أو سبعا، إذ فرّ بثوبه حين اغتسل. انتهى. إلّا أن مثل هذا لا يدفع إنكار وروده. والمثليّة التي لنبينا إمّا من جنسها؛ أو بغيرها أعلى أو مساو! كما نصّوا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وكان صلّى الله عليه وسلّم في ساقيه حموشة. ومعنى (الحموشة) : الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر، وينحدر من صبب، يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير تبختر. ومعنى (الهوينا) : تقارب الخطا. انتهى؛ ذكره الزرقاني في «شرح المواهب» . (و) روى الترمذي، والحاكم؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم في ساقيه) - روي بالإفراد والتثنية- (حموشة. ومعنى الحموشة) - بفتح الحاء المهملة وشين معجمة-: (الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين) . قال القاضي: حموشة الساق: دقّتها، يقال: حمشت قوائم الدابة إذا دقّت. هكذا ضبطه بعضهم. وقال بعضهم: خموشة- بضم الخاء المعجمة-: دقّتها، وبكسره ليفيد التقليل. والمراد نفي غلظها، وذلك مما يتمدّح به. وقد أكثر أهل القيافة من مدح الحموشة وفوائدها. انتهى «مناوي» . (و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر وينحدر من صبب) - محرّكة؛ أي: محلّ منحدر- (يخطو تكفّيا) - بالفاء والهمزة وبالياء تخفيف، والأصل الهمز- أي: مائلا إلى سنن المشي، أي: إلى قدّام، (ويمشي الهوينا بغير تبختر) ؛ أي: تكبّر واختيال. (ومعنى الهوينا: تقارب الخطا) ، والمشي على الهينة؛ قاله السيّد مرتضى. وقال: رواه البيهقي بلفظ «وإذا مشى فكأنّما يتقلّع في صخر وينحدر من صبب؛ يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير عثر» . وروى الترمذي في «الشمائل» ، والطبرانيّ، والبيهقي؛ من حديث هند بن أبي هالة: وإذا زال زال تقلّعا، ويخطو تكفّيا، ويمشي هونا، ذريع المشية؛ إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب ... الحديث. وروى مسلم؛ من حديث أنس: إذا مشى تكفّأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. مشى أصحابه أمامه، وتركوا ظهره للملائكة. وروى البيهقي؛ من حديث أبي هريرة: ما رأيت أحدا أسرع في مشيه منه، كأنّ الأرض تطوى له، إنّا لنجتهد؛ وإنه غير مكترث. وفي لفظ آخر له: يطأ بقدمه جميعا؛ إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا. ومن حديث علي: إذا مشى تكفّأ تكفّؤا كأنّما ينحطّ من صبب ... الحديث. وفي لفظ آخر له: وكان يتكفّأ في مشيته كأنما يمشي من صبب. وفي لفظ آخر: إذا مشى تكفّأ كأنما يمشي من صعد. وفي لفظ آخر: وكان إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صبب. وفي لفظ آخر: إذا مشى يمشي قلعا كأنما ينحدر من صبب. وفي لفظ آخر له: إذا مشى كأنما يتقلّع من صخر. ومن حديث أنس: وكان يتوكّأ إذا مشى. انتهى. ولله درّ البوصيري رحمه الله تعالى حيث يقول: سيّد ضحكه التّبسّم والمش ... ي الهوينا ونومه الإغفاء (و) في «المواهب» : روي أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي) . انتهى. (و) روى ابن ماجه، والحاكم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه) ، لأنّ المشي خلف الشخص صفة المتكبّرين، وكان سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلم لا متكبّرا ولا متجبّرا. (وتركوا ظهره للملائكة) يحرسونه من أعدائه، ولا يعارضه قوله تعالى (وَاللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. لم يلتفت. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يلتفت وراءه إذا مشى، وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت حتّى يرفعوه عليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. كأنّما يتوكّأ. يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [67/ المائدة] !! لأن هذا إن كان قبل نزول الآية؛ فظاهر. وإلّا! فمن عصمة الله تعالى له أن يوكّل به جنده من الملأ الأعلى؛ إظهارا لشرفه بينهم. قاله المناوي. (و) روى الحاكم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا مشى لم يلتفت) ، لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقّف، ومن يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة. أو لئلا يشغل قلبه بمن خلفه، ولكون أصحابه أمامه فهو يراعيهم ويلاحظهم ويعلّمهم. وهذا لا ينافي ما تقدّم؛ من أنّه كان إذا التفت التفت جميعا!! لإمكان حمل ما تقدّم على غير حالة المشي، أو ما هنا على الغالب. انتهى «عزيزي» . (و) روى ابن سعد في «طبقاته» ، والترمذي الحكيم في «نوادره» ، وابن عساكر في «تاريخه» كلهم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يلتفت وراءه إذا مشى) ، وذلك لشدّة استغراقه صلّى الله عليه وسلم في جلال مولاه، وكذا خلفاؤه لا يلتفتون لشيء من الدنيا لإعراضهم عنها؛ قاله الحفني. (وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت) لتخليصه (حتّى يرفعوه عليه) ، قال المناوي: زاد الطبراني: لأنّهم كانوا يمزحون ويضحكون؛ وكانوا قد أمنوا التفاته صلّى الله عليه وسلم. (و) روى أبو داود، والحاكم؛ عن أنس رضي الله عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا مشى كأنّما يتوكّأ) ؛ أي: لا يتكلّم كأنّه أو كأفاه فلم ينطق، ومنه خبر ابن الزبير: كان يوكىء بين الصفا والمروة سعيا. والمراد سعى سعيا شديدا؛ قاله المناوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وكان صلّى الله عليه وسلّم يمشي مشيا يعرف فيه أنّه ليس بعاجز ولا كسلان. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطأ عقبه رجلان قطّ، إن كانوا ثلاثة.. مشى بينهم، وإن كانوا جماعة.. قدّم بعضهم. زاد بعضهم؛ عن العلقمي: والإيكاء في كلام العرب يكون بمعنى السعي الشديد. واستدلّ عليه الأزهريّ بحديث الزبير، ثم قال: وإنّما قيل للذي يشتدّ عدوه «موك» !! لأنه قد ملأ ما بين جري رجليه؛ وأوكىء عليه. انتهى. وفي الحفني على «الجامع الصغير» : قوله يتوكّأ؛ أي: كان يمشي بشدّة بحيث يرى كأنّه يتوكّأ على عكازة؛ ولم يتوكّأ، فإنّ الذي يتوكّأ يمشي بقوّة؛ كذا قاله. والله أعلم. (و) روى ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يمشي مشيا يعرف فيه) - أي: به- (أنّه ليس بعاجز ولا كسلان) ، بل كانت أصحابه تجهد في المشي معه فلا تدركه؛ كأنما الأرض تطوى له، معجزة له. ومع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأنّي وعدم العجلة، فكان يمشي على هينته ويقطع ما يقطع بالجهد بغير جهد. ولهذا قال أبو هريرة: إنّا كنّا لنجهد أنفسنا؛ وإنّه لغير مكترث. (و) ذكر الإمام العارف بالله عبد الوهّاب الشعراني في «كشف الغمة» قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يطأ عقبه) ؛ أي: لا يمشي خلفه (رجلان قطّ) ؛ ولا أكثر من رجلين كما تفعل الملوك يتبعهم الناس كالخدم، أي: لا يكون له من يمشي خلفه من الأتباع كالسلطان، فيكون موطىء العقب، لأنّ من كان ذا مال؛ أو سلطان اتبعه الناس ومشوا خلفه، وهو صلّى الله عليه وسلم يكره أن يمشي أمام القوم، بل (إن كانوا ثلاثة مشى بينهم، وإن كانوا جماعة قدّم بعضهم) ، وكانت أصحابه لا تمشي خلفه، بل يمينه وشماله وأمامه؛ يفعل ذلك تواضعا لله تعالى واستكانة، وليطّلع على حركات أصحابه وسكناتهم؛ فيعلّمهم آداب الشريعة، ولتخلى ظهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس نعليه.. بدأ باليمنى، وإذا خلع.. خلع اليسرى. وكان إذا دخل المسجد.. أدخل رجله اليمنى. وكان يحبّ التّيمّن في كلّ شيء أخذا وعطاء. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ... للملائكة، ويوافق هذا الخبر قوله في الخبر المار: «كان يسوق أصحابه قدّامه» . (و) روى أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا لبس نعليه بدأ باليمنى) - أي: بإنعال الرجل اليمنى-، (وإذا خلع خلع اليسرى) - أي: بدأ بخلعها لتمكث اليمين لابسة بعدها زمنا، إذ اللّبس تكريم؛ فاليمين أولى به-. (وكان إذا دخل المسجد أدخل رجله اليمنى، وكان يحبّ التّيمّن) - أي: الابتداء باليمين- (في كلّ شيء) من باب التكريم؛ (أخذا وعطاء) . قال النّووي: قاعدة الشرع المستمرّة: استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التكريم، وما كان بضدّه فاستحبّ فيه التياسر. ويدلّ لذلك ما رواه أبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليمين لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» . انتهى. فإذا أراد أن يدهن أو يمشط أحبّ أن يبدأ بالجهة اليمنى من الرأس؛ أو اللحية، وإذا أراد لبس النعل!! أحبّ أن يبدأ بالرجل اليمنى، فكان يحبّ التيمّن في طهوره وترجّله وتنعّله، وفي شأنه كلّه. وإنّما أحبّه!! لأنّه كان يحبّ الفأل الحسن، ولأن أصحاب اليمين أهل الجنة. انتهى «باجوري» . (و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) ؛ واسمه عبد الرحمن بن صخر- على الأصحّ؛ من نحو ثلاثين قولا- وهو دوسي من الأزد. وكنّي «أبا هريرة» ! لهرّة صغيرة كان يحملها ويحسن إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّ الشّمس تجري في ... وكان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له. نشأ يتيما ضعيفا في الجاهلية، وقدم المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر؛ فأسلم سنة سبع- بتقديم السين على الموحدة-، ولزم صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان يدور مع النبي صلّى الله عليه وسلم حيث دار. وروى عنه خمسة آلاف حديث وثلثمائة وأربعة وسبعين حديثا؛ اتفق الشيخان منها على ثلثمائة وخمسة وعشرين حديثا، وانفرد البخاري بثلاثة وعشرين، وانفرد مسلم بمائة وتسعة وثمانين حديثا. روى عنه من الصحابة والتابعين أكثر من ثمانمائة رجل؛ منهم ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وآخرون. قال ابن تيميّة: صحب النبي صلّى الله عليه وسلم أقل من أربع سنين، فأخباره كلّها متأخّرة. انتهى. وولي إمرة المدينة مدّة، ولما صارت الخلافة إلى عمر استعمله على البحرين، ثم رآه ليّن العريكة مشغولا بالعبادة؛ فعزله. وأراده بعد زمن على العمل؛ فأبى. وكان أكثر مقامه بالمدينة المنورة، وتوفّي بها. وكان متصدّرا للفتيا. وقد جمع شيخ الإسلام تقي الدين السبكي جزءا سماه «فتاوى أبي هريرة» رضي الله تعالى عنه. ولعبد الحسين شرف الدين كتاب في سيرته؛ وقد طبع. وكانت وفاته سنة: - 59- تسع وخمسين- بتقديم المثناة على السين المهملة- رضي الله عنه ونفعنا بعلومه. آمين. (قال: ما رأيت) ؛ أي: علمت. ويصحّ كونه بمعنى: أبصرت، والأول أبلغ (شيئا) - تنوينه للتنكير- (أحسن) - صفة «شيئا» على كون الرؤية «بصرية» ، ومفعول ثان على كونها «علمية» - (من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، والمراد منه: نفي كون شيء أحسن منه صلّى الله عليه وسلم، والمعنى أنّه أحسن مما عداه. (كأنّ) - بتشديد النون- (الشّمس) ؛ أي: شعاعها (تجري في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وجهه، ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّما الأرض تطوى له، إنّا لنجهد أنفسنا، وإنّه لغير مكترث. وجهه) ؛ أي: لأن لمعان وجهه وضوءه يشبه لمعان الشمس وضوءها، فيكون قد شبّه لمعان وجهه الشريف وضوءه بلمعانها وضوئها، وهذا مما فيه المشبّه أبلغ من المشبّه به؛ كما في قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [35/ النور] . وقصد الراوي بذلك إقامة البرهان على أحسنيّته، وخصّ الوجه! لأنه هو الذي تظهر فيه المحاسن، ولكون حسن البدن تابعا لحسنه غالبا. (ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته) - بكسر فسكون للهيئة، وفي نسخة [مشيا] «1» بلفظ المصدر؛ وهو بفتح الميم بلا تاء، أي: في كيفية مشيه- (من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ كأنّما الأرض) - بالرفع- (تطوى له) ؛ أي: تجمع وتجعل مطويّة تحت قدميه. ومرّ أنّه مع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأنّي وعدم العجلة. وأفاد بقوله «له» أنها لا تطوى لمن يماشيه؛ كما أوضحه بقوله: (إنّا) - بكسر الهمزة؛ استئناف مبين- (لنجهد) - قال الجزري: بضمّ النون وكسر الهاء، ويجوز فتحهما؛ أي: إنا لنتعب (أنفسنا) ونوقعها في المشقّة في سيرنا معه صلّى الله عليه وسلم، والمصطفى كان لا يقصد إجهادهم، وإنّما كان طبعه ذلك، كما يدلّ عليه قوله (وإنّه لغير مكترث) ؛ أي: والحال أنّه صلّى الله عليه وسلم لغير مبال بحيث لا يجهد نفسه، بل يمشي على هينته؛ فيقطع من غير جهد ما لا نقطع بالجهد. ومعنى الخبر: أنّه إذا مشى بالعادة ما قدرنا أن نلحقه مسرعين في المشي، ولو كنا مجتهدين في ذلك. واستعمال «مكترث» في النفي هو الأغلب، وفي الإثبات قليل شاذّ.   (1) أضيفت للإيضاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر.. لا يظهر له ظلّ. وكان وجهه صلّى الله عليه وسلّم مثل الشّمس والقمر، وكان مستديرا. (و) في «المواهب» : قال ابن سبع: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر لا يظهر له ظلّ) ، لأن النور لا ظلّ له. قال غير ابن سبع: ويشهد له قوله صلّى الله عليه وسلم في دعائه «واجعلني نورا» ؛ أي: والنور لا ظلّ له. وقد روى الترمذي الحكيم؛ عن ذكوان أبي صالح السّمان مرسلا. أنّه لم يكن له صلّى الله عليه وسلم ظلّ في شمس ولا قمر. انتهى؛ أي: لأنّه كان نورا، كما قال ابن سبع. وقال رزين: لغلبة أنواره. قيل: وحكمة ذلك صيانته عن أن يطأ كافر على ظلّه. وإطلاق الظلّ على القمر مجاز، لأنّه إنما يقال له «ظلمة القمر ونوره» . وفي «المختار» : ظلّ الليل: سواده، وهو استعارة، لأنّ الظل حقيقة ضوء شعاع الشمس؛ دون السواد، فإذا لم يكن ضوء؛ فهو ظلمة لا ظلّ. انتهى من «شرح المواهب» مع المتن. (و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال له رجل: (كان وجهه صلّى الله عليه وسلم) مثل السيف! فقال جابر: بل (مثل الشّمس) في مزيد الإشراق والإضاءة؛ لكنّه ليس مثلها في كونه لا يستطاع النظر إليه، ولذا قال: (والقمر) في الحسن والملاحة وقوّة النظر إليه، ولمّا كان قد يتوهّم عدم استدارته؛ قال: (وكان) ؛ أي: وجهه (مستديرا) ، وفيه ردّ على من قال: كان وجهه مثل السيف. فأراد أن يزيل ما توهّمه القائل من معنى الطول الذي في السيف إلى معنى الاستدارة التي في القمر. وصرّح بهذا؛ وإن علم بالتشبيه بالقمر!! لمزيد الردّ وللتأكيد، ولئلا يتوهّم أنّ التشبيه من حيث الإشراق والنور؛ لا من جهة الاستدارة أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: ما رأيت من ذي لمّة في حلّة حمراء.. أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ورواية البخاري و «الشمائل» بلفظ: كان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل السيف. قال: لا؛ بل مثل القمر. (و) روى الشيخان: البخاريّ ومسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن البراء) - بفتح الموحدة وتخفيف الراء والمدّ؛ على وزن سحاب، وحكي فيه القصر- كنيته: أبو عمارة. ولد عام ولادة ابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وأوّل مشهد شهده الخندق، وهو من المشاهير، نزل الكوفة وافتتح الري. ومات بالكوفة أيّام مصعب بن الزبير سنة: اثنتين وسبعين هجرية. (ابن عازب) - بمهملة وزاي مكسورة؛ على وزن فاعل- وهو أنصاريّ أوسي، وكلّ من البراء وأبيه صحابيّ (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: ما رأيت) - أي: أبصرت- (من ذي لمّة) ؛ أي: صاحب لمّة- بكسر اللّام وتشديد الميم والجمع لمم-، سمّيت «لمّة» لأنّها تلمّ بالمنكبين، إذ هي الشعر المتجاوز شحمة الأذن مع الوصول إلى المنكب، لأنّها تطلق 1- على الواصل إليها؛ وهو المسمّى ب «الجمّة» ، و 2- على غيره وهو المسمّى ب «الوفرة» . وهذا على القول الأول في تفسير اللّمّة. وأما على القول الثاني! فالظاهر أنّه محمول على حالة تقصير الشعر- كما سبق- أي: ما رأيت صاحب لمّة حال كونه (في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ ولا مثله، فهو أحسن صورة. و «من» زائدة لتأكيد العموم. والحلّة: ثوبان، أو ثوب له ظهارة وبطانة؛ كما في «القاموس» . ولا يشترط أن يكون الثوبان من جنس، خلافا لمن اشترط ذلك. سمّيت «حلّة» !! لحلول بعضها على بعض، أو لحلولها على الجسم؛ كما في «المشارق» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّ الشّمس تجري في وجهه، وإذا ضحك.. يتلألأ في الجدر. وقالت أمّ معبد ... وهذا الحديث احتجّ به إمامنا لحلّ لبس الأحمر؛ ولو قانيا- أي- شديد الحمرة، غير أنه قد يخصّ بلبسه أهل الفسق؛ فحينئذ يحرم لبسه، لأنه تشبّه بهم، ومن تشبّه بقوم فهو منهم؛ كما في «الذحيرة» . وأخطأ من كره لبسه مطلقا. منع لبسه ابن القيّم في «الهدي النبوي» ، وأجاز لبسه القاضي محمد بن علي الشوكاني في «نيل الأوطار» رحمهم الله تعالى. آمين. (و) في «الشفاء» وشرحه للشيخ ملّا علي قاري الحنفي رحمه الله تعالى: (قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) والمساواة منفيّة أيضا بالمشاهدة العرفية- (كأنّ الشّمس تجري في وجهه) ؛ أي: يتوهّج كتوهّج الشمس لحسنه وصفائه وبهاء ضيائه، (وإذا ضحك يتلالأ) بهمزتين؛ أي: تلمع ثناياه كاللآلي (في الجدر) - بضمتين-: جمع الجدار؛ وهو حائط الدار، وأما الجدر- بفتح فسكون- فهو الحاجز الذي يحبس الماء، كما في حديث: «اسق يا زبير حتّى يبلغ الجدر» ، وليس مفردا بمعنى الجدار كما توهّم. أي: أن نور وجهه الشريف يشرق إشراقا يصل إلى الجدران المقابلة له، كما يكون ذلك من الشمس والقمر. وقيل: إنّه من نور يخرج من بين ثناياه وفمه؛ إذا افترّ وتبسّم. ففي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: يكاد يتلألأ في الجدر. فتفاوته بحسب الأوقات، وبحسب خفّة ضحكه وشدّته. أو ما هنا محمول على المبالغة على تقدير «تكاد» . انتهى الشهاب الخفاجي؛ على «الشفاء» . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي. (وقالت أمّ معبد) - بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح الموحدة ومهملة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 في بعض ما وصفته به رضي الله تعالى عنها: أجمل النّاس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب. الخزاعيّة: التي كانت نازلة بخباء في طريق المدينة المنورة، وقد نزل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم في هجرته لمّا خرج من غار ثور (في بعض ما) أي: كلام (وصفته به) في حديثها الطويل، الذي رواه البغوي، وابن شاهين، وابن السّكن، والطبرانيّ، وابن منده، والبيهقيّ وغيرهم؛ من طريق حرام بن هشام بن حبيش؛ عن أبيه؛ عن جدّه: حبيش بن خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة بن حرام الخزاعي؛ ويقال له حبيش الأشعري؛ وهو لقب والده خالد، وحبيش: أخو أمّ معبد؛ واسمها: عاتكة بنت خالد، لها صحبة (رضي الله تعالى عنها) ، ولأخيها حبيش صحبة أيضا رضي الله عنه. وأورده ابن السّكن؛ من حديث أم معبد نفسها. فقال حرام بن هشام بن حبيش بن خالد: سمعت أبي يحدّث عن أمّ معبد- وهي عمّته- ... فساق القصّة. وقصّتها معه مشهورة مرويّة من طرق عديدة تعضدها وتصحّحها، وكان زوجها أبو معبد غائبا وهو صحابيّ قديم الوفاة رضي الله تعالى عنه، فلما أتاها أخبرته به، فاستوصفها إيّاه؛ فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه محلة، ولم تزر به صعلة، وسيم، قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، أقرن، إن صمت؛ فعليه الوقار، وإن تكلّم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب ... إلى آخر ما قالته في نعته من كلام بليغ؛ مشروح في السّير. فقوله: «في بعض ما وصفته به» ؛ أي في بعض كلام وصفته به. وأقحم لفظ «بعض» ! إشارة إلى أنّه كلام طويل مشتمل على وصفه وغيره؛ من قصّة الشاة وغيرها، واقتصر هنا على قوله: (أجمل النّاس) ؛ أي أتمّهم جمالا وحسنا صوريا (من بعيد، وأحلاه) ؛ أي: أحلى الناس. وأفرد لأنّه اسم جنس فروعي لفظه دون معناه. وكذا قوله (وأحسنه) . وفي بعض النسخ: «وأحلاهم وأحسنهم» (من قريب) ، أي: تبين حلاوة ملاحته، وطراوة فصاحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة إضحيان؛ وعليه حلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي ... (و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن سمرة) بن جنادة بن جندب بن حجير بن رباب بن حبيب بن سواء- بالمدّ وضمّ السين- ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان- بالعين المهملة- ابن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان السّوائي، وهو وأبوه صحابيّان (رضي الله تعالى عنهما) . روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة حديث وستّة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثا، روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم عبد الملك بن عمير، وعامر بن سعد، والشعبيّ؛ توفي سنة: ست وستين. روينا في «صحيح مسلم» ؛ عن جابر بن سمرة قال: والله؛ لقد صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر من ألفي صلاة. انتهى. (قال) ؛ أي: جابر: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ليلة) - بالتنوين- (إضحيان) - بكسر الهمزة وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة وتخفيف التحتية، وفي آخره نون منونة- أي: ليلة مقمرة من أوّلها إلى آخرها. قال في «الفائق» : يقال «ليلة إضحيان» ، و «إضحيانة» ، و «ضحيا» ، وهي المقمرة من أوّلها إلى آخرها. قال: وإفعلان في كلامهم قليل جدّا. انتهى. والقياس: إضحانة، وكأنه لتأويل الليلة بالليل!!. (وعليه حلّة حمراء) ؛ أي: والحال أن عليه حلّة حمراء، فالجملة حاليّة، والقصد بها بيان ما أوجب التأمّل وإمعان النظر فيه من ظهور مزيد حسنه صلّى الله عليه وسلم حينئذ، (فجعلت) ؛ أي: فصرت (أنظر إليه) ؛ أي: إلى وجهه تارة (و) أنظر (إلى القمر) تارة أخرى، (فلهو عندي) ؛ أي: فو الله لوجهه عليه الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أحسن من القمر. ومعنى (إضحيان) : مقمرة. وسأل رجل البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل السّيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. عندي (أحسن من القمر) ؛ فهو جواب قسم مقدّر، والتقييد بالعندية!! لافتخاره باعتقاده هذه القضية؛ لا لتخصيصه، فإنّ ذلك عند كلّ أحد رآه كذلك. وإنّما كان صلّى الله عليه وسلم أحسن!! لأن ضوءه يغلب على ضوء القمر، بل وعلى ضوء الشمس، ففي رواية لابن المبارك وابن الجوزي: لم يكن له ظلّ، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه على ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلّا غلب ضوؤه على ضوء السراج. (ومعنى) قوله (إضحيان) - بكسر الهمزة وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة وتخفيف التحتية وفي آخره نون منونة-: (مقمرة) من أوّلها إلى آخرها؛ كما قاله الزمخشري. (و) روى البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له- عن أبي إسحاق السبيعي قال: (سأل رجل البراء بن عازب) هو وأبوه صحابيان (رضي الله تعالى عنهما) - وتقدّمت ترجمته قريبا-: (أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل السّيف؟!) أي: في الاستنارة والاستطالة، فالسؤال عنهما معا. (قال: لا) أي: ليس مثل السيف في الاستنارة والاستطالة، (بل مثل القمر) المستدير الذي هو أنور من السيف، لكنه لم يكن مستديرا جدّا بل كان بين الاستدارة والاستطالة، وكونه صلّى الله عليه وسلم أحسن من القمر لا ينافي صحّة تشبيهه به في ذلك، لأن جهات الحسن لا تنحصر، على أن التشبيه بالقمر، أو بالشمس؛ أو بهما إنما هو على سبيل التقريب والتمثيل، وإلّا! فلا شيء يعادل شيئا من أوصافه صلّى الله عليه وسلم، إذ هي أعلى وأجلّ من كلّ مخلوق، وكما أنّ وجهه أبهى من الشمس والقمر؛ فنور قلبه أعظم ضياء منهما، فلو كشف الحقّ عن مشارق أنوار قلبه لانطوى نور الشمس والقمر في مشرقات أنوارها، وأين نور القمرين من نوره!! فالشمس يطرأ عليها الكسوف والغروب، وأنوار قلوب الأنبياء لا كسوف لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكان لونه صلّى الله عليه وسلّم أزهر، ولم يكن بالأسمر، ولا بالشّديد البياض. ولا غروب. ونور الشمس تشهد به الآثار، ونور القلب يشهد به المؤثّر، لكن لا بدّ للشمس من سحاب؛ وللحسناء من نقاب!!. إن شمس النّهار تغرب باللّي ... ل وشمس القلوب ليست تغيب (وكان لونه صلّى الله عليه وسلم أزهر) ؛ أي: أبيض بياضا نيّرا مشرقا، لأنه مشرّب بحمرة وقد وصفه جمهور أصحابه بالبياض؛ منهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعلي بن أبي طالب، وأبو جحيفة: ووهب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبّاس، وهند بن أبي هالة، والحسن بن علي، وأبو الطّفيل عامر بن واثلة، ومحرّش الكعبي «1» ، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن عازب، وعائشة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأنس في رواية جميع أصحابه عنه ما عدا حميدا؛ فقال: أسمر. قال الحافظ العراقي: انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه؛ فقال: أزهر اللون. فهؤلاء ستّة عشر صحابيا وصفوه بالبياض. وقد مرّت رواية بعضهم، وستأتي رواية بعضهم. وما فسّرنا به الأزهر، من كونه أبيض ... الخ هو ما قاله الأكثر. لكن قال السّهيلي: الزّهرة- في اللغة-: إشراق في اللون بياضا؛ أو غيره. (ولم يكن بالأسمر) الشديد السّمرة؛ وهو المعبّر عنه بالآدم، وإنّما يخالط بياضه الحمرة، لكنّها حمرة بصفاء. فيصدق عليه أنّه أزهر. (ولا بالشّديد البياض) ، وهو المعبّر عنه ب «الأمهق» ؛ رواه البخاريّ والترمذيّ؛ من حديث أنس بلفظ: «أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم» .. الحديث، ورواه الترمذي في «الشمائل» عن هند بن أبي هالة «أزهر اللون واسع الجبين» ... الحديث. وقد تقدّم.   (1) تأتي روايته وترجمته بعد عدة صفحات فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ونعته عمّه أبو طالب فقال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... (ونعته عمّه) شقيق أبيه (أبو طالب) - واسمه: عبد مناف بن عبد المطلب؛ والد عليّ رضي الله عنه وإخوته: الحارث، وجعفر، وعقيل- (فقال) في قصيدة لاميّة طويلة أكثر من ثمانين بيتا؛ ذكرها ابن إسحاق بطولها. (وأبيض) - بفتح الضاد، مجرور ب «ربّ» مقدّرة؛ كما صدر به الحافظ كالكرماني والسيوطي، وجزم به في «المغني» . أو منصوب، قال الحافظ ابن حجر: بإضمار «أعني» أو «أخصّ» . قال: والراجح أنّه بالنصب عطفا على «سيّدا» المنصوب في البيت قبله وهو: وما ترك قوم لا أبا لك سيّدا ... يحوط الذّمار غير ذرب مواكل انتهى. وبه قطع الدّماميني في «مصابيحه» ، وردّ به على ابن هشام، واستظهره في «شرح المغني» ، وقال: هو من عطف الصفات التي موصوفها واحد، أو هو مرفوع خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الكرماني، وأفاده القسطلّاني عن ضبط الشرف اليونيني في نسخته من البخاري؛ أي: هو أبيض؛ ذكره الزرقاني في «شرح المواهب» ، في الجزء الأول، واقتصر في موضع آخر من الجزء الرابع على النصب؛ مصدّرا به والرفع، وردّ الجر. والله أعلم. وفي رواية بدل «وأبيض» و «أبلج» من البلج- بفتحتين- وهو: نقاء ما بين الحاجبين. (يستسقى) - بالبناء للمفعول- (الغمام) : السحاب (بوجهه) أي: يطلب السقي من الغمام بوجهه، والمراد ذاته، أي: يتوسّل إلى الله به. وهذا قاله عن مشاهدة لذلك، لما رأى في وجهه من مخايل ذلك؛ وإن لم يشاهده كما أبداه بعضهم احتمالا، وجزم به آخر فإنّه عجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 .. ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكان صلّى الله عليه وسلّم أزهر اللّون، كأنّ عرقه اللّؤلؤ، إذا مشى.. تكفّأ. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... (ثمال اليتامى) - بكسر المثلثة وخفّة الميم- هو: العماد والملجأ، والمطعم والمغيث، والمعين والكافي. (عصمة للأرامل) ؛ أي: يمنعهم مما يضرّهم؛ جمع أرملة؛ وهي الفقير التي لا زوج لها. قال الدماميني: هو بنصب «ثمال» ؛ و «عصمة» ويجوز رفعهما على أنهما خبرا محذوف. زاد القسطلّاني: وبجرّهما على أن «أبيض» مجرور. انتهى؛ ذكره الزرقاني على «المواهب» رحمه الله تعالى. (و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أزهر اللّون) ؛ أي: نيّره وحسنه. وفي «الصحاح» كغيره: الأبيض المشرق، وبه أو ب «الأبيض المنير» فسّره عامّة المحدّثين؛ حملا على الأكمل، أو لقرينة. ولعل من فسّره بالأبيض الممزوج بحمرة نظر إلى المراد بقرينة الواقع. قال محقق: والأشهر في لونه أنّ البياض غالب عليه؛ لا سيما فيما تحت الثياب، لكن لم يكن كالجصّ، بل نيّر ممزوج بحمرة غير صافية، بل مع نور كدر؛ كما في «المغرب» . ولهذا جاء في رواية «أسمر» ، وبه يحصل التوفيق بين الروايات؛ ذكره المناوي في «كبيره» . وقال العزيزي: قال العلقمي: هو الأبيض المستنير المشرق، وهو أحسن الألوان، أي: ليس بالشديد البياض. (كأنّ) - بالتشديد- (عرقه) - بالتحريك-: ما يترشّح من جلد الإنسان (اللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، (إذا مشى تكفّأ) - بالهمز، ودونه- قال الأزهري: معناه أنّه يميل إلى سننه وقصد مشيه. وقال في «الدر» : تكفّأ؛ أي: تمايل إلى قدّام- بالتشديد- كالسفينة في جريها، وقال المناوي: أي: يسرع كأنّه يميل تارة إلى يمينه وأخرى إلى شماله انتهى «عزيزي» . (و) في «الإحياء» - وعزاه في شرحه؛ إلى «دلائل النبوة» للبيهقي-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ورواه أبو نعيم عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أحسن النّاس وجها وأنورهم، لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر ليلة البدر. وكانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق ... أحسن النّاس وجها وأنورهم) . روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث البراء: كان أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ... الحديث، وللترمذيّ وابن ماجه؛ من حديث أنس: كان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس. (لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر) . وإنما اختير على الشمس!! لأنه يتمكّن من النظر إليه ويؤنس من شاهده من غير أذى يتولّد عنه، بخلاف الشمس؛ لأنها تغشي البصر، وقال: (ليلة البدر!!) لأنّ القمر فيها في نهاية إضاءته وكماله. رواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث أبي إسحاق الهمداني عن امرأة من همدان سمّاها؛ قالت: حججت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن، عليه بردان أحمران ... الحديث. وفيه قال: قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبّهيه فقالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله. انتهى. وقولها: «مرّات» !! قال الزرقاني. كذا هنا!! فلعلها قبل الهجرة، إذ لم يحجّ بعد الهجرة سوى حجة الوداع. وقوله «1» : «فرأيته على بعير له» ؛ أي: في حجة الإسلام؛ كما في الزرقاني على «المواهب» . (و) في «الإحياء» - وهو معزوّ إلى «دلائل النبوة» أيضا؛ من تتمة الحديث السابق-: (كانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق) . واسمه: عبد الله بن أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمير بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مرّة بن كعب. وأمّ أبي بكر؛ أمّ الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.   (1) هكذا في الأصل: وصوابه (وقولها ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أسلم أبو [أبي] «1» بكر وأمّه وصحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون؛ بعضهم من بعض صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا آل أبي بكر الصديق؛ وهم عبد الله بن أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة؛ فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون. وأيضا أبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله تعالى عنهم. ولقب أبي بكر «عتيق» ! لعتقه من النار، وقيل: لحسن وجهه وجماله. وروى الترمذي بإسناده؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أبو بكر عتيق الله من النّار» فمن يومئذ سمّي «عتيقا» . وأجمعت الأمة على تسميته «صدّيقا» . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنّ الله تعالى هو الذي سمّى أبا بكر على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدّيقا، وسبب تسميته أنّه بادر إلى تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولازم الصدق، فلم يقع منه هناة؛ ولا وقفة في حال من الأحوال. وكانت له في الإسلام مواقف رفيعة؛ منها: قصته صبيحة الإسراء، وثباته وجوابه للكفّار في ذلك، وهجرته مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وترك عياله وأطفاله؛ وملازمته في الغار وسائر الطريق، ثمّ كلامه يوم بدر، ويوم الحديبية حين اشتبه الأمر على غيره في تأخّر دخول مكّة، ثم بكاؤه حين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله» ، ثم ثباته في وفاة رسول الله، وخطبته الناس وتسكينهم، ثم قيامه في قصة البيعة لمصلحة المسلمين، ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة بن زيد إلى الشام وتصميمه في ذلك، ثم قيامه في قتال أهل الردّة؛ ومناظرته للصحابة حتّى حجّهم بالدلائل، وشرح الله صدورهم لما شرح الله صدره من الحق؛ وهو قتال أهل الردة، ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام لفتوحه وإمدادهم بالإمداد، ثم ختم ذلك بمهمّ من أحسن مناقبه وأجلّ فضائله؛ وهو استخلافه على   (1) أضيفت لضرورة صحّة المعنى، وليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 رضي الله تعالى عنه حيث يقول: أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الغمام وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض كأنّما صيغ من فضّة، ... المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفرّسه فيه ووصيته له، واستيداعه الله الأمّة، فخلفه الله فيهم أحسن الخلافة، وظهر لعمر- الذي هو حسنة من حسناته؛ وواحدة من فعلاته- تمهيد الإسلام وإعزاز الدين، وتصديق وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه، وكم للصديق من مواقف وآثار!! ومن يحصي مناقبه ويحيط بفضائله غير الله عزّ وجلّ!!. وكانت ولادته بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا بمكّة المكرّمة، وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ثلاث عشرة من الهجرة، وعمره: ثلاث وستون سنة كرسول الله صلّى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ومدّة خلافته: سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر. روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستة، وانفرد البخاريّ بأحد عشر، ومسلم بحديث. وسبب قلّة روايته مع تقدّم صحبته وإسلامه وملازمته للنبي صلّى الله عليه وسلم!! أنّه تقدّمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها. (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه (حيث يقول: أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الغمام) وقوله (زايله الغمام) أي: فارقه، فالبدر أضوأ ما يكون إذ ذاك. (و) روى الترمذي في «الشمائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أبيض كأنّما صيغ) ؛ من الصوغ- بالغين المعجمة: بمعنى صنع الحلي والإيجاد- أي: سبك وصنع (من فضّة) باعتبار ما كان يعلو بياضه صلّى الله عليه وسلم من النور والإضاءة، وفيه إيماء إلى تماسك أجزائه وتناسب أعضائه، ونورانيّة وجهه وسائر بدنه. وفي رواية لأحمد: فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 رجل الشّعر. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض مليحا مقصّدا. فضة. وسيأتي. وعلم من ذلك أن المراد أنّه كان نيّر البياض (رجل) - بكسر الجيم وتسكن- (الشّعر) ؛ أي: لم يكن قططا؛ ولا سبطا. قال القرطبي: كأنّ شعره من أصل الخلقة مسرّحا. انتهى. (و) روى مسلم، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ ل «الشمائل» - عن سعيد الجريري؛ قال: سمعت أبا الطفيل يقول: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري. قلت: صفه لي. قال: (كان صلّى الله عليه وسلم أبيض) ؛ أي: بياضا مشرّبا بحمرة؛ لا خالصا كالبهق، لأنه لا جمال فيه (مليحا) ؛ أي: حسنا جميلا، لأنّه كان أزهر اللون، وهذا غاية الملاحة، فلم يقارب جماله أحد. وما أعطي يوسف!! إنّما هو جزء مما أعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (مقصّدا) - بتشديد الصاد المفتوحة؛ على أنه اسم مفعول من باب التفعيل- أي: متوسّطا. يقال رجل مقصّدا؛ أي: متوسط، كما يقال رجل قصد؛ أي: وسط، قال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [9/ النحل] أي: وسطه. والمراد أنه صلّى الله عليه وسلم متوسّط بين الطول والقصر، وبين الجسامة والنحافة، بل جميع صفاته على غاية من الأمر الوسط، فكان في لونه وهيكله؛ وشعره وشرعه مائلا عن طرفي الإفراط والتفريط. وأمته وسط بين الأمم. وكان في قواه كذلك؛ فكان معتدل القوى، واعتدالها: أن لا يخرج إلى حدّ الإفراط والتفريط، ألا ترى أن اعتدال قوى العقل يعبّر عنه بالفطنة والكياسة!! فإن مالت عن الاعتدال إلى طرف الإفراط سمّي: مكرا وخداعا، أو إلى التفريط سمي: بلها وحمقا. وكذا اعتدال قوّة الغضب، فإنه يعبّر عنه بالشجاعة، فإن مالت إلى طرف الإفراط سمي: تهوّرا، أو التفريط سمي: جبنا. وكذا اعتدال قوّة الشهوة يعبّر عنه بالعفة، فإن مالت إلى الإفراط سمي: شرها؛ أو التفريط سمي: خمودا. فالطرفان في سائر الأخلاق مذمومان، والاعتدال هو الوسط محمود. فحفظ صلّى الله عليه وسلم في ذلك كلّه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ومعنى (المقصّد) : المتوسّط بين الطّول والقصر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بياضه بحمرة، وكان أسود الحدقة، أهدب الأشفار. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بحمرة، ضخم الهامة، محذوري الإفراط والتفريط. انتهى «مناوي، وباجوري» . وقد روى هذا الحديث أبو داود بلفظ: كان أبيض مليحا، إذا مشى كأنما يهوي في صبوب. ورواه مسلم أيضا بلفظ: كان أبيض مليح الوجه. (ومعنى المقصّد) - بالتشديد-: (المتوسّط بين الطّول والقصر) يعني: ليس بجسيم ولا نحيف، ولا طويل ولا قصير، كأنّه نحي به القصد من الأمور. قال البيضاوي: المقصّد: المقتصد. يريد به المتوسّط بين الطويل والقصير؛ والناحل والجسيم. (و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبيض مشربا) - بالتخفيف والتشديد- (بياضه بحمرة) ، أي: يخالط بياضه حمرة؛ كأنه سقي بها. (وكان أسود الحدقة) - بفتحات- أي: شديد سواد العين، (أهدب) بالدال المهملة- (الأشفار) جمع شفر- بالضم ويفتح-: حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر؛ أي: طويل شعر الأجفان كثيرا. (و) روى البيهقي في «الدلائل» ؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه في الجنة؛ قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة) بالتخفيف من الإشراب، و [مشرّبا] بالتشديد من التشريب- يقال: بياض مشرب بحمرة- بالتخفيف- فإذا شدّد كان للتكثير والمبالغة، فهو هنا للمبالغة في البياض، لأن الإشراب خلط لون بلون؛ كأنّ أحد اللونين سقى الآخر. (ضخم الهامة) - بالتخفيف- أي: عظيم الرأس، لأن الهامة هي الرأس، وعظمه ممدوح محبوب، لأنه أعون على الإدراكات ونيل الكمالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أغرّ أبلج، أهدب الأشفار. ومعنى (الأغرّ) : الصّبيح. و (الأبلج) : الحسن المشرق المضيء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن عباد الله عنقا، لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أحسن عباد الله شفتين ... (أغرّ) ؛ أي: صبيحا، (أبلج) أي: مشرقا مضيئا. وقيل: الأبلج: خالي الشعر بين الحاجبين، فليس بأقرن الحاجبين، لأن العرب تمدح بعدم القرن. (أهدب الأشفار) ؛ أي: أنّ لأشفاره هدبا؛ أي: شعرا أطول من غيره، أخذا من أفعل التفضيل، وحذف العاطف فيه وفيما قبله!! ليكون أدعى إلى الإصغاء إليه، وأبعث للقلوب على تفهّم خطابه. فإنّ اللفظ إذا كان فيه نوع غرابة وعدم ألفة أصغى السمع إلى تدبّره والفكر فيه، فجاءت المعاني مسرودة على نمط التعديد؛ إشعارا بأن كلّا منها مستقلّ بنفسه؛ قائم برأسه، صالح لانفراده بالغرض. (ومعنى الأغرّ: الصّبيح. و) معنى (الأبلج: الحسن المشرق المضيء.) وقيل: الأبلج: نقيّ ما بين الحاجبين من الشعر- كما تقدّم-. (و) في «الإحياء» - وعزاه في «شرحه» إلى البيهقي في «دلائل النبوة» -؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقا؛ لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح؛ فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب) ، وما غيّبت الثياب من عنقه وما تحته! فكأنّه القمر ليلة البدر. هذا تمام الكلام، والحديث طويل جدا، ساقه في «شرح الإحياء» بطوله. وهو مشتمل على نفائس من أوصافه صلّى الله عليه وسلم. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم من أحسن عباد الله شفتين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وألطفهم ختم فم. وكان صلّى الله عليه وسلّم عريض الصّدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمرآة في استوائها، وكالقمر في بياضه. وكان له صلّى الله عليه وسلّم ثلاث عكن يغطّي الإزار منها واحدة. وعن أمّ هانىء ... وألطفهم ختم فم) . رواه البيهقي في «دلائل النبوة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو من جملة الحديث الطويل الذي تقدّمت الإشارة إليه. (و) في «الإحياء» أيضا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم عريض الصّدر، لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمرآة في استوائها، وكالقمر في بياضه) . قال في «شرحه» : رواه البيهقي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: وكان عريض الصدر ممسوحه كأنّه المرآة في سموتها واستوائها، لا يعدو بعض لحمه بعضا، على بياض القمر ليلة البدر. وهو من جملة الحديث الطويل الذي تقدمت منه جمل. وفي سنده نظر. (و) في «الإحياء» أيضا: (كان له صلّى الله عليه وسلم ثلاث عكن) - العكن: جمع عكنة بالضم؛ طيّة من طيات البطن- (يغطّي الإزار منها واحدة) ، وتظهر اثنتان. قال في «شرحه» : رواه البيهقيّ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، إلّا أنّه قال: يغطي الإزار منها اثنتين وتظهر منها واحدة. ومنهم من قال: واحدة وتظهر اثنتان. ثم قال: تلك العكن أبيض من القباطي المطواة، وألين مسّا. (وعن أمّ هانىء) - بهمزة في آخره-، لا خلاف بين أهل اللغة والأسماء، وكلّهم مصرّحون به. واسم أم هانىء: فاختة بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب لأبويه رضي الله تعالى عنها، وهذا هو المشهور في اسمها. وقيل: اسمها هند، قاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت بطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض. وعن محرّش الكعبيّ رضي الله تعالى عنه قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة ... الإمامان الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهما. وقيل: فاطمة؛ حكاه ابن الأثير. أسلمت عام الفتح، وكانت تحت هبيرة بن عمرو؛ فولدت له عمرا وهانئا ويوسف وجعدة. وهرب زوجها إلى نجران ففرّق الإسلام بينهما؛ فعاشت أيّما، وماتت بعد سنة أربعين من الهجرة؛ بعد قتل أخيها عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. روت عن النبي صلّى الله عليه وسلم ستة وأربعين حديثا (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت بطن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض) . (و) أخرج الإمام أحمد ابن حنبل (عن محرّش) - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء الثقيلة ومعجمة- ضبطه ابن ماكولا؛ تبعا لهشام بن يوسف ويحيى بن معين. ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوّبه ابن السكن؛ تبعا لابن المديني كما في «الإصابة» ، وزاد في «التبصير» : وقال ابن سعد مخرّش- بالخاء المعجمة-. وقال بعضهم: مهملة. وقال الزمخشري: الصواب بالخاء المعجمة. انتهى. وفي «الجامع» لابن الأثير: ويقال: محرش؛ بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الراء مخففة وشين معجمة. قال في «الإصابة» : وهو ابن سويد بن عبد الله بن مرّة الخزاعي (الكعبيّ) عداده في أهل مكة. وقيل: إنه ابن عبد الله. انتهى (رضي الله تعالى عنه. قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الجعرانة) - بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء- وهو الأشهر وصوّبه النووي في «تهذيبه» ، ونقله عن الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ وأئمة اللغة، ومحقّقي المحدّثين، و [الجعرّانة] بكسر المهملة وتشديد الراء، وعليه عامّة المحدّثين، لكن عدّه الخطّابي من تصحيفهم. وقال صاحب «المطالع» : كلا اللّغتين صواب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ليلا فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة. وفي «المواهب» : عن مقاتل بن حيّان: ... موضع مشهور بين الطائف ومكّة؛ وهو إليها أقرب، إذ بينهما ثمانية عشر ميلا؛ على ما قاله الرافعي والباجي المالكي وتبعهما الإسنوي. واثنا عشر؛ على ما قاله الفاكهي والأسدي وغيرهما. ورجّحه الفاسي بعد تحريره، فبينها وبين الحرم من جهتها نحو ثلاث أميال. سمّيت «جعرانة» !! باسم امرأة من تميم، وقيل: من قريش. وهي المشار إليها بقوله تعالى (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [92/ النحل] وبها ماء شديد العذوبة. قال الفاكهي: يقال إنه صلّى الله عليه وسلم حفر موضعه بيده الشريفة المباركة فانبجس فشرب منه، وسقى الناس. أو غرز رمحه فنبع. قال الواقدي كمجاهد: وإحرامه صلّى الله عليه وسلم بها من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى (ليلا) . قال الواقدي: وكانت ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقين من ذي القعدة. انتهى. (فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة) ، فاعتمر وأصبح بها كبائت. هذا بقية الحديث. وأخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي بإسناد حسن. قال الترمذي: ولا يعرف له غيره. انتهى «زرقاني» . (وفي «المواهب) اللدنية بالمنح المحمّدية» للعلامة القسطلّاني؛ (عن مقاتل بن حيّان) - بمهملة فتحتية مشددة- النّبطي- بفتح النون والموحدة- المفسّر أبي بسطام البلخي الخزار- بمعجمة وزايين- كما ضبطه الزرقاني على «المواهب» . وهو مولى بكر بن وائل. وهو من تابعي التابعين، صدوق فاضل. روى عن سالم بن عبد الله، وعكرمة «مولى ابن عباس» وعطاء بن أبي رباح، وأبي بردة بن أبي موسى، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والحسن البصري، وأبي الصديق الناجي، وشهر بن حوشب، وعبد الله بن بريدة، والضحّاك بن مزاحم وغيرهم. وروى عنه علقمة بن مرثد، وعتّاب بن محمد، وأبو جعفر الرازي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام: «اسمع وأطع، يا ابن الطّاهرة البكر البتول، إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين، فإيّاي فاعبد، وعليّ فتوكّل، فسّر لأهل سوران إنّي أنا الله الحيّ القيّوم الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة والنّعلين والهراوة، ... وعبد الله بن المبارك، وخلائق غيرهم. واتفقوا على توثيقه والثناء عليه. وروى له مسلم وأصحاب «السنن» ، وأخطأ الأزدي في زعمه «أنّ وكيعا كذّبه» ، وإنّما كذّب مقاتل بن سليمان!!. مات قبل الخمسين ومائة هجرية بأرض الهند. (قال: أوحى الله تعالى إلى) المسيح (عيسى) ابن مريم- على نبينا و (عليه) الصلاة (والسّلام) -: جدّ في أمري ولا تهزل و (اسمع وأطع؛ يا ابن الطّاهرة البكر البتول) : المنقطعة عن الرجال؛ (إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك آية) : علامة دالّة على قدرتي (للعالمين) الإنس والجن والملائكة حيث خلقتك من غير فحل، (فإيّاي فاعبد) لا غيري، (وعليّ فتوكّل) ؛ لا على غيري، (فسّر لأهل سوران) - بالسريانية-: بلّغ من بين يديك (إنّي أنا الله الحيّ) الدائم البقاء، (القيّوم) : المبالغ في القيام بتدبير خلقه، (الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ) العربيّ (صاحب الجمل والمدرعة) - بكسر الميم- أي: القتال والملاحم؛ كما في «السّامي في الأسماء» ؛ وإن كانت في الأصل كالدّرّاعة ثوب، ولا يكون إلّا من صوف؛ كما في «القاموس» ؛ كذا في الزرقاني. وقال المصنّف النبهاني في كتاب «الأسمى» : صاحب المدرعة هي نوع من الثياب، ولا تكون إلّا من الصوف، وهي علامة التواضع ولبس الصالحين. انتهى. (والعمامة والنّعلين والهراوة) - بكسر الهاء ثم راء فألف فواو فتاء تأنيث-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الجعد الرّأس، الصّلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدّين، الكثّ اللّحية، عرقه في وجهه كاللّؤلؤ، ... العصا مطلقا، أو الضخمة. (الجعد الرّأس) - بفتح الجيم وسكون العين- أي: جعودة متوسّطة، فلا يخالف قول أنس في «الصحيحين» والترمذي «ليس بالجعد القطط، ولا بالسّبط» القطط، بفتحتين: الشديد الجعودة كالسودان، والسّبط- بفتح فكسر أو سكون-: المنبسط المسترسل الذي لا تكسّر فيه، فهو متوسّط بين الجعودة والسبوطة. (الصّلت) : الواضح (الجبين، المقرون الحاجبين) . وفي «شرح الإحياء» : المفروق الحاجبين. وهو الموافق لرواية ابن أبي هالة، وزيادة جملة وهي «الأنجل العينين» . (الأهدب الأشفار، الأدعج العينين) - بمهملة وجيم- أي: الشديد سواد الحدقة مع سعتها، فلا يشكل بأنه «أشكل» ، لأن الشّكلة في البياض؛ لا في السواد. (الأقنى الأنف) - بقاف فنون- مخففا من القنى. وفسّر في «النهاية» بالسائل الأنف المرتفع وسطه مع احد يدابه وارتفاع أعلاه. (الواضح الخدّين) أي: ليس فيهما نتوء؛ ولا ارتفاع، فهو كقول هند: «سهل الخدين» . (الكثّ اللّحية) - بفتح الكاف ومثلثة-: غير دقيقها ولا طويلها وفيها كثافة؛ كما في «النهاية» . وفي «التنقيح» : كثير شعرها غير مسبلة. واللّحية- بكسر اللام وفتحها؛ وهو لغة الحجاز-: الشعر النابت على الذقن خاصّة. (عرقه) - بالتحريك-: ما يرشح من جلده (في وجهه كاللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، وفي «شرح الإحياء» : كأنه اللؤلؤ. وللبيهقي؛ عن عائشة رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وريح المسك ينفح منه، كأنّ عنقه إبريق فضّة» . قوله: (صلت الجبين) : واضحه. و (أدعج العينين) : شديد سواد العين. و (أقنى الأنف) : طويله مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع. قال ابن الأثير: ... تعالى عنها: كان يخصف نعله وكنت أغزل؛ فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولّد نورا. (وريح المسك ينفح) - بفتح الفاء- أي: يهبّ (منه) ويظهر رائحته، (كأنّ عنقه) - بضم المهملة والنون وتسكن- (إبريق فضّة) ؛ صفاء وطولا متوسطا لا مفرطا. قال في «شرح الإحياء» : رواه البيهقي في «دلائل النبوة» . (قوله: صلت الجبين) معناه: (واضحه) . وقوله (أدعج العينين) معناه: (شديد سواد العين) من الدّعج- بفتحتين- أي: مع اتساعها؛ كما في «الصحاح» وغيره. وفي «النهاية» : الدّعج: السّواد في العين وغيرها. وقيل: شدّة بياض البياض وسواد السواد. (و) قوله (أقنى الأنف) معناه: (طويله مع دقّة أرنبته) ؛ أي: طرفه، (في وسطه بعض ارتفاع) وهو المعبّر عنه بالاحديداب. هذا؛ وما وصفه به ابن أبي هالة في الحديث المتقدّم في قوله: «سوابغ من غير قرن» مخالف لما هنا في حديث مقاتل بن حيان من قوله: «المقرون الحاجبين» ، ومخالف لما في حديث أم معبد فإنّها قالت: «أحور أكحل، أزجّ أقرن» أي: مقرون الحاجبين!!. (قال) العلّامة الحافظ مجد الدين (ابن الأثير) أبو السعادات مبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري. ولد بجزيرة ابن عمر سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة ونشأ بها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والصّحيح في صفة حواجبه صلّى الله عليه وسلّم أنّها سوابغ من غير قرن. انتقل إلى الموصل، وأنشأ رباطا بقرية قرب الموصل تسمى «قصر حرب» . وكان أشهر العلماء ذكرا، وأكثر النبلاء قدرا. وله المصنفات البديعة منها «جامع الأصول» و «النهاية في غريب الحديث» ، و «الإنصاف في الجمع بين «الكشف» و «الكشاف» » ، و «المصفّى المختار في الأدعية والأذكار» ، و «البديع شرح «الفصول» في النحو» ، و «الشافي» شرح «مسند الشافعي» ، وكتاب لطيف في صنعة الكتابة. توفي في ذي القعدة سنة: - 606- ست وستمائة هجرية رحمه الله تعالى. قال في «النهاية» : (والصّحيح في صفة حواجبه صلّى الله عليه وسلم أنّها سوابغ من غير قرن) ؛ كما وصفه به ابن أبي هالة. وقال غير ابن الأثير: إنه المشهور، وأن قول الحسن: «سألت خالي هند بن أبي هالة؛ وكان وصّافا» ردّ لما جاء بخلافه. وجمع على تقدير الصحّة؛ بأنه بحسب ما يبدو للناظرين من بعد، أو بلا تأمّل. وأما القريب المتأمّل فيرى بين حاجبه فاصلا مستبينا، فهو أبلج في الواقع؛ أقرن بحسب الظاهر للناظر من بعد، أو بلا تأمّل؛ كما في وصف أنفه: يحسبه من لم يتأمّله أشمّ؛ ولم يكن أشمّ. وبأن بينها شعرا خفيفا جدا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر وحديثها سفري وبأن القرن حدث له بعد، وكان أوّلا بلا قرن، واستبعد. قال الأنطاكي وغيره: والقرن معدود من معايب الحواجب، والعرب تكرهه، وأهل القيافة تذمّه، ويستحبّون البلج خلاف ما عليه العجم. وإذا دقّقت النظر علمت أنّ نظر العرب أدقّ، وطبعهم أرقّ. انتهى زرقاني على «المواهب» . قلت: هذا بحسب ما في «المواهب» . والذي في «شرح الإحياء» ؛ في حديث مقاتل بن حيان: «المفروق الحاجبين» ، وعليه؛ فهو يوافق كلام الوصّاف هند بن أبي هالة؛ فلتراجع نسخة «دلائل النبوة» للبيهقي التي هي الأصل. والله أعلم. (و) روى ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» - كما في المناوي؛ على «الجامع الصغير» - قال: ورواه عنه أيضا الطّبراني في «الأوسط» - قال الحافظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر وجهه في المرآة.. قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي فعدّله، وكرّم صورة وجهي فحسّنها، وجعلني من المسلمين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر في المرآة.. قال: «الحمد لله الّذي حسّن خلقي وخلقي، وزان منّي ما شان من غيري» . العراقي: وسنده ضعيف. ورواه عنه البيهقي في «الشّعب» ، وفيه هاشم بن عيسى الحمصي؛ أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال: لا يعرف- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه) ؛ أي: صورة وجهه (في المرآة) المعروفة- بالمدّ- (قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي) - بفتح فسكون- أي: صورة خلقي (فعدّله) - بالتشديد والتخفيف- أي: بسبب كونه كرّم صورته، (وكرّم صورة وجهي فحسّنها) ؛ فيسنّ النظر في المرآة وقول ذلك؛ ولو كانت صورة وجهه ليست حسنة. لأنّ المراد الحسن النسبي بالنسبة لغيره، (وجعلني من المسلمين) ليقوم بواجب شكر ربّه تقدّس. (و) أخرج أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» - بسند فيه متروك؛ كما قال المناوي- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة؛ قال: «الحمد لله الّذي حسّن) - بالتشديد: فعّل- (خلقي) بسكون اللام- (وخلقي) - بضمّها- (وزان منّي ما شان) - أي: قبح- (من غيري) . قال الطيبي: فيه معنى قوله «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» فجعل النقص شينا؛ كما قال المتنبي: ولم أر في عيوب النّاس عيبا ... كنقص القادرين على التّمام وعلى نحو هذا الحمد حمد داود وسليمان (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (15) [النمل] انتهى. ولعل النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول هذا مرّة؛ وهذا أخرى. فيندب النظر في المرآة والحمد على حسن الخلق والخلقة، لأنهما نعمتان يجب الشكر عليهما. ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا أشبه النّاس بآدم صلّى الله عليه وسلّم، وكان أبي إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أشبه النّاس بي خلقا وخلقا» . وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: ... الحمد لله الذي حسن خلقي؛ وإن كان سيّىء الخلق، لأن المراد بالنسبة لمن هو أسوأ منه خلقا. وقد كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة. فقيل له، فقال: انظر فما كان في وجهي زين؛ فهو في وجه غيري شين أحمد الله عليه. انتهى «مناوي وحفني» . (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يقول: أنا أشبه النّاس بآدم صلّى الله عليه وسلم، وكان أبي إبراهيم) خليل الرحمن (صلّى الله عليه وسلم أشبه النّاس بي خلقا) - بفتح الخاء وإسكان اللام- (وخلقا) . بضمتين. قال في «شرح الإحياء» : رواه البيهقي في «دلائل النبوة» من جملة حديث طويل، ثم ساق الحديث بطوله بسنده إلى «دلائل النبوة» رحمه الله تعالى. (و) روى مسلم في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام- بالراء- ابن عمرو بن سواد بن سلمة- بكسر اللام- ابن سعد بن علي بن أسد بن ساردة- بالسين المهملة- ابن تزيد- بالتاء المثناة فوق- ابن جشم ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي السّلمي- بفتح السين واللام- المدني، الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) يكنى: أبا عبد الله، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا محمد. كان من كبار الصحابة وفضلائهم. غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة. وهو أحد المكثرين في الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، روى عنه ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعين حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستين حديثا، وانفرد البخاريّ بستة وعشرين. وانفرد مسلم بمائة وستة وعشرين. وروى عن أبي بكر وعمر وعليّ وأبي عبيدة ومعاذ وخالد بن الوليد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ الأنبياء، ... وروى عنه جماعات من أئمة التابعين؛ منهم سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، ومحمد الباقر، وعطاء، وسالم بن أبي الجعد، وعمرو بن دينار، ومجاهد، ومحمد بن المنكدر، وأبو الزبير، والشعبي، وخلائق. واستشهد أبوه يوم أحد؛ فأحياه الله وكلّمه، وقال: يا عبد الله ما تريد؟ فقال: أن أرجع إلى الدنيا مرّة أخرى فأستشهد مرّة أخرى. والمعنى: أريد زيادة رضاك؛ وهي الشهادة بعد الشهادة، وهذه المرتبة أعلى مقاما من حال أبي يزيد حين قيل له: ما تريد؟ فقال: أريد أن لا أريد. وقال بعض السادة من أهل السعادة: هذه أيضا إرادة. نعم من قال: «أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد» مستحسن جدّا، للحديث القدسي: «تريد وأريد، ولا يكون إلّا ما أريد» . وكانت وفاة جابر بالمدينة المنورة سنة: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل: ثمان وستين، وهو ابن أربع وتسعين سنة. وكان ذهب بصره في آخر عمره؛ وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة المنورة. وحيث أطلق «جابر» في كتب الحديث؛ فهو جابر بن عبد الله. وإذا أريد جابر بن سمرة! قيّد. رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «عرض) - بصيغة المجهول- (عليّ) - بتشديد الياء- (الأنبياء) في النوم بأن مثّلت له صورهم على ما كانت عليه حال حياتهم، أو في اليقظة ليلة المعراج، لأنه رآهم ليلته بصورهم الحقيقية التي كانوا عليها حال الحياة، واجتمع بهم حقيقة في السموات، وفي بيت المقدس. ويقرّب الأوّل رواية البخاري: «أراني اللّيلة عند الكعبة في المنام؛ فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من الرّجال تضرب لمّته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين؛ وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فإذا موسى عليه السّلام ضرب من الرّجال كأنّه من رجال شنوءة. قالوا: المسيح ابن مريم» . ويؤيّد الثاني رواية البخاري أيضا: «ليلة أسري بي رأيت موسى ... » الحديث. وفي ذلك إيماء إلى أفضليته صلّى الله عليه وسلم حيث لم يقل (عرضت عليهم) ، فإنّهم كالجنود له، والعسكر تعرض على السلطان؛ دون العكس. ولهذا قال بعض العارفين: إنّه صلّى الله عليه وسلم بمنزلة القلب في الجيش، والأنبياء مقدّمته، والأولياء ساقته، والملائكة يمنة ويسرة متظاهرين متعاونين، كما قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (4) [التحريم] . والشياطين قطّاع الطريق في الدين، والمراد بالأنبياء المعنى الأعمّ الشامل للرسل. (فإذا) - للمفاجأة- (موسى) على نبينا و (عليه) الصلاة و (السّلام) ، وهو عطف على محذوف؛ أي: فرأيت موسى؛ فإذا موسى ... الخ. وموسى معرّب موشى- بشين معجمة- سمّته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لمّا وجد بالتابوت بين ماء وشجر لمناسبته لحاله، فإنّ «مو» في لغة القبط: الماء، و «شى» في تلك اللغة: الشجر، فعرّب إلى موسى. (ضرب) - بفتح فسكون- (من الرّجال) ؛ صفة ضرب؛ أي: نوع كائن من بين الرجال؛ وهو الخفيف اللحم المستدقّ، بحيث يكون جسما بين جسمين، لا ناحل ولا مطهّم. (كأنّه) - أي موسى- (من رجال شنوءة) التي هي قبيلة من اليمن؛ أو من قحطان، وهي على وزن فعولة: تهمز وتسهّل. قال ابن السّكّيت: ربما قالوا شنوة كنبوة. ورجال هذه القبيلة متوسّطون بين الخفّة والسّمن. والشّنوءة- في الأصل-: التباعد؛ كما في كلام «الصحاح» . ومن ثمّ قيل لقّبوا به!! لطهارة نسبهم وجميل حسبهم، والمتبادر أنّ التشبيه بهم في خفّة اللحم، فيكون تأكيدا لما قبله، وبيانا له. وقيل: المراد تشبيه صورته بصورتهم؛ لا تأكيد خفّة اللحم، إذا التأسيس خير من التأكيد. وقال بعضهم: الأولى أن يكون التشبيه باعتبار أصل معنى شنوءة؛ فلا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ورأيت عيسى ابن مريم [عليه السّلام] ، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود. تأكيدا لما قبله؛ ولا بيانا له، بل هو خبر مستقلّ بالفائدة. وإنما لم يشبهه صلّى الله عليه وسلم بفرد معيّن؛ كسيدنا إبراهيم وعيسى!! لعدم تشخّص فرد معيّن في خاطره حال حكايته ذلك لأصحابه. والله أعلم. (ورأيت) - بصيغة المتكلّم أي: أبصرت- (عيسى ابن مريم) بنت عمران الصدّيقة بنصّ القرآن (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [75/ المائدة] قيل: من ذرية سليمان بينها وبينه أربعة وعشرون أبا، ورفع عيسى عليه السلام وسنّها ثلاث وخمسون سنة، وبقيت بعده خمس سنين. (فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة) - بمهملات- (ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه الثقفي؛ لا الهذلي كما وهم. وهو أبو مسعود؛ أو أبو يعفور. وأمه قرشية؛ وهو الذي أرسلته قريش إلى المصطفى صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية فعقد معه الصلح؛ وهو كافر، ثمّ أسلم سنة تسع- بتقديم المثناة على السين المهملة- من الهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلم من الطائف، واستأذن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في الرجوع لأهله؛ فرجع ودعا قومه إلى الإسلام فرماه واحد منهم بسهم؛ وهو يؤذّن للصلاة؛ فمات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: «مثل عروة مثل صاحب ياسين؛ دعا قومه إلى الله فقتلوه» انتهى. وهو أحد الرجلين اللذين قالوا فيهما (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (31) [الزخرف] وحلية عروة لم تضبط! ولعلّه اكتفى بعلم المخاطبين؛ فلم يحصل لنا المعرفة بحلية عيسى عليه السلام، لكن في رواية لمسلم: «فإذا هو ربعة أحمر كأنّه خرج من ديماس» أي: حمّام. وفي رواية أخرى: «فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء» فجمع بين الحديثين بأنّه كان له حمرة وأدمة لم يكن شيء منها في الغاية، فوصفه تارة بالحمرة؛ وتارة بالأدمة، وجمع أيضا بغير ذلك. ولا يخفى أنّ «أقرب» مبتدأ؛ خبره عروة بن مسعود. و «من» موصولة وعائدها محذوف؛ أي: أقرب الذي رأيته، وبه متعلّق ب «شبها» المنصوب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ورأيت إبراهيم عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم؛ يعني نفسه. ورأيت جبريل عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية» . أنّه تمييز للنسبة، وصلة «القرب» محذوفة أي: إليه أو منه. (ورأيت إبراهيم) الخليل على نبينا و (عليه) الصلاة و (السّلام) قال الماوردي في «الحاوي» : معناه بالسريانية «أب رحيم» ، وفيه خمس لغات بل أكثر: إبراهيم، وإبراهام؛ وهما أشهر لغاته، وبهما قرىء في السّبع، وإبراهم بضم الهاء، وكسرها، وفتحها-. (فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم) . ولذلك ورد: «أنا أشبه ولد إبراهيم به» . (يعني نفسه) ؛ أي: يقصد النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله «صاحبكم» نفسه الشريفة. وهذا من كلام جابر رضي الله تعالى عنه. (ورأيت جبريل) - كفعليل. وفيه ثلاثة عشر وجها؛ بسط بعضهم الكلام عليها. وهو سرياني؛ معناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز. و «إيل» : اسم الله عند الجمهور. وقيل غير ذلك. ثم قوله «رأيت جبريل» معطوف على قوله «عرض عليّ الأنبياء» عطف قصّته على قصّته، فليس داخلا في عرض الأنبياء حتى نحتاج إلى جعله منهم تغليبا. غاية الأمر: أنّه ذكره في سياق الأنبياء مع كونه غير نبي!! لكثرة مخالطته لهم وتبليغ الوحي إليهم، نظير ما قيل في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ) [30- 31/ الحجر] انتهى «باجوري ومناوي رحمهما الله تعالى» . (عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية) - بكسر الدال المهملة وسكون الحاء المهملة وبالتحتانية المفتوحة؛ على ما قاله أكثر أصحاب الحديث وأهل اللغة. وقال ابن ماكولا في «الإكمال» : بفتح الدال-. وهو ابن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي الصحابي قديما المشهور، بل هو من كبار الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ومعنى (ضرب) : نوع. و (شنوءة) : قبيلة من اليمن رجالها متوسّطون. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسع الظّهر، ... شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشاهده كلّها بعد بدر، وبايع تحت الشجرة. وفي «الصحيحين» : كان جبريل يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم في صورته غالبا، لأنه كان بارعا في الجمال؛ بحيث تضرب به الأمثال. وكان إذا دخل بلدا برز لرؤيته العواتق من خدورهن. نزل الشام وسكن المزّة، وبقي إلى أيام معاوية رضي الله عنه. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث. وحديثه في «الصحيحين» . وكانت وفاته في سنة: خمس وأربعين تقريبا. قال جمع من العلماء: وحكمة إتيان جبريل في صورته أنّ القرآن عربيّ نزل بلسان عربي مبين، وعادة العرب قبل الإسلام لا يرسلون إلى ملك رسولا؛ إلّا مثل دحية في الجمال والفصاحة، والمصطفى صلّى الله عليه وسلم أعظم من الملوك؛ فكان يأتيه في صورته جريا على عادتهم. ودحية هو رسول نبي الله صلّى الله عليه وسلم إلى قيصر، فلقيه بحمص، ثم عاد إليه رضي الله تعالى عنه. (ومعنى ضرب) - بفتح المعجمة وسكون الراء وآخره باء موحدة-: (نوع) ؛ كما في «حاشية الباجوري» . (وشنوءة) - بفتح الشين المعجمة وضمّ النون؛ ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة بعدها تاء؛ على زنة: فعولة-: (قبيلة) معروفة (من اليمن) - ومنه أزد شنوءة- (رجالها متوسّطون) بين الخفّة والسّمن، سمّيت به لشناءة بينهم، أو لتشنّئهم: أي: بعدهم إمّا من الناس، أو من الأدناس، ويرجّحه قول «الصحاح» : الشنوءة على وزن فعولة: التعزّز وهو التباعد، ومن ثمّ قيل: لقّبوا به لطهارة نسبهم وجميل حسبهم. انتهى «مناوي» . (و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واسع الظّهر) ، وبه فسّر «بعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ما بين كتفيه خاتم النّبوّة، وهو ممّا يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء ... ما بين المنكبين» ؛ أي: عريض أعلى الظهر- كما تقدّم-، وقد روي «بعيد ما بين المنكبين» في عدّة أحاديث. روى الشيخان: البخاريّ، ومسلم؛ من حديث البراء رضي الله تعالى عنه: كان مربوعا بعيد ما بين المنكبين ... الحديث. وروى البيهقي، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «كان بعيد ما بين المنكبين» ، وفي لفظ لمسلم: «له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين» . (ما بين كتفيه خاتم النّبوّة) - بفتح التاء وكسرها-، والمراد به هنا الأثر الحاصل له بين كتفيه لمشابهته للخاتم الذي يختم به؛ وهو الطابع. وإضافته للنبوة للدّلالة عليها. (وهو ممّا يلي منكبه الأيمن) ، فالبينيّة المذكورة تقريبية. هذا قول، والصحيح أنّه كان عند أعلى كتفه الأيسر؛ قاله السّهيلي. وقد وقع التصريح به عند مسلم، قال: حدّثنا حامد بن عمر البكراوي، وأبو كامل الجحدري؛ قالا: حدّثنا حمّاد بن زيد؛ عن عاصم الأحول؛ عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزا ولحما. وساق الحديث. وفيه: ثمّ درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوّة بين كتفيه عند نفض كتفه اليسرى ... الحديث. والسّر في جعله على الجانب الأيسر: أنّ القلب في تلك الجهة، فجعل الخاتم في المحلّ المحاذي للقلب. وهل 1- ولد به، أو 2- وضع حين ولد، أو 3- عند شقّ صدره، أو 4- حين نبّىء!؟ أقوال. قال الحافظ ابن حجر: أثبتها الثالث. وبه جزم القاضي عياض. (فيه شامة سوداء) ، والشامة: علامة تخالف لون البدن التي هي فيه، جمعه شام وشامات؛ قاله في «القاموس» . وقال الجوهري: الشام جمع شامة؛ وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف فرس. وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة. الخال؛ وهي من الياء «1» . (تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف) - بضم العين وإسكان الراء- (فرس) ؛ وهو الشعر النابت في محدّب رقبتها. هكذا رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» ، إلّا أنّه قال: متركّبات، بدل: متواليات؛ قاله في «شرح الإحياء» . وسيأتي عن الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ردّ هذه الرواية في صفة خاتم النبوة. (وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: خاتم النبوة الذي بين كتفيه (غدّة) - بضم الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة- وهي؛ كما في «المصباح» : لحم يحدث بين الجلد واللحم، يتحرّك بالتحريم. (حمراء) ؛ أي: مائلة للحمرة، لئلا ينافي ما ورد في رواية مسلم: أنّه كان على لون جسده صلّى الله عليه وسلم؛ قاله في «جمع الوسائل» . وفي الباجوري: قوله حمراء ... وفي رواية: أنّها سوداء، وفي رواية: أنّها خضراء، وفي رواية: كلون جسده، ولا تدافع بين هذه الروايات، لأنّه كان يتفاوت باختلاف الأوقات؛ فكانت كلون جسده تارة، وكانت حمراء تارة ... وهكذا بحسب الأوقات. (مثل بيضة الحمامة) . رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة» انتهى. وفي تحديد خاتم النبوّة أقوال كثيرة؛ منها: جمع عليه خيلان؛ كأنها الثآليل السود عند نفض كتفه. رواه مسلم؛ من   (1) احتراز عن الألف: شأم، وعن الميم: شمم؛ إذ هي من: شيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ......... حديث عبد الله بن سرجس. وقيل: مثل زر الحجلة. رواه البخاري؛ من حديث السائب بن يزيد، وزاد: وينمّ مسكا. ورواه مسلم بلا زيادة. وقيل: كبيضة الحمام. رواه مسلم؛ من حديث جابر بن سمرة. وقيل: مثل السلعة. رواه البيهقي؛ من حديث معاوية بن قرّة عن أبيه. وقيل: شعر مجتمع. رواه الحاكم في «المستدرك» . وقيل: مثل التفاحة. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث إياد بن لقيط. وقيل: مثل بعرة البعير. رواه أيضا؛ من حديث أبي رمثة؛ عن أبيه. وقيل: مثل السلعة. رواه أيضا؛ من حديثه؛ عن أبيه. وقيل: لحمة ناتئة. رواه أيضا؛ من حديث أبي سعيد. وقيل: بضعة ناشزة. رواه الترمذي في «الشمائل» . وقيل: كالبندقة. رواه ابن عساكر في «التاريخ» . زاد الحاكم في «تاريخ نيسابور» : مكتوب فيه باللحم «محمد رسول الله» . وقيل: كالمحجمة الضخمة. رواه البيهقي؛ من حديث التنوخي رسول هرقل. وللسهيلي في «الروض» : كأثر المحجم النابضة على اللحم. وقيل: شامة خضراء محتفرة في اللحم. رواه ابن أبي خيثمة في «التاريخ» . وقيل: ثلاث شعرات مجتمعات؛ نقله القاضي. وقيل: كبيضة حمام مكتوب بباطنها «الله وحده لا شريك له» ، وبظاهرها «توجّه حيث كنت فإنّك منصور» رواه الحكيم الترمذي؛ في «نوادر الأصول» . وقيل: كان نورا يتلألأ. رواه ابن عائذ. قال بعض العلماء: وليست هذه الروايات مختلفة حقيقة، بل كلّ شبّه بما سنح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وعن بريدة بن الحصيب ... له. وتلك الألفاظ كلّها مؤدّاها واحد، وهو: قطعة لحم. ومن قال: شعر، فلأن الشعر حوله متراكب عليه. كما في الرواية الأخرى. وقال القرطبي: الأحاديث الثابتة تدلّ على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلّل جعل كبيضة الحمامة، وإذا كثّر جعل كجمع اليد. وقال القاضي: رواية «جمع الكفّ» تخالف «بيض الحمام» ، و «زر الحجلة» فتتأوّل على وفق الروايات الكثيرة، أي: كهيئة الجمع؛ لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : وأمّا ما ورد أنها كانت كأثر محجم، أو كشامة خضراء؛ أو سوداء، أو مكتوب عليها: «محمد رسول الله» ، أو «سر فأنت منصور» ، أو تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها عرف فرس بمنكبه الأيمن، إلى غير ذلك!! فلم يثبت منه شيء. وتصحيح ابن حبان ذلك وهم. قال الحافظ الهيثمي: من روى أنه كان على خاتم النبوة كتابة: «محمد رسول الله» !! فقد اشتبه عليه خاتم النبوة بخاتم اليد، إذ الكتابة المذكورة إنما كانت على خاتم اليد؛ دون خاتم النبوة. انتهى ملخصا «من شرح الإحياء» ، والمناوي، والباجوري. (و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن بريدة) - مصغّر- (ابن الحصيب) بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة؛ مصغرا- ابن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح الأسلمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو سهل. ويقال: أبو الحصيب. كان من أكابر الصحابة، أسلم قبل بدر؛ ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة. واستعمله النبي صلّى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وسكن المدينة. وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو؛ فمات بها سنة: اثنتين- أو ثلاث- وستين هجرية، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بخراسان. روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم مائة وسبعة وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 رضي الله تعالى عنه قال: جاء سلمان الفارسيّ ... حديث منها، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بأحد عشر حديثا. وروى عنه ابناه عبد الله وسليمان (رضي الله تعالى عنه؛ قال: جاء سلمان الفارسيّ) الصحابي الكبير، أحد الذين اشتاقت لهم الجنة- نسبة لفارس- إما لكونه منها، أو من «أصفهان» ؛ والعرب يسمّون ما تحت ملوك العجم كلّه «فارس» ، و «أصبهان» كان منها. ولم يعلم اسم أبي سلمان، وسئل عن نسبه فقال: أنا سلمان ابن الإسلام: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا انتسبوا لقيس أو تميم ويقال: سلمان الحبر- بالمهملة فالموحدة، وقيل: بالمعجمة والتحتية [الخير]- وهو صحابيّ كبير؛ قيل: عاش مائتين وخمسين سنة، وقيل: ثلثمائة وخمسين سنة، والأوّل أصحّ، ومات سنة: ستّ وثلاثين. روي له ستّون حديثا. وكان قوي الجسم، صحيح الرأي، عالما بالشرائع وغيرها، وأدرك حواري عيسى، وقرأ الكتابين، وأصله مجوسيّ. وهو الذي دلّ المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب حتى اختلف عليه المهاجرون والأنصار؛ كلاهما يقول: سلمان منا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سلمان منّا أهل البيت» . وكان عطاؤه خمسة آلاف؛ يفرّقه ويأكل من كسب يده يعمل الخوص، وله مزيد اجتهاد في الزهد، فإنه مع طول عمره المستلزم لزيادة الحرص لم يزدد إلّا زهدا. وسئل علي كرّم الله وجهه عنه؛ فقال: علم العلم الأوّل والعلم الآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منّا أهل البيت. قيل: هرب من أخيه؛ وكان مجوسيا فلحق براهب، ثم بجماعة من الرهبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، ... في القدس الشريف؛ وكان في صحبتهم إلى وفاة آخرهم، فدلّه الحبر إلى الحجاز، وأخبره بظهور النبي صلّى الله عليه وسلم. فقصد الحجاز مع جمع من الأعراب، فباعوه في وادي القرى من يهودي، ثم اشتراه منه يهوديّ آخر من قريظة؛ فقدم به المدينة، فأقام بها حتى قدمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان الراهب قد وصف له بالعلامات الدالّة على النبوة، فجاء (رضي الله عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: في السّنة الأولى من الهجرة (حين) - ظرف ل «جاء» - (قدم) - بكسر الدال- أي: فجاء حين أوقات قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم (المدينة) المنوّرة (بمائدة) - الباء للتعدية؛ أو للمصاحبة- أي: ومعه مائدة. والمشهور عند أرباب اللغة: أنّ المائدة خوان عليه طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فلا يسمى «مائدة» ، بل يقال له «خوان» . فالمائدة من الأشياء التي تختلف أسماؤها باختلاف أوصافها، كالبستان؛ فإنه لا يقال له «حديقة» إلّا إذا كان عليه حائط. وكالقدح؛ فإنّه لا يقال له «كأس» إلّا إذا كان فيه شراب. وكالدلو؛ فإنه لا يقال له «سجل» إلّا إذا كان فيه ماء. وكالمجلس؛ فإنه لا يقال له «ناد» إلّا وفيه أهله. وكالمرأة؛ فإنّه لا يقال لها «ظعينة» إلّا ما دامت راكبة الهودج. وكالقدح؛ فإنه لا يقال له «سهم» إلّا إذا كان فيه نصل وريش. وكالشجاع؛ فإنّه لا يقال له «كميّ» إلّا إذا كان شاكي السلاح. وكالخيط؛ فإنه لا يقال له «سمط» إلّا إذا كان فيه نظم. وهكذا ... وحينئذ فقوله (عليها رطب) لتعيين ما عليها من الطعام؛ بناء على القول بأن الرّطب طعام. وعلى القول بأنه من الفواكه؛ وليس بطعام!! تكون المائدة هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فوضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: «يا سلمان.. ما هذا؟» . مستعارة للظرف، وإنما سمّيت «مائدة» لأنها تميد بما عليها؛ أي: تتحرّك. وقيل: لأنها تميد من حولها مما عليها، أي: تعطيهم. فهي على الأول من ماد؛ إذا تحرك، وعلى الثاني من ماد؛ إذا أعطى. وربما قيل فيها: ميدة؛ كقول الراجز: وميدة كثيرة الألوان ... تصنع للجيران والإخوان (فوضعت) - بالبناء للمفعول- أي: المائدة (بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم) قال العراقي في «شرح تقريب المسانيد» : اعلم أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ ما أحضره سلمان كان رطبا فقط. وروى أحمد، والطبراني بإسناد جيد؛ من حديث سلمان نفسه أنه قال: فاحتطبت حطبا فبعته، فصنعت طعاما؛ فأتيت به النبي صلّى الله عليه وسلم. وروى الطبراني أيضا بإسناد جيّد: فاشتريت لحم جزور بدرهم؛ ثم طبخته، فجعلت قصعة ثريد فاحتملتها على عاتقي، ثم أتيت بها ووضعتها بين يديه. فلعل المائدة كان فيها طعام ورطب!!. وأما ما رواه الطبراني؛ من حديث سلمان أيضا: أنّها تمر، فضعيف. ولا مانع من الجمع بين الثلاثة لو صحّت الرواية، فتكون المائدة مشتملة على الرطب، وعلى الثريد، وعلى اللحم. وخصّ الرطب؛ لكونه المعظم. والله أعلم. (فقال: «يا سلمان) - ناداه بقوله «يا سلمان» جبرا لخاطره. ولعله صلّى الله عليه وسلم علم اسمه بنور النبوة، أو بإخبار من حضر، أو أنّه لقيه قبل ذلك وعرف اسمه (ما هذا؟» ) الذي وضعته بين يديّ، يعني: أي نوع من الأنواع التي نوّع الشرع الأشياء عليها وقسمها إليها: أهو صدقة، أم هدية؟! فليس السؤال عن حقيقة المائدة ومفهومها؛ كما هو المتبادر من التعبير ب «ما» ، لأنها يسأل بها عن الحقيقة، إذ ليس الغرض من بيان حقائق الأشياء في هذا المقام إلّا ما يدور عليه الاعتبار الشرعي، والشيء بدونه كأنّه لا حقيقة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك. فقال: «ارفعها؛ فإنّا لا نأكل الصّدقة» . قال: فرفعها. فجاء الغد بمثله فوضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: «ما هذا يا سلمان؟» . فقال: هديّة لك. (فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك) عبّر هنا ب «على» ؛ وباللام فيما يأتي!! لأنّ المقصود من الصدقة معنى الترحّم، ومن الهدية معنى الإكرام، وشرّك هنا بينه صلّى الله عليه وسلم وبين أصحابه، واقتصر فيما يأتي عليه صلّى الله عليه وسلم!! إشارة إلى أن الأصحاب يشاركونه في المقصود من الصدقة، وأنّه مختصّ بالمقصود من الهدية. (فقال: «ارفعها) - أي: المائدة، أو الصدقة من بين يديّ، أو: عني. لرواية أحمد، والطبراني وغيرهما من طرق عديدة؛ أنّه صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «كلوا» . وأمسك يده فلم يأكل. قال العراقي: فيه تحريم صدقة التطوّع على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الصحيح المشهور- (فإنّا لا نأكل الصّدقة» ) . الظاهر اللائق بالمقام أنّه أراد نفسه فقط، وأتى بالنون الدالّة على التعظيم اللائق بمقامه الشريف!! تحدثا بالنعمة. أي: أن الصدقة لا تليق بجنابه صلّى الله عليه وسلم لما فيها من معنى التراحم. (قال) ؛ أي: بريدة بن الحصيب الراوي للحديث: (فرفعها) - أي- سلمان من عنده صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه؛ لا مطلقا- كما تقدّم- أو فرفعها بعد فراغهم من أكلها. (فجاء) - أي- سلمان (الغد) - بنصب «الغد» - (بمثله) ؛ أي: فجاء سلمان في الغد بمثل ما جاء به أولا. أو المراد «من الغد» وقت آخر؛ وإن لم يكن هو اليوم الذي بعد اليوم الأول. (فوضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال «ما هذا يا سلمان؟» ) أي: أهو صدقة أم هدية!؟ كما تقدّم، وخاطبه باسمه ثانيا تلطّفا على مقتضى رسمه. (فقال: هديّة لك) . تقدّم حكمة تعبيره هنا باللام وحكمة الاقتصار عليه صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أبسطوا» ... (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه) - أي: بطريق الانبساط؛ دفها لوهمهم أنّ هذه مختصّة له؛ فليس لهم أن يأكلوا منها، وإشارة إالى حسن الأدب مع الخدم والأصحاب؛ إظهارا لما أعطيه من الخلق العظيم والكرم العميم- (: «أبسطوا» ) بهمزة مضمومة فموحّدة فمهملة-: أمر من البسط- بالموحدة والمهملتين-؛ من حدّ «نصر» . وفي رواية: «انشطوا» - بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الشين المعجمة-: أمر من النشاط. وفي أخرى: «انشقّوا» بالقاف المشددة. ومعنى هذه الرواية: انفرجوا ليتّسع المجلس. ومعنى الرواية التي قبلها: ميلوا للأكل معي، وكلّ ما مال الشخص لفعله وآثره؛ فقد نشط له. وأما الرواية الأولى فيحتمل أن معناها: انشروا الطعام ليصله كلّ منكم؛ فيكون من «بسطه» بمعنى «نشره» ، ويحتمل أن معناها: مدّوا أيديكم للطعام. فيكون من بسط يده؛ أي: مدّها. ويحتمل أن معناها: سرّوا سلمان بأكل طعامه، فيكون من بسط فلان فلانا: سرّه. ويحتمل أن معناها: وسّعوا المجلس ليدخل بينكم سلمان. فيكون من «بسط الله الرزق لفلان» : وسّعه. وعلى كلّ من هذه الروايات والاحتمالات؛ فقد أكل النبي صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه من هذه الهدية. ويؤخذ من ذلك أنه يستحبّ للمهدى له يعطي الحاضرين مما أهدي له، وهذا المعنى مؤيّد لحديث: «من أهدي له هديّة؛ فجلساؤه شركاؤه فيها» ؛ وإن كان ضعيفا. والمراد بالجلساء؛ كما قال الترمذي في «نوادر الأصول» : الذين يداومون مجلسه، لا كلّ من كان جالسا إذ ذاك. وحكي أن بعض الأولياء أهدي له هدية من الدراهم والدنانير، فقال له بعض جلسائه: يا مولانا؛ الهدية مشتركة. فقال: نحن لا نحبّ الاشتراك. فتغيّر ذلك القائل لظنّه أنّ الشيخ يريد أن يختصّ بالهدية. فقال الشيخ: خذها لك وحدك، فأخذها فعجز عن حملها، فأمر الشيخ بعض تلامذته فأعانوه. وحكي أنّه أهدي لأبي يوسف هدية من الدراهم والدنانير؛ فقال له بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ثمّ نظر إلى الخاتم على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فآمن به. وكان لليهود، فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا وكذا درهما ... جلسائه: يا مولانا؛ الهدية مشتركة. فقال: «أل» في «الهدية» للعهد، والمعهود هديّة الطعام. فانظر الفرق بين مسلك الأولياء ومسلك الفقهاء!!. (ثمّ نظر إلى الخاتم) - بالفتح ويكسر- (على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أتى ب «ثم» لتراخي زمان النظر عن هذا المجلس، لما في كتب السّير: أنّ سلمان لبث بعد ذلك ينتظر رؤية الآية الثالثة التي أخبره عنها آخر مشايخه أنّه سيظهر حبيب عن قريب؛ ومن علاماته القاطعة على أنّه هو النبي الموعود الذي ختم به النبوة: أنّه لا يأكل الصدقة؛ ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة. فلما شاهد سلمان العلامتين المتقدمتين انتظر الآية الثالثة، إلى أن مات واحد من نقباء الأنصار؛ فشيّع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جنازته؛ وذهب معها إلى بقيع الغرقد، وجلس مع أصحابه في ذلك المكان ينتظر دفنه، فجاء سلمان واستدار خلفه لينظر إلى خاتم النبوة، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم استدباره عرف أنّه يريد أن يستثبت شيئا وصف له، فألقى الرداء عن ظهره؛ فنظر سلمان إلى الخاتم (فآمن به) ؛ بلا تراخ ولا مهلة، لتمام العلامات وتكامل الآيات، فالفاء متفرّع على مجموع ما سبق من الآيات الثلاث. أي: فلما تمّت الآيات وكملت العلامات آمن به. (و) الحال أنّه (كان) رقيقا (لليهود) ؛ أي: يهود بني قريظة، ولعلّه كان مشتركا بين جمع منهم، أو كان لواحد منهم. (فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - يعني: كان سببا في كتابة سيّده اليهودي له لأمره بذلك، أو لإعانته على وفاء ما لو كوتب عليه، فتجوّز ب «الشراء» عن إعانته في الأداء- (بكذا وكذا درهما) ، أي: بعدد يشتمل على العطف، ولم يبيّنه في هذا الحديث. وفي بعض الروايات أنّه: أربعون أوقية. قيل: من فضة، وقيل: من ذهب. والأوقية: كانت إذ ذاك أربعين درهما، وقد بقي عليه ذلك حتّى أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب، فقال: «ما فعل الفارسيّ المكاتب» فدعي له. فقال: «خذها فأدّها ممّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 على أن يغرس لهم نخلا فيعمل سلمان فيه حتّى يطعم، فغرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّخيل ... عليك» . قال سلمان: فأين تقع هذه مما عليّ!؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «خذها؛ فإنّ الله سيؤدّي عنك بها» . قال سلمان: فأخذتها؛ فوزنت لهم منها أربعين أوقية؛ فأوفيتهم حقّهم. فعتق سلمان رضي الله تعالى عنه. وقصّته مشهورة. (على أن يغرس) - بفتح الياء وكسر الراء- (لهم) ؛ أي: لمن يملك سلمان (نخلا) ، وفي رواية «نخيلا» وهو والنخل بمعنى واحد، والواحدة النخلة. و «على» بمعنى «مع» ؛ أي: مع أن يغرس. ويؤيده: ما في رواية «وعلى» بالواو العاطفة؛ أي: فكاتبوه على شيئين: الأواقي المذكورة، وغرس النخل مع العمل فيه حتّى يطلع. ولم يبين في هذا الحديث عدد النخل!! وفي بعض الروايات أنّه كان ثلثمائة. فقال صلّى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم» ، فأعانوه فبعضهم بثلاثين وديّة «1» ، وبعضهم بخمس عشرة، وبعضهم بما عنده حتى جمعوا ثلثمائة وديّة. (فيعمل) - بالنصب معطوف على «يغرس» - (سلمان) - ليفيد أنّ عمله من جملة عوض الكتابة- (فيه) ، وفي بعض نسخ «الشمائل» : فيها. وكلّ صحيح، لأنّ النخل والنخيل يذكّران ويؤنّثان؛ كما في كتب اللغة. (حتّى يطعم) - بالمثناة التحتية، أو الفوقية- وعلى كلّ فهو بالبناء للفاعل؛ أو المفعول، ففيه أربعة أوجه، لكن أنكر الحافظ ابن حجر بناءه للمجهول. وقال: ليس في روايتنا وأصول مشايخنا!!. والمعنى على بنائه للفاعل؛ حتّى يثمر، وعلى بنائه للمفعول حتّى تؤكل ثمرته. (فغرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّخيل) جميعها بيديه الكريمتين، لأنّه صلّى الله عليه وسلم خرج مع سلمان؛ فصار سلمان يقرّب له صلّى الله عليه وسلم الوديّ، فيضعه بين يديه. قال سلمان: فو الذي نفسي بيده؛ ما مات منها وديّة، فأدّيت النخل؛ وبقي   (1) فسيلة النخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 إلّا نخلة واحدة غرسها عمر، فحملت النّخل من عامها، ولم تحمل النّخلة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما شأن هذه النّخلة؟» . فقال عمر: يا رسول الله؛ أنا غرستها، فنزعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغرسها، فحملت من عامها. عليّ المال حتّى أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة ... إلى آخر ما تقدّم. (إلّا نخلة) - بالنصب على الاستثناء- (واحدة) للتأكيد (غرسها عمر) بن الخطّاب، وفي بعض الشروح أنّ حكاية غرس عمر رضي الله تعالى عنه نخلة وعدم حملها من عامها غير منقولة إلّا في حديث الترمذي، وليس فيما سواه من أخبار سلمان رضي الله تعالى عنه. (فحملت) - أي: أثمرت- (النّخل من عامها) الذي غرست فيه- على خلاف المعتاد- استعجالا لتخليص سلمان من الرقّ ليزداد رغبة في الإسلام. (ولم تحمل النّخلة) ؛ وفي رواية: ولم تحمل نخلة عمر، أي: لم تثمر من عامها وعدم حملها واقع على سنن ما هو المتعارف؛ إفادة لكمال امتياز رتبة النبي صلّى الله عليه وسلم عن رتبة غيره، ومقدّمة لمعجزتين من معجزاته، لأن غرس النخل له ميقات معلوم؛ (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما شأن هذه النّخلة؟» ) أي: ما حالها وما بالها. لم تحمل؛ مع أنّ صواحباتها قد حملت جميعا!. (فقال عمر) رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ أنا غرستها) ، ولم تغرسها أنت؛ فلم تثمر كصواحباتها، ليظهر كمال تميّزك على غيرك. وكأنّ عمر رضي الله تعالى عنه ما عرف أنّه صلّى الله عليه وسلم أراد بالغرس إظهار المعجزة؛ بل مجرّد المعاونة. (فنزعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغرسها) ثانيا بيديه في غير الوقت المعلوم لغرس النخل. (فحملت من عامها) ؛ أي: من عام غرسها، وفي رواية «من عامه» ؛ أي: الغرس. والحكمة من ذلك: أن يظهر المعجزة بإطعام الكلّ سوى ما لم يغرسه كل الظهور، ويتسبّب لظهوره معجزة أخرى؛ وهي غرس نخلة عمر ثانيا وإطعامها في عامها، ففيه معجزتان غير ما سبق: الغرس في غير أوان الغرس، والإثمار من عامه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 [الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله] الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرى باللّيل في الظّلمة كما يرى بالنّهار في الضّوء. (الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلم) وهو: النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات؛ كما في «المصباح» . وهو بمعنى قول المتكلّمين: قوّة مودعة في العين، وهو صريح في أنّه شيء مخلوق في العين زائد عليها. (و) في صفة (اكتحاله) ؛ أي: استعماله الكحل، وما يتعلّق بذلك. أمّا بصره الشّريف! ففي «المواهب» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى باللّيل في الظّلمة) ؛ احترازا عمّا إذا كان مع القمر (كما يرى بالنّهار في الضّوء) متعلّق بالنهار، للاحتراز عما إذا كان في بيت مظلم؛ أو في يوم غيم، فلا يقال لا حاجة إليه بعد ذكر النهار. والمعنى أنّ رؤيته في النهار الصافي والليل متساوية، لأنّ الله تعالى لما رزقه الاطلاع بالباطن والاحاطة بإدراك مدركات القلوب؛ جعل له مثل ذلك في مدركات العيون، ومن ثمّ كان يرى المحسوس من وراء ظهره كما يراه من أمامه؛ كما يأتي. قال القاضي عياض: وإنّما حدثت هذه الآية له بعد ليلة الإسراء، كما أن موسى كان يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ بعد ليلة الطور. انتهى؛ نقله عنه الزرقاني على «المواهب» . ولا يرد عليه حديث (أنّه صلّى الله عليه وسلم قام ليلة فوطىء على زينب بنت أمّ سلمة بقدمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى من خلفه من الصّفوف كما يرى من بين يديه. وهي نائمة؛ فبكت، فقال: «أميطوا عنّا زيانبكم» !! لأنه حجب عن ذلك حينئذ، ليعلّم أنّه لا ينام أحد ببيت ذي الأهل؛ كذا قاله الزرقاني. وقال الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» : لأنّ زينب رضي الله تعالى عنها كانت بنتا صغيرة مغطّاة بإزار ونحوه في جانب البيت، ومثلها قد لا يرى بالنهار أيضا. انتهى. وهذا الحديث الذي أورده المصنّف ذكره في «المواهب اللدنّيّة» ؛ وقال: رواه البخاري، وتبعه المصنّف في «الأنوار المحمدية» ، وتعقّبه الزّرقاني في «شرح المواهب» بأنه لم يجده في البخاري، وإنما عزاه السيوطي وغيره للبيهقي في «الدلائل» ؛ وقال: إنّه حسن. قال شارحه: ولعله لاعتضاده!! وإلّا!! فقد قال السهيلي: ليس بقويّ. وضعّفه ابن دحية؛ أي: نقل تضعيفه في كتاب «الآيات البينات» ؛ عن ابن بشكوال، لأن في سنده ضعفا؛ فكيف يكون في البخاري!!. ورواه البيهقي؛ عن عائشة بلفظ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء. وبهذا اللفظ رواه ابن عديّ وبقيّ بن مخلد، وضعّفه ابن الجوزي والذّهبيّ، لكنه يعتضد بشواهده، فهو حسن؛ كما قال السيوطي. انتهى كلام الزرقاني، ونحوه في الشهاب الخفاجي على «الشفاء» . (و) في «المواهب» و «شفاء» القاضي عياض؛ عن مجاهد بن جبر- فيما رواه عنه الحميدي «شيخ البخاري» ، والبيهقيّ، وابن المنذر مرسلا؛ في تفسير قوله تعالى (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (219) [الشعراء]- قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يرى من) - بفتح الميم: موصول- أي: الذي (خلفه من الصّفوف كما يرى من) - بفتح الميم- أي: الذي (بين يديه) . قال الشهاب الخفاجي والقسطلّاني في «المواهب» : وهذا الحديث رواه مالك والبخاريّ ومسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن بلفظ: قال صلّى الله عليه وسلم: «هل ترون قبلتي ههنا!!، فو الله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا خشوعكم، وإنّي لأراكم من وراء ظهري» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ......... وعند مسلم؛ من رواية أنس بن مالك أنه صلّى الله عليه وسلم؛ قال: «أيّها النّاس؛ إنّي إمامكم، فلا تسبقوني بالرّكوع ولا بالسّجود، فإنّي أراكم من أمامي ومن خلفي» . وفي البخاريّ؛ عن أنس: صلّى بنا النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة ثمّ رقى المنبر؛ فقال في الصلاة وفي الركوع: «إنّي لأراكم من ورائي كما أراكم من أمامي» . وفي مسلم: «إنّي لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يديّ» . وفي أخرى لمسلم: «إنّي لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يديّ» . وفي بعض الروايات لعبد الرزاق، والحاكم: «إنّي لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يديّ» ، ورواه أيضا مالك وأحمد وغيرهما وفي لفظه اختلاف. انتهى كلامهما. قال في «المواهب» : وهذه الرؤية المذكورة في حديث ابن عبّاس وعائشة وأبي هريرة وأنس ومجاهد رؤية إدراك، أي: إبصار حقيقيّ خاصّ به صلّى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة، ولذا أخرجه البخاري في «علامات النبوّة» . والرؤية من حيث هي؛ لا بقيد وصف المصطفى بها؛ لا تتوقّف على وجود آلتها التي هي العين عند أهل الحقّ، ولا تتوقّف على وجود شعاع؛ ولا على مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم العالي. أما المخلوق! فتتوقّف صفة الرؤية في حقّه على الحاسّة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان ما ذكر من إبصاره من وراء ظهره خرق عادة في حقّه عليه الصلاة والسلام، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها. قال الحرالّي- بفتح الحاء المهملة والراء وشد اللام-: وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالّة على ما في حقيقة أمره في الاطلاع الباطن؛ لسعة علمه ومعرفته، لمّا عرّفهم بربّه- بأن بلّغهم بأنه إله واحد في ذاته وصفاته، مستحقّ لأن يعبد.. وغير ذلك مما يليق به، ولم يعرّفهم بنفسه، وما اشتملت عليه ذاته من الكمالات- أطلعه على ما بين يديه مما تقدّم من أمر الله، وعلى ما وراء الوقت مما تأخّر من أمر الله؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى في الثّريّا أحد عشر نجما. من كلّ ما يكون إلى يوم القيامة، فلما كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب؛ جعل الله تعالى له صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه؛ كما قال صلّى الله عليه وسلم. انتهى كلام الحرالي. وحاصله- كما قاله بعضهم-: أنّه من قبيل الكشف عن المرئيات؛ فهو من الخوارق. انتهى كلام «المواهب» ؛ مع شيء من «شرح الزرقاني» . (و) في «المواهب اللدنية» ؛ نقلا عن القاضي عياض: (كان) وفي «الشفاء» بلفظ: وقد حكي عنه (صلّى الله عليه وسلم) أنّه كان (يرى في الثّريّا أحد عشر نجما) ليلا؛ أو ليلا ونهارا؛ لما مرّ: أن رؤيته فيهما سواء، وعند السّهيلي: اثني عشر، وجزم القرطبيّ بالأول، ونظمه في أرجوزته؛ فقال: وهو الّذي يرى النّجوم الخافيه ... مبيّنات في السّماء العاليه أحد عشر نجما في الثّريّا ... لناظر سواه ما تهيّا وقال السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» : هذا لم يوجد في شيء من كتب الحديث!! ونحوه قول الخيضري في خصائصه: ما ذكره القرطبيّ والسّهيلي: لم أقف له على سند ولا أصل يرجع إليه، والناس يذكرون أنها لا تزيد على تسعة أنجم فيما يرون. انتهى، وهذا عجيب مع قول التلمساني: جاء في حديث ثابت عن العبّاس، ذكره ابن أبي خيثمة. انتهى. والثريا- مصغّر ثروة؛ وهي الكثرة- وهي: منزل من منازل القمر فيه نجوم مجتمعة جعلت علامة، فقول بعض الشراح «أنها كوكب» وهم منه؛ قال في «مباهج الفكر» : وهي ستة أنجم صغار طمس، ويظنّها من لا معرفة له سبعة، وهي مجتمعة بينها نجوم صغار؛ كالرشاش، وحكي أن الثريّا اثنا عشر نجما لم يحقّق الناس منها غير ستة؛ أو سبعة، ولم ير جميعها غير النبي صلّى الله عليه وسلم لقوّة جعلها الله تعالى في بصره. والنجم علم لها بالغلبة، كالكوكب للزّهرة. انتهى شرح «الشفاء» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يقعد في بيت مظلم حتّى يضاء له بالسّراج. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه النّظر إلى الخضرة والماء الجاري. للخفاجي؛ وشرح «المواهب» . (و) روى ابن سعد في «طبقاته» ، والبزار- بسند فيه جابر الجعفي؛ عن أبي محمد- قال في «الميزان» : قال ابن حبان: وجابر قد تبرّأنا من عهدته، وأبو محمد: لا يجوز الاحتجاج به-؛ كما في المناوي؛ على «الجامع» -؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يقعد في بيت مظلم حتّى يضاء له بالسّراج) أي: يوقد له السراج، ولكنه كان يطفيه عند النوم، وفي خبر رواه الطبراني؛ عن جابر رضي الله عنه: أنه كان يكره السّراج عند الصبح. انتهى. (و) روى ابن السنّي، وأبو نعيم في «الطب النبوي» بسند ضعيف؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعجبه النّظر إلى الخضرة) - أي: الشجر والزرع الأخضر بقرينة قوله- (والماء الجاري) ؛ أي: كان يحبّ مجرّد النظر إليهما ويلتذّ به؛ فليس إعجابه بهما ليأكل الخضرة، أو يشرب الماء، أو ينال فيهما حظّا سوى نفس الرؤية. قال الغزالي: ففيه أنّ المحبّة قد تكون لذات الشيء؛ لا لأجل قضاء شهوة منه، وقضاء الشهوة لذّة أخرى، والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار، والأطيار المليحة والألوان الحسنة، حتّى أنّ الإنسان ليفرج عنه الهمّ والغمّ بالنظر إليها؛ لا لطلب حظّ وراء النظر. انتهى «مناوي» . (و) روى الطبرانيّ في «الكبير» ، وابن السّنّي، وأبو نعيم: كلاهما في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن أبي كبشة الأنماري رضي الله تعالى عنه. وابن السني في «الطب النبوي» ، وابن حبان، وأبو نعيم؛ كلّهم عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه النّظر إلى الأترجّ. وكان يعجبه النّظر إلى الحمام الأحمر. وأمّا اكتحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا اكتحل.. جعل في عين اثنتين ... وأبو نعيم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وهو حديث ضعيف. قالوا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعجبه النّظر إلى الأترجّ) المعروف؛ بضمّ الهمزة وسكون الفوقية وضمّ الراء وشدّ الجيم، - وفي رواية: «الأترنج» بزيادة نون بعد الراء وتخفيف الجيم: لغتان، قال السيوطي: وهو مذكور في التنزيل ممدوح في الحديث؛ منوّه به فيه بالتفضيل، بارد رطب، في الأولى يصلح غذاء ودواء ومشموما ومأكولا، يبرّد عن الكبد حرارته، ويزيد في شهوة الطعام، ويقمع المرّة الصفراء، ويسكّن العطش، وينفع للقوة، ويقطع القيء والإسهال المزمنين. فائدة: في كتاب «المنن» أن الشيخ محمد الحنفي المشهور كان الجنّ يحضرون مجلسه؛ ثم انقطعوا، فسألهم؛ فقالوا: كان عندكم أترجّ. ونحن لا ندخل بيتا فيه أترج. انتهى. (وكان يعجبه النّظر إلى الحمام الأحمر) ذكر ابن قانع في «معجمه» عن بعضهم: أن الحمام الأحمر المراد به في هذا الحديث: التفّاح، وتبعه ابن الأثير؛ فقال: قال أبو موسى: قال هلال بن العلاء: هو التفاح، قال: وهذا التفسير لم أره لغيره؛ قاله المناوي في «كبيره على الجامع الصغير» . وقال الحفني على «الجامع» : الحمام المراد به التفاح، فيكون من باب الاستعارة، ولم يقل أحد من الشرّاح التي بأيدينا أن المراد به الطير المعروف. انتهى كلام الحفني. (وأمّا اكتحال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - أي: استعماله للكحل- (فقد) روى أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» بإسناد ضعيف؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اكتحل جعل في عين) - بالتنوين- (اثنتين) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وواحدة بينهما؛ أي: جعل في كلّ عين مرودين، وواحد يقسم بينهما، فالمجموع وتر، وهو خمسة مراود. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اكتحل.. اكتحل وترا، وإذا استجمر.. استجمر وترا. وكان له صلّى الله عليه وسلّم مكحلة ... أي: في كلّ عين مرودين (وواحدة بينهما) . قال المناوي: أي: في هذه؛ أو في هذه ليحصل الإيتار المطلوب، انتهى. وقال الشيخ: (أي: جعل في كلّ عين مرودين، وواحد يقسم بينهما) ؛ أي: يكتحل ببعضه في اليمنى وبعضه في اليسرى، (فالمجموع وتر؛ وهو خمسة مراود) ؛ انتهى «عزيزي» . قال المناوي في «كبيره» : وأكمل من ذلك ما ورد عنه أيضا في عدّة أحاديث أصحّ منها: أنّه يكتحل في كلّ عين ثلاثا- كما سيأتي- لكن السنة تحصل بكلّ. انتهى. (و) روى الإمام أحمد في «مسنده» ، والطبرانيّ؛ عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اكتحل؛ اكتحل وترا) ؛ أي: ثلاثا متوالية في العين اليمنى، وثلاثا متوالية في الشمال، هذا هو الأفضل، وإن كان أصل السّنّة يحصل بكيفيّات أخر في الوتر. (وإذا استجمر) ؛ أي: تبخّر بنحو عود (استجمر وترا) ؛ أي: تبخّر ثلاث مرات، وسمّي التبخّر «استجمارا» !! لأن نحو العود يوضع على الجمر، وما قيل: «إنّ المراد استعمل الحجر في الاستنجاء» !! بعيد عن السياق؛ وإن كان صحيحا؛ قاله الحفني كالمناوي والعزيزي. (و) روى الترمذيّ، وابن ماجه؛ كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (كان له صلّى الله عليه وسلم مكحلة) - بضمّ أوّله وثالثه، وقياسها الكسر لأنّها اسم آلة، فهي من النوادر التي جاءت بالضمّ- والمراد منها: ما فيه الكحل؛ وهي معروفة، والمكحل كمفتح، والمكحال كمفتاح هو: الميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 يكتحل منها كلّ ليلة، ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه. (يكتحل منها) بالإثمد (كلّ ليلة) - بالنصب- أي: في كلّ ليلة قبل أن ينام، وإنّما كان ليلا!! لأنّه أبقى للعين وأمكن في السراية إلى طبقاتها، لأنّه يلتقي عليه الجفنان. (ثلاثة) متوالية (في هذه) ؛ أي: اليمنى، (وثلاثة) كذلك (في هذه) ؛ أي: اليسرى. وحكمة التثليث: توسّطه بين الإقلال والإكثار. ويسنّ فيه التيامن، لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ التيمّن في شأنه كلّه؛ قال الزين العراقي: وهل تحصل سنّيّة التيمّن باكتحاله مرّة في اليمنى ومرّة في اليسرى؛ ثم يفعل ذلك ثانيا وثالثا، أو لا يحصل إلّا بتقديم المرّات الثلاث في الأولى؟! الظاهر الثاني؛ قياسا على العضوين المتماثلين في الوضوء كاليدين، ويحتمل حصولها بذلك قياسا على المضمضة والاستنشاق في بعض صوره المعروفة في الجمع والتفريق. وما ذكر في هذه الرواية من «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يكتحل كلّ ليلة ثلاثا» !! يخاف: 1- ما رواه الطبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثة مراود، وفي الأخرى مرودين؛ يجعل ذلك وترا» ، و 2- ما رواه ابن عديّ في «الكامل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكتحل في اليمنى ثنتين، وفي اليسرى ثنتين؛ وواحدة بينهما» !! ومن ثمّ قيل- في خبر «من اكتحل فليوتر» المرويّ في أبي داود-: فيه قولان: أحدهما؛ كون الإيتار في كلّ واحدة من العينين. الثاني: كونه في مجموعهما، قال الحافظ ابن حجر: والأرجح الأوّل؛ قال ابن سيرين: وأنا أحبّ أن يكون في هذه ثلاثا؛ وفي هذه ثلاثا، وواحدة بينهما ليحصل الإيتار في كلّ منهما، وفي مجموعهما، وبهذا صارت الأقوال في الإيتار ثلاثة. وقد ذكر بعضهم أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفتتح في الاكتحال باليمنى، ويختم بها تفضيلا لها، وظاهره أنه كان يكتحل في اليمنى ثنتين وفي اليسرى كذلك، ثم يأتي بالثالثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارقه في الحضر، ولا في السّفر خمس: المرآة، والمكحلة، والمشط، ... في اليمنى ليختم بها ويفضّلها على اليسرى بواحدة. ويمكن الجمع بين هذه الروايات باختلاف الأوقات ففعل كلا في وقت. ثم اعلم أنّ الاكتحال عندنا- معاشر الشافعية- سنّة، للأحاديث الواردة فيه. قال ابن العربي: الكحل يشتمل على منفعتين: إحداهما: الزينة، فإذا استعمل بنيّتها فهو مستثنى من التصنّع المنهيّ عنه الذي يلبّس الصنعة بالخلقة؛ كالوصل والوشم والتفلّج والتنمّص؛ رحمة من الله لخلقه، ورخصة منه لعباده. والثانية: التطبّب، فإذا استعمل بنيّته؛ فهو يقوّي البصر وينبت الشعر الذي يجمع النور للإدراك، ويصدّ الأشعة الغالبة له. ثم إن كحل الزينة لا حدّ له شرعا، وإنما هو بقدر الحاجة في بدوّه وخفائه. وأما كحل المنفعة! فقد وقّته صاحب الشرع كلّ ليلة كما تقرّر. وفائدته: أنّ الكحل عند النوم يلتقي عليه الجفنان، ويسكّن حرارة العين، ويتمكّن الكحل من السراية في تجاويف العين، ويظهر تأثيره في المقصود من الانتفاع. انتهى ملخصا من «الباجوري، والمناوي» . (و) روى العقيلي في «الضعفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وابن طاهر في كتاب «صفوة التصوف» ؛ من حديث أبي سعيد، والخرائطيّ؛ من حديث أم سعد الأنصارية، وطرقه كلّها ضعيفة- كما قاله المناوي في «كبيره» - قالوا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يفارقه في الحضر؛ ولا في السّفر خمس) - من الآلات-: (المرآة) - بكسر الميم والمدّ-، (والمكحلة) - بالميم والحاء المضمومتين: وعاء الكحل-، (والمشط) - الذي يمتشط؛ أي: يسرّح به، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والسّواك، والمدرى. و (المدرى) : شيء يعمل من حديد أو خشب، على شكل سنّ من أسنان المشط وأطول منه، يسرّح به الشّعر المتلبّد، ويستعمله من لا مشط له. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اكتحلوا بالإثمد، ... بضم الميم عند الأكثر، وتميم تكسرها؛ قال في «المصباح» : وهو القياس. قيل: وكان من عاج- (والسّواك، والمدرى) - بكسر الميم وبالدال المهملة بدون همزة- قال في «النهاية» : شيء يعمل من حديد؛ أو خشب على شكل سنّ من أسنان المشط، وأطول منه يسرّح به الشعر المتلبّد، ويستعمله من لا مشط له. انتهى. وفي ضمنه إشعار بأنه كان يتعهّد نفسه بالترجيل وغيره مما ذلك آلة له، وذلك من سننه المؤكّدة، لكنه لا يفعل ذلك كلّ يوم، بل نهى عنه، ولا يلزم من كون المشط لا يفارقه أن يمتشط كلّ يوم؛ فكان يستصحبه معه في السفر ليمتشط به عند الحاجة؛ ذكره الوليّ العراقي. انتهى من المناوي في «كبيره» . قال المصنّف: (والمدرى) - بكسر الميم-: (شيء يعمل من حديد أو خشب) ؛ وهو الغالب (على شكل سنّ من أسنان المشط) - بضم الميم- (وأطول منه) - يقارب طول آلة الخرز- (يسرّح به الشّعر المتلبّد) بعضه فوق بعض، (ويستعمله من لّا مشط له) لتفكيك الشعر المجتمع المتماسك. (و) روى الإمام أحمد؛ عن أبي النعمان الأنصاري رضي الله تعالى عنه بسند حسن، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «اكتحلوا بالإثمد) - بكسر همزته وميمه بينهما مثلثة ساكنة-: حجر الكحل المعدني المعروف؛ يجيء من المشرق، أي: دوموا على استعماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فإنّه يجلو البصر، وينبت الشّعر» . وفي رواية الإمام أحمد: «اكتحلوا بالإثمد المروّح» - أي: المطيّب- (فإنّه يجلو البصر) ؛ أي: يقوّيه ويحسّن العين، ويدفع الموادّ الرديئة المنحدرة إليها من الرأس، لا سيما إذا أضيف إليه قليل مسك. (وينبت الشّعر» ) - بفتح العين- هنا لأجل الازدواج، ولأنّه الرواية، أي: يقوي طبقات شعر العينين التي هي الأهداب- جمع هدب-، وإنبات شعرها مرمّة للعين، لأن الأشعار ستر للناظر، ولولاها لم يقو الناظر على النظر، فإنّما يعمل ناظر العين من تحت الشعر، فالكحل ينبته وهو مرمّته، وهذا من أدلّة الشافعية على سنّ الاكتحال. واعتراض العصام عليهم ب «أنه؛ إنّما أمر به لمصلحة البدن، بدليل تعقيب الأمر بقوله: فإنّه ... إلى آخره، والأمر بشيء ينفع البدن لا يثبت سنّيّته» !! ليس في محلّه، لأنّ المتبادر من الخبر أنّ الأمر بمطلق الاكتحال شرعيّ، وبخصوص الإثمد من بين سائر الأكحال إرشاديّ يتفاوت بتفاوت الأشخاص، ومن ثمّ قالوا: الاكتحال مندوب، وبخصوص الإثمد أولى. وهذا على التنزّل، وإلّا!! فقد ثبت في عدّة أخبار أنّه كان يكتحل بالإثمد، فروى البيهقيّ؛ من حديث أبي رافع أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد. وفي سنده مقال. ولأبي الشيخ في كتاب «أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم» بسند ضعيف؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إثمد يكتحل به عند منامه؛ في كلّ عين ثلاثا. انتهى. والأصل في أفعاله صلّى الله عليه وسلم أنّها للقربة والتشريع ما لم يدلّ دليل على خلافه. قال المحقق أبو زرعة: مذهب الشافعي أن الفعل المجرّد يدلّ على الندب، بل قال جمع من أصحابه: يدلّ على الوجوب. انتهى. قال ابن محمود شارح «سنن أبي داود» : وتحصل سنيّة الاكتحال بتولّيه بنفسه، وبفعل غيره بأمره. وينشأ عنه جواز الوكالة في العبادة. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قال الباجوريّ: المخاطب بذلك الأصحّاء، أمّا العين المريضة فقد يضرّها الإثمد؛ وهو: حجر الكحل المعدنيّ المعروف، ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة. وأقول: القياس الحصول؛ ولو بلا أمر، حيث قارنت نيّته فعل غيره، كما لو وضّأه غيره بغير إذنه وأولى. انتهى «مناوي وباجوري» . (قال) العلّامة شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) رحمه الله تعالى في «حاشيته على شرح الشمائل الترمذية» ؛ تبعا للمناوي عند قوله: «اكتحلوا بالإثمد» : (المخاطب بذلك الأصحّاء) ؛ أي: أصحاب العيون الصحيحة، أي: السليمة من الرّمد ونحوه. (أمّا العين المريضة! فقد) يكون غير الإثمد خيرا لها، بل ربما (يضرّها الإثمد) . ثم رأيت العسقلاني قال: خيريّته باعتبار حفظه صحّة العين؛ لا في أمراضها، إذ الاكتحال به لا يوافق الرّمد. (وهو) أي: الإثمد- بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة وكسر الميم بعدها دال مهملة-: (حجر الكحل المعدنيّ المعروف) ، قال في «المصباح» ك «التهذيب» : ويقال إنّه معرّب. (ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة) . وقال الحفني؛ على «الجامع الصغير» : الإثمد هو الحجر الأسود من أيّ مكان كان، وقيل: خصوص الحجر الذي يجيء من «أصبهان» ، وتسمية غيره له بالإثمد!! لشبهه به في السواد، لكن المشهور الأوّل، وهو الذي يجيء من المشرق، وإنّما ينفع البصر إذا كان سليما، أو مريضا؛ وأخبر الطبيب العارف بنفعه لذلك المرض، فينبغي له إذا ضعف بصره أن يسأل الطبيب عمّا ينفعه، ولا يضع شيئا بلا سؤال. انتهى كلامه. وفي «شرح القاموس» : الإثمد- بالكسر- حجر الكحل، وهو أسود إلى حمرة، ومعدنه بأصبهان، وهو أجوده، وبالمغرب وهو أصلب. وقال السّيرافي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقال بعد قوله (يجلو البصر) : وهذا إذا اكتحل به من اعتاده، فإن اكتحل به من لم يعتده.. رمدت عينه. الإثمد شبيه بحجر الكحل. انتهى كلام «شرح القاموس» . (وقال) ؛ أي: الباجوري (بعد قوله «يجلو البصر) وينبت الشّعر» ؛ أي: يقوّي البصر، ويقوي طبقات شعر العينين التي هي الأهداب. (وهذا إذا اكتحل به من اعتاده، فإن اكتحل به من لّم يعتده! رمدت عينه) ؛ أي: أصابها الرمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 [الفصل الثّالث في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم، وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك] الفصل الثّالث في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم، وشيبه، وخضابه، (الفصل الثّالث) ؛ من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة شعره صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: مقداره طولا وكثرة وغير ذلك، والشّعر- بسكون العين وفتحها-: الواحدة منه شعرة-؛ بسكون العين، وقد تفتح. واعلم أنّ الشعر حيث جاء بدون تاء؛ فهو بفتح العين وتسكّن، وإذا جاء بالتاء فهو بسكونها وتفتح؛ قاله في «جمع الوسائل» . وقال ابن العربي: والشّعر في الرأس زينة، وتركه سنّة، وحلقه بدعة؛ قال بعض شرّاح «المصابيح» : لم يحلق النبي صلّى الله عليه وسلم رأسه في سنيّ الهجرة إلّا في عام الحديبية، وعمرة القضاء، وحجّة الوداع، فليعتبر الطول والقصر منه بالمسافات الواقعة منه في تلك الأزمنة، وأقصرها ما كان بعد حجة الوداع، فإنّه توفّي بعدها بنحو ثلاثة أشهر، ولم يقصّر شعره إلّا مرة واحدة؛ كما في «الصحيحين» ، انتهى «مناوي وباجوري» . (و) في بيان ما ورد في (شيبه) صلّى الله عليه وسلم من الأخبار. والشّيب: ابيضاض الشعر المسودّ؛ كما في «المصباح» ، ويؤخذ من «القاموس» : أنه يطلق على بياض الشعر وعلى الشعر الأبيض. (و) في بيان ما ورد في (خضابه) صلّى الله عليه وسلم من الأخبار، والخضاب؛ كالخضب مصدر بمعنى: تلوين الشعر بالحناء ونحوه، وهو عندنا- معاشر الشافعية- بغير السواد سنّة، وبالسواد حرام. يدلّ لنا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وما يتعلّق بذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل الشّعر حسنه، ليس.. 1- ما في «الصحيحين» : لمّا جيء بأبي قحافة يوم الفتح للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ ولحيته ورأسه كالثّغامة بياضا؛ فقال: «غيّروا هذا بشيء واجتنبوا السّواد» . و2- ما في «الصحيحين» أيضا؛ عن ابن عمر أنّه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. زاد ابن سعد وغيره؛ عن ابن عمر أنه قال: فأنا أحبّ أن أصبغ بها. و3- ما رواه أحمد، وابن ماجه؛ عن ابن وهب قال: دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو مخضوب بالحنّاء والكتم. وعن أبي جعفر قال: شمط «1» عارضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخضب بحنّاء وكتم. وعن عبد الرحمن الثمالي قال: كان رسول صلّى الله عليه وسلم يغيّر لحيته بماء السّدر، ويأمر بتغيير الشعر؛ مخالفة للأعاجم. وفي حديث أبي ذر: «إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم» أخرجه الأربعة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: دخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو أبيض الرأس واللحية، فقال: «ألست مؤمنا» ؟! قال: بلى!. قال: «فاختضب» . لكن قيل: إنه حديث منكر. ولا يعارض ذلك ما ورد: أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه، لتأويله جمعا بين الأخبار- بأنه صلّى الله عليه وسلم صبغ في وقت وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهذا التأويل كالمتعيّن؛ كما قاله ابن حجر، انتهى؛ من الباجوري رحمه الله تعالى. (وما يتعلّق بذلك) من الترجيل والادّهان والتقنّع ونحوها!! قال العلّامة حجّة الإسلام الغزاليّ في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل) بسكون الجيم وكسرها- (الشّعر) - بفتح العين- أي: مسترسله (حسنه؛ ليس   (1) أي: ابيضّا شيبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بالسّبط ولا الجعد القطط، وكان إذا مشطه بالمشط.. يأتي كأنّه حبك الرّمل، وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين، ... بالسّبط) - بسكون الباء وكسرها-، (ولا الجعد القطط) - بفتحتين كجسد؛ على الأشهر، ويجوز كسر الطاء المهملة الأولى، - أي: شعره صلّى الله عليه وسلم ليس بنهاية في الجعودة؛ وهو: تكسّره الشديد؛ كشعر الحبش والزنوج، ولا بنهاية في السبوطة؛ وهو عدم تكسّره أصلا كشعر الهنود والجاوة، بل كان وسطا بينهما، و «خير الأمور أوساطها» . قال الزّمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته. وقد أحسن الله تعالى برسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرّق في الطوائف من الفضائل. رواه البخاريّ، ومسلم، والبيهقي في «الدلائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. (وكان إذا مشطه بالمشط) - بضم الميم- أي: سرّحه به (يأتي كأنّه حبك) بضم الحاء المهملة والباء الموحدة- وهي: طرائق (الرّمل) . وهذا يؤيّد من فسّر الرّجل بالمتكسّر قليلا، ولا ينافي ذلك ما تقدّم من الروايات، لأنّ الرّجولة أمر نسبيّ، فحيث أثبتت أريد بها الوسط بين السبوطة والجعودة، وحيث نفيت أريد بها السّبوطة؛ انتهى «شرح الإحياء» مع زيادة. (وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين) . قال العراقيّ: روى أبو داود، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه؛ من حديث أمّ هانىء: قدم مكّة؛ وله أربع غدائر. انتهى. قلت: ورواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من طريق سفيان؛ عن ابن أبي نجيح؛ عن مجاهد قال: قالت أم هانىء: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة قدمة؛ وله أربع غدائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وربّما جعل شعره على أذنيه؛ فتبدو سوالفه تتلألأ. ومعنى (الغدائر) : الذّوائب، واحدتها غديرة. و (الحبك) - جمع حباك- ككتاب، وهي: الطّريقة في الرّمل ونحوه. وكان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون الجمّة، وفوق الوفرة. تعني: ضفائر، والغديرة والضفيرة: هي الذؤابة. ولفظ الترمذي في «الشمائل» . قدم مكة قدمة؛ وشعره إلى أنصاف أذنيه، وله أربع غدائر. والظاهر أنها عنت قدومه مكّة عام الفتح، لأنه حينئذ اغتسل وصلّى الضحى في بيتها، وقدماته إلى مكة أربع متّفق عليها: 1- في عمرة القضاء، و 2- الفتح، و 3- لما رجع من حنين؛ دخلها حين اعتماره من الجعرانة، و 4- في حجّة الوداع. (وربّما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه) ؛ جمع سالفة؛ وهي: صفحة العنق (تتلألأ) ؛ أي: تضيء وتتنوّر من وبيص الطّيب. (ومعنى الغدائر) - بفتح الغين المعجمة والدال المهملة-: (الذّوائب) ؛ جمع ذؤابة؛ وهي الخصلة من الشعر إذا كانت مرسلة، فإن كانت ملويّة فعقيصة، والغدائر: (واحدتها غديرة) ، وكلّ من الغديرة والضفيرة بمعنى الذؤابة، ويقال: الغديرة: هي الذؤابة، والضفيرة: هي العقيصة. (والحبك) - بضمتين- (جمع) : حبيكة؛ كطريقة وطرق، أو جمع (حباك ككتاب) وكتب، ومثال ومثل؛ (وهي: الطّريقة في الرّمل ونحوه) ، ومنه قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (7) [الذاريات] أي: صاحبة الطرق في الخلقة كالطرق في الرمل. (و) روى أبو داود في «سننه» ، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم دون الجمّة) - بضم الجيم وتشديد الميم- (وفوق الوفرة) - بفتح الواو وسكون الفاء- ورواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» بلفظ: فوق الجمّة ودون الوفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ......... قال الحافظ العراقي في «شرح الترمذي» : ورواية أبي داود وابن ماجه هي الموافقة لكلام أهل اللغة، إلا أن تؤوّل رواية الترمذي. وذلك أنّه قد يراد بقوله «دون» النسبة إلى القلّة والكثرة، وقد يراد به النسبة إلى محلّ وصول الشعر، ورواية الترمذي محمولة على هذا التأويل: أي: أنّ شعره كان فوق الجمّة، أي: أرفع في المحلّ، فعلى هذا يكون شعره لمّة؛ وهو بين الوفرة والجمّة. وتكون رواية أبي داود وابن ماجه معناها: كان شعره فوق الوفرة؛ أي: أكبر من الوفرة، ودون الجمّة؛ أي في الكثرة، وعلى هذا فلا تعارض بين الروايتين، فروى كلّ راو ما فهمه من الفوق والدون. قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيّد؛ لولا أنّ مخرج الحديث متّحد!! وأجاب القسطلّاني: بأن إحدى الروايتين نقل بالمعنى، ولا يضرّه اتّحاد المخرج، لاحتمال أنّه وقع ممن دونه. انتهى. ونحوه قول بعضهم: مآل الروايتين على هذا التقدير متّحد معنى، والتفاوت بينهما إنما هو في العبارة، ولا يقدح فيه اتّحاد المخرج؛ وهو عائشة، لأن من دونها أدّى معنى إحدى العبارتين. هذا؛ وقد يستعمل أحد اللفظين المتقاربين مكان الآخر كما سبق في «أفلج الثنيتين» ، حيث قالوا: الفلج يستعمل مكان الفرق؛ فكذا يقال بمثله هنا. انتهى. قال الحافظ العراقيّ: ورد في شعره صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أوصاف: جمّة، ووفرة، ولمّة، فالوفرة: ما بلغ شحمة الأذن، واللّمة: ما نزل عن شحمة الأذن، والجمة: ما نزل عن ذلك إلى المنكبين؛ هذا قول جمهور أهل اللغة، وهو الذي ذكره صاحب «المحكم» و «النهاية» و «المشارق» وغيرهم. واختلف فيه كلام الجوهري؛ فذكره على الصواب في مادة «لمم» ، فقال: واللّمة- بالكسر-: الشعر المتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمّة، وخالف في ذلك في مادة «وفر» فقال: والوفرة إلى شحمة الأذن ثم الجمّة، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وكان شعره صلّى الله عليه وسلّم يضرب إلى منكبيه، وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الجسم، ... اللّمة التي ألمّت بالمنكبين، وما قاله في «باب الميم» هو الصواب الموافق لقول غيره من أهل اللغة، انتهى «زرقاني» . (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان شعره صلّى الله عليه وسلم يضرب إلى منكبيه) - مثنى منكب كمجلس؛ وهو: مجتمع رأس العضد والكتف، أي: يصل إليهما. كنّى بالضرب عن الوصول. روى الشيخان؛ من حديث أنس: كان شعره يضرب منكبيه، وللبخاري أيضا: كان يضرب رأس النبي صلّى الله عليه وسلم منكبيه. (وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه) ؛ وهي: ما لان في أسفلها؛ وهي معلّق القرط. روى الشيخان؛ من حديث البراء: يبلغ شعره شحمة أذنيه. وروى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أنس: كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه. وروى مسلم؛ عن أنس: كان شعره إلى أنصاف أذنيه. ولفظ الترمذي في «الشمائل» : عظيم الجمّة إلى شحمة أذنيه؛ أي: تكاثفها ينتهي إلى شحمة أذنيه. وفي «الصحيحين» ؛ عن أنس: أنّه كان بين أذنيه وعاتقه. وفي أخرى عند الترمذي وغيره: فوق الجمّة؛ ودون الوفرة. وفي رواية: إن انفرقت عقيقته فرق، وإلّا! فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه. إذا هو وفره. وفي أخرى: كان إلى أذنيه. وفي أخرى: إلى كتفيه. والجمع بين هذه الروايات: أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمتها، وما خلفها هو الذي يضرب منكبيه. أو بأنّ ذلك لاختلاف الأوقات، فكان إذا ترك تقصيرها بلغ المنكب، وإذا قصّرها كانت إلى الأذن؛ أو شحمتها؛ أو نصفها، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك. انتهى «شرح الإحياء» . (و) قال النووي في «التهذيب» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسن الجسم) ؛ أي: معتدل الخلق متناسب الأعضاء. رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، والبيهقي في «الدلائل» ؛ عن رجل من الصحابة- وقد تقدّم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 بعيد ما بين المنكبين، له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يسدل شعره، ... (بعيد ما بين المنكبين) - روي بالتكبير والتصغير-، و «ما» موصولة؛ أو موصوفة؛ لا زائدة- كما زعمه بعضهم- والمنكبان؛ تثنية منكب: وهو مجمع العضد والكتف، والمراد بكونه «بعيد ما بين المنكبين» : أنّه عريض أعلى الظهر. ويلزمه أنّه عريض الصدر، وقد تقدّم أنّه رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما. (له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه) . انتهى كلام «التهذيب» ، وهو يشير إلى الجمع بين الروايات في صفة شعره صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدّم قريبا أنّ ذلك لاختلاف الأوقات. والله أعلم. (و) روى البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يسدل) - بفتح أوله وسكون السين المهملة وكسر الدال المهملة، ويجوز ضمّ الدال؛ قاله الحافظ وغيره، وبالضمّ ضبطه الدمياطي في «حاشية الصحيح» ، والمنذري في «حاشية السنن» . فاستفدنا أنّ الرواية بالوجهين؛ قاله الزرقاني- (شعره) ؛ أي: يترك شعر ناصيته على جبهته، لما في رواية للشيخين: سدل النبي صلّى الله عليه وسلم ناصيته. ولذلك قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: المراد إرساله على الجبين واتخاذه كالقصّة، أي: بضم القاف، وإلّا! فالسدل لغة لا يخصّ الناصية، بل هو إرخاء الشعر حول الرأس من غير أن يقسمه نصفين، يقال: سدلت الثوب سدلا: أرخيته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه، فإن ضممتهما؛ فهو قريب من التلفيف، قالوا: ولا يقال فيه: أسدلته- بالألف-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، (وكان المشركون) ؛ أي: كفّار مكّة (يفرقون) - بضم الراء وكسرها، روي مخفّفا وهو الأشهر، ومشددا من باب التفعيل- (رءوسهم) ؛ أي: شعر رءوسهم، والفرق- بفتح فسكون-: قسم الشعر نصفين؛ وإرسال نصف من جانب اليمين على الصدر، وإرسال نصف من جانب اليسار على الصدر، وهو ضدّ السّدل الذي هو: مطلق الإرسال من سائر الجوانب. (وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم) ؛ أي: شعرها؛ وفي رواية: أشعارهم، (وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب) اليهود حين كان عبدة الأوثان كثيرين، (فيما لم يؤمر فيه بشيء) ؛ أي: فيما لم يؤمر فيه وحي، أو فيما لم يطلب منه على جهة الوجوب، أو الندب، أو فيما لم يؤمر فيه بالمخالفة لهم، يعني فيما لم يخالف شرعه؛ إيجابا أو ندبا، فقصر الأمر هنا على حقيقته؛ وهو الوجوب تقصير، وإنما أحبّ موافقتهم! لتمسّكهم في زمانه ببقايا شرائع الرسل، والمشركون وثنيون؛ لا مستند لهم إلّا ما وجدوا عليه آباءهم. قال الحافظ ابن حجر: فكانت موافقتهم أحبّ إليه من موافقة عبّاد الأوثان، فلما أسلم غالبهم أحبّ حينئذ مخالفة أهل الكتاب. انتهى. وقال النووي وغيره: أو كان لاستئلافهم كما تألّفهم باستقبال قبلتهم، وتوقّف فيه بأن المشركين أولى بالتأليف، وردّ بأنه قد حرص أوّلا على تألّفهم؛ ولم يأل جهدا في ذلك، وكلما زاد زادوا نفورا، فأحبّ تأليف أهل الكتاب ليجعلهم عونا على قتال الآبين من عبدة الأوثان. وقال القرطبي: حبّه لموافقتهم كان أوّلا في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم؛ ليتألّفهم حتى يصغوا إلى ما جاء به، فلما لم ينفع فيهم ذلك وغلبت عليهم الشّقوة أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، لقوله: «إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم» . انتهى «زرقاني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ثمّ فرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه. (ثمّ فرق) - بفتح الفاء والراء مخففا ومشددا- (رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأسه) ؛ أي: ألقى شعره إلى جانبي رأسه، فلم يترك منه شيئا على جبهته. وحكمة عدوله عن موافقة أهل الكتاب: أن الفرق أنظف وأبعد عن الإسراف في غسله، وعن مشابهة النساء. قال العلماء: والفرق سنّة، لأنه الذي رجع إليه صلّى الله عليه وسلم، والصحيح جواز السّدل والفرق معا، لكن الفرق أفضل فقط، لأنه الذي رجع إليه صلّى الله عليه وسلم، فكأنّه ظهر الشرع به؛ لكن لا وجوبا، لأن من الصّحب من سدل بعد ذلك، فلو كان الفرق واجبا ما سدلوا بعد، ولهذا قال في «المطامح» : الحديث يدلّ على جواز الأمرين، والأمر فيه واسع. وقال القاضي عياض: نسخ السّدل فلا يجوز فعله، ولا اتخاذ الناصية والجمّة، قال: ويحتمل أن المراد جواز الفرق؛ لا وجوبه، ويحتمل أن الفرق كان اجتهادا في مخالفة أهل الكتاب؛ لا بوحي، فيكون الفرق مستحبا. انتهى. والقول بالنسخ ردّه ابن حجر، وقال القرطبي: أمّا توهّم النسخ!! فلا يلتفت إليه أصلا، لإمكان الجمع، لكن العسقلاني قال: جزم الحازمي أن السدل نسخ بالفرق، واستدلّ برواية معمر؛ عن الزهري، عن عبد الله بلفظ: ثم أمر بالفرق، وكان الفرق آخر الأمرين؛ أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» ، وهو ظاهر. والله أعلم. قال ابن حجر: والذي يتّجه أنّ محل جواز السدل حيث لم يقصد به التشبّه بالنساء، وإلّا!! حرم من غير نزاع. انتهى. هذا؛ والحديث الذي ساقه المصنّف رواه الترمذي في «الشمائل» - كما تقدّم-. وفي «صحيح البخاري» في الصفة النبوية وفي «اللباس» نحوه، وفي «صحيح مسلم» نحوه، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ومعنى (سدل الشّعر) : إرساله. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن السّبلة. ومعنى (السّبلة) : مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثّ اللّحية، ... قال المصنف: (ومعنى سدل الشّعر) - فيما قاله العلماء-: (إرساله) على الجبين واتّخاذه كالقصة- أي: بضمّ القاف بعدها مهملة- انتهى، وهو المراد هنا. وقيل: سدل الشعر: أن يرسله ولا يضمّ جوانبه. وقيل: السّدل: أن يرسل الشخص شعره من ورائه؛ ولا يجعله فرقتين. انتهى «جمع الوسائل» . (و) روى الطبراني في «الكبير» ؛ عن العدّاء- بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة والمد- ابن خالد بن هودة العامري، أسلم يوم حنين هو وأبوه جميعا رضي الله تعالى عنهما؛ قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسن السبلة) - بالتحريك-: ما أسبل من مقدّم اللحية؛ ذكره الزمخشري. قال المصنف- تبعا للعزيزي-: (ومعنى السّبلة) - بالتحريك-: (مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر) ؛ وهو الشّعرات التي تحت اللّحي الأسفل؛ أو الشارب، وقال الحفني: ما أسبل من مقدّم اللحية الذي تحت العنفقة وفوقه العارضان، انتهى. (و) قال الغزالي في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثّ اللّحية) ؛ أي: كثير شعر اللحية ملتفّها. رواه البيهقي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. ورواه من طريق محمد بن علي بن أبي طالب؛ عن أبيه، ورواه من طريق نافع بن جبير؛ عنه: كان ضخم الهامة عظيم اللّحية، وفي لفظ: ضخم الرأس واللحية، ومن حديث أبي هريرة: كان أسود اللحية حسن الشعر، ومن طريق أبي ضمضم؛ عن رجل من الصحابة لم يسمّ: كان رجلا مربوعا حسن السبلة؛ قال: كانت اللحية تدعى في أول الإسلام سبلة، ورواه الطبراني في «الكبير» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وكان يعفي لحيته ويأخذ من شاربه. وسماه العدّاء بن خالد. انتهى شرح «الإحياء» . وقد سبقت رواية العدّاء آنفا. (وكان يعفي لحيته) ؛ أي: يوفّرها، وسيأتي أنّه كان يأخذ من عرضها وطولها. (ويأخذ من شاربه) ؛ أي: يقصّه، في أيّ وقت احتاج إليه من غير تقييد بيوم، كما أفاده الحديث الذي رواه الترمذي وحسّنه؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقصّ شاربه، وحديث التقييد بالجمعة ضعيف. وكان صلّى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحية وقصّ الشارب. روى البيهقي في «السنن» ، وابن عدي؛ من حديث عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه: «أحفوا الشّوارب وأعفوا اللّحى» . ورواه أيضا الطحاوي؛ من حديث أنس بزيادة: ولا تشبّهوا باليهود» . وروى الترمذي- وقال: حسن صحيح-، والنسائي، والإمام أحمد؛ من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من لم يأخذ من شاربه فليس منّا» ؛ أي: ليس على طريقتنا الإسلامية، لندب ذلك مؤكّدا؛ فتاركه متهاون بالسنة، هذا مذهب الجمهور.. وأخذ جمع بظاهره فأوجبوا قصّه. وروى الإمام أحمد؛ عن رجل من الصحابة رفعه: «من لم يحلق عانته ويقلّم أظفاره ويجزّ شاربه فليس منّا» وحسّنه بعض الحفاظ لشواهده. وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حديث: «خالفوا المشركين، وفّروا اللّحى وأحفوا الشّوارب» . ومعنى «وفّروا» - بتشديد الفاء-: اتركوها وافرة لتكثر وتغزر، ولا تتعرّضوا لها. وأحفوا قال النووي: بقطع الهمزة ووصلها؛ من أحفاه وحفاه: استأصله، وقال الزركشي: بألف قطع رباعي؛ أشهر وأكثر، وهو المبالغة في استقصائه، ومنه «أحفى في المسألة» إذا أكثر، وقال القاضي عياض: من «الإحفاء» ، وأصله الاستقصاء في أخذ الشارب، وفي معناه رواية: «أنهكوا الشّوارب» والمراد: بالغوا في قصّ ما طال منها حتّى تبين الشّفة بيانا ظاهرا استحبابا. وقيل: وجوبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ......... وقد اختلف في قصّ الشارب وحلقه أيّهما أفضل!؟ فقال القاضي عياض: ذهب كثير من السلف إلى استيعاب الشارب، وحلقه لظاهر قوله صلّى الله عليه وسلم: «أحفوا وأنهكوا» وهو قول الكوفيين. وذهب كثير منهم إلى منع الحلق، ومنهم الإمام مالك، قال: ويحفي الشارب ويعفي اللحى، وليس إحفاء الشارب حلقه؛ أي: بل أخذ ما طال عن الشفة بقصّ ونحوه، بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ. قال القرطبي: وأرى تأديب من حلق شاربه؛ لما فيه من التشبّه بالمجوس. وعن أشهب؛ عن مالك: أنّ حلقه بدعة لذلك. قال: وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال النووي: المختار في قصّ الشارب أنّه يقصّه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفّه من أصله. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا، وكان المزنيّ والربيع يحفيان شاربهما، قال: وما أظنّهم أخذوا ذلك إلّا عنه. وأما أبو حنيفة وأصحابه! فمذهبهم في شعر الرأس والشارب: أنّ الإحفاء الذي هو الإزالة بالكلية- أفضل من التقصير. وأما أحمد!! فقال الأثرم: رأيته يحفي شاربه شديدا، ونصّ على أنّه أولى من القصّ. قال في «فتح الباري» : وذهب ابن جرير إلى التخيير، فإنّه لمّا حكى قول مالك وقول الكوفيين؛ ونقل عن أهل اللغة أنّ الإحفاء هو الاستئصال؛ قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فالقصّ يدلّ على أخذ البعض، والإحفاء يدلّ على أخذ الكلّ، فكلاهما ثابت؛ فيخير فيما شاء. قال الحافظ ابن حجر: فيؤخذ من قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث. فأما الاقتصار على القصّ! ففي حديث المغيرة: ضفت النبي صلّى الله عليه وسلم وكان شاربي وفير فقصّه على سواك. رواه أبو داود والبيهقي بلفظ: فوضع السّواك تحت الشارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ......... وقصّ عليه. وأخرج البزار؛ عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل؛ فقال: «ائتوني بمقصّ وسواك» ، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه. وأخرج البيهقي والطبراني؛ عن شرحبيل بن مسلم الخولاني: رأيت خمسة من الصحابة يقصّون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معديكرب، وعتبة بن عون السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر. وأما الإحفاء! فأخرج الطبرانيّ، والبيهقيّ؛ عن عبد الله بن أبي رافع قال: رأيت أبا سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق. وأخرج الطبراني؛ عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة: أنّهم كانوا يحلقون شواربهم. واختلف في كيفية قصّ الشارب: هل يقص طرفاه أيضا؛ وهما المسمّيان ب «السّبالين» ، أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس!؟ قال الغزالي في «الإحياء» : لا بأس بترك سباليه؛ وهما طرفا الشارب، فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم، ولا تبقى فيه زهومة الطعام، إذ لا يصل إليه. انتهى. وروى أبو داود؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه: كنا نحفي السّبال إلّا في حجة وعمرة، وكره بعضهم إبقاءه؛ لما فيه من التشبّه بالأعاجم، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إياكم وزيّ الأعاجم!! وقال الإمام مالك: أميتوا سنّة العجم، وأحيوا سنّة العرب. وفيه تشبّه بالمجوس وأهل الكتاب، والقول بالكراهة أولى بالصواب، لما رواه ابن حبان في «صحيحه» ، والطبراني، والبيهقي؛ من حديث ميمون: «إنّهم يوفّرون سبالهم ويحلقون لحاهم؛ فخالفوهم» . فكان ابن عمر يجزّ سباله كما تجزّ الشاة أو البعير. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأخذ من لحيته الشّريفة، من عرضها وطولها. وأما فعل عمر رضي الله تعالى عنه إن صحّ!! فلعله لم يبلغه النهي. انتهى من «المواهب اللدنية» مع شيء من «شرح الزرقاني» رحمهم الله تعالى. آمين. (و) روى الترمذيّ- وقال: حديث غريب- من طريق عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته الشّريفة؛ من عرضها وطولها) بالسويّة؛ كما في رواية، أي: يأخذ الشّعر الزائد في الطول لتقرب من التدوير من جميع الجوانب، لأنّ الاعتدال محبوب، والطول المفرط قد يشوّه الخلق، ويطلق ألسنة المغتابين، ففعل ذلك مندوب ما لم ينته إلى تقصيص اللحية وجعلها طاقات؛ فإنه مكروه، وكان بعض السلف يقبض على لحيته فيأخذ ما تحت القبضة، وقال النّخعي: عجبت لعاقل كيف لا يأخذ من لحيته؛ فيجعلها بين لحيتين، فإنّ التوسّط في كلّ شيء حسن، ولذا قيل: كلما طالت اللحية تشمّر العقل، ففعل ذلك إذا لم يقصد الزينة والتحسين لنحو النساء سنّة، كما عليه جمع؛ منهم القاضي عياض وغيره، واختار النووي تركها بحالها مطلقا.. ثم لا ينافي فعله صلّى الله عليه وسلم قوله: «أعفوا اللّحى» . لأنّه في الأخذ منها لغير حاجة؛ أو لنحو تزين، وهذا فيما احتيج إليه لتشعّث؛ أو إفراط طول يتأذّى به، وقال الطيبي: المنهيّ عنه قصّها كالأعاجم، أو وصلها كذنب الحمار، وقال الحافظ ابن حجر: المنهيّ عنه الاستئصال أو ما قاربه، بخلاف الأخذ المذكور، انتهى. لطيفة: قال الحسن بن المثنّى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة، ولم يتخذ لحية بين لحيتين؛ كان في عقله شيء. وجلس المأمون مع أصحابه مشرفا على دجلة، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط؛ إلا ونقص من عقله بقدر ما طال منها، وما رأيت عاقلا قطّ طويل اللحية!. فقال بعض الجلساء: ولا يردّ على أمير المؤمنين؛ إنه قد يكون في طولها عقل، فأقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة فاخر الثياب، فقال المأمون: ما تقولون فيه!! فقال بعضهم: يجب كونه قاضيا، فأمر بإحضاره، فوقف فسلّم فأجاد، فأجلسه المأمون واستنطقه فأحسن، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر تسريح لحيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح لحيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اهتمّ.. أكثر من مسّ لحيته. المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدويه والكنية علوية. فضحك المأمون وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟ قال: فقيه أجيد المسائل. قال: ما تقول فيمن اشترى شاة فلما تسلّمها؛ خرج من استها بعرة؛ ففقأت عين رجل، فعلى من الدية!؟ قال: على البائع دون المشتري، لأنه لما باعها لم يشترط أنّ في استها منجنيقا، فضحك المأمون حتّى استلقى على قفاه وأنشد: ما أحد طالت له لحية ... فزادت اللّحية في هيئته إلّا وما ينقص من عقله ... أكثر ممّا زاد في لحيته (و) قال المناوي في «كنوز الحقائق» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكثر تسريح لحيته) أي: تمشيطها وإرسال شعرها وحلّها بمشطها؛ رواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ، والبغوي في «شرح السنة» كلّهم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر القناع حتى كأنّ ثوبه ثوب زيّات، وسيأتي. (و) أخرج الطبراني في «الأوسط» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح) بتشديد الراء- (لحيته) - أي: مشطها-. (و) أخرج ابن السنّي، وأبو نعيم كلاهما في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها ترفعه، وأبو نعيم في «الطب» أيضا؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بسند حسن: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اهتمّ أكثر من مسّ لحيته) ، فيعرف بذلك كونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اغتمّ.. أخذ لحيته بيده ينظر فيها. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا توضّأ.. خلّل لحيته بالماء. مهموما، قال بعضهم: ويجوز كون مسّه لها تسليما لله تعالى بنفسه، وتفويضا لأمره إليه، فكأنه موجه نفسه إلى مولاه. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الشيرازي في «الألقاب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو حديث حسن لغيره-: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اغتمّ) - بغين معجمة ومثناة فوقية- أي: حزن، قال في «المصباح» : غمّه الشيء غمّا؛ من باب (قتل) : غطاه، ومنه قيل للحزن غمّ، لأنه يغطي السرور. انتهى. (أخذ لحيته) ؛ أي: تناولها (بيده ينظر فيها) كأنّه يتفكّر، أو يسلّي بذلك حزنه. (و) في «الجامع الصغير» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا توضّأ خلّل لحيته بالماء) أي: أدخل الماء في خلالها بأصابعه الشريفة، فيندب تخليل اللّحية الكثّة، فإن لحيته الشريفة كانت كثّة، ومثلها كلّ شعر لا يجب غسل باطنه. قال ابن القيّم: ولم يكن يواظب على التخليل. ورمز في «الجامع الصغير» لمن أخرجه برمز أحمد والحاكم وصحّحه؛ عن عائشة، والترمذي والحاكم؛ عن عثمان بن عفان- وقال الترمذي: حسن صحيح عنه-، والترمذي والحاكم؛ عن عمار بن ياسر، والحاكم؛ عن بلال المؤذّن، وابن ماجه والحاكم؛ عن أنس بن مالك، والطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة الباهلي، وعن أبي الدرداء، وعن أم سلمة، والطبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قال الحافظ الهيثمي: بعض هذه الطرق رجاله موثقون، وفي البعض مقال. انتهى. وأشار المصنف- يعني السيوطي- باستيعاب مخرّجيه إلى ردّ قول أحمد وأبي زرعة «لا يثبت في تخليل اللحية حديث» ؛ قاله المناوي على «الجامع الصغير» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر اتّخاذ القناع. (و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، والبغوي في «شرح السنة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه) - بفتح الدال المهملة وسكون الهاء-: استعمال الدّهن- بالضم-، والدهن: ما يدهن به من زيت وغيره، وجمعه دهان- بالكسر-، وإكثاره ذلك إنما كان في وقت دون وقت، وفي زمن دون آخر، بدليل نهيه عن الادّهان إلّا غبّا في عدّة أحاديث. قال ابن القيم: الدهن يسدّ مسام البدن، ويمنع ما تخلّل منه، والدهن في البلاد الحارة كالحجاز من آكد أسباب حفظ الصحة، وإصلاح البدن، وهو كالضروري لهم. (وتسريح لحيته) بالماء، أو بماء الورد ونحوه، وهو عطف على دهن رأسه؛ كما هو ظاهر، لا على رأسه؛ كما وهم. والمراد تمشيطها وإرسال شعرها وحلّها بمشطها، ولا ينافيه ما في «أبي داود» من النهي عن التسريح كلّ يوم، لأنّه لا يلزم من الإكثار التسريح كل يوم، بل الإكثار قد يصدق على الشيء الذي يفعل بحسب الحاجة؛ ذكره الوليّ العراقي، ولم يرد أنّه كان يقول عند تسريحها شيئا؛ ذكره السيوطي. (ويكثر اتّخاذ القناع) . قال السيوطي رحمه الله تعالى يعني: يتطيلس؛ نقله المناوي. وقال الحفني والعزيزي؛ كالمناوي في «كبيره» : والمراد باتخاذ القناع هنا: تغطية الرأس وأكثر الوجه، وذلك لما علاه من الحياء، ولذا كان يتقنّع عند الجماع، لأنه يستحيا منه عادة؛ وإن كان جائزا. وقال المناوي في «كبيره» : وسبب إكثاره للتقنّع: أنّه كان قد علاه من الحياء من ربّه ما لم يحصل لبشر قبله؛ ولا بعده، وما ازداد عبد بالله علما إلا ازداد حياء من الله تعالى، فحياء كلّ عبد على قدر علمه بربّه، فألجأه ذلك إلى ستر منبع الحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 و (القناع) : خرقة توضع على الرّأس حين استعمال الدّهن لتقي العمامة والثّياب. ومحلّه؛ وهو العين والوجه؛ وهما من الرأس، والحياء من عمل الروح، وسلطان الروح في الرأس، ثم هو ينشر في جميع البدن، فأهل اليقين قد أبصروا بقلوبهم أنّ الله يراهم؛ فصارت جميع الأمور لهم معاينة، فهم يعبدون ربّهم كأنّهم يرونه، وكلما شاهدوا عظمته ومنّته ازدادوا حياء، فأطرقوا رءوسهم وجلا، وقنّعوها خجلا. وأنت بعد أن سمعت هذا التقرير انكشف لك أنّ من زعم «أن المراد هنا بالقناع: خرقة تلقى على الرأس لتقي العمامة من نحو دهن» لم يدر حول الحمى، بل في البحر فوه؛ وهو في غاية الظمأ!! انتهى. وقال الحفني على «الجامع الصغير» : القناع عند أهل الله يسمّى الخلوة الصغرى، لأنّه يمنع من كثرة الاشتغال بالخلق والنظر إليهم. انتهى. وقال الباجوري «على الشمائل» : صحّ عن ابن مسعود- وله حكم المرفوع-: «التّقنّع من أخلاق الأنبياء» ، وفي خبر: «لا يتقنّع إلّا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» ويؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون للعلماء شعار يختصّ بهم، ليعرفوا فيسألوا ويمتثل أمرهم ونهيهم، وهذا أصل في لبس الطيلسان ونحوه، وله فوائد جليلة كالاستحياء من الله والخوف منه، إذ تغطية الرأس شأن الخائف الذي لا ناصر له؛ ولا معين، وكجمعه للتفكّر، لأنه يغطي أكثر وجهه، فيحضر قلبه مع ربّه، ويمتلىء بشهوده وذكره، وتصان جوارحه عن المخالفات، ونفسه عن الشهوات، ولذلك قال بعض الصوفية: الطيلسان الخلوة الصغرى. انتهى كلام الباجوري رحمه الله تعالى. وبما قرّرناه تعلم ما في قول المصنف (والقناع) - بكسر القاف وخفة النون وفي آخره مهملة؛ كرجال-: (خرقة توضع على الرّأس حين) - أي: بعد- (استعمال الدّهن) - بالضم- (لتقي العمامة والثّياب) من أثر الدهن واتساخها به، شبّهت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ادّهن.. صبّ في راحته اليسرى، فبدأ بحاجبيه، ثمّ عينيه، ثمّ رأسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ التّيامن ... بقناع المرأة. وفي «الصّحاح» : هو أوسع من المقنعة. انتهى. (و) أخرج الشيرازي في «الألقاب» - وهو حديث حسن لغيره-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ادّهن) - بالتشديد على «افتعل» : تطلّى بالدّهن، أي: إذا أراد أن يدّهن- (صبّ) الدّهن (في راحته) ؛ أي: بطن كفّه (اليسرى) ، ثم أخذ الدهن باليمنى ودهن، (فبدأ بحاجبيه) فدهنهما أوّلا، (ثمّ عينيه ثمّ رأسه) ؛ أي: ثم عنفقته؛ ثم عارضيه، ثم بقيّة لحيته. انتهى «حفني» . قال العزيزي: وفي رواية: كان إذا دهن لحيته بدأ بالعنفقة، وقال المناوي: وفي رواية الطبراني؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان إذا دهن لحيته بدأ بالعنفقة. (و) أخرج السبعة: أحمد، والبخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي في «جامعه» ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ببعض اختلاف في اللفظ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يحبّ) - وفي رواية لمسلم و «الشمائل» : ليحبّ- (التّيامن) - ولفظ رواية مسلم: التّيمّن، أي: الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن، وكلّ ما كان من باب التكريم؛ لأنّ اليمين مشتقة من اليمن؛ وهو البركة؛ وهو صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ الفأل الحسن، وأصحاب اليمين أهل الجنة، فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود ممدوح بيانا وشرعا؛ دنيا وآخرة، والشمال على النقيض، وقد شرف الله تعالى أهل الجنة بنسبتهم إليها، كما دمّ أهل النار بنسبتهم إلى الشمال؛ فقال (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 في طهوره إذا تطهّر، وفي ترجّله إذا ترجّل، وفي انتعاله إذا انتعل، وفي شأنه كلّه. الْيَمِينِ) (91) [الواقعة] وعكس في أصحاب الشمال!! زاد البخاري في روايته: ما استطاع، فنبّه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع. (في طهوره) - بضمّ أوّله؛ أو فتحه: روايتان مسموعتان، ورواية الضمّ لا تحتاج إلى تقدير، لأن الطّهور- بالضم- هو الفعل، ورواية الفتح تحتاج إلى تقدير مضاف: أي في استعماله، لأن الطّهور- بالفتح-: ما يتطهّر به (إذا تطهّر) ؛ أي: وقت اشتغاله بالطهارة، وهي أعمّ من الوضوء والغسل. وإنّما قال: إذا تطهّر!! ليدلّ على تكرّر المحبّة بتكرر الطهارة، كما في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [6/ المائدة] . وقوله (وفي ترجّله) - بضم الجيم المشددة- أي: تمشيط شعر رأسه ولحيته، وفي معناه الادّهان (إذا ترجّل) ؛ أي: وقت إيجاد هذا الفعل، أي: ويحبّ التيامن في ترجّله وقت اشتغاله بالترجّل، فإذا أراد أن يدهن أو يمشط أحبّ أن يبدأ بالجهة اليمنى من الرأس أو اللحية. (وفي انتعاله) ؛ أي: لبس نعله (إذا انتعل) ؛ أي: وقت إرادة لبس النعل، وفيه احتراز من حال الاختلاع، فإنه يبتدىء باليسار، أي: ويحبّ التّيامن في انتعاله وقت اشتغاله بالانتعال، فإذا أراد لبس النعل أحبّ أن يبدأ بالرجل اليمنى. (و) يحبّ التيامن (في شأنه) - أي: في حاله- (كلّه) يعني: في جميع حالاته، وهذا عطف عامّ على خاصّ، لكن ليس على عمومه، بل مخصوص بما كان من باب التكريم، وأما ما كان من باب الإهانة!! فيستحبّ فيه التياسر. ولذلك قال النووي: قاعدة الشرع المستمرّة استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التكريم والتشريف؛ كلبس الثوب والسراويل والخفّ والانتعال، ودخول المسجد والسواك، وتقليم الأظفار وقصّ الشارب، وترجيل الشعر ونتف الإبط، وحلق الرأس والاكتحال، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى. والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وندب الصلاة عن يمين الإمام؛ وفي ميمنة المسجد، وغير ذلك مما هو في معناه يستحبّ التيامن فيه. فأما ما كان بضدّه مثل: دخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخفّ، وأخذ النعلين ... وما أشبه ذلك!! فيستحبّ التياسر فيه. انتهى؛ نقله جسّوس مع زيادة من غيره. ومما لا يخفى أن التّيامن في فعل بين أجزائه تقدّم وتأخّر، فلا تيامن في نحو غسل الوجه ومسح الأذنين لغير الأقطع، والله أعلم. (و) أخرج أبو داود في «سننه» ، وغيره بالإسناد الصحيح- كما قاله النووي في «الأذكار» - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، (وكانت يده اليسرى لخلائه) ؛ أي: للاستنجاء، ويمكن أن يؤخذ من الخبر تقديم الرجل اليسرى؛ أو بدلها عند دخول؛ أو وصول الخلاء أو محلّ قضاء الحاجة من الفضاء، بأن يراد باليسرى ما يشمل اليد والرجل؛ من استعمال المشترك في معنييه، أو من عموم المجاز. وقوله (وما كان من أذى) ؛ أي: من النوع الذي يعدّ بالنسبة لسائر الناس أذى، من المخاط والبصاق والدم ونحوه؛ فلإستقذار جنسه من باقي الناس جعل له صلّى الله عليه وسلم اليسرى، وأما بالنسبة إلى الحاصل منه صلّى الله عليه وسلم؛ فلا أذى، ولذا كانوا يدلكون به وجوههم ويسارعون إليه، وقد شرب ابن الزّبير دم حجامته، ومصّ مالك بن سنان دمه صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وشربت أمّ أيمن بوله، وهذا دليل على فقد الأذى منه، إذ يحرم على الإنسان تناول كلّ مؤذ للبدن، ومنه الريق بعد انفصاله من معدنه؛ لا فيه، فلا منع منه من حليلة «1» .   (1) زوجة أو أمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وإذا نام واضطجع.. اضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه، وشماله لما سوى ذلك. وعن عائشة ... وعدلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن قولها (من مستقذر) إلى ما عبّرت به!! لما في لفظ الاستقذار من البعد عن أن ينسب إليه صلّى الله عليه وسلم، فليس من مستقذر أصلا. قال العلماء: من استقذر شيئا مما أضيف إليه صلّى الله عليه وسلم من الأحوال والأفعال؛ فهو كافر. انتهى شرح «الأذكار النووية» . (و) قال الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» : و (إذا نام) صلّى الله عليه وسلم (واضطجع اضطجع على جنبه الأيمن) - تشريفا لجانب اليمين حال كونه- (مستقبل القبلة.) في اضطجاعه. (و) أخرج الإمام أحمد؛ عن حفصة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يجعل يمينه) - أي: يده اليمنى- (لأكله وشربه ووضوئه) يحتمل أن يكون المراد: وأخذ ماء وضوئه. زاد في رواية: وصلاته، (وثيابه) يعني: للبس ثيابه؛ أو تناولها (وأخذه وعطائه) مما لا دناءة فيه. (و) كان يجعل (شماله لما سوى ذلك) مما ليس من باب التكريم. ورواه الإمام أحمد أيضا؛ عن حفصة أمّ المؤمنين أيضا بلفظ: كانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك. ورواه عنها أيضا البيهقيّ، قال ابن محمود شارح «سنن أبي داود» وهو حسن؛ لا صحيح، انتهى (مناوي) . (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين بنت أبي بكر الصدّيقة بنت الصّديق رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أرجّل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض. أمّها أمّ رومان- بضم الراء وسكون الواو على المشهور-، وهي أم عائشة وعبد الرحمن بن أبي بكر، أسلمت قبل الهجرة، وماتت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم بعد قصة الإفك، ونزل النبي صلّى الله عليه وسلم في قبرها رضي الله تعالى عنها. وكنية عائشة «أم عبد الله» كنّاها النبي صلّى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وأسلمت صغيرة بعد ثمانية عشر إنسانا ممّن أسلم، وتزوّجها النبي صلّى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين؛ وهي بنت ستّ سنين، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة بعد منصرفه من بدر؛ في شوال سنة: اثنتين؛ وهي بنت تسع سنين. وهي من أكثر الصحابة رواية، روي لها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث؛ اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاريّ بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بثمانية وستين. روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين، وفضائلها ومناقبها مشهورة معروفة. وتوفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة: سبع وخمسين، وصلّى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلا؛ فدفنت من ليلتها بعد الوتر، واجتمع على جنازتها أهل المدينة وأهل العوالي، وقالوا: لم نر ليلة أكثر ناسا منها (رضي الله تعالى عنها) ، وعن والديها وجميع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأرضاهم وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته. آمين. (قالت: كنت أرجّل) - بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الجيم المكسورة؛ أي: أسرّح وأحسّن- (رأس رسول الله) - أي: شعر رأسه- (صلّى الله عليه وسلم) - فهو من قبيل إطلاق اسم المحل وإرادة الحال، أو على تقدير مضاف، ويؤخذ من هذا ندب تسريح شعر الرأس، وقيس به اللحية، وبه صرّح في خبر ضعيف- (وأنا حائض) جملة حالية، ولا يقال «حائضة» إلّا في شذوذ؛ لأنّ علامة التأنيث يؤتى بها للفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يترجّل غبّا؛ أي: حينا بعد حين. وكان شيبه صلّى الله عليه وسلّم في الرّأس واللّحية شيئا قليلا، نحو سبع عشرة شعرة. بين المذكّر والمؤنّث عند خوف اللّبس، وهو مأمون هنا لاختصاص الحيض بالأنثى؛ فلا حاجة إلى علامة التأنيث الفارقة، قال الناظم: وما من الألفاظ بالأنثى يخصّ ... عن تاء استغنى لأنّ اللّفظ نصّ وفيه دليل على طهارة يدها وسائر بدنها؛ ما لم يصبه دم من بدنها؛ وهو إجماع، وفيه دليل على عدم كراهة مخالطتها، وحلّ استخدام الزوجة برضاها في الترجيل ونحوه، وأنه ليس فيه نقص؛ ولا هتك حرمة؛ ولا إضرار بها، وأنه ينبغي للزوجة تولّي خدمة زوجها بنفسها، والله أعلم. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يترجّل) - أي يتمشّط- (غبّا) ؛ بغين معجمة مكسورة وموحدة مشددة؛ أصله: ورود الإبل الماء يوما وتركه يوما، ثم استعمل في فعل الشيء حينا وتركه حينا، كما قال (أي: حينا بعد حين) . والمراد: أنه كانت عادته صلّى الله عليه وسلم أنه لا يبالغ في الترجّل، بل يفعله يوما ويتركه يوما، ولا يواظب عليه، لأن مواظبته تشعر بشدّة الإمعان في الزينة والترفّه؛ وذلك شأن النساء، ولهذا قال ابن العربي: موالاته تصنّع، وتركه تدنّس، وإغبابه سنة. انتهى. (و) قال العارف الشعراني في «كشف الغمة» : (كان شيبه صلّى الله عليه وسلم في الرّأس واللّحية) - أراد بها ما قابل الرأس؛ فيشمل العنفقة والصّدغين- (شيئا قليلا؛ نحو سبع عشرة شعرة) . رواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من طريق حماد بن سلمة؛ عن ثابت؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قيل له: هل كان شاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ما شانه الله تعالى بالشيب، ما كان في رأسه إلا سبع عشرة- أو ثمان عشرة- شعرة، هكذا هو في نسخة «الدلائل» ، وفي لفظ له عند البيهقي: ما كان في رأسه ولحيته إلا سبع عشرة؛ أو ثمان عشرة شعرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ قد شبت؟! قال: «شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» ؛ ... وعن أنس أيضا: ما عدّت في رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء. رواه الترمذي وغيره. وروى البخاري من طريق الليث؛ عن أنس: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. ورواه البخاري ومسلم؛ عن أنس من طريق مالك عن ربيعة. وروى الترمذي في «الشمائل» من حديث ابن عمر: إنما كان شيبه صلّى الله عليه وسلم نحوا من عشرين شعرة بيضاء. ويجمع بين هذه الأخبار بأنه اختلف فيها لاختلاف الأوقات، وبأن رواية الأربع عشرة إخبار عن العدّ، ورواية السبع عشرة إخبار عن الواقع، فهو لم يعدّ إلا أربع عشرة، وأما في الواقع فكان سبع عشرة؛ أو ثمان عشرة. ونفي الشيب في رواية أنس؛ المراد به نفي كثرته لا أصله!!. وسبب قلّة شيبه: أن النساء يكرهنه غالبا، ومن كره من النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا كفر، وإنما كان الشيب شينا مع أنه نور ووقار؛ لأن فيه إزالة بهجة الشباب ورونقه، وإلحاقه بالشيوخ الذين يكون الشيب فيهم عيبا عند النساء. (و) أخرج الترمذي في «الشّمائل» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قال أبو بكر) - الصدّيق- (رضي الله عنه: يا رسول الله، قد شبت) - أي: قد ظهر فيك أثر الشيب والضعف، مع أن مزاجك اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب- (قال: «شيّبتني هود) - بالصرف، أي: سورة هود، وبترك الصرف على أنه علم على السورة، وهما روايتان، ولا ينافي ذلك حديث أنس أنه لم يبلغ الشيب، لأن مقصوده نفي احتياجه إلى الخضاب الذي سئل عنه، إذ الروايات الصحيحة صريحة في أن ظهور الشيب في رأسه ولحيته لم يبلغ مبلغا يحكم عليه بالشيب- (والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال القيامة ممّا يوجب خوفه على أمّته صلّى الله عليه وسلّم. زاد الطبراني: و «الحاقة» ، وزاد ابن مردويه: و «هل أتاك حديث الغاشية» ، وزاد ابن سعد: و «القارعة» ، و «سأل سائل» ، وفي رواية: و «اقتربت الساعة» . وإسناد الشيب إلى السور المذكورة من قبيل الإسناد إلى السبب؛ فيكون مجازا عقليا، على حدّ قولهم: أنبت الربيع البقل، لأن المؤثّر حقيقة هو الله تعالى، وإنما كانت سببا في الشيب!! (لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال) - السعداء والأشقياء، وأحوال- (القيامة) وما تتعسّر؛ بل تتعذّر غايته على غير النفوس القدسية، وهو الأمر بالاستقامة كما أمر، الذي لا يمكن لأمثالنا وغير ذلك (ممّا يوجب) - استيلاء الخوف؛ لا سيما- (خوفه على أمّته صلّى الله عليه وسلم) . لعظيم رأفته بهم ورحمته، ودوام التفكّر فيما يصلحهم، وتتابع الغمّ فيما ينوبهم أو يصدر عنهم، واشتغال قلبه وبدنه وإعمال خاطره فيما فعل بالأمم الماضين، كما في بعض الروايات: «شيّبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» ، وذلك كلّه يستلزم ضعف الحرارة الغريزية، وضعفها يسرع الشيب ويظهره قبل أوانه. قال المتنبي: والهمّ يخترق الجسيم مخافة ... ويشيب ناصية الصّبيّ ويخرم لكن لما كان صلّى الله عليه وسلم عنده من شرح الصدر وتزاحم أنوار اليقين على قلبه ما يسلّيه؛ لم يستول ذلك إلّا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال ويستبين أنّ جماله غالب على جلاله، وإنّما قدّمت هود على بقية السور؛ لأنه أمر فيها بالثبات في موقف الاستقامة التي هي من أعلى المراتب، ولا يستطيع الترقّي إلى ذروة سنامها إلّا من شرّفه الله بخلع السلامة. وقد أورد: أن ما اشتملت عليه هود من الأمر بالاستقامة مذكور في سورة الشورى، فلم أسند الشيب إليها دونها؟! وأجيب: بأنه أول ما سمعه في هود، وبأن المأمور في سورة الشورى نبينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ......... فقط، وفي سورة هود نبينا ومن تبعه من أمة الإجابة، فلما علم أنّهم لم يخرجوا من عهدة القيام بهذا الأمر الخطير كما يجب؛ اهتم بحالهم وملاحظة عاقبة أمرهم، فصار معتكفا في زوايا الهموم والغموم، ولا ريب أن تدبير تلك العظائم يظهر الغمّ والهمّ، ويظهر في صفحات وجنات الإنسان الضعف والسقم. انتهى «مناوي» . يقول العبد الضعيف عبد الله بن سعيد اللحجي مقيّد هذا التعليق اللطيف: إني وقفت على مؤلّف خاصّ يسمى «فيض الجود على حديث: شيّبتني هود» منسوب للشيخ العلّامة المحقّق عزّ الدين بن علي بن عبد العزيز المكي الزمزمي الشافعي المولود سنة: - 900- تسعمائة- بتقديم المثناة على السين المهملة-، والمتوفّى سنة: - 963- ثلاث وستين وتسعمائة، أطال فيه ذيول الكلام، وذكر أن هذا الحديث أخرجه على اختلاف ألفاظه وطرقه خاتمة الحفّاظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني في اختصاره كتاب «تخريج أحاديث الكشاف» للإمام أبي محمد الزيلعي، وأخرجه أيضا تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة» ؛ وأورده أتمّ من ابن حجر رحمهم الله تعالى. آمين. وحاصل ما استقرّ عليه رأي الزمزمي في هذه الرسالة: أنه ردّ القول بأن المراد من هود آية (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [112/ هود] قال: ويحتاج بعد أن رددنا القول بأن المراد من سورة هود آية (فَاسْتَقِمْ) [112/ هود] أن نبيّن المراد من الحديث!! قال: وقد قدّمنا عن ابن عطية أنه إشارة إلى ما فيها مما حلّ بالأمم إلى آخره. قال: وهذا التأويل حسن في ذاته، لكنه لا يتأتّى في جميع السور الواردة من الطرق الصحيحة. قال: ولم أر لغير ابن عطية من المفسّرين كلاما في ذلك!! قال: فالصواب أن يحمل على أمر يوجد في جميع تلك السور، ولعله- والله أعلم- ذكر القيامة وأحوالها، فإنه موجود في جميع السور المذكورة في الروايات. أو يقال: المراد به ما هو أعمّ من ذلك مما يقتضي الخوف والفزع؛ مما هو موجود في جميع السور أو بعضها؛ كالأمر بالاستقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وسئل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ... قال الزمزمي: ولما دخلت مدينة زبيد بعد تأليف هذا الجزء بسنين؛ وذلك عام 958- تسعمائة وثمان وخمسين، أفادني عالم تلك البلاد خاتمة المحقّقين؛ الفقيه: عبد الرحمن بن زياد- أدام الله النفع بعلومه-: أن الإمام الغزالي- رحمه الله تعالى- ذكر في «الإحياء» أن المشيّب له صلّى الله عليه وسلم ما في سورة هود من ذكر الإبعاد، وأوقفني على الكتاب المذكور، فأحببت أن ألحق ههنا ما رأيته فيه بلفظه المسطور: قال الغزالي- رحمه الله تعالى- فيما ترجم له بقوله: القول في علامة محبّة العبد لله تعالى ما صورته: ولخصوص المحبّين مخاوف في مقام المحبّة ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشدّ من بعض، فأوّلها خوف الإعراض، وأشدّ منه خوف الحجاب، وأشدّ منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيّب سيّد المحبّين؛ إذ سمع قوله تعالى (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (68) [هود] ، (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (95) [هود] . وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من ألف القرب وذاقه وتنعّم به، فحديث البعد في حق المبعدين شيّب سماعه أهل القرب و [هم] في القرب. انتهى بحروفه. وهو داخل فيما قرّرناه ثانيا، والحصر فيه غير مضرّ، لكن لا دليل على الحصر فيه، اللهم إلا أن يكون بإطلاع من الله لحجّة الإسلام عليه وتنبيه، وحسب الحجّة هذه الحجّة «1» ! والله أعلم. انتهى كلام الزمزمي رحمه الله تعالى. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي؛ عن شريك؛ عن عثمان بن موهب قال: (سئل أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر الأزدي الدوسي (رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟) - أي: هل لوّن شعره بحنّاء أو نحوه- (قال:   (1) الأولى: حجة الإسلام، والثانية: حجة البينة والبرهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 نعم. وعن عبد الله بن محمّد بن عقيل قال: رأيت شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أنس بن مالك مخضوبا. وفي «الصّحيحين» من طرق ... نعم) - أي: قال أبو هريرة: نعم- يعني-: خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- لأن «نعم» لتقرير ما قبلها من نفي أو إثبات، وما هنا من الثاني. ويوافق هذا الحديث ما في «الصحيحين» عن ابن عمر أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم: يصبغ بالصفرة. وهو عند ابن سعد وغيره أيضا؛ عن ابن عمر بلفظ: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، فأنا أحب أن أصبغ بها، وغيرها من الأحاديث الدالّة على الخضاب، وقد تقدّمت الإشارة إلى الجمع بينها وبين الأخبار الواردة؛ بأنه صلّى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه: بأنه صلّى الله عليه وسلم خضب في وقت وترك الخضاب في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وسيأتي كلام النووي في ذلك. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أبي محمد (عبد الله بن محمّد بن عقيل) ك «دليل» بمهملتين بينهما مثناة- ابن أبي طالب الهاشمي المدني، وأمّ عبد الله زينب بنت علي، وعبد الله هذا قال فيه أبو حاتم وعدّة: ليّن الحديث، وقال ابن خزيمة: لا أحتجّ به، لكن كان أحمد وابن راهويه يحتجّان به، روى عن ابن عمر وجابر وعدّة، وعنه معمر وغيره، مات سنة: - 145- خمس وأربعين ومائة من الهجرة، خرّج له البخاري في «التاريخ» ، وأبو داود وابن ماجه (قال: رأيت شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوبا) يمكن كون الخضب من أنس، فلا ينافي رواية أنس الأخرى أنه لم يبلغ شعره الخضاب!! على أن رواية أنس هذه قد حكم جمع بشذوذها. (و) بيّنوه، فلا يقاوم ما (في «الصّحيحين» ) عنه (من طرق) صحيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 كثيرة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب، وإنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم ليكون أبقى له. وفي «الصّحيحين» أيضا و «سنن أبي داوود» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ... (كثيرة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب) . (و) قد جاء أنه (إنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم؛ ليكون أبقى له) كما رواه مالك والدارقطني عن أبي هريرة، وعلى تقدير صحّة رواية أنس هذه؛ فقد جمع بأن الشعر لما تغيّر بكثرة الطيب سمّاه مخضوبا، وبأنه أراد بالنفي أكثر أحواله، وبالإثبات- إن صح عنه- أقلّها. (وفي «الصّحيحين» أيضا) ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصّفرة. (و) في ( «سنن) الإمام الحافظ (أبي داود» ) سليمان بن الأشعث السجستاني، روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، وأبي بكر وعثمان «ابني أبي شيبة» ، وأحمد بن صالح، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وقتيبة بن سعيد؛ وخلائق. وروى عنه الترمذي، والنسائي، وأبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، وابن الأعرابي، وابن داسة التمّار واللؤلؤي؛ وهما اللذان يرويان عنه كتاب «السنن» . واتفق العلماء على الثناء على أبي داود ووصفه بالحفظ التام، والعلم الوافر، والإتقان والورع والدين، والفهم الثاقب في الحديث وغيره، وكانت ولادته سنة: 202- مائتين واثنتين، وتوفي بالبصرة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة: - 275- خمس وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى. (عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما) ؛ القرشي العدوي المدني، الصحابي الزاهد، أمّه وأمّ أخته حفصة: زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصفّر لحيته بالورس والزّعفران. وعن قتادة ... أسلم مع أبيه قبل بلوغه، وهاجر قبل أبيه، وأجمعوا على أنه لم يشهد بدرا لصغره، وقيل: شهد أحدا؛ وقيل: لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد غزوة مؤتة، واليرموك، وفتح مصر وإفريقية، وكان شديد الاتّباع لآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم: ألف حديث وستمائة حديث. وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على: مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، وانفرد مسلم بأحد وثلاثين، روى عنه أولاده الأربعة: سالم وحمزة وعبد الرحمن وبلال؛ وخلائق لا يحصون من كبار التابعين وغيرهم. ومناقبه كثيرة مشهورة، بل قلّ نظيره في المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في كل شيء من الأقوال والأفعال، وفي الزهادة في الدنيا ومقاصدها والتطلّع إلى الرئاسة وغيرها، وكان ابن عمر كثير الصدقة، فربما تصدّق في المجلس الواحد بثلاثين ألفا. وكان ابن عمر يسرد الصوم، وهو أحد الصحابة الساردين للصوم، منهم: عمر، وابنه، وأبو طلحة، وحمزة بن عمرو، وعائشة. وهو أحد السبعة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأعتق ألف رقبة، وحجّ ستين حجّة، واعتمر ألف عمرة، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وأفتى في الإسلام ستين سنة، وتوفي بمكّة سنة: ثلاث وسبعين؛ وعمره ستّ وثمانون سنة، ودفن ب «ذي طوى» مقبرة المهاجرين، ومناقبه وأحواله كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه. (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصفّر لحيته بالورس) - وهو: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- (والزّعفران) معروف. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» قال: حدثنا محمد بن بشّار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدّثنا همام؛ (عن) أبي الخطّاب (قتادة) - كسعادة- ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنّما كان شيئا في صدغيه، ... دعامة- بكسر الدال المهملة- ابن قتادة ابن عزيز- بفتح العين وبالزاي المكررة- ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس السدوسي البصري التابعي. ولد أعمى، وسمع أنس بن مالك وابن المسيّب وغيرهم من التابعين. روى عنه جماعة من التابعين؛ منهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، والأعمش، وأيوب، وخلائق من تابعي التابعين؛ منهم: مطر الورّاق وجرير بن حازم وشعبة والأوزاعي وغيرهم، وأجمعوا على جلالته وتوثيقه وحفظه وإتقانه وفضله، وكان أحفظ أهل البصرة؛ لا يسمع شيئا إلا حفظه. توفي سنة: - 117- سبع عشرة ومائة، وقيل: ثمان عشرة ومائة؛ وهو ابن ست وخمسين، وقيل: خمس وخمسين رحمه الله تعالى. (قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟) - أي: هل غيّر بياض رأسه ولحيته ولوّنه بالحنّاء ونحوه؛ لأن الخضب كالخضاب بمعنى: تلوين الشعر بحمرة- (قال: لم يبلغ ذلك) . أي: قال أنس: لم يبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلم حدّ الخضاب الذي في ضمن «هل خضب» ، فالضمير في «يبلغ» راجع للنبي صلّى الله عليه وسلم كما قاله بعض الشّرّاح- وهو الظاهر، وجعله بعضهم راجعا للشعر المفهوم من السياق. وأتى باسم الإشارة [ذلك] الذي للبعيد!! ليشير إلى بعد وقت الخضاب. (إنّما كان) - أي: شيبه المفهوم من السياق- (شيئا) أي: قليلا، أي: بياضا يسيرا، وفي بعض النسخ «شيبا» بدل «شيئا» (في صدغيه) - بضم الصاد وإسكان الدال المهملتين، وقد يقال بالسين؛ تثنية: صدغ؛ بالضم- وهو ما بين لحاظ العين إلى أصل الأذن، ويسمى الشعر الذي تدلّى على هذا الموضع «صدغا» أيضا، ذكره في «المصباح» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ولكن أبو بكر رضي الله تعالى عنه خضب بالحنّاء والكتم. و (الكتم) : ... قال القسطلّاني: وهو المراد هنا، وما ذكر في هذه الرواية «من أنّ البياض لم يكن إلا في صدغيه» ؛ مغاير لما في البخاري من «أنّ البياض كان في عنفقته؛ وهي ما بين الذّقن والشّفة» !! ولعل الحصر في هذه الرواية إضافي، فلا ينافي ما في البخاري. وأما قول الحافظ ابن حجر: ووجه الجمع: ما في مسلم؛ عن أنس: كان في لحيته شعرات بيض، لم ير من الشيب إلا قليل، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت، ولم يخضب؛ إنما كان البياض في عنفقته وفي الصّدغين وفي الرأس؛ نبذ متفرقة. انتهى. فلم يظهر منه وجه الجمع كما قاله القسطلّاني في «شرح الشمائل» . وقوله: «لم يخضب» قاله بحسب علمه، لما مرّ عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، (ولكن أبو بكر) الصدّيق (رضي الله تعالى عنه خضب) وجه الاستدراك: مناسبته له صلّى الله عليه وسلم وقربه منه سنّا (بالحنّاء) - بكسر المهملة وتشديد النون والمدّ ك «قثّاء» معروف- (والكتم) بفتحتين، والتاء المثناة مخففة-: نبت فيه حمرة، يخلط بالوسمة ويختضب به لأجل السواد، والوسمة كما في «المصباح» -: نبت يختضب بورقه. ويشبه؛ كما في «النهاية» أن يكون معنى الحديث: أنه خضب بكل منهما منفردا عن الآخر، لأن الخضاب بهما معا يجعل الشعر أسود، وقد صحّ النهي عن السواد، فالمراد أنه خضب بالحنّاء تارة، وبالكتم تارة أخرى. لكن قال القسطلاني: الكتم الصرف يوجب سوادا مائلا إلى الحمرة، والحنّاء الصرف يوجب الحمرة، فاستعمالهما معا يوجب بين السواد والحمرة. انتهى. وعليه فلا مانع من الخضاب بهما معا، قال المصنف: (والكتم) - بفتح الكاف وفتح المثناة فوق مخففة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى يشدّد التاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 نبت فيه حمرة. وقال النّوويّ: المختار أنّه صبغه في وقت، وتركه في معظم.. والمشهور التخفيف-: (نبت فيه حمرة) يخلط مع الوسمة للخضاب، وفي بعض كتب اللغة: هو ورق يشبه ورق الآس، يصبغ به، وفي كتب الطب: الكتم من نبات الجبال؛ ورقه كورق الآس؛ يخضب به مدقوقا، وله ثمر كقدر الفلفل، ويسودّ إذا نضج، ويعتصر منه دهن يستصبح به في البوادي، وقيل غير ذلك. وقد اختلف العلماء؛ هل خضب عليه الصلاة والسلام أم لا؟ ومثار الخلاف اختلاف الرواية في ذلك، فأثبته ابن عمر وأبو هريرة وأبو رمثة؛ قال: «أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنّاء» . رواه الحاكم وأصحاب «السنن» ، وأنكره أنس كما تقدّم عنه. وقال القاضي عياض: منعه الأكثرون لحديث أنس، وهو مذهب مالك؛ فوافق أنسا على الإنكار، وتأوّل حديث ابن عمر بحمله على الثياب؛ لا الشعر، وأحاديث غيره إن صحّت على أنّ تلوّنه من الطيب؛ لا من الصبغ، لما في البخاري وغيره. قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعره صلّى الله عليه وسلم؛ فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: احمرّ من الطيب. قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف المسؤول المجيب بذلك!! إلا أنّ الحاكم روى أنّ عمر بن عبد العزيز قال لأنس: هل خضب النبي صلّى الله عليه وسلم فإني رأيت شعرا من شعره قد لوّن؟ فقال: إنما هذا الذي لوّن من الطيب الذي كان يطيّب به شعره فهو الذي غيّر لونه، فيحتمل أن يكون ربيعة سأل أنسا عن ذلك فأجابه، ووقع في «رجال مالك» للدارقطني و «الغرائب» له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم خضب من كان عنده شيء من شعره ليكون أبقى له- كما مر- فإن ثبت هذا! استقام إنكار أنس، ويقبل ما أثبته سواه من التأويل. انتهى. (وقال) الإمام محيي الدين (النّوويّ) رحمه الله تعالى: (المختار أنّه صبغه) أي: الشعر- حقيقة، لأن التأويل خلاف الأصل (في وقت وتركه في معظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهو صادق. الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى؛ وهو صادق.) قال: وهذا التأويل كالمتعيّن؛ لحديث ابن عمر في «الصحيحين» - أي المتقدم قريبا-: أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، قال: ولا يمكن تركه لصحته، ولا تأويل له. انتهى كلام النووي. قال الزرقاني: وفيه نظر؛ إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر، ثم قد ورد ما يعيّن الأول؛ وهو ما في «سنن أبي داود» ؛ عن ابن عمر نفسه: كان يصبغ صلّى الله عليه وسلم بالورس والزعفران حتى عمامته، ولذا رجّحه عياض. انتهى كلام الزرقاني. قال المناوي في «شرح الشمائل» بعد ذكر كلام النووي: وللمخالف أن يقول: تركه في معظم الأوقات وفعله على الندور؛ فيه شعور بأنه إنما فعله أحيانا بيانا للجواز؛ فقصاراه الإباحة، فدلالته على السّنّيّة من أين!؟ انتهى. أما الإمام العلّامة الحافظ عبد الرحمن بن علي الدّيبع اليمني الزبيدي رحمه الله تعالى، فقد وافق القاضي عياضا على الإنكار، ولمّا بلغه عن بعض فضلاء عصره أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخضب لحيته أنكر ذلك عليه، وكتب هذه الأبيات: والله ما وقّر المختار من مضر ... من ادّعى أنّه للشّيب قد خضبا لم يبلغ الخضب فيما قاله أنس ... وهو الخبير به من دون من صحبا إذ كان خادمه دهرا يلازمه ... ليلا وصبحا مقيما عنده حقبا قالوا له: احمرّ منه الشّعر؟ قال: نعم ... من كثرة الطّيب تلك الحمرة اكتسبا ما شاب شيبا إلى فعل الخضاب دعا ... بل كان يدخل تحت الحصر لو حسبا إذا تدهّن وارى الدّهن ذاك فلم ... يرى له أثرا من رام أو طلبا ومن يقل «قد أرتني أمّ سلمة مخ ... ضوبا من الشّعر» أي من طيبه انخضبا إذ لم يقل إنّها قالت له خضب ال ... نّبيّ هذا مقالي الحقّ قد وجبا ومن روى صبغه بالصّفرة اعتبروا ... ما قال في ثوبه أو نعله أدبا لا في الشّعور وقس ما قيل فيه على ... ما قيل إنّ رسول الله قد كتبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتنوّر في كلّ شهر، ويقلّم أظفاره في كلّ خمسة عشر يوما. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلى ... (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن عتبة بن عبد قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشّعر) ؛ أي: بتغيير لونه الأبيض بالخضاب بغير سواد؛ كحنّاء، أما تغييره بالسواد! فحرام لغير الجهاد، ثم علّل الأمر بتغيير الشعر بقوله: (مخالفة للأعاجم) ، فإنّهم لا يصبغون شعورهم، وهذا علّة للتغيير، والأعاجم؛ جمع: أعجم، أو أعجمي: وهم خلاف العرب. (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» - وهو حديث ضعيف-؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ قال (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يتنوّر) - أي: يستعمل النّورة لإزالة الشعر- (في كلّ شهر) مرّة. قال السيوطيّ: والتّنوّر مباح؛ لا مندوب، لعدم ثبوت الأمر به، وفعله؛ وإن حمل على الندب لكن هذا من العاديات! فهو لبيان الجواز، ويحتمل ندبه لما فيه من الامتثال، والكلام إذا لم يقصد الاتباع، وإلّا! كان سنّة. انتهى «نقله العزيزي عن المناوي» . (ويقلّم أظفاره) - يعني: يزيلها بقلم؛ أو غيره فيما يظهر- (في كلّ خمسة عشر يوما) مرّة. قال الغزالي: قيل: إنّ النورة في كلّ شهر مرّة تطفىء الحرارة، وتنقي اللون، وتزيد في الجماع، وورد أنّه كان يقلّمها يوم الجمعة، وفي رواية: كلّ يوم جمعة، ولعلّه كان يفعل ذلك تارة كلّ أسبوع، وتارة كل أسبوعين!! بحسب الحاجة. انتهى «مناوي» . (و) أخرج ابن سعد؛ عن إبراهيم، وعن حبيب بن أبي ثابت مرسلا؛ وسنده صحيح: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اطّلى) أصله: اتطلى- قلبت التاء طاء وأدغمت- يقال: طليته بالنّورة أو غيرها: لطّخته، واطّليت- بترك المفعول- إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 بالنّورة.. ولي عانته وفرجه بيده. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلى.. بدأ بعورته فطلاها بالنّورة، وسائر جسده أهله. فعل ذلك بنفسه (بالنّورة) المعروفة؛ وهي: زرنيخ وجصّ (ولي عانته) وهي: اسم للشعر النابت فوق ذكر الرجل وفرج المرأة؛ وهو قول ابن الأعرابي وابن السّكّيت، وقال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر على الفرجين؛ لا الشعر نفسه! واسمه الإسب- بكسر الهمزة وسكون المهملة-. انتهى زرقاني على «المواهب» . (وفرجه بيده) الشريفة، ولا يمكّن أحدا من أهله من مباشرتها لشدّة حيائه، وفي رواية بدل «عانته» : «مغابنه» - بغين معجمة- جمع مغبن؛ من: غبن الثوب إذا أثناه، وهي: بواطن الأفخاذ وطيّات الجلد. قال ابن حجر: وهذا الحديث يقابله حديث أنس رضي الله تعالى عنه: كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه. وسنده ضعيف جدا. انتهى. قال المناوي: وهذا الحديث- أي: المرويّ في المتن- رواه ابن ماجه والبيهقي- إلّا «فرجه» - عن أمّ سلمة. قال في «الفتح» : ورجاله ثقات، لكن أعلّ بالإرسال، وأنكر أحمد صحّته، وروى الخرائطيّ؛ عن أمّ سلمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ينوّره الرجل فإذا بلغ مراقه تولّى هو ذلك. انتهى. (و) أخرج ابن ماجه؛ عن أم سلمة بإسناد جيد، ورواه عنها البيهقي أيضا- قال في «المواهب» : ورجاله ثقات، لكن أعلّ بالإرسال قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اطّلى) بالنورة (بدأ بعورته) - أي: ما بين سرّته وركبته- (فطلاها بالنّورة) المعروفة بيد نفسه، (و) طلى (سائر) - أي: باقي- (جسده) من كل ما فيه شعر يحتاج لإزالته (أهله) بالرفع فاعل «طلى» ، أي: بعض أهله؛ أي زوجاته. وإنما لم يمكّن بعض الزوجات من طلاء عورته؛ مع أنه يجوز للزوجة نظر عورة زوجها بإذنه لشدّة حيائه صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ......... فاستعمال النورة مباح؛ لا مكروه، وتوقف السيوطي في كونها سنة، قال: لاحتياجه إلى ثبوت الأمر بها؛ كحلق العانة ونتف الإبط. وفعله وإن كان دليلا على السنة؛ فقد يقال: هذا من الأمور العادية التي لا يدلّ فعله لها على سنة. وقد يقال: فعله لبيان الجواز ككلّ مباح. وقد يقال: إنها سنة، ومحلّه كلّه ما لم يقصد اتّباع النبي صلّى الله عليه وسلم في فعله، وإلا! فهو مأجور، آت بالسنة. انتهى. قال: وأما خبر «كان لا يتنوّر» !! فضعيف لا يقاوم هذا الحديث القوي إسنادا، على أنّ هذا الحديث مثبت وذاك ناف، والقاعدة عند التعارض تقديم المثبت. قال ابن القيّم: لم يدخل نبينا صلّى الله عليه وسلم حماما قطّ. ويردّه ما رواه الخرائطيّ؛ عن أحمد بن إسحاق الورّاق عن سليمان بن ناشرة؛ عن محمد بن زياد الألهاني قال: كان ثوبان مولى المصطفى صلّى الله عليه وسلم جارا لي، وكان يدخل الحمام، فقلت: فأنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تدخل الحمام!!. فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدخل الحمام، وكان يتنوّر. وأخرجه أيضا يعقوب بن سفيان في «تاريخه» ؛ عن سليمان بن سلمة الحمصي؛ عن بقية؛ عن سليمان بن ناشرة به. وأخرجه ابن عساكر في «تاريخه» من طريقه. قال ابن القيم: وقد ورد في النّورة عدّة أحاديث هذا أمثلها، يعني حديث أمّ سلمة الذي في المتن، قال: وأما خبر «كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه» !! فجزم بضعفه غير واحد. انتهى من «المناوي الكبير» . وما قرّره من دخوله صلّى الله عليه وسلم الحمام مخالف لما صرّح به ابن حجر وغيره أن العرب لم تعرف الحمام ببلادها إلّا بعد موته صلّى الله عليه وسلم. فليحرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وكان صلّى الله عليه وسلّم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصّلاة. (و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ من حديث إبراهيم بن قدامة الجمحي عن الأغرّ، وكذا البزّار عنه؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة) . قال الحفني: أي اتفق أنه وقع ذلك يوم الجمعة، لا أنه يطلب تأخيره إلى يوم الجمعة أو الخميس، بل المدار على الحاجة إلى ذلك، ولم يثبت في تخصيص يوم بالقص شيء. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: المعتمد أنه يسنّ كيفما احتاج إليه، ولم يثبت في استحباب قصّ الظفر يوم الخميس حديث، ولا في كيفيته، ولا في تعيين يوم له، وما عزي لعلي من النظم باطل. انتهى: وهذا النظم المعزوّ لعليّ: ابدأ بيمناك وبالخنصر ... في قصّ أظفارك واستبصر وكذا ما عزي لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر من النظم باطل أيضا؛ كما قاله الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى، وهو قوله: في قصّ ظفرك يوم السّبت آكلة ... قال الحفني في حاشية «الجامع الصغير» : لكن صحّ عندنا- كما في الفقه- أنه يطلب البدء بسبابة اليمين. انتهى. قال في «المواهب» : والمراد مما يأخذه من الأظفار: إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر، وإنما استحبّ!! لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدّ يمنع من وصول الماء فيما يجب غسله في الطهارة، ولا يصح الوضوء حينئذ. انتهى ملخصا مع الشرح. (قبل أن يروح إلى الصلاة) قال المناوي: يعارضه خبر البيهقي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: «المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم؛ لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضي الصلاة» . وخبره؛ عن ابن عمر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بدفن الشّعر والأظفار. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشّعر، والظّفر، والدّم، والحيضة، والسّنّ، والعلقة، والمشيمة. «المسلم يوم الجمعة محرم فإذا صلّى فقد حلّ» والجواب بأنّ هذين ضعيفان، وهذا الجواب لا ينجع؛ إذ خبرنا ضعيف أيضا، وروى الديلمي في «مسند الفردوس» بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «من أراد أن يأمن الفقر وشكاية العين والبرص والجنون؛ فليقلّم أظفاره يوم الخميس بعد العصر، وليبدأ بخنصر يده اليمنى» . انتهى (و) أخرج الطبراني في «الكبير» عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأمر بدفن الشّعر) - المبان بنحو قصّ أو حلق أو نتف من نحو رأس أو لحية- (والأظفار) المبانة بقصّ أو قطع أو غيرهما، لأن الآدمي محترم؛ فكذا أجزاؤه، فأمر بدفنها لئلا تتفرّق أجزاؤه، وقد يقع في النار أو غيرها من الأقذار، لكن ذلك الأمر على سبيل الندب؛ لا الوجوب! (و) أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» بدون سند؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشّعر، والظّفر، والدّم) - قال الحكيم الترمذي: روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم احتجم، وقال لعبد الله بن الزبير: أخفه حيث لا يراك أحد، فلما برز شربه ورجع، فقال: «ما صنعت» ؟ فقال: جعلته في أخفى مكان عن الناس. فقال: «شربته!؟» قال: نعم، قال له: «ويل للنّاس منك، وويل لك من النّاس» ، انتهى. أي: للشدة التي حصلت له باختلاط دمه بدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيقاتل الناس ويقاتلونه، وإن كان شرب دمه جائزا مطلوبا للتبرّك، إلّا أنه يحصل منه الشدة المترتّب عليها ما ذكر. انتهى. «حفني ومناوي» . (والحيضة) - بكسر الحاء المهملة: خرقة الحيض- (والسّن، والعلقة، والمشيمة) وهي ما يكون فيه المولود حين نزوله من بطن أمه، وإنما يأمر بدفن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحلّاق يحلقه، وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل. السبعة!! لأنها من أجزاء الآدمي فتحترم كما تحترم جملته لما تقدّم. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ (عن أنس) بن مالك الصحابي الجليل خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم) في حجة الوداع (والحلّاق) معمر بن عبد الله- كما ذكره البخاري- وقيل: خراش بن أمية- بمعجمتين-، والصحيح الأول، فإنّ خراشا كان الحلّاق بالحديبية (يحلقه) - بكسر اللام- (وأطاف به أصحابه) - دار ما حوله- (فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل) تيمّنا وتبرّكا، وفي «الصحيحين» عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه صلّى الله عليه وسلم لمّا حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره. قال القسطلّاني: ولم يرو أنه صلّى الله عليه وسلم حلق رأسه الشريف في غير نسك حج؛ أو عمرة فيما علمته، وبه جزم ابن القيّم؛ فقال: لم يحلق رأسه إلّا أربع مرات، قال العراقي في «نظم السيرة» : يحلق رأسه لأجل النّسك ... وربّما قصّره في نسك وقد رووا لا توضع النّواصي ... إلّا لأجل النّسك المحّاص فتبقية الشعر في الرأس سنّة، ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 [الفصل الرّابع في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة] الفصل الرّابع في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة روى مسلم ... (الفصل الرابع) من الباب الثاني (في) - بيان ما ورد في (صفة عرقه) بفتح العين والراء- أي: رشح بدنه (صلّى الله عليه وسلم) ؛ لونا وريحا وكثرة، (و) في صفة (رائحته الطّبيعيّة) من غير أن يمسّ طيبا. (روى) الإمام الحافظ الحجّة؛ أبو الحسين (مسلم) بن الحجّاج بن مسلم القشيري؛- من بني قشير؛ قبيلة من العرب معروفة. النيسابوريّ. إمام أهل الحديث، سمع قتيبة بن سعيد، والقعنبيّ، وأحمد ابن حنبل، وخلائق من الأئمة، وروى عنه أبو عيسى الترمذي، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد وهو رواية «صحيح مسلم» -، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وخلائق. وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلوّ مرتبته وحذقه في هذه الصنعة، وتقدّمه فيها، وتضلّعه منها. ومن أكبر الدلائل على جلالته وإمامته وورعه وحذقه وقعوده في علوم الحديث واضطلاعه منها وتفنّنه فيها كتابه «الصحيح» ، الذي لم يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان، ومع هذا ف «صحيح البخاري» أصحّ وأكثر فوائد، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح المختار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير العرق. وكان عرقه صلّى الله عليه وسلّم في وجهه كاللّؤلؤ، وأطيب من المسك الأذفر. وكانت وفاته عشية الأحد، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة: 261- إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة رضي الله تعالى عنه ورحمه رحمة الأبرار. آمين. (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثير العرق) ؛ وهو قطعة من حديث سيأتي. (و) أخرج أبو نعيم وغيره؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان عرقه صلّى الله عليه وسلم في وجهه كاللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، واللؤلؤ- بهمز أوله وآخره، وبتركهما، وبهمز الأول دون الثاني وعكسه-. وفي مسلم؛ عن أنس: كان صلّى الله عليه وسلم أزهر اللون كأنّ عرقه اللؤلؤ ... الحديث. وروى البيهقيّ؛ من حديث عائشة: كان يخصف نعله؛ وكنت أغزل، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتلألأ نورا. وروى البيهقي؛ من حديث علي: كان عرقه اللؤلؤ. (وأطيب من المسك الأذفر) - بذال معجمة- أي: شديد الرائحة ويقع على الكريه، ويفرّق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به، وأمّا بدال مهملة!! فخاصّ بالنتن. روى البيهقيّ؛ من حديث علي: ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر، وفي سنده رجل مجهول، والمراد بيان رائحته الذاتية؛ لا المكتسبة، لأنه لو أريد المكتسبة لم يكن فيه كمال مدح، بل لا تصحّ إرادتها وحدها، ومع كونه كان كذلك؛ وإن لم يمسّ طيبا؛ كان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات؛ مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة ومجالسته المسلمين، وللاقتداء به في التطيّب فإنّه سنّة أكيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. ثقل لذلك، وتحدّر جبينه عرقا كأنّه جمان، وإن كان في البرد. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأتي أمّ سليم فيقيل عندها، ... (و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد صحيح؛ عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي ثقل لذلك) النزول (وتحدّر) - بفتح الحاء وتشديد الدال المهملتين-؛ أي: سال (جبينه عرقا) بالتحريك؛ تمييز- (كأنّه جمان) - بضم الجيم وتخفيف الميم-، أي: لؤلؤ، لثقل الوحي عليه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (5) [المزمل] ؛ (وإن كان) نزوله (في البرد) ؛ أي: الزمن البارد، لشدّة ما يلقى عليه من القرآن، ولضعف القوّة البشرية عن تحمّل مثل ذلك الوارد العظيم، وللوجل من خوف تقصير فيما أمر به من قول أو فعل، ولشدّة ما يأخذ به نفسه من جمعه في قلبه وحفظه، فيعتريه لذلك حال كحال المحموم، وحاصله: أنّ الشدّة إما لثقله، أو لإتقان حفظه، أو لابتلاء صبره، أو للخوف من التقصير؛ قاله المناوي في «كبيره» . (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ من طريق أبي قلابة؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأتي أمّ سليم) - بالتصغير- بنت ملحان- بكسر الميم- ابن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية النجّاريّة، يقال اسمها سهلة، أو رميلة، أو رميثة، أو مليكة، أو أنيقة، وهي: الغميصا- بضم الغين المعجمة-، أو الرميصاء- بالراء-، اشتهرت بكنيتها؛ وهي أمّ أنس بن مالك «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ، وكانت تحت أبي طلحة، وهي من الصحابيّات الفاضلات، وكانت وفاتها في خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، ولفظ الحديث؛ كما في «مسلم» : حدثنا عفّان بن مسلم؛ قال: حدّثنا وهيب؛ قال: حدّثنا أيوب؛ عن أبي قلابة؛ عن أنس؛ عن أم سليم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يأتيها (فيقيل عندها.) - قال في «النهاية» : القيلولة: الاستراحة نصف النهار؛ وإن لم يكن معها نوم، يقال: قال يقيل قيلولة؛ فهو قائل. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فتبسط له نطعا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أمّ سليم؛ ما هذا؟» . قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب. وفي رواية قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال: «أصبت» . وكان كفّه صلّى الله عليه وسلّم ألين من الحرير، (فتبسط له نطعا) - بفتح النون وكسرها مع فتح الطاء وسكونها- أربع لغات، وهو: بساط من أديم معروف؛ (فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب) والقوارير.. الحديث. وفي رواية؛ عن ثابت؛ عن أنس بن مالك قال: دخل علينا النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال عندنا، فعرق، وجاءت أمّي بقارورة؛ فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبي صلّى الله عليه وسلم؛ (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يا أمّ سليم؛ ما هذا) الّذي تصنعين» !! (قالت) : هذا (عرقك) . خبر موطّىء لقوله (نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب) . قال الأبّي: وكانت رائحة العرق أخصّ من رائحة البدن كما يوجد في ضدّ طيب الرائحة، فإنّ ذا الرّائحة الكريهة هي منه في حالة العرق أكره منها في حالة عدم العرق. (وفي رواية) لمسلم؛ من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة؛ عن أنس: (قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال: «أصبت» ) - بكسر التاء- خطاب لأمّ سليم. وهذه الأحاديث ترجم لها الإمام النووي في «شرح مسلم» : باب طيب عرقه صلّى الله عليه وسلم والتبرّك به، قال النووي: وفيه الدخول على المحارم، وجواز النوم على الأدم؛ وهي الأنطاع والجلود. انتهى. (و) قال الشعراني في «كشف الغمة» : (كان كفّه صلّى الله عليه وسلم ألين من الحرير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلّى الله عليه وسلّم بطيب أم لم يمسّها، وكان يصافح الرّجل فيظلّ يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصّبيّ فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه. وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلّى الله عليه وسلم بطيب؛ أم لم يمسّها) ؛ أي: الكف، وفيه قلب، إذ الظاهر «مسّ بها طيبا؛ أم لا» ، وهو إشارة إلى أن طيبه ذاتيّ. روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله عنه: ما شممت شيئا قطّ؛ مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا مسست شيئا قطّ؛ حريرا ولا ديباجا ألين مسّا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. انتهى. (وكان يصافح) ؛ أي: يمسّ النبي صلّى الله عليه وسلم بصفحة يده (الرّجل) - وفي رواية: يصافحه المصافح؛ وهو: من يريد مصافحته- (فيظلّ) - بفتح الظاء المعجمة- (يومه) - منصوب على الظرفية- (يجد ريحها) الطّيبة طيبا خلقيا، خصّه الله به معجزة وتكرمة، فالإضافة عهدية. وعند الطبراني؛ من حديث وائل بن حجر: كنت أصافح رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يمسّ جلدي جلده فأتعرّفه بعد في يدي؛ وإنّه لأطيب من ريح المسك. وهذا صادق ببقائه أكثر من يوم لم يقيد التعرف بزمن. (ويضع يده على رأس الصّبيّ) ؛ أيّ صبي كان لا معيّن، (فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه) لشدّة فوحه برائحتها الحاصلة بمسّه، والفاء للسببية؛ أي: يعرف أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم مسّه فيميّز من بينهم، وفي رواية «لريحها» - باللام التعليلية- ومعناهما واحد، وفي رواية «من ريحها» ، ويحتمل أنّ ذلك في يومه، وأنّه يستمرّ مدّة طويلة. وهذا الحديث رواه أبو نعيم، والبيهقي بإسناد ضعيف؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمخالفة في آخره، ولفظ عائشة رضي الله تعالى عنها: ويضعها على رأس الصبي؛ فيعرف من بين الصبيان أنّه مسح على رأسه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وقال أنس: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح خدّه، ... وأورده ابن دحية في «المستوفى» بلفظ: وكان صلّى الله عليه وسلم إذا صافح أحدا فيظلّ يومه يجد ريحها. والباقي كما في «المتن» . (وقال أنس) - كما في البخاري في صفة النبي صلّى الله عليه وسلم-: (ما مسست) - قال الحافظ وغيره: بمهملتين الأولى مكسورة، ويجوز فتحها والثانية ساكنة- (ديباجا) - بكسر المهملة وحكي فتحها، وقال أبو عبيد: الفتح مولّد؛ أي ليس بعربي. قال في «النهاية» : الديباج- بكسر الدال-: الثياب المتخذة من الإبريسم «فارسي معرّب» وقد تفتح داله، ويجمع على ديابيج- بالياء التحية-، ودبابيج بالباء الموحدة- وفي «المصباح» : الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم. انتهى. (ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، أي: بل كفّه الشريفة كانت الين من كلّ شيء، ولا ينافيه ما مرّ أنّه شثن الكف؛ لأنّ معناه- كما تقدم- أنّه غليظها، فمع كونه غليظ الكفّ كان ناعمها، وتمام الحديث: ولا شممت ريحا قطّ، أو عرقا قطّ أطيب من ريح أو عرق النبي صلّى الله عليه وسلم. هذا بقيّة الحديث عند البخاري، وأخرجه مسلم بنحوه كما تقدّم. (و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ (عن جابر بن سمرة) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) قال: صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان؛ فجعل يمسح خدّي أحدهم واحدا واحدا، قال: وأمّا أنا فمسح خدّي. فذكره المصنف بمعناه حيث قال: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسح خدّه) تأنيسا وشفقة وتبريكا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 قال: فوجدت ليده بردا وريحا؛ كأنّما أخرجها من جؤنة عطّار. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يسلك طريقا فيتبعه ... (قال) جابر: (فوجدت) - أي أحسست- (ليده) أي: كفّه وما قاربها (بردا) حقيقيا، لرواية «أبرد من الثلج» لا لعارض مسّ ماء، وهذا ممدوح عند العرب لا سيما في الزمن الحارّ، ولا بعد في أنه خاصّ به مع كمال حرارته الغريزية، وقيل: هو عبارة عن لين كفّه ورطوبته، والأقرب أنّه بمعنى الراحة واللّذة والطيب. قال في «النهاية» : كلّ محبوب عندهم بارد، و «برد الظل طيب العيش» ، و «الغنيمة الباردة: الهنية» . (و) وجدت لها (ريحا؛ كأنّما أخرجها) - أي: اليد؛ لأنها مؤنثة- (من جؤنة) - بضم الجيم وسكون الهمزة، ويقال بواو ساكنة تليها نون وهاء تأنيث-: شبه صندوق صغير مغشى بجلد وزند مستدير، يضع العطار فيها عطره، وهو: كلّ ما طابت رائحته، أي: كأنّ ريح يده ريح ما أخرج من جؤنة (عطّار) مضمّخا بالعطر، والجملة صفة «ريحا» ، أو مستأنفة، وقال يزيد بن الأسود: ناولني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك. رواه البيهقي. (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن إبراهيم مرسلا- وهو حديث حسن-: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل) ، لأنّه كان رائحة الطيب صفته؛ وإن لم يمسّ طيبا، فكلما مرّ على محلّ عبق طيبا؛ فكان الشخص إذا شمّ ذلك الطيب عرف أنّه صلّى الله عليه وسلم مرّ من ذلك المحل؛ وإن لم ير ذاته الشريفة- كما سيأتي-. (و) أخرج البخاري في «تاريخه» ، والبيهقي، والدارمي، وأبو نعيم بألفاظ متقاربة؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يسلك طريقا فيتبعه) - بالرفع؛ أي: يأتي بعد ذهابه منه، لا يمشي تابعا له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أحد.. إلّا عرف أنّه قد سلكه من طيب عرفه. وذكر إسحاق بن راهويه: ... وهو بالتخفيف والتشديد، ويجوز نصبه، أي: يمشي بعده بزمان قليل، فالفاء للتعقيب- (أحد) فاعل «يتبع» على حال من الأحوال (إلّا) على حال (عرف أنّه) صلّى الله عليه وسلم (قد سلكه) ؛ أي: دخل الطريق ومرّ فيه (من طيب عرفه) - بالفاء-: ريحة الطيب، والضمير للنبي صلّى الله عليه وسلم، فيفيد طيب ريح بدنه؛ وإن لم يعرق، وذلك لأن القلب الطّاهر الحيّ يشمّ منه رائحة الطيب، كما أن القلب الخبيث الميت يشمّ منه رائحة النتن، لأن نتن القلب والروح يتّصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعرق يفيض من الباطن، والنفس الطيّبة يقوى طيبها ويفوح عرف عرقها حتّى يبدو على الجسد، والخبيثة بضدّها؛ كذا قال بعضهم؛ نقله الزرقاني رحمه الله تعالى. ولله درّ من قال: ولو أنّ ركبا يمّموك لقادهم ... نسيمك حتّى يستدلّ به الرّكب وروى أبو يعلى، والبزار بإسناد صحيح؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب؛ وقالوا: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذا الطريق. وما أحسن قول من قال في هذا المعنى: يروح على غير الطّريق الّتي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته تنفّسه في الوقت أنفاس عصره ... فمن طيبه طابت له طرقاته تروح له الأرواح حيث تنسّمت ... له سحرا من حبّه نسماته قوله «تنفّسه» مبتدأ، وقوله «أنفاس عصره» - بالصاد- خبر على حذف مضاف؛ أي: أهل عصره، وذلك لأن النّفس الواحد منه في وقت يعمّ أهل الأرض جميعا. انتهى. قال في «الشفا» : (وذكر إسحاق بن راهويه) : أبو يعقوب المروزي، الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أنّ تلك كانت رائحته بلا طيب صلّى الله عليه وسلّم. الزاهد الثقة المجتهد، أمير المؤمنين في الحديث- كما قاله ابن حنبل رحمه الله تعالى- وهو الذي أحيا السّنة بالمشرق. ما سمع شيئا إلّا حفظه، وما حفظ شيئا فنسيه، قال: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألف حديث أسردها. وهو عالم خراسان، طاف البلاد لجمع الحديث، أخذ عنه الإمام أحمد ابن حنبل، والبخاري، ومسلم وغيرهم، استوطن نيسابور وتوفي بها سنة: 238- ثمان وثلاثين ومائتين، وولادته سنة: - 161- إحدى وستين ومائة، و «راهويه» لقب أبيه إبراهيم بن مخلد التميمي الحنظلي، لقب به!! لأنّه ولد بطريق مكة و «راه» بالفارسية: معناه الطريق، و «هو» بالهاء والواو المفتوحتين والمثناة التحتية الساكنة والهاء المكسورة في المشهور، ويقال [راهويه] بضم الهاء وسكون الواو وتحتانية مفتوحة ك «نفطويه» ، وهو أحبّ عند المحدثين، آخره «هاء» . (أنّ تلك) الرائحة التي كانت تشمّ منه وتبقى في الطريق (كانت رائحته) الذاتيّة المدركة منه صلّى الله عليه وسلم (بلا طيب) يمسّه ويتطيّب منه من خارج، ومع هذا كان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في طيب ريحه؛ لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي ومجالسة المسلمين؛ قاله النووي. ولأنه حبّب إليه كما قال: «حبّب إليّ من دنياكم: النّساء، والطّيب» كما سيأتي. وروى ابن مردويه؛ عن أنس رضي الله عنه: كان صلّى الله عليه وسلم منذ أسري به ريحه ريح عروس؛ وأطيب من ريح عروس. ولا دلالة فيه على أنّ مبدأ طيب ريح جسده من ليلة الإسراء؛ كما زعم من زعم!! إذ ريح عروس أخصّ من مطلق رائحة طيبه، فلا ينافي أنّه طيّب الرائحة من حين ولد؛ كما رواه أبو نعيم والخطيب: أنّ أمّه آمنة لما ولدته، قالت: ثمّ نظرت إليه؛ فإذا هو كالقمر ليلة البدر، ريحه يسطع كالمسك الأذفر (صلّى الله عليه وسلم) . وقد تقدّم ما يدلّ على ما قاله إسحاق من الأحاديث. فما قيل «أنّه لم يظهر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وعن أمّ عاصم امرأة عتبة بن فرقد السّلميّ قالت: كنّا عند عتبة أربع نسوة، فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب؛ لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا، وكان إذا خرج إلى النّاس.. قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنّا لنجتهد في الطّيب، ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ ذلك؟! ... رواه، والظاهر ثبوته عندهم» !! من قلة التتبّع؛ قاله الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» . (وعن أمّ عاصم امرأة عتبة) - بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية- (ابن فرقد) - بفتح الفاء والقاف بينهما راء ساكنة- ابن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة (السّلميّ) - وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد- شهد خبير وقسم له منها، فكان يعطيه لبني أخواله عاما ولبني أعمامه عاما، وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم غزوتين، وولّاه عمر رضي الله عنه في الفتوح، ففتح الموصل سنة: ثمان عشرة مع عياض بن غنم، ونزل بعد ذلك الكوفة، ومات بها. ذكره في «الإصابة» . (قالت: كنّا عند عتبة) - حال من- (أربع نسوة) ، لأنّه في الأصل صفة لها، فلما قدّم أعرب حالا، و «أربع» خبر كان، (فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب) ؛ أي: في تحصيل أحسنه واستعماله، (لتكون أطيب من صاحبتها) كما هو شأن الضرائر، (وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا) مطيّبا (يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا وكان إذا خرج إلى النّاس؛ قالوا: ما شممنا) - بكسر الميم الأول وتفتح، وإسكان الثانية- (ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنّا لنجتهد في الطّيب؛ ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ) - بحذف ألف «ما» الاستفهامية، لأنّه يحذف إذا دخل عليها حرف الجر، أي: من أي سبب- (ذلك) الوصف الذي ثبت لك؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 فقال: أخذني الشّرى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتيته، فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي، وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثمّ مسح ظهري وبطني بيده، فعبق بي هذا الطّيب من يومئذ. رواه الطّبرانيّ في «معجمه الصّغير» . وروى أبو يعلى ... (فقال: أخذني الشّرى) - كالصّدى: بثور صغار حمر حكّاكة مكربة، تحدث دفعة غالبا، وتشتدّ ليلا لبخار حارّ يثور في البدن دفعة؛ كما في «القاموس» - (على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي) وما حوله، واقتصر عليه بكونه أفحش، ويحتمل خلافه، (فنفث) - أي: تفل- (في يده) الشريفة (ثمّ مسح ظهري وبطني بيده) الشريفة. (فعبق) - بفتح الباء، أي: لزق- (بي هذا الطّيب من يومئذ. رواه الطّبرانيّ) : سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللّخمي الشامي، أبو القاسم، من كبار المحدثين، أصله من طبرية الشام؛ وإليها نسبته، ولد بعكا سنة: - 260- ستين ومائتين هجرية، ورحل إلى الحجاز واليمن ومصر والعراق وفارس والجزيرة، وتوفي بأصبهان سنة: - 360- سنة ستين وثلثمائة هجرية، وله ثلاثة معاجم في الحديث: «كبير» و «صغير» و «أوسط» ؛ طبع الصغير «1» ، رتّب فيه أسماء المشايخ على الحروف، وله كتب في التفسير، والأوائل، ودلائل النبوة، وغير ذلك، رحمه الله تعالى آمين (في «معجمه الصّغير» ) و «الكبير» أيضا، كما في «الإصابة» . (وروى أبو يعلى) : أحمد بن علي بن المثنّى التميميّ الموصليّ الحافظ   (1) والكبير والأوسط أيضا؛ على نقص في الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 والطّبرانيّ قصّة الّذي استعان بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة فسلت له فيها من عرقه، وقال: «مرها فلتطّيّب به» ، فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب، فسمّوا «بيت المطيّبين» . المشهور الثقة، نعته الذهبي ب «محدّث الموصل» ، عمّر طويلا وتفرّد ورحل الناس إليه، وزاد عمره على المائة، وكانت وفاته سنة: - 307- سبع وثلثمائة- بتقديم المهملة على الموحدة- بالموصل، وله كتب منها «المعجم» في الحديث، و «مسندان» كبير وصغير. (والطّبرانيّ) ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (قصّة) - مفعول «روى» - (الّذي استعان بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة) - أي: طلبها من الرجل- (فسلت) ؛ أي: مسح بأصبعه (له فيها من عرقه) - محرّكة؛ أي بعضه- (وقال: «مرها فلتطّيّب به» ) وهذا الحديث ذكره المصنف بالمعنى تبعا لصاحب «المواهب» . ولفظ أبي يعلى والطبرانيّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: جاء رجل فقال: يا رسول الله؛ إنّي زوّجت ابنتي؛ وأنا أحبّ أن تعينني بشيء، قال: «ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدا فاتني بقارورة واسعة الرّأس وعود شجرة، وآية ما بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب» . فلما كان من الغد أتاه بذلك، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يسلت العرق عن ذراعيه حتّى امتلأت القارورة؛ فقال: «خذها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتطيّب به» . (فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب) ، وإن بعدوا عن دارها؛ هذا ظاهره، ولا مانع؛ إذ هو أمر خارق، (فسمّوا «بيت المطيّبين» ) قال الذهبي: حديث منكر؛ أي ضعيف. انتهى «زرقاني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 [الفصل الخامس في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه] الفصل الخامس في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكّة يتطيّب منها. ومعنى (السّكّة) : طيب ... (الفصل الخامس) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة طيبه صلّى الله عليه وسلم وتطيّبه) ؛ أي: استعماله الطيب وما يتعلّق بذلك فائدة: يتأكّد الطّيب للرجال في نحو يوم الجمعة، والعيدين، وعند الإحرام، وحضور الجماعة، والمحافل، وقراءة القرآن، والعلم، والذكر، ويتأكّد لكلّ من الرجل والمرأة عند المباشرة، فإنّه من حسن المعاشرة. روى أبو داود في «سننه» ، والترمذي في «شمائله» بسند حسن؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه) قال: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سكّة) - بضم السين المهملة وتشديد الكاف، - قيل: هي طيب مركّب، وقيل: وعاء الطيب، فإن كان المراد بها هنا نفس الطيب فمن في قوله (يتطيّب منها) للتبعيض، وإن كان المراد بها الوعاء فهي للابتداء. قال العلّامة ابن حجر الهيتمي: والظاهر أنّ المراد بها: ظرف يوضع فيه الطيب؛ كما يشعر به قوله «منها» ، لأنه لو أريد بها نفس الطيب لقيل يتطيب بها؛ وقد علمت أنّه يصحّ إرادة نفس الطيب؛ وتكون «من» للتبعيض. وإنما قيل «منها» ليشعر بأنه يستعمل بدفعات، بخلاف ما لو قيل بها، فإنه يوهم أنّه يستعمله بدفعة؛ كما قاله ميرك. انتهى «باجوري» . (ومعنى السّكّة) - بتشديد السين والكاف-: (طيب) يتّخذ من الرامك ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مجموع من أخلاط، ويحتمل أن يكون وعاء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ المسك فيمسح به رأسه ولحيته. - بكسر الميم وتفتح-؛ وهو: شيء أسود يخلط بمسك، ويعرك ويقرص ويترك يومين، ثم يثقب بمسلّة؛ ثم ينظم في خيط، وكلّما عتق عبق؛ كذا في «القاموس» . وقال الجزري في «تصحيح المصابيح» : هي طيب (مجموع من أخلاط. ويحتمل أن يكون وعاء) للطيب. انتهى «باجوري» وغيره. وروى النسائي، والبخاري في «تاريخه» ؛ عن محمد بن علي؛ قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتطيّب؛ قالت: نعم بذكارة الطيب: المسك والعنبر، انتهى. قال في «النهاية» : ذكارة الطيب- بالكسر- وذكورته: ما يصلح للرجال، وهو ما لا لون له؛ كالمسك، والعنبر، والعود. انتهى. (و) أخرج أبو يعلى بسند حسن؛ عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأخذ المسك) - بكسر الميم-؛ وهو طيب معروف، وأصله دم يتجمّد في خارج سرّة الظبية ثم ينقلب طيبا، وهو طاهر إجماعا، ولا يعتدّ بخلاف الشيعة. انتهى «باجوري» . (فيمسح به رأسه ولحيته) ، ظاهره أن استعمال الطيب مطلوب مطلقا، ولو كان الشخص خاليا عن الناس، فيسنّ التطيّب بسائر أنواع الطيب، وأفضله المسك، ولا عبرة بقول العامّة «إنّه طيب النساء» . وقال حجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: الجاهل يظنّ أنّ ذلك من حبّ التزيّن للناس؛ قياسا على أخلاق غيره، وتشبيها للملائكة بالحدادين، وهيهات!! فقد كان مأمورا بالدعوة، وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم، وتحسين صورته في أعينهم، لئلا تزدريه نفوسهم، فينفّرهم ذلك عنه، ويتعلّق المنافقون به في تنفير الناس عنه، وهذا الفعل واجب على كل عالم تصدّى لدعوة الخلق إلى الحق. انتهى؛ نقله المناوي في «كبيره» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّخ رأسه بالمسك. وكان أنس لا يردّ الطّيب؛ وقال: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان لا يردّ الطّيب. فائدة: ليس من الكبر التجمّل بالملابس ونحوها، بل قد يكون ذلك مندوبا؛ كالتجمّل للصلوات والجماعات ونحوها، وفي حقّ المرأة لزوجها وهو لها، وفي حقّ العالم لتعظيم العلم في نفوس الناس، وقد يكون واجبا في حقّ ولاة الأمور وغيرهم؛ إذا توقف عليهم تنفيذ الواجب، فإن الهيئة المزرية لا تصلح معها مصالح العامّة في هذه الأعصار، لما جبلت عليه النفوس الآن من التعظيم بالصور؛ عكس ما كان عليه السلف الصالح من التعظيم بالدين والتقوى. انتهى؛ ذكره السيد محمد بن أحمد عبد الباري الأهدل في «نشر الأعلام» ؛ شرح «البيان والإعلام» للسيد أبي بكر بن أبي القاسم الأهدل رحمه الله. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز النسائي: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يضمّخ) - بتشديد الميم وآخره خاء معجمة- أي: يلطّخ (رأسه بالمسك) بأن يأخذ المسك بيده الشريفة فيمسح به رأسه؛ كما بيّنته الرواية السابقة. (و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن ثمامة بن عبد الله قال: (كان أنس) بن مالك (لا يردّ الطّيب، وقال) - أي: أنس-: (إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لا يردّ الطّيب) - أي: لخفّة المنّة فيه، وقد ورد النهي عن ردّه مقرونا ببيان الحكمة، في حديث صحيح: رواه أبو داود، والنسائي، وأبو عوانة؛ من طريق عبيد الله بن أبي جعفر؛ عن الأعرج؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من عرض عليه طيب فلا يردّه، فإنّه خفيف المحمل طيّب الرّائحة» . قال ميرك: وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن قال «ريحان» بدل «طيب» ! ورواية الجماعة أثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وعن أبي عثمان النّهديّ رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أعطي أحدكم الرّيحان ... والمحمل هنا- بفتح الميم الأولى وكسر الثانية-، والمراد به الحمل- بفتح الحاء المهملة-، والمعنى أنّه ليس بثقيل؛ بل قليل المنّة، ومع هذا طيّب الرائحة، والطّيب ذو الرائحة الطيبة جعله الله تعالى نافعا لمالكه وغيره، فلا يختصّ مالكه إلّا بكونه حامله، والمقصود منه مشترك بينه وبين غيره، والهديّة إذا كانت قليلة وتتضمّن منفعة فلا تردّ، لئلا يتأذّى المهدي؛ إذا لم يكن طماعا. انتهى «باجوري وعلي قاري» . ويلحق بالطيب كلّ ما لا منّة فيه كالوسادة والدّهن والحلو، ورزق من يحتاج إليه، وقد أوصلها السيوطي إلى سبعة، ونظمها فقال: عن المصطفى سبع يسنّ قبولها ... إذا ما بها قد أتحف المرء خلّان فحلو وألبان ودهن وسادة ... ورزق لمحتاج وطيب وريحان (و) أخرج أبو داود في «مراسيله» ، والترمذي في «الشمائل» و «الجامع» ؛ وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ (عن أبي عثمان النّهديّ) - بفتح النون وسكون الهاء- نسبة إلى بني نهد قبيلة باليمن، واسمه عبد الرحمن بن ملّ- بتثليث الميم وتشديد اللام- ابن عمرو بن عدي، مشهور بكنيته، ثقة عابد، مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ولم يجتمع به، فليس بصحابي، وإنما سمع من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي موسى، وروى عنه قتادة وغيره، ومات سنة: خمس وتسعين- بتقديم المثناة على المهملة-، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل أكثر، فالحديث مرسل؛ كما صرّح به السيوطيّ في «الجامع الصغير» (رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أعطي) - بالبناء للمفعول- و (أحدكم) - نائب فاعل؛ وهو المفعول الأول والريحان مفعول ثان-، أي: إذا عرض على أحدكم- (الرّيحان) - وهو كلّ نبت طيّب الريح من أنواع المشمومات؛ على ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فلا يردّه؛ فإنّه خرج من الجنّة» . وعن أنس رضي الله عنه: كان أحبّ الرّياحين إليه صلّى الله عليه وسلّم الفاغية. «النهاية» ، فمنه الورد والفاغية والنّمام وغيرها- (فلا يردّه) - بفتح الدال-، وهو نصّ في كونه نهيا، بخلاف ما لو روي- بضم الدال- فإنه يحتمل أنّها نافية، فيكون نفيا لفظا؛ نهيا معنى، كقوله تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (79) [الواقعة] . وتقدّم قريبا خبر مسلم: «من عرض عليه ريحان فلا يردّه فإنّه خفيف المحمل طيّب الرّيح» . (فإنّه خرج من الجنّة» ) ، يحتمل أن بذره خرج من الجنة، وليس المراد أنه خرجت عينه من الجنّة. وإنّما خلق الله الطيب في الدنيا!! ليذكر به العباد طيب الجنة، ويرغبون فيها بزيادة الأعمال الصالحة؛ ليصلوا بسببها إلى الجنة. والحاصل أنّ طيب الدنيا أنموذج من طيب الجنة، وإلّا! فطيبها يوجد ريحه مسيرة خمسمائة عام؛ كما في حديث. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ من حديث عبد الحميد بن قدامة- وهو حسن لغيره- (عن أنس) خادم رسول الله (رضي الله عنه) قال: (كان أحبّ الرّياحين) - جمع ريحان: نبت طيّب الريح؛ أو كلّ نبت طيب الريح؛ كذا في «القاموس» وفي «المصباح» : الريحان كل نبت طيب الريح، لكن إذا أطلق عند العامة انصرف إلى نبات مخصوص- (إليه صلّى الله عليه وسلم الفاغية) نور الحنّاء، وهو من أطيب الرياحين وأحسنها، وجاء خبر «أنّها سيّدة الرّياحين في الدّنيا والآخرة» . وفي «الشّعب» ؛ عن ابن درستويه: الفاغية: عود الحناء يغرس مقلوبا فيخرج بشيء أطيب من الحناء فيسمّى «الفاغية» ، وفيه منافع كثيرة من أوجاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 و (الفاغية) : زهر الحنّاء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّيح الطّيّبة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب والرّائحة الحسنة، ويستعملهما كثيرا، ويحضّ عليهما، ... العصب والفالج والصداع وأوجاع الجنب والطحال وغيرها. (والفاغية: زهر الحنّاء) ، وقيل: عود الحناء- كما سبق-. (و) أخرج أبو داود، والحاكم- وهو حديث صحيح؛ كما قال العزيزي-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبه الرّيح الطّيّبة) ، لأنها غذاء الروح، والروح مطيّة القوى، والقوى تزداد بالطيب، وهو ينفع الدماغ والقلب وجميع الأعضاء الباطنة، ويفرح القلب ويسرّ النفس، وهو أصدق شيء للروح وأشدّه ملاءمة لها، وبينه وبين الروح نسب قريب، فلهذا كان أحبّ المحبوبات إليه من الدنيا؛ ذكره المناوي في «الكبير» (و) في «الشفاء» للقاضي عياض: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يحبّ الطّيب) وهو كل ما يتطيّب به؛ من بخور ومسك وعنبر ونحوها، (والرّائحة الحسنة) الحاصلة من غير جنس الطيب، كالريحان وسائر الزهور العطرة، ولذا كان صلّى الله عليه وسلم لا يردّ هديّتها (ويستعملهما) أي: الطيب والرائحة (كثيرا) أي: في أكثر أوقاته استعمالا مناسبا لكلّ منهما، مع أنّه بذاته بل وبفضلاته طيب؛ كما هو مقرّر في محلّه، وكان استعمالها لزيادة المبالغة بنيّة ملاقاة الملائكة، فإنّهما تقوّيان الحواسّ، وتورثان النشاط والقوة، والملائكة تحبّهما وتكره الرائحة الخبيثة، بعكس الشياطين. (ويحضّ عليهما) بضمير التثنية للطيب والرائحة، وفي نسخة «عليها» فالضمير لها، لأنها المقصودة من الطيب، لا لأنّها أعمّ كما قيل لتغايرهما، أي: كان صلّى الله عليه وسلم يحثّ الناس ويحرّضهم على استعمال ذلك، لما لهم فيه من الفوائد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ويقول: «حبّب إليّ من دنياكم: النّساء، ... ولحضور الملائكة الحفظة والكتبة عندهم، ولملاقاتهم له بما يحبّه، ومن مروءة الإنسان نظافته وطيب رائحته. (ويقول) - كما في الحديث الذي رواه النسائي، والطبرانيّ في «الأوسط» و «الصغير» ، والحاكم في «المستدرك» - بسند جيد بدون لفظ: وجعلت؛ وقال: على شرط مسلم-، والبيهقي في «سننه» ، وأبو عوانة في «مستخرجه على الصحيح» ، وابن عدي في «كامله» ، - وقال العقيلي: إنّه ضعيف، لكن قال الحافظ: إسناده حسن، قال الشهاب الخفاجيّ كالحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» : وأخرجه أحمد وأبو يعلى في «مسنديهما» ، قال الزرقاني: وأخرجه الإمام أحمد في «كتاب الزهد» ، ووهم من عزاه ل «مسنده» - كلّهم؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ( «حبّب) - بالبناء للمفعول- (إليّ من دنياكم: النّساء) لنقل ما بطن من الشريعة مما يستحيا من ذكره بين الرجال. قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل نبوّتهم، وذلك أن النّور إذا امتلأ منه الصدر، فغاص في العروق؛ التذّت النفس والعروق؛ فأثار الشهوة وقوّاها. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السرّ في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّ الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يستحيا من ذكره، وما لا يستحيا منه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشدّ الناس حياء، فجعل الله له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله؛ ويسمعنه من أقواله التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال، ليكتمل نقل الشريعة، فقد نقلن ما لم يكن ينقله غيرهن، في ما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوّته، ومن جدّه واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كلّ ذي لبّ أنّها لا تكون إلّا لنبي، وما كان يشاهدها غيرهنّ، فحصل بذلك كلّ خير عظيم. انتهى «عزيزي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 والطّيب، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» . (والطّيب،) لأنّه حظّ الملائكة، ولا غرض لهم في شيء من الدنيا سواه، فكأنّه يقول: حبّي لهاتين إنما هو لأجل غيري، قال الطيبي: جيء بالفعل مجهولا!! دلالة على أنّ ذلك لم يكن من جبلّته وطبعه، وأنه مجبور على هذا الحبّ؛ رحمة للعباد ورفقا بهم، بخلاف الصلاة فمحبوبة له بذاتها فلذا قال: (وجعلت قرّة عيني) - فرحها وسرورها- (في الصّلاة» ) ذات الركوع والسجود، لأنّها محلّ المناجاة ومعدن المصافاة. وقيل: المراد صلاة الله وملائكته عليه، ومنع بأنّ السياق يأباه. وقدّم النساء!! للاهتمام بنشر الأحكام وتكثير سواد الإسلام، وأردف بالطّيب؛ لأنّه من أعظم الدوعي لجماعهنّ، مع حسنه بالذّات وكونه كالقوت للملائكة، وأفرد الصلاة عنهما!! لأنّها غيرهما بحسب المعنى، إذ ليس فيها تقاضي شهوة نفسانية؛ كما فيهما. قال العلامة ابن الحاج في كتابه «المدخل» : وانظر إلى حكمة قوله عليه الصلاة والسلام «حبّب إليّ» ولم يقل: أحببت، وقال «من دنياكم» ، فأضافها إليهم؛ دونه عليه الصلاة والسلام، فدلّ على أن حبّه كان خاصّا بمولاه تبارك وتعالى، فلذا غاير؛ فقال: «وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» ، فكان عليه الصلاة والسلام بشري الظّاهر؛ ملكوتي الباطن، وكان عليه الصلاة والسلام لا يأتي إلى شيء من الأحوال البشرية إلّا تأنيسا لأمّته وتشريعا لها، لا لأنّه محتاج إلى شيء من ذلك بحيث لو تركه لأضرّ به، ألا ترى إلى قوله تعالى (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [50/ الأنعام] ، فقال «لكم» ولم يقل «إني ملك» ؛ فلم ينف الملكيه عنه إلّا بالنسبة إليهم، أعني بكونه ملكا في معانيه عليه الصلاة والسلام؛ لا في ذاته الكريمة، إذ أنه عليه الصلاة والسلام يلحق بشريته ما يلحق البشر، ولهذا قال سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي: هو بشر ليس كالأبشار، كما أن الياقوت حجر ليس كالأحجار، وهذا منه رحمه الله تعالى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ورواية: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» .. لا أصل لها، ففي «المواهب» : ... سبيل التقريب للفهوم، فدلّ على أنّه صلّى الله عليه وسلم كان ملكيّ الباطن، ومن كان ملكي الباطن ملك نفسه، فلا تغلب عليه بحب شيء من الدنيا. انتهى كلام «المدخل» ؛ نقله عنه القسطلّاني. قال المصنف رحمه الله: (ورواية: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» ) ؛ كما اشتهر على الألسنة (لا أصل لها، ففي) «شرح الشفاء» للعلامة ملّا علي قاري: إنّ لفظ «ثلاث» خطأ فاحش. ومما يدلّ على بطلانه تغيّر سياق الحديث في قوله: «وجعلت ... الخ» . انتهى. وقال الشهاب الخفاجي: إنّها غير ثابتة؛ وإن أثبتها الزمخشري والغزاليّ في «الإحياء» ، والقاضي عياض تبعا لهم، وقد أفردنا هذا الحديث بتعليقة مستقلة. انتهى. وفي ( «المواهب) اللدنية» للعلامة القسطلاني: تنبيه: وقع في «الإحياء» للغزالي في موضعين، وفي تفسير آل عمران؛ من «الكشاف» عند قوله تعالى (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [97/ آل عمران] وتبعه البيضاوي، وكذا وقع للراغب وابن عربي في «الفصوص» وكثير من كتب الفقهاء «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» ، وقالوا: إنه عليه الصلاة والسلام، قال «ثلاث» ولم يذكر إلّا اثنتين: الطّيب والنّساء!! لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تعيين ما يصلح جعله مثالا للمتروك، ومنه قول الشاعر: إنّ الأحامرة الثّلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا الخمر والماء القراح وأطّلي ... بالزّعفران فلا أزال مولّعا وبعضهم ينشدها هكذا: إنّ الأحامرة الثّلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا الرّاح واللّحم السّمين وأطّلي ... بالزّعفران فلن أزال مولّعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: فلم يذكر الماء، وهذا عندهم يسمّى «طيّا» ، وهو: أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلّم، كإبهامه على السامع، لعدم إرادة المتكلّم وقوف السامع عليه لنكتة، وأنشد الزّمخشريّ شاهدا عليه قول جرير: كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها فصرّح بذكر ثلثين وطوى ذكر الثالث، كأنه قيل: والثالث من الأخيار الذين ليسوا موالي ولا عبيدا، وفائدة الطيّ عندهم: تكثير ذلك الشيء، لتذهب النفس كلّ مذهب ممكن، لكن هذا التكلّف إنّما يجيء لو ورد لفظ «ثلاث» ولم يرد!!. فقد (قال شيخ الإسلام) شهاب الملّة والدين أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد أبو الفضل (الحافظ ابن حجر) : لقب لبعض آبائه، الكناني العسقلاني القاهريّ الشافعي، الحافظ الكبير الشهير، الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعلله في الأزمنة المتأخّرة. ولد في ثاني عشر شعبان سنة: - 773- ثلاث وسبعين وسبعمائة بمصر. ونشأ بها يتيما في كنف أحد أوصيائه فحفظ القرآن؛ وهو ابن تسع، وتفقّه بالبلقيني والبرماوي وابن الملقّن والعزّ بن جماعة، وعليه أخذ غالب العلوم الآلية والأصولية، ثم حبّب الله إليه فنّ الحديث، فأقبل عليه بكلّيّته فعكف على الزين العراقي وحمل عنه علم الحديث؛ سندا ومتنا، وعللا واصطلاحا. وارتحل إلى بلاد الشام والحجاز واليمن ومكة، وأكثر جدا من المسموع والشيوخ، وسمع العالي والنازل، واجتمع له من ذلك ما لم يجتمع لغيره، وأدرك من الشيوخ جماعة كلّ واحد رأس في فنّه الذي اشتهر به؛ فالتنوخيّ في معرفة القراءات، والعراقيّ في الحديث، والبلقينيّ في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقّن في كثرة التصانيف، والمجد صاحب «القاموس» في حفظ اللغة، والعزّ بن جماعة في تفنّنه في علوم كثيرة بحيث كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 إنّ لفظ «ثلاث» لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى، وكذلك قاله الوليّ العراقيّ ... ثم تصدّى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه؛ مطالعة وإقراء، وتصنيفا وإفتاء، وتفرّد بذلك، وشهد له بالحفظ والإتقان القريب والبعيد، والعدوّ والصديق، حتّى صار إطلاق لفظ «الحافظ» عليه كلمة إجماع، ورحل الطلبة إليه من الأقطار، وطارت مؤلفاته في حياته، وانتشرت في البلاد، وتكاتبت الملوك من قطر إلى قطر في شأنها، وهي كثيرة جدّا عدّدها السخاوي في «الضوء اللامع» ، وأخذ عنه الناس طبقة بعد طبقة، وألحق الأصاغر بالأكابر. واستمر على طريقته حتى مات في أواخر ذي الحجة سنة: - 852- اثنين وخمسين وثمانمائة، وكان له مشهد لم ير مثله، ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى. قال في تخريج أحاديث «الكشاف» : (إنّ لفظ «ثلاث» لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى) ، لأن الصلاة ليست من أمور الدنيا. (وكذلك قاله) شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم (الوليّ) ؛ أي: ولي الدين بن زين الدين (العراقيّ) الحافظ ابن الحافظ، الإمام العلّامة المتفنّن المحقّق البارع. ولد في سحر يوم الإثنين ثالث ذي الحجة سنة: - 762- اثنتين وستين وسبعمائة بالقاهرة، وأحضره والده على جماعة من الشيوخ، ورحل به إلى دمشق فأحضره بها على أعيان علمائها، وأخذ عمن دبّ ودرج، وكتب الطّباق وضبط الأسماء، وتدرّب بوالده في الحديث وفنونه، وكذا في غيره من فقه وأصول وعربية ومعان وبيان، وبرع في جميع ذلك وشارك في غيرها من الفضائل، وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس، واستمرّ يترقّى لمزيد ذكائه حتى ساد، وأبدأ وأعاد، وظهرت نجابته ونباهته، واشتهر فضله وبهر عقله، مع حسن خلقه وخلقه، وشرف نفسه، وتواضعه، وانجماعه، وصيانته وديانته، وأمانته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 في «أماليه» ، ... وعفّته، وضيق حاله وكثرة عياله، ودرّس وهو شاب في حياة أبيه؛ وقال أبوه مادحا لدروسه: دروس أحمد خير من دروس أبه ... وذاك عند أبيه منتهى أربه وولي القضاء بعد موت والده، فسار فيه أحسن سيرة، بعفّة ونزاهة، وحرمة وصرامة، وشهامة ومعرفة، وله مؤلفات كثيرة، وأقرأ مصنّفاته في حياته، وكان موته مبطونا شهيدا آخر يوم الخميس سابع عشر من شعبان سنة؛- 826- ست وعشرين وثمانمائة، ثم دفن إلى جنب والده بتربته رحمه الله تعالى. (في «أماليه» ) - جمع إملاء؛ وهو: من وظائف العلماء قديما، خصوصا الحفاظ من أهل الحديث في يوم من أيّام الأسبوع يوم الثلاثاء؛ أو يوم الجمعة، وهو المستحبّ، كما يستحبّ أن يكون في المسجد لشرفهما «1» . وطريقهم في الإملاء: أن يكتب المستملي في أوّل القائمة: هذا مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا، ويذكر التاريخ، ثم يورد المملي بأسانيده أحاديث وآثارا، ثم يفسّر غريبهما ويورد من الفوائد المتعلّقة بها بإسناد؛ أو بدونه ما يختاره ويتيسر له، وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيا كثيرا، ثم ماتت الحفّاظ وقلّ الإملاء. وقد شرع الحافظ السيوطيّ في الإملاء بمصر سنة: - 872- اثنتين وسبعين وثمانمائة، وجدّده بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ ابن حجر، على ما قاله في «المزهر» . وكتب الأمالي كثيرة: منها أمالي أبي زرعة الوليّ العراقي المذكورة، وهي تنوف عن ستمائة مجلس، وقبلها أمالي ابن السّمعاني، وابن عساكر، وابن دريد، وابن الشجري، وابن الحاجب، أمالي الحافظ السلامي، أمالي المحاملي، أمالي   (1) أي: شرف الجمعة وشرف المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وعبارته: (ليست هذه اللّفظة: وهي (ثلاث) في شيء من كتب الحديث ... بديع الزمان الهمذاني، أمالي ثعلب، أمالي الزمخشري، أمالي الزجاج، أمالي الإمام الرافعي، أمالي الإمام الشافعي، أمالي شمس الأئمة السرخسي، أمالي الإمام أبي يوسف، أمالي الحاكم أبي عبد الله، أمالي قاضي خان، أمالي القالي، أمالي القضاعي، أمالي الحافظ ابن حجر العسقلاني، وهذه الأمالي أغلبها في الحديث، وبعضها في النحو والعربية، وبعضها في الفقه. وقد كانت سنّة الإملاء انقطعت بموت الحافظ ابن حجر وتلاميذه كالحافظين السخاوي والسيوطي، وبهما ختم الإملاء، فأحياه بعد مماته نادرة الدنيا في عصره ومصره، الذي لم يأت بعد الحافظ ابن حجر وتلاميذه أعظم منه اطلاعا، ولا أوسع رواية، ولا أعظم شهرة، ولا أكثر منه علما بهذه الصناعة الحديثية، الشيخ العلامة الحافظ السيد محمد بن محمد مرتضى الزبيدي المتوفى سنة: - 1205- خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى، خرّيت هذه الصناعة، ومالك زمام تلك البضاعة، فأحيا إملاء الحديث على طريق السلف، في ذكر الأسانيد والرّواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، ووصلت أماليه إلى نحو أربعمائة مجلس، كان يملي في كل إثنين وخميس، وقد جمع ذلك في مجلدات، ذكر ذلك الحافظ السيد عبد الحي الكتاني في كتاب «فهرس الفهارس» رحمهم الله تعالى. آمين. (وعبارته) قال العلامة المحقق أحمد بن حجر الهيتمي المكي رحمه الله تعالى في كتابه «الحق الواضح» : المقرّر الناقل متى قال «وعبارته كذا» تعيّن عليه سوق العبارة المنقولة بلفظها، ولم يجز له تغيير شيء منها، وإلّا كان كاذبا، ومتى قال: «قال فلان» كان بالخيار بين أن يسوق عبارته بلفظها؛ أو بمعناها من غير نقلها، لكن لا يجوز له تغيير شيء من معاني ألفاظها، انتهى نقله عنه في «الفوائد المكية» . (ليست هذه اللّفظة: وهي «ثلاث» في شيء من كتب الحديث) فليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وهي مفسدة للمعنى؛ فإنّ الصّلاة ليست من أمور الدّنيا، وكذا صرّح به الزّركشيّ وغيره، كما حكاه شيخنا- يعني الحافظ السّخاويّ ... مدرجة أيضا، كما زعمه من لا إلمام له بالفن، فالمدرج الملحق بحديث من قول راو بلا ظهور فصل. (وهي مفسدة للمعنى، فإنّ الصّلاة ليست من أمور الدّنيا. وكذا صرّح به) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر بدر الدين (الزّركشيّ) بوزن: الجعفري، التركي الأصل المصري الشافعي المشهور، العلامة المحقق الفقيه الأصولي المتفنن، المولود سنة: - 745- خمس وأربعين وسبعمائة، والمتوفى سنة: 794- سبعمائة وأربع وتسعين- بتقديم المثناة على المهملة-. له تصانيف كثيرة في عدّة فنون، منها «البرهان في علوم القرآن» ، و «البحر المحيط» في الأصول، و «لقطة العجلان» ، و «الديباج في توضيح المنهاج» ، و «الخادم شرح الروضة» ، و «الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة» ، و «قواعد الفقه» وغيرها، رحمه الله تعالى. قال في «الأحاديث المشتهرة» له: لم يرد فيه لفظ «ثلاث» وزيادته محيلة للمعنى، فإن الصلاة ليست من الدنيا. (وغيره) وكأنّهم لم يعتبروا توجيه الزمخشري وغيره بأنه من الطي، لأنّه إنّما يصار إليه لو وجدت «1» ، أما حيث لم توجد؛ فلا داعي للتوجيه، بل ذكر التوجيه والاعتناء به يوهم قاصر الباع في الحديث ورودها؛ (كما حكاه) ؛ أي: ما نقله عن الحافظ ابن حجر والوليّ العراقي والبدر الزركشي (شيخنا- يعني) العلّامة (الحافظ) أبا الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر الملقب «شمس الدين (السّخاويّ» ) الأصل، نسبة ل «سخا» : قرية غربي الفسطاط بمصر بلد آبائه، القاهري المولد والنشأة،   (1) أي لفظة «ثلاث» في الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 في «المقاصد الحسنة» - وأقرّه) انتهى. وأنكره أيضا ابن القيّم ... الشافعي المذهب، الإمام شيخ الإسلام، المؤرّخ المحقّق الرّحالة الناقد. المولود بالقاهرة في شهر ربيع الأول سنة: - 831- إحدى وثلاثين وثمانمائة، والمتوفى سنة: اثنتين وتسعمائة- بتقديم المثناة على السين- وقد تقدمت ترجمته رحمه الله تعالى (في) كتابه ( «المقاصد الحسنة) في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة» (وأقرّه) قائلا: ما رأيتها في شيء من طرق الحديث بعد مزيد التفتيش، وقال في جزء ألّفه في هذا الحديث: يمكن أن تكون الصلاة في أمور الدنيا بالنظر إلى اللذّة الحاصلة لمديمها؛ كما قال في «الإحياء» : جعل الصلاة من جملة ملاذّ الدنيا، لأنّ كلّ ما يدخل في الحس والمشاهدة؛ فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا، والتلذّذ بتحريك الجوارح بالسجود والركوع!! إنما يكون في الدنيا؛ فلذا أضافها إليها؛ انتهى. (انتهى) ؛ أي كلام «المواهب» ممزوجا بشيء من «شرح الزرقاني» عليها. (وأنكره) ؛ أي لفظ «ثلاث» . (أيضا) ؛ من آض إذا رجع، وكلمة «أيضا» لا تستعمل إلّا مع شيئين بينهما توافق، ويمكن استغناء كلّ منهما عن الآخر، وهو مفعول مطلق حذف عامله وجوبا؛ سماعا، أو حال حذف عاملها وصاحبها، والتقدير على الأول: ارجع إلى إنكار لفظ «ثلاث» رجوعا، وعلى الثاني: أنكر لفظ «ثلاث» راجعا إلى الإنكار لها ثانيا. قال الجلال السّيوطي: وتوقّف ابن هشام في عربيتها، وظنّ أنها مولّدة من استعمال الفقهاء، وليس كما ظنّ، فقد ثبتت عربيتها في الكلام الفصيح، وساق جملة من الأحاديث الدالّة على صحّة ما قاله، فليراجعه من أراده. (ابن القيّم) : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الزرعي الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي، العلامة الحافظ المجتهد المصنّف المشهور البارع، ولد سنة: - 691- إحدى وتسعين وستمائة، وأخذ عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 والده والصفيّ الهندي، وابن تيمية، وبرع في جميع العلوم، وغلب عليه حبّ ابن تيمية، حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، ومات في شهر رجب سنة: - 751- إحدى وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى. قال في «زاد المعاد» : من رواه «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» فقد وهم، ولم يقل صلّى الله عليه وسلم «ثلاث» ، والصلاة ليست من أمور الدنيا حتى تضاف إليها. انتهى. قال الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة: - 1162- اثنتين وستين ومائة وألف هجرية، في كتابه «كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس» ؛ بعد سوق ما تقدّم عن ابن حجر والولي العراقي والزركشي وابن القيّم ما نصّه: وأقول: في قولهم «بل هي مفسدة للمعنى؛ كقول الزركشي زيادة «ثلاث» محيلة للمعنى.. الخ» نظر؛ وإن أقرّوه، بل المحيل زيادة «من دنياكم ثلاث» ؛ لا لفظ «ثلاث» فقط فتأمّل. وقال الجلال السيوطي في تخريج أحاديث «الشفاء» : أخرجه النسائي، والحاكم، عن أنس بدون «ثلاث» . لكن عند أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الدنيا ثلاثة أشياء: النساء والطّيب والطعام، فأصاب اثنتين؛ ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب؛ ولم يصب الطعام.. إسناده صحيح، إلا أن فيه رجلا لم يسمّ. انتهى. وأقول: يؤخذ منه أن الثالثة هي الطعام على فرض ثبوت ثلاث فتأمّل. انتهى كلام العجلوني. وقد ذكر لفظة «ثلاث» الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، الأصولي النحوي المتكلّم الواعظ، صاحب التصانيف القريبة من مائة المتوفى سنة: - 406- ست وأربعمائة، وألف فيها جزءا مفردا، ووجّهها في هذا الجزء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب ويكره الرّائحة الرّديئة. وأطنب في ذلك، ونقله عنه العلامة الحافظ السخاوي في جزئه الذي ألّفه في هذا الحديث، فليطلبه من أراد. (و) قال الغزالي في «الإحياء» ، والشعراني في «كشف الغمة» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحبّ الطّيب) ، والروائح الطيبة؛ وإن كان هو طيّب الرائحة دائما كما مرّ- (ويكره الرّائحة الرّديئة) ؛ لأنها تضرّ بالروح وتحبّها الشياطين؛ عكس الملائكة، فإنها تحبّ الرائحة الطيبة، وقد سبق الكلام على حكمة محبّته للطيب وفوائده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 [الفصل السّادس في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم] الفصل السّادس في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم عن أنس رضي الله تعالى عنه: ما بعث الله نبيّا إلّا حسن الوجه، حسن الصّوت، وكان نبيّكم أحسنهم وجها، وأحسنهم صوتا. (الفصل السّادس) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة صوته) الشريف (صلّى الله عليه وسلم) ، وقد كان صوته على غاية من الحسن والسّعة؛ كما صرّحت به الأحاديث؛ فقد روى الترمذيّ في «جامعه» ، والدارقطني؛ من حديث قتادة (عن أنس رضي الله تعالى عنه) ؛ أي: موقوفا: (ما بعث الله نبيّا إلّا) - وقد خلقه- (حسن الوجه حسن الصّوت.) ليدلّ حسن ظاهره على حسن باطنه، إذ الظاهر عنوان الباطن، (وكان نبيّكم) من ابتداء وجوده وخلقته (أحسنهم) ؛ أي: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وجها، وأحسنهم صوتا) ، فحسن الوجه يدلّ على كمال الخلق والخلق؛ لأنّ الظاهر عنوان الباطن؛ كما قيل: يدلّ على معروفه حسن وجهه ... وما زال حسن الوجه أهدى الدّلائل وقال آخر في ضدّ ذلك: يدلّ على قبح الطّويّة ما ترى ... بصاحبها من قبح بعض ملامحه وحسن الصوت بكونه جهوريّا يسمع من بعيد؛ مع لطف فيه يدرك بالذوق، ولا يلزمه كونه على رسم الموسيقى. وهذا يدلّ على أنه صلّى الله عليه وسلم كان أجمل من يوسف وأحسن صوتا من داود عليهم الصلاة والسلام، باعتبار الصّباحة والملاحة وزيادة البلاغة والفصاحة، وكانت قراءته صلّى الله عليه وسلم في بيته ليلا تسمع عند الكعبة، وفيما بعد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وكان صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أسمع العواتق في خدورهنّ. منازل المدينة، وقد أعطى الله نبينا محمّدا صلّى الله عليه وسلم كمال الجلال والجمال من تمام الصباحة؛ فما رآه أحد إلّا هابه، ومن تمام الملاحة؛ فما رآه أحد إلّا أحبّه: منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم وأما قوله في حديث المعراج في يوسف: «فإذا أنا برجل [أحسن] ما خلق الله، قد فضل النّاس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب» رواه البيهقي، والطبراني، وابن عائذ!! فيحمل على أن المراد غير النبي صلّى الله عليه وسلم. ويؤيّده القول بأن المتكلّم لا يدخل في عموم خطابه، وقوله في رواية مسلم: «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» !! حمله ابن المنيّر على أن المراد أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلّى الله عليه وسلم. قال السخاوي في كتاب «الامتنان» : وقد سئل الجلال المحلي رحمه الله تعالى عن حديث (أعطي نبيّنا جميع الحسن. ويوسف شطره) !! فقيل: كيف يكون الشيء الواحد جميعه في شيء ونصفه في آخر!؟ فقال: لم يظهر لي جوابه، وكذا قال ابن حجر رحمهم الله تعالى؛ نقله عنه الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» . قال في «المواهب» : (وكان صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبلغ حيث) - أي: مكانا- (لا يبلغه صوت غيره) ، و «حيث» هنا بمعنى المكان مجرّدة عن الظرفية. (فعن البراء) - بتخفيف الراء- (قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم) فعلا صوته (حتّى أسمع العواتق) جمع عاتق؛ وهي: الشابّة أوّل ما تدرك. وقيل: التي لم تبن من والديها، ولم تتزوّج؛ وقد أدركت وشبّت، وتجمع أيضا على عتّق؛ كما في «النهاية» . وخصّهنّ بالذّكر!! لبعدهنّ واحتجابهن في البيوت، فسماعهنّ آية علوّ صوته زيادة على غيره (في خدورهنّ) جمع خدر؛ أي: ستر، ويطلق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة على المنبر، فقال للنّاس: «اجلسوا» ، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في بني غنم، فجلس في مكانه. وقال عبد الرّحمن بن معاذ التّيميّ رضي الله تعالى عنه: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى، ففتح الله أسماعنا، حتّى إن كنّا البيت إن كان فيه امرأة، وإلّا فلا. رواه البيهقي. (و) أخرج أبو نعيم: (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر؛ فقال للنّاس «اجلسوا» . فسمعه عبد الله بن رواحة) بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس الأكبر بن مالك الأعز بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الحارثي المدني رضي الله تعالى عنه- تقدمت ترجمته-. (وهو في بني غنم) - بغين معجمة مفتوحة فنون ساكنة فميم آخرة،: بطن من الخزرج بالمدينة- (فجلس في مكانه) ؛ مبالغة في الامتثال لأمره صلّى الله عليه وسلم، مع أنّه ليس مأمورا بذلك، إذ قصده أمر الحاضرين للخطبة بالجلوس. (و) أخرج ابن سعد: (قال عبد الرّحمن بن معاذ) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي (التّيميّ) ابن عمّ طلحة بن عبيد الله، قال البخاري وغيره: له صحبة. وعدّه ابن سعد من مسلمة الفتح «1» (رضي الله تعالى عنه: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمنى، ففتح الله أسماعنا) بأن خلق الله فيها قوّة سمع زيادة على معتادها، فكأنها كانت مغلقة ففتحت؛ فشبّه الأسماع بأبواب مغلقة، وأثبت لها الفتح تخييلا؛ فهو استعارة بالكناية تخييلية (حتّى) غاية لمقدر؛ أي: فقويت حتّى (إن كنّا) - مخففة من الثقيلة، بدليل اللام في   (1) أي الذين أسلموا في فتح مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا. وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا نسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جوف اللّيل عند الكعبة، وأنا على عريشي. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. اشتدّ غضبه وعلا صوته، ... - (لنسمع ما يقول؛ ونحن في منازلنا) وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي بلفظ: «ففتحت أسماعنا» بدل قوله: «ففتح الله أسماعنا» . (و) أخرج ابن ماجه؛ (عن أمّ هانىء) بنت أبي طالب واسمها: فاختة، وهي شقيقة الإمام علي كرّم الله وجهه- وقد مرّت ترجمتها- (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كنّا نسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في جوف اللّيل عند الكعبة) - متعلق ب «قراءة» - (وأنا على عريشي) ؛ أي: سريري، وحمله عليه أبلغ من سقف بيتي، كما هو أحد معاني العريش كالعرش؛ كما في «القاموس» ، فسماعها له وهي على سريرها داخل بيتها البعيد عن محلّ القراءة دليل على قوّته. وفي «الصحيحين» ؛ عن البراء: قرأ صلّى الله عليه وسلم في العشاء (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (1) فلم أسمع صوتا أحسن منه. وروى أبو الحسن بن الضحاك؛ عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه قال: كان صلّى الله عليه وسلم حسن النغمة. (و) أخرج مسلم؛ عن جابر بن سمرة، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم؛ عن جابر رضي الله تعالى عنهما: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا خطب) ؛ أي: وعظ (اشتدّ غضبه) لله سبحانه وتعالى على من خالف زواجره. قال القاضي عياض: يعني بشدّته: أنّ صفته صفة الغضبان، وهذا شأن المنذر المخوّف، ويحتمل أنّه لنهي خولف فيه شرعه، وهكذا تكون صفة الواعظ مطابقة لما يتكلّم به. وقال النووي: أو كان عند إنذاره أمرا عظيما. زاد في رواية: واحمرّت عيناه. (وعلا صوته) ؛ أي: رفع صوته ليؤثر وعظه في خواطر الحاضرين حتّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم. (كأنّه منذر) : محذّر (جيش) ؛ أي: كمن ينذر قوما من جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم، فإنّ المنذر المعلم يعرّف القوم بما يدهمهم من عدوّ؛ أو غيره، وهو المخوّف أيضا حال كونه (يقول: صبّحكم) - بفتح الصاد والباء المشدّدة- أي: أتاكم الجيش وقت الصباح (ومسّاكم) - بالفتح- مثقّلا؛ أي: أتاكم وقت المساء. قال الطّيبي: شبّه حاله في إنذاره وخطبته بقرب يوم القيامة، وتهالك الناس فيما يراد بهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم يقصد الإحاطة بهم؛ بغتة بحيث لا يفوته منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته وتحمرّ عيناه ويشتدّ غضبه على تغافلهم؛ فكذا حاله صلّى الله عليه وسلم عند الإنذار، وفيه أنّه يسنّ للخطيب تفخيم أمر الخطبة ورفع صوته وتحريك كلامه، ويكون مطابقا لما تكلّم به من ترغيب وترهيب. قال في «المطامح» : فيه دليل على إغلاظ العالم على المتعلّم، والواعظ على المستمع وشدّة التخويف. ثم هذا قطعة من حديث، وبقيته عند ابن ماجه وغيره: ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» ، ويقرن بين أصابعه السّبّابة والوسطى. ثم يقول: «أمّا بعد؛ فإنّ خير الأمور كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» . انتهى «مناوي وزرقاني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 [الفصل السّابع في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره] الفصل السّابع في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. يرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. احمرّت وجنتاه. (الفصل السّابع) ؛ من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة غضبه صلّى الله عليه وسلم و) في صفة (سروره) ، أما غضبه فقد ذكر العارف الشعراني في كتاب «كشف الغمة» : أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا غضب) لله تعالى (يرى رضاه وغضبه) ؛ أي: أثرهما (في وجهه) الشريف (لصفاء بشرته) - محرّكة-: ظاهر الجلد، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لطيف الظاهر والباطن، وهو علامة اعتدال المزاج. روى أبو الشيخ في «كتاب أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم» ؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرف رضاه وغضبه بوجهه ... الحديث، وإسناده ضعيف. (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن ابن مسعود، وعن أم سلمة رضي الله عنها: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا غضب احمرّت وجنتاه) تثنية وجنة؛ وهي ما ارتفع من لحم الخدّ، والجمع وجنات؛ مثل سجدة وسجدات، وهذا لا ينافي ما وصفه الله به من الرأفة والرحمة، لأنّه كما أنّ الرحمة والرّضا لا بدّ منهما للاحتياج إليهما؛ كذلك الغضب في حيّزه وأوانه ووقته وإبّانه، قال تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [2/ النور] ، وقال (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [29/ الفتح] ، فهو إذا غضب إنما يغضب لإشراق نور الله على قلبه؛ ليقيم حقوقه وينفّذ أوامره، وليس هو من قبيل العلو في الأرض، وتعظيم المرء نفسه، وطلب تفرّدها بالرئاسة، ونفاذ الكلمة في شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب وهو قائم.. جلس، وإذا غضب وهو جالس.. اضطجع، فيذهب غضبه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. لم يجترىء عليه أحد إلّا عليّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبعد النّاس غضبا، وأسرعهم رضا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يغضب لربّه عزّ وجلّ، ولا يغضب لنفسه. (و) أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب «ذم الغضب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا غضب وهو قائم جلس، وإذا غضب وهو جالس اضطجع) ، لأن ذلك أبعد عن المسارعة إلى الانتقام؛ وأسكن للحدّة، (فيذهب غضبه) وهو تعليم للأمّة، وإلا فغضبه صلّى الله عليه وسلم لله تعالى فلا ينبغي تسكينه، وكان تارة يتوضّأ لإطفاء الغضب. (و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ وقال: صحيح، والطبراني بزيادة؛ كلّهم عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا غضب لم يجترىء) - بسكون الهمزة- (عليه أحد) . زاد الطبراني: أن يكلمه (إلّا) أمير المؤمنين (عليّ) بن أبي طالب، لما يعلمه من مكانته عنده وتمكّن ودّه من قلبه بحيث يحتمل كلامه في حال الحدّة، فأعظم بها منقبة للإمام علي تفرّد بها عن غيره. (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أبعد النّاس غضبا، وأسرعهم رضا) . هذا من المعلوم. ويدلّ على ذلك إخباره صلّى الله عليه وسلم: أنّ بني آدم خيرهم بطيء الغضب سريع الفيء. رواه الترمذي؛ من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: حديث حسن، وهو صلّى الله عليه وسلم خير بني آدم وسيّدهم. (و) في «كشف الغمة» «كالإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يغضب لربّه عزّ وجلّ) ، ولا يغضب لأجل الدنيا، لعدم نظره إليها ومبالاته بها، (ولا يغضب لنفسه) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وكان ينفّذ الحقّ وإن عاد ذلك بالضّرر عليه وعلى أصحابه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كره شيئا.. عرف ذلك في وجهه. ولا ينتصر لها، بل يعفو عن المعتدي عليه؛ لكمال حسن خلقه، فلم يبق فيه حظّ من حظوظ الدنيا وشهواتها وإراداتها، بل تمحّضت حظوظه وأغراضه وإرادته لله سبحانه وتعالى، فهو معرض عن حقوق نفسه؛ قائم بحقوق ربه. قال العراقي: رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة، وفيه: وكان لا تغضبه الدنيا وما كان منها، فإذا تعدّي الحقّ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه؛ ولا ينتصر لها. وفيه راو لم يسمّ. انتهى؛ نقله شارح «الإحياء» . (و) فيهما أيضا: (كان ينفّذ) - بالفاء المشددة والذال المعجمة- (الحقّ؛ وإن عاد ذلك بالضّرر عليه وعلى أصحابه) ، أشار به إلى قصّة أبي جندل بن سهيل بن عمرو، وهي عند البخاري في قصّة الحديبية، وذكرها في «الشروط» مطوّلة؛ كذا وجد بخطّ الحافظ ابن حجر في طرّة كتاب شيخه، وقد أغفله العراقي؛ قاله في «شرح الإحياء» . (و) روى الطبراني في «الأوسط» - بإسنادين؛ رجال أحدهما رجال الصحيح- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا كره شيئا عرف) - رواية الطبراني: رؤي- (ذلك في وجهه) الشّريف، لأنّ وجهه؛ كالشمس والقمر، فإذا كره شيئا كسا وجهه ظلّ كالغيم على النّيّرين، فكان لغاية حيائه لا يصرّح بكراهته، لأنه لا يواجه أحدا بما يكره، بل إنما يعرف في وجهه. وهذا الحديث أصله في «الصحيحين» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، ولفظه: كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه. ذكره المناوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وأمّا سرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ.. استنار وجهه كأنّه القمر. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ.. فكأنّ وجهه المرآة، وكأنّ الجدر يرى شخصها فيه. (وأمّا سرور رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: فرحه بشيء!! (فقد) روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه) ؛ أي: أضاء ورئي فيه البشر (كأنّه) أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور وهو جبينه (القمر) ؛ في الإشراق والاستنارة، ورواية «الصحيحين» : قطعة قمر. وكأنّ المصنّف حذف لفظة «القطعة» جريا على عادة البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد بقطعة. وكعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة الفصحاء البلغاء، فلا يعدل عن المتعارف بينهم إلّا لسبب، فلا بدّ للتقييد بذلك من حكمة. ووجه العدول؛- كما قال البلقيني-: أنّ القمر فيه قطعة يظهر فيها سواد؛ وهو المسمى بالكلف، فلو شبّه بالمجموع لدخلت هذه القطعة في المشبّه به، وغرضه إنما هو التشبيه على أكمل الوجوه، فلذا قال: كأنه «قطعة قمر» يريد القطعة الساطعة الإشراق الخالية من شوائب الكدر. انتهى. (و) في «المواهب اللدنية» ؛ نقلا عن «النهاية» لابن الأثير: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا سرّ فكأنّ) - بتشديد النون- (وجهه المرآة) التي ترى فيها صور الأشياء، وهي ممدودة على وزن: مفتاح، جمعها مراء؛ على وزن جوار وغواش؛ كما في «المصباح» . (وكأنّ) - بتشديد النون- (الجدر) - بضمتين جمع جدار-؛ وهو الحائط تلاحك وجهه، والملاحكة: شدّة الملاءمة؛ أي (يرى شخصها) - أي: الجدر- (فيه) أي: في وجهه صلّى الله عليه وسلم لشدّة ضيائه وصفائه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 [الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه] الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه (الفصل الثّامن) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلم) . قال أهل اللغة: التبسّم مبادىء الضحك، أي: مقدّماته، والضحك: انبساط الوجه؛ أي: تهلّله وتلألؤه حتّى تظهر الأسنان من السرور، فإذا تهلّل الوجه لسرور قام به؛ انفتح الفم على الهيئة المعروفة، فإن كان بصوت؛ وكان بحيث يسمع من بعيد، فهو القهقهة، وإلّا يسمع من بعد؛ وهو بصوت فالضحك. فالفارق بين الثلاثة: أنّ التبسّم: انفتاح الفم بلا صوت. والضحك: انفتاحه مع صوت قليل. والقهقهة: انفتاحه بصوت قوي. والضحك خاصّة للإنسان، والغالب أنّه ينشأ من سرور يعرض للقلب، وقد يضحك غير المسرور. ويجوز فيه أربع لغات، وهي فتح أوله وكسره مع سكون ثانيه، وكسر أوله وثانيه، وفتح أوله وكسر ثانيه؛ كما يؤخذ من «القاموس» ، وهكذا كلّ ما كان ثلاثيا عينه حرف حلق نحو فخذ. انتهى. (و) في بيان ما ورد في صفة (بكائه) ؛ بالمدّ والقصر، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جمع الشاعر اللغتين؛ فقال: بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل والبكاء أنواع: 1- بكاء رحمة ورأفة، و 2- بكاء خوف وخشية، و 3- بكاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وعطاسه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا افترّ ضاحكا.. افترّ عن مثل سنا البرق إذا تلألأ، ... محبّة وشوق، و 4- بكاء فرح وسرور، و 5- بكاء جزع من ورود مؤلم على الشخص لا يحتمله، و 6- بكاء حزن، و 7- بكاء مستعار؛ كبكاء المرأة لغيرها من غير مقابل، و 8- بكاء مستأجر عليه؛ كبكاء النائحة، و 9- بكاء موافقة؛ وهو بكاء من يرى من يبكي فيبكي؛ ولا يدري لأي شيء يبكي، و 10- بكاء كذب؛ وهو بكاء المصرّ على الذنب. وبكاؤه صلّى الله عليه وسلم تارة يكون رحمة وشفقة على الميت، وتارة يكون خوفا على أمته، وتارة يكون خشية من الله تعالى، وتارة يكون اشتياقا ومحبّة مصاحبا للإجلال والخشية، وذلك عند استماع القرآن- كما سيأتي-. (و) في بيان ما ورد في (عطاسه) صلّى الله عليه وسلم، وهو مصدر من عطس يعطس- بالكسر- عطاسا- بضمّ العين على وزن غراب-. قال في «الاقتراح» : هو خاصّ بالإنسان، فلا يقال لغيره؛ ولو للهرة؛ نقله شيخنا. وفي الحديث: كان يحبّ العطاس ويكره التثاؤب. قال ابن الأثير: لأنّ العطاس إنما يكون مع خفّة البدن وانفتاح المسام وتيسير الحركات، والتثاؤب بخلافه، وسبب هذه الأوصاف تخفيف الغذاء والإقلال من الطعام والشراب. انتهى شرح «القاموس» . أما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم!! فقد ذكر القاضي عياض في «الشفاء» ، والغزاليّ في «الإحياء» أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا افترّ) - بتشديد الرّاء؛ أي: إذا أبدى أسنانه حال كونه- (ضاحكا) ؛ أي: متبسّما (افترّ) - أي: كشف- (عن مثل سنا) بقصر «سنا» ، وقد يمدّ، وقيل: بالقصر: النّور، وبالمد: الشرف والعلو، أي: يشبه ضوء- (البرق إذا تلألأ) في ظلمة الليل، أي: إذا كشف صلّى الله عليه وسلم عن أسنانه في حال ضحكه ظهر من فمه وبياض أسنانه لمعان كلمعان البرق، وهو تشبيه لنور ثغره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وعن مثل حبّ الغمام. وكان صلّى الله عليه وسلّم جلّ ضحكه التّبسّم. وإنما خصّ التشبيه بحال التبسم والسرور، وشبه ذلك بالبرق دون ما هو أضوأ منه؛ كالشمس والبدر!! إشارة إلى أنه لا يدوم ضحكه وانفتاح فمه، لأنّ كثرة الضحك غير محمودة، ولم يكن ذلك من دأبه صلّى الله عليه وسلم، ولأنّ تبسّمه لمخاطبه يعقبه نفع، وخير من عطائه وكلامه ورضاه، كما يعقب البرق المطر والرحمة العامّة. وهذا رواه البيهقي مسندا؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. (و) يفترّ (عن مثل حبّ الغمام) في بياضه ونقائه وصفائه. والغمام: هو السحاب، وحبّه: البرد- بفتحتين- الذي يشبه اللؤلؤ، والمعنى أنّه يضحك ضحكا حسنا كاشفا عن مثل حبّ الغمام في البياض والصفا والبريق واللمعان. وورد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المارّ: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان إذا ضحك يتلألأ في الجدر، أي: يشرق عليها إشراقا كإشراق الشمس. قال ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» : والتشبيه الثاني أولى من الأوّل. انتهى. وهذا رواه الترمذي في «الشمائل» والدارميّ، والبيهقي؛ من حديث هند بن أبي هالة وعائشة رضي الله تعالى عنهما. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، والقاضي عياض في «الشفاء» ؛ من طريق الترمذي؛ عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) متواصل الأحزان. وساق الحديث إلى أن قال: (جلّ) - بضم الجيم وتشديد اللام؛ أي: معظم- (ضحكه) وأكثره (التّبسّم) . وهو: بشاشة الوجه من غير تأثر تامّ في هيئة الفم، وقال: «جلّ» !! لأنّه ربما ضحك حتّى بدت نواجذه. كما سيأتي الكلام على ذلك، وهذا لا ينافي ما رواه البخاري في «الأدب» ، وابن ماجه في «سننه» : «لا تكثر الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وعن عبد الله بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضي الله [تعالى] عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطّ مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه لهواته. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عبد الله بن الحارث) بن جزء بجيم مفتوحة فزاي ساكنة فهمزة آخره- الزّبيدي مصغّرا، صحابي سكن مصر، خرّج له أبو داود وابن ماجه، ومات بعد الثمانين. قيل: سنة ست، وقيل: خمس، وقيل: سبع، وقيل: ثمان بعد أن عمي، وعمّر عمرا طويلا، وهو آخر من مات بمصر من الصحابة (رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، لأنّ شأن الكمّل إظهار الانبساط والبشر لمن يريدون تألّفه واستعطافه، مع تلبّسهم بالحزن المتواصل باطنا، فكثرة تبسّمه صلّى الله عليه وسلم لا تنافي كونه متواصل الأحزان. فاندفع ما أورد من أنه إذا كان كثير التبسّم كيف يكون متواصل الأحزان؟! فهو صلّى الله عليه وسلم دائم البشر؛ ومع ذلك هو دائم الحزن الباطن، حتّى أنّه قد تبدو آثاره على صفحات وجهه. (و) أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» ؛ (عن عائشة رضي الله) تعالى (عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطّ مستجمعا ضاحكا) ضحكا تامّا بحيث ينفتح فمه (حتّى أرى منه لهواته) - بفتحات؛ جمع لهاة، وتجمع على لهيات ولهى؛ مثل حصاة وحصى وحصيات؛ كما في «المصباح» - وهي: اللحمة التي بأعلى الحنجرة؛ أي: الحلق من أقصى الفم، وتمام الحديث: إنما كان يتبسم. والمعنى ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك؛ أي مطمئنا قاصدا للضحك الذي يغلب وقوعه للناس، بحيث يضحك ضحكا تامّا؛ مقبلا بكليته على الضحك، إنما كان يتبسّم، والتبسم أقلّ الضحك وأحسنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وعن عبد الله بن الحارث أيضا قال: ما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا تبسّما. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يحدّث حديثا إلّا تبسّم. وكان ضحك أصحابه صلّى الله عليه وسلّم عنده التّبسّم من غير صوت، اقتداء به، وتوقيرا له، وكانوا إذا جلسوا عنده.. كأنّما على رؤوسهم الطّير. قال في «الكشاف» : وكذلك ضحك الأنبياء لم يكن إلّا تبسّما. انتهى، وعليه فهو من خواصّه على الأمم؛ دون الأنبياء، انتهى «زرقاني» . (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» - وقال: غريب من حديث الليث بن سعد- (عن عبد الله بن الحارث) بن جزء (أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال: ما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا تبسّما) . هذا الحصر إضافيّ؛ أي: بالنسبة للغالب، لما تقرّر أنّه صلّى الله عليه وسلم ضحك أحيانا حتّى بدت نواجذه، إلّا أن يحمل على المبالغة. (و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» ؛ عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يحدّث حديثا) - يناسبه التبسّم، وفي رواية: «بحديث» - (إلّا تبسّم) ؛ أي: ضحك قليلا بلا صوت. (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان ضحك أصحابه صلّى الله عليه وسلم عنده) ؛ أي: في حضرته (التّبسّم) لا غير. أي: (من غير صوت؛ اقتداءا به) في كيفية ضحكه وهيئته، (وتوقيرا له) ؛ أي: تعظيما لحرمته. (وكانوا إذا جلسوا عنده) ، رواية الترمذي في «الشمائل» : إذا تكلّم أطرق جلساؤه (كأنّما) بزيادة «ما» الكافّة (على رؤوسهم الطّير) في السكوت والسكون؛ مهابة له وإجلالا، لشهودهم عليّ شأنه وكمال مرتبته، وتخلّقهم بأخلاقه، لا لسوء خلق فيه، حاشاه الله من ذلك. وفي التشبيه تنبيه على المبالغة في وصفهم بالسكوت والسكينة وعدم الخفّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جرى به الضّحك.. وضع يده على فيه. كان صلّى الله عليه وسلّم من أضحك النّاس، وأطيبهم نفسا. وورد في أحاديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه- أي: أضراسه- وإن كان ... لأنّ الطير لا يكاد يقع إلّا على شيء ساكن من الحركة. و «أل» في «الطير» للجنس، فالمراد جنس الطير مطلقا، وقيل: للعهد، والمعهود الباز. وهذا الحديث؛ قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذي في «شمائله» من حديث هند بن أبي هالة في أثناء حديثه الطويل. انتهى. وفيه تغيير في اللفظ. (و) أخرج البغوي في «معجمه» ؛ عن والد مرّة الثقفي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا جرى به الضّحك) ؛ أي: إذا وجد سببه وقوي عليه وغلبه؛ ولم يقدر على ردّه (وضع يده على فيه) حتّى لا يبدو شيء من باطن فمه، ولئلا يقهقه، وهذا كان نادرا. وأما في أغلب أحواله!! فكان لا يضحك إلّا تبسّما. (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» و «الأوسط» ؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم من أضحك النّاس، و) من (أطيبهم نفسا) ، بل كان أجود الناس على الإطلاق وأحسنهم خلقا، ومع ذلك لا يركن إلى الدنيا، ولا يشغله شاغل عن ربّه، بل كان استغراقه في حبّ الله إلى حدّ بحيث يخاف في بعض الأحيان أن يسري إلى قلبه فيحرقه، وإلى قالبه فيهدمه؛ فلذلك كان يضرب يده على فخذ عائشة رضي الله تعالى عنها أحيانا؛ ويقول: «كلّميني» ، ليشتغل بكلامها عن عظيم ما هو فيه، لقصور طاقة قالبه عنه، وكان طبعه الأنس بالله، وكان أنسه بالخلق عارضا رفقا ببدنه؛ ذكر ذلك كلّه الغزالي. انتهى «مناوي» . (وورد في أحاديث) صحيحة (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت) ؛ أي: ظهرت (نواجذه) - بكسر الجيم وبالذال المعجمة- (أي: أضراسه، وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلّم التّبسّم. الغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلم التّبسّم) ؛ كما جاء في صفة ضحكه «جلّ ضحكه التبسم» وقد تقدّم، والاقتداء به إنّما يكون فيما هو أغلب أحواله. قال العلقمي: قال العلامة محمد بن يوسف الدمشقي: قال أبو الحسن بن الضّحّاك: صحّت الأخبار وتظاهرت بضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غير موطن حتّى تبدو نواجذه. وثبت عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما. ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن التبسّم كان الأغلب عليه، ويمكن أن يكون الناقل عنه «أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما» ، لم يشاهد من النبي صلّى الله عليه وسلم غير ما أخبر به، ويكون من روى عنه «أنه ضحك حتى بدت نواجذه» قد شاهد ذلك في وقت ما؛ فنقل ما شاهده، فلا اختلاف بينهما لاختلاف المواطن والأوقات، ويمكن أن يكون في ابتداء أمره كان يضحك حتّى تبدو نواجذه في الأوقات النادرة، وكان آخر أمره لا يضحك إلّا تبسّما، وقد وردت عنه صلّى الله عليه وسلم أحاديث تدلّ على ذلك، ويمكن أن يكون من روى عنه أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما شاهد ضحكه حتّى بدت نواجذه نادرا؛ فأخبر عن الأكثر وغلّبه على القليل النادر. على أن أهل اللغة قد اختلفوا في النواجذ ما هي؟ فقال جماعة: إنّ النواجذ أقصى الأضراس من الفم موضعا، فعلى هذا تتحقّق المعارضة، ويمكن الجمع بين الأحاديث بما قلنا. ومنهم من قال: إنّ النواجذ هي الأنياب. وقال آخرون: هي الضواحك، فعلى هذين لا يكون في ظاهر الأخبار معارضة، لأنّ المتبسّم يلزمه ذلك. قال في «النهاية» : النواجذ- بكسر الجيم وبالذال المعجمة- وهي من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك؛ والأكثر الأشهر أنّها أقصى الأسنان، والمراد الأول، لأنّه ما كان يبلغ به الضحك حتّى تبدو أضراسه، كيف وقد تقدّم أنّ جلّ ضحكه التبسّم!؟ وإن أريد بها الأضراس! فالوجه فيه أن يراد به مبالغة مثله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فعن أبي ذرّ رضي الله [تعالى] عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعلم أوّل رجل يدخل الجنّة، ... ضحكه، من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس القولين لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان.. انتهى؛ نقله العزيزي على «الجامع الصغير» . ثم شرع المصنف في ذكر الأحاديث التي صرّح فيها بالنواجذ قائلا: (فعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن الرفيقة بن حرام بن غفار بن مليك بن ضمرة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الغفاري الحجازي. من السابقين إلى الإسلام. صحب النبي صلّى الله عليه وسلم حتّى مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائتا حديث وواحد وثمانون حديثا، اتفقا منها على اثني عشر حديثا، وانفرد البخاري بحديثين، وانفرد مسلم بسبعة عشر حديثا. روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن غنم، وجبير بن نفير، وخلق سواهم. وتوفي بالربذة سنة: اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه ابن مسعود، ثم قدم ابن مسعود المدينة فأقام عشرة أيام؛ ثم توفي. وكان أبو ذر طويلا عظيما، وكان زاهدا متقللا من الدنيا، وكان مذهبه أنّه يحرم على الإنسان ادخار ما زاد على حاجته، وكان قوّالا بالحقّ رضي الله تعالى عنه. وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» بألفاظ مختلفة، ولفظ الترمذي في «الشمائل» : حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث؛ قال: حدّثنا وكيع؛ قال: حدّثنا الأعمش؛ عن المعرور بن سويد؛ عن أبي ذر (رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي لأعلم) بالوحي (أوّل رجل يدخل الجنّة) - في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وآخر رجل يخرج من النّار، يؤتى بالرّجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له: عملت يوم كذا.. كذا وكذا، وهو مقرّ لا ينكر، وهو مشفق من كبارها، نسخة من «الشمائل» : إني لأعلم آخر رجل يدخل الجنة- (وآخر رجل يخرج من النّار) - ولم يذكر أوّل رجل يدخل النار، لأنّ كلامه فيمن يدخل الجنة. وإنما ذكر آخر رجل يخرج من النار!! لأنه آخر رجل يدخل الجنة، ولذا اقتصر عليه في أصحّ النسخ، وزاد علمه ليزيد وثوقا فيما أخبر به. فليس قوله (يؤتى بالرّجل يوم القيامة) تفصيلا لأول رجل يدخل الجنة كما وهم، بل هو استئناف لبيان حال رجل آخر، فلا تعلّق له بما قبله، إذ أوّل داخل هو المصطفى صلّى الله عليه وسلم؛ ولا ذنب له، وفي بعض النسخ: «ويؤتى بالرّجل يوم القيامة» ، بالواو التي للاستئناف. (فيقال) ؛ أي: يقول الله للملائكة: (اعرضوا) - بهمزة وصل وكسر راء؛ أمر من العرض- (عليه) ؛ أي: على الرجل (صغار ذنوبه) - بكسر الصاد؛ أي: صغائر ذنوبه، أي: أظهروها له في صحيفته، أو بصورها، وفيه دليل على أنّ الصغيرة ذنب، وأنّ من الذنوب صغائر وكبائر- (ويخبأ) - بصيغة المجهول؛ من الخبء بالهمز. أي: يخفى- (عنه) - أي: الرجل- (كبارها) أي: كبائر ذنوبه للحكمة الآتية، أي: والحال أنّه يخبأ عنه كبارها، فالجملة حالية، ويحتمل أن تكون معطوفة على «اعرضوا» ؛ فتكون أمرا في المعنى، فكأنّه قيل: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، واخبئوا عنه كبارها، أي: كبائر ذنوبه. (فيقال له: عملت) ؛ أي: من القول والفعل (يوم كذا) ؛ أي: الوقت الفلاني من السّنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة (كذا وكذا) ؛ أي: عددا من الذنوب، ف «كذا وكذا» كناية عن العدد المشتمل على عطف، (وهو مقرّ لا ينكر) ؛ أي: فيتذكّر ذلك ويصدّقه هنالك، (وهو مشفق) ؛ من الإشفاق؛ وهو الخوف، والجملة حال؛ أي: والحال أنّه خائف (من كبارها) ؛ أي: من كبار ذنوبه، أي: من المؤاخذة بها، فإنّ من يؤاخذ بالصغيرة فبالأولى أن يعاقب بالكبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا لا أراها ههنا» . قال أبو ذرّ: فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه. (فيقال) ؛ أي: فيقول الله للملائكة (أعطوه) - بقطع الهمزة- (مكان) ؛ أي: بدل (كلّ سيّئة عملها حسنة) لتوبته النصوح، قال الله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [70/ الفرقان] ، أو لغلبة طاعاته، أو لإقراره بالذنب والخوف منه، أو لغير ذلك مما يعلمه الله. (فيقول) ؛ أي: طمعا في الحسنات: (إنّ لي ذنوبا لا أراها ها هنا» ) !! أي: في موضع العرض، أو في صحيفة الأعمال، وفي رواية: «ما أراها ها هنا!!» وإنما يقول ذلك مع كونه مشفقا منها!!، لأنّه لما قوبلت صغائرها بالحسنات طمع أن تقابل كبائرها بها أيضا، وزال خوفه منها، فسأل عنها لتقابل بالحسنات أيضا. (قال أبو ذرّ: فلقد رأيت) ؛ أي: فوالله لقد رأيت، - وإنما أقسم!! لئلا يرتاب في خبره، لما اشتهر من أنّه صلّى الله عليه وسلم لا يضحك إلّا تبسّما- (رسول الله صلّى الله عليه وسلم ضحك) تعجّبا من الرجل حيث كان مشفقا من كبار ذنوبه، ثم صار طالبا لرؤيتها، وبالغ في الضحك (حتّى بدت) : ظهرت (نواجذه) - بمعجمة-: أقصى أضراسه، أي: أضراسه كلّها، وكانت مبالغته في الضحك نادرة، والمكروه الإكثار منه؛ كما في رواية البخاري: «لا تكثروا الضّحك فإنّه يميت القلب» . والغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلم التبسّم، ولذلك جاء في صفة ضحكه «جلّ ضحكه التبسم» ، وينبغي الاقتداء به فيما هو أغلب أحواله. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد، والترمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» ، وابن ماجه في «سننه» ، ولفظ «الشمائل» : حدّثنا هنّاد بن السريّ؛ قال: حدّثنا أبو معاوية؛ عن الأعمش؛ عن إبراهيم؛ عن عبيدة السلماني؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعرف آخر أهل النّار خروجا، ... (عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بن مسعود) بن غافل- بالغين المعجمة والفاء- ابن حبيب بن سمح بن فار- بالفاء وتخفيف الراء- ابن مخزوم بن صاهلة بالصاد المهملة والهاء- ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الهذلي، حليف بني زهرة الكوفي. وأمّه أمّ عبد بنت عبد ودّ بن سواء؛ هذيل أيضا. أسلمت وهاجرت فهو صحابيّ ابن صحابية. أسلم عبد الله قديما حين أسلم سعيد بن زيد؛ قبل عمر بن الخطاب بزمان، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وشهد اليرموك، وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، وانفرد مسلم بخمسة وثلاثين. روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وأنس وجابر، وأبو سعيد، وعمران بن حصين، وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة وخلائق لا يحصون من كبار التابعين. نزل الكوفة في آخر أمره، وتوفي بها سنة: اثنتين وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: عاد إلى المدينة، وتوفي وهو ابن بضع وستين سنة، وكان من كبار الصحابة وساداتهم وفقهائهم ومقدّميهم في القرآن والفقه والفتوى وأصحاب الحلق وأصحاب الأتباع في العلم (رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي لأعرف) - بالوحي كما مر- (آخر أهل النّار) من عصاة المؤمنين (خروجا) - منصوب على التمييز، وفي بعض النسخ المصححة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنّة. قال: فيذهب ليدخل فيجد النّاس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول: ربّ؛ قد أخذ النّاس المنازل، فيقال له: أتذكر الزّمان الّذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، ... «خروجا من النّار» - (رجل) قيل: اسمه جهينة- مصغرا-، وقيل: هنّاد الجهني (يخرج منها زحفا) - مفعول مطلق من غير لفظ الفعل، أو حال بمعنى زاحفا، والزحف: المشي على الاست مع إشراف الصدر، وفي رواية «حبوا» ؛ وهو: المشي على اليدين والرجلين والركبتين، ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال أنّه يزحف تارة ويحبو أخرى- (فيقال له) - أي: من قبل الله؛ كما تقدّم-: (انطلق) أي: اذهب مخلى سبيلك محلولا أسارك، (فادخل الجنّة. قال: فيذهب) إليها (ليدخل) - يعني: لكي يدخلها فيشرع ليدخلها- (فيجد النّاس) - أي: أهلها- (قد أخذوا) - أي: كلّ منهم- (المنازل) ؛ أي: منازل الجنة، أي درجاتها؛ وهي جمع منزل؛ وهي موضع النزول، ويخيّل له أنّه لم يبق موضع لنزول غيرهم (فيرجع) عن الشروع في دخولها، (فيقول) ؛ أي: قبل أن يسأل عن سبب رجوعه؛ أو بعده: (ربّ) ؛ أي: يا رب (قد أخذ النّاس) ؛ أي: كلّ منهم (المنازل) كأنّه ظنّ أنّ الجنّة إذا امتلأت بساكنيها لم يكن للقادم فيها منزل، فيحتاج أن يأخذ منزلا منهم. (فيقال له) ؛ أي: من قبل الله- كما تقدم-: (أتذكر) - بحذف إحدى التاءين، - أي أتتذكر (الزّمان الّذي كنت فيه؟) أي: في الدنيا الضيّقة بحيث إذا امتلأت بساكنيها لم يكن للقادر فيها منزل، فيحتاج إلى أن يأخذ منزلا من أصحاب المنازل، فتقيس عليه الزمن الذي أنت فيه الآن في الجنّة، وتظنّ أنّها ضيّقة كالدنيا. (فيقول: نعم) أتذكّر الزمن الذي كنت فيه في الدنيا الضيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فيقال له: تمنّ. قال: فيتمنّى، فيقال له: فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا. قال: فيقول: أتسخر بي ... (فيقال له) ؛ أي: من قبل الله- كما مرّ-: (تمنّ) ؛ أي: اطلب ما تقدّره في نفسك وتصوّره فيها، من كلّ جنس ونوع تشتهي، من وسع الدار وكثرة الأشجار والثمار، فإنّ لك مع امتلائها مساكن كثيرة وأماكن كبيرة، وجنات تجري من تحتها الأنهار، كلّها على طريق خرق العادة بقدرة الملك الغفار، وكل ما تمنيته متيسر في هذه الدار الواسعة، ولا تقس حال الآخرة بحال الدنيا، فإن تلك دار ضيّقة ومحنة، وهذه دار متسعة ومنحة. (قال) ؛ أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (فيتمنّى) ؛ أي: يطلب ما يقدره في نفسه ويصوره فيها، (فيقال له) من قبل الله: (فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا) ؛ أي: أمثالها زيادة على الذي تمنّيت، فضعف الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، لكن المضاعفة ليست بالمساحة والمقدار؛ بل بالقيمة، فما يعطاه في الآخرة، يكون مقدار عشرة أضعاف الدنيا، بحسب القيمة؛ لا بالوزن والمقدار؛ كذا قال الباجوري. وأصل هذا الكلام للغزالي؛ كما نقله عنه المناوي في «شرح الشمائل» ساكتا عليه، لكن الباجوري عقّبه بقوله: ولا مانع من المضاعفة بالمساحة والمقدار. كما وجد بخط الشبراوي، فإنّه روي أنّ أدنى أهل الجنة منزلة من يسير في ملكه ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، وينظر إلى جنانه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأرفعهم الذي ينظر إلى ربّه بالغداة والعشي. انتهى. (قال) - أي- النبي صلّى الله عليه وسلم: (فيقول) - دهشا لما ناله من السرور، ببلوغ ما لم يخطر بباله من كثرة الحور والقصور-: (أتسخر) ؛ أي: أتستهزىء (بي) - بالباء الموحدة؛ كما في نسخ «الشمائل» المصحّحة، ولم يكن ضابطا لما قاله، ولا عالما بما يترتّب عليه، بل جرى على عادته في مخاطبة المخلوق، فهو كمن قال صلّى الله عليه وسلم في حقّه- إنّه لم يضبط نفسه من الفرح في الدعاء-؛ فقال: أنت عبدي وأنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وأنت الملك» . قال: فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه. وعن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: قال سعد ... ربّك، وفي نسخة: أتسخرني- بالنون- (وأنت) ؛ أي: والحال أنّك أنت (الملك» ) !! - بكسر اللام- وليست السخرية من دأب الملوك، وأنا أحقر من أن يسخر بي ملك الملوك، وهذا نهاية الخضوع، وهو سبب لكمال جود الملك تقدّس، ولذلك نال ما نال من الإكرام. (قال) - أي- عبد الله بن مسعود: (فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - أي: فوالله لقد رأيت ... إلخ، وإنّما أقسم لئلا يرتاب في خبره، لما اشتهر أنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلم كان لا يضحك إلّا تبسّما- (ضحك حتّى بدت) ؛ أي: ظهرت (نواجذه) جمع: ناجذ، وهو آخر الأسنان على المشهور، تعجّبا من دهش الرجل، ومن غلبة رحمته تعالى على غضبه. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص) القرشي الزّهري المدني التابعي، سمع أباه، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأسامة، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وعائشة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. روى عنه ابنه داود، وسعيد بن المسيب، وخلق من التابعين، واتفقوا على توثيقه. وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ثلاث- وقيل: سنة أربع- ومائة، وقيل غير ذلك رحمه الله تعالى. (قال) ؛ أي: عامر: (قال سعد) بن أبي وقّاص- يعني أباه-، وهو أبو إسحاق سعد بن مالك بن وهب- ويقال: أهيب- ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزّهري المكيّ المدني. أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وتوفي وهو عنهم راض، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 رضي الله تعالى عنه: لقد رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك يوم الخندق حتّى بدت نواجذه. الخلافة إليهم، وأسلم قديما بعد أربعة- وقيل: بعد ستة- وهو ابن سبع عشرة سنة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، وأوّل من أراق دما في سبيل الله تعالى. وهو من المهاجرين الأوّلين، هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليها. شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، وكان يقال له «فارس الإسلام» ، وأبلى يوم أحد بلاء شديدا. وكان مجاب الدعوة، وحديثه في دعائه على الرجل الكاذب عليه من أهل الكوفة وهو أبو سعدة، وأجيبت دعوته فيه في ثلاثة أشياء «1» مشهور في «الصحيحين» . روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، وانفرد مسلم بثمانية عشر. روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن سمرة، والسائب بن يزيد، وعائشة رضي الله عنهم. واعتزل الفتنة فلم يقاتل في شيء من الحروب التي وقعت بين الصحابة. وتوفي سنة: - 55- خمس وخمسين، وقيل غير ذلك (رضي الله تعالى عنه: لقد رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق) - كجعفر: حفير حول أسوار المدينة، معرّب كندة؛ على ما في «القاموس» ، لأنّ الخاء والدال والقاف لا تجتمع في كلمة عربية- (حتّى بدت نواجذه.   (1) وهي: أنه كان لا يسير بالسرية، لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعونّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة؛ فأطل عمره وأطل فقره وعرّضه بالفتن. وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 قال: قلت: كيف كان ضحكه؟ قال: كان رجل معه ترس، وكان سعد راميا، وكان الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس يغطّي جبهته، ... قال) ؛ أي: عامر (قلت) لسعد: (كيف كان) ؛ أي: على أي حال كان (ضحكه؟ قال) - أي- سعد: (كان رجل) من الكفّار (معه ترس) ، الجملة خبر «كان» ، والترس: ما يستتر به في حال الحرب، وفي رواية: «قوس» بدل: ترس. (وكان سعد راميا) ؛ أي: يحسن الرمي، ثم إن كان هذا من كلام سعد؛ كما هو الظاهر، كان فيه التفات، إذ كان الظاهر أن يقول: وكنت راميا، وإن كان من كلام عامر!! فلا التفات، غير أنّه عبّر عنه باسمه؛ ولم يقل أبي؛ ومثله كثير في أسانيد الصحابة رضي الله عنهم. (وكان) - هذا من كلام سعد بكل تقدير- (الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس) ؛ أي: يفعل كذا وكذا بالترس، أي: يشير به يمينا وشمالا، فالمراد بالقول هنا الفعل، قال صاحب «النهاية» : والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام، تقول: قال بيده؛ أي: أخذ، و: قال برجله؛ أي مشى، و: قالت به العينان سمعا وطاعة؛ أي: أومأت به، و: قال بالماء على يده؛ أي: صبّه، و: قال بثوبه؛ أي: رفعه، و: قال بالترس؛ أي: أشار به وقلبه، وقس على هذه الأفعال ... وعلى هذا فالجارّ والمجرور- أعني قوله «بالترس» - متعلّق ب «يقول» بمعنى يفعل. وقوله (يغطّي جبهته) مستأنف مبيّن للإشارة في قوله «كذا وكذا» ؛ أي: يغطي جبهته حذرا من السهم، ويحتمل أن القول باق على حقيقته، والمعنى يقول: كذا وكذا من القول القبيح في حقّ النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يصرّح سعد بما بعده وهو قوله: بغطّي جبهته؛ أي: حذرا من السهم- كما مر- وهي جملة حاليّة من فاعل «يقول» ، والأول هو الأظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فنزع له سعد بسهم، فلمّا رفع رأسه.. رماه فلم يخطىء هذه منه يعني: جبهته- وانقلب الرّجل وشال برجله، فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه. قال: قلت: من أيّ شيء ضحك؟ (فنزع له سعد بسهم) ؛ أي: نزع لأجله سهما من كنانته ووضعه في الوتر، فالباء زائدة، لأن «نزع» يتعدّى بدونها. (فلمّا رفع) الرجل (رأسه) من تحت الترس فظهرت جبهته (رماه) سعد بالسهم الذي نزعه له (فلم يخطىء) - بضم الياء وسكون الخاء وبالهمز- وفي نسخة: فلم يخط- بفتح الياء وضم الطاء- غير مهموز، من الخطوة، أي: فلم يخط (هذه منه) ؛ أي: الجبهة من الرّجل، ولم يتعدّها؛ ولم يتجاوزها (يعني: جبهته) من كلام عامر؛ أي: يقصد سعد باسم الإشارة جبهة الرجل، والجبهة: ما بين الحاجبين إلى الناصية؛ وهي موضع السجود. (وانقلب الرّجل) ؛ أي: صار أعلاه أسفله، وسقط على استه (وشال برجله) ؛ أي: رفعها، والباء للتعدية، أو زائدة. قال في «المصباح» : شال شولا من باب «قال قولا» : رفع، يتعدّى بالحرف على الأفصح، ويقال «شالت الناقة بذنبها عند اللّقاح» : رفعته، وأشالته بالألف لغة، وفي نسخة من «الشمائل» : فشال، وفي أخرى منها: وأشال، وفي أخرى أيضا: وأشاد، والكلّ بمعنى واحد. (فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه) فرحا وسرورا برمي سعد للرجل وإصابته له، وما يترتّب على ذلك من إخماد نار الكفر، وإذلال أهل الضلال؛ لا من رفعه لرجله وكشف عورته. (قال: قلت) وفي نسخة صحيحة: «فقلت» ، والقائل هو عامر كما هو ظاهر، وقيل: هو محمد الراوي؛ عن عامر: (من أيّ شيء ضحك) ؟ أي: من أجل أيّ سبب ضحك النبي صلّى الله عليه وسلم: هل من رمي سعد للرجل وإصابته؟ أو من رفعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قال: من فعله بالرّجل. وعن عليّ بن ربيعة قال: شهدت عليّا رضي الله تعالى عنه أتي بدابّة ليركبها، فلمّا وضع رجله في الرّكاب.. قال: باسم الله. لرجله وافتضاحه بكشف عورته؟ فلأجل هذا الاحتمال استفسر الراوي- وهو عامر- سعدا عن سبب ضحكه صلّى الله عليه وسلم. (قال) ؛ أي سعد، أو عامر: (من فعله بالرّجل) ؛ أي: ضحك من أجل رميه الرجل وإصابته؛ لا من رفعه لرجله وافتضاحه بكشف عورته، لأنّه لا يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يضحك لهذا؛ بل لذاك. (و) أخرج أبو داود في «سننه» ، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ له: (عن عليّ بن ربيعة) بن نضلة الوالبيّ البجلي، أبو المغيرة الكوفي، يروي عن علي بن أبي طالب وسلمان، وعنه الحكم وأبو إسحاق، وثّقه ابن معين والنسائي، له في البخاريّ ومسلم فرد حديث، وخرج له الستة. (قال: شهدت عليّا) ؛ أي: ابن أبي طالب- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه) ؛ أي: شاهدته وحضرته (أتي) - بالبناء للمفعول-، والجملة حال؛ أي: والحال أنّه أتاه بعض خدمه (بدابّة ليركبها) ، والدابّة في العرف الطارئ: فرس، أو بغل، أو حمار، وأصلها: كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان؛ ذكرا كان، أو أنثى، ثم خصّ بما ذكر. (فلمّا وضع رجله في الرّكاب) - بكسر الراء- (قال: باسم الله) ؛ أي: أركب، فالجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف. وأتى بذلك!! اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه قوله الآتي: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وكأنّه صلّى الله عليه وسلم أخذه من قوله تعالى- حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام لما ركب السفينة- (بِسْمِ اللَّهِ) [41/ هود] ، لأن الدابة في البرّ كالسفينة في البحر؛ كما أفاده العصام، غير أنّه لم يفصح عن ذلك حيث قال: كأنّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فلمّا استوى على ظهرها.. قال: الحمد لله، ثمّ قال: (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف: 13- 14] . ثمّ قال: الحمد لله (ثلاثا) ، والله أكبر (ثلاثا) ، ... مأخوذ من قول نوح لما ركب السفينة ... الخ. واعترض عليه بعض الشرّاح بأن عليّا نقل ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلم وتأسّى به، فكيف يقال «إنّه مأخوذ من قول نوح» !! وهو مبنيّ على ما فهمه المعترض؛ من أن مراد العصام أن عليّا هو الآخذ لذلك من قول نوح، وليس كذلك، بل النبي صلّى الله عليه وسلم هو الآخذ له كما علمت. (فلمّا استوى) ؛ أي: استقرّ (على ظهرها؛ قال: الحمد لله) - أي: شكرا لله على هذه النعمة العظيمة، وهي تذليل هذه الدابة، وإطاقته لنا على ركوبها مع الحفظ عن شرّها. (ثمّ قال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ) أي: ذلل (لَنا) أي: لأجلنا، أي تنزيها له عن الاستواء على مكان كالاستواء على الدابة؛ أو تنزيها له عن الشريك، أو عن العجز عن تسخير هذه الدابّة وتذليلها لنا، وقوله (هذا) - أي: المركوب (وَما كُنَّا لَهُ) - أي: لتسخيره- (مُقْرِنِينَ) - أي: مطيقين لولا تسخيره لنا- (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (14) [الزخرف] . أي: وإنّا إلى حكمه وجزائه لراجعون في الدار الآخرة. وإنما قال ذلك!! لأن ركوب الدابّة قد يكون سببا للتلف، فقد ينقلب عنها فيهلك، فتذكر الانقلاب إلى ربّ الأرباب، فينبغي لمن اتصل به سبب من أسباب الموت أن يكون حاملا له على التوبة والإقبال على الله تعالى في ركوبه ومسيره، فقد يحمل من فوره على سريره. (ثمّ قال: الحمد لله ثلاثا) ؛ أي ثلاث مرات، كرّره لعظمة تلك النعمة، التي ليست مقدورة لغيره تعالى، (والله أكبر ثلاثا) ؛ تعجبا للتسخير، أو دفعا لكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي؛ فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت. ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: «إنّ ربّك ليعجب من عبده إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب أحد غيره» . النفس من استيلائها على المركوب. (سبحانك؛) - أي: تنزيها لك عن الحاجة إلى ما يحتاج إليه عبادك، وإنما أعاد التسبيح!! توطئة لما بعده، ليكون مع اعترافه بالظّلم أنجح لإجابة سؤاله- (إنّي ظلمت نفسي) بعدم القيام بشكر هذه النعمة العظمى وغيرها من النعم (فاغفر لي) أي: استر ذنوبي؛ فلا تؤاخذني بالعقاب عليها، (فإنّه) ؛ أي لأنّه (لا يغفر الذّنوب) أحد (إلّا أنت) ، ففيه إشعار للاعتراف بتقصيره، مع إنعام الله عليه. (ثمّ ضحك) ؛ أي: علي. (فقلت) - أي: له؛ كما في نسخة من «الشمائل» ، وفي أخرى: فقال؛ أي عليّ بن ربيعة، وفيه التفات: (من أيّ شيء ضحكت) ؟! وفي نسخة من «الشمائل» : من أيّ شيء تضحك (يا أمير المؤمنين) هذا يدلّ على أنّ هذه القضية كانت في أيام خلافته. (قال) ؛ أي عليّ مجيبا له: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صنع كما صنعت) قولا وفعلا، (ثمّ ضحك) كما ضحكت. (فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: «إنّ ربّك ليعجب) أي: ليرضى، فالمراد بالعجب في حقّه تعالى لازمه؛ وهو الرضا، لاستحالة حقيقته عليه تعالى، ولهذا الرضى المقتضي لفرح النبي صلّى الله عليه وسلم ومزيد النعمة عليه ضحك، ولمّا تذكّر عليّ كرم الله وجهه ذلك أوجب مزيد شكره وبشره فضحك. وقوله (من عبده) - الإضافة للتشريف- (إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم) - حال: أي قال ذلك حال كونه يعلم- (أنّه) - أي: الشأن- (لا يغفر الذّنوب أحد غيره» ) !! كذا في بعض نسخ «الشمائل» ، وهو ظاهر، لأنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وأمّا بكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكي: رحمة لميّت، و: خوفا على أمّته وشفقة، و: من خشية الله تعالى، كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي بعض نسخ «الشمائل» : غيري. وتوجيهه أن يجعل «يعلم» مقولا لقول محذوف؛ أي: قائلا يعلم، ويجعل ذلك حالا من فاعل «يعجب» ، والمعنى أنه تعالى يعجب من عبده إذا قال «ربّ اغفر لي» حالة كونه تعالى قائلا يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري؛ كما يؤخذ من المناوي. انتهى «باجوري» . (وأمّا بكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان) - بضم الميم-: يسيل دمعهما، وإثبات النون مع «حتى» قليل، نحو: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... منّي السّلام وأن لّا تشعرا أحدا أو على حذف المبتدأ، أي: أنّهما تهملان، أو هما تهملان، ف «حتّى» ابتدائية. نحو: ... حتّى ماء دجلة أشكل (ويسمع لصدره أزيز) - بزايين منقوطتين-: أي صوت، وأصل الأزيز: غليان القدر. (يبكي رحمة لميّت) استئناف بيانيّ، وهو الواقع في جواب سؤال مقدّر نشأ مما قبله، كأن قائلا قال له: لم كان يبكي؟ فقال: يبكي رحمة لميت. (وخوفا على أمّته وشفقة) عليهم، (ومن خشية الله تعالى) ؛ وهي خوف مقرون بتعظيم ناشىء عن معرفة كاملة، وهي للعلماء بالله تعالى، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [28/ فاطر] ؛ أي: لا الجهال، وقال صلّى الله عليه وسلم: «أنا أتقاكم لله وأشدّكم لله خشية» . فالخشية أخصّ من الخوف، وخشية الله تعالى هي خوف عقابه، مع تعظيمه بأنه غير ظالم في فعله، بخلاف مطلق الخوف، فإنه يتحقّق عند تهديد الظالم له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 و: عند سماع القرآن، و: أحيانا في صلاة اللّيل. فعن عبد الله بن الشّخّير رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. (وعند سماع القرآن، وأحيانا في صلاة اللّيل) ؛ قاله في «الهدي النبوي» ، نقله عنه في «المواهب» . أما بكاؤه في صلاة الليل، ففيما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها، ورواه ابن خزيمة وابن حبّان في «صحيحيهما» ؛ (فعن عبد الله بن الشّخّير) - بمعجمتين مشددتين مسكورتين فمثناة تحتية فراء- ابن عوف بن كعب بن وقدان بن الجريش «وهو معاوية» بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكعبي الجرشي البصري، نزيل البصرة. صحابيّ من مسلمة الفتح، خرّج له الجماعة إلا البخاريّ، وأدرك الجاهلية والإسلام، وروى له مسلم في «صحيحه» حديثين، روى عنه ابناه زيد ومطرّف (رضي الله تعالى عنه، قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلّي) ؛ أي: والحال أنّه يصلي. فالجملة حاليّة، وكذا جملة قوله (ولجوفه) : صدره (أزيز) - بزايين منقوطتين بينهما تحتية على وزن فعيل- أي: غليان. وقيل: صوت (كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم وآخره لام- هو: القدر من النحاس، وقيل: كلّ قدر يطبخ فيه، سمّي بذلك!! لأنّه إذا نصب فكأنّه أقيم على رجلين. ويؤخذ من ذلك أنّه إذا لم يكن الصوت مشتملا على حرفين؛ أو حرف مفهم لم يضرّ في الصلاة. وفي رواية ابن خزيمة وابن حبّان بلفظ «كأنين الرّحى» (من البكاء) ؛ أي: من أجله بسبب عظيم الخوف والإجلال لله سبحانه وتعالى، وذلك مما ورثه من أبيه إبراهيم، فإنه كان يسمع من صدره صوت كغليان القدر على النار من مسيرة ميل. وفيه دلالة على كمال خوفه وخضوعه لربّه، قال: «إنّي لأعلمكم بالله وأشدّكم له خشية» وقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» رواهما البخاريّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ» ، فقلت: يا رسول الله؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» . فقرأت سورة النّساء ... ومن هذا الحديث الذي في المتن ونحوه استنّ أهل الطريق الخوف والوجل والتواجد في أحوالهم، وهذا الحال إنّما كان يعرض له صلّى الله عليه وسلم عند تجلّي الله عليه بصفات الجلال والجمال معا، فيمتزج الجلال مع الجمال، وإلّا! فالجلال غير الممزوج لا يطيقه أحد من الخلائق، وإذا تجلّى الله عليه بصفات الجمال المحض تلألأ سرورا ونورا وملاطفة وإيناسا وبسطا. (و) أما بكاؤه عند سماع القرآن! ففيما أخرجه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ لها؛ (عن عبد الله بن مسعود) الصحابيّ الجليل صاحب النعلين والوساد- وقد مرّت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ وهو على المنبر- كما في «الصحيحين» -: ( «اقرأ عليّ» ) بتشديد الياء. (فقلت يا رسول الله؛ أقرأ عليك) ؛ أي: أأقرأ عليك؟ فهو استفهام محذوف الهمزة. (و) الحال أنّه (عليك) ؛ لا على غيرك (أنزل) !! فهم ابن مسعود أنّه أمره بالقراءة ليتلذّذ بقراءته؛ لا ليختبر ضبطه وإتقانه، فلذا سأل متعجبا، وإلّا! فلا مقام للتعجب. (قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري) ، وإنما أحبّ ذلك!! لكون السامع خالصا لتعقّل المعاني، بخلاف القارىء، فإنّه مشغول بضبط الألفاظ وإعطاء الحروف حقّها، ولأنّه اعتاد سماعه من جبريل، والعادة محبوبة بالطبع. ومن فوائد هذا الحديث التنبيه على أن الفاضل لا ينبغي أن يأنف من الأخذ عن المفضول، فقد كان كثير من السلف يستفيدون من طلبتهم. (فقرأت سورة النّساء) ؛ أي: شرعت في قراءتها، وفي ذلك ردّ على من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 حتّى بلغت: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء: 41] . قال: فرأيت عيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تهملان. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنة له صغيرة ... قال: «لا يقال سورة النساء» مثلا، وإنما يقال «سورة تذكر فيها النساء» . (حتّى بلغت) ؛ أي: وصلت إلى قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (41) [النساء] . وفي «الصحيحين» زيادة أنه قال له: «حسبك الآن» ، ومعنى الآية- والله أعلم-: فكيف حال من تقدّم ذكرهم، إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد يشهد عليها بعملها؛ فيشهد بقبيح عملها وفساد عقائدها وهو نبيّها، وجئنا بك يا محمد على هؤلاء الأنبياء شهيدا، أي: مزكّيا لهم ومثبتا لشهادتهم، وقيل: الذين يشهدون للأنبياء هذه الأمة والنبي صلّى الله عليه وسلم يزكّيها. (قال) ؛ أي: ابن مسعود: فالتفتّ إليه (فرأيت عيني رسول الله صلّى الله عليه وسلم تهملان) بفتح التاء وسكون الهاء وضم الميم أو كسرها- أي: تسيل دموعهما لفرط رأفته ومزيد شفقته؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم استحضر أهوال القيامة وشدّة الحال التي يحقّ لها البكاء. وفيه ندب الاستماع للقراءة، والإصغاء إليها والبكاء عندها، والتدبّر والتواضع لأهل العلم ورفع منزلتهم، وجواز استماع القرآن من محلّ عال والقارىء أسفل منه، وجواز طلبها ممّن هو دونه رتبة وعلما، وحلّ أمر الغير بقطع قراءته للمصلحة. والله أعلم. (و) أما بكاؤه رحمة لميت!! ففيما أخرجه النسائي، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له-: (عن ابن عبّاس) الهاشمي- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنة له) - زاد النسائي في روايته- (صغيرة) ؛ وهي بنت بنته زينب من أبي العاصي بن الربيع، فنسبتها إليه مجازية، وليس المراد بنته لصلبه، لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان له أربع بنات، وكلّهنّ كبرن وتزوّجن، وإن كان ثلاث منهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 تقضي، فاحتضنها فوضعها بين يديه، فماتت وهي بين يديه وصاحت أمّ أيمن، فقال: - يعني: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم-: «أتبكين عند رسول الله؟!» . أي: بكاء محظورا مقترنا بالصّياح دالّا على الجزع ... متن في حياته، لكن لا يصلح وصف واحدة منهن بالصغر، وقد وصفها في رواية النسائي بالصغر، فتعيّن أن يكون المراد إحدى بنات بناته؛ وهي أمامة بنت بنته زينب المتقدّمة. (تقضي) - بفتح التاء وكسر الضاد-؛ أي: تشرف على الموت، وإن كان أصل القضاء الموت؛ لا الإشراف عليه، ومع ذلك لم تمت حينئذ، بل عاشت بعده صلّى الله عليه وسلم حتّى تزوّجها عليّ بن أبي طالب. ومات عنها، كما اتفق عليه أهل العلم بالأخبار. (فاحتضنها) ؛ أي: حملها في حضنه- بكسر الحاء- وهو: ما دون الإبط؛ أي: الكشح. (فوضعها بين يديه) ؛ أي: بين جهتيه المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه، فسمّيت الجهتان «يدين» لكونهما مسامتتين لليدين، كما يسمّى الشيء باسم مجاوره. (فماتت) ؛ أي: أشرفت على الموت- كما علمت- (وهي بين يديه) الجملة حالية؛ أي: والحال أنها بين يديه، (وصاحت) ؛ أي: صرخت (أمّ أيمن) بفتح الهمزة والميم- واسمها بركة- بفتح الباء الموحدة والراء- وكنّيت بابنها أيمن رضي الله عنه، وهي حاضنته صلّى الله عليه وسلم ومولاته، ورثها من أبيه وأعتقها حين تزوّج بخديجة، وزوّجها لزيد مولاه، وأتت له بأسامة، وماتت بعد وفاة عمر بعشرين يوما. (فقال- يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلم-) وهذا تفسير من التابعي، والضمير في «يعني» راجع إلى ابن عباس: ( «أتبكين) - بهمزة الاستفهام الإنكاري- (عند رسول الله؟!» ) صلّى الله عليه وسلم!! (أي) أتبكين (بكاء محظورا مقترنا بالصّياح؛ دالّا على الجزع) وعدم الرضا بالقضاء، والقصد من ذلك الإنكار والزجر، وإنما قال: عند رسول الله. ولم يقل عندي!! لأنّ ذلك أبلغ في الزجر وأمنع عن الخروج عما جوّزته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: «إنّي لست أبكي، إنّما هي رحمة، إنّ المؤمن بكلّ خير على كلّ حال، إنّ نفسه تنزع من بين جنبيه؛ وهو يحمد الله عزّ وجلّ» . الشريعة. والصياح؛ وهو: رفع الصوت بالبكاء حرام، لكنّها لما رأت دمع عينيه ظنت حلّه؛ (فقالت: ألست أراك تبكي) ؟ فأنا تابعتك واقتديت بك، وظنّي جواز البكاء؛ وإن اقترن بنحو صياح!! (قال: «إنّي لست أبكي) بكاء على سبيل الجزع وعدم الصبر كبكائك، ولا يصدر عني ما نهى الله عنه من الويل والثبور والصياح وغير ذلك، بل بكائي دمع العين فقط (إنّما هي) ؛ أي: الدمعة التي رأيتها (رحمة» ) ؛ أي أثر رحمة جعلها الله تعالى في قلبي. ولا ينافي هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها (ما بكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ميت قطّ وإنّما غاية حزنه أن يمسك لحيته) لأنّ مرادها ما بكى على ميت أسفا عليه بل رحمة له. ويؤيّده ما ورد: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضي الرّبّ، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» ؛ قاله ملا علي قاري في «جمع الوسائل» رحمه الله. ثمّ إنّه صلّى الله عليه وسلم بيّن وجه كونها رحمة؛ فقال: (إنّ المؤمن) - الكامل ملتبس- (بكلّ خير على كلّ حال) - من نعمة أو بلية، لأنه يحمد ربّه على كلّ منهما، أما النعمة! فظاهر، وأما البلية! فلأنه يرى أنّ المحنة عين المنحة لما يترتّب عليها من الثواب، كما قال: - (إنّ نفسه) - أي: روحه- (تنزع) - بصيغة المفعول؛ أي: تقبض- (من بين جنبيه؛ وهو) - أي والحال أنه- (يحمد الله عزّ وجلّ) ، فلا تشغله تلك الحالة من الحمد. قال في «جمع الوسائل» : والمعنى ينبغي أن يكون المؤمن الكامل ملابسا بكلّ خير على كلّ حال من أحواله، حتّى أنه في نزع روحه يحمد الله تعالى، ويراه من الله سبحانه رحمة له وكرامة، وخيرا له من حياته، فإن الموت تحفة المؤمن وهدية الموقن. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: شهدنا ابنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان. وعن عائشة رضي الله عنها: ... (و) فيما أخرجه البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» واللفظ له: (عن أنس بن مالك) خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال: شهدنا) - أي: حضرنا- (ابنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم) هي: أمّ كلثوم، ووهم من قال (رقية) ، فإنّها ماتت ودفنت ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة بدر. ولما عزّي صلّى الله عليه وسلم برقيّة قال: «الحمد لله، دفن البنات من المكرمات» . ثم زوّج عثمان «أمّ كلثوم» هذه، وقال: «والّذي نفسي بيده؛ لو أنّ عندي مائة بنت لزوّجتكهنّ واحدة بعد واحدة» . (ورسول الله) - أي: والحال أن رسول الله- (جالس على القبر) أي: على طرفه (فرأيت عينيه تدمعان) - بفتح الميم- أي: تسيل دموعهما، وتمام الحديث؛ فقال: «أفيكم رجل لم يقارف اللّيلة» ؟! قال أبو طلحة: أنا، قال: «انزل» فنزل في قبرها. انتهى ... الحديث. ومعنى «لم يقارف» ؛ أي: لم يجامع تلك الليلة، فالمقارفة كناية عن الجماع، وأصلها الدنوّ واللّصوق، وفي رواية: «لا يدخل القبر أحد قارف البارحة» ، فتنحّى عثمان لكونه كان باشر تلك الليلة أمة له، فمنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نزول قبرها؛ معاتبة له لاشتغاله عن زوجته المحتضرة، وأيضا فحديث العهد بالجماع قد يتذكّر ذلك فيذهل عما يطلب من أحكام الإلحاد وإحسانه. (و) فيما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» وفي «الشمائل» باختلاف في الألفاظ- وهذا لفظ «الشمائل» -: (عن عائشة) بنت أبي بكر الصّديقة بنت الصّديق- تقدّمت ترجمتها- (رضي الله) تعالى (عنها) وعن والدها، وعن أصحاب رسول الله أجمعين، وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل عثمان بن مظعون، وهو ميّت، وهو يبكي. (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّل) - بتشديد الباء- (عثمان) في وجهه، أو بين عينيه (بن مظعون) - بالظاء المعجمة-، وكان أخاه من الرضاع، وهو قرشيّ أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وكان حرّم الخمر في الجاهلية، وهو أوّل من مات من المهاجرين بالمدينة؛ في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة، وكان عالما عابدا مجتهدا من فضلاء الصحابة، ودفن بالبقيع، ولما دفن قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم السّلف هو لنا» . وقوله (وهو ميّت) جملة حالية؛ أي: والحال أن عثمان ميّت، وفيه ندب تقبيل الميت الصالح. قال ابن حجر الهيتمي في «فتح الإله شرح المشكاة» : حكم المسألة إن كان الميت صالحا سنّ لكلّ أحد تقبيل وجهه التماسا لبركته، واتباعا لفعله صلّى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون- كما سيأتي- وإن كان غير صالح؟ جاز ذلك بلا كراهة لنحو أهله وأصدقائه، لأنّه ربّما كان مخففا لما وجده من ألم فقده، ومع الكراهة لغير أهل الميت، إذ قد لا يرضى به؛ لو كان حيا من غير قريبه وصديقه، ومحلّ ذلك كلّه ما لم يحمل التقبيل فاعله على جزع؛ أو سخط كما هو الغالب من أحوال النساء، وإلّا حرم؛ أو كره. ذكره في «شرح الأذكار» . انتهى. (وهو) - أي: والحال أن النبي صلّى الله عليه وسلم- (يبكي) ؛ أي: حتى سالت دموع النبي صلّى الله عليه وسلم على وجه عثمان؛ كما في «المشكاة» . قال في «جمع الوسائل» : وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن سفيان الثوري؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت، قال: فرأيت دموع النبي صلّى الله عليه وسلم تسيل على خدّ عثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 هو أخوه من الرّضاعة. وكانت عيناه صلّى الله عليه وسلّم كثيرة الدّموع والهملان. وكسفت الشّمس مرّة، ... وأخرج أيضا عن أبي النضر؛ قال: مرّ بجنازة عثمان بن مظعون، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذهبت ولم تلبّس منها بشيء» ، يعني: من الدنيا. وهذا مرسل، لكن له شاهد عند ابن الجوزي في «كتاب الوفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لمّا مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلّى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه، وقبّل بين عينيه، ثم بكى طويلا، فلما رفع السرير؛ قال: «طوبى لك يا عثمان؛ لم تلبّسك الدّنيا، ولم تلبّسها» ، انتهى. قال المصنّف: (هو) - أي: عثمان- (أخوه) ؛ أي أخو النبي صلّى الله عليه وسلم (من الرّضاعة) - وقد تقدم ذلك-. (و) أمّا بكاؤه خوفا على أمته! ففيما ذكره الشعراني في «كشف الغمة» بقوله: (كانت عيناه صلّى الله عليه وسلم كثيرة الدّموع والهملان) - محركة-، يقال: هملت عينه تهمل- بالكسر- وتهمل- بالضم-، هملا وهملانا وهمولا: فاضت كانهملت، انتهى «قاموس» . (وكسفت الشّمس) أي: استتر نورها كلّه؛ أو بعضه، يقال كسفت- بفتح الكاف- وانكسفت بمعنى، وأنكر الفرّاء «انكسفت» ، وكذا الجوهريّ ونسبه إلى العامّة. (مرّة) على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم موت ولده إبراهيم، ففي البخاري: كسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فجعل صلّى الله عليه وسلّم يبكي في الصّلاة وينفخ، ويقول: «يا ربّ؛ ألم تعدني أن لا تعذّبهم وأنا فيهم، وهم يستغفرونك؟ ونحن نستغفرك يا ربّ» . وجمهور أهل السير على أنّه مات في العاشرة. وقيل: في التاسعة، وذكر النووي أنّه لم يصلّ لكسوف الشمس إلّا هذه المرّة. وأما خسوف القمر! فكان في الخامسة، وصلّى له صلاة الخسوف؛ انتهى. والمشهور في استعمال الفقهاء: أنّ الكسوف للشمس والخسوف للقمر؛ قاله الحافظ. (فجعل صلّى الله عليه وسلم يبكي في الصّلاة وينفخ) ؛ من غير أن يظهر النفخ. ولا من البكاء حرفان أو حرف مفهم، أو أنّه كان يغلبه ذلك بحيث لا يمكنه دفعه. (ويقول: «يا ربّ؛ ألم تعدني أن لّا تعذّبهم، وأنا فيهم) بقولك (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [33/ الأنفال] ... الآية، ربّ ألم تعدني أن لا تعذبهم (وهم يستغفرونك) ، أي بقولك (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (33) [33/ الأنفال] (ونحن نستغفرك يا ربّ» ) . وإنما قال ذلك!! لأن الكسوف مظنّة العذاب، وإن كان وعد الله لا يتخلّف، لكن يجوز أن يكون مشروطا بشرط اختلّ. وهذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» باختلاف في الألفاظ، وفي بعضها بدون ذكر البكاء والنفخ؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال في «جمع الوسائل» : ووقع في رواية أحمد وابن خزيمة وابن حبان والطبراني بلفظ: وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد، وذلك في الركعة الثانية. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وأمّا عطاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا عطس.. وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عطس.. حمد الله، فيقال له: يرحمك الله، فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره العطسة الشّديدة في المسجد. (وأمّا عطاس رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فقد) ثبت فيما رواه أبو داود، والترمذي؛ وقال حسن صحيح، والحاكم؛ وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي، كلّهم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا عطس) - بفتح الطاء؛ من باب «ضرب» ، وقيل: من باب «قتل» - (وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض) ، وفي رواية: غضّ (بها صوته) ؛ أي: لم يرفعه بصيحة كما يفعله العامّة، وفي رواية لأبي نعيم: خمّر وجهه وفاه، وفي أخرى: كان إذا عطس غطّى وجهه بيده؛ أو ثوبه ... الخ، قال التوربشي: هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء، فإنّ العطاس يكره الناس سماعه، ويراه الراءون من فضلات الدّماغ. (و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا عطس حمد الله) - بكسر الميم- أي: أتى ب «الحمد» عقبه، والوارد عنه: الحمد لله رب العالمين، وروي: الحمد لله على كلّ حال؛ (فيقال له: يرحمك الله) ظاهره الاقتصار على ذلك، لكن ورد عن ابن عباس بإسناد صحيح يقال: عافانا الله وإيّاكم من النار، يرحمكم الله، ولا يسنّ تشميت العاطس إلّا بعد أن يحمد الله تعالى، ويسنّ تذكيره الحمد؛ (فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم» ) ؛ أي: حالكم. (و) أخرج البيهقي في «سننه» ، وكذا في «الشعب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكره العطسة الشّديدة في المسجد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت بالعطاس. أمّا التّثاؤب: فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرهه من غيره، وقد حفظه الله تعالى منه، وما تثاءب نبيّ قطّ. - زاد في رواية: أنّها من الشيطان-، والعطسة الشديدة مكروهة في المسجد وغيره، لأنّه كان يكره رفع الصوت بالعطاس، لكنها في المسجد أشدّ كراهة. انتهى. «مناوي وعزيزي» . (وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكره رفع الصوت بالعطاس. أمّا التّثاؤب) !! قال القاضي: تفاعل؛ من الثوباء- بالمد- وهو: فتح الحيوان فمه، لما عراه من تمطّي وتمدّد لكسل وامتلاء، وهي جالبة النوم الذي هو من حبائل الشيطان، فإنّه به يدخل على المصلي ويخرجه عن صلاته، فلذا كرهه صلّى الله عليه وسلم؛ كما قال المصنف: (فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرهه من غيره) ؛ أي: يكره سببه؛ وهو كثرة الأكل، لأنّه المفضي إلى التكاسل عن العبادة، لأن من أكل كثيرا شرب كثيرا؛ فنام كثيرا؛ ففاته خير كثير. ويطلب ممّن غلبه التثاؤب أن يضع يده اليسرى على فيه لدفع الشيطان. (وقد حفظه الله تعالى منه) ، لأنّه من الشيطان، والأنبياء معصومون من الشيطان، وذكر المصنف التثاؤب لأنّ كلامه في شمائله صلّى الله عليه وسلم، ومنها عدم التثاؤب بخلاف غيره، فليس ذكره استطرادا لمضادّته للضحك. (و) قد ورد في «تاريخ البخاري» و «مصنف ابن أبي شيبة» ؛ عن يزيد بن الأصمّ ابن أخت ميمونة؛ «أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» مرسلا: (ما تثاءب نبيّ قطّ) . قال مسلم بن عبد الملك: ما تثاءب نبيّ قط، وإنّها من علامة النبوة، وفي «البخاري» مرفوعا: «إنّ الله يحبّ العطاس ويكره التّثاؤب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 [الفصل التّاسع في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته] الفصل التّاسع في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلّم بكلام بيّن فصل، ... (الفصل التّاسع) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة كلامه صلّى الله عليه وسلم وسكوته) . والكلام: اسم مصدر بمعنى التكلّم. أو بمعنى ما يتكلّم به، ويصحّ إرادة كلّ منهما هنا، إذ يلزم من بيان صفة المتكلّم صفة ما يتكلّم به؛ وبالعكس. وقد كان صلّى الله عليه وسلم أعذب خلق الله كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتّى كأنّ كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح. ينظّم درّ الثّغر نثر مقوله ... فيا حسنه في نثره ونظامه يناجي فينجي من يناجي من الجوى ... فكلّ كليم برؤه في كلامه روى الترمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسرد) - بضم الراء؛ من السرد- وهو: الإتيان بالكلام على الولاء، فمعنى «يسرد» : يأتي بالكلام على الولاء ويتابعه، ويستعجل فيه (كسردكم) وفي نسخة: سردكم-، بدون كاف، والمعنى عليها، فهو منصوب بنزع الخافض (هذا) الذي تفعلونه فإنه يورث لبسا على السامعين. (ولكن كان يتكلّم بكلام بيّن) - بتشديد التحتية المكسورة- أي: ظاهر. (فصل) - بالجر: تأكيد ل «بيّن» - أي: مفصول ممتاز بعضه من بعض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 يحفظه من جلس إليه. وكان في كلامه صلّى الله عليه وسلّم ترتيل. وكان كلامه صلّى الله عليه وسلّم يحفظه كلّ من سمعه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّم بكلمة.. أعادها ثلاثا ... بحيث يتبيّنه من يسمعه، ويمكنه عدّه، وهذا أدعى لحفظه ورسوخه في ذهن السامع؛ مع كونه يوضّح مراده، ويبيّنه بيانا تامّا، بحيث لا يبقى فيه شبهة. (يحفظه) - أي: كلامه- (من جلس) عنده وأصغى (إليه) ؛ لظهوره وتفصيله، والجلوس ليس بقيد، فالمراد أصغى إليه؛ وإن لم يجلس، ولو من الكفار الذين لا رغبة لهم في سماعه. وفي «سنن أبي داود» ؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلامه كلاما فصلا؛ يفهمه كلّ من سمعه. قال الزين العراقي: وإسناد حسن. (و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما؛ قال: (كان في كلامه صلّى الله عليه وسلم) - وفي رواية: كان في قراءته- (ترتيل) : تأنّ وتمهّل مع تبيين الحروف والحركات، بحيث يتمكن السّامع من عدّها. (و) أخرج النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان كلامه صلّى الله عليه وسلم يحفظه كلّ من سمعه) من العرب وغيرهم، لظهوره وتفاصيل حروفه وكلماته، واقتداره لكمال فصاحته على إيضاح الكلام وتبيّنه، ولهذا تعجّب الفاروق من شأنه؛ وقال: مالك أفصحنا؛ ولم تخرج من بين أظهرنا؟!. قال: «كانت لغة إسماعيل قد درست- أي: متممات فصاحتها- فجاءني بها جبريل فحفظتها» . انتهى «مناوي» . (و) أخرج الإمام أحمد والبخاريّ، والترمذيّ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله «صلّى الله عليه وسلم» - قال الكرماني: قال الأصوليون: مثل هذا التركيب يشعر بالاستمرار- (إذا تكلّم بكلمة) ؛ أي: بجملة مفيدة (أعادها ثلاثا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 حتّى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم.. سلّم عليهم ثلاثا. من المرّات. قال ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» : ولعل الأوّل للسماع، والثاني للتنبيه، والثالث للفكر، والأظهر أنّ الثلاث باعتبار مراتب مدارك العقول من الأعلى والأوسط والأدنى. انتهى كلامه. (حتّى تفهم) هذا بيان للمراد من تكرير الثلاث، وفي رواية البخاري: «ليفهم» - بمثناة تحتية مضمومة وبكسر الهاء-، وفي رواية له بفتحها. (عنه) ؛ أي: لتحفظ وتنقل عنه، وذلك إمّا لأنّ من الحاضرين من يقصر فهمه عن وعيه؛ فيكرره ليفهم ويرسخ في الذهن، وإمّا أن يكون المقول فيه بعض إشكال فيتظاهر بالبيان؛ دفعا للالتباس. وفي «المستدرك» : «حتى تعقل عنه» بدل «حتى تفهم» ، وهذا من شفقته وحسن تعليمه وشدّة النّصح في تبليغه. قال ابن التين: وفيه أن الثلاث غاية ما يقع به الإقرار والبيان. (وإذا أتى على قوم) ؛ أي: وكان إذا قدم على قوم (فسلّم عليهم) هو من تتميم الشرط (سلّم عليهم) - جواب الشرط- (ثلاثا) في سلام الاستئذان، بأن أراد الدخول على قوم في محلّهم؛ فيكرّر لهم السلام ثلاثا إذا لم يعلم سماعهم من مرّة أو مرّتين ليعلمهم أنّه يستأذنهم في الدخول. قال في «الفتح» : وقد فهم البخاريّ هذا بعينه، فأورد هذا الحديث مقرونا بحديث أبي موسى في قصّة عمر، لكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع أيضا منه إذا خشي أن لا يسمع سلامه. انتهى. وسبقه إليه جمع منهم ابن بطّال؛ فقال: يكرّره إذا خشي أنّه لا يفهم عنه أو لا يسمع، أو أراد الإبلاغ في التعليم، أو الزجر في الموعظة. وقال النووي في «الأذكار» و «الرياض» : هذا محمول على ما لو كان الجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يتحدّث.. يكثر أن يرفع طرفه إلى السّماء. كثيرا. وجرى عليه ابن القيّم؛ فقال: هذا في السلام على جمع كثير لا يبلغهم سلام واحد، فيسلّم الثاني والثالث؛ إذا ظنّ أنّ الأول لم يحصل به إسماع، ولو كان هديه دوام التسليم ثلاثا؛ كان صحبه يسلّمون عليه كذلك، وكان يسلّم على كلّ من لقيه ثلاثا، وإذا دخل بيته سلّم ثلاثا، ومن تأمّل هديه علم أنّه ليس كذلك، وأن تكرار السلام كان أحيانا لعارض. إلى هنا كلامه. قال الكرماني: والوجه أنّ معناه: كان إذا أتى قوما يسلّم تسليمة الاستئذان، ثم إذا قعد سلّم تسليم التحية، ثم إذا قام سلّم تسليمة الوداع، وهذه التسليمات كلّها مسنونة، وكان يواظب عليها. انتهى؛ قاله المناويّ في «كبيره» مع شيء من العزيزي والحفني. (و) أخرج أبو داود، والبيهقيّ في «دلائل النبوة» بإسناد حسن؛ عن عبد الله بن سلام- بالفتح والتخفيف- الإسرائيليّ الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع طرفه إلى السّماء) ؛ انتظارا لما يوحى إليه وشوقا إلى الرفيق الأعلى؛ ذكره الطيبي. وقوله «جلس يتحدّث» ! خرج به حالة الصلاة، فإنّه كان يرفع بصره فيها إلى السماء أوّلا حتّى نزلت آية الخشوع في الصلاة فتركه. فإن قلت: ينافيه أيضا ما ورد في عدّة أخبار: أن نظره إلى الأرض كان أكثر من نظره إلى السماء!!؟ قلت: يمكن الجواب بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فإذا كان مترقّبا لنزول الوحي عليه متوقعا هبوط الملك إليه؛ نظر إلى جهته شوقا إلى وصول كلام ربّه إليه، واستعجالا ومبادرة لتنفيذ أوامره، وكان في غير هذه الحالة نظره إلى الأرض أطول؛ ذكره المناوي في «كبيره» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وكان صلّى الله عليه وسلّم يحدّث حديثا، لو عدّه العادّ.. لأحصاه. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) يسرد الحديث سردكم هذا! كان (يحدّث حديثا) ؛ ليس بمهذرم مسرع، ولا متقطّع يتخلّله السّكتات بين أفراد الكلم، بل يبالغ في إيضاحه وبيانه بحيث (لو عدّه العادّ) ، أي: لو أراد المستمع عدّ كلماته أو حروفه (لأحصاه) ، أي: أمكنه ذلك بسهولة، والمراد بذلك: المبالغة في التفهيم والترتيل، وهذا أتت به عائشة رضي الله تعالى عنها تعرّض بأبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وصدر الحديث: عن عروة؛ عنها أنّها قالت: ألا يعجبك أبو فلان- ولفظ «مسلم» : أبو هريرة- جاء فجلس إلى جانب حجرتي؛ يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسرد، يسمعني ذلك؛ وفي رواية: فقال: ألا تسمعين يا ربّة الحجرة!! وكنت أسبّح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كان ... فذكرت الحديث. قال الحافظ ابن حجر: واعتذر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ بأنّه كان واسع الرّواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكّن من التّرتيل عند إرادة التّحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم عليّ القوافي. ومن حديث عائشة المذكور أخذ أنّ على المدرّس أن لا يسرد الكلام سردا، بل يرتّله ويزيّنه ويتمهل ليتفكّر فيه هو وسامعه، وإذا فرغ من مسألة أو فصل سكت قليلا ليتكلّم من في نفسه شيء. انتهى «مناوي» . وأخرج التّرمذيّ في «الجامع» ، و «الشّمائل» ، والحاكم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثا حتى تعقل عنه» ؛ أي: ليتدبّرها السّامعون، ويرسّخ معناها في القوّة العاقلة. وفيه أن الثّلاثة غاية الإعذار والبيان؛ كما قال ابن التين، فمن لم يفهم بها لا يفهم بما زيد عليها؛ ولو مرّات عديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وكان صلّى الله عليه وسلّم طويل الصّمت. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثير السّكوت، ... وقد ورد: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان لا يراجع بعد ثلاث؛ وفيه ردّ على من كره إعادة الحديث، وأنكر على الطّالب الاستعادة، وعدّه من البلادة. قال ابن المنيّر: والحقّ أنّه يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذا لم يعد، بل الإعادة عليه آكد من الابتداء، لأنّ الشّروع ملزم. انتهى «زرقاني» . (و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد صحيح؛ من حديث سماك؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما. قال سماك: قلت لجابر: أكنت تجالس النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، و (كان) ؛ أي: رسول الله (صلّى الله عليه وسلم طويل الصّمت) ، في غير أوقات الذّكر، فالمراد الصّمت عمّا لا ثواب فيه، وذلك لأنّ كثرة السّكوت من أقوى أسباب التوقير، وهو من الحكمة وداعية للسّلامة من اللّغط، ولهذا قيل: من قلّ كلامه قلّ لغطه. وهو أجمع للفكر. انتهى. وتمام الحديث بعد قوله «طويل الصّمت» : قليل الضّحك. انتهى «مناوي» . (و) في «الشّفاء» للقاضي عياض: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كثير السّكوت) لتفكّره في مشاهدة الملكوت وتذكّره مطالعة الجبروت. وكان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتّقدير والتفكّر. فأمّا تقديره ففي تسوية النّظر، والاستماع بين النّاس، وأمّا تفكّره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم في الصّبر؛ فكان لا يغضبه شيء يستفزّه، وجمع له في الحذر أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأي بما أصلح أمّته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدّنيا والآخرة؛ ذكره في «الشفاء» للقاضي عياض. وهذا الحديث رواه التّرمذي في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 لا يتكلّم في غير حاجة، ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم نزر الكلام، سمح المقالة، ... رضي الله تعالى عنه بلفظ: طويل السّكوت (لا يتكلّم في غير حاجة) ؛ أي: من قضيّة ضروريّة دينيّة، أو دنيويّة، أو مسألة عملية أو علميّة، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (3) [المؤمنون] ، ولحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . (ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل) ؛ بما لا يستحسن ذكره ولا يباح أمره، إذا صدر عمّن تكلّم بناء على جهله، لقوله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (199) [الأعراف] . والظّاهر أنّ المراد بالإعراض هو الصّفح وعدم الاعتراض، فيختصّ بالمكروهات التّنزيهيّة على مقتضى القواعد الشرعيّة. وأمّا المحرّمات القطعيّة؛ وكذا المكروهات التحريميّة!! فلا بدّ للشّارع من أن يأمر ويزجر قياما بحقّ النّبوّة والرّسالة. انتهى «ملّا علي قاري» . (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز ابن ماجه: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يخزن) - بالخاء وضمّ الزّاي المعجمتين والنون آخره- أي: يصون (لسانه) ، ومنه الخزانة، لأنّه لا يحبّ كثرة الكلام، قال: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخازن (إلّا فيما يعنيه) - بفتح المثنّاة التحتية وكسر النون- أي: يهمّه وينفعه من جواهر كلمه وزواجر حكمه صلّى الله عليه وسلم. وفي «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم نزر الكلام) ؛ أي: قليله عند الحاجة إليه، (سمح المقالة) ؛ أي: سهل الكلام يواتيه بلا تكلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 يعيد الكلام مرّتين ليفهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم كلامه كخرزات النّظم. وكان يعرض عن كلّ كلام قبيح، ويكني عن الأمور المستقبحة في العرف إذا اضطرّه الكلام إلى ذكرها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله تعالى بين كلّ خطوتين. (يعيد الكلام مرّتين) ؛ أو أكثر، كثلاث، وهي غاية ما يقع به الإيضاح والبيان، وذلك (ليفهم) عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا يراجع بعد ثلاث. (و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كلامه كخرزات النّظم) الخرزات: جمع خرزة محركة، وهي: اسم لما ينظم من جواهر وغيرها، والنّظم المنظوم باللّؤلؤ والخرز، وهو في الأصل مصدر؛ يقال: نظم من لؤلؤ، ونظم اللّؤلؤ ينظمه نظما ونظاما- بالكسر-، ونظّمه تنظيما، ألّفه وجمعه في سلك فانتظم وتنظّم. والمعنى: إنّ كلامه مفصّل ممتاز بعضه من بعض، ظاهر الكلمات والحروف، مع حلاوة في منطقه، وذلك لكمال فصاحته. روى الطّبراني من حديث أمّ معبد: وكأن منطقه خرزات النّظم ينحدرن، حلو المنطق؛ لا نزر ولا هذر. (وكان يعرض عن كلّ كلام قبيح) لا يرضاه، فيعلم بإعراضه عنه أنّه غير مرضيّ له صلّى الله عليه وسلم، وهذا من وقاره، وليس المراد به أن يكون حراما، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لا يقرّ على مثله. (ويكني عن الأمور المستقبحة في العرف إذا اضطرّه الكلام إلى ذكرها) كقوله: «خذي فرصة ممسّكة فتطهّري بها» . فإن اقتضى الحال التّصريح صرّح بذلك، كقوله للرّجل: «أنكتها» ، بعد قوله له: «لعلّك قبّلت!! لعلّك فاخذت!!» وذلك لأن الحكم الشّرعيّ هنا يترتّب على التّصريح بالجماع. (وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى بين كلّ خطوتين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 [الفصل العاشر في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم] الفصل العاشر في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شديد البطش. وعن ابن إسحاق ... (الفصل العاشر) ؛ من الباب الثّاني (في) بيان ما ورد في (صفة قوّته) القوّة: واحدة القوى، مثل غرفة وغرف، وكان تام القوّة في أعضائه (صلّى الله عليه وسلم) ، كما أنّه تام القوّة في حقوق الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، مراقب لحدوده حافظ لها؛ لا يخاف في الله لومة لائم، وقد جاءت الأخبار الدّالة على قوّته البدنيّة. فقد أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن محمد بن الحنفيّة مرسلا، ورواه أبو الشّيخ من رواية أبي جعفر معضلا؛ كما قال المناوي، ما «1» ذكره المصنّف في قوله: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شديد البطش) ؛ أي: القوّة عند الاحتياج إلى ذلك، قد أعطي قوّة أربعين في البطش والجماع؛ كما في خبر الطّبرانيّ عن ابن عمرو. ولأبي الشّيخ عن علي: كان من أشدّ النّاس بأسا. ومع ذلك فلم تكن الرّحمة منزوعة عن بطشه، لتخلّقه بأخلاق الله، وهو سبحانه ليس له وعيد وبطش شديد؛ ليس «2» فيه شيء من الرّحمة واللّطف. (وعن) محمد (بن إسحاق) بن يسار المطّلبيّ مولاهم، لأنّ جده يسارا من سبي عين التمر، فهو مطّلبيّ بالولاء، وهو من أهل المدينة المنوّرة، وكان إماما في   (1) مفعول (أخرج ابن سعد) وما عطف عليه. (2) جملة ليس وما معها خبر «ليس» التي قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وغيره: أنّه كان بمكّة رجل شديد القوّة يحسن الصّراع، وكان النّاس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم، فبينما هو ذات يوم في شعب من شعاب مكّة إذ لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «يا ركانة؛ ألا تتّقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟» . فقال له: يا محمّد؛ هل من شاهد يدلّ على صدقك؟ فقال: «أرأيتك إن صرعتك، أتؤمن بالله ورسوله؟» . قال: نعم يا محمّد. فقال له: «تهيّأ للمصارعة» . فقال: تهيّأت. فدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المغازي والسّير، له كتاب «السّيرة النّبويّة» التي هذّبها ورواها عنه ابن هشام، وله كتاب «الخلفاء» وكتاب «المبتدأ» وكان من حفّاظ الحديث، وزار الإسكندرية وسكن بغداد فمات بها سنة: - 151- إحدى وخمسين ومائة؛ رحمه الله تعالى. (و) عن (غيره) في كتاب «السّيرة النّبويّة» : (أنّه كان بمكّة رجل) هو ركانة (شديد القوّة يحسن الصّراع) - بكسر الصاد مصدر؛ صارع مصارعة وصراعا- (وكان النّاس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم) - بابه نفع- (فبينما هو ذات يوم في شعب) - بالكسر- الطريق أو في الجبل (من شعاب مكّة إذ لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له: «يا ركانة؛ ألا تتّقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟» ) ، فتؤمن بالله ورسوله، أو كما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (فقال) أي: ركانة (له: يا محمّد؛ هل) لك (من شاهد يدلّ على صدقك) فيما تقوله؟ (فقال: «أرأيتك) ، أي: أخبرني (إن صرعتك؛ أتؤمن بالله ورسوله؟» ) - بهمزة الاستفهام-. (قال: نعم يا محمّد) ، وصريح هذا أن السّائل له في المصارعة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وفي رواية البلاذري: أنّ السّائل ركانة، فيحتمل أن كلا منهما توارد مع الآخر في السّؤال. (فقال له: «تهيّا للمصارعة» . فقال: تهيّات. فدنا) منه (رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فأخذه، ثمّ صرعه. قال: فتعجّب ركانة من ذلك، ثمّ سأله الإقالة والعود، ففعل به ثانيا وثالثا، فوقف ركانة متعجّبا، وقال: إنّ شأنك لعجيب. فأخذه ثمّ صرعه، قال: فتعجّب ركانة من ذلك) ؛ لأنّه كان مستحيلا عنده أنّ أحدا يصرعه. (ثمّ سأله الإقالة) ممّا توافقا عليه، وهو الإيمان إن صرعه، ولم تكن الموافقة بينهما على قطيع من الغنم كما قد يتوهّم، لأنّ المعاقدة على الغنم إنّما كانت مع ابنه يزيد؛ كما في «الإصابة» . (والعود) إلى المصارعة (ففعل به) ذلك (ثانيا وثالثا. فوقف ركانة متعجّبا؛ وقال: إنّ شأنك لعجيب) ؛ رواه الحاكم في «المستدرك» ؛ عن أبي جعفر عن أبيه محمد بن ركانة. ورواه أبو داود، والتّرمذيّ، من رواية أبي الحسن العسقلاني؛ عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة؛ عن أبيه: أنّ ركانة صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ... الحديث. وكذا أخرجه البيهقي؛ من رواية سعيد بن جبير التّابعي المشهور. قال في «الإصابة» : ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطّلبيّ. روى البلاذري أنّه قدم من سفر فأخبر خبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بمكّة قبل الإسلام، وكان أشدّ النّاس، فقال: يا محمّد؛ إن صرعتني آمنت بك!. فصرعه فقال: أشهد أنّك ساحر. ثم أسلم بعد، وأطعمه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خمسين وسقا، وقيل: لقيه في بعض جبال مكّة؛ فقال: يا ابن أخي بلغني عنك شيء، فإن صرعتني علمت أنّك صادق، فصارعه فصرعه، وأسلم ركانة في فتح مكّة، وقيل: عقب مصارعته، ومات في خلافة معاوية. قال الزّبير: وقال أبو نعيم: في خلافة عثمان، وقيل: عاش إلى سنة: - 41- إحدى وأربعين. انتهى باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وقد صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحيّ، وكان شديدا، بلغ من شدّته أنّه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرّى الجلد، ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المصارعة، ... (وقد صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم جماعة غير ركانة؛ منهم) ابنه يزيد بن ركانة؛ قال أبو عمر بن عبد البر: له ولأبيه صحبة ورواية، روى عنه ابناه عليّ، وعبد الرّحمن، وأبو جعفر الباقر. وأخرج ابن قانع من طريق يزيد بن أبي صالح؛ عن علي بن يزيد بن ركانة: أنّ أباه أخبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا ركانة بأعلى مكّة؛ فقال: «يا ركانة، أسلم» . فأبى، فقال: «أرأيت إن دعوت هذه الشّجرة- لشجرة قائمة- فأجابتني! تجيبني إلى الإسلام؟» . قال: نعم. فذكر عن ابن عباس قال: جاء يزيد بن ركانة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ومعه ثلثمائة من الغنم، فقال: يا محمّد؛ هل لك أن تصارعني!! قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» . قال: مائة من الغنم، فصارعه فصرعه. ثم قال: هل لك في العود، قال: «وما تجعل لي؟» قال: مائة أخرى، فصارعه فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمد؛ ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليّ منك، وأنا أشهد أن لّا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فقام عنه ورد عليه غنمه؛ ذكره في «الإصابة» ، قد صارع ركانة وابنه جميعا. ومنهم (أبو الأسود الجمحيّ) - بضمّ الجيم وفتح الميم ومهملة-؛ نسبة إلى جمح: بطن من قريش، كما قاله السّهيليّ، ورواه البيهقيّ. (وكان شديدا، بلغ من شدّته أنّه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرّى الجلد) ؛ أي: ينشّق ويتقطّع (ولم يتزحزح) ، أي: يتحرك، (عنه، فدعا) هو (رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المصارعة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وقال: إن صرعتني.. آمنت بك، فصرعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يؤمن. وأمّا قوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجماع: فقد قال أنس رضي الله تعالى عنه: إنّه كان صلّى الله عليه وسلّم يدور على نسائه في السّاعة الواحدة من اللّيل والنّهار؛ وهنّ إحدى عشرة. وقال: إن صرعتني آمنت بك. فصرعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يؤمن) ، وفي قصّته طول. (وأمّا قوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجماع! فقد) أعطي الحدّ الكثير الزّائد على العادة من أمر الجماع وقوّة الباءة، وأعطي القدرة على قوّة الشّهوة بكثرة الجماع. (قال أنس) بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم (رضي الله تعالى عنه) فيما رواه البخاريّ في «صحيحه» ؛ من طريق هشام؛ عن قتادة بن دعامة، و «النّسائيّ» في «سننه» : (أنّه كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يدور على نسائه) ؛ أي: يجامعهنّ (في السّاعة الواحدة) ، المراد بها الزّمن القليل؛ لا السّاعة النّجوميّة (من اللّيل) ؛ أي: مرة (والنّهار) ؛ أي: تارة، (وهنّ) ؛ أي: مجموعهن (إحدى عشرة) - بسكون الشّين وتكسر-؛ تسع زوجاته، ومارية وريحانة سريّتاه، وتمام الحديث: قال قتادة: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟! قال: كنا نتحدّث أنه أعطي قوّة ثلاثين. انتهى. ووقع عند الإسماعيليّ؛ من رواية أبي موسى عن معاذ بن هشام: «أربعين» بدل «ثلاثين» ؛ قال الحافظ ابن حجر: وهي شاذّة من هذا الوجه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على النّاس بأربع: بالسّماحة، والشّجاعة، وكثرة الجماع، وشدّة البطش» . رواه الطّبراني في «الأوسط» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وأخرج ابن منيع: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يطوف على تسع نسوة في ضحوة. وعن صفوان بن سليم مرفوعا: «أتاني جبريل بقدر فأكلت منها، فأعطيت قوّة أربعين رجلا في الجماع» . (وأخرج ابن منيع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يطوف على تسع نسوة في ضحوة) . (و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» برجال الصّحيح لكنّه مرسل؛ قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى؛ عن أسامة بن زيد؛ (عن صفوان بن سليم) - بضمّ السّين مصغرا- المدني أبي عبد الله الزّهري «مولاهم» . تابعيّ صغير ثقة مفت، عابد إمام كبير، قدوة ممن يستشفى بحديثه، وينزل القطر من السّماء بذكره. ويقال: لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة. وأنّه مات وهو ساجد. ويقال: إن جبهته نقّبت من كثرة السّجود، روى عن ابن عمر وغيره، وعنه مالك وطبقته، روى له السّتة، مات سنة: اثنتين وثلاثين ومائة هجرية رحمه الله تعالى. (مرفوعا) ؛ مرسلا: (أتاني جبريل بقدر) - بكسر فسكون-: إناء يطبخ فيه؛ مؤنّثة. (فأكلت منها) ؛ بإذن، إذ وضع الطعام إذن، وظاهره أنّها من الجنّة، ولا مانع أنّ طعامها يخرج إلى الدّنيا، لكنّه يسلب الخصوصيّة في حقّ غير نبيّنا، (فأعطيت قوّة) - أي: قدرة- (أربعين رجلا) من رجال أهل الجنّة (في الجماع) . قيّد به! ليدلّ على أنّ القوّة في غيره أولى، إذ هو محل العجز غالبا، لا سيما عند الكبر، وحديث القدر هذا صحيح مرسل، ووصله ضعيف، ولم يعلم ما في القدر، وزعم أنه هريسة!! لا يصحّ، لأنّ أحاديث الهريسة كلّها واهية، بل قال ابن ناصر: إنّها موضوعة، وقال غيره: ضعيفة جدّا، وقال الذّهبيّ: واهية. انتهى «زرقاني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وعن طاووس ومجاهد: ... (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ (عن) أبي عبد الرحمن (طاوس) يقرأ بواوين، قيل: وبهمز- قال الصاغاني: والاختيار أن يكتب «طاوس» علما بواو واحدة ك «داود» . قال ابن معين: لقّب بذلك! لأنّه كان طاوس القراء. وهو ابن كيسان اليماني، همداني من بني حمير «مولاهم» ، أصله من الفرس، وأمّه مولاة لقوم من حمير، وكان مسكنه مدينة الجند- بفتح الجيم وبفتح النون-: بلدة معروفة باليمن، ويتردّد مع ذلك إلى صنعاء، وربما أقام بها مدّة. وهو من كبار التّابعين والعلماء والفضلاء والصّالحين، بل هو أحد الأبدال، أدرك خمسين من الصحابة وصحبهم وأخذ عنهم، وروى عن أبي هريرة، وابن عبّاس، وعائشة، وعليّ بن أبي طالب وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وغيرهم رضي الله عنهم. قال الزمخشري: كان خلق طاوس يحكي خلق الطاوس. وذكر ابن الجوزي في كتاب «صفوة الصفوة» : أنّه صلّى الصّبح بوضوء العشاء أربعين سنة. روى عنه ابنه عبد الله، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وعطاء، وابن المنكدر، والزهري، وغيره ممن لا يحصون كثرة، واتفقوا على جلالته وفضيلته، ووفور علمه وصلاحه وحفظه وتثبّته، وكان معظّما عند سائر النّاس. وكان كثير الحجّ إلى بيت الله تعالى، يقال: إنّه حجّ أربعين حجّة، وكانت وفاته بمكّة يوم التّروية؛ سنة: ستّ ومائة، وقد بلغ عمره بضعا وتسعين سنة رحمه الله تعالى. (و) عن (مجاهد) مرسلا، وهو أبو الحجّاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي «مولاهم» وهو تابعيّ إمام؛ متّفق على جلالته وإمامته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 أعطي صلّى الله عليه وسلّم قوّة أربعين رجلا في الجماع. وفي رواية عن مجاهد: قوّة بضع وأربعين رجلا من أهل الجنّة. وعن زيد بن أرقم ... سمع ابن عمر وابن عباس، وجابرا وأبا سعيد، وأبا هريرة، وغيرهم من الصّحابة، ومن التّابعين طاوسا وابن أبي ليلى وآخرين. روى عنه طاوس وعكرمة، وعمرو بن دينار، وأبو الزّبير، والأعمش وخلائق لا يحصون. واتفقوا على إمامته وجلالته وتوثيقه، وهو إمام في الفقه والتفسير والحديث، ومناقبه كثيرة مشهورة، مات وهو ساجد سنة: إحدى ومائة؛ وعمره ثلاث وثمانون سنة. وقيل غير ذلك، رحمه الله تعالى؛ (أعطي صلّى الله عليه وسلم قوّة أربعين رجلا في الجماع) . ولا ينافيه رواية الصّحيح السّابقة «قوّة ثلاثين» ، لجواز أنّهم تحدثوا بذلك قبل بلوغهم الزّيادة. (وفي رواية عن مجاهد) أنّه أعطي (قوّة بضع) - بكسر الباء-: من الثلاثة إلى التّسعة، (وأربعين رجلا من أهل الجنّة) . رواها الحارث بن أبي أسامة. وفي «الحلية» لأبي نعيم عن مجاهد: قوّة أربعين رجلا، كلّ رجل من رجال أهل الجنّة. وروى التّرمذيّ: «إنّ رجال أهل الجنّة؛ قوّة كلّ رجل منهم بقوّة سبعين رجلا» . وصحّحه؛ وروى «بقوّة مائة رجل» . وقال: صحيح غريب؛ قلت: فعلى هذا كان صابرا عنهن غاية الصّبر، لكثرة الاشتياق إليهنّ. انتهى «شرح الشفاء» لملا علي قاري. (و) روى الإمام أحمد، والنّسائي، وصحّحه الحاكم؛ (عن) أبي عمرو: (زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس بن النّعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ. غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، استصغر يوم أحد، وكان يتيما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 رفعه: «إنّ الرّجل من أهل الجنّة ليعطى قوّة مئة في الأكل والشّرب والجماع والشّهوة» . حجر عبد الله بن رواحة، وسار معه في غزوة مؤتة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعون حديثا؛ اتفق البخاريّ، ومسلم على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بستة، روى عنه أنس بن مالك، وابن عباس، وخلائق من التابعين. نزل الكوفة وتوفّي بها سنة: ستّ وخمسين. وقيل: ثمان وستين، رضي الله تعالى عنه (رفعه) إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ( «إنّ الرّجل من أهل الجنّة ليعطى قوّة مائة) في رواية الطّبراني: مائة رجل- (في الأكل والشّرب والجماع والشّهوة» ) عطف سبب على مسبّب، لأنّ الجماع يتسبّب عن الشّهوة. وخصّها!! لأنّ ما عداها راجع إليها، إذ الملبس والمسكن من الشّهوة، ولا يرد أنّ كثرة الأكل والشّرب في الدّنيا مجمع على ذمّها، لأنّه لما ينشأ عنها من فتور وتوان وتثاقل عن العبادة، ومن أمراض؛ كتخمة وقولنج، وأهل الجنّة مأمونون من ذلك كلّه، إذ كل ما فيها لا يشبه شيئا ممّا في الدّنيا إلّا في مجرّد الاسم، ألا ترى أنّه زاد في رواية الطّبرانيّ في «الكبير» برجال ثقات: «حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده، فإذا بطنه قد ضمر» !! انتهى «زرقاني» . خاتمة: قال في «المواهب» : لمّا كان عليه الصّلاة والسلام ممّن أقدر على القوّة في الجماع، وأعطي الكثير منه؛ أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره، وهو الزيادة على أربع. قال ابن عبّاس: تزوّجوا؛ فإنّ أفضل هذه الأمّة أكثرها نساء. رواه البخاريّ؛ يشير إليه صلّى الله عليه وسلم، وقيّد بهذه الأمّة!! ليخرج مثل سليمان عليه الصلاة والسلام، فإنّه كان أكثر نساء من المصطفى صلّى الله عليه وسلم. قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني: والذي يظهر أن مراد ابن عبّاس بالخير: النّبي صلّى الله عليه وسلم، وبالأمّة أخصّاء أصحابه، وكأنّه أشار إلى أن ترك التزوّج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 مرجوح، إذ لو كان راجحا ما آثر النبيّ صلّى الله عليه وسلم غيره، وكان- مع كونه أخشى لله تعالى وأعلمهم به؛ كما صحّ في الحديث- يكثر التزوّج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطّلع عليها الرّجال؛ وقد جاء عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- من ذلك الكثير الطيّب، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة، بكونه كان لا يجد ما يتمتّع به من القوت غالبا، وإن وجد؛ فكان يؤثر بأكثره ويصوم كثيرا ويواصل، والصوم يضعف النكاح، بل هو له وجاء، ومع ذلك فكان يدور على نسائه في السّاعة الواحدة، ولا يطاق ذلك إلّا مع قوّة البدن!! وقوّة البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقوّيات من مأكول ومشروب، وهي عنده- عليه الصلاة والسلام- نادرة قليلة جدّا؛ أو معدومة أصلا. وقال بعض العلماء في حكمة زيادته على أربع: لما كان الحرّ لفضله على العبد يستبيح من النّساء أكثر ممّا يستبيح العبد؛ وجب أن يكون النّبي صلّى الله عليه وسلم لفضله على جميع الأمّة يستبيح من النّساء أكثر ممّا تستبيحه الأمّة، ولزيادة فضله على جميع الخلق لم يتقيّد ما أبيح له بعدد، ولم يقصر ما يباح له على ضعف ما يباح للحرّ فقط. قالوا: ومن فوائد ذلك زيادة التّكليف في القيام بهنّ مع تحمّل أعباء الرّسالة، فيكون ذلك أعظم لمشاقّه وأكثر لأجره. ومنها: أنّ النّكاح في حقّه عبادة مطلقا. ومنها: نقل محاسنه الباطنة، فقد تزوج عليه الصلاة والسلام أمّ حبيبة بنت أبي سفيان؛ وكان أبوها في ذلك الوقت عدوه ويحاربه، وتزوّج صفيّة بنت حيي؛ وقد قتل أباها وعمّها وزوجها في غزوة خيبر، فلو لم يطّلعن من بواطن أحواله على أنّه أكمل خلق الله تعالى؛ لكانت الطباع البشريّة تقتضي نفرتهنّ عنه، وميلهن إلى آبائهنّ وقرابتهنّ، فكان في كثرة النّساء عنده بيان لمعجزاته، ولمعرفة كماله باطنا، كما عرف منه الرّجال كماله ظاهرا، وهذه حكم ونكات لا تتزاحم، بل كلّ من ظهر له شيء منها أبداه. انتهى كلام «المواهب» مع شيء من الشّرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 [الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه] الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه وفيه ستّة فصول (الباب الثّالث في) بيان ما ورد في (صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ من قميص وإزار وعمامة وغيرها. (و) في صفة (فراشه) بكسر الفاء- ومنه خاتمه ونعله، (و) في صفة (سلاحه) ؛ من سيف أو رمح أو حربة وغيرها، (وفيه) أي: هذا الباب (ستّة فصول) يأتي بيانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 [الفصل الأوّل في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها] الفصل الأوّل في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها (الفصل الأوّل) من الباب الثّالث (في) بيان ما ورد في (صفة لباسه صلّى الله عليه وسلم) . في «الصحاح» وغيره: إنّ اللّباس بوزن كتاب: ما يلبس، وكذا الملبس بوزن المذهب، واللّبس بوزن حمل، واللّبوس بوزن صبور. واللّباس تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون واجبا؛ كاللّباس الذي يستر العورة عن العيون. ومندوبا؛ كالثّوب الحسن للعيدين، والثّوب الأبيض للجمعة ومحرما؛ كالحرير للرجال. ومكروها؛ كلبس الخلق دائما للغنيّ. ومباحا؛ وهو ما عدا ذلك. وقوله (من قميص) : هو اسم لما يلبس من المخيط الذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب ولا يكون من صوف؛ كذا في «القاموس» ، مأخوذ من التّقمّص، بمعنى: التّقلّب، لتقلّب الإنسان فيه، وقيل: سمي باسم الجلدة الّتي هي غلاف القلب، فإنّ اسمها القميص، (وإزار) : وهو ما يستر أسفل البدن، (ورداء) : وهو ما يستر أعلاه، (وقلنسوة) - بفتح القاف واللّام وسكون النّون وضمّ المهملة وفتح الواو-: غشاء مبطّن يستر الرأس، فهي من ملابس الرّأس، كالبرنس الذي تغطى به العمامة من نحو شمس ومطر. قال ابن العربي: القلنسوة من لباس الأنبياء والصّالحين السّالكين، تصون الرّأس وتمكّن العمامة وهي من السّنة، وحكمها أن تكون لاطية لا مقبية، إلّا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في «الشّفا» : يفتقر الرّجل إلى أن يحفظ رأسه عمّا يخرج منه من الأبخرة؛ فيقبّها ويثقب فيها، فيكون ذلك تطبّبا. انتهى (مناوي) . (وعمامة) : كلّ ما يلفّ على الرّأس. والعمامة سّنة، لا سيّما للصّلاة وبقصد التجمّل، لأخبار كثيرة فيها؛ جمعها بعضهم في مؤلف سماه «الدّعامة» ، وتحصل السّنة بكونها على الرّأس؛ أو على قلنسوة، ففي الخبر: «فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» . وأما لبس القلنسوة وحدها فهو زيّ المشركين، وما ورد مما يفيد: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يلبس القلنسوة وحدها!! فلعلّه حين يكون في البيت. (ونحوها) ، أي: المذكورات كجبّة وبرد. (قال) الفقيه الإمام (القاضي) أبو الفضل (عياض) - بكسر العين المهملة وفتح المثنّاة، وبعدها ألف وضاد معجمة- ابن موسى بن عياض اليحصبيّ السّبتيّ الغرناطيّ المالكيّ، صاحب التّصانيف الجليلة، المتبحّر في العلوم النّقليّة والعقليّة، المتوفّى سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة؛ في جمادى الآخرة بمرّاكش- وقد تقدمت ترجمته- (رحمه الله تعالى في) كتاب ( «الشّفا» ) الّذي كلّه حسنات، وقد شوهدت بركته حتى لا يقع ضرر لمكان كان فيه، ولا تغرق سفينة كان فيها، وإذا قرأه مريض أو قرىء عليه شفاه الله تعالى، وقد جرّبه بعضهم وكان ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله تعالى منه، وقال في ذلك: ما بالكتاب هواي لكنّ الهوى ... أمسى بمن أمسى به مكتوبا كالدّار يهوى العاشقون بذكرها ... شغفا بها لشمولها المحبوبا أرجو الشّفاء تفاؤلا باسم الشّفا ... فحوى الشّفاء وأدرك المطلوبا وبقدر حسن الظّنّ ينتفع الفتى ... لا سيّما ظنّ يصيح مجيبا وقد ذكر القاضي عياض الكلام الآتي في «الشفاء» أثناء الضّرب الثّالث مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 (انظر سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم وخلقه في المال.. تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وأحلّت له الغنائم؛ ولم تحلّ تدعو إليه ضرورة الحياة قائلا: (انظر سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: طريقته وهديه (وخلقه) - بضمّتين أو ضمّ فسكون- أي: سجيّته الشريفة، (في المال) ؛ أي: في حقّ أخذه وعطائه، وامتناعه عن التلبّس بوجوده وبقائه، (تجده) - بالجزم؛ أي: تعلمه- (قد أوتي خزائن الأرض) ؛ أي: عرضت عليه (ومفاتيح البلاد) ؛ أي: أعطيت له، كما ورد في الحديث الصحيح في «مسلم» : «بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض؛ فوضعت في يدي» . وفي كتاب «الوفا» ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه مسندا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أتيت بمقاليد الدّنيا على فرس أبلق، عليه قطيفة من سندس» وإليه أشار الصّرصريّ رحمه الله تعالى بقوله: بعثت مقاليد الكنوز جميعها ... تهدى إليه على سراة حصان جعلت عليه قطيفة من سندس ... فله استقام الزّهد عن إمكان ومثله ثابت من طرق عديدة، وهذا يدل على أنّ الله تعالى أعطاه ذلك حقيقة. وخزائن الأرض: دفائنها ومعادنها، بأن يطلعه الله تعالى عليها، ويجعل الملائكة الموكّلين بها طوع يده. فإنّ السّلطان خزينته بيد خازنها حاضر مطيع لديه، فهذا معنى كونها في يده عرفا. وأمّا المفاتيح!! فإن كانت بمعنى الخزائن؛ فكذلك، وإن كانت جمع مفتاح بمعنى آلة الفتح!! فإعطاؤها إرسالها؛ كما هو ظاهر الحديث السّابق. وقيل: إنّه كناية عن فتح البلاد عليه وعلى أمّته بعده، وجباية أموالها إليهم، واستخراج كنوزها لديهم، وتلويح بالتوصّل إليها كما يتوصّل بالمفاتيح إلى ما أغلق عليه من أبوابها. انتهى شرح «الشّفا» للخفاجيّ والقاري. (وأحلّت له الغنائم) ؛ لزيادة الفضيلة، (ولم تحلّ) بصيغة المجهول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 لنبيّ قبله، وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلّم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب ... المناسب ل «أحلت» ، أو بفتح أوّله وكسر ثانيه؛ أي: والحال أنّها لم تبح (لنبيّ قبله) ، إذ جاء في الآثار أنّهم كانوا يجمعون الغنائم فتأتي نار من السّماء فتأكلها، وفي حديث مسلم: «لم تحلّ الغنائم لأحد من قبلنا، وذلك لأنّ الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا» . والغنيمة: ما يؤخذ من الكفّار، وكذا الفيء. وفرّق الفقهاء بينهما؛ بأنّ الفيء: ما يحصل بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، والغنيمة: ما حصل بقتال. وقد يستعمل كلّ منهما لما يعمّ الآخر كما فيما نحن فيه (وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلم بلاد الحجاز) ، وهي مكة، والمدينة، والطائف، واليمامة، وخيبر وقراها، وطرقها الممتدّة بينها. وقيل: غير ذلك، وقيل: المدينة نصفها حجازيّ ونصفها تهاميّ، والحجاز بمعنى الحاجز. وسمّيت هذه البلاد بالحجاز!! لأنّها تحجز بين نجد وتهامة، أو بين اليمن والشّام. وقيل غير ذلك. (واليمن) - بالرفع والجر- وسمّي به!! لكونه عن يمين الكعبة لمن وقف بالباب ووجهه لخارج، وهو المعتبر لكونه بمنزلة المنبر. (وجميع جزيرة) - فعيلة- من جزر الماء؛ وهو انكشافه ورجوعه، ضدّ المدّ. وجزيرة (العرب) : ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق طولا، ومن جدّة وما والاها ومن ساحل البحر إلى أطراف الشّام عرضا؛ عند الأصمعي. وقال أبو عبيدة من حفر أبي موسى الأشعريّ إلى أقصى اليمن طولا، ومن رمل قبرس إلى منقطع السّماوة عرضا. وسميت جزيرة!! لأنّ بحر فارس وبحر الحبشة ودجلة والفرات أحاطت بها، وقال مالك: جزيرة العرب الحجاز واليمن واليمامة، وما لم يبلغه ملك فارس والروم. وقيل: جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن، ولعل هذا معنى قول مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وما دانى ذلك من الشّام والعراق، وجلب إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلّا بعضه، وهادنه ... (وما دانى ذلك) ؛ أي: ما قارب بلاد الحجاز وجزيرة العرب (من الشّام) بالهمز السّاكن وإبداله ألفا، ويقال بفتح الشّين والمدّ؛ على وزن فعال، وهو يذكّر ويؤنّث. والمشهور أنّ حد الشّام من العريش إلى الفرات طولا، وقيل: إلى نابلس. وعرضا من جبل طيّ من نحو القبلة إلى بحر الرّوم وما سامت ذلك من البلاد، وقد دخله النّبي صلّى الله عليه وسلم، إلّا أنّه لم يدخل دمشق، بل بلغ إلى بصرى (مدينة حوران) . قال ابن عساكر في «تاريخه» : دخل الشّام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (والعراق) ؛ أي: عراق العرب، وهو إقليم معروف، وفيه مدن عظيمة وقرى، وطوله من تكريت إلى عبّادان وهي قرية، ولذا قيل في المثل «ما وراء عبّادان قرية» ؛ وعرضه من القادسيّة إلى حلوان، ودجلة حدّه: جانبها الأيمن للعراق؛ واليسار لفارس. ويدخل في حدود العراق البصرة والكوفة. أمّا عراق العجم! فهو إقليم خراسان. ولفظ «العراق» عربي، وقيل: فارسي معرب، وقيل: سمّي عراقا لكثرة عروق أشجاره، (وجلب) ، أي: جيء، وفي بعض نسخ «الشّفاء» : وجبيت (إليه من أخماسها) في الغنيمة، (وجزيتها) من أهل الذّمّة، (وصدقاتها) من أغنياء الأمّة (ما لا يجبى) ، أي: ما لا يؤتى به (للملوك إلّا بعضه) ، أي: لكثرته مع زيادة بركته، روي: أن أعظم مال أتي به إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم من مال الجزية ما قدم عليه من البحرين، وقدره مائة ألف درهم وثمانون ألف درهم. (وهادنه) ، أي: صالحه، - وفي نسخة صحيحة من «الشفاء» : وهادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 جماعة من ملوك الأقاليم ... - بالتاء الفوقيّة- بمعنى: أهدت إليه صلّى الله عليه وسلم- (جماعة من ملوك الأقاليم) هدايا فقبلها منهم، والأقاليم جمع إقليم كقنديل، وذلك لأن المتقدمين قسموا الأرض سبعة أقسام، سمّوا كل قسم منها إقليما، كما يعلم من فن مساحة الأرض المسمّى جغرافيا، وحد كل إقليم وما فيه من البلدان مفصّل في كتب الهيئة والمساحة. وقيل: أراد بالأقاليم النّواحي والبلدان، وإن كانت من إقليم واحد أو إقليمين من السّبعة بطريق المجاز، وهو بهذا المعنى مستعمل أيضا، كما يقال: أقاليم مصر فسمّوا كلّ ناحية إقليما. والهديّة: ما يبعث بلا عوض إلى المهدى إليه إكراما. وممن هاداه- صلّى الله عليه وسلم- المقوقس ملك القبط، أهدى له جاريتين وكسوة وبغلة بيضاء وهي دلدل. وهاداه فروة بن عمرو الجذاميّ «عامل قيصر» ، بعد ما تبرع بالإسلام، وأهدى له بغلة بيضاء تسمّى فضة، وفرسا وأثوابا وقباء من سندس، ولما بلغ ذلك قيصر حبسه مدّة طويلة، ثم أرسل يقول له: ارجع لدينك أطلقك وأعيد لك ملكك. فأبى؛ وقال: لا أفارق دينه، وإنّك لتعلم أنّه حقّ، ولكن ضننت بملكك، فقال: صدق والإنجيل. ومنهم أكيدر دومة؛ كما في «البخاري» . وأما هدايا غير الملوك التي كانت تصل مع الوفود! فكثيرة لا تحصى كما يعلم من السّير، وأهدى له الرّهبان أيضا كراهب نجران. ولا منافاة بين قبوله هديّة من لم يسلم منهم كالمقوقس، وردّه بعض هدايا المشركين؛ وقوله: «إنا لا نقبل زيد المشركين» - أي عطيّتهم!! لأنه كان يقبل الهديّة ممّن يرجو إسلامه استئلافا له؛ لما فيه من المصلحة للمسلمين، ويردّ هديّة غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلّا دينارا أرصده لدين» . ثمّ إنّ قبول النّبي صلّى الله عليه وسلم الهديّة من خصائصه، لانتفاء التّهمة في حقّه صلّى الله عليه وسلم، ولا يجوز لغيره من الحكّام. (فما استأثر) ؛ أي: ما انفرد وما استبدّ وما اختصّ (بشيء منه) دون أصحابه، لرؤيته أنّه أحقّ به كما يفعله الملوك فيما يليق بها. (ولا أمسك منه درهما) ؛ أي: لم يبق لنفسه منه شيئا، ولم يجعله عنده أو في يده. (بل صرفه في مصارفه) ؛ أي: أنفقه في مواضعه من أنواع الخير وأصناف البرّ (وأغنى به غيره) من الجند والمؤلّفة قلوبهم، لغناه بربّه واستغنائه بقلبه، (وقوّى به المسلمين) بصرفه في مهمّاتهم وقضاء حاجاتهم، وفيما ينصرهم على أعدائهم، ودفع بلائهم، وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر. (وقال) ؛ أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري، ومسلم، مسندا؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-: ( «ما يسرّني) - أي: لم يجعلني في سرور وفرح- (أنّ لي أحدا ذهبا) ، أي: مثل أحد أو نفس أحد يكون ملكا لي وهو ذهب حقيقة. وقوله «ذهبا» ! تمييز، أي: من ذهب، و «أحد» : بضمّتين وقد تسكّن حاؤه-: اسم جبل معروف قريب من المدينة المنوّرة. سمّي به!! لتوحّده وانقطاعه عمّا هناك من الجبال، وقال صلّى الله عليه وسلم فيه: «أحد جبل يحبّنا ونحبّه» . (يبيت عندي منه) ؛ أي: من مقدار أحد ذهبا، (دينار إلّا دينارا) - بالنّصب على الاستثناء، وبالرّفع على البدل: روايتان- (أرصده) - بفتح الهمزة وضمّ الصّاد، من الرصد، ويجوز ضمّ الهمزة وكسر الصّاد المهملة؛ من الإرصاد- أي: أحفظه منتظرا (ل) قضاء (ديني) - بفتح الدّال المهملة وسكون المثنّاة التحيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وأتته دنانير مرّة، فقسمها، وبقيت منها بقيّة، فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها، وقال: «الآن استرحت» . ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله، ... والنّون، وإرصاده للدّين!! إمّا لأنّ صاحبه غائب، أو لأنّه لم يحلّ أجله. وفيه دليل على جواز الاستقراض، وأنّه لا ينبغي أن يكون المرء مستغرقا في الدين حتى لا يجد له وفاء. (وأتته دنانير مرّة) وهي كثيرة (فقسمها) ، أي: على من استحقّها، (وبقيت منها بقيّة) ؛ أي: قليلة يسيرة، - وفي نسخة من «الشّفا» : «ستّة» - (فدفعها لبعض نسائه) نظرا إلى حدوث حاجة لهنّ إليها- وفي رواية: «فرفعها بعض نسائه» بالراء- وهو إمّا بأمره، وإما على عادة النّساء في حفظ المال لأمر المعاش وغيره. (فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها) ؛ اتكالا على كرم ربّه عند الاحتياج إليها، (وقال: «الآن استرحت» ) أي: حصل الرّاحة لقلبي المعتمد على رزق ربّي. وفيه دلالة واضحة على ما كان عليه من التقلّل من الدّنيا، وملازمة الفاقة في أيّام حياته إلى أوان مماته، كما يدل عليه ما بعده، وإنّما لم يأخذه النّوم حتى قسمها!! لخوفه أن يفجأه الأجل قبل تفريقها، فانظر هذا مع أنه غفر له صلّى الله عليه وسلم ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر بعد ما عصمه الله تعالى، انظره مع أشقياء هذا الزّمان، وصرفهم بيت المال في هوى أنفسهم، قاتلهم الله أنّى يؤفكون. انتهى «شرح الشهاب الخفاجي» . (ومات ودرعه) - مؤنّثة- وهي الزردته (مرهونة) ، أي: عند يهوديّ وهو أبو الشّحم. قال ابن الجوزي: إنّ الّتي رهنها صلّى الله عليه وسلم هي «ذات الفضول» (في نفقة عياله) ، جمع عيل، وهو: من تلزمه نفقته، وكانت مرهونة إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير على ما في «البخاريّ» و «الترمذي» و «النّسائي» ، وفي «البزّار» : أربعين. وفي «مصنف عبد الرزاق» : وسق شعير وهو ستّون صاعا. ويمكن الجمع بتعدّد الواقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعوه إليه ضرورته، وزهد فيما سواه. فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة، ... ومنه علم جواز معاملة الكفّار؛ مع أن كسبهم لا يخلو من خبث، وجواز الرّهن على الثمن المؤجّل، وقيل: إنّه افتكها قبل وفاته، لكن الأصحّ خلافه، لصريح حديث ابن عباس: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ. ولا ينافي ذلك خبر: «نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه» !! لأنه محمول على غير الأنبياء. وكان له صلّى الله عليه وسلم عدّة أدراع: «ذات الفضول» . سميت بها! لطولها، أهداها له سعد بن عبادة رضي الله عنه لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبدر، وذات الحواشي، ودرعان أصابهما من بني قينقاع «السّعديّة» و «فضّة» ، ويقال: إنّ السّعدية كانت درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت، و «البتر» ، و «الحريق» . فهذه سبع. (واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه) - بفتح الكاف وكسرها- أي: من أجلها أو في حقّها (على ما تدعوه إليه ضرورته) ، أي: على مقدار قليل لا بدّ له منه، ممّا تقتضيه الحاجة الضّرورية إليه. (وزهد) - بكسر الهاء بصيغة الماضي، معطوف على «اقتصر» أي: لم يرغب (فيما سواه) ، أي: ما سوى مقدار الضّرورة. (فكان يلبس) - بفتح الياء المثنّاة وفتح الباء الموحّدة- (ما وجده) حاضرا عنده بلا تكلّف، (فيلبس في الغالب الشّملة) - بفتح المعجمة وسكون الميم- وما يشتمل به من الأكسية الّتي يلتحف بها كما في «الفتح» . وقيل: يختصّ بما له هدب. وقال ابن دريد: كساء يؤتزر به وهي البردة، وتسمية العوامّ ما يلفّ على الرّأس «شملة» اصطلاح حادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 والكساء الخشن، والبرد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الدّيباج المخوّصة بالذّهب، ويرفع لمن لم يحضر؛ إذ المباهاة في الملابس ... (والكساء) : قريب من البرد؛ (الخشن) - بفتح فكسر- أي: الغليظ، ضدّ الدّقيق الليّن. (والبرد) - بضمّ أوّله وسكون الرّاء- أي: اليمانيّ؛ وهو الثّوب الّذي فيه خطوط. (الغليظ) ، أي: الخشن، واختار هذا كله زهدا وقناعة وتنزّها عمّا يلبسه من لا خلاق له تفاخرا، وليس ذلك من عجزه صلّى الله عليه وسلم عن فاخر الألبسة، بل لعدم ميله إليها كما قال. (ويقسم) - بالتّخفيف، ويجوز تشديده بقصد التكثير- (على من حضره) ؛ أي: حضر عنده (أقبية) ، جمع قباء: وهو المخيط من اللباس. (الدّيباج) بكسر الدّال وقد تفتح- وهو نوع من الحرير معروف. (المخوّصة) - بضمّ الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة يليها صاد مهملة وهاء-: المزيّنة (بالذّهب) ؛ أي: المنسوجة بأعلام من ذهب كالخوص. (ويرفع) ؛ أي: يدّخر منها (لمن لم يحضر) القسمة إلى أن يحضر فيعيطها له، إشارة لقصّة مخرمة الّتي رواها البخاري ومسلم؛ عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي أبي: بلغني أنّه صلّى الله عليه وسلم جاءته أقبية، فاذهب بنا إليه. فذهبنا؛ فوجدناه في منزله، فقال: ادعه لي، فأعظمت ذلك. فقال: يا بنيّ؛ إنّه ليس بجبّار. فدعوته صلّى الله عليه وسلم فخرج ومعه قباء من ديباج مزرّر بالذّهب، فقال: «يا مخرمة، خبّأت لك هذا» ، وجعل صلّى الله عليه وسلم يريه محاسنه، ثمّ أعطاه له، فنظر إليه فقال: «رضي مخرمة» فأعطاه إيّاه. زاد البخاري: وكان في خلق مخرمة شدّة محبّة. وجزم الدّاوودي أنّ قوله «رضي مخرمة» من كلام النّبي صلّى الله عليه وسلم، ورجّح الحافظ أنّه من كلام مخرمة. (إذ المباهاة) تعليل لاقتصاره على ما تدعو ضرورته إليه؛ أي: لأنّ إظهار الفخر (في الملابس) ؛ جمع ملبس- بفتح الميم والباء- وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والتّزيّن بها.. ليست من خصال الشّرف والجلالة، وهي من سمات النّساء. والمحمود منها نقاوة الثّوب، ... واللّباس بمعنى، وأصل المباهاة المفاخرة، فنزّل إظهارها والعجب بها (والتّزيّن بها) ؛ أي: إظهار الزينة في الملابس منزلة ذلك. (ليست من خصال الشّرف) ؛ أي: شمائل أصحاب الشّرافة (و) أصحاب (الجلالة) ، أي: العظمة المعنويّة، أي: إنّ المغالاة في ذلك وإظهاره ليس مما يعدّ شرفا، ولا ممّا يقصده الأشراف. قال الخفاجي: قال الفقهاء: لبس الثّوب الجميل للتّزيّن مباح في الجمع والأعياد ومجامع النّاس، وما يستر العورة ويدفع الحرّ والبرد واجب، وما فيه جمال لصاحبه مسنون، بشرط أن لا ينوي به العظمة والزّينة، بل إظهار نعمة الله وتعظيم من يجتمع لملاقاته، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يفعله، وقلت في ذلك: نصيحة لطيفة ... قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبس ... ما تشتهيه النّاس وقد تقدّم في الفصل الخامس في صفة طيبه، الكلام على التجمّل واللّباس بأبسط ممّا هنا، فاعتمد ما هناك. (وهي) ، أي: المباهاة (من سمات) - بكسر السّين- أي: من خصال (النّساء) ومن في حكمهنّ كالأطفال، وأكثر من يتباهى بذلك محدث النعمة ومن لا قدر له. (والمحمود) ؛ أي: الممدوح (منها) عند الله وعند النّاس (نقاوة) - بفتح النون وضمّها- أي: نظافة (الثّوب) ؛ أي: كونه نقيّا من الوسخ والنّجاسة. قال الخفاجي: وفي «البستان» : يستحبّ للرّجل الذي له مروءة وعلم أن تكون ثيابه نقيّة من غير كبر، ورأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رجلا وسخت ثيابه، فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقّي ثيابه» . وقال أيضا: «ما على الرّجل حرج أن يتّخذ ثوبين سوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 والتّوسّط في جنسه، وكونه لبس مثله.. غير مسقط لمروءة جنسه. وفي «المواهب» : إنّ الجمال في الصّورة واللّباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ: فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له؛ كما كان صلّى الله عليه وسلّم يتجمّل للوفود، ... ثوبي مهنته» . وفي المثل: «المروءة الظّاهرة في الثّياب الطّاهرة» . انتهى كلام الخفاجي. (والتّوسّط في جنسه) ، أي: المحمود في اللّباس استعمال الوسط منه، فلا يكون نفيسا جدّا ولا خسيسا، لورود الذّمّ عن لبس الشّهرتين. قال النووي: كانوا يكرهون الشّهرتين: الثّياب الجياد والثّياب الرّذلة، إذ الأبصار تمتدّ إليهما جميعا، وبهذا ورد الحديث. انتهى؛ نقله الزرقاني على «المواهب» . (وكونه لبس) - بضم فسكون- (مثله) ، أي: ممّا تلبسه أمثاله حال كونه (غير مسقط لمروءة جنسه) ، أي: لا يعدّ مسقطا لمروءة أمثاله، فينبغي أن يوافق أمثاله في لباسهم ولا يخالفهم؛ فيوقع النّاس في الفتنة. (و) قال القسطلّاني (في «المواهب) اللدنيّة» : (إنّ الجمال في الصّورة) لتحسينها بإزالة الشّعث، (و) في (اللّباس) بكونه ليس جنس لابسه. (والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ) فهو جائز. (فالمحمود منه: ما كان لله وأعان على طاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره والاستجابة) ؛ أي: الإجابة (له، كما كان صلّى الله عليه وسلم يتجمّل للوفود) لملاقاتهم، استعانة على تنفيذ أوامر الله تعالى، لما جرت به عادة البشر من انقيادهم لصاحب الهيئة وقبول كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وهذا نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب، والخيلاء فيه؛ فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى، ونصر دينه، وغيظ عدوّه. والمذموم منه: ما كان للدّنيا، والرّئاسة، والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن الوصفين، وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يضيّق بالاقتصار بالاقتصار على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس الغالي، بل يستعمل ما تيسّر. (وهذا نظير لباس آلة الحرب للقتال) لإعلاء كلمة الله تعالى، وتخويف أعدائه، (ولباس الحرير في الحرب) على قول من أجازه، (والخيلاء) : التبختر (فيه) وإظهار العجب، (فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى) : الشّهادة له بالوحدانيّة ولنبيّه بالرّسالة، (ونصر دينه وغيظ عدوّه. والمذموم منه) ؛ وهو النّوع الثّاني: (ما كان للدّنيا والرّئاسة والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه) ، فإنّ كثيرا من النّاس ليس له همّة في سوى ذلك، بئست الهمّة. كما قال الشّاعر يهجو: إنّي رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثّياب وتشبعوا (وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ) ؛ وهو النّوع الثّالث (فهو: ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن) هذين (الوصفين) لا يحمد ولا يذمّ فهو جائز، (وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) يتجوّز من اللباس؛ أي: يتوسّع و (لا يضيّق بالاقتصار على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس) أي: (الغالي) - بالغين المعجمة- (بل يستعمل ما تيسّر) بلا كلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ثمّ قال: روى أبو نعيم في «الحلية» ... ولذا أورد البخاري في الباب حديث عمر في جلوس النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في المشربة، لمّا حلف «لا يدخل على نسائه شهرا» ، وفيه: فدخلت فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على حصير قد أثّر في جنبه، وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها ليف، وإذا أهب معلقة وقرظ. وحديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: استيقظ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: «لا إله إلّا الله؛ ماذا أنزل اللّيلة من الفتن؟! ماذ أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجر؟! كم من كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» . ففيه التحذير من لبس رقيق الثّياب الواصفة للجسد، وهو وجه إدخاله في هذه التّرجمة. وروى أبو نعيم، وابن عدي؛ عن عبادة بن الصّامت- رضي الله تعالى عنه- قال: صلّى بنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- في شملة أراد أن يتوشّح بها فضاقت، فعقدها في عنقه هكذا- وأشار سفيان إلى قفاه- ليس له غيرها. (ثم قال) في «المواهب اللدنيّة» بعد نقل كلام «الشّفاء» السابق: وقد (روى أبو نعيم) الحافظ المؤرّخ أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، ولد سنة: - 336- ستّ وثلاثين وثلثمائة هجرية، وكان من الثّقات المعروفين بالحفظ والإتقان. ومن مؤلّفاته «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» ، و «معرفة الصّحابة» و «طبقات المحدّثين والرواة» و «دلائل النّبوّة» و «ذكر أخبار أصبهان» . وكانت وفاته سنة: - 430- ثلاثين وأربعمائة؛ (في) كتاب ( «الحلية» ) الذي قيل فيه: إنّه لم يصنّف مثله، ولما صنّفه حمل الكتاب في حياة مؤلّفه إلى نيسابور فاشتروه بأربعمائة دينار. وهو كتاب حسن معتبر يتضمن أسامي جماعة من الصّحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الأئمّة الأعلام المحقّقين والمتصوّفة والنّسّاك، وبعض أحاديثهم وكلامهم، رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 عن ابن عمر مرفوعا: «إنّ من كرامة المؤمن على الله عزّ وجلّ.. نقاء ثوبه، ورضاه باليسير» . وله من حديث جابر: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقّي به ثيابه؟» . قال: وكانت سيرته صلّى الله عليه وسلّم في ملبسه أتمّ وأنفع للبدن وأخفّ عليه؛ فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات، ... (عن ابن عمر) بن الخطاب (مرفوعا) قال: ( «إنّ من كرامة المؤمن على الله عزّ وجلّ) - أي: نفاسته وعزّته، أي: من حسن حاله الّذي يثيبه عليه، ويصير به مقرّبا عنده- (نقاء ثوبه) - أي: نظافته ونزاهته عن الأدناس- (ورضاه) - بالقصر- (باليسير) ؛ من ملبس ومأكل ومشرب أو من الدّنيا، قيل: دخل زائر على أبي الحسن العروضيّ؛ فوجده عريانا!! فقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيّب: قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت وزرّروا الأبوابا (وله) أيضا؛ (من حديث جابر) - رضي الله تعالى عنه- (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا وسخة ثيابه؛ فقال: «أما وجد) - وفي نسخة: «أما رأى» - (هذا شيئا ينقّي به ثيابه» .) استفهام توبيخي على وسخ ثوبه، ولم يخاطبه لئلّا ينكسر خاطره، وإشارة إلى أنّ الحكم لا يختصّ به. (قال) في «المواهب» أيضا: (و) قد (كانت سيرته صلّى الله عليه وسلم في ملبسه أتمّ) : اسم تفضيل، وكذا قوله (وأنفع للبدن، وأخفّ عليه) ، والمفضّل عليه محذوف؛ أي: ممّا جرت العادة بلبسه. (فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها) حاملها (ويضعفه، ويجعله عرضة للآفات) كصداع ومرض عين وزكام؛ كما يشاهد من حال أصحابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية الرّأس من الحرّ والبرد، وكذلك الأردية والأزر أخفّ على البدن من غيرها، ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم يطوّل أكمامه ويوسّعها) انتهى. (ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية) - بكسر الواو، وفتحها لغة-: حفظ (الرّأس من الحرّ والبرد) ، بل كانت وسطا بين ذلك، (وكذلك الأردية) : جمع رداء، (والأزر) : جمع إزار، (أخفّ على البدن من غيرها) كالجوخ والفراء، (ولم يكن صلّى الله عليه وسلم يطوّل أكمامه ويوسّعها) ، بل كان كمّ قميصه إلى الرّسغ كما سيأتي. قال ابن القيّم: وأمّا هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، وعمائم كالأبراج!! فلم يلبسها عليه الصّلاة والسّلام هو ولا أحد من أصحابه، وهي مخالفة لسنّته؛ وفي جوازها، فإنّها من جنس الخيلاء. انتهى. قال صاحب «المدخل» : ولا يخفى على ذي بصيرة أن كمّ بعض من ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهيّ عنه، لأنّه قد يفصّل من ذلك الكم ثوب لغيره. انتهى. وهو حسن. لكن حدث للنّاس اصطلاح بتطويلها، وصار لكلّ نوع من النّاس شعار يعرفون به، فيجوز لمن صارت شعاره، بل قد يطلب، لأن مخالفته تخلّ بمروءة صاحبه، وما كان من ذلك على سبيل الخيلاء؛ فلا شكّ في تحريمه؛ ولو كان شعارا، وما كان على طريق العادة! فلا تحريم فيه، بل يجوز ما لم يصل إلى جرّ الذّيل الممنوع منه. ونقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على العادة للنّاس وزاد على المعتاد في اللّباس لمثل لابسه في الطّول والسّعة، فينبغي تجنّب ذلك. (انتهى) ؛ أي: كلام «المواهب» مع شيء من شرح الزّرقاني رحمهم الله تعالى. (و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، كلهم؛ عن أمّ سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسه.. القميص. و (القميص) : اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب، ولا يكون من صوف. كذا في «القاموس» . (كان أحبّ الثّياب) جمع ثوب، وهو: اسم لما يستر به الشّخص نفسه؛ مخيطا كان أو غيرها- (إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبسه) ؛ جملة حالية عن «أحب الثياب» وتذكير الضمير!! باعتبار الثوب، (القميص) وفيه إشعار بما لأجله كان أحبّ إليه، إنّه كان يحبّه للبسه؛ لا لنحو إهدائه، فهو أحبّ إليه لبسا، وقوله «أحبّ» اسم «كان» ؛ فيكون مرفوعا، والقميص خبرها؛ فيكون منصوبا، وهو المشهور في الرّواية، وقيل عكسه، أي: بنصب «أحبّ» على أنّه الخبر، ورفع «القميص» على أنّه اسم «كان» ، قال الزرقاني: ورجّح بأنّه وصف، فهو أولى بكونه حكما. ولا يرد عليه أن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين منع تقديم الخبر!! لأنّ محله حيث لا ناسخ؛ كما في قوله (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [15/ الأنبياء] ، (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [147/ آل عمران] . انتهى. ومعنى كون القميص أحبّ- كما قال المناوي وغيره-: أنّه كان يميل إلى لبسه أكثر من غيره، لأنّه أستر للبدن من الإزار والرّداء، لاحتياجهما إلى حلّ وعقد، بخلاف الثّوب، ولخفّة مؤنته وخفّته على البدن، ولابسه أقلّ كبرا من لابس غيره. فالقميص أحبّها إليه لبسا، والحبرة أحبّها إليه رداء، فلا يعارض حديث أنس الآتي: كان أحبّ الثياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبسه الحبرة. أو أن القميص أحبّ المخيط، والحبرة أحبّ غيره، انتهى. (والقميص) - جمعه قمصان وقمص بضمّتين- وهو: (اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب) غير مفرّج؛ (يلبس تحت الثياب، ولا يكون) إلّا من قطن، أمّا (من صوف!) فلا؛ (كذا في «القاموس» ) ، مأخوذ من التقمّص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ولم يكن له صلّى الله عليه وسلّم سوى قميص واحد؛ فقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين، ولا قميصين ولا رداءين ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال. وكان كمّ قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ. بمعنى التقلّب؛ لتقلّب الإنسان فيه. وقيل: سمّي باسم الجلدة الّتي هي غلاف القلب، فإن اسمها القميص، وهو مذكّر، وقد يؤنّث، والظّاهر أنّ المراد في الحديث القطن والكتّان؛ دون الصوف، لأنّه يؤذي البدن ويدرّ العرق، ويتأذّى بريح عرقه المصاحب. (و) قال الباجوري كالمناوي: (لم يكن له صلّى الله عليه وسلم سوى قميص واحد؛ فقد ورد) في «الوفا» بسنده؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم غداء لعشاء؛ ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين؛ ولا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال) . انتهى كلامهما. قال المصنف في «جواهر البحار» بعد ذكره ذلك: وقد صرح بعض الأئمّة بضعف هذا الحديث. (و) أخرج أبو داود، والتّرمذي في «الجامع» - وقال: حسن غريب، وفي «الشّمائل» واللّفظ لها- ورواه أيضا البيهقي في «الشّعب» ؛ كلهم عن أسماء بنت يزيد الأنصارية- رضي الله تعالى عنها- قالت: (كان كمّ) - بالضم وتشديد الميم- (قميص) - وفي رواية: «كان كمّ يد» - (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - قال الزّين العراقي: رواية التّرمذي في «الشمائل» مقيّدة بالقميص، وروايته في «الجامع» مطلقة، فيحتمل حملها عليه، ويحتمل العموم- (إلى الرّسغ) - بضم الرّاء وسكون السّين أو الصّاد لغتين، ثم غين معجمة بزنة قفل. قال الزّرقاني: وبالضّاد رواه الترمذي، وأبو داود، وبالسّين غيرهما-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 و (الرّسغ) : مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمّه مع الأصابع. وحكمة كونه إلى الرّسغ: أنّه إن جاوز اليد منع لابسه سرعة الحركة والبطش، وإن قصر عن الرّسغ! تأذّى السّاعد ببروزه للحرّ والبرد، فكان جعله إلى الرّسغ وسطا، وخير الأمور أوساطها، فينبغي لنا التأسّي به. ولا يعارض هذه الرّواية رواية «أسفل من الرسغ» ! لاحتمال تعدّد القميص، أو المراد: التقريب، أو الاختلاف بحسب أحوال الكمّ، فحال جدّته وعقب غسله يكون أطول لعدم تثنّيه وتجعّده، وإذا بعد عن ذلك تثنّى وقصر. ولا يعارضه أيضا ما رواه الحاكم وصحّحه، وأبو الشّيخ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبس قميصا وكان فوق الكعبين، وكان كمّه إلى الأصابع.! لأنّ الرّسغ مخصوص بقميص السّفر، أما في الحضر فكان يلبس قميصا من قطن فوق الكعبين؛ وكمّاه مع الأصابع، كما جمع بينهما بذلك بعضهم؛ نقله الجلال السيوطي قائلا: ويؤيده ما أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي؛ عن علي: أنه كان يلبس القميص ثم يمدّ الكمّ حتّى إذا بلغ الأصابع قطع ما فضل؛ ويقول: «لا فضل للكمّين على الأصابع» . انتهى. ويجري ذلك في أكمامنا. قال الحافظ زين الدّين العراقي: ولو أطال أكمام قميصه حتّى خرجت عن المعتاد؛ كما يفعله كثير من المتكبّرين!! فلا شكّ في حرمة ما مسّ الأرض منها بقصد الخيلاء، وقد حدث للناس بتطويلها، فإن كان من غير قصد الخيلاء بوجه من الوجوه! فالظاهر عدم التحريم. انتهى. (والرّاسغ) - بالسّين والصّاد لغتان صحيحتان-: (مفصل) - بزنة مسجد- (ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان) ، وهو مختصّ في الآدميّ باليد؛ دون الرّجل. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كمّه مع الأصابع) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وكان قميصه صلّى الله عليه وسلّم فوق الكعبين، وكان كمّه مع الأصابع. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس قميصا.. بدأ بميامنه. وعن قرّة ... ورمز له برمز الحاكم، وهذا قطعة من الحديث الآتي بعده. (و) أخرج الحاكم؛ عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: (كان قميصه صلّى الله عليه وسلم فوق الكعبين) ؛ أي: إلى أنصاف ساقيه؛ كما في رواية: (وكان كمّه مع الأصابع) ؛ أي: مساويا لا يزيد ولا ينقص عنها، وقد علمت أنّ هذا محمول على حالة الحضر، فلا يعارض ما تقدّم أنّ كمّه إلى الرسغ. وقد أخرج البيهقي في «الشّعب» ؛ من طريق مسلم الأعور؛ عن أنس: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان له فميص من قطن قصير الطّول قصير الكمّ. وأخرج أيضا؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان يلبس قميصا قصير الكمّين والطّول. انتهى «مناوي» . (و) أخرج التّرمذي في «جامعه» بسند- قال العراقي: رجاله رجال الصّحيح- وأخرجه النّسائي أيضا كلاهما؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا لبس قميصا بدأ بميامنه) ؛ جمع ميمنة: كمرحمة ومراحم، والمراد بها هنا: جهة اليمين. فيندب التيامن في اللّبس كما يندب التياسر في النّزع، لخبر أبي داود؛ عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما-: كان إذا لبس شيئا من الثّياب بدأ بالأيمن، فإذا نزع بدأ بالأيسر. وله من حديث أنس: كان إذا ارتدى أو ترجّل بدأ بيمينه، وإذا خلع بدأ بيساره. قال الزّين العراقي: وسندهما ضعيف. (و) أخرج أبو داود، وابن ماجه، والتّرمذي في «الجامع» وصحّحه؛ وفي «الشّمائل» ، وابن حبّان وصحّحه أيضا؛ (عن قرّة) - بضم القاف وفتح الراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ابن إياس رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رهط من مزينة لنبايعه، وإنّ زرّ قميصه مطلق، قال: فأدخلت يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم. المشددة- (ابن إياس) - بالكسر- ابن هلال المزني. صحابيّ نزل البصرة، ومات سنة: أربع وستين هجرية، خرّج له الأربعة (رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رهط) ، أي: مع رهط، فتكون «في» بمعنى «مع» ، كقوله تعالى (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) [38/ الأعراف] ؛ أي: مع أمم، والرّهط- بفتح الرّاء وسكون الهاء- اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ وهو من ثلاثة إلى عشرة أو إلى أربعين، ويطلق على مطلق القوم؛ كما في «القاموس» ، ولا ينافي التعبير ب «الرّهط» رواية أنّهم كانوا أربعمائة!! لاحتمال تفرّقهم رهطا رهطا؛ وقرّة كان مع أحدهم، أو أنّه مبنيّ على القول الأخير. (من مزينة) - بالتصغير- قبيلة من مضر، وأصله اسم امرأة. (لنبايعه) - أي: على الإسلام، وهو متعلّق بقوله «أتيت» - (وإنّ زرّ قميصه) بالإضافة (مطلق) - بلام- أي: غير مربوط، والجملة حال. (قال) : قرّة (فأدخلت يدي) - بصيغة الإفراد- (في جيب قميصه) ؛ أي: فتحته الّتي عند النّحر؛ إذ جيب القميص: ما ينفتح على النّحر، وجمعه: أجياب، وجيوب، ويطلق الجيب أيضا على ما يجعل في صدر الثّوب أو جنبه ليوضع فيه الشّيء، لكنّ المراد من الجيب في هذا الحديث طوقه المحيط بالعنق، وهذا يدلّ على أنّ جيب قميصه صلّى الله عليه وسلم على الصّدر كما هو المعتاد الآن؛ قال الجلال السّيوطي: وظنّ من لا علم عنده أنّه بدعة؛ وليس كما ظن. انتهى. (فمسست) - بكسر السّين الأولى في اللّغة الفصحى، وحكي فتحها- (الخاتم) ؛ أي: خاتم النّبوّة، والمسّ: الجسّ باليد، يقال: مسسته؛ إذا أفضيت إليه بيدك من غير حائل. هكذا قيّدوه، والظّاهر أنّ قرّة كان يعلم الخاتم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحبرة بوزن عنبة- برد يمانيّ محبّر؛ أي: مزيّن محسّن. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردان أخضران، فيهما خطوط خضر ... وإنّما قصد التبرّك، ومن ثمّ اغتفر له صلّى الله عليه وسلم هذا الفعل الذي ينافيه جلالة منصبه الكبير، ورعاية الأدب معه، لا سيّما بحضرة النّاس. وفي هذا الحديث حلّ لبس القميص، وحلّ الزّرّ فيه، وحلّ إطلاقه، وسعة الجيب بحيث تدخل اليد فيه، وإدخال يد الغير في الطّوق لمسّ ما تحته تبرّكا، وكمال تواضعه صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنّسائي، والتّرمذي، في «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أن يلبسها- هذا لفظ رواية الشّيخين- (الحبرة) - بالنصب، خبر «كان» ، و «أحبّ» : بالرفع، اسمها، ويجوز عكسه- والحبرة؛ (- بوزن عنبة-: برد يمانيّ) من قطن (محبّر) - بالتّشديد- (أي: مزيّن محسّن) بخطوط حمر، والتّحبير: التّزيين والتّحسين، والظّاهر أنّه إنّما أحبّها للينها وحسن انسجام صنعتها وموافقتها لجسده الشّريف، فإنّه كان على غاية من النّعومة واللّين، فيوافقه اللّيّن النّاعم، وأمّا شديد الخشونة فيؤذيه، ولا يعارض ذلك ما تقدّم من أنّه كان الأحبّ إليه القميص، لأنّ ذلك بالنسبة لما خيط وهذا بالنّسبة لما يرتدي به، أو أنّ محبّته للقميص كانت حين يكون عند نسائه، والحبرة كانت حين يكون بين صحبه، على أنّ هذا الحديث أصحّ من حديث أمّ سلمة السّابق لاتّفاق الشّيخين عليه، فلا يعارضه الحديث السّابق، والله أعلم. (و) في «كشف الغمّة» للإمام الشّعرانيّ رحمه الله تعالى: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بردان) - تثنية برد، وهو؛ كما في «القاموس» : ثوب مخطّط- (أخضران) ، أي: (فيهما خطوط خضر) ، أي: مخطّطان بخطوط خضر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 لا بحتا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الثّياب الخضر. وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه حلّة حمراء ... (لا بحتا) - بفتح الموحّدة وسكون المهملة وفوقية، أي: خالصا، لما علمت أن البرد ثوب مخطّط، فتعقيبه بالخضرة يدلّ على أنّه مخطّط بها، ولو كان أخضر بحتا لم يكن بردا. روى التّرمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» ؛ عن أبي رمثة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وعليه بردان أخضران. (و) في «إحياء علوم الدين» للغزالي رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعجبه الثّياب الخضر) ، أغفله العراقيّ في تخريجه. وقد روى أبو الشّيخ وأبو نعيم في «الطب» من حديث أنس: كان أحبّ الألوان إليه الخضرة. أي: من الثّياب وغيرها، لأنّ الخضرة من ثياب الجنّة. قال ابن بطّال: وكفى به شرفا موجبا للمحبّة. ورواه كذلك البزار. وأخرج ابن عديّ والبيهقيّ؛ عن قتادة قال: خرجت مع أنس رضي الله تعالى عنه إلى أرض فقيل: ما أحسن هذه الخضرة! فقال أنس: كنا نتحدّث أنّ أحبّ الألوان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم الخضرة. انتهى «شرح الإحياء» . (و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» بسنده؛ (عن أبي جحيفة) بتقديم الجيم على الحاء المهملة-: وهب بن عبد الله السّوائي- بضمّ المهملة والمدّ- مشهور بكنيته. ويقال له «وهب الخير» ، صحابيّ مشهور معروف، وصحب عليا ومات سنة: - 74- أربع وسبعين هجرية. (رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ، أي: في بطحاء مكّة في حجّة الوداع، كما صرّح به في رواية البخاريّ. (وعليه حلّة حمراء) ؛ أي: والحال أنّ عليه حلّة حمراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 كأنّي أنظر إلى بريق ساقيه. و (الحلّة) بالضّمّ: إزار ورداء، ولا تكون حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة. فالجملة حالية، (كأنّي أنظر إلى بريق) لمعان (ساقيه) . والظّاهر أنّ «كأنّ» للتّحقيق، لأنّها قد تأتي لذلك، وإنّما نظر إلى بريق ساقيه! لكون الحلّة كانت إلى أنصاف ساقيه الشّريفتين. وهذا يدلّ على جواز النظر إلى ساق الرّجل، وهو إجماع حيث لا فتنة؛ ويؤخذ منه ندب تقصير الثّياب إلى أنصاف السّاقين، فيسنّ للرّجل أن تكون ثيابه إلى نصف ساقيه، ويجوز إلى كعبيه، وما زاد حرام إن قصد به الخيلاء. وإلّا كره، ويسنّ للأنثى ما يسترها، ولها تطويله ذراعا على الأرض، فإن قصدت الخيلاء! فكالرّجل. وهذا التفصيل يجري في إسبال الأكمام وتطويل عذبة العمائم، وعلى قصد الخيلاء يحمل ما رواه الطّبراني: «كلّ شيء مسّ الأرض من الثّياب فهو في النّار» . وما رواه البخاريّ: «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النّار» . أي: محلّه فيها فتجوّز به عن محله. (و) في «القاموس» (الحلّة- بالضّمّ-: إزار ورداء) مثلا، برد أو غيره، وإلا فمتى وجد ثوبان على البدن كانا حلّة، على ما يفيده قوله: (ولا تكون) ، أي: توجد (حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة) . وفي «المصباح» : الحلة لا تكون إلّا من ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل كغرفة وغرف. وفي «الفتح» : قال أبو عبيد: الحلل: برود اليمن، والحلّة: إزار ورداء. ونقله ابن الأثير وزاد: إذا كان من جنس واحد، وقال ابن سيده في «المحكم» : الحلّة برد أو غيره. وحكى عياض: أنّ أصل تسمية الثّوبين «حلّة» أنّهما يكونان جديدين كما حل خيطهما، وقيل: لا يكون الثّوبان حلّة حتّى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حلّ عليه، والأوّل أشهر. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكسو بناته خمر القزّ والإبريسم. و (الخمر) - ك «كتب» ، جمع خمار- وهو: ما تغطّي به المرأة رأسها. قال سفيان أحد رواة هذا الحديث: أظنّ هذه الحلّة الحمراء المذكورة في الحديث مخطّطة؛ لا حمراء قانية. انتهى. وهذا بناء على مذهبه من حرمة الأحمر البحت، أي: الخالص. وقال ابن القيّم: غلط من ظنّ أنّها حمراء بحت لا يخالطها غيرها، وإنّما الحلّة الحمراء بردان يمانيّان مخطّطان بخطوط حمر مع سود، وإلّا؛ فالأحمر البحت منهيّ عنه أشدّ النّهي، فكيف يظنّ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه لبسه؟! وردّ هذا بأنّ حمل الحلّة على ما ذكر مجرّد دعوى، والنهي عن الأحمر البحت للتّنزيه؛ لا للتّحريم، ولبسه صلّى الله عليه وسلم للأحمر القاني مع نهيه عنه!! لتبيين الجواز، فقد ردّه الطبراني؛ من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان يلبس يوم العيد بردة حمراء، قال الهيثمي: ورجاله ثقات، فالصّحيح جواز لبس الأحمر؛ ولو قانيا، انتهى «باجوري» مع زيادة. (و) أخرج ابن النجار في «تاريخه» ؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكسو بناته خمر) - بخاء معجمة مضمومة- (القزّ) - بفتح القاف وشدّ الزّاي؛ معرّب- (والإبريسم) . قال الليث: القزّ هو ما يعمل منه الإبريسم. ولهذا قال بعضهم: القزّ والإبريسم مثل الحنطة والدّقيق، فالإبريسم ما يؤخذ من القزّ كأخذ الدّقيق من الحنطة. وفيه أن استعمال القزّ والحرير جائز للنّساء. (والخمر) - بضمتين- (ك: «كتب» ؛ جمع خمار) ككتاب، (وهو: ما تغطّي به المرأة رأسها) ، واختمرت وتخمّرت: لبست الخمار. انتهى «مناوي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وكان يتّبع الحرير من الثّياب.. فينزعه. وكان قيمة ثوبه صلّى الله عليه وسلّم عشرة دراهم. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه أسمال مليّتين. وقوله (مليّتين) - تصغير ملاءة- وهي: كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد. (و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد حسن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلّى الله عليه وسلم (يتّبع) - بفتح أوّله وتشديد ثانيه، وقيل: بفتح أوّله وسكون ثانيه- (الحرير من الثّياب) ، أي: الحرير الخالص أو ما أكثره حرير، (فينزعه) ، أي: يأمر بنزعه عن الرّجال، ويمنعهم من لبسه، لما في الحرير من الخنوثة التي لا تليق بشهامة الرّجال، فيحرم لبسه على الرّجال. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان قيمة ثوبه صلّى الله عليه وسلم عشرة دراهم، و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن قيلة) - بقاف مفتوحة ومثنّاة تحتية ساكنة- (ابنت مخرمة) - بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الرّاء والميم- السرية، وقيل: العنبريّة، وقيل: القنويّة، صحابيّة لها حديث طويل في الصّحاح، خرّج لها البخاريّ في «الأدب» ، وأبو داود؛ (رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه أسمال مليّتين) ، أي: والحال أنّ عليه أسمال مليّتين، والأسمال: جمع سمل- بسين مهملة وميم مفتوحة- كسبب وأسباب، وهو: الثّوب الخلق، والمراد بالجمع ما فوق الواحد، فيصدق بالاثنين وهو المتعيّن هنا، لأنّ إضافته إلى المليّتين للبيان. (وقوله «مليّتين» ) تثنية مليّة بضمّ الميم وفتح اللّام وتشديد الياء المفتوحة- وهي (تصغير ملاءة) بضم الميم والمدّ؛ لكن بعد حذف الألف، (وهي) ، أي: الملاءة؛ كما في «القاموس» . (كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد) . وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو يتوكّأ على أسامة رضي الله تعالى عنه، وعليه ثوب «النّهاية» : هي الإزار، وفي «الصحاح» : الملحفة، ولا تدافع، لصدقها على التعريف الأوّل «بكل» ، وتمام الحديث بعد قوله «مليّتين» : كانتا بزعفران وقد نفضته، وفي الحديث قصّة طويلة. انتهى كلام «الشمائل» . ومعنى قوله «كانتا بزعفران» ؛ أي: كانت المليّتان مصبوغتين بزعفران، وقوله «وقد نفضته» ؛ أي: وقد نفضت الأسمال الزعفران، ولم يبق منه إلّا الأثر القليل؛ فلبسه صلّى الله عليه وسلم لهاتين المليتّين، لا ينافي نهيه عن لبس المزعفر، لأنّ النهي محمول على ما إذا بقي لون الزّعفران براقا، بخلاف ما إذا نفض وزال عن الثّوب ولم يبق منه إلا الأثر اليسير، فليس هذا منهيّا عنه. (و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج) ؛ أي: من بيته (وهو يتوكّأ) هكذا هو في «الشّمائل» في باب الاتكاء: من التوكّؤ، ومنه قوله تعالى (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) [18/ طه] . وفي نسخة من «الشمائل» : يتّكىء من الاتّكاء، ومنه قوله تعالى (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) [13/ الإنسان] وفي نسخة: وهو متوكّىء بصيغة اسم الفاعل؛ وكلها بمعنى واحد، وهو الاعتماد، أي: يعتمد لضعفه من المرض (على أسامة) بن زيد بن حارثة بن شراحيل القضاعيّ الكلبي، صحابيّ مشهور، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن مولاه وابن مولاته أم أيمن، وحبّه وابن حبّه، أمّره صلّى الله عليه وسلم على جيش فيه عمر رضي الله عنه؛ وعمره دون عشرين سنة، مات سنة: - 54- أربع وخمسين، عن خمس وسبعين سنة بالمدينة المنورة، (رضي الله تعالى عنه) وعن والده آمين. وخروجه صلّى الله عليه وسلم ذلك في مرض موته، بدليل ما رواه الدارقطني: أنّه خرج بين أسامة والفضل وزيد إلى الصّلاة في المرض الّذي مات فيه، ويحتمل أنّه في مرض غيره؛ (وعليه) ، أي: على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (ثوب) - بالتّنوين، والجملة حاليّة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قطريّ قد توشّح به.. فصلّى بهم. و (قطريّ) : نسبة إلى القطر؛ وهو: نوع من البرود اليمانيّة تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة. و (توشّح به) أي: ... ضمير «خرج» أو «يتوكّأ» - (قطريّ) - بقاف مكسورة وطاء مهملة ساكنة بعدها راء- (قد توشّح) ، أي: تغشى (به) - والجملة صفة- (فصلّى بهم) ، أي: بالنّاس. وقد أخرج ابن سعد؛ من طريق أبي ضمرة اللّيثي؛ عن حميد؛ عن أنس أنّه قال: آخر صلاة صلّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع القوم في مرضه الّذي قبض فيه، في ثوب واحد متوشّحا به قاعدا. (و) قوله (قطريّ) - بكسر القاف وإسكان الطّاء بعدها راء، ثم ياء النّسبة-: (نسبة إلى القطر) - بكسر القاف وسكون الطّاء بعدها راء- (وهو: نوع من البرود اليمانيّة) - نسبة لليمن على غير قياس- (تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة) ، ونوع من حلل جياد يحمل من بلد بالبحرين اسمها قطر- بفتحتين-، فكسرت القاف للنّسبة وسكّن الطّاء على خلاف القياس، كذا قاله شراح «الشمائل» كالمناوي، وعلي القاري، والباجوري، وغيرهم، وتبعتهم وهو غير جيد. والمعتمد عندي هو القول الثّاني وهو أن الثوب القطريّ منسوب إلى قطر بفتحتين- إقليم بجهة البحرين من الخليج العربيّ، ويقرأ هكذا: ثوب قطريّ؛ بفتح القاف وبفتح الطّاء المهملة وكسر الرّاء، وآخر ياء، نسبة إلى قطر بفتحتين-، البلد المعروف في الخليج العربيّ، وهو مشهور بصنع البرود والثّياب من قديم الزّمان إلى عصرنا الحاضر، لكن لمّا كثرت الثّياب المستوردة من الخارج؛ وهي أنضر وأقلّ ثمنا؛ آثروها على صنع بلادهم، فقلّت صنعة الثّياب عندهم، وكل ذلك مكيدة من الكفّار لأهل الإسلام، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. (و) قوله (توشّح به) - بتشديد الشّين المعجمة- قال الباجوري: (أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وضعه فوق عاتقيه، أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة وعليه مرط من شعر أسود. و (المرط) : كساء طويل واسع. وعن المغيرة بن شعبة ... وضعه فوق عاتقيه) - تثنية عاتق- وهو: ما بين المنكب والعنق، يذكّر ويؤنّث، (أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه) . انتهى. (و) أخرج مسلم، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها قالت: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، أي: من بيته (ذات غداة) ؛ العرب تستعمل ذات يوم وذات ليلة ويريدون حقيقة المضاف إليه نفسه، وما هنا كذلك، فلفظ «ذات» مقحم للتأكيد، والمعنى: خرج بكرة (وعليه مرط) كمسك (من شعر) - بفتح العين المهملة وتسكن- (أسود) - بالرفع على أنه صفة «مرط» ، أو بالجر بالفتحة على أنه صفة شعر، والجملة حال من فاعل «خرج» ، وفي «الصحيحين» : كان له كساء يلبسه، ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» . وكان يلبس الكساء الخشن، ويقسم أقبية الخزّ المخوّصة بالذّهب في أصحابه، ولم تطلب نفسه التغالي في اللّباس والمباهاة فيه، لأنّ المحمود للرجال نقاوة الثّوب والتوسّط في جنسه، وعدم إسقاطه لمروءة لابسه كما مرّ. (والمرط) - بكسر فسكون- هو: (كساء طويل واسع) ؛ من خزّ أو صوف أو شعر أو كتّان، يؤتزر به. (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» مختصرا باللّفظ الّذي أورده المصنّف، وهو في «الصّحيحين» وغيرهما مطول؛ (عن المغيرة بن شعبة) الثقفي الكوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبس جبّة روميّة ضيّقة الكمّين. صحابيّ مشهور، وكان من خدم المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأسلم عام الخندق، وأخرج له الستّة، وروي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة وستّة وثلاثون حديثا، اتفق البخاريّ ومسلم منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، وانفرد مسلم بحديثين. قيل: إنه أحصن ألف امرأة في الإسلام، وولاه عمر بن الخطاب البصرة مدّة، ثم نقله عنها فولّاه الكوفة، فلم يزل عليها حتى قتل عمر، فأقرّه عليها عثمان ثم عزله، وشهد اليمامة وفتح الشّام، وذهبت عينه يوم اليرموك، وشهد القادسيّة، وشهد فتح نهاوند، واعتزل الفتنة، وشهد الحكمين، ثم استعمله معاوية على الكوفة، فلم يزل عليها حتى توفّي بها سنة خمسين، قالوا: هو أوّل من وضع ديوان البصرة، وهو أحد دهاة العرب (رضي الله تعالى عنه) . وهم أربعة كما قيل: من العرب العرباء قد عدّ أربع ... دهاة فما يؤتى لهم بشبيه معاوية عمرو بن عاص مغيرة ... زياد هو المعروف بابن أبيه (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لبس) ؛ أي: في السّفر، قالوا: وكان ذلك في غزوة تبوك. (جبّة) - بضمّ الجيم وتشديد الموحدة- (روميّة) ؛ نسبة للروم. قال الحافظ ابن حجر: وفي أكثر روايات «الصحيحين» وغيرهما جبّة شاميّة؛ نسبة للشّام!! ولا تناقض؛ لأن الشّام كانت يومئذ مساكن الرّوم، وإنّما نسبت إلى الرّوم أو إلى الشّام لكونها من عمل الرّوم الّذين كانوا في الشّام يومئذ، وهذا يدلّ على أنّ الأصل في الثّياب الطّهارة؛ وإن كانت من نسيج الكفّار، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لم يمتنع من لبسها مع علمه بمن جلبت من عندهم؛ استصحابا للأصل. (ضيّقة الكمّين) بيان لقوله «روميّة» ؛ أي: بحيث إذا أراد إخراج ذراعيه لغسلهما تعسّر، فيعدل إلى إخراجهما من ذيلها، ويؤخذ منه- كما قاله العلماء-: أنّ ضيق الكمّين مستحب في السّفر؛ لا في الحضر، وإلّا! فكانت أكمام الصّحب بطاحا؛ أي: واسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 و (الجبّة) : ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته من صوف. وكان كمّه صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ، ولبس القباء والفرجيّة، ولبس جبّة ضيّقة الكمّين في سفره. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: ... (والجبّة) من الملابس معروفة، والجمع جبب، ك: «غرفة وغرف» ؛ قاله في «المصباح» . وقيل: هي (ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته) - بالكسر-: ما يظهر للعين، وهو خلاف البطانة (من صوف. و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان كمّه صلّى الله عليه وسلم إلى الرّسغ) - بضمّ الرّاء وسكون السّين المهملة، آخره غين معجمة- بوزن قفل، وهو: مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان، وقد تقدّم الكلام على ذلك. (ولبس) صلّى الله عليه وسلم (القباء) - بفتح القاف والموحدة، ممدودا-: هو الثّوب المشقوق من أمام كالجبّة المعهودة، (و) لبس (الفرجيّة، ولبس جبّة) شاميّة (ضيّقة الكمّين في سفره) ؛ كما في «الصّحيحين» وغيرهما، وقد تقدّم آنفا. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ (عن أسماء بنت أبي بكر) الصديق (رضي الله تعالى عنهما) امرأة الزّبير بن العوّام. أسلمت قديما بعد سبعة عشر إنسانا، وهي أسنّ من عائشة، وهي أختها لأبيها، وكان عبد الرّحمن بن أبي بكر أخو أسماء شقيقها. سمّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ذات النّطاقين» ، لأنّها صنعت للنّبي صلّى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لمّا هاجرا؛ فلم تجد ما تشدّها به؛ فشقّت نطاقها وشدّت به السّفرة، فسمّاها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ذات النطاقين. هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزّبير، فولدته بعد الهجرة، فكان أوّل مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة من المهاجرين، وبلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سنّ، ولم ينكر من عقلها شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 أنّها أخرجت جبّة طيالسة كسروانيّة، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالدّيباج، ... روي لأسماء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثا. وتوفّيت بمكّة في جمادى الأولى سنة: - 73- ثلاث وسبعين، بعد قتل ابنها عبد الله بيسير رضي الله تعالى عنها. وذلك فيما رواه عنها عبد الله مولاها قال: (إنّها أخرجت) إلينا (جبّة) بإضافة جبة إلى (طيالسة) - لا بالتنوين-، وهي نوع من الثّياب لها علم. والطيالسة: جمع طيلسان- بفتح اللام على المشهور-. (كسروانيّة) - بكسر الكاف وفتحها والسّين ساكنة والرّاء مفتوحة- نسبة إلى كسرى ملك الفرس- بكسر الكاف وفتحها-؛ فهما في كسروانية على اللغتين في المنسوب إليه، (لها لبنة) بكسر اللام وإسكان الباء الموحدة- أي: رقعة (ديباج) في جيب القميص «1» ، والدّيباج- بفتح الدال وكسرها-: جمعه ديابيج، وهو عجمي معرّب، وهو نوع من ثياب الإبريسم، (وفرجاها مكفوفان) - وفي رواية: وفرجيها مكفوفين؛ بالنّصب: مفعول لفعل محذوف، أي: ورأيت فرجيها مكفوفين. وفي رواية: وفروجها مكفوفة- (بالدّيباج) ؛ أي: عمل على جيبها وكمّيها وذيلها وفرجيها كفاف من حرير، وكفّة كل شيء- بالضمّ-: طرفه وحاشيته. قاله الزرقاني على «المواهب» . وقال الأبّي؛ نقلا عن القاضي عياض: الفرج في الثوب: الشقّ في أسفله من خلف وأمام، وإنّما يكون في الأقبية من ملابس العجم. ومعنى مكفوفين: جعل منهما كفّة- بالضمّ-: وهو ما يكفّ به جوانبها، وكل شيء مستطيل كفّة بالضمّ-. قال الخطابي: والمكفّف بالحرير: ما اتّخذ جيبه منه؛ وكان لذيله وأكمامه كفاف منه. قال السّيّد العلّامة محمّد بن أحمد عبد الباري الأهدل في «نشر   (1) هي المعروفة في زماننا ب (القبّة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 قالت: هذه جبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت.. قبضتها، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يلبسها، ... الأعلام» . يحلّ تطريف، - أي: تسجيف- للكمّين والطّوق، والجيب، والذّيل؛ بالحرير قدر العادة الغالبة لأمثاله في تلك النّاحية؛ وإن جاوز أربع أصابع، فإن جاوز العادة! حرم. ويحلّ تطريز وترقيع قدر أربع أصابع مضمومة معتدلة، ولو تعدّد؛ فالأصح الجواز بشرط أن لا يزيد المجموع على ثمان أصابع؛ وإن زاد على طرازين، فلو كان في طرفي العمامة علم كل واحد منهما أربع أصابع؛ جاز، وإلّا! فلا. والتطريز: جعل الطراز الذي هو حرير خالص مركبا على الثّوب. أما التّطريز بالإبرة! فكالنسج، فيعتبر الأكثر و؟؟ زنا منه ومما طرز فيه، وكذا يعتبر الوزن أيضا في الأردية الثّمينة المنسوج فيها حاشية من حرير؛ وإن زادت على أربع أصابع، أخذا مما ذكروه في تعريف الطراز. والظّاهر أنّ الحظاية المعروفة التي تركّب في طرف العمامة يجري فيها تفصيل الطراز، فإن كان عرضها أربع أصابع فأقلّ؛ حلّت، وإلّا! فلا. هذا إذا كانت الحظاية حريرا خالصا، أما إذا نسج معها كتّان أو قطن؛ فيعتبر فيها مع الثّوب الوزن. انتهى كلام السيد في «نشر الأعلام» . (قالت) أي؛ أسماء: (هذه جبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت) عائشة، أي؛ ماتت رضي الله تعالى عنها (قبضتها) بضمّ المثنّاة الفوقيّة- أي: أخذت الجبّة المذكورة. (وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يلبسها) - بفتح الموحدة- مضارع لبس- بكسر الموحّدة- من اللّباس، فإن كان من اللّبس- بفتح اللّام- بمعنى الخلط؛ فيقال فيه: لبس- بفتح الباء- في الماضي، يلبس- بكسر الموحدة- في المضارع، قال تعالى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (9) [الأنعام] . وقد نظم حاصل هذا بعضهم فقال: لعين مضارع في لبس ثوب ... أتى فتح وفي الماضي بكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها. ومعنى (اللّبنة) : رقعة في جيب القميص. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس ما وجد؛ فمرّة شملة، ومرّة برد حبرة يمانيّة، ومرّة جبّة صوف، ما وجد من المباح لبس. وفي خلط الأمور أتى بعكس ... لعينهما فخذه بغير عسر (فنحن نغسلها للمرضى) - وفي رواية: للمريض منّا إذا اشتكى- (نستشفي) نطلب الشفاء- (بها) لمخالطتها لعرقه وملابستها لبدنه، (ومعنى اللّبنة) - بكسر اللّام وإسكان الموحدة- (رقعة) ؛ أي: قطعة من حرير (في جيب القميص) ولو جديدا، وليس المراد أنّها جعلت فيه لإصلاح خلله. وفيه من الفقه: جواز لبس ما له فرجان، وأنّه لا كراهة فيه، وأنّ المراد بالنّهي عن الحرير المتمحّض منه، وأنّه ليس المراد تحريم كلّ جزء منه، بخلاف الخمر والذّهب، فإنّه يحرم كلّ جزء منهما، وعلى الرّجال في الذّهب؛ قاله النّووي في «شرح مسلم» . (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني، و «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزاليّ رحمهما الله تعالى: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس ما وجد) ؛ من غير قيد، (فمرّة) يلبس (شملة، ومرّة) يلبس (برد) - بضم أوّله وسكون الرّاء- مضافا إلى (حبرة) - بوزن عنبة- (يمانيّة) ؛ وهو الثّوب الّذي فيه خطوط، (ومرّة) يلبس (جبّة صوف) بالإضافة. (ما وجد من المباح لبس) قال العراقيّ: روى البخاريّ؛ من حديث سهل بن سعد: جاءت امرأة ببردة، قال سهل: هل تدرون ما البردة؟ هي الشّملة؛ منسوج في حاشيتها، وفيه: فخرج إلينا وإنّها لإزاره ... الحديث. ولابن ماجه؛ من حديث عبادة بن الصامت: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى في شملة قد عقد عليها. وفيه الأحوص بن حكيم مختلف فيه. وللشّيخين؛ من حديث أنس: «كان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يلبسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 و (الشّملة) : كساء صغير يؤتزر به. وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ... الحبرة» ، ولهما؛ من حديث المغيرة: «وعليه جبّة من صوف ضيّقة الكمّين» . انتهى «شرح الإحياء» . وقد تقدّم ذلك بزيادة: (والشّملة) - بفتح المعجمة وسكون الميم-: ما يشتمل به من الأكسية التي يلتحف بها؛ كما في «الفتح» ، وقيل: يختصّ بماله هدب. وقال ابن دريد: (كساء صغير يؤتزر به) ؛ وهي البردة، وتسمية العوامّ: ما يلفّ على الرأس شملة؛ اصطلاح حادث. (و) أخرج البخاريّ في فرض الخمس وفي اللّباس، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن أبي موسى الأشعريّ) : عبد الله بن قيس، الصحابي المشهور، الكوفي. قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة قبل هجرته إلى المدينة، فأسلم ثمّ هاجر إلى الحبشة، ثمّ هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحاب السّفينتين بعد فتح خيبر، فأسهم لهم منها. ولأبي موسى مع حسن صوته فضيلة ليست لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هاجر ثلاث هجرات؛ هجرة من اليمن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة، وهجرة من مكّة إلى الحبشة، وهجرة من الحبشة إلى المدينة المنوّرة، واستعمله النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على «زبيد» و «عدن» وساحل اليمن، واستعمله عمر على «الكوفة» و «البصرة» . روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مئة وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على خمسين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، وانفرد مسلم بخمسة عشر. وتوفّي بمكّة، وقيل: بالكوفة سنة: خمسين، أو إحدى وخمسين (رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا) أم المؤمنين (عائشة) - الصّدّيقة بنت الصديق، وقد تقدمت ترجمتها- (رضي الله تعالى عنها كساء) - بكسر أوله- من صوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ملبّدا وإزارا غليظا؛ فقالت: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذين. و (الكساء) : ما يستر أعلى البدن. و (الملبّد) : المرقّع. و (الإزار) : ما يستر أسفل البدن. و (غلظه) : ... (ملبّدا) - بتشديد الموحدة بصيغة اسم المفعول- أي: مرقّعا، كما قاله النووي في «شرح مسلم» . (وإزارا) - بكسر الهمزة-: الملحفة، يذكّر ويؤنّث؛ فيقال: هو الإزار، وهي الإزار، وربما أنّث بالهاء، والمراد هنا: ما يستر أسفل البدن، ويقابله الرّداء: وهو ما يستر أعلى البدن، (غليظا) ، أي: خشنا، صفة للإزار، وفي رواية عند مسلم موصولة، وعند البخاريّ تعليقا: أخرجت إلينا عائشة إزارا غليظا ممّا يصنع باليمن، وكساء من هذه الّتي تدعونها الملبّدة. (فقالت: قبض) - بصيغة المجهول- ونائب الفاعل قوله (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: أماته الله تعالى وهو (في هذين) ؛ أي: الكساء والإزار المذكورين، وأرادت أنّهما كانا لباسه وقت مفارقته للدّنيا صلّى الله عليه وسلم، مع ما فيهما من الرّثاثة والخشونة، فلم يكترث صلّى الله عليه وسلم بزخرفة الدنيا، ولا بمتاعها الفاني، مع أنّ ذلك كان بعد فتح الفتوح وفي قوّة الإسلام وكمال سلطانه. ويؤخذ من ذلك: أنّه ينبغي للإنسان أن يجعل آخر عمره محلا لترك الزّينة. (والكساء) - بكسر الكاف: - (ما يستر أعلى البدن) ؛ وهو الرداء، ضدّ الإزار، وجمعه: أكسية؛ بلا همز. (والملبّد) - بضمّ الميم وفتح اللّام وتشديد الموحدة المفتوحة- قال ابن الأثير في «النهاية» : هو (المرقّع) - بضمّ الميم وفتح الرّاء وشدّ القاف- يقال: لبّدت القميص ألبده، ولبدته بالتّخفيف، ويقال للخرقة التي يرقع بها صدر القميص: اللّبدة بالكسر-. وقيل: الملبّد الذي ثخن وسطه وصفق، حتى صار يشبه اللّبدة- بالكسر-. (والإزار) - بكسر أوّله-: (ما يستر أسفل البدن) ؛ ضد الرّداء، (وغلظه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 خشونته. وكان له صلّى الله عليه وسلّم كساء ملبّد يلبسه ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» . - بكسر الغين المعجمة وفتح اللّام-: (خشونته) . وفي الحديث ندب حفظ آثار الصّالحين والتّبرك بها؛ من ثيابهم، ومتاعهم، فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها حفظت هذا الكساء والإزار اللّذين قبض فيهما للتبرّك بهما. فائدة: ذكر ابن الجوزي في «الوفا» بإسناده؛ عن عروة بن الزّبير قال: كان طول رداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعين ونصفا. ونقل ابن القيّم عن الواقديّ: أن رداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم برد طوله ستّة أذرع في ثلاثة أذرع وشبر، وإزاره من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين. انتهى «جمع الوسائل» . (و) في «المواهب» و «الإحياء» : (كان له صلّى الله عليه وسلم كساء ملبّد) ؛ أي: مرقّع، أو ما ثخن وسطه حتى صار كاللّبد، (يلبسه ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» ) . قال في «المواهب» : رواه الشّيخان. قال الزرقاني: لم أره فيهما ولا في أحدهما بهذا اللّفظ في مظانّه! فليراجع. وقال في «شرح الإحياء» : قال العراقي: روى الشّيخان؛ من رواية أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبدا وإزارا غليظا؛ فقالت: في هذين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد تقدم. وروى البخاريّ من حديث عمر: «إنّما أنا عبد» . ولعبد الرزاق في «المصنف» من رواية أيوب السختياني مرفوعا معضلا: «إنّما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . قلت: وروى تمام وابن عساكر من حديث ابن عمر: «من لبس الصّوف وانتعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وكان له صلّى الله عليه وسلّم كساء أسود، فوهبه، فقالت له أمّ سلمة: بأبي أنت وأمّي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: «كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ أحسن من بياضك على سواده. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتقنّع بردائه تارة ويتركه ... بمخصوف ... » الحديث. وفيه: «أنا عبد بن عبد، آكل أكلة العبد، وأجلس جلسة العبد ... » الحديث. انتهى كلام «شرح الإحياء» ملخصا. وهو يؤيد كلام الزرقاني رحمه الله تعالى. (و) في «الإحياء» : (كان له صلّى الله عليه وسلم كساء أسود فوهبه) لآخر، (فقالت له أمّ سلمة) - رضي الله تعالى عنها-: (بأبي أنت وأمّي) يا رسول الله؛ (ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: «كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ) كان (أحسن من بياضك على سواده) . قال في «شرح الإحياء» : قال العراقي: لم أقف عليه من حديث أمّ سلمة. ولمسلم من حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها-: خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحّل أسود. ولأبي داود، والنّسائي: صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلم بردة سوداء من صوف فلبسها.. الحديث، وزاد فيه ابن سعد في «الطّبقات» : فذكرت بياض النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وسوادها. ورواه الحاكم بلفظ: جبة، وقال: صحيح على شرط الشّيخين. (و) في «كشف الغمة» للعارف الشّعراني- رحمه الله تعالى-: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يتقنّع بردائه) . قال الوليّ العراقيّ في «شرح تقريب الأسانيد» : التقنّع معروف؛ وهو تغطية الرّأس بطرف العمامة، أو برداء، أو نحو ذلك. وقال ابن الحاجّ في «المدخل» : وأما قناع الرجل!! فهو أن يغطّي رأسه بردائه ويردّ طرفه على أحد كتفيه. انتهى. واحترز به عن قناع المرأة؛ فإنّها خرقة لطيفة تجعلها على رأسها. (تارة) - التارة: المرّة، وجمعها تارات- (ويتركه) - أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 أخرى، وهو الّذي يسمّى في العرف: الطّيلسان. التقنّع- تارة (أخرى، و) التقنّع قال السيوطي: (هو) التّطيلس. وقال الشّعراني: الرّداء: هو (الّذي يسمّى في العرف: «الطّيلسان» ) - بفتح الطّاء واللّام على الأشهر الأفصح- بزنة «فيعلان» ، وحكى القاضي عياض والنّووي والمجد «1» : كسر اللّام وضمّها، وفيه لغة: الطّالسان بالألف، حكاها ابن الأعرابي. اعتراض ابن القيم والتعقّب عليه قال ابن القيم: ولم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه لبسه، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت في «صحيح مسلم» من حديث النّواس بن سمعان عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: أنّه ذكر الدّجّال فقال: «يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطّيالسة» . ورأى أنس جماعة عليهم الطّيالسة فقال: ما أشبههم بيهود خيبر!. قال: ومن ها هنا كرهه جماعة من السّلف والخلف؛ لما روى أبو داود، والحاكم؛ أنّه قال: «من تشبّه بقوم فهو منهم» . وفي «التّرمذيّ» : «ليس منّا من تشبّه بغيرنا» . وأمّا ما جاء في حديث الهجرة أنّه صلّى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه متقنّعا بالهاجرة! فإنّما فعله صلّى الله عليه وسلم تلك السّاعة ليختفي بذلك؛ للحاجة. ولم يكن عادته التقنّع، وقد ذكر أنس عنه صلّى الله عليه وسلم: أنّه كان يكثر القناع، وهذا إنّما كان يفعله للحاجة؛ من الحرّ ونحوه. انتهى كلام ابن القيّم؛ نقله في «المواهب» . وتعقّبه بقوله: أمّا قوله: إنّه صلّى الله عليه وسلم إنّما فعل ذلك للحاجة؛ فيردّ عليه حديث سهل بن سعد: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يكثر القناع. رواه البيهقي في «الشعب» ، والتّرمذيّ. وللبيهقيّ في «الشعب» أيضا، وابن سعد في «طبقاته» ؛ من حديث أنس   (1) الفيروز أبادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ......... بلفظ: يكثر التقنع. فهذا وما أشبهه يرد قول ابن القيم أنّه لم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه لبسه. الطيلسان ثوب لا يؤدّى شكره وفي «طبقات» ابن سعد مرسلا: ذكر الطّيلسان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هذا ثوب لا يؤدّى شكره» . وفيه أحاديث كثيرة. وأما قوله: ولا أحد من أصحابه! فيردّه ما أخرجه التّرمذيّ وصحّحه، والحاكم في «المستدرك» بسند على شرط الشّيخين؛ عن مرّة بن كعب- أو كعب بن مرة- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقرّبها، فمرّ رجل مقنّع في ثوب- وفي لفظ: «بردائه» - فقال: «هذا يومئذ على الهدى» . فقمت فإذا هو عثمان بن عفّان- رضي الله تعالى عنه-؛ فهذا صحابي من أجلّاء الصّحابة تقنّع، ورآه المصطفى كذلك وأقرّه! وروى أبو يعلى وابن عساكر: صعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلم المنبر؛ وأصحابه تحت المنبر، وأبو بكر مقنّع في القوم. فهذا خير الصحابة تقنّع بحضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأقرّه! وروى ابن عساكر: أنّ عمر تقنّع في خلافته يوم عيد. وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» ؛ عن أبي العلاء قال: رأيت الحسن بن علي يصلّي وهو مقنّع رأسه. وأخرج ابن سعد؛ عن سليمان بن المغيرة قال: رأيت الحسن بن عليّ يلبس الطّيالسة. وأخرج ابن سعد أيضا؛ عن عمارة بن زاذان قال: رأيت على الحسن بن علي طيلسانا أندقيّا. فهؤلاء أربعة من الصّحابة تطيلسوا. وأما التّابعون! فثبت عن طاوس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري أخرجه عنهم ابن سعد-، ومسروق، وإبراهيم النّخعي، وسعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة-، ومحمّد بن واسع- عند ابن عساكر-، وميمون بن مهران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ......... - عند ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» - وروى البيهقي؛ عن خالد بن حراش قال: جئت مالك بن أنس؛ إمام دار الهجرة، فرأيت عليه طيلسانا، فقلت: يا أبا عبد الله؛ هذا شيء أحدثته أم رأيت النّاس عليه؟ قال: لا؛ بل رأيت النّاس عليه. والآثار عن السّلف في ذلك كثيرة. وأما ما ذكره ابن القيّم من قصّة اليهود الخارجين مع الدّجال ويهود خيبر؛ فقال الحافظ ابن حجر: إنّما يصلح الاستدلال به في الوقت الّذي تكون فيه الطّيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة، فصار ذلك داخلا في عموم المباح، وقد ذكره العزّ بن عبد السّلام في أمثلة البدعة المباحة. وقد يصير من شعار قوم؛ فيصير تركه من الإخلال بالمروءة؛ فيرتقي عن الإباحة إلى الطّلب. وقيل: إنّما أنكر أنس ألوان الطّيالسة؛ لأنّها كانت صفراء، وقد صحّ النّهي عن الصفرة. انتهى كلام «المواهب» مع شيء من الشرح. قال المناوي في شرح «الشمائل» : وقد كثر كلام النّاس في الطّيلسان، والحاصل أنّه قسمان: 1- محنّك: وهو ثوب طويل عريض قريب من الرّداء، مربّع، يجعل فوق العمامة، يغطّي أكثر الوجه، ثم يدار طرفه- والأولى اليمين من تحت الحنك- إلى أن يحيط بالرّقبة جميعها، ثمّ يلقى طرفاه على المنكبين. و2- مقوّر: وهو ما عدا ذلك، فيشمل: المدوّر، والمثلّث، والمربّع، والمسدول؛ وهو ما يرخى طرفاه من غير ضمّهما أو أحدهما؛ ومنه: الطّرحة المعتادة لقاضي القضاة الشّافعي المختصّة به. والأوّل- يعني: المحنّك- مندوب اتفاقا، ويتأكّد لصلاة وحضور جمعة وعيد ومجمع. والثّاني- يعني: المقوّر بأنواعه- مكروه، لأنه من شعار أهل الذّمّة. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ......... وقال السّيوطي: كلّ من وقع في كلامه من العلماء كراهة للطيلسان وكونه شعارا لليهود؛ إنّما أراد المقوّر الّذي على شكل الطرحة؛ يرسل من وراء الظّهر والجانبين من غير إدارة تحت الحنك، ولا إلقاء لطرفيه على الكتفين. وأما المربّع الذي يدار من تحت الحنك ويغطي الرّأس وأكثر الوجه ويجعل طرفاه على الكتفين! فلا خلاف أنه سنة. انتهى. نقله الزرقاني على «المواهب» . قال المناوي في شرح «الشّمائل» : ووقع في أكثر الأحاديث التعبير عن التّطيلس بالتقنّع، وعن الطّيلسان بالقناع. ومن ثمّ قال الحافظ ابن حجر في مجيء المصطفى صلّى الله عليه وسلم لبيت الصّدّيق متقنّعا أي: مطيلسا رأسه-: هذا أصل لبس الطّيلسان. قال: والتقنّع: تغطية الرّأس وأكثر الوجه برداء أو غيره، وصرّحوا بأنّ القناع الّذي يحصل به التقنّع الحقيقيّ: هو الرداء، وهو يسمّى «طيلسانا» ، كما أن الطّيلسان قد يسمّى «رداء» . ومن ثمّ قال ابن الأثير: الرّداء يسمّى الآن «طيلسانا» . فما على الرّأس مع التّحنيك: الطّيلسان الحقيقي، ويسمّى «رداء» مجازا. وما على الأكتاف: هو الرّداء الحقيقي، ويسمّى «طيلسانا» مجازا. وصحّ عن ابن مسعود- وله حكم المرفوع-: «التّقنّع من أخلاق الأنبياء» . وفي خبر أنّ: «التّقنّع باللّيل ريبة» . وفي خبر: «لا يتقنّع إلّا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» . وأخذ من ذلك: أنّه ينبغي أن يكون للعلماء شعار مختصّ بهم؛ ليعرفوا فيسألوا ويمتثل ما أمروا به ونهوا عنه. وللطّيلسان فوائد جليلة: فيها صلاح الظّاهر والباطن؛ كالاستحياء من الله والخوف منه، إذ تغطية الرّأس شأن الخائف الآبق الّذي لا ناصر له ولا معين، ولجمعه للفكر لكونه يغطّي أكثر الوجه، فتندفع عن صاحبه مفاسد كثيرة، وتجتمع همّته؛ فيحضر قلبه مع ربّه ويمتلىء بشهوده وذكره، وتصان جوارحه عن المخالفات، ونفسه عن الشّهوات، وهذه أسباب لإفاضة أنواع الجلالة والمهابة، ولذلك قال بعض الصّوفية: الطّيلسان الخلوة الصّغرى. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وكان صلّى الله عليه وسلّم غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن، وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف والكتّان. ولبس صلّى الله عليه وسلّم الشّعر الأسود. ولبس مرّة بردة من الصّوف.. فوجد ريح الضّأن فطرحها. (و) في «زاد المعاد» لشمس الدّين ابن القيّم: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم غالب ما يلبس هو وأصحابه) معطوف على الضمير المستتر في يلبس، والشّرط موجود، على حدّ قول صاحب «الألفيّة» : وإن على ضمير رفع متّصل ... عطفت فافصل بالضّمير المنفصل (ما نسج) - أي: الثّياب المنسوجة- (من القطن) ؛ قميصا أو رداء أو غيرهما. والقطن- بضمّ فسكون، وبضمّتين- شجر معروف، قد يعظم ويبقى عشرين سنة. (وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف) لمزيد تواضعه، ولأنّ لبسه من سنن الأنبياء. قال ابن مسعود: كان الأنبياء يركبون الحمير، ويلبسون الصّوف، ويحتلبون الشّاة. رواه أبو داود الطّيالسيّ. وعنه صلّى الله عليه وسلم قال: «كان على موسى يوم كلّمه ربّه كساء صوف، وكمّة صوف، وجبّة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» . رواه التّرمذيّ وقال: غريب. والحاكم وصححّه على شرط البخاريّ كلاهما؛ عن حميد الأعرج؛ عن عبد الله بن الحارث؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والكمّة- بضمّ الكاف وتشديد الميم-: القلنسوة الصغيرة. انتهى. (و) ما نسج من (الكتّان) - بفتح الكاف وتشديد المثنّاة الفوقيّة آخره نون- عربي معروف، وسمّي بذلك!! لأنّه يكتنّ، أي: يسودّ إذا ألقي بعضه على بعض. والثّياب المنسوجة من الكتّان معتدلة الحرّ والبرد واليبوسة، ولا تلزق بالبدن، ويقل قملها. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني: (لبس) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم الشّعر الأسود) ، وقد تقدّم بيانه، (ولبس مرّة بردة من الصّوف؛ فوجد ريح الضّأن فطرحها) . فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلم بردة سوداء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سراويل، ... فلبسها، فلما عرق فيها؛ وجد ريح الصّوف فقذفها. وكانت تعجبه الرّيح الطيّبة. أخرجه أبو داود، والنّسائي في «سننه» ، وذكره البغوي في «المصابيح» . (و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سراويل) ؛ قال ابن سيده: فارسي معرّب؛ يذكّر ويؤنّث. ولم يعرف أبو حاتم السجستاني التذكير، والأشهر عدم صرفه. قال الحافظ ابن حجر: والتأنيث أكثر؛ ففي «القاموس» : فارسية معرّبة، وقد تذكّر، جمعها سراويلات، أو جمع «سروال، وسراولة، وسرويل» - بكسرهنّ- وليس في الكلام فعويل غيره، والسّراوين- بالنّون-: لغة في السّراويل، والشّروال- بالشين-: لغة. وفي «المصباح» : الجمهور على أن السّراويل أعجميّة، وقيل: عربيّة؛ جمع سروالة تقديرا، والجمع سراويلات. واختلف؛ هل لبسها النبي صلّى الله عليه وسلم أم لا؟! فجزم بعض العلماء بأنّه عليه الصلاة والسلام لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النّوويّ في ترجمة عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه من كتاب «تهذيب الأسماء واللغات» أنّه رضي الله عنه لم يلبس السّراويل في جاهليّة ولا إسلام إلّا يوم قتله. فإنّهم كانوا أحرص شيء على اتّباعه صلّى الله عليه وسلم. لكن قد ورد في حديث عند أبي يعلى الموصلي بسند ضعيف جدا؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت السوق يوما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجلس إلى البزّازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السّوق وزّان يزن، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتّزن وأرجح» . فقال الوزّان: إنّ هذه الكلمة ما سمعتها من أحد!!. قال أبو هريرة: فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء في دينك أن لا تعرف نبيّك! فطرح الميزان. ووثب إلى يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يقبّلها، فجذب يده صلّى الله عليه وسلم منه، وقال: «يا هذا؛ إنّما تفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنّما أنا رجل منكم» ، فوزن وأرجح، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم السّراويل. قال أبو هريرة: فذهبت لأحمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 عنه، فقال: «صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله، إلّا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» . قال: قلت: يا رسول الله؛ وإنك لتلبس السّراويل؟ قال: «أجل! في السّفر والحضر، وباللّيل والنّهار، فإنّي أمرت بالسّتر فلم أجد شيئا أستر منه» . وكذا أخرجه ابن حبّان في «الضّعفاء» ؛ عن أبي يعلى، ورواه الطّبراني في «الأوسط» ، والدّارقطني في «الأفراد» ، والعقيلي في «الضّعفاء» ؛ ومداره على يوسف بن زياد الواسطيّ وهو واه لا يحتمل تفرّده، بل بالغ ابن الجوزيّ فذكر الحديث هذا في «الموضوعات» ، وتعقّبه السّيوطي، واقتصر الحافظ ابن حجر وغيره على أنّه ضعيف. لكن صحّ شراء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم للسّراويل من غير هذا الطّريق؛ فقد روى أحمد، وأصحاب «السّنن الأربعة» ، وصحّحه ابن حبّان؛ عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبد بزّا من هجر، فأتينا مكّة، فجاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن بمنى، فساومنا سراويل، فبعناه منه، فوزن ثمنه؛ وقال للوزّان: «زن وأرجح» . وروى النّسائي وأحمد؛ عن أبي صفوان مالك بن عميرة الأسديّ: أنّه باع من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر رجل سراويل، فلمّا وزن له أرجح له. وهذه القصّة غير الّتي في حديث أبي يعلى؛ لأنّها بعد الهجرة، إذ أبو هريرة إنّما جاء في خيبر. قال في «الإصابة» : مالك بن عميرة- بفتح العين- وقيل عمير- مصغّرا بلا هاء- حديثه يشبه حديث سويد بن قيس، فقيل إنّهما واحد اختلف في اسمه. انتهى. وفي «الهدي النبوي» لابن القيّم: والظّاهر أنّه صلّى الله عليه وسلم إنّما اشتراه ليلبسه، وقد روي أنّه لبس السّراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه، وبإذنه، قال أبو عبد الله الحجازيّ في حاشيته على «الشفاء» : وما قاله في «الهدي» من أنّه صلّى الله عليه وسلم لبس السّراويل!! قالوا سبق قلم. انتهى. من «المواهب» مع زيادة من شرح الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ولبس النّعل الّتي تسمّى: التّاسومة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم ملاءة مصبوغة بالزّعفران، تنقل معه إلى بيوت أزواجه، فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة، فترشّها بالماء، فتظهر رائحة الزّعفران، فينام معها فيها. (ولبس) صلّى الله عليه وسلم (النّعل الّتي تسمّى) في العرف (التّاسومة) : هي ما له سير يستر بعض الأصابع ممّا يلي أصولها، وبعض ظهر القدم من تلك الجهة. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني رحمه الله تعالى: (كان له صلّى الله عليه وسلم ملاءة) - بالضمّ والمدّ-: الإزار، يقال: تملأت: لبست الملاءة، وتصغير الملاءة: مليئة. ورد في الحديث: «وعليه أسمال مليّتين» ؛ تصغير «ملاية» ؛ مثنّاة مخفّفة الهمز. والملاءة: قيل إنّها مرادفة للرّيطة بالفتح-. وقيل: الملاءة الملحفة ذات اللّفقين، فإن كانت ليست ذات لفقين؛ فهي ريطة. انتهى «شرح القاموس» . (مصبوغة بالزّعفران) معروف، يقال: زعفرت الثّوب: صبغته بزعفران، فهو مزعفر- بالفتح اسم مفعول- (تنقل معه إلى بيوت أزواجه) بالنّوبة، (فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة؛ فترشّها بالماء) ، الظّاهر أنّ القصد برشّها التّبريد، لأنّ قطر الحجاز في غاية الحرّ، ويحتمل أنّها ترشّها بماء ممزوج بنحو طيب كما يفعله النّساء الآن، أو لأجل أن تظهر رائحة الزّعفران منها؛ كما قال: (فتظهر رائحة الزّعفران) منها إذا رشّت بالماء، (فينام معها) - أي: مع صاحبة النّوبة- (فيها) ؛ أي: الملاءة. روى الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف؛ عن أنس بن مالك: أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان له ملحفة مصبوغة بالورس والزّعفران، يدور بها على نسائه، فإذا كانت ليلة هذه رشّتها بالماء، وإذ كانت ليلة هذه رشّتها بالماء. انتهى. وفيه حلّ لبس المزعفر والمورّس، ويعارضه بالنسبة للمزعفر حديث الشّيخين: نهى أن يتزعفر الرّجل. وبه أخذ الشّافعيّ، ولا فرق بين ما صبغ قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وكانت له صلّى الله عليه وسلّم ملحفة مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها وحدها، وربّما لبس الكساء وحده وما عليه غيره. وكان صلّى الله عليه وسلّم ربّما صلّى باللّيل في الإزار، وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه، وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك. النّسج وبعده. وأما المورّس! فذهب جمع من أصحابه لحلّه؛ تمسّكا بهذا الخبر، المؤيّد بما صحّ: أنّه كان يصبغ ثيابه بالورس؛ حتّى عمامته. لكن ألحقه جمع بالمزعفر في الحرمة. انتهى «مناوي» . (و) في «كشف الغمة» و «الإحياء» : (كانت له صلّى الله عليه وسلم ملحفة) - بكسر الميم-: الملاءة الّتي تلتحف بها المرأة (مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها وحدها) . قال العراقيّ: روى أبو داود، والتّرمذيّ؛ من حديث قيلة بنت مخرمة قالت: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه أسمال ملاءتين كانتا بزعفران. قال الترمذيّ: لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن حسّان. قلت: ورواته موثّقون. ولأبي داود؛ من حديث قيس بن سعد: «فاغتسل، ثمّ ناوله أبي سعد ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها ... » . الحديث. ورجاله ثقات. (وربّما لبس) صلّى الله عليه وسلم (الكساء وحده وما عليه غيره) . قال العراقي: رواه ابن ماجه، وابن خزيمة؛ من حديث ثابت بن الصّامت: أن النّبي صلّى الله عليه وسلم صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفّف به ... الحديث. وفي رواية البزّار: في كساء. انتهى شرح «الإحياء» . (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم ربّما صلّى باللّيل في الإزار وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه) - بضم الهاء وإسكان الدال-: طرف الثوب، (وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك) . قال العراقيّ: روى أبو داود؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم صلّى في ثوب بعضه عليّ. ولمسلم: كان يصلّي من اللّيل وأنا إلى جنبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وكانت ثيابه صلّى الله عليه وسلّم كلّها مشمّرة فوق الكعبين، وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق، ... وأنا حائض، وعليّ مرط وعليه بعضه إلى جنبه. وللطّبراني في «الأوسط» ؛ من حديث أبي عبد الرّحمن حاضن عائشة رضي الله عنها: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعائشة يصلّيان في ثوب واحد، نصفه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ونصفه على عائشة. وسنده ضعيف. (و) في «كشف الغمة» و «إحياء علوم الدين» : (كانت ثيابه صلّى الله عليه وسلم كلّها مشمّرة فوق الكعبين) - مثنى كعب-، واختلف فيه أئمة اللّغة؛ فقال أبو عمرو بن العلاء، والأصمعي، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم عند ملتقى السّاق والقدم، فيكون لكل قدم كعبان؛ عن يمنتها ويسرتها، وقد صرّح بهذا الأزهري وغيره. وقال ابن الأعرابي وجماعة: هو المفصل بين السّاق والقدم. وقيل غير ذلك. (وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق) ، قال العراقي: روى أبو الفضل محمّد بن طاهر في كتاب «صفوة التصوّف» ؛ من حديث عبد الله بن بسر: «كانت ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إزاره فوق الكعبين، وقميصه فوق ذلك، ورداؤه فوق ذلك» وإسناده ضعيف. وللحاكم وصححه؛ من حديث ابن عبّاس: كان يلبس قميصا فوق الكعبين ... الحديث، وهو عند ابن ماجه بلفظ: قميصا قصير اليدين والطّول. وسندهما ضعيف. وللتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ من رواية الأشعث قال: سمعت عمّتي تحدّث عن عمّها؛ فذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وفيه: فإذا إزاره إلى نصف ساقيه. ورواه النّسائي وسمّى الصّحابي: عبيد بن خالد، واسم عمة الأشعث: رهم بنت الأسود. ولا تعرف!! انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وكان قميصه مشدود الأزرار، وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها. وعن عبيد بن خالد رضي الله تعالى عنه قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي ... (وكان قميصه مشدود الأزرار) - واحدها: زرّ بالكسر- (وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها) . قال العراقي: رواه أبو داود، وابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ من رواية معاوية بن قرّة بن إياس قال: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في رهط من مزينة، فبايعناه، وإن قميصه لمطلق الأزرار. وقد تقدّم. وللبيهقيّ من رواية زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر يصلّي محلول أزراره، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعله. وللطّبراني؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي محتبيا محلّل الأزرار. (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي في «السنن» ؛ (عن عبيد بن خالد) - ويقال ابن خلف المحاربيّ، ويقال: عبيد؛ بفتح أوله، ويقال عبيدة؛ بفتح العين وزيادة هاء. وذكره ابن عبد البرّ: بضمّ أوله وبالهاء؛ صحابيّ يعدّ في الكوفيّين- (رضي الله تعالى عنه) له حديث في إسبال الإزار، ذكره في «الإصابة» . (قال: بينا أنا أمشي بالمدينة؛ إذا إنسان خلفي) ، أي: فاجأني كون إنسان خلفي بين أزمنة كوني أمشي في المدينة. ف «بين» «1» : ظرف للفعل الذي دلّت عليه «إذا» الّتي للمفاجأة، وأصلها: «بين» ، فأشبعت فتحتها فتولّدت الألف، وقد تزاد فيها «ما» ، فيقال: بينما. ولا تضاف «بينا» و «بينما» إلا إلى اثنين فصاعدا،   (1) هكذا في الأصل!! والصواب: بينا؛ بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 يقول: «ارفع إزارك فإنّه أتقى وأبقى» ، فإذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي بردة ملحاء، ... أو ما قام مقامهما؛ كقوله تعالى (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [68: البقرة] . وقدّم المسند إليه للتّخصيص أو للتّقوّي. وعبّر بصيغة المضارع استحضارا للصّورة الماضية، والباء في قوله ب «المدينة» بمعنى «في» . وقوله (يقول) خبر المبتدأ الّذي هو (إنسان) ؛ المخصوص بالوصف، أي: يقول ذلك الإنسان: ( «ارفع إزارك) عن الأرض، وهذا على عادته في نصح أصحابه، (فإنّه) - أي: الرفع- (أتقى) بمثنّاة فوقيّة- أي: أقرب إلى التّقوى، للبعد عن الكبر والخيلاء، وفي رواية: «أنقى» بالنّون، أي: أنظف، فإنّ الإزار إذا جرّ على الأرض ربّما تعلق به نجاسة فتلوّثه، (وأبقى) - بالباء الموحّدة-؛ أي: أكثر بقاء ودواما. وفيه إرشاد إلى أنّه ينبغي للّابس الرّفق بما يستعمله، واعتناؤه بحفظه، لأنّ إهماله تضييع وإسراف، فقد علّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أمره بالمصلحة الدّينيّة؛ وهي طهارة القلب أو القالب أوّلا، لأنّها المقصودة بالذّات، وثانيا بالمنفعة الدّنيويّة، فإنّها التّابعة للأخرى. وفيه إيماء إلى أنّ المصالح الأخرويّة لا تخلو عن المنافع الدّنيويّة. (فإذا هو) - أي: الإنسان- (رسول الله) ، هكذا في أكثر نسخ «الشمائل» ، وفي بعضها: فالتفتّ فإذا هو رسول الله (صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي) ؛ أي: الإزار- تؤنّث وتذكّر- (بردة) - بضمّ فسكون- كساء صغير مربّع، ويقال كساء أسود صغير، (ملحاء) - بفتح الميم والحاء المهملة وسكون اللّام والمدّ- هي في الأصل: البياض يخالطه سواد، والمراد: بردة سوداء فيها خطوط بيض تلبسها الأعراب. والظّاهر أنّ هذا جواب لقوله «أبقى» بموحدة، أي: إنّها بردة مبتذلة لا يؤبه لها ليراعي ما يقيها؛ إذ ليست من الثّياب الفّاخرة، وكأنّه يريد أنّ هذا ثوب لا اعتبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 قال: «أما لك فيّ أسوة؟!» ، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه. ومعنى (ملحاء) : سوداء فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب، ليست من الثّياب الفاخرة. و (الأسوة) : القدوة. وعن سلمة بن الأكوع ... به، ولا يلبسه في المجالس والمحافل، وإنّما هو ثوب مهنة؛ لا ثوب زينة، فأجابه صلّى الله عليه وسلم بطلب الاقتداء به حيث: (قال: «أما) - كلمة «ما» للنفي، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ أي: ليس (لك فيّ) - بتشديد الياء- أي: في أقوالي وأفعالي (أسوة) - بضمّ الهمزة أفصح من كسرها- أي: اقتداء واتباع. ومراده صلّى الله عليه وسلم طلب الاقتداء به، وإن لم يكن في تلك البردة خيلاء؛ سدّا للذّريعة، وكأنّه صلّى الله عليه وسلم علم أنّه لم يفهم مراده فغيّر الأسلوب. (فنظرت) ، أي: تأمّلت لبسته صلّى الله عليه وسلم؛ (فإذا إزاره) ينتهي (إلى نصف ساقيه) صلّى الله عليه وسلم. قال النّوويّ: القدر المستحبّ فيما ينزل إليه طرف الإزار: نصف السّاقين، والجائز بلا كراهة: ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عنهما؛ إن كان للخيلاء حرم، وإلّا كره، وفي معنى الإزار: القميص وكلّ ملبوس، وهذا في حقّ الرّجل، أما المرأة! فيسنّ لها جرّه على الأرض قدر شبر، وأكثره ذراع؛ ذكره الباجوريّ وغيره. (ومعنى ملحاء) - بفتح الميم والمهملة بينهما لام ساكنة؛ ممدود-: تأنيث أملح وهي في الأصل: بياض يخالطه سواد، والمراد هنا: بردة (سوداء؛ فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب؛ ليست من الثّياب الفاخرة) ؛ قاله الباجوري. (و) معنى (الأسوة) - بضم الهمزة وكسرها-: (القدوة) ، أي: الحالة التي يكون عليها الإنسان في اتباع غيره. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن) أبي إياس (سلمة) بن عمرو (ابن الأكوع) ، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله بن قشير بن خزيمة بن مالك بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 رضي الله تعالى عنه قال: كان عثمان بن عفّان ... سلامان بن أسلم الأسلمي؛ شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ ثلاث مرّات: في أول الناس، ووسطهم، وآخرهم. وكان شجاعا راميا محسنا خيّرا فاضلا، غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات؛ ويقال شهد غزوة مؤتة، روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم سبعة وسبعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على ستة عشر حديثا، وانفرد البخاريّ بخمسة، وانفرد مسلم بتسعة. وتوفّي بالمدينة المنورة سنة: أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة (رضي الله تعالى عنه، قال: كان) أبو عمرو ذو النورين (عثمان بن عفّان) بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكيّ؛ ثم المدني، أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين. أسلم قديما؛ دعاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة. ويقال له «ذو النورين» !! لأنّه تزوّج بنتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم إحداهما بعد الأخرى، قالوا: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبيّ غيره، تزوّج رقية أوّلا فماتت في أيام غزوة بدر، ثم تزوّج أختها أمّ كلثوم وتوفيت عنده سنة: تسع من الهجرة. وكان حسن الوجه، رقيق البشرة، كثّ اللحية، وقد قيل فيهما: أحسن شيء قد يرى إنسان ... رقيّة وزوجها عثمان وكان محبّبا في قريش، واشترى بئر رومة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشورى الذين توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهو عنهم راض، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المنفقين في سبيل الله الإنفاق العظيم، وأحد أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روي له من الحديث مائة حديث وستة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 رضي الله تعالى عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي؛ يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله [تعالى] عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضلة ساقي فقال: «هذا موضع الإزار، ... منها على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، وانفرد مسلم بخمسة. وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة: خمس وثلاثين؛ وهو ابن تسعين سنة (رضي الله تعالى عنه يأتزر) - بهمزة ساكنة، ويجوز إبدالها ألفا؛ كما في «جمع الوسائل» - أي: يلبس الإزار ويرخيه (إلى أنصاف ساقيه) ، والمراد بالجمع في الأنصاف: ما فوق الواحد بقرينة ما أضيف إليه. والساق: ما بين الركبة والقدم. (وقال) ؛ أي: عثمان- على الأظهر- (هكذا) - أي: مثل هذا الاتّزار المذكور- (كانت إزرة) - بكسر أوله-: اسم لهيئة الاتّزار؛ أي كانت إزرة (صاحبي) أي: هيئة ائتزاره هكذا؛ أي: كهذه الهيئة التي رأيتها مني (يعني) ؛ أي: يريد ويقصد عثمان بقوله «صاحبي» : (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) . وقائل ذلك سلمة رضي الله تعالى عنه. (و) أخرج النسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه، وابن حبّان كلّهم؛ (عن حذيفة بن اليمان) - بكسر النون بلا ياء- لقب والده حسل بن جابر اليماني. أسلم هو وأبوه قبل بدر. وتقدّمت ترجمته (رضي الله عنهما قال) - أي حذيفة-: (أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعضلة ساقي) العضلة- بفتح العين وسكون الضاد؛ كطلحة، أو [عضلة] بتحريكها-: كلّ عصب له لحم بكثرة. قال الحافظ العراقي: وهي هنا اللحمة المجتمعة أسفل من الركبة من مؤخّر الساق. (فقال: «هذا موضع الإزار) - أي: هذا المحلّ موضع طرف الإزار، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فإن أبيت.. فأسفل، فإن أبيت.. فلا حقّ للإزار في الكعبين» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رآني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسبلت إزاري فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار.. في النّار» ، نهاية موضع الإزار؛ فهو على حذف مضاف- (فإن أبيت) ! - أي: امتنعت من الاقتصار على ذلك وأردت التجاوز- (فأسفل) - أي: فموضعه أسفل من العضلة بقليل بحيث لا يصل إلى الكعبين-. (فإن أبيت! فلا حقّ) - أي: فإن امتنعت من الاقتصار على ما دون الكعبين؛ فاعلم أنّه لا حقّ- (للإزار في) وصوله إلى (الكعبين) . وظاهره أنّ إسباله إلى الكعبين ممنوع، لكن ظاهر رواية البخاريّ: «ما أسفل من الكعبين فهو في النّار» يدلّ على جواز إسباله إلى الكعبين، ويحمل ما هنا على المبالغة في منع الإسبال إلى الكعبين؛ لئلا يجرّ إلى ما تحتهما على وزان خبر «كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . (و) أخرج الطبرانيّ؛ من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب؛ (عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما، قال: رآني النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أسبلت إزاري) - أي: أرخيته- (فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» ) . عقابا للابسه. (و) في البخاري والنسائي؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين) من الرجل (من الإزار في النّار» ) . «ما» موصولة وبعض صلته محذوف؛ وهو «كان» . و «أسفل» خبره فهو منصوب، ويجوز الرفع، أي: ما هو أسفل: أفعل تفضيل، ويحتمل أنّه فعل ماض، ويجوز أنّ «ما» نكره موصوفة ب «أسفل» ؛ ذكره الحافظ ابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وهو محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الّذي ورد فيه الوعيد. وقال القسطلّاني: «ما» موصولة في محلّ رفع مبتدأ، و «في النار» الخبر، و «أسفل» خبر مبتدأ محذوف؛ وهو العائد على الموصول، أي: «ما هو أسفل» ، وحذف العائد لطول الصّلة، أو المحذوف «كان» و «أسفل» نصب خبرها، و «من» الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الجنس. قال الخطّابي: يريد أنّ الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنّى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أنّ الذي دون الكعبين من القدم يعذّب بالنار؛ عقوبة له، وحاصله: أنّه من باب تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حلّ فيه. انتهى؛ ملخّصا. وهذا استبعاد لوقوع الإزار في النار. وأصله ما أخرجه عبد الرزاق؛ عن عبد العزيز بن أبي رواد: أنّ نافعا سئل عن ذلك، فقال: وما ذنب الثّياب!! بل هو من القدمين، لكن في حديث ابن عمر المارّ: «كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» . وأخرج الطبراني بسند حسن؛ عن ابن مسعود: أنّه رأى أعرابيّا يصلي قد أسبل؛ فقال: «المسبل في الصلاة ليس من الله في حلّ ولا حرام» . ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، فيكون من وادي (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [98/ الأنبياء] ، أو يكون من الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أنّ الذي يتعاطى المعصية أحقّ بذلك؛ ذكره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» . (وهو) - أي: هذا الإطلاق في الأحاديث المارّة- (محمول على ما ورد من قيد) - بالدال؛ أي: التقييد بحالة- (الخيلاء) - بضمّ الخاء المعجمة وفتح المثناة التحتية؛ ممدود- (فهو الّذي ورد فيه الوعيد) بالاتفاق، ونصّ الشافعيّ على أنّ التحريم مخصوص بالخيلاء، فإن لم يكن لها! كره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرخي إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه. وقد أخرج أصحاب «السنن» إلّا الترمذيّ واستغربه، وابن أبي شيبة؛ من طريق عبد العزيز بن أبي رواد؛ عن سالم بن عبد الله بن عمر؛ عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرّ منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فبيّن في هذه الرواية أنّ الحكم ليس خاصّا بالإزار؛ وإن جاء في أكثر طرق الأحاديث بلفظ «الإزار» . قال ابن جرير الطبري: إنّما ورد الخبر بلفظ «الإزار» !! لأنّ أكثر الناس في عهده صلّى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس القميص والدرائع؛ كان حكمها حكم الإزار في النهي. قال ابن بطّال؛ تعقّبا على ابن جرير: هذا قياس صحيح لو لم يأت النصّ بالثوب، فإنّه يشمل جميع ذلك، فلا داعية للقياس مع وجود النصّ. وفي تصوير جرّ العمامة نظر، إذ لا يتأتّى جرّها على الأرض كالثوب والإزار، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات!! لأنّ جرّ كلّ شيء بحسبه، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال. وهل يدخل في الزجر من جرّ الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه، أم لا يدخل!؟ محلّ نظر لعدم النصّ عليه. والذي يظهر أنّ من أطالها حتّى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين وغيرهم؛ كفلّاحي مصر دخل في ذلك. وقال الزين العراقي: ما مسّ الأرض منها لا شكّ في تحريمه، بل لو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يبعد. انتهى؛ من «المواهب» وشرحها. (و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن يزيد بن أبي حبيب البصري «1» مرسلا: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرخي) - من أرخى- (إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه) حال المشي؛ لئلا يصيبه نحو قذر؛ أو شوك.   (1) هكذا في الأصل، ولعله: (المصري) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا.. سمّاه باسمه؛ قميصا، أو عمامة، أو رداء، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» . (و) أخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود، والحاكم، والنسائي في «اليوم والليلة» وابن السّنّي بسند صحيح كلهم؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا) ؛ أي: لبس ثوبا جديدا (سمّاه) أي الثوب (باسمه؛ قميصا) ؛ أي: سواء كان قميصا، (أو عمامة، أو رداء) . كان يقول «رزقني الله هذه العمامة» . (ثمّ يقول: «اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه) - الضمير راجع إلى المسمى؛ كما قاله الطيبي. وهذه الجملة تعليل للجملة السابقة أعني «لك الحمد» (أسألك من خيره) أي: الخير الذي يصاحب لبسه كشكر الله تعالى على تيسيره- (وخير ما صنع له) أي: استعماله في طاعة الله وعبادته؛ بأن توفّقني للطاعة فيه كالصلاة، فقوله «وخير ما صنع له» كالتفسير لقوله «من خيره» -. (وأعوذ بك من شرّه) - أي: الشرّ المصاحب للبسه؛ كالعجب به- (وشرّ ما صنع له) ؛- أي: استعماله في المعاصي، أي: لا يقع مني عصيان فيه؛ كزنا وشرب خمر، وليس المراد أنّه صنع بقصد المعصية كما هو ظاهر الحديث؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» . وقال ابن علّان في «شرح الأذكار» : والمراد ما صنع لأجله من خير كحلّه وصلاح نيّة فاعله، أو شرّ كضدّ ذلك. والخير في المقدّمات يستدعي الخير في المقاصد، وكذا الشرّ، وشاهده: «وإنّما يلبّس علينا صلاتنا قوم لا يحسنون الطّهور» . وقال ميرك: خير الثوب نقاؤه، وكونه ملبوسا للضرورة، والحاجة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس ثوبا جديدا.. حمد الله تعالى، وصلّى ركعتين، وكسا الخلق. لا للفخر والخيلاء، وخير ما صنع له هو الضرورات التي من أجلها يصنع اللّباس؛ من الحرّ والبرد، وستر العورة، والمراد من سؤال الخير في هذه الأمور أن يكون مبلّغا إلى المطلوب الذي لأجله صنع الثوب من العون على العبادة والطاعة لمولاه، وفي الشرّ عكس المذكورات؛ وهو كونه حراما؛ أو نجسا، أو لم يبق زمانا طويلا، أو يكون سببا للمعاصي والشرور. انتهى. قال المناوي: وفيه ندب الذّكر المذكور لكلّ من لبس ثوبا جديدا، والظاهر أنّ ذلك يستحبّ لمن ابتدأ لبس غير الثوب الجديد، بأن كان ملبوسا. ثم رأيت الزين العراقيّ قال: يستحبّ عند لبس الجديد وغيره، بدليل رواية ابن السني في «اليوم والليلة» : إذا لبس ثوبا. انتهى. وفيه دليل على استحباب افتتاح الدعاء بالحمد لله والثناء عليه؛ ذكره العزيزي. (وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا حمد الله تعالى) - كما تقدّم التصريح به آنفا في الحديث- قال العراقي: روى الحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا بثيابه فلبسها، فلما بلغ تراقيه؛ قال: «الحمد لله الّذي كساني ما أتجمّل به في حياتي وأواري به عورتي» . قال البيهقي: إسناده غير قويّ. وروى ابن السّنّي؛ من حديث معاذ بن أنس رفعه: «من لبس ثوبا؛ فقال (الحمد لله الّذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة) غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» . انتهى شرح «الإحياء» . (وصلّى ركعتين) شكرا لله تعالى على هذه النعمة، (وكسا الخلق) بفتحتين-: الثوب البالي للمذكّر والمؤنث، جمعه: خلقان كعثمان. روى الترمذيّ؛ وقال: غريب، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه؛ من حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا.. لبسه يوم الجمعة. عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من لبس ثوبا جديدا؛ فقال: الحمد لله الّذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمّل به في حياتي ثمّ عمد إلى الثّوب الّذي أخلق فتصدّق به؛ كان في حفظ الله، وفي كنف الله عزّ وجلّ، وفي ستر الله حيّا وميتا» . ورواه كذلك ابن أبي شبية، وابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» ، والطبراني في «الدعاء» كلّهم؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وروى الترمذيّ؛ وقال: حسن غريب؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: «ما من مسلم كسا مسلما ثوبا إلّا كان في حفظ الله ما دام عليه منه خرقة» ، وهو عند ابن النجار: «من كسا مسلما ثوبا كان في حفظ من الله عزّ وجلّ ما بقي عليه منه خرقة» . ورواه الحاكم؛ وتعقّب. وروى أبو الشيخ؛ بلفظ: «من كسا مسلما ثوبا لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط؛ أو سلك» . (و) أخرج الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا) ؛ أي: استحدث ثوبا جديدا (لبسه) ؛ أي: ابتدأ لبسه (يوم الجمعة) ، لكونه أفضل أيّام الأسبوع، فتعود بركة يوم الجمعة على الثوب؛ وعلى لابسه، فيطلب لبس الجديد فيه حيث كان أبيض؛ أو غير أبيض، وليس عنده أبيض، وإلّا لبسه لحظة وعمل فيه عملا صالحا، ثم خلعه ولبس الأبيض؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» . (و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ، وابن خزيمة في «صحيحه» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وكان له صلّى الله عليه وسلّم برد يلبسه في العيدين والجمعة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد. (كان له صلّى الله عليه وسلم برد) - بضم فسكون-: قال الحفني: أي رداء يرتدي به؛ طوله أربعة أذرع وعرضه ثلاثة أذرع، ولونه الخضرة؛ أي: كما في رواية أخضر. (يلبسه) - بفتح الموحدة- (في العيدين والجمعة) وكان يتجمّل به للوفود أيضا، وهذا كان منه عبادة، لأنّه مأمور بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط عن أعينهم لم يرغبوا في اتباعه؛ فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين العوامّ تمتدّ إلى الظاهر؛ دون السرائر. ولله درّ من قال وأحسن في المقال: قيمة المرء فضله عند ذي الفض ... ل وما في يديه عند الرّعاع فإذا ما حويت علما ومالا ... صرت عين الزّمان بالإجماع وإذا منهما غدوت خليّا ... كنت في النّاس من أخس المتاع وأخذ من ذلك الإمام الرافعي أنّه يسنّ للإمام يوم الجمعة أن يزيد في حسن الهيئة واللباس ويتعمّم ويرتدي، وأيّده ابن حجر بخبر الطبراني؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان له ثوبان يلبسهما في الجمعة، فإذا انصرف طوينا هما إلى مثله. فائدة: ذكر الواقدي أنّ طول ردائه صلّى الله عليه وسلم كان ستّة أذرع في عرض ثلاثة، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين؛ لا ذراعين وشبر، وأنّه كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. انتهى؛ نقله المناوي في «شرح الكبير؛ على «الجامع الصغير» . وسيأتي الكلام على مقدار ذرعهما. (وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد) ليبيّن حلّ لبس ذلك. روى البيهقي في «سننه» ؛ من حديث حفص بن غياث بن الحجاج؛ عن أبي جعفر؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وكان صلّى الله عليه وسلّم برد حبرة يلبسه في كلّ عيد. ومرّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ... ورواه الطبراني؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وفي ذلك ردّ على من كره لبس الأحمر القاني؛ وزعم أنّ المراد بالأحمر هنا ما هو ذو خطوط حمر: تحكّم لا دليل عليه. قال في «المطامح» : ومن أنكر لباس الأحمر؛ فهو متعمّق جاهل، وإسناده لمالك باطل؛ قاله المناوي في «الكبير» . (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان له صلّى الله عليه وسلم برد حبرة) - بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة؛ بوزن عنبة-: ثوب يمانيّ من قطن، أو كتّان مخطّط؛ يقال (برد حبرة) على الوصف، و (برد حبرة) على الإضافة، وهو أكثر في استعمالهم، والجمع: حبر وحبرات، مثل عنب وعنبات. قال الأزهري: ليس حبرة موضعا، أو شيئا معلوما، إنّما هو وشي معلوم أضيف الثوب إليه، كما قيل «ثوب قرمز» بالإضافة، والقرمز: صبغة. فأضيف الثوب إلى الوشي والصبغ للتوضيح. انتهى «مصباح» . ونحوه في «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي. (يلبسه في كلّ عيد) يتجمل به كعادته في التجمّل للعيد والوفود. (ومرّ) أمير المؤمنين سيدنا أبو حفص (عمر بن الخطّاب) بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي المدني (رضي الله تعالى عنه) . أسلم قديما؛ بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة؛ بعد دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار الأرقم؛ فظهر الإسلام بمكّة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهّادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّوق فرأى حلّة من سندس ... وهو أوّل من سمّي أمير المؤمنين، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وأحدا، والخندق وبيعة الرّضوان، وخيبر والفتح وحنينا والطائف وتبوك وسائر المشاهد. وكان شديدا على الكفّار والمنافقين، وأجمع السّلف على كثرة علمه ووفور فهمه، وزهده وتواضعه، ورفقه بالمسلمين وإنصافه، ووقوفه مع الحقّ وتعظيمه آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشدّة متابعته له، واهتمامه بمصالح المسلمين وإكرامه أهل الفضل والخير. وفضائله أكثر من أن تحصى، ومحاسنه أوفر من أن تستقصى؛ رضي الله تعالى عنه. روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستة وعشرين حديثا، وانفرد البخاريّ بأربعة وثلاثين، وانفرد مسلم بأحد وعشرين. وطعن رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم سنة: أربع وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما. وقيل غير ذلك في مدّة الخلافة، وتاريخ الطعن والوفاة، وعمره ثلاث وستّون سنة على الصحيح المشهور، كما أنّ سنّ النبي صلّى الله عليه وسلم وسنّ أبي بكر وعليّ وعائشة ثلاث وستّون سنة- على الصحيح- رضي الله تعالى عنهم. أجمعين. (مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بالسّوق) - بضمّ المهملة؛ مؤنّث سماعي وقد يذكّر، كما أشار إليه الكرماني-، سمّيت بذلك لسوق البضائع إليها، وقيل: لقيام الناس فيها على سوقهم؛ جمع ساق. وقيل: لتصاكك السّوق فيها من الازدحام؛ ذكره في «شرح الأذكار» . وفي كثير من الروايات: أنّ ذلك عند باب المسجد. (فرأى) ؛ أي: عمر رجلا يسمّى عطاردا التميمي يقيم (حلّة من سندس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 فقال: يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد، فقال: «إنّما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» . يعرضها للبيع، وكان عطارد رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم. وفي رواية: حلّة من إستبرق. وفي أخرى: من ديباج، أو حرير. وفي رواية: حلّة سيراء: والحلّة: ثوبان من جنس. قال في «القاموس» : الحلّة- بالضم- إزار ورداء مثل برد أو غيره، ولا تكون إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة. وفي «المصباح» : الحلّة لا تكون إلا من ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل، كغرفة وغرف- وقد مرّ الكلام على الحلّة-. والديباج: ثوب متّخذ من إبريسم، والسيراء- بسين مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية مفتوحة ثم راء ثم ألف ممدودة-: برود يخالطها حرير متضلّعة بالحرير. قالوا كأنها شبهت خطوطها بالسّيور. والإستبرق: غليظ الديباج. (فقال) ؛ أي: عمر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد!) . لفظ الحديث: عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلّة سيراء عند باب المسجد؛ فقال: يا رسول الله؛ لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك!! وفي رواية: فقال: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمّل بها للعيد وللوفد. (فقال) رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ( «إنّما يلبس هذه) - الثياب الحرير- (من لّا خلاق له في الآخرة» ) يعني: من لا حظّ له ولا نصيب له من لبس الحرير في الآخرة، فعدم نصيبه كناية عن عدم دخوله الجنة؛ ولباسهم فيها حرير. وهذا إن استحلّ، وإلّا! فهو تهويل وزجر. وقيل: معناه من لا حرمة له. وقيل: من لا دين له. وتمام الحديث: ثمّ جاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها حلل، فأعطى عمر منها حلّة، فقال عمر: يا رسول الله؛ كسوتنيها؛ وقد قلت في حلّة عطارد ما قلت!؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وكانت الصّحابة ... «إنّي لم أكسكها لتلبسها» . فكساها عمر أخا له مشركا بمكّة. رواه البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه- واللفظ لمسلم-. وفيه دليل لتحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، وإباحة هديّته، وإباحة ثمنه، وجواز إهداء المسلم إلى المشرك ثوبا وغيره، واستحباب لبس أنفس ثيابه يوم الجمعة والعيد؛ وعند لقاء الوفود ونحوهم، وعرض المفضول على الفاضل؛ والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه التي قد لا يذكرها، وفيه صلة الأقارب والمعارف؛ وإن كانوا كفّارا. وقد يتوهّم متوهّم أنّ فيه دليلا على أن رجال الكفّار يجوز لهم لبس الحرير!! وهذا وهم باطل، لأن الحديث إنّما فيه الهدية إلى كافر، وليس فيه الإذن له في لبسها. وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك إلى عمر وعليّ وأسامة رضي الله عنهم، ولا يلزم منه إباحة لبسها لهم، بل صرّح صلّى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات بأنّه إنّما أعطاه لينتفع بها بغير اللبس. والمذهب الصحيح الّذي عليه المحقّقون والأكثرون: أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ فيحرم عليهم الحرير كما يحرم على المسلمين. والله أعلم؛ قاله النووي في «شرح مسلم» . (وكانت الصّحابة) - قال في «شرح الأذكار» : بفتح الصاد في الأصل مصدر، قال الجوهري: ويقال: صحبه وصحب به. والصحابة: بمعنى الأصحاب واحده «صاحب» بمعنى الصحابي: وهو من اجتمع بنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم مؤمنا به بعد نبوّته في حال حياة كلّ؛ اجتماعا متعارفا بأن يكون في الأرض على العادة، بخلاف ما يكون في السماء، أو بين السماء والأرض؛ وإن لم يره؛ أو لم يرو عنه شيئا، أو لم يميّز- على الصحيح-. وأمّا قولهم «ومات على الإسلام» !! فهو شرط لدوام الصحبة؛ لا لأصلها. وقيل في تعريفه غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ......... وتعرف الصحبة: 1- بالتّواتر، أو 2- الاستفاضة، أو 3- قول صحابيّ، أو 4- قوله (أنا صحابي) إذا كان عدلا؛ وأمكن ذلك، فإن ادّعاه بعد مائة سنة من وفاته صلّى الله عليه وسلم فإنّه لا يقبل. وزاد ابن حجر 5- أن يخبر آحاد التابعين بأنّه صحابيّ؛ بناء على قبول التزكية من واحد- وهو الراجح-. والصحابة كلهم عدول؛ من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به. وأكثرهم حديثا أبو هريرة، ثم ابن عمر، ثم أنس بن مالك، ثم عائشة أم المؤمنين، ثم ابن عبّاس، ثم جابر بن عبد الله، ثم أبو سعيد الخدري. وقد نظمهم من قال: سبع من الصّحب فوق الألف قد نقلوا ... من الحديث عن المختار خير مضر أبو هريرة سعد جابر أنس ... صدّيقة وابن عبّاس كذا ابن عمر وأكثرهم فتيا ابن عبّاس؛ قاله أحمد ابن حنبل. وقال ابن حزم: أكثر الصحابة فتوى مطلقا سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وعائشة. قال: ويمكن أن يجمع من فتيا كلّ واحد من هؤلاء مجلّد ضخم. قال: ويليهم عشرون: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأمّ سلمة. قال: ويمكن أن يجمع من فتيا كلّ واحد منهم جزء صغير. قال: وفي الصحابة نحو مائة وعشرين نفسا يقلّون في الفتيا جدّا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث؛ كأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد. ثمّ سرد الباقين. انتهى نقله عن السيوطي رحمه الله تعالى. ومن الصحابة العبادلة؛ وهم ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ......... عمرو بن العاص. وليس ابن مسعود منهم، لأنّه تقدّم موته قبل حدوث الاصطلاح، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم فإذا اجتمعوا على شيء قيل «هذا قول العبادلة» ، وكذا ليس منهم من يسمّى عبد الله من الصحابة، فلا يطلق عليهم العبادلة؛ وهم جماعة يبلغون نحو ثلثمائة رجل. قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه، وأفضلهم على الإطلاق أبو بكر الصدّيق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تعالى عنهما بإجماع أهل السنة، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب، هذا قول جمهور أهل السنة. قال أبو منصور البغداديّ: أصحابنا مجمعون على أنّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم تمام العشرة المشهود لهم بالجنة: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة: عامر بن الجراح، ثم أهل بدر وهم ثلثمائة وبضعة عشر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. وممّن له مزيّة أهل العقبتين من الأنصار، والسابقون الأوّلون؛ وهم من صلّى إلى القبلتين. ووردت أحاديث في تفضيل أعيان من الصحابة مذكورة في كتب السنة؛ فلتراجع من هناك. وأوّل الصحابة إسلاما! قيل: أبو بكر الصديق، وقيل: علي، وقيل: زيد، وقيل: خديجة؛ وهو الصواب عند جماعة من المحققين. والأورع أن يقال أوّل من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال. وآخرهم موتا على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي وفضائلهم كثيرة شهيرة نكتفي منها بهذا القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 رضي الله تعالى عنهم يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ، والمصبّغات من الثّياب. وكان له صلّى الله عليه وسلّم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير الجمعة، ... (رضي الله تعالى عنهم) أجمعين آمين، ورزقنا محبّتهم والأدب معهم، وحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحب الحوض المورود والمقام المحمود صلّى الله عليه وسلم. (يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد) مأخوذ من العود؛ وهو التكرار لتكرّره كلّ عام، أو لعود السرور بعوده، أو لكثرة عوائد الله تعالى؛ أي: إفضاله على عباده فيه، أو لعود كلّ فيه لقدره ومنزلته، هذا يضيف وذاك يضاف، وذا يرحم وذاك يرحم. وأصله: عود؛ قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وجمع على أعياد، مع أنّ كون أصله الواو يقتضي جمعه على أعواد؛ فرقا بذلك بينه وبين أعواد الخشب. انتهى شرح الأذكار» . (أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ) - بضمّ أوّله مع كسر اللام وتشديد الياء- واحده حلي- بفتح الحاء وإسكان اللام-: اسم لكلّ ما يتزيّن به من مصاغ الذهب والفضّة، (والمصبّغات) - بتشديد الموحدة- (من الثّياب) - مما يجوز لبسه؛ كالمصبوغ بالورس والعصفر- على الخلاف-، وهي من أحسن الثياب الموجودة في ذلك العصر، لأنّه يسنّ التزيّن بأحسن الثياب وأرفعها قيمة في العيدين، والجديد أولى؛ ولو كان غير أبيض في العيدين- بخلاف الجمعة- فإنّ الأبيض فيها أفضل من غيره؛ ولو كان الغير جديدا وذا قيمة. والفرق: أن القصد في العيد: إظهار النعم وإشهار الزينة؛ وهما بالأرفع قيمة أنسب، والقصد في الجمعة: إظهار التواضع. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني، و «إحياء علوم الدين» للإمام حجّة الإسلام الغزالي: (كان له صلّى الله عليه وسلم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير الجمعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وربّما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره؛ يعقد طرفيه بين كتفيه، وربّما أمّ به النّاس على الجنائز، وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه، ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ. قال العراقيّ: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ؛ من حديث عائشة بسند ضعيف- زاد: فإذا انصرف طويناهما إلى مثله. وقد تقدّم قريبا في الشرح، ويعارضه حديث عائشة عند ابن ماجه: ما رأيته يسبّ أحدا، ولا يطوى له ثوب. قلت: ويمكن الجمع بينهما بأن يستثنى؛ أي: غير ثوبي الجمعة. وقد تقدّم أنّه كان له برد أخضر يلبسه للجمعة والعيد. (وربّما لبس) صلّى الله عليه وسلم (الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه) . قال العراقي: روى الشيخان؛ من حديث عمر في حديث اعتزاله أهله: فإذا عليه إزاره، وليس عليه غيره. وللبخاريّ؛ من رواية محمد بن المنكدر صلى بنا جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب. وفي رواية له: وهو يصلّي في ثوب ملتحفا به ورداؤه موضوع. وفيه: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي هكذا. (وربّما أمّ به النّاس على الجنائز) . قال العراقي: لم أقف عليه. (وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه) ؛ يدلّ له حديث جابر السابق آنفا. (ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ) . قال العراقيّ: روى أبو يعلى بإسناد حسن؛ من حديث معاوية قال: دخلت على أمّ حبيبة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، فقلت: يا أمّ حبيبة؛ أيصلّي النبي صلّى الله عليه وسلم في الثوب الواحد!؟ قالت: نعم، وهو الذي كان فيه ما كان- يعني: الجماع-. ورواه الطبراني في «الأوسط» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وكان إذا قدم عليه الوفد.. لبس أحسن ثيابه، وأمر علية أصحابه بذلك. وكان رداؤه صلّى الله عليه وسلّم طوله ستّة أذرع، في ثلاثة وشبر. وكان إزاره أربعة وشبرا، في عرض ذراعين وشبر. (و) أخرج البغويّ في «معجمه» ؛ عن جندب بن مكيث- بوزن عظيم؛ آخره مثلثة؛ ابن عمر بن جراد، مديني له صحبة- عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد) - جمع وافد؛ كصحب جمع صاحب، يقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة؛ إذا خرج إلى نحو ملك لأمر- (لبس أحسن ثيابه) لأنّه أهيب وأدعى لامتثال أمره والعمل بوعظه، وسيأتي قريبا في الشرح أنّ ثوبه الذي كان يخرج فيه إلى الوفد القادمين عليه أخضر. (وأمر علية) - بكسر العين وسكون اللام- (أصحابه) ؛ أي: معظمهم؛ وهم: من كان عنده ثياب حسنة أمره (بذلك) ؛ أي: بلبسها، لأنّ ذلك يرجّح في عين العدو ويكبته، فهو يتضمّن إعلاء كلمة الله تعالى ونصر دينه وغيظ عدوّه، فلا يناقض ذلك خبر «البذاذة من الإيمان» ، لأنّ التجمّل المنهيّ عنه ثمّ: ما كان على وجه الفخر والتعاظم، وليس ما هنا من ذلك القبيل. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . وقال في «شرح الشمائل» : ويسنّ لكلّ أحد مؤكّدا حسن الهيئة ومزيد التجمّل، والنظافة في الملبوس، لكن المتوسّط نوعا بقصد التواضع أفضل من الأرفع، فإن قصد به إظهار النعمة والشكر عليها! احتمل التساوي للتعارض، وأفضلية الأول!! لكونه لا حظ فيه للنفس بوجه وأفضلية الثاني للخبر الحسن: «إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» . (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان رداؤه صلّى الله عليه وسلم طوله ستّة أذرع في ثلاثة وشبر، وكان إزاره أربعة وشبرا في عرض ذراعين وشبر) . قال ابن حجر الهيتمي: وكان إزاره صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع وشبرا؛ في عرض ذراعين وشبر، وكان طول ردائه ستّة أذرع؛ وعرضه ثلاثة أذرع وشبرا، أو شبرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ولبس صلّى الله عليه وسلّم الأبراد الّتي فيها خطوط حمر. وكان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص. وقيل: أربعة أذرع ونصف؛ في عرض ذراعين وشبر. وقيل: أربعة أذرع؛ في عرض ذراعين ونصف. انتهى؛ نقله المناويّ في «شرح الشمائل» . وتعقّبه بقوله: «وفي بعض ما ذكره نظر!! فقد روى أبو الشيخ في كتاب «أخلاق المصطفى صلّى الله عليه وسلم» من رواية عروة بن الزبير مرسلا: كان طول رداء النبي صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع وعرضه ذراعين ونصف ... الحديث. قال الحافظ العراقيّ: وفيه ابن لهيعة. وفي «طبقات ابن سعد» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان له إزار من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر. وفي «الوفا» لابن الجوزي: كان طول إزاره أربعة أذرع وعرضه ذراعين ونصفا. وروى الدّمياطي: أنّ رداءه الذي كان يخرج فيه للوفود أخضر في طول أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر. انتهى كلام المناوي. (ولبس صلّى الله عليه وسلم الأبراد) - جمع برد؛ وهو عند أهل اللسان: ثوب مخطّط، والمراد هنا الأبراد (الّتي فيها خطوط حمر) ، لا بحتا، إذ لو كانت كذلك لا تكون برودا. روى الطبراني؛ من حديث ابن عبّاس أنّه كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الحافظ الهيثمي: ورجاله ثقات. وروى البيهقيّ في «السنن» : أنّه كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. انتهى مناوي؛ على «الشمائل» . قال في «جمع الوسائل» : وأمّا ما روي «أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» !! فمحمول على المخطّط بخطوط حمر؛ كما يدلّ عليه البرد. انتهى. (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص) ، ففي «صحيح مسلم» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 ......... قال: رأى النبي صلّى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين؛ فقال: «إنّ هذا لباس الكفّار، فلا تلبسهما» . وفي «صحيح البخاري» من حديث طويل؛ عن البراء أنّه صلّى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر. قال ابن القيّم: فالأحمر البحت منهيّ عنه أشدّ النهي، وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرهما نظر، وأمّا كراهته! فشديدة. وأورد الحديثين السابقين. والجواب عن الحديث الأوّل: أنّه إنّما نهى ابن عمر عن ذلك!! لأنّه لباس الكفار؛ وكانوا كثيرا، لا لكونه أحمر فمحطّ النهي التشبّه بهم. وقد ارتفع ذلك فصار داخلا في عموم المباح. والجواب عن حديث البراء: أنّه يحتمل أن المياثر من حرير، فنهى عنها لأجله، ويحتمل أن يكون النهي لحمرتها، فلا حجّة فيه. قال النووي: اختلف العلماء في الثياب المعصفرة؛ وهي المصبوغة بعصفر!! فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك؛ لكنه قال: غيرها أفضل منها، فهي خلاف الأولى. وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، ومن هؤلاء مالك والشافعي في المعتمد من مذهبيهما، وحملوا النهي الوارد في «الصحيحين» عن أنس: نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل!! حملوه على هذا المذكور من كراهة التنزيه، لأنّه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام لبس حلّة حمراء؛ فلبسه لبيان الجواز لا ينافي نهيه، لأنّ النهي للكراهة، والفعل لبيان الجواز. وفي «الصحيحين» ؛ من حديث ابن عمر أنّه صلّى الله عليه وسلم صبغ بالصّفرة؛ أي: الورس، كما في رواية أبي داود. وأمّا حديث عمران عند الطبراني: «إيّاكم والحمرة، فإنّها أحبّ الزّينة إلى الشّيطان» !! ففي إسناده ضعف، وحديث رافع بن خديج: «أنّه صلّى الله عليه وسلم رأى الحمرة قد ظهرت فكرهها» رواه أحمد!! لا يدلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالبياض من الثّياب؛ ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم؛ فإنّها من خير ثيابكم» . على التحريم لحمل الكراهة على التنزيه؛ جمعا بين الأدلّة. انتهى ملخصا من «المواهب» للقسطلاني؛ مع شيء من الشرح. قلت: قال في «بشرى الكريم» : نصّ أصحابنا- معاشر الشافعية- على حرمة لباس الثوب المزعفر، وكذا نصّوا على حرمة المعصفر؛ سواء صبغ قبل نسجه أم بعده؛ أخذا بإطلاقهم كما صحّت به الأحاديث، واختاره البيهقي وغيره. ولم يبالوا بنصّ الشافعي على حلّه، ولا بكون جمهور العلماء على حلّه. وجرى محمد الرملي والخطيب الشربيني على حلّ المعصفر مطلقا. والمعتمد في المورّس حلّه، لما صحّ أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يصبغ ثيابه بالورس حتّى عمامته، ويحلّ استعمال الورس والزّعفران في البدن على خلاف كبير. انتهى كلام «بشرى الكريم» . (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالبياض) - أي: الزموا لبس الأبيض، ف «عليكم» اسم فعل بمعنى «الزموا» . والمراد من البياض الأبيض، بولغ فيه حتّى كأنّه عين البياض على حدّ «زيد عدل» كما يرشد لذلك بيانه بقوله- (من الثّياب، ليلبسها) - بلام الأمر وفتح الموحدة- (أحياؤكم) - أي: البسوها وأنتم أحياء، فيسنّ لبسها، ويحسن إيثارها في المحافل كشهود الجمعة وحضور المسجد والمجالس التي فيها مظنّة لقاء الملائكة؛ كمجالس القراءة والذّكر- (وكفّنوا) أي: لتكفنوا أو هو التفات- (فيها موتاكم) - أي: لمواجهة الميت للملائكة، وقد تقدّم أنّها تطلب لمظنّة لقاء الملائكة- (فإنّها) - أي: البيض- (من خير ثيابكم» ) . وهذا بيان لفضل البياض من الثياب، ويليها الأخضر، ثم الأصفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وفي «المواهب» : عن عروة: ... واعلم أنّ وجه إدخال هذا الحديث في باب لباسه صلّى الله عليه وسلم لا يخلو عن خفاء، إذ ليس فيه تصريح بأنّه كان يلبس البياض، لكن يفهم من حثّه على لبس البياض أنّه كان يلبسه، وقد ورد التصريح بأنّه كان يلبسه فيما رواه الشيخان؛ عن أبي ذر حيث قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض ... الحديث. وقد وردت أحاديث كثيرة في الحثّ على لبس الأبيض من الثياب؛ منها: ما أخرجه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البسوا البياض، فإنّها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم» . ومنها ما أخرجه أصحاب «السنن» ؛ عن سمرة بن جندب: «عليكم بهذه الثّياب البيض، ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم» وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه أيضا الإمام أحمد، وابن سعد، والروياني، والطبراني، والبيهقي، والضياء بزيادة: «فإنّها من خير ثيابكم» . ومنها ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم وغيرهما؛ من حديث ابن عبّاس: «خير ثيابكم البيض، فالبسوها أحياء، وكفّنوا فيها موتاكم» . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. انتهى شرح «الإحياء» ؛ مع زيادة. (وفي «المواهب) اللّدنّيّة» للعلّامة القسطلّاني؛ (عن) أبي عبد الله (عروة) بن الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشي الأسدي المدني، التابعي الجليل، فقيه المدينة المنورة، أحد الفقهاء السبعة. سمع أباه، وأخاه: عبد الله، وأمّه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وسعيد بن زيد، وحكيم بن حزام، وابنه هشام بن حكيم، والعبادلة الأربعة. وغيرهم من الصحابة والتابعين. روى عنه عطاء، وابن أبي مليكة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والزهري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 أنّ طول رداء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر. وفيها: لطيفة: قيل: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يبدو منه إلّا طيب.. كان آية ذلك في بدنه الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب. قيل: ولم يقمل ثوبه. وقال ابن سبع في «الشّفا» ، والسّبتيّ ... وعمر بن عبد العزيز، وبنوه: هشام ومحمد ويحيى وعبد الله وعثمان؛ بنو عروة، وخلائق من التابعين وغيرهم. وكان بحرا لا يكدّر، وكان ثقة كثير الحديث، فقيها عالما، مأمونا ثبتا، وهو مجمع على جلالته وعلوّ مرتبته ووفور علمه. ومناقبه كثيرة مشهورة. ووفاته سنة: - 94- أربع وتسعين من الهجرة في قول الجمهور. وقال البخاري: سنة: - 99- تسع وتسعين، رحمه الله تعالى: (أنّ طول رداء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر) وعزاه لتخريج الدمياطي وهو مرسل، ورواه أبو الشيخ في «الأخلاق النبوية» ؛ عن عروة بلفظ: وعرضه ذراعان ونصف. قال الحافظ العراقي: وفيه ابن لهيعة. (وفيها) ؛ أي «المواهب» : (لطيفة) :؛ (قيل: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يبدو) : يظهر (منه إلّا طيب كان آية) : علامة (ذلك في بدنه) : جسده (الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب) ، فما اتّسخ له ثوب قطّ. (قيل: ولم يقمل) بفتح الميم- (ثوبه) قطّ، أي: لم يوجد فيه شيء من قمل؛ وإن كانت المادة للتكثير. (وقال) أبو الربيع سليمان (بن سبع) - بإسكان الموحدة وقد تضم- (في) كتاب ( «الشّفا» ، و) قال (السّبتيّ) - بفتح السين وسكون الموحدة ففوقية نسبة إلى «سبتة» : مدينة بالمغرب. وجزم الرشاطي بأن «سبتة» بالفتح، والتي ينسب إليه السّبتي- بالكسر-؛ قاله ابن حجر في «التبصير» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 في «أعذب الموارد وأطيب الموالد» : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ قال: ونقل الفخر الرّازيّ: ... (في) كتاب ( «أعذب الموارد وأطيب الموالد» ) «1» ؛ قالا: (لم يكن القمّل يؤذيه) لعدم وجوده في ثيابه؛ (تعظيما له، وتكريما صلّى الله عليه وسلم) ، ولفظ ابن سبع: لم يكن فيه قمل لأنّه نور، ولأنّ أصل الذباب من العفونة؛ ولا عفونة فيه، وأكثره من العرق؛ وعرقه طيب!! لكن يشكل عليه ما رواه أحمد والترمذي في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ومن لازم التفلّي وجود شيء يؤذيه في الجملة: إمّا قملا؛ أو برغوثا، أو نحو ذلك. ويمكن أن يجاب بأن التفلّي لاستقذار ما علق بثوبه الشريف من غيره، ولو لم يحصل منه أذى في حقّه صلّى الله عليه وسلم. وهذا فيه بحث، لأنّ أذى القمل هو غذاؤه من البدن على ما أجرى الله العادة، وإذا امتنع الغذاء لا يعيش الحيوان عادة. (ثمّ قال) ؛ أي: القسطلّاني في «المواهب» : (ونقل الفخر الرّازيّ) بالراء والزاي بينهما ألف آخره ياء- نسبة إلى الري؛ وهي: مدينة كبيرة مشهورة من بلاد الدّيلم بين قومس والجبال، وألحقوا الزاي في النسب على خلاف القياس. وهو الإمام المفسّر المتكلّم الأصولي: محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري الشافعي، أبو المعالي وأبو عبد الله؛ المعروف ب «الفخر الرازي» ، ويقال له «ابن الخطيب» ؛ أي: خطيب الري. وأصله من طبرستان، ومولده في الري سنة: - 543- ثلاث- أو أربع- وأربعين وخمسمائة، ورحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان؛ حتّى صار أحد الفقهاء الشافعية الفحول، وأوحد زمانه في المعقول والمنقول، وإمام الدنيا في عصره بلا مدافع، رئيس المتكلّمين والمحققين في وقته بلا منازع.   (1) هكذا في الأصل. والصواب عكسه، إذ «الشفاء» للسبتي؛ و «أعذب الموارد» لابن سبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 إنّ الذّباب لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض. وألّف المؤلفات النافعة المشهورة نحو مائتي مصنّف؛ منها التفسير الحافل المسمّى «مفاتيح الغيب» في ثمانية مجلدات، وكتاب «المحصول في علم الأصول» ، و «المطالب العالية في علم الكلام» . وأقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها، وكان يحسن الفارسية، وكان معظّما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلاد شتّى، وكان يعظ ويحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء، والعلماء والأمراء، والفقراء والعامة. وكان له عبادات وأوراد، ولا كلام في فضله، وكان مع غزارة علمه في فنّ الكلام يقول: «من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز» . وكانت وفاته في ذي الحجة، قيل: بسبب السّمّ، لأن الكرّامية كانوا يبغضونه لتزييفه مذهبهم وإقامة الحجج والبراهين عليهم، فدسوا عليه من سقاه سمّا، فمات ففرحوا بموته، وذلك سنة: - 606- ست وستمائة هجرية رحمه الله تعالى. (إنّ الذّباب) . اسم جنس؛ واحده ذبابة يقع على المذكّر والمؤنّث، ويجمع الذباب على «ذبّان» - بالكسر- كغربان، و «ذبّان» - بالضم- كقضبان، وعلى أذبّة كأغربة، وهو أجهل الحيوانات لأنّه يرمي نفسه في المهلكات، ومدّة حياته أربعون يوما، وأصل خلقته من العفونات، ثم يتوالد بعضه من بعض؛ يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود يرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذبّ: إذا طرد، وآب: إذا رجع، لأنّك تذبّه فيرجع عليك. انتهى «حواشي الجلالين» . (لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض) . وتعقّب ذلك كلّه بعضهم بعدم ثبوته؛ قاله الزرقاني. والبعوض!! قال في «الخازن» : صغار البقّ، وهو من عجيب خلق الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس قلنسوة بيضاء. و (القلنسوة) : غشاء مبطّن يستر الرّأس. تعالى، فإنّه في غاية الصّغر؛ وله ستة أرجل وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم مجوّف، وهو مع صغره يغوّص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل؛ فيبلغ منه الغاية حتّى إنّ الجمل يموت من قرصته. انتهت عبارته. (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ، وأبو الشيخ، والبيهقيّ في «الشعب» ، عن ابن عمر بن الخطاب قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس قلنسوة) - بفتح القاف واللام وسكون النون وضم السين المهملة وفتح الواو- من ملابس الرأس كالبرنس الذي تغطى به العمامة من نحو شمس ومطر؛ قاله المناوي. (بيضاء) ، وفي رواية لابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن عائشة: كان يلبس قلنسوة بيضاء لاطئة. أي: لاصقة برأسه غير مقبية. أشار به إلى قصرها وخفّتها. وأخرج أبو الشيخ؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث قلانس: قلنسوة بيضاء مضرّبة، وقلنسوة برد حبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر، وربّما وضعها بين يديه إذا صلّى. وإسناده ضعيف. قال الحافظ العراقي في «شرح الترمذي» : وأجود إسناد في القلانس ما رواه أبو الشيخ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يلبس القلانس في السّفر ذوات الآذان، وفي الحضر المضمرة- يعني الشامية-. (والقلنسوة) بوزن: فعنلوة، قال الفرّاء في «شرح الفصيح» : هي (غشاء) أسود؛ أو أبيض أو غيرهما (مبطّن) - بتشديد الطاء المهملة وآخره نون- أي: له بطان، أي: يشتمل على بطانة وظهارة، وقد لا يكون له بطان. (يستر الرّأس) ، أي: يلبس في الرأس وتلفّ عليه العمامة كالطربوش ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم، ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة، ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحرب. وكان ربّما نزع قلنسوته، فجعلها سترة بين يديه وهو يصلّي، وربّما لم تكن العمامة، فيشدّ العصابة على رأسه وعلى جبهته. (و) أخرج الرّوياني في «مسنده» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يلبس القلانس) - جمع قلنسوة- (تحت العمائم) جمع عمامة- (و) تارة يلبسها (بغير العمائم) . الظاهر أنّه كان يفعل ذلك في بيته، وأمّا إذا خرج للناس؛ فيظهر أنّه كان لا يخرج إلّا بالعمامة يلفّها عليها للهيبة الباعثة على امتثال أمره. (ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة) ؛ أي: المحشوّة، (ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحرب) ، حال كونه في الحرب. (وكان ربّما نزع قلنسوته) من فوق رأسه؛ (فجعلها سترة بين يديه؛ وهو يصلّي) ، الظاهر أنّه كان يفعل ذلك عند عدم تيسّر ما يستتر به، أو بيانا للجواز. قال بعض الشافعية فيه وفيما قبله: لبس القلنسوة اللاطئة بالرأس والمرتفعة، والمضربة وغيرها؛ تحت العمامة وبلا عمامة: كلّ ذلك ورد؛ قاله المناوي. (وربّما لم يكن) ؛ أي: لم توجد (العمامة، فيشدّ العصابة) - بكسر العين المهملة-: كلّ ما عصب به الرأس من منديل؛ أو خرقة ونحوهما (على رأسه؛ وعلى جبهته) . ذكره في «الإحياء» . قال العراقي: رواه البخاريّ؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه. صعد النبي صلّى الله عليه وسلم المنبر قد عصب رأسه بعصابة دسماء ... الحديث. (و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- وقال حسن غريب-: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اعتمّ) ؛ أي: لفّ العمامة على رأسه (سدل عمامته) - أي: أرخاها- (بين كتفيه) من خلفه نحو ذراع؛ وفيه مشروعية العذبة، فهي سنّة. قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك. قال عبيد الله: ورأيت القاسم بن محمد وسالما يفعلان ذلك؛ هذا تمام رواية الترمذي. قال الحافظ ابن حجر: وأمّا مالك! فقال: إنّه لم ير أحدا يفعله إلّا عامر بن عبد الله بن الزبير. انتهى. وفي بعض طرق الحديث أنّ الّذي كان يرسله بين كتفيه هو الطرف الأعلى؛ وهو يسمّى «عذبة» لغة. ويحتمل أنّه الطرف الأسفل حتى يكون عذبة في الاصطلاح العرفي الآن. ويحتمل أنّ المراد الطّرفان معا، لأنّه ورد أنّه قد أرخى طرفيها بين كتفيه؛ بلفظ التثنية، وفي بعض الروايات «طرفها» بلفظ الإفراد، ولم يكن صلّى الله عليه وسلم يسدل عمامته دائما، بدليل رواية مسلم: أنّه صلّى الله عليه وسلم دخل مكّة بعمامة سوداء. من غير ذكر السّدل. وصرّح ابن القيّم بنفيه؛ قال: لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان على أهبة من القتال والمغفر على رأسه فلبس في كلّ موطن ما يناسبه؛ كذا في «الهدي النبوي» . وبه عرف ما في قول صاحب «القاموس» : لم يفارقها قط!! وقد استفيد من الحديث أنّ العذبة سنّة، وكأنّ حكمة سنّها: ما فيها من تحسين الهيئة، وإرسالها بين الكتفين أفضل. وإذا وقع إرسالها بين اليدين- كما يفعله الصوفية وبعض أهل العلم- فهل الأفضل إرسالها من الجانب الأيمن؛ لشرفه، أو من الجانب الأيسر؛ كما هو المعتاد!! وفي حديث أبي أمامة؛ عند الطبراني ما يدلّ على تعيين الأيمن، لكنّه ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وكان صلّى الله عليه وسلّم يدير العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه، ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه. واستحسن الصوفية إرسالها من الجانب الأيسر، لكونه جانب القلب، فيتذكّر تفريغه مما سوى ربّه. قال بعض الشافعية: ولو خاف من إرسالها نحو خيلاء!! لم يؤمر بتركها؛ بل يفعلها ويجاهد نفسه، وأقلّ ما ورد في طولها أربع أصابع، وأكثر ما ورد فيه ذراع وبينهما شبر، ويحرم إفحاشها بقصد الخيلاء. وقد جاء في العذبة أحاديث كثيرة- ما بين صحيح وحسن- ناصّة على فعل المصطفى صلّى الله عليه وسلم لها لنفسه، ولجماعة من صحبه، وعلى أمره به، فهي سنّة مؤكّدة محفوظة لم يتركها الصلحاء. انتهى. باجوري على «الشمائل» . (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» - بسند قال فيه الحافظ الهيثمي؛ عقب عزوه للطبراني: رجاله رجال الصحيح إلّا عبد السلام، وهو ثقة- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يدير العمامة على رأسه ويغرزها) أي: يغرز طرفها (من ورائه) لتكون العذبة من خلف؛ لا من أمام (ويرسل لها ذؤابة) - بذال معجمة مضمومة، فواو، فألف، فموحّدة؛ مهموز-: ضفيرة الشعر المرسلة، فإن لويت!! فعقيصة. وتطلق أيضا على طرف العمامة؛ وهي العذبة المرادة هنا. والأفضل جعلها (بين كتفيه) ، فإنّه أكثر أحواله صلّى الله عليه وسلم، وحديثه أصحّ، وتارة يجعلها عن يمينه قريبة من الأذن اليمنى. وقد استدلّ جمع بكون المصطفى صلّى الله عليه وسلم أرسلها بين الكتفين تارة، وإلى الجانب الأيمن أخرى، على أنّ كلا سنّة. وهذا الحديث مصرّح بأنّ أصل العذبة سنّة؛ وهو مفاد الأحاديث فإلى سنية أصلها سنية إرسالها إذا أخذت من فعله صلّى الله عليه وسلم. قال السيوطي: من علم أنّ العذبة سنّة وتركها استنكافا أثم؛ أو غير مستنكف؛ فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه، وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة. وروى أبو الشيخ ابن حيّان في كتاب «أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم» من حديث ابن عمر؛ قال أبو عبد السلام بن أبي حازم: قلت لابن عمر: كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتمّ؟! قال: يدير كور العمامة على رأسه، ويغرسها من ورائه، ويرخي لها ذؤابة بين كتفيه. قال الحافظ العراقي: هذا الحديث يقتضي أنّ الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى. انتهى «زرقاني» . (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اعتمّ) - بتشديد الميم؛ أي: لفّ عمامته على رأسه- (سدل عمامته) - أي: أرخى طرفها الذي يسمى: العذبة- (بين كتفيه) . قال الزين العراقي: وهل المراد سدل الطرف الأسفل حتى يكون عذبة؛ أو الأعلى بحيث يغرزها ويرسل منها شيئا خلفه!! كلّ محتمل؛ ولم أر التصريح يكون المرخيّ من العمامة عذبة إلا في حديث واحد مرسل؛ مع أنّ العذبة لغة: الطرف، فالطرف الأعلى يسمى «عذبة» لغة؛ وإن تخالفا للاصطلاح العرفي الآن. وفي بعض طرق الحديث أنّ الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى، ويحتمل أنّ المراد الطرفان معا. إلى هنا كلامه؛ نقله المناوي في «شرح الشمائل» . (وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة) . وقد تحصّل ممّا تقدّم أن للابس العمامة أن لا يتّخذ عذبة، وله أن يتخذها من خلفه، أو من بين يديه، أو من بين يديه ومن خلفه معا، وأنّ الأفضل اتّخاذها، وأن تكون بين الكتفين؛ ثمّ المنكب الأيمن. وفي «المدخل» : نقل مالك رحمه الله تعالى أنّهم كانوا يعتمّون حتى تطلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك كطريق المغاربة. الثريّا، ومعنى ذلك أنّ طلوعها إنّما يكون في زمن الحر فيزيلونها. انتهى. قاله جسوس على «الشمائل» . (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك) - محركة: ما تحت الذّقن من الإنسان، قال السيوطيّ في «مختصر النهاية» : والتحنّك: التلحّي؛ وهو أن يدير العمامة من تحت الحنك- (كطريق المغاربة) ، أي: لما فيه من الفوائد التي منها أنّها تقي العنق الحرّ والبرد، وتثبتها عند ركوب الخيل وغيرها، وتغني عما اتّخذه كثيرون من كلاليب عوضا عن الحنك، وهذه اللّبسة أنفع اللّبسات، وأبعدها من التكلّف والمشقّة؛ قاله المناوي. قال الحافظ عبد الحقّ الإشبيليّ: وسنّة العمامة بعد فعلها: أن يرخي طرفها ويتحنّك به، فإن كانت بغير طرف ولا تحنيك! فذلك يكره عند العلماء. وفي «المدخل» : لا بدّ في العمامة من فعل سنن تتعلّق بها؛ من تناولها باليمين؛ وقول باسم الله، والذكر الوارد إن كان ما لبس جديدا، وامتثال السنّة في صفة التعمّم من التحنيك، والعذبة، وتصغير العمامة. انتهى. ومنه أيضا؛ عن الغزالي: أنّ تعتمّ قائما، وتتسرول قاعدا. ومنه أيضا: كان سيّدي أبو محمّد رحمه الله تعالى يقول: إنّما المكروه العمامة التي ليس فيها تحنيك ولا عذبة، فإن كانا معا فهو الكمال في امتثال السنّة، وإن كان أحدهما! فقد خرج به عن المكروه. ذكره جسوس؛ وهو مالكيّ المذهب- وقال المناوي: شافعيّ المذهب- في «شرح الشمائل» : ولا يسنّ تحنيك العمامة عند الشافعيّة، واختار بعض الحفّاظ ما عليه كثيرون؛ أنه يسنّ وهو تحديق الرقبة وما تحت الحنك واللّحية ببعض العمامة، وأطالوا في الاستدلال له بما ردّ عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وكانت له صلّى الله عليه وسلّم عمامة تسمّى (السّحاب) ، فوهبها لعليّ رضي الله تعالى عنه، فربّما طلع عليّ فيها فيقول صلّى الله عليه وسلّم: «أتاكم عليّ في السّحاب» . وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامة سدل طرفها على منكبي، ... وممّن جرى على ندبه ابن القيّم، وقد جاء أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدخل عمامة تحت حنكه. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى. (و) في «الإحياء» ، و «كشف الغمّة» : (كانت له صلّى الله عليه وسلم عمامة) - بكسر العين- كما في «القاموس» وغيره، وحكى بعضهم ضمّها (تسمّى «السّحاب» ) وله عمائم أخرى غيرها؛ كما بيّنه الشامي (فوهبها لعليّ) بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) وقد تقدّمت ترجمته. (فربّما طلع عليّ فيها؛ فيقول صلّى الله عليه وسلم: «أتاكم عليّ في السّحاب» ) . قال العراقيّ: رواه ابن عديّ، وأبو الشيخ؛ من حديث جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده، وهو مرسل ضعيف جدا. ولأبي نعيم في «دلائل النبوّة» من حديث عمر، في أثناء حديث عمامته السحاب الحديث. انتهى. ومن هنا اشتبه على الرافضة، فزعموا أنّ المراد بالسحاب التي في السماء؛ فقالوا: هو حيّ ورفع في السحاب، وهذا من ضلالهم وجهلهم بالسنّة. انتهى «شرح الإحياء» . (و) روى ابن أبي شيبة، وأبو داود الطّيالسيّ، والبيهقي؛ (عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعمامة سدل طرفها على منكبي.) لم يبيّن أهو الأيمن أو الأيسر، لكن سيأتي في الحديث بعده، ما يؤخذ منه أنّ المنكب هنا الأيمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» . وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يولّي واليا حتّى يعمّمه، ويرخي لها عذبة من جانب الأيمن نحو الأذن. (وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» ) بالكسر- فأحبّ فعل ما أمدّني به بمن أولّيه أو أعمّمه، (وقال: «إنّ العمامة حاجز) - أي: مميّز- (بين المسلمين) - لأنّهم يتعمّمون- (والمشركين» ) لأنّهم لا عمائم لهم. (و) روى الطبراني في «الكبير» بسند ضعيف؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يولّي واليا) ، أي: حاكما على جهة من جهات الإسلام (حتّى يعمّمه) بيده الشريفة، أي: يدير العمامة على رأسه (ويرخي لها عذبة) - بالذال المعجمة- من خلفه (من جانب الأيمن نحو الأذن) إشارة إلى أنّ من ولي من أمر الناس شيئا ينبغي أن يراعي من تجمل الظاهر ما يوجب تحسين صورته في أعينهم، حتى لا ينفروا عنه وتزدريه نفوسهم. وفيه ندب العذبة، وعدّها السيوطيّ من خصائص هذه الأمة؛ قاله «المناوي على الجامع» . ويؤخذ من هذا الحديث تعيين الجانب الذي تجعل فيه العذبة، لكن قال الحافظ الزين العراقيّ: وإذا وقع إرخاء العذبة من بين اليدين؛ كما يفعله الصوفية وبعض أهل العلم!! فهل المشروع فيه إرخاؤها من الجانب الأيسر كما هو المعتاد، أو الأيمن لشرفه؟ قال: ولم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلّا في حديث ضعيف عند الطبرانيّ!! وبتقدير ثبوته؛ فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن، ثم يردّها إلى الجانب الأيسر؛ كما يفعله بعضهم، إلّا أنّه صار شعار الإماميّة، فينبغي تجنّبه لترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. التشبّه بهم. انتهى. نقله الزرقاني وغيره. (و) أخرج مسلم، والترمذيّ في «الجامع» ، و «الشمائل» ، وأصحاب «السنن» (عن جابر) بن عبد الله الأنصاريّ- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة) زادها الله شرفا. سمّيت مكة لقلّة مائها، من قولهم: «امتكّ الفصيل ضرع أمّه» إذا امتصّه، وقيل: لأنّها تمكّ الذنوب، أي: تذهب بها. ولها أسماء كثيرة: بكة بالباء، والبلدة، والبلد الأمين، وأمّ القرى، وأم رحم، وصلاح؛ كقطام، والباسّة، وغيرها. وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى، كما في أسماء الله وأسماء رسوله. ولا نعلم بلدا أكثر أسماء من مكة والمدينة، لكونها أفضل الأرض. واختلف أيّهما أفضل!! فعند الشافعيّ والجمهور أنّ مكّة أفضل الأرض وبعدها المدينة، وعند مالك المدينة أفضل ثم مكّة، ولكلّ من الفريقين دليل ومسلك وتعليل؛ رضي الله عن الجميع، ورزقنا الأدب مع الجميع، وأماتنا بالمدينة بجوار الحبيب الشفيع، وأحلّنا المحلّ الرفيع، بفضله ورحمته. آمين. (يوم الفتح) أي: فتح مكّة الذي أعزّ الله به الإسلام وأهله، وأظهره على الدين كلّه (وعليه) أي: على رأسه (عمامة سوداء) زاد مسلم: بغير إحرام. قال الحافظ العراقيّ: اختلفت ألفاظ حديث جابر هذا في المكان والزمان الذي لبس فيه العمامة السوداء، فالمشهور أنّه يوم الفتح، وفي رواية البيهقي: يوم ثنيّة الحنظل، وذلك يوم الحديبية! قال: ويجاب بأن هذا ليس اضطرابا، بل لبسها في الحديبية وفي الفتح معا، إذا لا مانع من ذلك، إلّا أنّ الإسناد واحد؛ فليتأمل!! انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ......... وفي رواية البخاريّ، ومسلم، و «أصحاب السنن» ؛ من طريق مالك عن الزهري عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر. ويجمع بينهما بأنّ العمامة السوداء كانت فوق المغفر، أو تحته وقاية من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للقتال، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم. وجمع بينهما القاضي عياض بأنّ أوّل دخوله كان على رأسه المغفر، ثمّ بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه- كما في مسلم، و «السنن» ، و «الشمائل» -: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء. زاد مسلم: قد أرخى طرفها بين كتفيه؛ لأنّ الخطبة إنّما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة، قال الوليّ العراقيّ: وهو أولى وأظهر في الجمع من الأوّل، وتعقّبه بعضهم: بأنّ الصواب الجمع الأول. قال النووي: وفي الحديث جواز لبس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه. انتهى. وصحة لبس المصطفى للسواد، ونزول الملائكة يوم بدر بعمائم صفر لا يعارض عموم الخبر الصحيح الآمر بالبياض؛ لأنّه لمقاصد اقتضاها خصوص المقام؛ فقد قال العلماء: إنّ الحكمة في إيثار الأسود يوم الفتح على البياض الممدوح: الإشارة إلى ما منحه الله تعالى به ذلك اليوم من السّؤدد الذي لم يتّفق لأحد من الأنبياء قبله، وإلى سؤدد الإسلام وأهله، وإلى أنّ الدين المحمديّ لا يتبدل؛ لأنّ السواد أبعد تبدّلا من غيره. وقد لبس السواد جماعة منهم عليّ يوم قتل عثمان وغيره، والحسن فقد كان يخطب في ثياب سود، وعمامة سوداء، وابن الزبير كان يخطب بعمامة سوداء، وأنس، وعبد الله بن جرير، وعمّار كان يخطب كل جمعة بالكوفة؛ وهو أميرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وقال ابن حجر ... وعليه عمامة سوداء، ومعاوية فإنّه لبس عمامة سوداء، وجبّة سوداء، وعصابة سوداء! وابن المسيّب كان يلبسها في العيدين، وابن عبّاس كان يعتمّ بها، والخلفاء العبّاسيّون باقون على لبس السواد، وكثير من الخطباء على المنابر، ومستندهم ما سبق من دخول المصطفى صلّى الله عليه وسلم مكّة بعمامة سوداء؛ أرخى طرفها بين كتفيه، فخطب بها، فتفاءل الناس لذلك بأنّه نصر وعزّ، وقد جمع السيوطي جزءا في لبس السواد، وذكر فيه أحاديث وآثارا. وقد زعم بعض الخلفاء العباسيّين من أولاد المعتصم: أنّ تلك العمامة التي دخل بها صلّى الله عليه وسلم مكّة وهبها لعمه العبّاس، وبقيت بين الخلفاء يتداولونها بينهم، ويجعلونها على رأس من تقرّر له الخلافة. وسأل الرشيد الأوزاعي عن لبس السواد، فأجابه بأنّه يكرهه، لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبّي فيه محرم، ولا يكفّن فيه محرم «1» ، والظاهر أنّ مراده غير العمامة. قال القرطبيّ: وفي هذا الحديث دليل للمسوّدة، غير أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكن ذلك منه دائما، ولا في كل لباسه، بل في العمامة خاصة، لكن إذا أمر إمام بلبس ذلك وجب. وفي «شرح الزيلعي» : يسنّ لبسه لخبر فيه، وكيف ما كان الأفضل في لبس الخطبة البياض. وقال ابن القيم: لم تكن عمامة المصطفى صلّى الله عليه وسلم كبيرة يؤذي الرأس حملها، ولا صغيرة تقصر عن وقاية الرأس؛ من نحو حر أو برد، بل كانت وسطا بين ذلك، وخير الأمور الوسط. (وقال) الإمام العلّامة، شيخ الإسلام، أبو العبّاس، شهاب الدين؛ أحمد بن محمد بن عليّ (بن حجر) الأنصاري السعدي، المصري، الهيتميّ ثمّ   (1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب «ميت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 المكّيّ: اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ- ... (المكّيّ) المشهور ب «ابن حجر الهيتميّ» ؛ نسبة إلى محلّة «أبي الهيتم» بالمثنّاة الفوقية من إقليم الغربيّة بمصر شيخ الشافعية، وسلطان الشريعة، وخاتمة المحقّقين، فريد عصره، ووحيد دهره. ولد في بلدة محلّة «أبي الهيتم» سنة: - 909- تسع وتسعمائة- بتقديم المثناة على المهملة فيهما- ونشأ بها، وحفظ القرآن، ثمّ انتقل إلى القاهرة. وتلقّى العلم في الأزهر المعمور، فحفظ المختصرات، وأخذ عن جمع من العلماء؛ منهم شيخ الإسلام زكريّا الأنصاريّ، وهو أجلّهم، وقرأ على الشيخ عميرة المصريّ، والشهاب الرّمليّ، وأبي الحسن البكريّ، وغيرهم. وبرع في جميع العلوم؛ خصوصا فقه الشافعيّة، وصنّف التصانيف الحسنة المفيدة، ثمّ انتقل من مصر إلى مكّة المشرّفة. وسبب انتقاله أنه اختصر «الروض» لابن المقرىء، وشرع في شرحه، فأخذه بعض الحسّاد وفتّته وأعدمه؛ فعظم عليه الأمر، واشتد حزنه، وانتقل إلى مكة وصنّف بها التصانيف الكثيرة الجليلة، منها «تحفة المحتاج شرح المنهاج» للإمام النووي، وهو أجلّ كتبه. وكان زاهدا متقلّلا على طريقة السلف، آمرا بالمعروف؛ ناهيا عن المنكر، واستمرّ على ذلك حتى مات [بمكة ودفن] سنة: - 973- ثلاث وسبعين- أو أربع وسبعين وتسعمائة- رحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين. قال رحمه الله تعالى: (اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ-) ؛ كالحافظ ابن حجر، فقد قال في «فتاويه» : لا يحضرني في طول عمامة النبي صلّى الله عليه وسلم قدر محدود، وقد سئل عنه الحافظ عبد الغني فلم يذكر شيئا. وكالحافظ السيوطي فإنّه قال: لم يثبت في مقدارها حديث، وفي خبر ما يدلّ على أنّها عشرة أذرع، والظاهر أنّها كانت نحو العشرة، أو فوقها بيسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 في طول عمامته صلّى الله عليه وسلّم وعرضها شيء. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرقة، إذا توضّأ.. تمسّح بها. وكالحافظ السخاوي؛ فإنّه قال في «فتاويه» : رأيت من نسب لعائشة: أنّ عمامته في السفر بيضاء، وفي الحضر سوداء، وكلّ منها سبعة أذرع، وهذا شيء ما علمته! انتهى. وعلى كلام هؤلاء الحفاظ عوّل ابن حجر المكي في تصريحه بأنه لم يتحرّر (في طول عمامته صلّى الله عليه وسلم وعرضها شيء) . وما وقع للطبرانيّ في طولها «أنّه نحو سبعة أذرع» ، ولغيره «أنّه نقل عن عائشة: أنّها سبعة أذرع في عرض ذراع، وأنّها كانت في السفر بيضاء وفي الحضر سوداء من صوف، وأنّ عذبتها في السفر من غيرها، وفي الحضر منها» !! لا أصل له. وفي «تصحيح المصابيح» لابن الجزريّ: تتبّعت الكتب، وتطلّبت من السّير والتواريخ لأقف على قدر عمامة المصطفى صلّى الله عليه وسلم فلم أقف على شيء، حتى أخبرني من أثق به أنّه وقف على شيء من كلام النووي ذكر فيه أنّه كان للمصطفى عمامة قصيرة. وعمامة طويلة، وأنّ القصيرة كانت ستة أذرع، والطويلة اثني عشر ذراعا. انتهى «زرقاني» . وقد ألّف العلماء رحمهم الله تعالى قديما وحديثا في العمامة المؤلفات النافعة، منهم الشيخ ابن حجر المكي؛ له كتاب: «درّ الغمامة في العذبة والطيلسان والعمامة» ، ومنهم السيّد محمد بن جعفر الكتّاني، المغربيّ، له كتاب: «الدعامة لمعرفة أحكام سنّة العمامة» . فمن أراد الاطّلاع على ما فيهما فليراجعهما؛ خصوصا الأخير منهما، فإنّه مفيد جدا. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خرقة) - بكسر الخاء المعجمة- (إذا توضّأ تمسّح بها) . رمز له برمز الدارقطني. وفي «الجامع الصغير» : كان له صلّى الله عليه وسلم خرقة يتنشّف بها بعد الوضوء، ورمز له برمز الترمذيّ، والحاكم عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وكان منديله صلّى الله عليه وسلّم باطن قدميه. قال المناوي: قال الترمذي عقبه: ليس بالقائم، ولا يصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم فيه شيء، وفيه أبو معاذ: سليمان بن أرقم ضعيف عندهم، وقد رخّص قوم من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء. انتهى. وقال قبل ذلك: وحينئذ لا يكره التنشّف، بل لا بأس به وعليه جمع. وذهب آخرون إلى كراهته؛ لأنّ ميمونة أتته بمنديل فردّه، ولما أخرجه الترمذيّ؛ عن الزهري: أنّ ماء الوضوء يوزن. وأجاب الأوّلون: بأنّها واقعة حال يتطرّق إليها الاحتمال، وبأنّه إنّما ردّه مخافة مصيره عادة، ويمنع دلالته على الكراهة؛ فإنّه لولا أنّه يتنشّف لما أتته به، وإنّما ردّه! لعذر كاستعجال، أو لشيء رآه فيه، أو لوسخ، أو تعسف ريح. وفي هذا الحديث إشعار بأنّه كان لا ينفض ماء الوضوء عن أعضائه! وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: «لا تنفضوا أيديكم في الوضوء؛ كأنّها مراوح الشّيطان» . قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم أجده. وقد أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ، وابن أبي حاتم في «العلل» . انتهى كلام المناوي في «الكبير» . (و) في «إحياء علوم الدين» ، و «كشف الغمّة» ، و «كنوز الحقائق» : (كان منديله صلّى الله عليه وسلم) - المنديل- بكسر الميم وفتحها، وكمنبر- هو الذي يتمسّح به، وهو مذكّر، ولا يجوز فيه التأنيث- (باطن قدميه) . قال العراقي: لا أعرفه من فعله!! وإنّما المعروف فيه ما رواه ابن ماجه؛ من حديث جابر رضي الله تعالى عنه: كنّا زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قليلا ما نجد الطعام، فإذا وجدناه لم تكن لنا مناديل إلّا أكفّنا وسواعدنا. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 [الفصل الثّاني في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبه] الفصل الثّاني في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فراش من أدم، حشوه ليف، طوله ذراعان أو نحوهما، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه. (الفصل الثّاني) من الباب الثالث (في) بيان ما ورد في (صفة فراشه صلّى الله عليه وسلم) ، وقدره، وخشونته ليقتدى به في ذلك. (و) في صفة (ما يناسبه) ويتعلّق به؛ كوسادة. والفراش- بكسر الفاء- بمعنى مفروش، ككتاب بمعنى مكتوب، وهو: اسم لما يفرش، كاللباس لما يلبس، وجمعه فرش، ككتاب وكتب، ويقال له أيضا: فرش من باب التسمية بالمصدر، وقد ورد في «صحيح مسلم» : «فراش للرّجل، وفراش لزوجته، وفراش للضّيف، وفراش للشّيطان» . وإنّما أضافه إلى الشيطان!! لأنّه زايد على الحاجة مذموم. قال الإمام الشعراني رحمه الله في «كشفة الغمّة» : (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فراش من أدم) - بفتحتين- جمع أديم؛ وهو الجلد المدبوغ؛ (حشوه) - بالفتح- أي: الأدم باعتبار لفظه، وإن كان معناه جمعا، فالجملة صفة لأدم، أو حالية من «فراش» ، و «كان» تامّة؛ أي: محشوّه (ليف) - بكسر اللّام- أي: من ليف النخل كما هو الغالب عندهم. (طوله ذراعان أو نحوهما، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وكان متقلّلا من أمتعة الدّنيا كلّها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلّها.. فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها. وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتك؟ قالت: من أدم، حشوه ليف. قال في «تيسير الوصول إلى جامع الأصول» للحافظ الديبع: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف» أخرجه الخمسة إلّا النسائي. انتهى. وهو في «الشمائل» من رواية عروة بن الزبير؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «إنّما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف» . (و) قال الإمام النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» : (كان) صلّى الله عليه وسلم (متقلّلا من أمتعة) - جمع متاع، وهو في اللّغة: كل ما ينتفع به كالطعام، والبزّ، وأثاث البيت. وأصل المتاع: ما يتبلغ به من الزاد- (الدّنيا) ؛ فعلى، وسمّيت دنيا لدنوها، والجمع الدّنا مثل الكبرى والكبر، وإنّما كان متقلّلا من أمتعة الدنيا (كلّها) ؛ لأنّ الله تعالى أمره أن لا يمدّن عينيه إلى الدنيا وزهرتها، (و) إلى ما متّع به أهلها؛ فمن ثمّ اقتصر منها على أقلّ ممكن مع تيسيرها عليه، ف (قد) عرضت عليه كنوزها، و (أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلّها) روى مسلم في «صحيحه» : «بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» ؛ (فأبى أن يأخذها) ، وما أرادها، (واختار الآخرة عليها) ، ولو أراد الدنيا لكان أشكر الخلق بما أخذه منها، ولأنفقه كلّه في مرضاة الله تعالى وسبيله. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث محمد الباقر مرسلا قال: (سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها) ، أي: أنّ سائلا سألها: (ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: من أدم حشوه ليف) . وفيه أنّ النّوم على الفراش المحشوّ، واتّخاذه لا ينافي الزهد، هبه من أدم أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 و (الأدم) - جمع أديم على غير القياس- وهو: الجلد المدبوغ، ويجمع على: أدم. وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت عليّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطيفة مثنيّة، فبعثت إليّ بفراش حشوه الصّوف، فدخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذا يا عائشة؟!» ، قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصاريّة دخلت فرأت فراشك فبعثت إليّ بهذا، فقال: «ردّيه يا عائشة، فو الله لو غيره، حشوه ليف أو غيره؛ لأنّ عين الأدم واللّيف ليست شرطا، بل لأنّها المألوفة عندهم، فيلحق بها كل مألوف مباح. نعم الأولى لمن غلب عليه الكسل، وميل نفسه إلى الراحة والترفّه أن لا يبالغ في حشو الفراش؛ لأنّه سبب ظاهر في كثرة النوم، والغفلة؛ والبطء عن المهمّات والخيرات بدليل حديث حفصة الآتي. (والأدم) - بفتحتين- (جمع) أدمة، أو جمع (أديم على غير القياس، و) الأديم (هو الجلد المدبوغ) أو الأحمر، أو مطلق الجلد؛ على ما في «القاموس» . (ويجمع) أيضا (على أدم) - بضمتين- وهو القياس. مثل بريد وبرد. (و) أخرج البيهقي، وأبو الشيخ في كتاب «الأخلاق النبوية» ، وابن سعد في «الطبقات» (عنها) ، أي: عن عائشة (رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت عليّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطيفة) ، وفي رواية عباءة (مثنيّة، فبعثت إليّ بفراش حشوه الصّوف، فدخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا عائشة؟!» قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصاريّة) - مفاده أنّها سمّتها له فنسي الراوي اسمها، أو أبهمها لغرض فعبّر عنها بفلانة- (دخلت فرأت فراشك فبعثت إليّ بهذا. فقال: «ردّيه يا عائشة؛ فو الله لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 شئت لأجرى الله تعالى معي جبال الذّهب والفضّة» . و (القطيفة) : دثار له خمل. وسئلت حفصة رضي الله تعالى عنها: ... شئت لأجرى الله تعالى معي جبال الذّهب والفضّة» ) . فاتّخاذي لهذا الفراش ليس عجزا عن غيره، بل اختيار لعدم الترفّه المشعر بالمباهاة وحظّ النفس، واتّباعا لقوله تعالى (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) *، وفي رواية ابن سعد، وأبي الشيخ: «فلم أردّه، وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ثلاث مرات: ردّيه يا عائشة، فو الله ... الخ. قالت: فرددته» . وفيه أنّها لم تردّه بمجرد أمره؛ لأنّها لم تفهم تحتّمه، بل فهمت أنه أراد إن شئت، ولذا لمّا صرح بتحتّمه ردّته. (والقطيفة) - بفتح القاف وكسر الطاء المهملة على وزن فعلية- هي: (دثار) بالكسر- ما يتدثّر به الإنسان؛ وهو: ما يلقيه عليه من كساء، أو غيره فوق الشعار (له خمل) - بفتح الخاء المعجمة وإسكان الميم- مثل فلس، الهدب، وقد يقال للخمل: قطيفة، ويقال للقطيفة: طنفسة، وتجمع القطيفة على قطائف وقطف بضمتين- (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من طريق محمد الباقر مرسلا قال: سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: من أدم حشوه ليف. و (سئلت) أمّ المؤمنين (حفصة) بنت الفاروق؛ عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين (رضي الله) تعالى عنه و (عنها) آمين، وهي شقيقة عبد الله بن عمر. ولدت وقريش تبني البيت قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم بخمس سنين، وتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة في شعبان؛ على رأس ثلاثين شهرا قبل أحد. وكانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت خنيس بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتك؟ قالت: مسحا نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلمّا كان ذات ليلة.. قلت: لو ثنيته أربع ثنيات لكان أوطأ له، ... خذافة السهمي، وكان ممّن شهد بدرا، وتوفي بالمدينة المنورة. قال ابن سعد: توفي عنها مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم من بدر، ثمّ بعد أن تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم طلّقها طلقة، ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام، قال: إنّها صوامة، قوامة، وزوجتك في الجنّة، وأوصى عمر إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى أخيها عبد الله، قال: قال ابن سعد: قال الواقدي: توفّيت حفصة في شعبان سنة: 45- خمس وأربعين، وهي بنت ستين سنة. وروي لها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستّون حديثا، رحمها الله تعالى ورضي عنها وعن سائر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: مسحا) أي كان مسحا- بكسر الميم وسكون السين- وهو: كساء خشن يعدّ للفراش من صوف (نثنيه) بصيغة المتكلّم مع الغير من المبني للفاعل (ثنيتين) - بكسر أوّله- تثنية: ثنية كسدرة، وفي رواية: ثنيين بدون تاء- بكسر الثاء- تثنية ثني كحمل، يقال: ثناه إذا عطفه وردّ بعضه على بعض. (فينام عليه. فلمّا كان ذات ليلة) «كان» تامّة، و «ذات» بالرفع فاعل، ويروى بالنصب على الظرفية، وعليه ففاعل «كان» ضمير عائد على الوقت، وعلى كلّ من الروايتين فلفظة «ذات» مقحمة، أو صفة لموصوف محذوف، أي ساعة ذات ليلة. (قلت) أي: في نفسي، أو لبعض خدمي: (لو ثنيته) بصيغة المتكلم الواحد (أربع ثنيات) - بكسر المثلثة- منصوب على أنّه مفعول مطلق، أي: أربع طبقات (لكان أوطأ) ، أي: ألين (له) من وطؤ الفراش فهو وطيء؛ كقرب فهو قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 فثنيناه له بأربع ثنيات، فلمّا أصبح.. قال: «ما فرشتموا لي اللّيلة؟» . قالت: قلنا: هو فراشك، إلّا أنّا ثنيناه بأربع ثنيات، قلنا: هو أوطأ لك، قال: «ردّوه لحالته الأولى؛ فإنّه منعتني وطأته صلاتي اللّيلة» . و (المسح) : كساء خشن من صوف يعدّ للفراش. ومعنى (أوطأ) : ألين؛ من وطؤ الفراش فهو وطيء، كقرب فهو قريب. (فثنيناه له بأربع ثنيات) - بكسر المثلثة- بحيث صارت طاقاته أربعا فنام عليه، (فلمّا أصبح قال: «ما فرشتموا لي) أي: أي شيء فرشتم لي (اللّيلة) الماضية؟ ولعلّه لما أنكر نعومته ولينه ظنّ أنّه غير فراشه المعهود فسأل عنه، وأتى بصيغة المذكر للتّعظيم، أو لتغليب بعض الخدم. (قالت: قلنا: هو فراشك) أي: المعهود بعينه (إلّا أنّا) أي: غير أنّا (ثنيناه بأربع ثنيات) - بكسر المثلثة- (قلنا: هو) : أي: المثني بأربع ثنيات (أوطأ) أي: ألين (لك) وأرفق لبدنك. (قال: «ردّوه) - أي: فراشي- (لحالته الأولى) - أي: كونه مثنيا ثنيتين- (فإنّه) - أي: الحال والشأن- (منعتني وطأته صلاتي اللّيلة» ) أي: منعني لينه تهجّدي تلك اللّيلة الماضية؛ لأنّ تكثير الفراش سبب في كثرة النوم، ومانع من اليقظة غالبا، بخلاف تقليله فإنّه يبعث على اليقظة من قرب غالبا. (والمسح) - بكسر الميم، وإسكان السين المهملة- (كساء خشن) غير ليّن يتّخد (من صوف يعدّ للفراش) يشبه كساء، أو ثياب سود من شعر يلبسها الزهاد، والرهبان. (ومعنى «أوطأ» ) - بالهمز-: (ألين) مشتق (من) مصدر (وطؤ الفراش) بالضم- بمعنى لان، من باب حسن يحسن، يقال: وطؤ الفراش (فهو وطيء، كقرب) - بضم الراء- أي: على وزنه. (فهو قريب) والوطاء ككتاب: المهاد الوطيء، أي: الليّن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وكان له صلّى الله عليه وسلّم عباءة تفرش له حيثما انتقل، تثنى طاقين تحته. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما ينام على الحصير وحده، ليس تحته شيء غيره. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على (و) في «طبقات الصوفيّة» للعلّامة المناوي رحمه الله تعالى: (كان له صلّى الله عليه وسلم عباءة) - بالمدّ كسحابة-: ضرب من الأكسية فيه خطوط. وقيل: هي الجبّة من الصوف. قال الصرفيّون: همزته عن ياء، وإنّه يقال: عباءة وعباية، ولذلك ذكره الجوهريّ في «المعتل» . انتهى «شرح القاموس» . وتجمع العباءة على عباء بحذف الهاء، وتجمع على عباءآت أيضا. انتهى «مصباح» . (تفرش له حيثما انتقل) في بيوت أزواجه بعد أن (تثنى طاقين) فتجعل (تحته. وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما ينام على الحصير) . قال ابن بطّال: هي ما صنع من سعف النخل وشبهه، قدر طول الرجل فأكثر؛ قاله في «الفتح» . ولعلّ المراد بها: الخصفة المذكورة في حديث الحاكم الآتي. وكان ينام عليه (وحده، ليس تحته) صلّى الله عليه وسلم (شيء غيره) أي: غير الحصير، لتواضعه، وزهده في الدنيا وزينتها. (وعن عبد الله بن مسعود) الهذليّ، تقدّمت ترجمته (رضي الله تعالى عنه) قال: نام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على حصير فقام؛ وقد أثر في جنبه، فبكيت. فقال: «ما يبكيك؟» قلت: كسر وقيصر على الخزّ والديباج؛ وأنت نائم على الحصير، هذا يا رسول الله بأبي وأمي؟! لو كنت أذنتنا ففرشنا لك شيئا يقيك منه؟ فقال: «ما لي وللدّنيا، وما أنا في الدّنيا إلّا كراكب استظلّ تحت شجرة، ثمّ راح وتركها» . رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حسن صحيح، وكذا صحّحه الحاكم، والضياء في «المختارة» . ورواه الطبرانيّ، ولفظه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (قال: دخلت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في غرفة كأنّها بيت حمّام، وهو نائم على حصير قد أثّر بجنبه، فبكيت، فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» ، قلت: يا رسول الله؛ كسرى وقيصر يطؤون على الخزّ والدّيباج والحرير؛ وأنت نائم على هذا الحصير، قد أثّر بجنبك. فقال: «فلا تبك يا عبد الله، فإنّ لهم الدّنيا ولنا الآخرة» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: حدّثني عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير، قال: فجلست ... النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو في غرفة كأنّها بيت حمّام) - بتشديد الميم- أي: أنّ فيها من الحرّ والكرب كما في بيت الحمام، (وهو نائم على حصير قد أثّر بجنبه، فبكيت) شفقة عليه. (فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» . قلت: يا رسول الله؛ كسرى) ملك الفرس، (وقيصر) ملك الرّوم (يطؤون) : يمشون (على الخزّ) - بخاء وزاي معجمتين- (والدّيباج والحرير) ، وأراد بالجمع ما فوق الواحد، أو أراد وقومهما؛ (وأنت نائم على هذا الحصير قد أثّر بجنبك؟!) ، وأنت رسول الله وأفضل خلقه، وهما كافران! (فقال:) أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم (: «فلا تبك يا عبد الله، فإنّ لهم الدّنيا) وهي فانية كأنّها لم تكن- (ولنا الآخرة» ) . وهي باقية، وهي الحيوان، ولنا في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم عجّلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدنيا. (وعن) عبد الله (بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: حدّثني) الفاروق؛ أبو حفص (عمر بن الخطّاب) ؛ أمير المؤمنين (رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو على حصير قال: فجلست، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع، وإذا إهاب معلّق، فابتدرت عيناي، فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟» . فقلت: يا نبيّ الله؛ وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبيك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلّا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثّمار والأنهار، وأنت نبيّ الله وصفوته وهذه خزائنك؟! قال: «يا ابن الخطّاب؛ ... فإذا عليه إزاره؛ وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير) - بفتح الشين المعجمة وتكسر- (نحو الصّاع، وإذا إهاب) ، جلد لم يدبغ، أو مطلقا، دبغ أو لم يدبغ، والمراد جنس إهاب، فلا ينافي رواية «الصحيحين» أهب (معلّق، فابتدرت عيناي) : بادرت بإرسال الدموع مسرعة؛ (فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟» . فقلت: يا نبيّ الله؛ وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثّر في جنبيك، وهذه خزائنك) ؛ أي: الأماكن المعدة للادّخار (لا أرى فيها إلّا ما أرى) من شعير نحو صاع؛ (وذاك كسرى وقيصر في الثّمار والأنهار، وأنت نبيّ الله؛ وصفوته) مختاره، (وهذه خزائنك) لا أرى فيها إلا ما أرى!! وكرّره مبالغة في إظهار التأسّف. (قال: «يا ابن الخطّاب) - وفي رواية البخاريّ ومسلم-: «فو الله ما رأيت في بيته شيئا يردّ البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسّع على أمّتك، فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله. فجلس صلّى الله عليه وسلم وكان متّكئا؛ فقال: «أو في هذا أنت يا ابن الخطّاب؟!» - بهمزة استفهام وواو عطف على مقدر بعدها- قال الكرماني: أي: أنت في مقام استعظام التّجمّلات الدنيويّة واستعجالها؟!. وفي رواية للشّيخين أيضا: «أو في شكّ أنت يا ابن الخطّاب!!» أي: أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدّنيا؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الدّنيا، وهي وشيكة الانقطاع، وإنّا قوم أخّرت لنا طيّباتنا في آخرتنا» . في شكّ أنّ التوسّع في الدنيا مرغوب عنه؟!. فقلت: يا رسول الله استغفر لي» . أي: من اعتقادي أنّ تجمّل الدنيا مرغوب فيه، قال: ( «أما ترضى أن تكون لنا الآخرة) الباقية (ولهم الدّنيا» ) الفانية؟ وجمع ضمير لهم!! على إرادتهما ومن تبعهما، أو كان على مثل حالهما، بدليل رواية الشيخين. وهذا الحديث رواه ابن ماجه بإسناد صحيح بهذا اللّفظ الذي أورده المصنّف. ورواه الحاكم بلفظ: قال عمر رضي الله عنه: «استأذنت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخلت عليه في مشربة؛ وإنّه لمضطجع على خصفة، وإنّ بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوّة ليفا، وإنّ فوق رأسه لإهاب «1» عطين، وفي ناحية المشربة قرظ، فسلّمت عليه وجلست؛ فقلت: أنت نبيّ الله وصفوته وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟!. فقال: ( «أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الدّنيا، وهي وشيكة) - بمعجمة وكاف: قريبة- (الانقطاع) ، أي: الزوال (وإنّا قوم أخّرت لنا طيّباتنا في آخرتنا» ) ، وإضافة الآخرة لهم!! لأنّهم المنتفعون بها، حتّى كأنّها منسوبة لهم؛ لا لغيرهم. وفي رواية للشيخين: «أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدّنيا» . فقلت: استغفر لي؛ يا رسول الله. قال النووي في «شرح مسلم» : وهذا يحتجّ به من يفضّل الفقر على الغنى،   (1) بالنصب اسم «إن» وكتب بحذف الألف على لغة ربيعة وجرى عليه كثير من المحدثين. وعطين أي متغيرا منتنا اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرير مرمّل بالبرديّ، وعليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبرديّ، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما عليه، فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نائم عليه، فلمّا رآهما.. استوى جالسا، فنظرا، فإذا أثر السّرير في جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: يا رسول الله؛ ما يؤذيك ... لما في مفهومه أنّ بمقدار ما يتعجّله من طيّبات الدنيا يفوته من ادّخار الأجر له في الآخرة، وقد يتأوّله الآخرون بأنّ المراد أنّ حظّ هؤلاء من النعيم ما تعجّلوه في الدنيا، ولا حظّ لهم في الآخرة لكفرهم. (و) أخرج ابن حبّان في «صحيحه» المسمى ب «الأنواع والتقاسيم» ؛ (عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سرير مرمّل) - بضم الميم وفتح الراء وشدّ الميم- بالبرديّ بفتح فسكون-: نبات يعمل منه الحصر على لفظ المنسوب إلى البرد، كما في «المصباح» . فالمعنى أنّ قوائم السرير موصولة مغطّاة بما نسج من ذلك النبات؛ كذا قال الزرقاني. وفي حديث عمر في الصحيح: فإذا هو مضطجع على رمال حصير. قال القسطلاني: بكسر الراء وتضم، أي: سرير مرمول بما يرمّل به الحصير، أي: ينسج، ورمال الحصير ضلوعه المتداخلة فيه كالخيوط في الثوب. انتهى. قال في «النهاية» : والمراد أنّه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف؛ ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. انتهى كلامه. (وعليه) - أي السرير- (كساء أسود، وقد حشوناه بالبرديّ، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما عليه؛ فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم نائم عليه، فلمّا رآهما استوى جالسا) إكراما لهما، (فنظرا فإذا أثر السّرير في جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله؛ ما يؤذيك) - بحذف همزة الاستفهام تخفيفا- أي: أما يؤذيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؛ وهذا كسرى وقيصر على فرش الدّيباج والحرير؟! فقال عليه الصّلاة والسّلام: «لا تقولا هذا؛ فإنّ فراش كسرى وقيصر في النّار، وإنّ فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنّة» . وما عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضجعا قطّ، إن فرش له.. اضطجع، وإلّا.. اضطجع على الأرض. ومعنى (مرمّل) : ... (خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؛ وهذا كسرى وقيصر) أتى بالإشارة لتحقّق كونهما (على فرش الدّيباج والحرير؟!) ، حتّى كأنّهما مشاهدان يشار إليهما. (فقال عليه الصّلاة والسّلام: «لا تقولا هذا، فإنّ فراش كسرى وقيصر في النّار) - كناية عن عذابهما وحقارتهما؛ بجعل النار ظرفا لفراشهما محيطة به- (وإنّ فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنّة» ) ، لم يقل «في الجنّة» على نمط ما قبله!! إشارة إلى تصرّفه فيها كيف شاء، وذلك أبلغ في تعظيمه من مجرّد كون فراشه وسريره بها. وقد أشار إلى ما تقدّم الحافظ زين الدين العراقي في «ألفيّته في السيرة» فقال: فراشه من أدم وحشوه ... ليف فلا يلهي بعجب زهوه وربّما نام على العباءة ... بثنيتين عند بعض النّسوة وربّما نام على الحصير ... ما تحته شيء سوى السّرير (وما عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - عبارة القسطلّاني في «المواهب اللّدنّيّة» : ويروى أنّه عليه الصلاة والسلام ما عاب- (مضجعا قطّ) ؛ أي: مكانا يضطجع فيه (إن فرش له اضطجع) على ما فرش له، (وإلّا) يفرش له شيء (اضطجع على الأرض) صلّى الله عليه وسلم. (ومعنى مرمّل) - بضم الميم وفتح الراء وشد الميم الثانية آخره لام- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 منسوج. و (البرديّ) : نبات. وتغطّى صلّى الله عليه وسلّم باللّحاف، قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما أتاني جبريل وأنا في لحاف امرأة منكنّ.. غير عائشة» . (منسوج) بالسعف كما تقدّم آنفا. (والبرديّ) - بفتح الباء الموحدة وسكون الراء آخره ياء مثنّاة على لفظ المنسوب- هو (نبات) يعمل منه الحصر كما تقدّم. (وتغطّى صلّى الله عليه وسلم باللّحاف) بزنة كتاب: كلّ ثوب يتغطّى به، والجمع لحف؛ كما في «المصباح» . (قال) النّبيّ (عليه الصّلاة والسّلام) فيما رواه البخاريّ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: اجتمع صواحبي إلى أمّ سلمة؛ فقلن: والله؛ إنّ النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، وإنّا نريد الخير كما تريد عائشة. فمري رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار. فذكرت ذلك أمّ سلمة له. قالت: فأعرض عنّي، فلمّا عاد إليّ ذكرت له ذلك فأعرض عنّي، فلمّا كان في الثالثة ذكرت له فقال: «يا أمّ سلمة؛ لا تؤذيني في عائشة، فو الله (ما أتاني جبريل) - وفي رواية: «ما نزل عليّ الوحي» - (وأنا في لحاف امرأة منكنّ غير عائشة» ) رضي الله تعالى عنها إكراما من الله لها وسبق عناية بها. وقيل: لمبالغتها في تنظيف ثيابها، أو لمكان والدها، وأنّه لم يفارق النبي صلّى الله عليه وسلم في أغلب أحواله، فسرى سرّه إلى ابنته؛ مع مزيد حبّ المصطفى لها. وفيه فضلها على جميع نسائه، ويحتمل أنّ المراد غير خديجة؛ لأنها ماتت قبل ذلك فلم تدخل في الخطاب بقوله: منكنّ؛ قاله الحافظ ابن حجر، وجزم السيوطيّ بما أبداه احتمالا. ثمّ المصنّف ذكر هذا دليلا لقوله تغطّى باللّحاف؛ لأنّ الاستثناء من النفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وكان وساده الّذي يتّكىء عليه من أدم، حشوه ليف. وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على وسادة على يساره. إثبات، فكأنّه قيل: أتاني وأنا متغطّ بلحاف عائشة، والمتبادر أنّها معه فيه. (و) أخرج الإمام أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان وساده) - بكسر الواو-: المخدّة (الّذي يتّكىء عليه من أدم) - بفتحتين- جمع أدمة أو أديم، وهو الجلد المدبوغ. (حشوه) أي الأدم (ليف) . والجملة صفة لأدم، وفيه إيذان بكمال زهده وإعراضه عن الدنيا ونعيمها، وفاخر متاعها، وحلّ اتّخاذ الوسادة ونحوها من الفرش. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: «كان وسادته التي ينام عليها باللّيل من أدم حشوها ليف» . وفيه حل اتّخاذ الوسادة ونحوها، والنوم عليها، وغير ذلك. قالوا: لكن الأولى لمن غلبه الكسل، والميل للدّعة والترفّه أن لا يبالغ في حشو الفراش؛ لأنّه سبب لكثرة النوم والغفلة، والشغل عن مهمّات الخيرات. (و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وقال: حسن غريب- (عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي: أبصرته حال كونه (متّكئا على وسادة) - بكسر الواو- كإفادة: ما يتوسّد به من المخدّة- بكسر الميم وفتح الخاء المعجمة- وقد يقال: وساد- بلا تاء-، وأساد- بالهمزة- بدل الواو (على يساره) ؛ أي: حال كون الوسادة موضوعة على يساره. أي: جانبه الأيسر، فهو صفة لوسادة، جيء به لبيان الواقع لا للتّقييد، فيحلّ الّاتكاء يمينا أيضا. وقد بيّن الراوي في هذا الخبر التّكأة، وهي الوسادة هنا، وكيفيّة الاتّكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على الحصير. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على بساط. والتّكأة بوزن اللّمزة: ما يتّكأ عليه من وسادة وغيرها ممّا هيء وأعدّ لذلك، فخرج الإنسان فلا يسمى تكأة؛ وإن اتّكىء عليه. (و) في «كنوز الحقائق» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يصلّي على الحصير) من غير سجّادة تبسط له فرارا عن تزيين الظاهر للخلق، وتحسين مواقع نظرهم، فإنّ ذلك هو الرياء المحظور، وهو؛ وإن كان مأمونا منه لكنّ قصده التشريع. والمراد بالحصير: ما نسج من ورق النخل، هكذا كانت عادتهم. ثمّ هذا الحديث رمز له المناوي في «كنوزه» برمز عبد الرزاق! ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم؛ عن المغيرة بن شعبة بلفظ: كان يصلي على الحصير، والفروة المدبوغة. قال المناوي: وعورض هذا الحديث بما رواه أبو يعلى، وابن أبي شيبة، وغيرهما من رواية شريح أنّه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؛ والله سبحانه وتعالى يقول (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (8) [الإسراء] ؟! قالت: لم يكن يصلّي عليه. ورجاله كما قال الحافظ الزين العراقي: ثقات. وأجيب تارة بأنّ المنفيّ في خبرها المداومة، وتارة أخرى أجيب بأنّها إنّما نفت علمها، ومن علم صلاته على الحصير مقدّم على النافي، وبأنّ حديثها؛ وإن كان رجاله ثقات؛ لكن فيه شذوذ ونكارة. فإنّ القول «بأنّ المراد في الآية الحصير التي تفرش» مرجوح مهجور، والجمهور على أنّه من الحصر، أي: ممنوعون عن الخروج منها؛ أفاده الحافظ العراقي قال: وفيه ندب الصلاة على الحصير، ونحوه مما يقي بدن المصلي عن الأرض، وقد حكاه الترمذيّ عن أكثر أهل العلم؛ ذكره المناوي. (و) أخرج ابن ماجه، والحاكم، وابن أبي شيبة بسند حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يصلّي على بساط) أي: حصير كما في «شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وكان صلّى الله عليه وسلّم يستحبّ أن تكون له فروة مدبوغة يصلّي عليها. أبي داود» للوليّ العراقيّ، وسبقه إليه أبوه في «شرح الترمذيّ» حيث قال: في «سنن أبي داود» ما يدلّ على أنّ المراد بالبساط الحصير. قال ابن القيّم: كان يسجد على الأرض كثيرا، وعلى الماء، والطين، وعلى الخمرة المتّخذة من خوص النخل، وعلى الحصير المتّخذ منه، وعلى الفروة المدبوغة؛ كذا في «زاد المعاد» . ولا ينافيه إنكاره في «المصايد» على الصوفيّة ملازمتهم للصلاة على سجادة. وقول ابن القيّم: «لم يصلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سجادة قطّ، ولا كانت السجادة تفرش بين يديه» !!، مراده السجادة من صوف على الوجه المعروف، فإنّه كان يصلّي على ما اتّفق بسطه. انتهى؛ ذكره المناوي في «الكبير» رحمه الله تعالى. (و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» بسند ضعيف؛ عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يستحبّ) ؛ أي: يحب (أن تكون له فروة مدبوغة) . الفروة قيل: بإثبات التاء، وقيل: بحذفها، والجمع فراء؛ كسهم وسهام، وهو على أنواع: فمنها السمور، والأزق، والقاقون، والسنجاب، والنافه، والقرسق، وأولاهنّ أعلاهنّ، وهي جلود حيوانات تدبغ فتخيط ويلبس بها الثياب، يلبسونها اتّقاء البرد. قال الأزهريّ: الجلدة إذا لم يكن عليها وبر، ولا صوف لا تسمّى «فروة» . انتهى «شرح القاموس» . (يصلّي عليها) بيّن به أنّ الصلاة على الفروة لا تكره، وأنّ ذلك لا ينافي كمال الزهد، وأنّه ليس من الورع الصلاة على الأرض، لأنّ محلّ ذلك القلب. وفيه إشارة إلى أنّ التنزّه عنها توهّما لتقصير الدبّاغ عن التطهير ليس من الورع، وإيماء إلى أنّ الشرط تجنّب النجاسة إذا شوهدت، وعدم تدقيق النظر في استنباط الاحتمالات البعيدة، وقد أخطأ قوم استفرغوا أنظارهم في دقائق الطهارة والنجاسة، وأهملوا النظر في دقائق الرياء والظلم!! فانظر كيف اندرس من الدين رسمه؛ كما اندرس تحقيقه وعلمه!! نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق إلى أقوم طريق. انتهى. مناوي رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 [الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم كان خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ورق، ... (الفصل الثّالث) من الباب الثالث: (في) بيان ما ورد في (صفة خاتمه) بفتح التاء المثنّاة فوق وكسرها- وفي صفة تختّمه (صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: لبسه الخاتم. والمراد بالخاتم الطابع الذي كان يختم به الكتب، لا خاتم النبوّة؛ فإنّه البضعة الناشزة بين كتفيه، وليس مرادا هنا. وفي الخاتم عشر لغات نظمها الحافظ ابن حجر في قوله: خذ عدّ نظم لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيا ما حواها قطّ نظّام خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيتوم وخيتام والهمز مع فتح خاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتمّ العشر خأتام قالوا: والخاتم حلقة ذات فصّ من غيرها، فإن لم يكن لها فصّ فهي فتخة بفاء ومثناة فوقية وخاء معجمة- كقصبة. قال ابن العربي: والخاتم عادة في الأمم ماضية، وسنّة في الإسلام قائمة. وقال ابن جماعة وغيره: وما زال الناس يتّخذون الخواتيم سلفا وخلفا من غير نكير. (كان خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ورق) - بكسر الراء وتسكّن تخفيفا- أي: فضّة، وأخذ بعض أئمة الشافعيّة من إيثار المصطفى صلّى الله عليه وسلم الفضّة كراهة التختّم بنحو حديد أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وكان فصّه حبشيّا. نحاس. وأيّد بما في رواية أنّه رأى بيد رجل خاتما من صفر؛ فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام؟» فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النّار» ؟. ويويّده أيضا ما في رواية: «أنّه أراد أن يكتب كتابا إلى الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى» ؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم من حديد، فجعله في أصبعه، فأتاه جبريل فقال له: انبذه من أصبعك. فنبذه من أصبعه وأمره بخاتم آخر يصاغ له، فعمل له خاتم من نحاس؛ فجعله في أصبعه، فقال له جبريل: انبذه، فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق؛ فجعله في أصبعه. فأقرّه جبريل ... » إلى آخر الحديث. لكن اختار النوويّ أنّه لا يكره، لخبر الشيخين: «التمس؛ ولو خاتما من حديد» ، ولو كان مكروها لم يأذن فيه، ولخبر أبي داود: كان خاتم النبي صلّى الله عليه وسلم من حديد ملويّا عليه فضّة. قال: وخبر النهي ضعيف. ويؤخذ من الحديث أنّه يسن اتّخاذ الخاتم، ولو لم يحتجه لختم وغيره، وعدم التعرض في الخبر لوزنه!! يدلّ على أنّه لا تحجير في بلوغه مثقالا فصاعدا، ولذلك أناط بعض الشافعية الحكم بالعرف؛ أي: بعرف أمثال اللّابس. لكن ورد النهي عن اتّخاذه مثقالا في خبر حسن، وضعّفه النوويّ في «شرح مسلم» ، لكنّه معارض بتصحيح ابن حبّان وغيره له، وأخذ بعضهم بقضيته. وللرجل لبس خواتيم، ويكره أكثر من اثنين. (وكان فصّه) - بفتح أوّله وكسره؛ وقد يضمّ وبتشديد الصاد-: ما ينقش فيه اسم صاحبه أو غيره (حبشيّا) ؛ أي: حجرا منسوبا إلى الحبش، لأنّه معدنه. رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 و (الورق) : الفضّة. و (الفصّ) : ما يكتب عليه اسم صاحبه. و (الحبشيّ) : منسوب إلى الحبش، فإنّه كان من جزع؛ وهو: خرز فيه بياض وسواد، أو من عقيق، ومعدنهما بالحبشة. (والورق) - بكسر الراء وتسكّن تخفيفا-: (الفضّة) وهي في الأصل النقرة المضروبة، وقيل: النقرة مضروبة أوّلا. (والفصّ) قال القسطلّاني: بفتح الفاء والعامّة تكسرها، وأثبتها بعضهم لغة، وزاد بعضهم الضمّ، وعليه جرى ابن مالك في «المثلّث» . انتهى. وفي «القاموس» : الفصّ للخاتم مثلّثة، ووهم الجوهريّ في جعله الكسر لحنا. نعم قال ابن السكّيت والفارابيّ: إنّه رديء. وللفصّ معان كثيرة، والمراد هنا: (ما يكتب) أي: ينقش (عليه اسم صاحبه) أو غيره. (والحبشيّ: منسوب إلى الحبش) ؛ أي: جيء به من الحبشة، (فإنّه كان من جزع) - بفتح الجيم وسكون الزاي- (وهو: خرز فيه بياض وسواد) يشبه به الأعين، (أو من عقيق) كأمير (ومعدنهما بالحبشة) . وهذا أقرب ممّا قيل: إنّ معدنهما باليمن؛ وهي من الحبشة، أو أنّ لونه حبشيّ، أي: أحمر يميل إلى السواد، أو صانعه حبشيّ، أو مصنوع كصنع الحبشة. هذا عصارة ما في الشروح المشهورة والزّبر المتداولة!! لكن الوجه الذي لا محيد عنه ما قاله الجلال السيوطيّ وغيره؛ اعتمادا على ما في «مفردات» ابن البيطار: إنّ الحبشيّ نوع من الزبر جد يكون ببلاد الحبش؛ لونه يميل إلى الخضرة، من خواصّه أنّه ينقي العين، ويجلو ظلمة البصر؛ ذكره المناوي في «شرح الشمائل» . وأمّا خاتم العقيق!! فعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تختّموا بالعقيق، واليمين أحقّ بالزّينة» . وفي سنده مجهول، بل قال في «اللسان» : هو موضوع بلا ريب، لكن لا أدري من وضعه. انتهى. وروي بلفظ: «تختّموا بالعقيق فإنّه ينفي الفقر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه لبس خاتما كلّه عقيقا. وعن عائشة مرفوعا: «تختّموا بالعقيق فإنّه مبارك» أخرجه ابن عديّ، والبيهقيّ في «الشعب» ؛ من طريق يعقوب بن الوليد وهو متروك، بل كذّبه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما. وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «من تختّم بالعقيق لم يزل يرى خيرا» . أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ؛ من طريق أبي بكر بن شعيب؛ عن مالك؛ عن الزهريّ؛ عن عمرو بن الشّريد؛ عن فاطمة. قال ابن حبّان: إنّ ابن شعيب يروي عن مالك ما ليس من حديثه، لا يحلّ الاحتجاج به. قال السخاوي: وهذا الحديث عند الطبرانيّ، وأبي نعيم، وغيرهما من طرق سواه، ومع ذلك فهو باطل، وكذا ورد في خاتم العقيق أحاديث غير هذا؛ كحديث عمر: «تختّموا بالعقيق، فإنّ جبريل أتاني به من الجنّة، وقال: تختّم به، وأمر أمّتك أن تتختّم به» . رواه الديلميّ؛ وهو موضوع. وحديث علي: «من تختّم بالعقيق، ونقش فيه: وما توفيقي إلّا بالله وفّقه الله لكلّ خير، وأحبّه الملكان الموكلان به» . وهذا كذب؛ قاله السخاوي. وكلّ ما ورد في خاتم العقيق من الأحاديث؛ فإنّه لا يثبت؛ وإن كثرت طرقه كما قاله الحافظ ابن رجب-. قال القسطلاني في «المواهب» : (ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه لبس خاتما كلّه) تأكيد لخاتم (عقيقا) نعت له. قال السيوطي في «مختصر الموضوعات» : وأمثل ما ورد في هذا الباب حديث البخاريّ في «التاريخ» : «من تختّم بالعقيق لم يقض له إلّا بالّتي هي أحسن» . انتهى. فهذا أصل أصيل فيه. انتهى؛ نقله الزرقاني رحمه الله تعالى. والعقيق كأمير: خرز أحمر تتّخذ منه الفصوص يكون باليمن بالقرب من الشّحر، يتكوّن ليكون مرجانا فيمنعه اليبس والبرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم من فضّة فصّه منه. قال التيفاشي: يؤتى به من اليمن من معادن له بصنعاء؛ ثمّ يؤتى به إلى «عدن» ، ومنها يجلب إلى سائر البلاد، وذكر «القاموس» في مادة قرأ: أنّ معدن العقيق في موضع قرب صنعاء يقال له «مقرأ» ، وبسواحل بحر روميّة منه جنس كدر كماء يجري من اللّحم المملّح، وفيه خطوط بيض خفيّة؛ وهو المعروف بالرطبي؛ قاله التيقاشي. وأجود أنواعه الأحمر، فالأصفر، فالأبيض، وغيرها رديء، ومن خواصّ الأحمر منه: أنّ من تختم به سكنت روعته عند الخصام، وزال عنه الهمّ والخفقان، وانقطع عنه الدم من أي موضع كان؛ ولا سيّما النساء اللّواتي يدوم طمثهنّ، وشربه يذهب الطحال، ويفتح السدد، ونحاتة جميع أصنافه تذهب حفر الأسنان، ومحروقه يثبت متحرّكها ويشدّ اللّثّة، والواحدة «عقيقة» بهاء، والجمع عقايق. قاله في «شرح القاموس» . (و) أخرج البخاريّ، وغيره، وهذا لفظ «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان خاتمه صلّى الله عليه وسلم من فضّة فصّه منه) «من» تبعيضية. والضمير للخاتم؛ أي: فصّه من بعضه؛ لا أنّه حجر منفصل عنه. قال العراقيّ: لم ينقل كيف كان فصّ الخاتم: أمربّعا، أم مثلثا، أم مدورا؟ إلّا أنّ التربيع أقرب إلى النقش فيه. انتهى. وقد تقدّم في رواية مسلم أنّ فصّه كان حبشيا. قال النوويّ في «شرح مسلم» : قال ابن عبد البرّ رواية «فصّه منه» أصحّ. وقال غيره: كلاهما صحيح، ويجمع بينهما بتعدّد الخاتم، فلا تعارض بين رواية مسلم، والبخاريّ. وبهذا جمع البيهقيّ؛ فقال في «الشعب» : حديث كان فصّه حبشيا فيه دلالة على أنّه كان له خاتمان، أحدهما فصّه حبشيّ، والآخر فصّه منه. وقال في موضع آخر: الأشبه بسائر الروايات أنّ الذي كان فصّه حبشيا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضّة، فكان يختم به ولا يلبسه. الخاتم الذي اتّخذه من ذهب ثمّ طرحه، والذي كان فصّه منه هو الذي اتّخذه من فضة. وفي حديث معيقيب: كان خاتمه من حديد ملويّ عليه فضّة، فربّما كان في يده، وليس في شيء من الأحاديث أنّه ظاهر بينهما؛ أي: لبسهما معا. ووافقه على هذا الجمع ابن العربيّ، والقرطبيّ، والنوويّ، قال الحافظ ابن حجر: وهو أظهر. وقد ورد في حديث غريب كراهة كون فصّ الخاتم من غيره. ففي كتاب «المحدّث الفاصل» ؛ من رواية عليّ بن زيد؛ عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه كره أن يلبس خاتما ويجعل فصّه من غيره، فالمستحبّ أن يكون فصّ الخاتم منه لا من غيره. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم اتّخذ) أي: اقتنى (خاتما من فضّة) . جزم ابن سيّد الناس بأنّ اتّخاذه صلّى الله عليه وسلم للخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنّه كان في السادسة، وجمع بأنّه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ لأنّه إنما اتّخذه عند إرادة مكاتبة الملوك، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ستّ، ووجّه الرسل الذين أرسلهم إلى الملوك في المحرم من السابعة، وكان الاتّخاذ قبيل التوجيه. قال ابن العربي: وكان قبل ذلك إذا كتب كتابا ختمه بظفره. قال الزين العراقي: ولم ينقل كيف كانت صفة خاتمه الشريف: هل كان مربعا، أو مثلثا، أو مدوّرا؟ وعمل الناس في ذلك مختلف، لكن التربيع أقرب إلى النقش فيه والختم به. (فكان يختم به) الكتب التي يرسلها للملوك (ولا يلبسه) - بفتح الموحدة-. وهذا ينافي الأخبار الآتية الدالة على أنّه كان يلبسه في يمينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يلبس خاتمه في يمينه. ويدفع التنافي بأنّ له صلّى الله عليه وسلم خاتمين؛ أحدهما: منقوش بصدد الختم به، وكان لا يلبسه، والثاني: كان يلبسه ليقتدى به، أو أنّ المراد أنّه لا يلبسه دائما بل غبّا، فلا منافاة حينئذ. وقد يقال: لم يلبسه أوّلا بل اتّخذه لضرورة الختم؛ ولم يلبسه، فخاف من توهّم أنّه اتّخذه لزينة فلبسه، والله أعلم. (و) أخرج أبو داود، والنسائي، وابن حبّان وصحّحه، والترمذيّ في «الشمائل» واللّفظ له؛ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يلبس) - بفتح الباء-؛ من اللّبس- بضم اللّام- (خاتمه) بفتح التاء وتكسر- (في يمينه) ؛ أي: في خنصر يده اليمنى، فالتختّم فيها أفضل اقتداء به صلّى الله عليه وسلم لكونه أكثر أحواله؛ كما قال ابن حجر، ولأنّ التختّم فيه نوع تكريم، وتشريف، وتزيّن، واليمنى بذلك أحقّ، وكونه صار شعار الروافض!! لا أصل له. وتختّمه في اليسار الذي أخذ به مالك؛ ففضّله على اليمين!! حمله الشافعيّة على بيان الجواز، وقول بعضهم: «التختّم في اليسار مرويّ عن عائشة، وجميع الصحب، والتابعين» !! معارض بقول الحافظ الزين العراقيّ في «شرح الترمذيّ» وتبعه تلميذه الحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى-: ورد تختّمه في اليمين من رواية تسعة من الصحابة، وفي اليسار من رواية ثلاثة منهم. هكذا قال الحافظان، وذكرهما الثلاثة فقط يعكّر عليه نقل الزين العراقي نفسه التختّم في اليسار عن الخلفاء الأربعة، وابن عمرو، وعمرو بن حريث، لكنّ سنده إلى الخلفاء الأربعة منقطع. وقول ابن رجب «ورد في حديث أنّ تختّمه في اليسار آخر الأمرين من فعله صلّى الله عليه وسلم» !! لا يقاوم نقل الترمذيّ عن البخاريّ أنّ التختّم في اليمين أصحّ شيء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب، وإذا كان أصحّ؛ فلا وجه للعدول عن ترجيح أفضليّته. ويجمع بين روايات اليمين وروايات اليسار: بأنّ كلّا منها وقع في بعض الأحوال، أو أنّه صلّى الله عليه وسلم كان له خاتمان؛ كلّ واحد في يد على ما فيه، كما تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 والتّختّم في اليسار ليس مكروها، ولا خلاف الأولى، بل هو سنّة لوروده في أحاديث صحيحة، لكن التّختّم في اليمين أفضل؛ لأنّ أحاديثه أصحّ ... الجمع بذلك، بين ما فصّه حبشيّ، وما فصّه منه. ذكره المناوي، والباجوري؛ قالا: وقد أحسن الحافظ العراقيّ حيث نظم ذلك فقال: يلبسه كما روى البخاري ... في خنصر يمين أو يسار كلاهما في مسلم ويجمع ... بأنّ ذا في حالتين يقع أو خاتمين كلّ واحد بيد ... كما بفصّ حبشيّ قد ورد (و) بالجملة ف (التّختّم في اليسار) - بفتح الياء- (ليس مكروها) كراهة تنزيه؛ (ولا خلاف الأولى، بل هو) ؛ أي: التختّم في اليسار (سنّة لوروده في أحاديث صحيحة) منها حديث مسلم، عن أنس رضي الله عنه: «كان خاتمه صلّى الله عليه وسلم في هذه، وأشار لخنصر يسراه. ومنها حديث أبي داود؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يساره. بل قال في «المواهب» : إنّه نصّ الإمام أحمد في رواية صالح؛ قال: التختّم في اليسار أحبّ إليّ. وهو مذهب الإمام مالك. ويروى أنّه كان يلبسه في يساره، وكذلك الإمام الشافعيّ. بل ذكر بعض الحفاظ أنّ التختّم في اليسار مرويّ عن عامّة الصحابة، والتابعين، ومعنى كونه مرويّا عن عامتهم أنّهم قائلون بأفضليّته على اليمين، لا أنّهم نقلوه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. (لكن التّختّم في اليمين أفضل) من التختّم في اليسار، بل قال الترمذيّ في «جامعه» : روي عن أنس: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم تختّم في يساره، وهو لا يصح. انتهى. لكنّ كلام الترمذيّ مردود برواية مسلم السابقة وغيرها، ولذلك ساغ قوله: (لأنّ أحاديثه) ؛ أي: التختم في اليمين (أصحّ) ، وأكثره من أحاديث التختّم في اليسار، فقد روى البخاريّ، والترمذي؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 قاله الباجوريّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتختّم في يساره. كان صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه. ورواه مسلم، والنسائي؛ عن أنس رضي الله عنه وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن جعفر. روى حمّاد بن سلمة قال: رأيت ابن أبي رافع يتختّم في يمينه، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت عبد الله بن جعفر يتختّم في يمينه. وقال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه» . أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، وقال الترمذيّ: قال محمّد- يعني البخاريّ-: هذا أصحّ شيء روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب. وفي «الشمائل» للترمذيّ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه. وروى أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن محمّد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمنى فسألته، فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، ولا إخاله إلّا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه؛ (قاله) ؛ أي: هذا الكلام الذي نقله المصنّف متصرّفا فيه؛ قاله شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) في حاشيته المسماة ب «المواهب اللدنية على الشمائل الترمذيّة» . (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يساره) ورمز له برمز مسلم، وقد مرّ حديث أبي داود؛ عن ابن عمر في ذلك. بل قال الحافظ ابن رجب: وقد جاء التصريح بأنّ تختّمه عليه الصلاة والسلام في يساره كان آخر الأمرين، في حديث رواه سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير؛ عن عبد الله بن عطاء؛ عن نافع؛ عن ابن عمر: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه، ثمّ إنّه حوّله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ......... إلى يساره. أخرجه ابن عديّ، وأبو الشيخ، واعتمد ذلك البغويّ في «شرح السنة» . وجمع بها بين الأخبار. وتعقّبه الطبريّ: بأنّ ظاهره النسخ وليس بمراد، وقال الحافظ ابن حجر: لو صحّ هذا لكان قاطعا للنزاع! لكنّ سنده ضعيف، وله شاهد عند ابن عساكر عن عائشة بإسناد ضعيف أيضا. وجمع البيهقيّ بين أحاديث تختّمه في يمينه، وأحاديث تختّمه في يساره؛ بأنّ الذي لبسه في يمينه خاتم الذهب، ثمّ نبذه كما في حديث ابن عمر، والذي في يساره خاتم الفضّة. انتهى «زرقاني» . ولم يبيّن في هذا الحديث وما قبله من الأحاديث في أيّ الأصابع وضعه فيها، لكن الذي في «الصحيحين» : تعيين الخنصر. بل في مسلم، وأبي داود، والترمذيّ: النهي عن لبسه في السبابة والوسطى، ولم يثبت في الإبهام والبنصر شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا عن صحبه!! فثبت ندبه في الخنصر فقط، فالسنّة إذن جعله في الختصر. وحكمته: أنّه أبعد عن الامتهان فيما يتعاطاه الإنسان باليد، وأنّه لا يشغل اليد عمّا تزاوله من الأعمال، بخلاف ما لو كان في غير الخنصر. انتهى «مناوي» . والحاصل: أنّه يجوز التختّم في اليمين واليسار؛ ولو لغير ذي منصب، وتحصل السنّة بكلّ منهما، كما تحصل السنّة بلبس الخاتم؛ ولو مستعارا، أو مستأجرا، والأوفق للاتّباع للبسه بالملك، وكونه في الخنصر أفضل. ويجوز تعدّد الخواتيم اتخاذا. وأمّا الاستعمال: فمفهوم كلام الرافعي عدم الجواز، وبه صرّح المحبّ الطبريّ؛ فقال: المتّجه أنّه لا يجوز للرجل أن يلبس خاتمين من فضة في يديه، أو في إحداهما؛ لأنّ استعمال الفضّة حرام، إلا ما وردت به الرخصة، ولم ترد إلّا في خاتم واحد. وفي «التحفة» لابن حجر: ويتّجه اعتماد كلام «الروضة» الظاهر في حرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وكان صلّى الله عليه وسلّم يجعل فصّ خاتمه ممّا يلي كفّه. التعدّد مطلقا؛ لأنّ الأصل في الفضة التحريم على الرجل؛ إلّا ما صحّ الإذن فيه، ولم يصحّ في الأكثر من الواحد. ثمّ رأيت المحبّ الطبريّ علّل بذلك، وهو ظاهر جليّ. انتهى. هذا معتمد «التحفة» ، لكنّه صرح في «الإمداد» ، و «النهاية» ، وغيرهما بكراهة لبس خاتمين. انتهى. ويكره للرجل لبسه في غير الخنصر، ويجوز لبسه بفصّ، وبدونه، وجعله في باطن الكفّ أفضل، لأنّ حديثه أصحّ من حديث جعله في ظاهر الكفّ. ويجوز نقشه ولو بذكر؛ ولا يكره، ويسنّ كونه دون مثقال، فإن بلغ مثقالا، وعدّه العرف إسرافا حرم، وإلّا! فلا على الأوجه، والعبرة بعرف أمثال اللّابس كما اعتمده في «التحفة» و «النهاية» -. قال في «الإمداد» : ينبغي أنّ العرف لو اختلف باختلاف المحالّ، أو الحرف، ونحوهما: يقيّد أهل كلّ محلّ أو حرفة بعرفه. انتهى؛ نقله عنه الكردي. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يجعل فصّ خاتمه) - مثلّث الفاء كما تقدّم- (ممّا يلي كفّه) ؛ أي: ما يلي بطن كفّه؛ كما في مسلم، فجعله كذلك أفضل اقتداء بفعله صلّى الله عليه وسلم. قال العلماء: ولم يأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، فيجوز جعل فصّه في باطن الكفّ وظاهرها، وقد عمل السلف بالوجهين، وممّن اتّخذه في ظاهرها الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ قالوا: ولكن الأفضل الأوّل اقتداء به صلّى الله عليه وسلم، ولأنّه أصون لفصّه، وأسلم، وأبعد عن الزهد والإعجاب؛ كذا ذكره النووي في «شرح مسلم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وكان نقش خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (محمّد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتب إلى العجم ... والكفّ مؤنثة؛ سمّيت بذلك!! لأنّها تكفّ؛ أي: تدفع عن البدن. (و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان نقش خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «محمّد» سطر) مبتدأ وخبر، (و «رسول» سطر) مبتدأ وخبر أيضا، ويجوز في «رسول» التنوين بقطع النظر عن الحكاية، وترك التنوين نظرا للحكاية. (و «الله» سطر) مبتدأ وخبر أيضا، ويجوز في لفظ الجلالة الرفع بقطع النظر عن الحكاية، والجرّ بالنظر لها. وظاهر ذلك أنّ «محمّدا» هو السطر الأوّل، و «رسول» هو السطر الثاني، ولفظ «الجلالة» هو السطر الثالث. ويؤيّده رواية الإسماعيلي: «محمّد» سطر، والسطر الثاني «رسول» ، والسّطر الثالث «الله» . وفي «تاريخ ابن كثير» عن بعضهم أنّ كتابته كانت مستقيمة، وكانت تطبع كتابة مستقيمة «1» . انتهى. وهو معجزة ظاهرة. (و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ واللفظ لها: (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم) حين رجع من الحديبية (أن يكتب) المكاتيب التي فيها الدعوة إلى الله تعالى، ويرسلها (إلى العجم) ؛ أي: إلى عظمائهم وملوكهم، والمراد بالعجم ما عدا العرب، فيشمل الروم وغيرهم.   (1) هكذا في الأصل!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 قيل له: إنّ العجم لا يقبلون إلّا كتابا عليه خاتم. فاصطنع خاتما، فكأنّي أنظر إلى بياضه في كفّه. وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى كسرى، (قيل له) - أي: قال له رجل، قيل: من قريش، وقيل: من العجم- (: إنّ العجم لا يقبلون) - أي: لا يعتمدون- (إلّا كتابا عليه خاتم) - بالفتح والكسر- أي: نقش خاتم، فهو على تقدير مضاف. وعدم قبولهم له! لأنّه إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ؛ فلا يعملون به، ولأنّ ترك ختمه تشعر بترك تعظيم المكتوب إليه، بخلاف ختمه، فإنّ فيه تعظيما لشأنه. (فاصطنع خاتما) ؛ أي: فلأجل ذلك أمر بأن يصطنع له خاتم، فالتركيب فيه مجاز عقلي، على حد قولهم: بنى الأمير المدينة؛ والصانع له كان يعلى بن أمية. (فكأنّي أنظر إلى بياضه) ، أي: بياض الخاتم، لأنه كان من فضة (في كفّه) . ظاهره أنّه من باطن أصبعه، وفي ذلك إشارة إلى كمال إتقانه، واستحضاره لهذا الخبر حال الحكاية، كأنّه يخبر عن مشاهدة. ويدلّ هذا الحديث على مشروعيّة المراسلة بالكتب، وقد جعل الله ذلك سنّة في خلقه، أطبق عليها الأوّلون والآخرون. وأوّل من استفاض ذلك عنه نبيّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام، إذ أرسل كتابه إلى بلقيس مع الهدهد. ويؤخذ منه ندب معاشرة الناس بما يحبّون، وترك ما يكرهون واستئلاف العدوّ بما لا يضرّ، ولا محذور فيه شرعا؛ قاله المناوي. (و) في «الصحيحين» و «الشمائل الترمذيّة» ، - واللّفظ لها-: (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كتب) - أي: أراد أن يكتب ليوافق الرواية السابقة- (إلى كسرى) - بكسر أوّله وفتحه-: ملك فارس، وهو معرّب خسرو بفتح الخاء، وسكون السين، وفتح الراء- أي: واسع الملك. والنسبة إليه «كسرويّ» ، وإن شئت «كسريّ» . وعن أبي عمرو: جمع كسرى: أكاسرة على غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 وقيصر، والنّجاشيّ، فقيل له: إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا بخاتم، فصاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما حلقته فضّة، ونقش فيه: (محمّد رسول الله) . قياس، فإنّ قياسه: كسرون؛ نقله ابن الكمال. (وقيصر) ملك الروم، (والنّجاشيّ) ملك الحبشة، مخفّف عند الأكثر، وكان ذلك لقبا لكلّ من ملك إقليما من ذلك، ك «فرعون» لمن ملك القبط، و «العزيز» لمن ملك مصر، و «تبّع» لمن ملك حمير، و «خاقان» لمن ملك التّرك. وسيأتي الكلام على النجاشي في مبحث الخف. (فقيل له:) - وعند ابن سعد: فقالت له قريش-: (إنّهم) ؛ أي: هؤلاء الملوك (لا يقبلون كتابا إلّا) مختوما (بخاتم) ، لأنه إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ كما تقدم، ولذلك صرّح أصحابنا في «كتاب قاض إلى قاض» بأنّه لا بدّ من ختمه. (فصاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتما) ؛ أي: أمر بصوغه. والصوغ: تهيئة الشيء على أمر مستقيم، وتقدّم أنّ الصايغ كان يعلى بن أميّة (حلقته) - بسكون اللام، وقد تفتح- (فضّة) ، فيه إشعار بأنّه لم يكن فصّه فضّة، بل حبشيّ- على ما تقدّم في بعض الروايات- (ونقش) ببنائه للفاعل؛ أي: أمر، أو للمفعول، وهو عليه حقيقة (فيه) أي: في الخاتم؛ أي: فصّه: (محمّد رسول الله) ، وختم به الكتب. فلما جاء كتابه إلى كسرى مزّقه، فدعا عليه؛ فمزّق ملكه. ولما أتى إلى هرقل حفظه فحفظ ملكه. ولما أتى الكتاب إلى النجاشي أسلم، وذلك سنة ستّ، واسمه أصحمة، ومات سنة تسع، وصلّى على جنازته، وكتب له كتابا ثانيا ليزوّجه أمّ حبيبة رضي الله تعالى عنها. وفي هذا الحديث وما قبله: حلّ نقش اسم الله تعالى على الخاتم، والردّ على من كره ذلك؛ كابن سيرين. وقد كان نقش خاتم عليّ: لله الملك. وحذيفة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وكان صلّى الله عليه وسلّم يختم الكتب ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، فكان يلبسه في يمينه، ... وابن الجرّاح: الحمد لله. وأبي جعفر الباقر: العزّة لله. وإبراهيم النخعي: الثّقة بالله. ومسروق: باسم الله. فأولى نقش اسم الإنسان، ونسبه، ولقبه؛ ليحصل به تمييزه. قال ابن جماعة: ونقش الخواتم تارة تكون كتابة؛ وتارة تكون غيرها، فإن لم تكن كتابة؛ بل لمجرّد التحسين! فهو مقصد مباح إذا لم يقارنه ما يحرّمه، كنقش نحو صورة، وإن كان كتابة! فتارة ينقش من الألفاظ الحكميّة ما يفيد تذكّره كلّ وقت وعدم الغفلة عنه؛ كما روي أنّ عمر نقش على خاتمه: كفى بالموت واعظا. وهذا مقصد صالح، وتارة ينقش اسم صاحبه للختم به، وهذا هو المراد هنا. انتهى. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يختم الكتب) - جمع كتاب- (ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» ) - بضمّ المثنّاة الفوقيّة المشدّدة، وفتح الهاء على وزان: رطبة، والسكون لغة، وأصل التاء واو، يقال: اتّهمته في قوله؛ شككت في صدقه. أي: أنّ الكتاب إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ- كما تقدم-. (و) أخرج الإمام مالك في «الموطّأ» ، والبخاريّ؛ ومسلم في «صحيحيهما» ، وأبو داود، والنسائي، والترمذيّ، في «الجامع» و «الشمائل» - واللّفظ لها- (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتما من ذهب) ، زاد البخاريّ: «وجعل فصّه مما يلي كفّه، ونقش فيه محمّد رسول الله» . لكن ليس فيه قوله: (فكان يلبسه في يمينه) ؛ أي: قبل تحريم الذهب على الرجال. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب، فطرحه، وقال: «لا ألبسه أبدا» ، فطرح النّاس خواتيمهم. وعن ابن عمر أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضّة، وجعل فصّه ممّا يلي كفّه، ... البيهقيّ: وهذا الخاتم هو الذي كان فصّه حبشيا. (فاتّخذ النّاس خواتيم) ؛ جمع خاتم، والياء فيه للإشباع. (من ذهب) تبعا له صلّى الله عليه وسلم. (فطرحه) ، أي: رمى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وقال: «لا ألبسه أبدا» ) لما رأى من زهوّهم بلبسه، وصادق ذلك نزول الوحي بتحريمه، ففي «الصحيحين» : قال البراء: فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر فألقاه، ونهى عن التختّم بالذّهب. وفي ذلك التصريح بأنّه لم يقتصر على الإلقاء؛ لأنّه بمجرّده لا يدلّ على التحريم. قال القسطلّاني في «المواهب» : وهو- أي: التحريم- مذهب الأئمّة الأربعة: مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد وأكثر العلماء رضي الله تعالى عنهم. (فطرح النّاس خواتيمهم) ؛ أي: من أيديهم تبعا له صلّى الله عليه وسلم. والخواتيم: جمع خاتم؛ كالخواتم، والياء فيه للإشباع. قال ابن حجر: وهذا الحديث هو الناسخ لحلّه؛ مع قوله صلّى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وقد أخذ ذهبا في يد وحريرا في يد؛ وقال: «هذان حرام على ذكور أمّتي؛ حلّ لإناثها» . ووقع لبعض من لا إلمام له بالفقه هنا تخليط فاجتنبه، كيف والأئمّة الأربعة على تحريمه؟! للنهي عنه في حديث «الصحيحين» وغيرهما، ورخّصت فيه طائفة، واستدلّوا بأنّ خمسة من الصحابة ماتوا وخواتيمهم من ذهب، ويردّ بأنّ ذلك إن صحّ عنهم يتعيّن حمله على أنّه لم يبلغهم النهي عنه. انتهى. (و) في «مسلم» ، و «الشمائل» ؛- واللّفظ لها-: (عن ابن عمر أيضا) رضي الله تعالى عنهما (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم اتّخذ خاتما من فضّة) ؛ أي: للختم به، وفي رواية: اتّخذها خاتما كلّه من فضّة (وجعل فصّه ممّا يلي كفّه) . وفي رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ونقش فيه محمّد رسول الله، ونهى أن ينقش أحد عليه. لمسلم: ممّا يلي باطن كفّه. وهي تفسير للأولى. وعورض هذا الحديث بما رواه أبو داود؛ من رواية الصّلت بن عبد الله قال: رأيت ابن عبّاس يلبس خاتمه هكذا؛ وجعل فصّه على ظهرها. قال: ولا إخال ابن عبّاس إلّا وقد كان يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه كذلك. وقد يجمع بما قاله الزين العراقيّ من أنه وقع مرّة هكذا ومرّة هكذا، قال: ورواية جعله ممّا يلي كفّه أصحّ؛ فهو الأفضل. قال ابن العربي: ولا أعلم وجهه. ووجّهه النوويّ بأنّه أبعد عن الزهو والعجب، وبأنّه أحفظ للنقش الذي فيه من أن يحاكي أن ينقش مثله، أو يصيبه صدمة، أو عود صلب، فيغيّر نقشه الذي اتّخذ لأجله. (ونقش فيه) - أي: أمر بنقشه فهو بالبناء للفاعل، لكن على المجاز على حد قولهم: بنى الأمير المدينة- (محمّد رسول الله) ؛ أي: هذه الألفاظ. قال الزين العراقيّ: وهل قصد به اسمه فقط!؟ فيكون قول «رسول الله» صفة لقوله «محمّد» لا خبر له، ويكون كما لو كتب: محمد بن عبد الله، كما نقش ابن عمر على خاتمه عبد الله بن عمر، وعليه فيكون خبر المبتدأ محذوفا؛ أي: مالكه، أو صاحبه «محمد رسول الله» ، وكأنّه رمز به إلى صاحبه، كما رمز في كتب الحديث إلى صاحب تلك الرواية بكتابة اسمه عليها!! أو أراد به الإتيان بإحدى كلمتي الشهادة على أنّه مبتدأ وخبر؟ وعليه فهل أريد بعض القرآن؛ فيكون حجّة على جواز ذلك، وردّ على من كرهه من السلف، أو لم يقصد به القرآن؟ كلّ محتمل. ويدلّ على أنّه أريد إحدى كلمتي الشهادة؛ الحديث الوارد في نقش كلمتي الشهادة على الخاتم. انتهى؛ نقله المناوي. (ونهى) أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم (أن ينقش) بضمّ القاف (أحد عليه) أي: مثل نقشه؛ وهو: محمد رسول الله، كما يدلّ له رواية البخاريّ، ومسلم؛ عن أنس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وهو الّذي سقط من معيقيب في بئر أريس. و (معيقيب) : هو من أهل بدر، وكان يلي خاتم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، والخلفاء من بعده. اتّخذ رسول الله خاتما من فضّة، ونقش فيه: «محمّد رسول الله» ، وقال للنّاس: «إنّي اتّخذت خاتما من ورق، ونقشت فيه: محمّد رسول الله. فلا ينقش أحد على نقشه» . والحكمة في النهي عن ذلك: أنّه كان يختم به للملوك، فلو نقش غيره مثله لأدّى إلى الإلباس والفساد. وما روي أنّ معاذا نقش على خاتمه: (محمّد رسول الله) وأقرّه المصطفى صلّى الله عليه وسلم!! فلم يثبت، وبفرض ثبوته!! فهو قبل النهي، ويظهر- كما قاله ابن جماعة، والزين العراقيّ-: أنّ النهي خاصّ بحياته صلّى الله عليه وسلم أخذا من العلّة. انتهى باجوري بزيادة. (وهو الّذي سقط من معيقيب) بن أبي فاطمة الدوسيّ (في بئر أريس) بوزن «أمير» ، وهي الكائنة في قباء، ويقال لها: بئر الخاتم. (ومعيقيب) - بضمّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتيّتين، وقاف مكسورة بينهما، وموحدة في آخره- تصغير معقاب ك «مفضال» ، (هو) مولى سعد بن أبي العاص، وكان (من أهل بدر) : أسلم قديما بمكّة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها حتّى قدم على النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالمدينة. (وكان يلي خاتم المصطفى صلّى الله عليه وسلم) بالمدينة المنوّرة، (و) يلي خاتم (الخلفاء من بعده) ، واستعمله أبو بكر، وعمر، وعثمان على بيت المال. وهو قليل الحديث. قيل: مرويّاته سبعة أحاديث؛ اتّفق البخاريّ ومسلم على واحد منها، وانفرد البخاريّ بواحد. ومات سنة: أربعين هجريّة، وقيل: في آخر خلافة عثمان، وقيل: في خلافة عليّ. قال الزركشيّ وغيره: كان به علّة من جذام، فعولج بأمر عمر بن الخطّاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ورق، فكان في يده، ثمّ كان في يد أبي بكر، وفي يد عمر، ثمّ كان في يد عثمان ... بالحنظل فوقف، وكان بأنس طرف من برص. قال بعض الحفّاظ: ولا يعرف في الصحابة من أصيب بذلك غيرهما. (و) أخرج الشيخان: البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» ، والترمذيّ في «الشمائل» ، وغيرها؛ (عن عبد الله بن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتما من ورق) - بكسر الراء- وفي رواية: من فضّة. وكان اتّخاذه سنة سبع، كما جزم به ابن سيّد الناس، وجزم غيره بأنّه في السادسة!! وجمع الحافظ ابن حجر بينهما بأنّه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ كما مرّ، وكان صانع الخاتم يعلى بن منيّة، وهو اسم أمّه، واسم أبيه: أميّة؛ كما تقدّم. وروى الدارقطنيّ، وغيره؛ عن يعلى بن منيّة قال: أنا صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه: محمد رسول الله. (فكان في يده) ؛ أي: في خنصر يده اليمنى، فهو من باب إطلاق الكلّ وإرادة الجزء، وهكذا يقال في لاحقه، (ثمّ) بعد وفاة المصطفى صلّى الله عليه وسلم (كان في يد أبي بكر) الصدّيق رضي الله تعالى عنه مدّة خلافته، (و) بعد أبي بكر كان (في يد عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه مدّة خلافته، (ثمّ) بعد موت عمر (كان في يد عثمان) بن عفّان رضي الله تعالى عنه ستّ سنين من خلافته، كما في بعض الروايات، وثمّ هنا للتراخي في الرتبة. وظاهر هذا الحديث مخالف لما ورد، من أنّ أبا بكر جعل الخاتم عند معيقيب ليحفظه ويدفعه للخليفة وقت الحاجة إلى الختم؛ كما رواه أبو داود، وغيره. بل في رواية البخاريّ؛ عن ابن عمر: «فلبس الخاتم بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 حتّى وقع في بئر أريس، نقشه: محمّد رسول الله. وهو صريح في المخالفة لرواية أبي داود وغيره، وتدفع المخالفة بأنّهم لبسوه أحيانا للتبرّك، وكان مقرّه عند معيقيب؛ جمعا بين الروايات. وقيل: المراد من كون الخاتم في أيديهم أنّه كان عندهم في تصرّفهم، كما يقال في العرف: هذا الشيء في يد فلان؛ أي: عنده وفي تصرّفه، فلا يلزم منه لبسه، وهذه تردّه رواية البخاريّ المارّة، والله أعلم. ويؤخذ من ذلك: أنّه يجوز للشخص استعمال ختم منقوش باسم غيره بعد موته. لأنّه لا التباس بعد موته، قال النووي: وفي الحديث التبرّك بآثار الصالحين، ولبس ملابسهم. انتهى. (حتّى وقع) ؛ أي: إلى أن سقط في أثناء خلافة عثمان منه، كما في رواية البخاريّ، أو من معيقيب، كما في «الشمائل» ، وبعض طرق مسلم، ويحتمل كما في «القسطلّاني» - أنّه لمّا طلبه من معيقيب ليختم به شيئا استمرّ في يده، وهو متفكّر في شيء يعبث به، ثمّ دفعه في تفكّره إلى معيقيب، فاشتغل بأخذه فسقط، فنسب سقوطه لكلّ منهما، أحدهما حقيقة، والآخر مجازا. هذا غاية ما جمع به، والراجح من حيث الصناعة الأوّل، لاتّفاق رواية الشيخين عليه. انتهى. (في بئر) - بالهمز، وتخفّف، وهي مؤنثة- (أريس) - بفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون المثنّاة التحتية، آخره سين مهملة، بوزن جليس، يصرف ولا يصرف- وهي بئر بحديقة قريبة من مسجد قباء؛ نسبة إلى رجل من اليهود اسمه أريس، وهو الفلّاح بلغة أهل الشام، ويقال لها: بئر الخاتم أيضا. (نقشه) ؛ أي: نقش ذلك الخاتم أو نقش فصّه: (محمّد رسول الله) ، أي: هذه الكلمة على الترتيب، زاد في رواية أبي داود، والنسائي: فاتّخذ عثمان خاتما، ونقش فيه: محمّد رسول الله، فكان يختم به. وله شاهد من مرسل عليّ بن الحسين عند ابن سعد في «الطبقات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 قال الباجوريّ: (وفي وقوعه إشارة إلى أنّ أمر الخلافة كان منوطا به، فقد تواصلت الفتن، وتفرّقت الكلمة، وحصل الهرج، ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلّى الله عليه وسلّم ما في خاتم سليمان من الأسرار؛ لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد.. ذهب ملكه، وخاتمه صلّى الله عليه وسلّم لمّا فقد من عثمان.. انتقض عليه الأمر، وفي «الصحيح» ؛ عن أنس: كان خاتم النبيّ صلّى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلمّا كان عثمان جلس في بئر أريس، فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به فسقط، فاختلفنا ثلاثة أيّام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده. قال الحافظ ابن حجر وغيره: كان ذلك في السنة السابعة من خلافته رضي الله تعالى عنه. (قال الباجوريّ) كالحافظ ابن حجر، وغيره: (وفي وقوعه) ؛ أي: سقوطه في البئر (إشارة إلى أنّ أمر الخلافة) من حيث جمع الكلمة، واستقرار الأمور (كان منوطا) - أي: مربوطا ومعلّقا- (به) ؛ أي: بذلك الخاتم، لما فيه من السرّ؛ لأنّه من آثار الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم، (فقد تواصلت) - أي: تتابعت- (الفتن) بعد سقوطه، (وتفرّقت الكلمة) - أي: كلمة المسلمين- ونقموا على عثمان أشياء، واختلّ نظام الطاعة له، وكان من أمر عثمان ما هو مذكور في التواريخ. ثم أسندت الخلافة بعده إلى عليّ بن أبي طالب؛ مع وجود المنازعين له بسبب قتلة عثمان الذين كانوا في جيش عليّ، ووقعت حروب طاحنة بين الجماعة؛ التابعين لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وبين الجماعة المخالفين له، (وحصل) شقاق كبير بين الطائفتين، وكثر (الهرج) ؛ أي: القتل بين الفريقين، (ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلّى الله عليه وسلم) شيء من الأسرار؛ مثل (ما) كان (في خاتم) نبيّ الله (سليمان) بن داود عليهما الصلاة والسلام (من الأسرار) ، وذلك (لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد ذهب ملكه، و) كذلك (خاتمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ فإنّه (لمّا فقد من عثمان) بن عفّان (انتقض عليه الأمر) ، وخرج عليه الخارجون، ووقع الاختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله، واتّصلت إلى آخر الزّمان) انتهى. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أشفق من الحاجة ينساها.. ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط. إلى الآن، (وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله) شهيدا مظلوما؛ وهو يقرأ القرآن، والمصحف بين يديه، فوقع الدم على قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (137) [البقرة] . (و) كان ذلك مبدأ الفتن التي (اتّصلت إلى آخر الزّمان) . قال ابن علّان في شرح «الأذكار» : والناس يعجبون من خاتم سليمان؛ وكانت المعجزة به في الشام فحسب! وهذا الخاتم مذ عدم اختلفت الكلمة، وزال الاتّفاق في جميع بلاد الإسلام، من أقصى خراسان إلى آخر بلاد المغرب! حفظنا الله وإيّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. آمين. (انتهى) ؛ أي: كلام الباجوري. (و) أخرج ابن سعد، والحكيم الترمذيّ؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أشفق من الحاجة ينساها؛ ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط) . ورواه أبو يعلى؛ عن ابن عمر بلفظ: كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط في أصبعه خيطا ليذكرها. وفي سنده سالم بن عبد الأعلى؛ رماه ابن حبّان بالوضع، واتّهمه أبو حاتم بهذا الحديث، وقال: هذا حديث باطل. وروى ابن شاهين في «الناسخ» له النهي عنه، ثم قال: وجميع أسانيده منكرة، ولا أعلم شيئا منها صحيحا. ولابن عديّ بسند ضعيف؛ عن واثلة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة أوثق في خاتمه خيطا. وللدار قطني في «الأفراد» ؛ عن رافع بن خديج قال: رأيت في يد النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خيطا، فقلت: ما هذا؟! قال: «أستذكر به» . انتهى. ذكر ذلك كلّه في «كشف الخفا ومزيل الإلباس» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل الخلاء.. نزع خاتمه. والذكر والنسيان من الله تعالى، لكنّ ربط الخيط سبب من الأسباب؛ لأنه نصب العين، فإذا رآه! ذكر ما نسي. فهذا سبب وضعه الله تعالى لعباده كسائر الأسباب، كحوز الأشياء بالأبواب، والأقفال، ونحوهما، وأهل اليقين؛ وهم الأنبياء لا تضرّهم الأسباب، بل يتعيّن فعلها عليهم للتشريع. والنسيان- كما قال بعض العارفين- من كمال العرفان؛ لأنّ الله تعالى نزّه نفسه عنه، وجعله من حقيقة العبد. (و) أخرج أبو داود، والترمذيّ وقال: حسن، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبّان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، لكن قال النوويّ: ضعّفه أبو داود، والنسائي، والبيهقيّ، والجمهور، قال: وقول الترمذي: حسن! مردود. انتهى. وكذا رواه الترمذيّ في «الشمائل» ، واللّفظ لها، كلّهم؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء) - بالفتح والمدّ-؛ أي: أراد الدخول إلى المحلّ الذي يتخلّى فيه لقضاء الحاجة، ويسمّى ب «الكنيف» ، والحش، والبراز- بفتح الموحّدة- والغائط، والمذهب، والمرفق، والمرحاض. وسمّي بالخلاء! لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، أو لأنّ الشيطان الموكّل به اسمه «خلاء» ، ونصبه بنزع الخافض لا بالظرفيّه؛ خلافا لابن الحاجب، لأنّ «دخل» عدّته العرب بنفسه إلى كلّ ظرف مكان مختصّ، تقول: دخلت الدار، ودخلت المسجد، ونحوهما، كما عدّت «ذهب» إلى الشام خاصّة؛ فقالوا: ذهبت الشام، ولا يقولون: ذهبت العراق، ولا اليمن. انتهى «مناوي» . (نزع) ، وفي رواية أبي داود، وغيره: وضع (خاتمه) - بفتح التاء، وتكسر- أي: نزعه ووضعه خارج الخلاء، لاشتماله على اسم معظّم، بل على جملة من القرآن وهي (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) [49/ الفتح] . فاستصحابه في الخلاء مكروه تنزيها، وقيل: تحريما! وقد صرّح في رواية الحاكم بأنّ سبب الوضع ما نقش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وجاء رجل وعليه خاتم من شبه. وفي رواية: من صفر؛ وهو: نوع من النّحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام؟!» ، فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل عليه، ففيه: أنّ استصحابه في الخلاء ما نقش عليه معظّم مكروه كراهة تنزيه، وقيل كراهة تحريم. ولو نقش اسم معظّم كمحمّد، وجبريل، وقصد به المعظّم! كره استصحابه؛ كما رجحّه ابن جماعة، فإن لم يقصده! فلا؛ أخذا من الرافعيّ، نصّ الشافعي على حلّ كتابة «الله» في وسم نعم الصدقة «1» ؛ مع كونها تتلطّخ بالخبث؛ لأنّ المقصود من ذلك إنّما هو التمييز. (و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، والترمذيّ، وأبو داود، وابن حبّان في «صحيحه» ، والضياء في «المختارة» ، وأبو يعلى والبزّار في «مسنديهما» ، وغيرهم؛ باختلاف في بعض الألفاظ، وكلّهم يروونه عن بريدة- بالتصغير- بن الحصيب- بمهملتين مصغّرا أيضا- رضي الله تعالى عنهما قال: (جاء رجل) ، رواية الجماعة المذكورين: أنّه رأى رجلا جاء (وعليه خاتم من شبه) - بفتح الشين المعجمة والموحدة، وبإسكان الموحدة وكسر المعجمة؛ لغتان- ضرب من النحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، وسمّي بذلك لشبهه بالذهب لونا، (وفي رواية) للترمذيّ: (من صفر) - بضمّ الصاد المهملة، وإسكان الفاء، وبالراء، بدل من شبه، وهما بمعنى. (وهو) - أي: الصّفر- (نوع من) جيّد (النّحاس كانت الأصنام تتّخذ) - أي: تصنع- (منه) في الجاهليّة، (فقال:) - أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم للرّجل- ( «ما لي أجد) - أشمّ- (منك ريح الأصنام؟!» ) فضمّن «أجد» معنى «أشمّ» ، وأطلق على الأثر الذي يدركه منه: «ريحا» مجازا. (فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد، فقال) : - أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم- ( «ما لي أرى عليك حلية أهل   (1) العلامة التي توضع على إبل الصدقة لتتميز عن غيرها وتصرف إلى مصارفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 النّار؟!» ، فطرحه، وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟ قال: «من ورق ولا تتمّه مثقالا» . النّار؟!» ) - أي: زيّ الكفّار- فكرهه لذلك، أو لرائحته؛ (فطرحه) ، ثم قال له بعد ما جاءه وعليه خاتم من ذهب فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل الجنّة؟!» . فطرحه. (وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟ قال: «من ورق) - بكسر الراء- وفي رواية: «اتّخذه من فضّة؛ (ولا تتمّه مثقالا» ) - بكسر فسكون- درهم وثلاثة أسباع درهم. قال ابن الأثير: وهو في الأصل مقدار من الوزن أيّ شيء كان؛ قلّ أو كثر. فمعنى مثقال ذرة: وزنها. انتهى. وفي رواية: «ولا تزده على مثقال» . وروي عند ابن عديّ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أراد صلّى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى فقال رجل: إنّهم لا يقرؤون كتابا إلّا مختوما، فأمر أن يعمل له خاتم من حديد، فقال له جبريل: انبذه من أصبعك! فنبذه، وأمر بخاتم من نحاس، فقال له جبريل: انبذه! فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق، فجعله في أصبعه، فأقرّه جبريل. انتهى. قال ابن حجر: يجوز التختّم بنحو: الحديد، والنحاس، والرصاص بلا كراهة. وخبر: «ما لي أرى عليك حلية أهل النّار؟» لرجل وجده لابسا خاتما من حديد! ضعيف، لكن حسّنه بعضهم، فالأولى ترك ذلك. انتهى. وقال النووي في شرح «المهذّب» : قال صاحب «الإبانة» : يكره الخاتم من حديد، أو شبه «1» ، وتابعه صاحب «البيان «2» » فقال: يكره الخاتم من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لحديث بريدة المذكور. وقال صاحب «التتمة» : لا يكره   (1) الشبه- بفتحتين-: من المعادن، ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع النحاس. (2) في الفقه الشافعي للعمراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 ......... الخاتم من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لحديث «الصحيحين» ؛ عن سهل: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال للّذي خطب الواهبة نفسها: «التمس ولو خاتما من حديد!!» . قال: ولو كان فيه كراهة! لم يأذن فيه. وفي «سنن» أبي داود بإسناد جيّد؛ عن معيقيب الصحابيّ: كان خاتمه عليه الصلاة والسلام من حديد ملويّ عليه فضّة. والمختار أنّه لا يكره؛ لهذين الحديثين. انتهى. وقال في «شرح مسلم» في الكلام على حديث المرأة الواهبة [نفسها] «1» : وفي هذا الحديث جواز اتّخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسّلف حكاه القاضي عياض، ولأصحابنا الشافعيّة في كراهته وجهان، أصحّهما: لا يكره؛ لأنّ الحديث في النهي عنه ضعيف. انتهى كلام النوويّ. واعترض تضعيفه للحديث بتصحيح ابن حبّان، والضياء، وغيرهما له، فاعتذر القسطلّاني عن النووي بأنه تضعيف نسبيّ؛ أي: أنّ تضعيفه للحديث إنّما هو بالنسبة إلى مقاومة حديث سهل بن سعد في «الصحيحين» ، وغيرهما، في قصة الواهبة نفسها؛ لا مطلقا! فمعنى التضعيف: تقديم حديثهما عليه، على القاعدة في تقديم مرويّهما عند التعارض على غيره؛ وإن كان صحيحا، أو حسنا! إذ كيف يتوهّم أنّه ضعّفه مطلقا، - أي: حقيقة- وله في ذلك عدّة شواهد؛ إن لم ترفعه إلى درجة الصحّة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن؟! قال المناوي: وهذا الاعتذار جرى فيه على عادة أهل القرن العاشر من الانتصار لكلام النوويّ كيفما كان. والإنصاف: أنّ خبر النّهي دليل صالح لكراهة التنزيه، وحديث «الصحيحين» بيان للجواز معها؛ فلا معارضة، ولذا رجّح المالكيّة كراهة الحديد ونحوه. وإنّما يقدّم خبر الشيخين عند تحقّق المعارضه. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.   (1) في الأصل: نفسه. والصواب ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 [الفصل الرّابع في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه] الفصل الرّابع في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه (الفصل الرّابع) من الباب الثالث (في) بيان ما ورد في (صفة نعله صلّى الله عليه وسلم) ، وكيفية لبسه إيّاها، وما يتعلّق بذلك. والنّعل: كل ما وقيت به القدم عن الأرض، وهي مؤنّثة، والجمع: أنعل، ونعال؛ مثل سهم وأسهم وسهام، وربّما ذكّرت النعل باعتبار الملبوس؛ لأنّ تأنيثها غير حقيقي. ولا تشمل الخفّ عرفا؛ ومن ثمّ أفردها بترجمة؛ فقال: (و) في بيان ما ورد في صفة (خفّه) صلّى الله عليه وسلم. والخفّ معروف، جمعه: خفاف؛ كرمح، ورماح. وذكر بعض أهل السيّر: أنّه كان له صلّى الله عليه وسلم عدّة خفاف؛ منها أربعة أزواج أصابها من خيبر، ومع ذلك؛ فقد كان صلّى الله عليه وسلم ربّما مشى حافيا، لا سيّما إلى العيادات، تواضعا، وطلبا لمزيد الأجر. كما أشار إلى ذلك الحافظ زين الدين العراقيّ رحمه الله تعالى في «ألفيّته» بقوله: يمشي بلا نعل ولا خفّ إلى ... عيادة المريض حوله الملا قال ابن العربيّ: والنّعل لباس الأنبياء، وإنّما اتّخذ الناس غيره لما في أرضهم من الطين. انتهى. ولعلّه أخذه من قوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [21/ طه] مع ما ثبت من لبسه صلّى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر عند مسلم رفعه: «استكثروا من النّعال، فإنّ الرّجل لا يزال راكبا ما انتعل» . وكان ابن مسعود صاحب النّعلين، والوساد، والسّواك، والطّهور؛ كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبالان ... «الصحيح» :، كان يلي ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان يلبسه نعليه إذا قام، وإذا جلس جعلهما ابن مسعود في ذراعيه حتّى يقوم صلّى الله عليه وسلم. وروى محمّد بن يحيى؛ عن القاسم بن محمّد قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقوم إذا جلس رسول الله ينزع نعليه من رجليه، ويدخلهما في ذراعيه، فإذا قام ألبسه إيّاهما، فيمشي بالعصا أمامه حتى يدخله الحجرة. وقد ذكره جماعة؛ منهم ابن سعد: أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان صاحب نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإداوته. انتهى من «جمع الوسائل» و «جواهر البحار» للمصنّف. روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبالان) - تثنية قبال؛ بكسر القاف وبالموحّدة آخره لام-. وفي البخاريّ، وأبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، والنسائي؛ عن قتادة؛ عن أنس أنّ نعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لها قبالان بالإفراد. وفي رواية المستملي والحموي: أنّ نعلي النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لهما- بالتثنية فيهما-. وفي «الشمائل» بإسناد صحيح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبالان. انتهى. والمراد أنّ لكلّ فردة قبالين، بدليل رواية التثنية في البخاريّ. وقال الكرماني: أي: لكلّ واحد من نعل كلّ رجل قبال واحد. وردّه الحافظ ابن حجر بما للطبرانيّ، والبزّار- برجال ثقات- والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبالان، ولنعل أبي بكر قبالان، ولنعل عمر قبالان، وأوّل من عقد عقدا واحدا عثمان رضي الله عنه. انتهى؛ أي: أوّل من اتّخذ قبالا واحدا عثمان. ووجه بأنّه أراد أن يبيّن أنّ اتخاذ القبالين قبل ذلك؛ ليس لكراهة قبال واحد، ولا لمخالفة الأولى؛ بل لكون ذلك هو المعتاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 مثنّى شراكهما. و (القبال) : هو زمام يوضع بين الأصبع الوسطى والّتي تليها، ويسمّى شسعا. وبذلك يعلم أنّ ترك النّعلين ولبس غيرهما ليس مكروها؛ ولا خلاف الأولى. (مثنّى) - بضمّ الميم، وفتح المثلّثة وتشديد النّون المفتوحة، أو بفتح الميم وسكون المثلّثة وكسر النّون وتشديد الياء؛ روايتان من التّثنية، وهو: جعل الشّيء اثنين، ولا يليق جعله من الثّني؛ وهو ردّ شيء إلى شيء-. (شراكهما) - بكسر الشّين المعجمة: أحد سيور النّعل يكون على وجهها، أي: كان شراك نعله مجعولا اثنين، و «مثنى» بصيغة اسم المفعول صفة، و «شراكهما» نائب عن الفاعل، ويصحّ جعل «مثنى» خبرا مقدّما، و «شراكهما» مبتدأ مؤخّرا. وهذا الحديث إسناده صحيح؛ كما قال الحافظ العراقيّ، ورواه ابن ماجه بسند قويّ. قال المصّنّف في «جواهر البحار» : صرّح بعض الحفّاظ بأنّ نعله صلّى الله عليه وسلم كانت صفراء، قال: وفي رواية أبي الشّيخ؛ عن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه: أنّ نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت من جلود البقر. وفي لفظ أبي ذرّ: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نعلين مخصوفتين من جلود البقر. وروى الحارث بن أبي أسامة؛ عن حميد قال: حدّثني من سمع الأعرابيّ يقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليه نعلان من بقر. قال: وجزم بعض الحفّاظ بأنّه صلّى الله عليه وسلم كانت له نعل من طاق واحد، ونعل من أكثر. قال: وورد في خبر ضعيف أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «أمرت بالنّعلين والخاتم» . وروى الطّبرانيّ؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: حمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعله بالسبّابة من يده اليسرى. انتهى كلام «جواهر البحار» . (والقبال) - بكسر القاف وبالموحّدة ولام آخره- قال الباجوريّ وغيره: (هو زمام يوضع بين الأصبع الوسطى والّتي تليها، ويسمّى شسعا) - بكسر الشّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وكان صلّى الله عليه وسلّم يضع أحد القبالين بين الإبهام والّتي تليها، والآخر بين الوسطى والّتي تليها. و (الشّراك) : السّير. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان يلبس النّعال السّبتيّة؛ وهي الّتي لا شعر عليها، و ... المعجمة، وسكون السّين المهملة- بوزن (حمل) ؛ كما في «القاموس» . (و) قال الباجوريّ، والمصنّف في «جواهر البحار» ، وغيرهما: أفاد بعض حفّاظ الأئمّة أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم يضع أحد القبالين) أي: الزمامين (بين الإبهام) ؛ أي: إبهام رجله (والّتي تليها، و) يضع الزّمام (الآخر بين) الأصبع (الوسطى والّتي تليها) ، ويجمعهما؛ أي: الزّمامين إلى السّير الّذي بظهر قدمه؛ وهو الشّراك الّذي على وجهها، وكان مثّنى؛ كما في عدّة أحاديث. انتهى. (والشّراك) - بكسر الشّين المعجمة وخفّة الرّاء وكاف آخره- هو: (السّير) الرقيق الّذي يكون في النّعل على ظهر القدم. (و) أخرج البخاريّ ومسلم وغيرهما؛ في حديث طويل، والترمذيّ في «الشمائل» مختصرا، كلّهم من طريق الإمام مالك؛ عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ؛ عن عبيد بن جريج. (عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب (رضي الله تعالى عنهما، أنّه) ؛ أي: ابن عمر (كان يلبس) - بفتح الباء الموحّدة- (النّعال) ؛ أي: يختار لبسها (السّبتيّة) - بكسر السّين المهملة وسكون الموحّدة وكسر المثّناة الفوقيّة-: (وهي الّتي لا شعر عليها) ، نسبة للسّبت- بكسر السّين- وهو جلود البقر المدبوغة، سمّيت بذلك! لأنّ شعرها سبت عنها، أي: حلق وأزيل، إذ السّبت: القطع، أو لأنّها أسبتت بالدّباغ. (و) لفظ «الشّمائل» ؛ عن عبيد بن جريج: أنّه قال لابن عمر: رأيتك تلبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 قال: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس النّعال الّتي ليس فيها شعر، ويتوضّأ فيها، فأنا أحبّ أن ألبسها. النّعال السّبتيّة!! (قال: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس النّعال الّتي ليس فيها شعر) . وهي السّبتيّة كما علمت. (ويتوضّأ فيها) ؛- أي- لكونها عارية عن الشّعر، فتليق بالوضوء فيها، لأنّها تكون أنظف، بخلاف الّتي فيها الشّعر؛ فإنّها تجمع الوسخ. وظاهر قوله (ويتوضّأ فيها) : أنّه يتوضأ والرّجل في النّعل. وقال النّوويّ: معناه أنّه يتوضّأ ويلبسها بعد ورجلاه رطبتان، وفيه بعد لأنّه غير المتبادر من قوله (ويتوضّأ فيها) . (فأنا أحبّ أن ألبسها) ؛ أي: اقتداء به صلّى الله عليه وسلم. قال ابن الأثير وغيره: وجه السّؤال كونها نعال أهل النّعمة والسّعة، ولم تنعلها الصحابة، ففي صدر الحديث عند الشّيخين؛ عن عبيد أنّه قال: رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها؛ وعدّ منها هذه؟! فأجابه: بأنّه لبسها اقتداء بالمصطفى!! ولعل ترك الصّحابة للبسها أنّ فرض صحّة الاستغراق وأنّ ما نفاه عنهم السّائل هو الواقع، إذ يحتمل أنّ نفيه باعتبار علمه أنّهم لم يبلغهم فيه شيء، وامتاز ابن عمر عنهم بحفظ ذلك عن المصطفى، فالحجّة فيما رآه وفعله؛ لا في تركهم، وهذا الحديث يدلّ على طهارتها. وقد تقرّر أنّها كانت متّخذة من جلد مدبوغ، فيحتمل أنّه طهّرها بالدّبغ والغسل، ويحتمل أنّها من مذكّى، وكان دباغها لإزالة الشّعر فقط. وفيه جواز لبس النّعال على كل حال. وقال الإمام أحمد: يكره في القبور، لقول المصطفى صلّى الله عليه وسلم لمن رآه يمشي بنعليه فيها: «اخلع نعليك» . وأجيب باحتمال كونه لأذى فيهما. انتهى «مناوي وزرقاني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وعن عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه أنّه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في نعلين مخصوفتين- أي: مخروزتين- ضمّ فيهما طاق إلى طاق. (و) في «الشّمائل» أيضا (عن) أبي سعيد (عمرو) - بفتح العين- (بن حريث) بضمّ الحاء ومثلّثة آخره مصغّرا- ابن عمرو بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، صحابي صغير، وأمّا عمرو بن حريث المصري! فاختلف في صحبته. وعمرو بن حريث المخزومي أخرج حديثه السّتة، ومات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ وله اثنا عشر سنة، وسكن الكوفة، وهو أوّل قرشيّ اتّخذ بالكوفة دارا، ومسح النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رأسه ودعا له بالبركة في صفقته وبيعته؛ فكسب مالا عظيما؛ فكان من أغنى أهل الكوفة، وولي لبني أميّة بالكوفة، وشهد القادسيّة وأبلى فيها. روى عنه ابنه جعفر، وخليفة؛ واصنع؛ وهارون: مواليه، وعطاء بن السّائب، والوليد بن سويع، وسراقة بن محمّد، وإسماعيل بن أبي خالد وجماعة من التّابعين، وتوفّي سنة: - 85- خمس وثمانين هجريّة، وله عقب بالكوفة. (رضي الله تعالى عنه أنّه قال) ؛ ولفظ «الشّمائل» : حدّثنا أحمد بن منيع؛ قال: حدّثنا أبو أحمد؛ قال: حدّثنا سفيان؛ عن السدّي قال: حدّثني من سمع عمرو بن حريث يقول: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي في نعلين مخصوفتين- أي: مخروزتين-) بحيث (ضمّ فيهما طاق إلى طاق) ؛ من الخصف وهو: ضمّ شيء إلى شيء وجمعه إليه، قال العلّامة ابن حجر: قد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه كان يخصف نعله، أي: يضع طاقا فوق طاق، والمراد من هذا الحديث: أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي بالنّعلين وهما طاهرتان؛ قاله في «جواهر البحار» . وفي ذلك ردّ على من زعم أنّها كانت من طاق واحدة، وأنّ العرب كانت تمتدح به، وجعله من لباس الملوك، لكن جمع بأنّه كانت له نعل من طاق واحدة ونعل من أكثر؛ كما دلّت عليه عدّة أخبار! وهو حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يأكل- يعني الرّجل- بشماله، ... وفي سند هذا الخبر كما ترى مجهول، لكن صحّ من غير ما طريق أنّه كان يخصف نعله بيده الكريمة، وثبت أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها سئلت عمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر؛ يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وفي رواية لأحمد وابن حبان عنها: يخيط ثوبه ويخصف نعله. وفي رواية لابن سعد عنها: يرقع ثوبه ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم. وفي رواية: يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة. وقد نظم معنى ذلك الحافظ العراقيّ في «ألفيّة السّيرة» بقوله: يخصف نعله يخيط ثوبه ... يحلب شاته ولن يعيبه يخدم في مهنة أهله كما ... يقطع بالسّكّين لحما قدّما وفي هذا الحديث جواز الصّلاة في النّعلين، لكن إن كانتا طاهرتين. والله أعلم. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم نهى أن يأكل- يعني الرّجل-) هذا كلام الرّاوي؛ عن جابر أو من قبله. وذكر الرّجل!! لأنّه الأصل والأشرف؛ لا للاحتراز. وقال بعضهم: المراد بالرّجل الشّخص، بطريق عموم المجاز، فيصدق على الصّبيّ؛ لأنّه من أفراده، وفي البخاريّ ما يدلّ له. (بشماله) - متعلّق ب «يأكل» ، وهو- بكسر الشّين المعجمة- اليد اليسرى، فالأكل بها بلا ضرورة مكروه كراهة تنزيه عند الشّافعية، وكراهة تحريم عند كثير من المالكية والحنابلة، واختاره بعض الشّافعيّة؛ لما في «مسلم» : أنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله؛ فقال له: «كل بيمينك» . فقال له: لا أستطيع. فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 أو يمشي في نعل واحدة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا انتعل أحدكم.. فليبدأ باليمين، وإذا نزع.. فليبدأ بالشّمال، ... له: «لا استطعت» . فما رفعها إلى فيه بعد ذلك. ولا يخفى ما في الاستدلال بذلك على التحريم من البعد. انتهى «مناوي» . (أو يمشي) - عطف على «يأكل» - (في نعل واحدة) - بالتأنيث، فالمشي في نعل واحدة مكروه تنزيها؛ حيث لا عذر. قال البيهقيّ: وجه النّهي ما فيه من القبح والشّهرة ومدّ الأبصار نحو من يفعل ذلك، وكل لباس صار صاحبه شهرة في القبح فحكمه أن يتقى، لأنّه في معنى المثلة. انتهى. و «أو» للتّقسيم لا للشّكّ كما وهم، فكلّ ممّا قبلها وما بعدها منهيّ عنه على حدته، على حدّ قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (24) [الإنسان] ، وحملها على الواو يفسد المعنى، لأنّ المعنى عليه النّهي عن مجموعهما؛ لا عن كلّ على حدته. (و) أخرج البخاريّ، وأبو داود، والتّرمذيّ في «اللباس» وفي «الشّمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا انتعل أحدكم) - أي: إذا أراد أن يلبس أحدكم نعليه- (فليبدأ باليمين) أي: بالجانب اليمين- لأنّ التّنفّل من باب التّكريم، واليمين لشرفها تقدّم في كل ما كان من باب التّكريم، ولفظ البخاريّ: «بالرّجل اليمنى» . وللحمويّ والمستملي «باليمين» ؛ أي: بالنّعل اليمنى. (وإذا نزع) ؛ أي: أراد خلعهما (فليبدأ بالشّمال) ؛ أي: بالجانب الشّمال، لأنّ النّزع من باب التّنقيص. والشّمال لعدم شرفها تقدّم في كلّ ما كان من باب التقيص، لكن في إطلاق كون النّزع من باب التنقيص نظر، إذ كلّ من الحفا والانتعال له محلّ يليق به، وقد يكون الحفا في بعض المواطن ليس إهانة للرّجل بل إكراما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 فلتكن اليمين أوّلهما تنعل وآخرهما تنزع. فالأولى قول الحكيم التّرمذيّ: اليمين محبوب الله ومختاره من الأشياء، فأهل الجنّة عن يمين العرش يوم القيامة، وأهل السّعادة يعطون كتبهم بأيمانهم، وكاتب الحسنات على اليمين؛ وكفّة الحسنات من الميزان عن اليمين؛ فاستحقّت أن تقدّم اليمين، وإذا كان الحقّ في التّقديم لليمين أخّر نزعها ليبقى ذلك الحقّ لها أكثر من اليسرى. (فلتكن) الرّجل (اليمين) - لفظ البخاريّ والتّرمذي «فلتكن اليمنى» - (أوّلهما) - منصوب على أنّه خبر «كان» - (تنعل) - بالمثنّاة الفوقيّة والتحتيّة؛ مبنيّا للمفعول؛ والجملة حاليّة، (وآخرهما) بالنصب؛ خبر «كان» (تنزع) بالمثناة الفوقية والتحتية-؛ مبنيّا للمفعول، والجملة حالية. ويجوز أن يكون «أوّلهما» و «آخرهما» بالنّصب على الحال، و «تنعل» و «تنزع» : خبر «كان» ، والتّذكير في ذلك باعتبار العضو، وهذا تأكيد لما قبله كما لا يخفى. قال ابن عبد البرّ: فمن بدأ في الانتعال باليسرى أساء بمخالفته السنّة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي أن ينزع النّعل من اليسرى ثم يبدأ باليمين. وقال الحافظ ابن حجر: ويمكن أنّ مراد ابن عبد البرّ ما إذا لبسهما معا، فبدأ باليسرى فلا يشرع له نزعهما ثم لبسهما على التّرتيب المشروع لفوات محلّه. قال القسطلّانيّ: وفيه تأمّل؛ لأنّ من فعل ذلك فعليه نزعهما معا ويستأنف لبسهما على ما أمر به، فكأنّه ألغى ما وقع منه أوّلا. انتهى؛ ذكره الزّرقاني على «المواهب» . قال في «جمع الوسائل» : وأنت تعرف أنّ نزعهما معا ولبسهما معا ممّا لا يكاد يتصوّر في أفعال العقلاء. انتهى. أقول: يتصوّر ذلك فيما إذا كان جالسا على كرسيّ مثلا؛ أو ألبسه غيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يتحدّث.. يخلع نعليه. قال الباجوريّ: (كانت نعله صلّى الله عليه وسلّم مخصّرة، معقّبة، ملسّنة، كما رواه ... فيتصوّر حينئذ لبسهما معا وخلعهما معا بلا كلفة؛ والله أعلم؛ قاله الزرقاني. ونقل عياض وغيره الإجماع على أنّ الأمر فيه للاستحباب. انتهى. وكان عليه الصّلاة والسّلام ينهى أن ينتعل الرّجل قائما. وفي رواية: وهو قائم. رواه أبو داود، والتّرمذيّ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه. ورواه التّرمذيّ أيضا؛ عن أنس. قال الزّرقاني: لأنّ لبسها قاعدا أسهل وأمكن، فهو نهي تنزيه وإرشاد، ولذا أخذ منه الطّيبي وغيره تخصيص النّهي بما في لبسه قائما تعب كالتّاسومة والخفّ؛ لا قبقاب أو سرموجة. انتهى. (و) أخرج البيهقيّ في «شعب الإيمان» بإسناد ضعيف؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يخلع نعليه) أي: ينزعهما فلا يلبسهما حتى يقوم لأجل راحة قدميه. وتمام الحديث: فخلعهما يوما وجلس يتحدّث، فلمّا انقضى حديثه قال لغلام من الأنصار: «يا بنيّ؛ ناولني نعلي» . فقال: دعني أنا أنعلك. قال: «شأنك فافعله» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ إنّ عبدك يستجيب «1» إليك فأحبّه» . انتهى أي: أنّه قد تقرّب إليك بخدمة رسولك. فهنيئا له بهذه الدّعوة من سيّد البشر صلّى الله عليه وسلم. (قال) العلّامة إبراهيم (الباجوريّ) الشّافعيّ في كتاب «المواهب اللّدنّيّة على الشّمائل المحمّديّة» : وقد (كانت نعله صلّى الله عليه وسلم مخصّرة) - بالتّشديد على صيغة اسم المفعول؛ كمعظّمة، وسيأتي معناها- (معقّبة) - بالتّشديد كمعظّمة أيضا، ومثله قوله: (ملسّنة؛ كما رواه) الإمام الحافظ المحدّث الثّقة، أبو عبد الله محمد   (1) يتحبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ابن سعد في «الطّبقات» ) . و (المخصّرة) : هي الّتي لها خصر دقيق. و (المعقّبة) : هي الّتي لها عقب، أي: سير من جلد في مؤخّر النّعل يمسك به عقب القدم. و (الملسّنة) : ... (ابن سعد) بن منيع الزّهري مولاهم. ولد في البصرة سنة: - 168- ثمان وستين ومائة، وصحب الواقديّ المؤرّخ زمانا، فكتب له، وروى عنه، وعرف ب «كاتب الواقديّ» . قال الخطيب في «تاريخ بغداد» : محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدلّ على صدقه، فإنّه يتحرّى في كثير من رواياته. أشهر كتبه «طبقات الصّحابة» وقد طبع في ثمانية مجلّدات، ويعرف ب «طبقات ابن سعد» . وكانت وفاته في محلّ سكناه بغداد؛ سنة: - 230- ثلاثين ومائتين هجريّة رحمه الله تعالى. (في «الطّبقات) الكبرى» ؛ جمع فيها الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم إلى وقته؛ فأجاد وأحسن، وله طبقات أخرى صغرى ثالثة وثانية، وله كتاب «التّاريخ» رحمه الله تعالى. قال الحافظ العراقيّ: روى أبو الشّيخ بسنده؛ عن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت نعله صلّى الله عليه وسلم مخصّرة ملسّنة؛ ليس لها عقب خارج. وروى ابن سعد عن هشام بن عروة: رأيت نعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم مخصّرة معقّبة ملسّنة؛ لها قبالان. (والمخصّرة) - بالتشديد- (هي الّتي لها خصر دقيق) أو: الّتي قطع خصراها حتّى صار مستدقّين (والمعقّبة) - بالتّشديد أيضا- (هي الّتي لها عقب) - بفتح فكسر- (أي: سير) - واحد السّيور- (من جلد في مؤخّر النّعل) يضمّ به الرّجل و (يمسك به عقب القدم) كما يفعل في كثير من النّعال. (و) النّعل (الملسّنة) - بتشديد السّين على صيغة اسم المفعول؛ كمعظّمة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 هي الّتي في مقدّمها طول على هيئة اللّسان. قال الحافظ الكبير زين الدّين العراقيّ ... (هي الّتي في مقدّمها طول) ولطافة (على هيئة اللّسان) العضو المعروف. وقيل: التّي جعل لها لسان، ولسانها: الهيئة النّاتئة في مقدّمها؛ كما في «النهاية» . وذلك لأنّ سبّابة رجله صلّى الله عليه وسلم كانت أطول أصابعه، فكان في مقدم نعله بعض طول يناسب طول تلك الأصبع. وروى ابن سعد؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه أنّه قال: إنّ محمد بن علي أخرج لي نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأرانيها معقّبة مثل الحضرميّة، لها قبالان. وهو يوافق ما قاله هشام بن عروة. قال العراقيّ: والجمع بين قول يزيد «ليس لها عقب» ؛ وقول هشام «معقّبة» !! ممكن بأنّ يزيد لم يطلق العقب، وإنّما قال «ليس لها عقب خارج» وهشام أثبت كونها معقّبة!! فيكون لها عقب غير خارج. والله أعلم. (قال) العلّامة المناوي في «شرح الشّمائل» : لم أر أحدا من الشّرّاح تعرّض لصفة النّعل؛ ولا لمقدارها. انتهى. وقال المصنّف رحمه الله تعالى في «جواهر البحار» : قال الشّيخ الإمام الحافظ العلقمي في حاشيته على «الجامع الصغير في أحاديث البشير النّذير» : ورد أنّ طول نعله صلّى الله عليه وسلم شبر وإصبعان، وعرضها ممّا يلي الكعبان سبع أصابع، وبطن القدم خمس وفوقها ستّ، ورأسها محدد، وعرض ما بين القبالين إصبعان. انتهى. وهو عين ما قاله (الحافظ الكبير) الشّيخ (زين الدّين) أبو الفضل؛ عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحيم بن أبي بكر بن إبراهيم، الكردي الأصل، الشافعي، المعروف ب «الحافظ (العراقيّ» ) ولد سنة: - 725- خمس وعشرين وسبعمائة، وكان عالما بالنّحو واللّغة، والغريب والقراءات، والفقه وأصوله، غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 رحمه الله تعالى في «ألفيّة السّيرة النّبويّة» على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام: أنّه غلب عليه الحديث فاشتهر به وانفرد بمعرفته، وكان منوّر الشّيبة جميل الصورة، كثير الوقار نزر الكلام، طارحا للتكلف ضيّق العيش، شديد التوقي في الطهارة، لا يعتمد إلّا على نفسه؛ أو على رفيقه الهيثمي، وكان كثير الحياء متجمعا عن النّاس، حسن النادرة والفكاهة. قال الحافظ ابن حجر: وقد لازمته مدّة فلم أره ترك قيام اللّيل؛ بل صار كالمألوف عنده، ويتطوّع بصيام ثلاثة أيّام من كل شهر. وقد رزق السّعادة في ولده الولي العراقيّ، فإنّه كان إماما وفي رفيقه الهيثمي فإنّه كان حافظا كبيرا. ورزق أيضا السّعادة في تلامذته؛ فإنّ منهم الحافظ ابن حجر وطبقته، وتصدّى للتّصنيف والتّدريس. ومات عقب خروجه من الحمّام ليلة الأربعاء؛ ثامن شهر شعبان سنة: - 806- ستّ وثمانمائة بالقاهرة ودفن بها (رحمه الله تعالى) . آمين. (في «ألفيّة السّيرة النّبويّة» ) الّتي بيّن فيها بعض الأحوال المحمّديّه (على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام) ، فأتى به الحافظ العلقمي بنصّه وسلّمه، وناهيك به!! وإن كان بعض الحفّاظ قال: إنّي لم أقف على هذا التّحديد إلّا للعراقيّ، وكفى به حجّة!! وقد اعترف بثقته الأنام ووصفوه بأنّه حافظ مصر والشّام وخادم سنّة النّبي عليه الصلاة والسّلام. إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام مع أنّ صاحب «سبل الهدى والرّشاد» ذكر ذلك التّحديد غير معترض عليه، بل أقرّه وناهيك باطّلاعه الوافر المديد، ونص ما في «ألفيّة السّيرة» قوله رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 ونعله الكريمة المصونه ... طوبى لمن مسّ بها جبينه لها قبالان بسير وهما ... سبتيّتان سبتوا شعرهما وطولها شبر وإصبعان ... وعرضها ممّا يلي الكعبان سبع أصابع وبطن القدم ... خمس، وفوق ذا فستّ فاعلم تعالى: (ونعله الكريمة) ؛ أي: المكرّمة المحترمة، لتشرفها بأخمص خير الخلق صلّى الله عليه وسلم، ويطلق الكريم على النّفيس، ومنه: كرائم الأموال. (المصونة) عن الأدناس، (طوبى) - فعلى- من الطّيب، و «طوبى» كلمة عربيّة، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، ولا تقول: طوباك، وهذا قول أكثر النّحويّين إلّا الأخفش، وقيل: إنّ «طوبى» تأنيث «الأطيب» ؛ أي: راحة وطيب عيش (لمن مسّ بها جبينه) . والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النّزعة إلى الصّدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جبن، مثل بريد وبرد. (لها قبالان) - بكسر القاف- تثنية قبال؛ وهو زمام النّعل، أي: لكل واحدة قبالان بينهما نحو أصبعين، (بسير) ؛ أي: من سير، (وهما) ؛ أي: النّعلان (سبتيّتان) ، مثنّى سبتيّة- بكسر السّين المهملة وسكون الموحّدة وكسر المثنّاة الفوقيّة- نسبة للسّبت- بكسر السّين- وهو: جلود البقر المدبوغة، سمّيتا بذلك!! لأنّهما (سبتوا شعرهما) ، أي: أزالوه. (وطولها شبر وإصبعان، وعرضها) - مبتدأ- (ممّا يلي الكعبان) ؛ أي: ممّا يليه الكعبان، فالكعبان فاعل لا مفعول. (سبع أصابع) - خبر مبتدأ- (و) عرضها مما يلي (بطن القدم، خمس) من الأصابع، (وفوق ذا، فستّ) ؛ أي: وعرضها مما فوق بطن القدم مما يلي الأصابع فستّ من الأصابع. (فاعلم) هذا ولا يلتبس عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 ورأسها محدّد وعرض ما ... بين القبالين اصبعان اضبطهما وهذه مثال تلك النّعل ... ودورها أكرم بها من نعل فائدة: قال في «المواهب» : ذكر ابن عساكر ... (ورأسها محدّد) على هيئة اللّسان. (وعرض ما بين القبالين اصبعان؛ اضبطهما) ، فلا تنقص ولا تزد على هذا التّحديد. (وهذه) الصّفة المذكورة (مثال تلك النّعل) الشّريفة، (و) هذا (دورها) ؛ أي: تحديدها. (أكرم بها من نعل) ، تشرّفت بموطئ سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم. (فائدة:) - مشتقّة من الفيد، بمعنى: استحداث المال والخير، فهي يائيّة، وقيل: واوية؛ من الفود، كما نقله الدّماميني في «حواشي المغني» . وقيل: من فأدته؛ إذا أصبت فؤاده، لكونها تؤثّر في الفؤاد؛ أي: القلب سرورا، أو لتعلّقه بها، معنويّة كانت أو حسّيّة، وإدراكه لها إن كانت؛ معنويّة. وهي لغة: ما يستفاد من علم أو مال. وقيل: الزّيادة الّتي تحصل للإنسان، وقيل: ما حصل لك ممّا لم يكن عندك. وقيل: ما يكون الشّيء به أحسن حالا منه بغيره. واصطلاحا: كلّ مصلحة تترتّب على فعل، فهي من حيث إنّها نتيجة له تسمّى «فائدة» ، ومن حيث إنّها طرف له تسمّى «غاية» ، ومن حيث إنّها مطلوبة للفاعل بإقدامه على الفعل تسمّى «غرضا» ، ومن حيث إنّها باعثة له بذلك تسمّى «علّة غائية» ؛ قاله شيخ الإسلام زكريا مع «حواشي الشرقاوي» . (قال) أي: العلّامة القسطلاني (في) كتاب ( «المواهب) اللّدنّيّة» : (ذكر) أبو اليمن- بضمّ الياء التّحتيّة وإسكان الميم- عبد الصّمد بن عبد الوهّاب بن الحسن بن محمّد بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين (بن عساكر) . الإمام العلّامة، الحافظ الزاهد، أمين الدّين الدّمشقي؛ ثمّ المكّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 تمثال نعله صلّى الله عليه وسلّم في جزء مفرد، وأفرده بالتّأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السّلميّ الأندلسيّ، وكذا غيرهما. مولده في سنة: - 614- أربع عشرة وستمائة، وكان قويّ المشاركة في العلوم، لطيف الشّمائل، بديع النظم، خيّرا صاحب صدق وتوجه. اعتنى من صغره بالعلم؛ خصوصا الحديث، وأخذ عن جده، والحسين الزبيدي، والموفق ابن قدامة وغيرهم. وأجاز له جمع؛ منهم: عبد الرّحيم بن السّمعاني، والمؤيّد الطّوسي، وأبو روح الهروي. وله التّآليف الحسنة؛ منها جزء في تمثال نعلي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. وانقطع بمكّة المكرّمة نحوا من أربعين سنة، ومات بالمدينة المنوّرة على الحالّ بها أفضل الصّلاة والسّلام، في جمادى الأولى سنة: - 686- ست وثمانين وستمائة رحمه الله تعالى آمين. (تمثال) ؛ أي: صفة تمثال؛ (نعله) المكرّم (صلّى الله عليه وسلم) ، أي: ما يؤخذ منه صفة تصويره، وإلّا فهو لم يذكر تمثاله (في جزء مفرد) ؛ نحو ثمان ورقات في النصف. (و) كذا (أفرده بالتّأليف) الإمام الوليّ الصّالح؛ (أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السّلميّ) ، المشهور ب «ابن الحاجّ» (الأندلسيّ) ، من أهل المرية كغنية. (وكذا غيرهما) ك «مسند أفريقية» ، بل «مسند المغرب» : المعمر الأديب؛ أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن هارون، الطّائي، القرطبي، التونسي، يكنّى أبا محمّد. المولود سنة: - 603- ثلاث وستمائة، والمتوفّى سنة: - 702- اثنتين وسبعمائة، ب «الزّلاج» من تونس. وفي «تذكرة الحفاظ» للذّهبي: أنّه مات عن 99- تسع وتسعين سنة رحمه الله تعالى؛ فإنّه ألّف كتاب «الّلآلي المجموعة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 ......... باهر النّظام وبارع الكلام في وصف مثال نعلي رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام» . وسبب جمعه- على ما قال-: أنّه سئل منه نظم أبيات تكتب على مثال النّعل المشرّفة؛ فكتب في ذلك قطعة وندب أدباء قطر الأندلس لذلك فأجابوا، وكتب عن ذلك ما وصل إليه، وجملة ما فيه من المقطوعات ما ينيف على مائة وثلاثين؛ بين صغيرة وكبيرة، ولم يطّلع على هذا التّأليف الحافظ المقرىء، مع سعة حفظه وكثرة اطّلاعه ومبلغه من التّنقير والتّفتيش عما قيل في النعل، ولم يطّلع لمن قبله إلّا على عدد أقلّ من هذا بكثير، وغالب ما أودعه في «فتح المتعال» كلامه وكلام أهل عصره، ولو اطّلع عليه لاغتبط به كثيرا. انتهى؛ من «فهرس الفهارس» للشّريف عبد الحي الكتّاني رحمه الله تعالى. وكالشّهاب المقّري- بتشديد القاف- صاحب كتاب «نفح الطيب» المتوّفى سنة: - 1041- إحدى وأربعين وألف هجريّة، فإنّه ألّف كتابه «فتح المتعال في مدح النّعال الشّريفة النّبويّة» ، قال المصنّف: وقد اختصرته بمختصر سمّيته «بلوغ الآمال من فتح المتعال» أثبتّ فيه ما لا بدّ منه ولا غنى عنه، فجاء مختصرا نافعا جامعا لكلّ المقصود من ذلك الكتاب وعلمه؛ مع كونه في نحو خمس حجمه، لأنّي حذفت منه كلّ الفوائد الاستطرادية الّتي ذكرها لمناسبة، أو غير مناسبة من معان شتّى لا دخل لها في المقصود بالكلّيّة، كما حذفت معظم الأشعار الّتي ذكرها في مدح المثال الشّريف، قال: وقد كنت مند سنين أفردت مثالا هو الأصحّ والمعتمد من أمثلة النّعال الّتي ذكرها في الأصل في ورقة مخصوصة، وذكرت حوله فيها فوائد نافعة تتعلّق به، وطبعت منه أربعين ألف نسخة ونشرتها في البلاد الإسلاميّة، فمن شاء فليتطلّبه. انتهى. وهذا المؤلّف الّذي في النّعال قد أدرجه المصنّف في كتابه «جواهر البحار في فضائل النبي المختار» المطبوع في أربعة أجزاء؛ فليطلبه من أراده. ومما ذكره المصنّف في مؤلّفه المذكور قوله: قال الإمام المقّري في «الأصل» : اعلم- أرشدني الله وإيّاك إلى سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 قال: ولم أثبتها اتّكالا على شهرتها، ولصعوبة ضبط تسطيرها إلّا على حاذق. السّبيل، وأوردنا مع الرّعيل الأوّل مناهل الرحيق والسّلسبيل- أنّ جماعة من الأئمّة المغاربة، المقتدى بهم تعرضوا للمثال الطّاهر، وحسنه الباهر، وأقرّوا بمشاهدته عين النّاظر؛ منهم الإمام أبو بكر بن العربي، والحافظ أبو الرّبيع بن سالم الكلاعي، والكاتب الحافظ أبو عبد الله بن الأبّار، والرّحّالة أبو عبد الله بن رشيد الفهري، والرّاوية أبو عبد الله محمّد بن جابر الوادياشي، وخطيب الخطباء أبو عبد الله بن مرزوق، والمفتي الإمام أبو عبد الله محمد الرّضاع التّونسي، والوليّ الصّالح الشّهير؛ أبو إسحاق إبراهيم بن الحاج السّلمي الأندلسي المرّيي، وعنه أخذ ابن عساكر المثال، وغير هؤلاء ممّن يطول تعدادهم: كأبي الحكم مالك بن المرحّل، وابن أبي الخصال؛ وهم القدوة ولنا بهم أسوة.. وتلاهم من أهل الشّرق جماعة؛ كالحافظ ابن عساكر وتلميذه البدر الفارقي، والحافظ العراقي، وابنه؛ أي: الوليّ العراقيّ، والشّيخ القسطلاني في «مواهبه اللّدنّيّة» وغيرهم. قال الإمام المقّري: وقد بلغني عن بعض الأغمار ممّن هو كمثل الحمار أنّه أنكر تصويري الأمثلة الشّريفة ذات الظّلال الوريفة؛ قائلا: كيف تنهون عن الصور وأنتم تفعلونها؟!! فقلت لمن بلغني عنه ذلك: قل له: وأنتم لم تتكلّمون في الأمور التي تجهلونها، وليس هذا من تلك الصّور، لا في ورد ولا صدر. انتهى. ثمّ ذكر في كتابه المذكور ستّة أمثلة للنّعل الشّريفة؛ منها مثالان عليهما المعوّل والاعتماد، وأربعة أمثلة دونهما في القوّة. (قال) ؛ أي: القسطلّاني: (ولم أثبّتها) هنا (اتّكالا على شهرتها، ولصعوبة ضبط تسطيرها إلّا على حاذق) - بالحاء المهملة والذّال المعجمة آخره قاف- أي: ماهر، وقد ذكر الحافظ العراقيّ صفتها نظما في أبيات تقدّمت قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ومن بعض ما ذكر من فضلها، وجرّب من نفعها وبركتها أنّ أبا جعفر أحمد بن عبد المجيد- وكان شيخا صالحا- أعطى مثالها لبعض الطّلبة، فجاءه وقال له: رأيت البارحة من بركة هذا النّعل عجبا؛ أصاب زوجتي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النّعل على موضع الوجع، وقلت: اللهمّ أرني بركة صاحب هذا النّعل.. فشفاها الله تعالى للحين. وقال أبو إسحاق: قال أبو القاسم بن محمّد: وممّا جرّب من بركته: أنّ من أمسكه عنده متبرّكا به.. كان له أمانا من بغي البغاة، (ومن بعض ما ذكر) أبو اليمن، ابن عساكر في جزئه المذكور (من فضلها، وجرّب من نفعها، وبركتها؛ أنّ أبا جعفر؛ أحمد بن عبد المجيد؛ وكان شيخا صالحا) ورعا (أعطى مثالها لبعض الطّلبة، فجاءه) ؛ أي: ذلك البعض (وقال له: رأيت البارحة) - بالحاء المهملة-؛ أي: اللّيلة الماضية قبل يومك الّذي أنت فيه. وعادة العرب تقول؛ قبل الزّوال: فعلنا اللّيلة كذا لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزّوال: فعلت البارحة كذا. انتهى. (من بركة هذا النّعل) الشّريف (عجبا) . قال الشّيخ أبو جعفر: فقلت له: وما رأيت؟ قال: (أصاب زوجتي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النّعل على موضع الوجع، وقلت: اللهمّ؛ أرني بركة صاحب هذا النّعل. فشفاها الله تعالى للحين) ، أي: سريعا. (وقال أبو إسحاق) إبراهيم بن محمّد؛ الشّهير ب «ابن الحاجّ» ، السّابق قريبا: (قال أبو القاسم) القاسم (بن محمّد) ؛ شيخ أبي إسحاق المذكور: (وممّا جرّب من بركته: أنّ من أمسكه عنده متبرّكا به كان له أمانا من بغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وغلبة العداة، وحرزا من كلّ شيطان مارد، وعين كلّ حاسد، وإن أمسكته الحامل بيمينها وقد اشتدّ عليها الطّلق.. تيسّر أمرها بحول الله تعالى وقوّته. وما أحسن قول أبي بكر القرطبيّ رحمه الله تعالى: البغاة، وغلبة العداة) - بضم العين المهملة فقط لثبوت الهاء- فهو كقضاة؛ قاله ابن القاصح وغيره. (وحرزا من كلّ شيطان مارد) : عات خارج عن الطّاعة، (وعين كلّ حاسد، وإن أمسكته) المرأة (الحامل بيمينها وقد اشتدّ عليها الطّلق) - بفتح الطّاء المهملة وسكون اللّام-: وجع الولادة، يقال: طلّقت المرأة، مبنيّا للمفعول طلقا، فهي مطلوقة؛ إذا أخذها المخاض: وهو وجع الولادة. انتهى؛ قاله في «المصباح» . (تيسّر أمرها) ؛ أي: سهل خلاصها وتيسّرت ولادتها، قال المقرّي: قلت: وقد جربته فصّح (بحول الله تعالى وقوّته) ؛ لا رب غيره ولا معبود سواه لبريته. ومن خواصّ مثال النّعل الشّريف أيضا، ومنافعه المنقولة عن الثّقات الّذين لا يمترى في صدق أخبارهم: أنّه أمان من النّظرة والسّحر، وإنّ من لازم حمله كان له القبول التّامّ من الخلق، ولا بدّ أن يزور النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ أو يراه في منامه، وإنّه لم يكن في جيش فهزم، ولا في قافلة فنهبت، ولا في سفينة فغرقت، ولا في بيت فأحرق، ولا في متاع فسرق، وذلك ببركة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وشرّف وكرّم. انتهى؛ من مختصر «فتح المتعال» للمصنف رحمه الله تعالى. ومن أراد المزيد فليراجع «جواهر البحار» في رسالة «بلوغ الآمال» . (وما أحسن قول) - «ما» تعجّبيّة، بمعنى: شيء عظيم، و «أحسن» فعل تعجّب وفاعله مستتر فيه وجوبا، و «قول» منصوب على المفعولية لفعل التّعجّب- والتقدير: شيء عظيم حسّن قول (أبي بكر) أحمد بن الإمام أبي محمد عبد الله بن الحسين الأنصاري، المدعو ب «حميد» (القرطبيّ) شهرة، وهو مالقي (رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 ونعل خضعنا هيبة لبهائها ... وإنّا متى تخضع لها أبدا نعلو فضعها على أعلى المفارق إنّها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل بأخمص خير الخلق حازت مزيّة ... على التّاج حتّى باهت المفرق الرّجل تعالى) كان مقرئا مجوّدا فقيها، محدّثا ضابطا، نحويّا ماهرا، أديبا كاتبا بارعا، متين الدّين صادق الورع، سريع العبرة، كثير البكاء، معرضا عن الدّنيا، لا يضحك إلا تبسّما نادرا، ثمّ يعقبه بالبكاء والاستغفار، مقتصدا في مطعمه وملبسه، معانا على ذلك، مؤيّدا من الله حتى بلغ من الورع رتبة لم يزاحم عليها، أقرأ ببلده «مالقة» القرآن، ودرس الفقه وأسمع الحديث وأدّب بالعربيّة، ثمّ رحل قاصدا الحجّ؛ فلمّا وصل مصر عظم صيته بها، فمرض وتعذّر عليه الحجّ، فطلب السّلطان زيارته فأبى؛ فألحّ عليه حتى أذن له، فعرض عليه جائزة سنيّة فلم يقبلها، وتوفّي فحضر جنازته السّلطان ومن لا يحصى سنة: - 652- اثنتين وخمسين وستمائة. ومولده سنة 607- سبع- بتقديم السّين على الموحّدة- وستمائة رحمه الله تعالى. آمين. (ونعل) - بالرّفع أو الجر على ما قبله؛ إن كان قبله شيء، أو خبر مبتدأ محذوف- أي: وهذه نعل (خضعنا) : ذللنا، (هيبة) : إجلالا (لبهائها) : حسنها حين أبصرناها. (وإنّا) - بتشديد النّون- (متى نخضع لها أبدا) في كل زمان (نعلو) ، نرتفع. (فضعها) ؛ أي: النّعل أيّها الظّافر بها (على أعلى المفارق) ، الرّأس (إنّها حقيقتها تاج) تزيّن الرّأس كالتّاج، وهو الإكليل (وصورتها نعل) ، أي: كصورته. (بأخمص خير الخلق حازت) : ضمّت واكتسبت؛ (مزيّة) : فضيلة (على التّاج) الّتي تتزيّن به الملوك، (حتّى باهت المفرق) ؛ بزنة «مسجد» حيث يفرق الشّعر (الرّجل) - بكسر الرّاء وإسكان الجيم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 شفاء لذي سقم، رجاء لبائس ... أمان لذي خوف، كذا يحسب الفضل وعن بريدة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّجاشيّ ... (شفاء لذي سقم) - بضمّ فسكون-: مرض (رجاء) - بالمدّ، أي: مرجوة (لبائس) ، من أصابه الضمر- اسم فاعل من بئس-. (أمان لذي خوف، كذا يحسب) : يعد (الفضل) ، من قولهم: حسبت المال- بفتح السّين- أحصيته عددا. هذا ما جاء في نعليه صلّى الله عليه وسلم. (و) أمّا ما جاء في خفّه!! فقد ذكر بعض أهل السّير أنّه كان له صلّى الله عليه وسلم عدّة خفاف؛ منها: أربعة أزواج أصابها في خيبر، وقد ثبت في «الصّحيح» من حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه، ورواه جمع من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم أنّه صلّى الله عليه وسلم مسح على خفّيه. وروى جماعة من المحدّثين؛ منهم الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذي وحسّنه؛ (عن بريدة) بن الحصيب الأسلميّ (رضي الله تعالى عنه: أنّ النّجاشيّ) - بفتح النّون على المشهور، وتكسر، وتخفيف الجيم وكسر الشّين المعجمة وتخفيف الياء أفصح من تشديدها، فهي أصليّة؛ لا ياء النّسبة- وتشديد الجيم خطأ، وهو لقب ملوك الحبشة ك «تبّع» لليمن، و «كسرى» للفرس، و «قيصر» للروم والشّام، و «هرقل» للشّام فحسب، و «فرعون» لمصر، وهذه ألقاب جاهلية. واسم هذا النّجاشي: «أصحمة» - بالصّاد والحاء المهملة- والسّين تصحيف، وقيل: اسمه مكحول بن صعصعة، والنّجاشة بالكسر: الإنفاذ فلعلّه سمّي به لإنفاذ أمره!!. أرسل إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضّمري، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام فأسلم، ومات سنة تسع؛ فأخبرهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بموته يومه، وخرج بهم وصلّى وصلّوا معه، وكبّر أربعا. وقد تقدّم كلام يتعلّق بالنّجاشي. فراجعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 أهدى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خفّين أسودين ساذجين، فلبسهما، ثمّ توضّأ ومسح عليهما. ومعنى (ساذجين) : لم يخالط سوادهما شيء آخر. (أهدى) - من الإهداء، بمعنى: إرسال الهديّة، ويتعدّى باللّام وب «إلى» - (للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم خفّين) ؛ أي: وقميصا وسراويل وطيلسانا- كما في الباجوري- (أسودين) ؛ نعت للخفّين وكذا قوله: (ساذجين) - بفتح الذّال المعجمة وكسرها؛ أي: غير منقوشين، أو لا شعر عليهما، أو على لون واحد. (فلبسهما) - بفاء التفريع؛ أو التعقيب- ففيه أن المهدى إليه ينبغي له التصرف في الهديّة عقب وصولها بما أهديت لأجله؛ إظهارا لقبولها ووقوعها الموقع، ووصولها وقت الحاجة إليها، وإشارة إلى تواصل المحبّة بينه وبين المهدي، حتّى أنّ هديته لها مزيّة على ما عنده؛ وإن كان أعلى وأغلى. ولا ينحصر ذلك في التألّف ونحوه، بل مثله من يعتقد صلاحه أو علمه أو يقصد جبر خاطره، أو دفع شرّه، أو نفوذ شفاعته عنده في مهمّات النّاس، وأشباه ذلك. ويؤخذ من الحديث أنّه ينبغي قبول الهديّة حتّى من أهل الكتاب، فإنّه كان وقت الإهداء كافرا؛ كما قاله ابن العربيّ، ونقله عنه الزّين العراقي. وفيه أيضا: عدم اشتراط صيغة، بل يكفي البعث والأخذ. (ثمّ توضّأ؛ ومسح عليهما) ، فيه أنّ الأصل في الأشياء المجهولة الطّهارة، وفيه جواز المسح على الخفّين، وهو إجماع من يعتدّ به، وقد روى المسح على الخفّين سفرا وحضرا ثمانون صحابيا، وأحاديثه متواترة، ومن ثمّ قال بعض الحنفيّة: أخشى أن يكون إنكاره، أي: من أصله كفرا. انتهى «مناوي» . (ومعنى ساذجين) - بفتح الذّال المعجمة وكسرها-: (لم يخالط سوادهما شيء) أي: لون (آخر) . قال المحقّق أبو زرعة؛ وليّ الدّين العراقي الحافظ ابن الحافظ: وهذه اللّفظة تستعمل في العرف لذلك المعنى، ولم أجدها في كتب اللّغة بهذا المعنى، ولا رأيت المصنّفين في غريب الحديث ذكروها؛ وقال القسطلاني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: أهدى دحية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خفّين، فلبسهما. السّاذج: معرّب شاذة «1» . (وعن المغيرة بن شعبة) الثّقفي الصّحابي الجليل- وتقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه، قال: أهدى دحية) - بكسر الدّال عند الجمهور، وقال ابن ماكولا بالفتح، ذكره في «جامع الأصول» -. وهو دحية بن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي، أسلم قديما وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشاهده كلّها بعد بدر، وأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل. وحديثه في «الصّحيحين» ، وكان جبريل يأتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في صورته، وكان من أجمل النّاس، وحكي أنّه كان إذا قدم من الشّام لم تبق معصر إلّا خرجت تنظر إليه. والمعصر: الّتي بلغت سنّ المحيض. روى عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث، روى عنه خالد بن زيد، وعبد الله بن شدّاد، والشّعبي، وغيرهم، وشهد اليرموك، وسكن المزّة القرية المعروفة بجنب دمشق، وبقي إلى خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهما. (للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم خفّين فلبسهما) . وهذا الحديث رواه التّرمذي عن شيخه قتيبة بن سعيد؛ عن يحيى بن زكريّا؛ عن الحسن بن عيّاش؛ عن أبي إسحاق الشيباني؛ عن الشّعبي؛ عن المغيرة ... فذكره، وعقّبه بقوله: وقال إسرائيل: عن جابر؛ عن عامر: وجبّة فلبسهما حتّى تخرّقا لا يدري النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أذكيّ هما أم لا. قال في «المواهب» وشرحها: رواه التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» والطّبراني. انتهى.   (1) والعامّة تصحّفه إلى «سادة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وروى الطّبرانيّ في «الأوسط» عن الحبر: ... قال الباجوري، وملا علي قاري في «جمع الوسائل» : (وروى الطّبرانيّ) ، الحافظ: سليمان بن أحمد اللخمي، المحدّث الكبير، (في) «معجمه (الأوسط) » . والمعجم في اصطلاحهم: ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصّحابة أو الشّيوخ أو البلدان أو غير ذلك، والغالب أن يكون مرتّبا على حروف الهجاء؛ والطّبرانيّ له ثلاثة معاجم: «كبير» ، و «صغير» ، و «أوسط» . فالكبير: مؤلّف في أسماء الصّحابة على حروف المعجم عدا مسند أبي هريرة، فإنّه أفرده في مصنّف، يقال: إنّه أورد فيه ستّين ألف حديث في اثني عشر مجلّدا، وفيه قال ابن دحية: هو أكبر معاجم الدّنيا؛ وإذا أطلق في كلامهم «المعجم» فهو المراد، وإذا أريد غيره قيّد. والأوسط: ألّفه في أسماء شيوخه، وهم قريب من ألفي رجل، حتّى أنّه روى عمّن عاش بعده لسعة روايته وكثرة شيوخه، وأكثره من غرائب حديثهم، قال الذّهبيّ: فهو نظير كتاب «الأفراد» للدّار قطني؛ بيّن فيه فضيلته وسعة روايته، ويقال: إنّ فيه ثلاثين ألف حديث، وهو في ستّ مجلّدات كبار، وكان يقول فيه: هذا الكتاب روحي؛ لأنّه تعب فيه؛ قال الذهبي: وفيه كلّ نفيس وعزيز ومنكر. والصغير: وهو في مجلّد، يشتمل على نحو من ألف وخمسمائة حديث بأسانيدها، لأنّه خرّج فيه عن ألف شيخ، كلّ شيخ حديثا أو حديثين. انتهى. من «الرسالة المستطرفة» . ورواه البيهقي في «الدعوات الكبير» بإسناد صحيح كلاهما؛ (عن الحبر) بفتح الحاء وكسرها؛ لغتان، - أي: العالم؛ سمّي بذلك!! لأنّه يحبر في عبارته، أي: يحسّنها، والمراد به هنا الصّحابي الجليل عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حبر الأمّة وترجمان القرآن- وتقدمت ترجمته- رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته، ثمّ توضّأ ولبس خفّه، فجاء طائر أخضر فأخذ الخفّ الآخر فارتفع به، ثمّ ألقاه، فخرج منه أسود سالخ- أي: حيّة- فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ من يمشي على بطنه، ومن شرّ من يمشي على رجليه، ومن شرّ من يمشي على أربع» . (قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة) ، - أي: قضاء الحاجة، يعني البراز- (أبعد المشي) ؛ أي: ذهب بعيدا مستترا عن أعين النّاس كما هو معروف في آداب قضاء الحاجة (فانطلق ذات يوم) فقعد تحت شجرة (لحاجته) فنزع خفّيه (ثمّ توضّأ، ولبس خفّه) ، أي: أحدهما (فجاء طائر أخضر فأخذ الخفّ الآخر فارتفع به) في السّماء وحلّق به، (ثمّ ألقاه) إلى الأرض، (فخرج منه) ؛ أي: الخفّ، أي: انسلّت منه (أسود سالخ) - الخاء المعجمة آخره- وهو من أسماء الحيّات، كما قال المصنّف؛ (أي: حيّة) . قال في «شرح القاموس» : والأنثى أسوده، ولا توصف ب «سالخة» ، ويقال: أسود سالخ، وأسودان سالخ، وأساود سالخة، وسوالخ، وسلّخ، وسلّخة، كما في «القاموس» . (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هذه كرامة أكرمني الله بها) ثمّ قال: (اللهمّ) - أي: يا الله- (إنّي أعوذ) - أي: اعتصم- (بك من شرّ من يمشي على بطنه) - كالحيّات والثّعابين- (ومن شرّ من يمشي على رجليه) - كالآدمي- (ومن شرّ من يمشي على أربع» ) - كالأنعام-. وأخرج الطّبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخفّيه فلبس أحدهما، ثمّ جاء غراب فاحتمل الآخر فرمى به، فخرجت منه حيّة؛ فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفّيه حتّى ينفضهما» . انتهى. وهذا من علامات نبوّته صلّى الله عليه وسلم وقد عدّ ذلك في معجزاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 [الفصل الخامس في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الخامس في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم عن ابن سيرين ... (الفصل الخامس) ، من الباب الثّالث (في) بيان ما ورد في (صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلم) : والسّلاح آلة الحرب، فكلّ عدّة للحرب فهو سلاح، وفي «المصباح» ؛ السّلاح: ما يقاتل به في الحرب، ويدافع به. والتذكير أغلب من التّأنيث، فيجمع على التّذكير: أسلحة، وعلى التّأنيث: سلاحات. انتهى. ويطلق السّلاح على السّيف وحده؛ كما في «القاموس» . قال التّرمذيّ في «الشّمائل» : حدّثنا محمد بن شجاع البغدادي؛ قال: حدّثنا أبو عبيدة الحداد؛ عن عثمان بن سعد؛ (عن) محمد (بن سيرين) (الأنصاري، مولاهم، أبو بكر البصري التّابعي، الإمام في التفسير، والحديث، والفقه، وعبر الرؤيا، والمقدّم في الزّهد والورع؛ قال محمد بن سعد: كان ثقة، مأمونا، عاليا، رفيعا، فقيها، إماما كثير العلم، ورعا. وأولاد سيرين ستّة: محمّد ومعبد وأنس ويحيى وحفصة وكريمة، وكلهم رواة ثقات، وكان أبوهم من سبي عين التّمر، وهو مولى أنس بن مالك؛ كاتبه على عشرين ألف درهم فأداها وعتق. وكانت أمّ ابن سيرين اسمها صفيّة مولاة لأبي بكر الصّديق، رضي الله تعالى عنه، طيّبها ثلاث من أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ودعون لها وحضر إملاكها ثمانية عشر بدريّا منهم: أبيّ بن كعب يدعو وهم يؤمنون. وكان سيرين يكنّى: «أبا عمرة» ، وولد لمحمّد بن سيرين ثلاثون ولدا من امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 قال: صنعت سيفي على سيف سمرة بن جندب، وزعم سمرة أنّه صنع سيفه على سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان حنفيّا؛ نسبة لبني حنيفة؛ لأنّهم معروفون بحسن صنعة السّيوف. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فضّة. واحدة، زوجة له عربيّة، ولم يبق منهم غير عبد الله بن محمّد. واتفقوا على أنّ ابن سيرين توفّي بالبصرة سنة: - 110- عشر ومائة، بعد الحسن بمائة يوم. قال حمّاد بن زيد: مات الحسن أوّل رجب سنة: - 110- عشر ومائة، وصلّيت عليه، ومات ابن سيرين لتسع مضين من شوّال سنة: - 110- عشر ومائة رحمهما الله تعالى. (قال: صنعت) - من الصّنع، أي: أمرت بأن يصنع؛ وفي بعض نسخ «الشمائل» : صغت- (سيفي على سيف سمرة بن جندب) رضي الله تعالى عنهما؛ أي: على تمثال سيفه في الشّكل والوضع وجميع الكيفيّات. (وزعم سمرة) يعني: قال: فإنّ الزّعم قد يأتي بمعنى القول المحقّق (أنّه صنع) - بناؤه للفاعل؛ أو للمفعول- (سيفه) - مرفوع أو منصوب- (على) هيئة (سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: على تمثاله في الشّكل والوضع وجميع الكيفيّات. قال: (وكان) ، أي: سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم (حنفيّا) . والحنفيّ: قال الباجوري: (نسبة لبني حنيفة) ؛ قبيلة مسيلمة الكذّاب، (لأنّهم معروفون بحسن صنعة السّيوف) ، فيحتمل أنّ صانعه كان منهم، ويحتمل أنّه أتى به من عندهم، وهذه الجملة: يعني قوله «وكان حنفيّا» من كلام سمرة فيما يظهر، ويحتمل أنّها من كلام ابن سيرين على الإرسال. انتهى. (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» ، وأبو داود والنّسائي والدّارمي؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فضّة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 و (القبيعة) - بوزن الطّبيعة-: ما على طرف مقبض السّيف، يعتمد الكفّ عليها لئلّا يزلق. وعن جعفر بن محمّد ... والمراد بالسّيف هنا: ذو الفقار، وكان لا يكاد يفارقه، ودخل به مكّة يوم الفتح، واقتصر في هذا الخبر على القبيعة، وفي رواية ابن سعد؛ عن عامر قال: أخرج إلينا علي بن الحسين سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإذا قبيعته من فضّة، وإذا حلقته الّتي يكون فيها الحمائل من فضّة. (والقبيعة) - بفتح القاف وكسر الموحّدة- (بوزن الطّبيعة) ؛ قال الباجوري وغيره: هي (ما على طرف مقبض السّيف) فوق الغمد يمسكه من فضّة أو حديد أو غيرهما، (يعتمد الكفّ عليها؛ لئلّا يزلق) . وفي الحديث دليل على جواز تحلية السّيف وسائر آلات الحرب بالفضّة. قال العلّامة ابن حجر الهيتمي: الحاصل أنّ الذّهب لا يحل للرّجال مطلقا؛ لا استعمالا، ولا اتّخاذا، ولا تضبيبا، ولا تمويها، لا لآلة الحرب ولا لغيرها، وكذا الفضّة إلّا في التضبيب، والخاتم، وتحلية آلة الحرب، وما وقع في بعض الرّوايات من حلّ التمويه تارة وحرمته أخرى!! محمول على تفصيل علم من مجموع كلامهم؛ وهو أنّه إن حصل شيء ما بالعرض على النّار من ذلك الممّوه حرمت استدامته كابتدائه، وإن لم يحصل منه شيء حرم الابتداء فقط. أمّا نفس التّمويه الذي هو الفعل والإعانة عليه والتسبّب فيه!! فحرام مطلقا، ويأتي هنا التّفصيل في تمويه الرّجال الخاتم وآلة الحرب الذّهب. انتهى. (و) أخرج ابن سعد؛ من طريق سليمان بن بلال؛ (عن جعفر) الصادق أبي عبد الله الإمام (ابن) الإمام (محمّد) الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السّبط بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، الهاشميّ المدنيّ. أمّه فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 عن أبيه: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي: أسفله- وحلقته وقبيعته.. من فضّة. روى عن أبيه، والقاسم بن محمد، ونافع، وعطاء، ومحمّد بن المنكدر، والزّهري وغيرهم. روى عنه محمد بن إسحاق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسّفيانان، وابن جريج، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون. واتفقوا على إمامته وجلالته وسيادته. قال عمرو بن المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النّبيّين. ولد سنة: - 80- ثمانين هجرية، وتوفّي سنة: - 148- ثمان وأربعين ومائة هجريّة. رحمه الله تعالى. (عن أبيه) محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، القرشي الهاشمي المدني، أبي جعفر، المعروف ب «الباقر» ، سمّي بذلك!! لأنّه بقر العلم، أي: شقّه فعرف أصله وعلم خفيّه. وأمّه أمّ عبد الله بنت حسن بن علي بن أبي طالب. وهو تابعيّ جليل، إمام بارع، مجمع على جلالته، معدود في فقهاء المدينة وأئمتهم، سمع جابرا وأنسا، وسمع جماعات من كبار التابعين، كابن المسيّب وابن الحنفيّة وغيرهما. روى عنه أبو إسحاق السّبيعي، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والأعرج؛ وهو أسنّ منه، والزّهري، وربيعة، وخلائق آخرون من التّابعين وكبار الأئمّة. وروى له البخاريّ ومسلم، وتوفّي سنة: - 114- أربع عشرة ومائة، وقيل: ثمانية عشرة، وقيل: سبعة عشرة، وهو ابن ثلاث وستّين سنة، وقيل: ابن ثلاث وسبعين، وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة، والله أعلم رحمه الله تعالى. قال (كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ أي: أسفله) ، يعني: أسفل غمده، وهذا تفسير للنّعل. وفي «المصباح» : نعل السّيف الحديدة الّتي في أسفل جفنه، مؤنّثة، (وحلقته) - بإسكان اللّام وفتحها لغة في السّكون- وهي ما في أعلاه، تجعل فيه العلاقة. (وقبيعته) الثلاثة (من فضّة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وقد كان له صلّى الله عليه وسلّم سيوف متعدّدة؛ فقد كان له: سيف يقال له: (المأثور) ؛ وهو أوّل سيف ملكه عن أبيه. وله سيف يقال له: (القضيب) . وله سيف يقال له: (القلعي) - نسبة إلى قلع- موضع ... وأخرج ابن سعد أيضا؛ من طريق جرير بن حازم؛ عن قتادة؛ عن أنس قال: كانت نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضّة، وقبيعته وما بين ذلك حلق فضة. قال الباجوريّ في حاشية «الشّمائل» : (وقد كان له صلّى الله عليه وسلم سيوف متعدّدة) ، ذكر في «المواهب» أنّها تسعة؛ (فقد كان له سيف يقال له: «المأثور» ) - بهمزة ساكنة ومثلّثة- (وهو أوّل سيف ملكه عن أبيه) ؛ أي: ورثه منه؛ ذكره اليعمري. وهي مسألة نزاع، حتّى قال بعضهم: ليس في كون الأنبياء يرثون نقل. وبعضهم قال: لا يرثون كما لا يورثون، وإنّما ورث أبويه قبل الوحي، وصرّح شيخ الإسلام زكريّا في «شرح الفصول» بأنّهم يرثون، وبه جزم الفرضيّون. وذكر الواقديّ أنّه صلّى الله عليه وسلم ورث من أبيه أمّ أيمن وخمسة أجمال وقطعة من غنم ومولاه شقران وابنه صالحا، وقد شهد بدرا، ومن أمّه دارها بالشّعب، ومن زوجته خديجة دارها بمكّة بين الصّفا والمروة، وأموالا. (وله سيف يقال له: «القضيب» ) - بفتح القاف وكسر الضّاد المعجمة وسكون التّحتيّة وموحّدة آخره- يطلق بمعنى اللّطيف من السّيوف، وبمعنى السّيف القاطع؛ كما في «النور» ، وقيل: إنّ القضيب ليس بسيف، بل هو قضيبه الممشوق. قال العراقي في «ألفيّة السّيرة» : وقيل: ذا قضيبه الممشوق ... كان بأيدي الخلفا يشوق (وله سيف يقال له: القلعي) - بضم القاف وفتحها، وبفتح اللّام ثمّ عين مهملة- (نسّبة إلى قلع) - بفتحتين فعين مهملة آخره-: (موضع) هو قلعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 بالبادية. وله سيف يقال له: (البتّار) . وسيف يدعى: (الحتف) . وسيف يدعى: (المخذم) ، بكسر الميم. وسيف يدعى: (الرّسوب) . (بالبادية) ، يقال لها: مرج- بالجيم- قريب من حلوان على طريق همذان؛ كما في «العيون» . (وله سيف يقال له: «البتّار» ) - بفتح الباء وتشديد التّاء، ثمّ راء آخره- أي: القاطع. (و) له (سيف يدعى: الحتف) - بفتح الحاء المهملة وسكون التّاء، ثمّ فاء- وهو الموت، ومن قال: الحيف؛ بالتّحتيّة!! فهو سبق قلم، إذ الحيف هو الجور، ولا معنى له هنا. (و) له (سيف يدعى: «المخذم» - بكسر الميم) الأولى وسكون الخاء المعجمة وفتح الذّال المعجمة ثمّ ميم آخره- وهو القاطع. (و) له (سيف يدعى: «الرّسوب» ) - بفتح الرّاء وضمّ السّين المهملة وسكون الواو فموحّدة آخره- أي: يمضي في الضريبة، ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب، بضمّ السّين؛ إذا ذهب إلى أسفل واستقرّ، لأنّ ضربته تغوص في المضروب به وتثبت فيه. قيل: إنّه من السّيوف السّبعة الّتي أهدت بلقيس لسليمان؛ كما في «النور» . قال في «المواهب» مع الشرح: والمخذم والرّسوب أصابهما من الفلس بضمّ الفاء وإسكان اللّام-: صنم كان ل «طي» ، كان الحارث قلّده إيّاهما، فبعث المصطفى صلّى الله عليه وسلم عليّا سنة تسع فهدمه وغنم سبيا وشاء ونعما وفضة، فعزل علي له صلّى الله عليه وسلم صفيا السّيفين. وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم أنّه عليه الصّلاة والسّلام وهبهما لعليّ، وذكر أبو الحسن المدائني أنّ زيد الخيل أهداهما للمصطفى صلّى الله عليه وسلم لمّا وفد عليه. والله أعلم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وسيف يقال له: (الصّمصامة) . وسيف يقال له: (اللّحيف) . وسيف يقال له: (ذو الفقار) . و (الفقر) : الحفر. (و) له (سيف يقال له: «الصّمصامه» ) - بالهاء- ذكره اليعمري، ويقال له: الصّمصام، بدونها- بفتح الصّاد المهملة وإسكان الميم فيهما-: السّيف الصّارم الّذي لا ينثني، كان سيف عمرو بن معد يكرب، وكان مشهورا فوهبه صلّى الله عليه وسلم لخالد بن سعيد بن العاص. (و) له (سيف يقال له: «اللّحيف» ) ، سيف مشهور؛ ذكره اليعمريّ. (و) له (سيف يقال له: «ذو الفقار» ) - بفتح الفاء وكسرها- لأنّه كان في وسطه مثل فقرات الظّهر. وقيل: سمّي بذلك، لأنّه كان فيه حفر صغار حسان، والفقرة بالضمّ: الحفرة في الأرض الّتي فيها الوديّة. (والفقر) - بضمّ الفاء وفتح القاف- كعمر؛ جمع فقرة بضمّ فسكون، وهي (الحفر) - بضمّ ففتح جمع حفرة- بضمّ الحاء- وهو أشهر أسيافه صلّى الله عليه وسلم وهو الّذي رأى فيه الرّؤيا يوم أحد، وهو سيف سليمان بن داود- عليهما السلام- أهدته بلقيس مع ستّة أسياف، ثمّ وصل إلى العاص بن منبّه بن الحجّاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، المقتول كافرا ببدر قتله عليّ بن أبي طالب وأخذ سيفه هذا، ثمّ صار إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم بدر من الغنيمة، وكان هذا السّيف لا يفارقه صلّى الله عليه وسلم بعد أن ملكه، يكون معه في كلّ حرب يشهدها، وكانت قائمته- أي: مقبضه- وقبيعته وحلقته وذؤابته- أي: علّاقته- وبكراته ونعله كلّها من فضّة، ويقال: إنّه صار لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه في الجنّة، ولعلّه كان يأخذه منه في الحروب، أو أنّه أعطاه له عند موته، وفيه قيل: لا فتى إلّا عليّ، ولا سيف إلّا ذو الفقار. ومن الغريب ما رواه الطّبراني في «الكبير» ، وابن عدي في «الكامل» : أنّ الحجّاج بن علاط أهداه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمّ كان عند الخلفاء العبّاسيين. والله أعلم. وسيأتي مزيد كلام يتعلّق بذي الفقار في الفصل السادس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وقد ذكروا في معجزاته: أنّه صلّى الله عليه وسلّم دفع لعكّاشة جذل حطب؛ ... (وقد ذكروا) - أي: العلماء في كتبهم، أي: عدّوا- (في معجزاته) الدّالة على نبوّته وصدق رسالته، جمع معجزة؛ وهي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتّحدي، الدّال على صدق الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام. وسمّيت معجزة!! لعجز البشر عن الإتيان بمثلها. وللمعجزة أركان أربعة لا بدّ منها؛ أحدها: أن تكون خارقة للعادة. ثانيها: أن تكون مقرونة بالتّحدي، وهو طلب المعارضة. وقال المحقّقون: التّحدّي: هو دعوى الرّسالة، فما جاء بعدها من الخوارق فهو معجزة، وإن لم يطلب الإتيان بالمثل الّذي هو المعنى الحقيقي للتّحدّي. وثالثها: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدّي. ورابعها: أن تقع على وفق دعوى المتحدّى بها. (أنّه صلّى الله عليه وسلم دفع لعكاشة) - بضمّ العين مع تخفيف الكاف وتشديدها، والتشديد رواية الأكثرين- وهو أبو محصن؛ عكّاشة بن محصن- بكسر الميم وفتح الصاد- ابن حرثان- بضم الحاء المهملة وسكون الرّاء وثاء مثلثة- ابن قيس بن مرة بن بكير- بالموحّدة- ابن غنم بن دودان- بدالين مهملتين، الأولى مضمومة- ابن أسد بن خزيمة بن مدركة الأسدي، حليف بني عبد شمس. الصّحابي الجليل. وهو من السّبعين ألف الذين يدخلون الجنّة بغير حساب؛ كما في «الصحيحين» رضي الله عنه. وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا. قالوا: وانكسر سيفه فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (جذل) - بكسر الجيم وفتحها وسكون الذّال المعجمة- واحد الأجذال؛ أي: أصل (حطب) . قال الشّامي: والمراد هنا: العرجون- بضمّ المهملة- أصل العذق- بكسر العين- الذي يفرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 حين انكسر سيفه يوم بدر، وقال: «اضرب به» ، فعاد في يده سيفا صارما طويلا أبيض شديد المتن، فقاتل به، ثمّ لم يزل عنده يشهد به المشاهد إلى أن استشهد. وينعطف؛ ويقطع منه الشّماريخ فيبقى على النخلة يابسا. (حين انكسر سيفه يوم بدر) ، قال ابن هشام، في «شرح بانت سعاد» : اليوم يطلق على أربعة أمور: أحدها: مقابل اللّيلة، ومنه (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [7/ الحاقة] . الثّاني: مطلق الزّمان كقوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [16/ الأنفال] ، (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [141/ الأنعام] ، (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (30) [القيامة] . المراد: ساعة الاحتضار، وتقول: فلان اليوم يعمل كذا. والثّالث: مدة القتال؛ نحو: يوم حنين؛ ويوم بعاث: وهو يوم للأوس والخزرج- وهو بضمّ الباء الموحّدة وبالعين المهملة وبالثّاء المثلّثة؛ أي: ومنه يوم بدر المذكور في المتن. الرّابع: الدّولة، ومنه (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [140/ آل عمران] . انتهى كلام ابن هشام. (وقال) له: ( «اضرب به» ) ؛ أي: قاتل به يا عكاشة، فأخذه منه فهزه؛ (فعاد في يده سيفا صارما) أي: ماضيا (طويلا) ؛ أي: طويل القامة، (أبيض) الحديدة (شديد المتن) ؛ أي: الظّهر، من إضافة الوصف إلى فاعله؛ أي: شديدا متنه، أو المراد بالمتن هنا: الذّات، تسمية للكلّ باسم جزئه. (فقاتل به) حتّى فتح الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم، وكان ذلك السّيف يسمّى: العون بفتح المهملة وإسكان الواو وبالنون- (ثمّ لم يزل) السّيف (عنده يشهد به المشاهد) ، وشهد أحدا والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وكان من أجمل الرّجال، واستمر ذلك السّيف معه (إلى أن استشهد) في قتال المرتدّين زمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ودفع صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن جحش يوم أحد- وقد ذهب سيفه- عسيب نخل، ... أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه؛ قتله طلحة بن خويلد الأسدي- وله أربع وأربعون سنة- رضي الله تعالى عنه؛ روى عنه أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم. أجمعين. (و) عدّوا في معجزاته صلّى الله عليه وسلم أنّه (دفع صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن جحش) - بتقديم الجيم على الحاء المهملة- وهو أبو محمّد؛ عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي. أمّه آمنة بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسلم قديما قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر الهجرتين إلى أرض الحبشة؛ هو وأخوه أبو أحمد وعبيد الله وأختهم زينب بنت جحش أمّ المؤمنين، وأمّ حبيبة وحمنة بنات جحش، فأمّا عبيد الله فتنصّر؛ ومات بالحبشة نصرانيّا. وهاجر عبد الله، وأخوه أبو أحمد، وأهله إلى المدينة، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سريّة، وهو أوّل أمير أمّره، وغنيمته أوّل غنيمة في الإسلام. ثمّ شهد بدرا واستشهد يوم أحد، وكان من دعائه يوم أحد: أن يقاتل ويستشهد ويقطع أنفه وأذنه ويمثّل به في الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءه فاستشهد وعمل الكفّار به ذلك، وكان يقال له: المجدّع في الله تعالى، وكان عمره حين استشهد نيّفا وأربعين سنة، ودفن هو وخاله حمزة بن عبد المطلب في قبر واحد، رضي الله تعالى عنهما. قال الزّبير بن بكّار: وأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (يوم أحد- وقد ذهب سيفه-) ؛ أي: انقطع في أثناء القتال وانكسر؛ أعطاه (عسيب نخل) ؛ أي: عرجون نخلة، وإن كان العسيب هو الجريدة من النّخل، مستقيمة دقيقة يكشط خوصها، لكنّ المراد هنا العرجون، كما ذكره الزّبير بن بكّار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 فرجع في يده سيفا. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حربة يمشى بها بين يديه؛ فإذا صلّى.. ركزها بين يديه. وكان صلّى الله عليه وسلّم رايته سوداء، ولواؤه أبيض. (فرجع) ؛ أي: فعاد (في يده سيفا) فقاتل به حتى قتل- رضي الله تعالى عنه- قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثّقفي، ثمّ قتله عليّ بن أبي طالب بعده، وكان ذلك السّيف يسمّى العرجون، باسم أصله قبل الآية الباهرة، ولم يزل يتوارث حتى بيع من «بغا» التّركي من أمراء المعتصم بالله إبراهيم، الخليفة العبّاسيّ في بغداد، بمائتي دينار، وهذا نحو حديث عكّاشة؛ لأنّ سيف عكّاشة يسمّى العون، وهذا يسمّى العرجون. (و) أخرج الطّبراني في «الكبير» ، عن عصمة بن مالك قال: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حربة) - بفتح الحاء المهملة وسكون الرّاء، ثمّ باء موحّدة، آخره هاء-: رمح قصير يشبه العكّازة، وهي المسمّاة ب «العنزة» ، (يمشى بها) - بالبناء للمفعول- (بين يديه) ، أي: يحملها شخص على عاتقه، (فإذا صلّى ركزها بين يديه) فيتخذها سترة يصلي إليها إذا كان في غير بناء، فإذا رآها شخص مرّ من خلفها، وكان يمشي بها، أي: يتوكّأ عليها أحيانا، وكان له حراب غيرها أيضا. (و) أخرج التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم؛ في «الجهاد» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم رايته) تسمّى: العقاب، كما ذكره ابن القيّم. وكانت (سوداء) ؛ أي: غالب لونها أسود، بحيث ترى من بعد سوداء، لا أنّ لونها أسود خالص، (ولواؤه أبيض) قال ابن القيّم: ربما جعل فيه السّواد. انتهى. وهذا الحديث رواه الحاكم وسكت عنه ولم يصحّحه، لأنّ فيه يزيد بن حبّان، مضعّف؛ وقيل: بل هو مجهول الحال. وساقه ابن عدي من مناكير حبّان بن عبيد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 وعن الزّبير بن العوّام ... نعم؛ رواه التّرمذيّ في «العلل» ؛ عن البراء، من طريق آخر بلفظ: كانت سوداء مربّعة من نمرة، ثمّ قال: سألت عنه محمّدا- يعني: البخاري- فقال: حديث حسن. انتهى. ورواه الطّبرانيّ باللّفظ المذكور من هذا الوجه وزاد: مكتوب عليه: لا إله إلّا الله؛ محمّد رسول الله. انتهى. والرّاية: العلم الكبير، واللّواء: العلم الصّغير، فالرّاية هي الّتي يتولّاها صاحب الحرب ويقاتل عليها، وإليها تميل المقاتلة. واللّواء: علامة كبكبة الأمير تدور معه حيث دار؛ ذكره جمع. وقال ابن العربي: اللّواء: ما يعقد في طرف الرّمح ويكون عليه. والرّاية: ما يعقد فيه ويترك حتّى تصفّقه الرّياح. انتهى «مناوي» . وفي «الحفني؛ على الجامع» : الراية: ما يربط في الرّمح، تضربه الرياح، وهي إلى النّصف أو أكثر، بخلاف اللّواء؛ فهو ما يربط صغيرا في أعلى الرّمح، ويكون مع السّلطان أو أمير الجيش ليجتمع له الجيش عند القتال. انتهى. (و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن) أبي عبد الله (الزّبير) - بضمّ الزّاي مصغّرا- (بن العوّام) - بتشديد الواو- بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي القرشيّ الأسديّ المدنيّ، يلتقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصّي. أمّه صفيّة بنت عبد المطّلب؛ عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسلمت وهاجرت إلى المدينة؛ أسلم الزّبير قديما في أوائل الإسلام؛ وهو ابن خمس عشرة سنة في قول. وكان إسلامه بعد إسلام أبي بكر الصّديق بقليل، فكان رابعا أو خامسا. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد السّتّة أصحاب الشّورى، وهاجر إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة، وآخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود حين آخى بين المهاجرين بمكّة؛ فلما قدم المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 رضي الله تعالى عنه قال: كان على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصّخرة؛ فلم يستطع، فأقعد طلحة ... وكان الزّبير أوّل من سلّ سيفا في سبيل الله، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وحصار الطّائف والمشّاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك وفتح مصر، ومناقبه كثيرة جمّة. وكان الزبير رضي الله عنه يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف، فلحقه جماعة من الغواة؛ فقتلوه بوادي السّباع بناحية البصرة- وقبره هناك- في جمادى الأولى سنة: - 36- ستّ وثلاثين، وكان عمره حينئذ سبعا وستّين سنة. وقيل: ستّا وستّين. وقيل: أربعا وستّين. (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه، وعن سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (قال: كان على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم أحد) - أي: في يوم وقعة أحد- (درعان) . زاد في رواية: درعه ذات الفضول، ودرعه فضّة، وكان عليه يوم حنين درعان: ذات الفضول والسّغدية، ولم يظاهر بين درعين إلّا في هذين اليومين. (فنهض إلى الصّخرة) ، أي: أسرع متوجّها نحوها ليعلوها فيراه المسلمون؛ فيعلمون حياته؛ فيجتمعون عليه. يقال: نهض عن مكانه؛ إذا قام عنه، ونهض إلى العدو؛ أسرع إليه، ونهض إلى فلان؛ تحرّك إليه بالقيام. (فلم يستطع) ؛ أي: فلم يقدر على الارتفاع على الصّخرة لضعف طرأ عليه بسبب ما حصل له من شجّ رأسه وجبينه الشّريف، واستفراغ الدّم الكثير منهما. وقيل: لثقل درعه الدّالّ على نفاسته وقوّته ومزيد منعه لما يحصل لصاحبه. وقيل: لعلوّ الصّخرة. والأظهر: الأوّل. (فأقعد) ؛ أي: أجلس (طلحة) بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب؛ أبو محمد القرشي، التيمي، المكّي، المدنيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 تحته، وصعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى استوى على الصّخرة، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أوجب طلحة» - أي: فعل فعلا أوجب لنفسه بسببه الجنّة. أحد العشرة الّذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة، وأحد الثّمانية السّابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الّذين أسلموا على يد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأحد السّتّة أصحاب الشّورى. وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طلحة الخير» ، و «طلحة الجود» ، وهو من المهاجرين الأوّلين، ولم يشهد بدرا، ولكن ضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهمه وأجره كمن حضر. وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد. وروي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بثلاثة. وقتل يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى سنة: - 36- ستّ وثلاثين. وهذا لا خلاف فيه، وكان عمره أربعا وستّين سنة، على خلاف في ذلك، وقبره بالبصرة مشهور يزار ويتبرّك به، رضي الله تعالى عنه وأرضاه. (تحته) فصار طلحة كالسّلّم؛ (وصعد) - بكسر العين- (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: فوضع رجله فوقه وارتفع (حتّى استوى على الصّخرة) ؛ أي: استقرّ عليها. (قال) - أي: الزّبير-: (سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «أوجب طلحة» ) رضي الله تعالى عنه- (أي: فعل فعلا) هو إعانته له صلّى الله عليه وسلم على الارتفاع على الصّخرة الّذي ترتّب عليه جمع شمل المسلمين وإدخال السّرور يومئذ على كلّ حزين. و (أوجب لنفسه بسببه الجنّة) ، ويحتمل أنّ ذلك الفعل هو جعله نفسه فداء له صلّى الله عليه وسلم ذلك اليوم حتّى أصيب ببضع وثمانين طعنة، وشلّت يده في دفع الأعداء عنه، ولا مانع من إرادة الجميع؛ وكان أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه إذا ذكر أحدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 وكان له صلّى الله عليه وسلّم سبعة أدرع؛ فقد كان له: درع تسمى: (ذات الفضول) ؛ سمّيت بذلك لطولها. ودرع تسمى: (ذات الوشاح) . ودرع تسمى: (ذات الحواشي) . ودرع تسمى: (فضّة) . ودرع تسمى: (السّغديّة) ؛ قال: ذلك يوم كان كلّه لطلحة رضي الله تعالى عنه. (وكان له صلّى الله عليه وسلم سبعة أدرع) ؛ جمع درع- بكسر الدّال المهملة وسكون الرّاء، وفي آخره عين مهملة-: جبّة من حديد تصنع حلقا حلقا، وتلبس للحرب، وهي الزّرديّة؛ كما قال ابن الأثير. والدّرع مؤنّثة في الأكثر، وقد تذكّر، وتجمع على أدرع، ودروع، وأدراع، (فقد كان له درع تسمى: «ذات الفضول» ) - بالضّاد المعجمة قبلها فاء مضمومتين- (سمّيت بذلك لطولها) ؛ من الفضل: الزّيادة. أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهي الّتي رهنها عند أبي الشّحم اليهودي، على ثمن شعير اشتراه لأهله، وكان ثلاثين صاعا، وكان الدّين إلى سنة. (و) كان له (درع تسمى: «ذات الوشاح» ) - بكسر الواو وخفّة الشّين المعجمة، فألف فمهملة- (و) كان له (درع تسمى: «ذات الحواشي» ) - جمع حاشية- وهي في الأصل جانب الثوب. (و) كان له (درع تسمى: «فضّة» ) - بكسر الفاء- أصابها من بني قينقاع؛ بطن من يهود المدينة. (و) كان له (درع تسمى: «السّغديّة» ) - بضمّ السّين والغين المعجمة السّاكنة ودال مهملة، ويقال: بفتح السّين وإسكان العين ودال مهملات، قال بعضهم: بالعين المهملة، منسوبة للسّعد؛ وهي جبال معروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 قيل: هي درع سيّدنا داوود الّتي لبسها لقتال جالوت. ودرع تسمى: (البتراء) . ودرع تسمى: (الخرنق) . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل مكّة وعليه مغفر. وفي «معرّب» الجواليقي: إنّه بالسين والصّاد لأنّه قياس في كلّ سين معها حرف استعلاء- وقد أصابها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من بني قينقاع- وهي درع عكبر القينقاعي. و (قيل: هي درع سيّدنا داود الّتي لبسها لقتال جالوت) الكافر؛ كما حكاه اليعمري ومغلطاي. (و) كان له (درع تسمى: «البتراء» ) - بفتح الموحّدة وسكون الفوقيّة والمدّ- سمّيت بذلك لقصرها. (و) كان له (درع تسمى: «الخرنق» ) - بكسر الخاء المعجمة وإسكان الرّاء وكسر النّون وقاف- سميت باسم ولد الأرنب؛ كما في «العيون» وغيرها. (و) أخرج البخاريّ ومسلم وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائي وابن ماجه والتّرمذيّ في «الشمائل» - واللفظ له- كلّهم؛ من طريق مالك؛ عن الزّهري. (عن أنس بن مالك) - وتقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل مكّة) يوم الفتح (وعليه مغفر) ، ولا يعارضه ما مرّ من أنّه دخل مكّة وعليه عمامة سوداء!! لأنّه لا مانع من أنّه لبس العمامة السّوداء فوق المغفر، أو تحته؛ وقاية لرأسه من صدأ الحديد، ففي رواية «المغفر» الإشارة إلى كونه متأهّبا للقتال، وفي رواية «العمامة» الإشارة إلى كونه دخل غير محرم؛ كما صرّح به القسطلّاني. فإن قلت: دخول مكّة وعليه المغفر يشكل عليه خبر «لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السّلاح» . رواه مسلم؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 و (المغفر) - بوزن منبر- زرد من حديد ينسج بقدر الرّأس يلبس تحت القلنسوة. قلت: لا إشكال؛ لأنّه محمول على حمله في قتال لغير ضرورة، وهذا كان لضرورة، على أنّ مكّة أحلّت له ساعة من نهار، ولم تحلّ لأحد قبله ولا بعده. أمّا حمله فيها في غير قتال! فهو مكروه. والله أعلم. (والمغفر) - بكسر الميم وفتح الفاء- (بوزن منبر) ؛ من الغفر، وهو السّتر، والمراد به هنا: (زرد من حديد ينسج بقدر الرّأس يلبس تحت القلنسوة) ، وفي «المغرب» : ما يلبس تحت البيضة، ويطلق على البيضة أيضا. وفرّق بعضهم بين المغفر والبيضة؛ بأنّ المغفر يشبه القلنسوة، وربّما يكون في حديدة تنزل على الأنف، وفي البيضة طول. زاد الدّارقطني في «الفوائد» والحاكم في «الإكليل» : من حديد، وفي طرفها الأعلى احديداب قريب بيضة النّعامة، ولها حلق تنزل إلى العنق والكفّين والصّدر. وزعم بعض أهل السّير أنّ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم مغفرين يقال لأحدهما: الوشح، وللآخر: السّبوع. وقال بعضهم: كانت له بيضة، وكانت في رأسه يوم أحد. وينبغي أن يعلم أن الدّروع والبيضة والمغفر من جملة السّلاح؛ لأنّ السّلاح يطلق على ما يقتل به، وعلى ما يدفع به، وهؤلاء مما يدفع بها؛ كما تقدم في أوّل الباب. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 [الفصل السّادس كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه] الفصل السّادس كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه كان اسم رايته: (العقاب) ، وكانت سوداء، ... (الفصل السّادس) من الباب الثّالث: (كان من خلقه صلّى الله عليه وسلم) الخلق- بضمّتين-: الصّورة الباطنة من النّفس وأوصافها ومعانيها المختصّة بها. (أن يسمّي سلاحه) : (كل عدّة في الحرب. (ودوابّه) - جمع دابّة؛ وهي لغة: كل ما يدبّ على الأرض. وعرفا: اسم لذات الأربع؛ كما قال المحلي- (ومتاعه) المتاع- في اللّغة-: كل ما ينتفع به كالطّعام والبزّ وأثاث البيت؛ وأصل المتاع ما يتبلغ به من الزّاد؛ وهو اسم من متّعته بالتّثقيل إذا أعطيته ذلك، والجمع: أمتعة؛ ذكره في «المصباح» . وهذه التّرجمة قطعة من حديث رواه الرّوياني، وابن عساكر؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان يلبس القلانس تحت العمائم ... الحديث. وفي آخره: وكان من خلقه أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه؛ أي: كما كان يسمّي قميصه ورداءه وعمامته؛ قال في «شرح الإحياء» . قال الإمام الشّعراني في «كشف الغمّة» كالغزالي في «الإحياء» : (كان اسم رايته صلّى الله عليه وسلم «العقاب» ) - بضمّ العين المهملة- رواه ابن عدي؛ من حديث أبي هريرة بسند ضعيف: كانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم سوداء تسمّى العقاب. ورواه أبو الشّيخ؛ من حديث الحسن مرسلا؛ قاله العراقيّ. قلت: وكذلك رواه ابن سعد في «الطبقات» . انتهى شرح «الإحياء» . (وكانت سوداء) مربّعة؛ أي: غالب لونها أسود، بحيث ترى من بعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 ومرّة كان يجعلها صفراء، ومرّة بيضاء فيها خطوط سود. وكان اسم خيمته: (الكنّ) . وقضيبه: (الممشوق) . واسم قدحه: (الرّيّان) . وركوته: (الصّادر) . وسرجه: (الرّاجّ) . ومقراضه: (الجامع) . سوداء؛ لا أنّها لونها أسود خالص؛ كما قاله الطيبي. (ومرّة كان يجعلها صفراء) . روى أبو داود؛ عن رجل: قال رأيت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفراء، (ومرّة بيضاء فيها خطوط سود) تسمّى الزّينة. وقد تقدّم في الفصل الخامس من حديث ابن عبّاس أنّ رايته سوداء، ولواءه أبيض، وهناك مزيد كلام على الرّاية واللّواء، والفرق بينهما. (وكان اسم خيمته: «الكنّ» ) - بكسر الكاف- لأنّه يستر من الحرّ والبرد، كما أشار له اليعمري. (و) كان اسم (قضيبه) - وهو غصن مقطوع من شجرة شوحط- يسمّى: ( «الممشوق» ) ، قيل: وهو الّذي كان الخلفاء يتداولونه، وسيأتي ذكره في حديث ابن عبّاس الآتي. (و) كان (اسم قدحه: «الرّيّان» ) - بفتح الرّاء وشد التّحتيّة- وله عدة أقداح. (و) كان اسم (ركوته) - بفتح الرّاء وسكون الكاف، بعدها مثنّاة فوقيّة، وحي كسر الرّاء، وحكي ابن دحية تثليث الرّاء- ( «الصّادر» ) ؛ لأنه يصدر عنها الريّ، أي: ريّ الشّارب منها، وسيأتي ذكرها في حديث ابن عبّاس الآتي. (و) كان اسم (سرجه) - بالجيم- وهو رحل الدّابة معروف، وهو عربي، وفي «شفاء العليل» : إنّه معرّب سرك، ( «الرّاجّ» ) - بالرّاء المهملة والجيم آخره- وسيأتي في حديث ابن عباس. (و) كان اسم (مقراضه) - بكسر الميم وضاد معجمة- وهو المسمّى بالمقص ( «الجامع» ) ، وسيأتي في حديث ابن عبّاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وسيفه الّذي كان يشهد به الحروب: (ذو الفقار) . وكانت له أسياف أخر. (و) كان اسم (سيفه الّذي كان يشهد به الحروب: «ذو الفقار) - بفتح الفاء وكسرها- قال ابن القيّم: تنقّله من بدر، وهو الّذي أري فيه الرّؤيا، ودخل به يوم فتح مكّة، وكانت أسيافه سبعة، وهذا ألزمه له. وقال الزّمخشري: سمّي ذا الفقار؛ لأنّه كانت في إحدى شفرتيه حزوز شبّهت بفقار الظّهر، وكان هذا السّيف لمنبّه بن الحجّاج، أو منبّه بن وهب، أو العاص بن منبّه، أو الحجّاج بن علاط، أو غيرهم؛ ثمّ صار عند الخلفاء العبّاسيين. قال العراقي: روى أبو الشّيخ؛ من حديث عليّ بن أبي طالب: كان اسم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذا الفقار. وللتّرمذيّ، وابن ماجه؛ من حديث ابن عبّاس أنّه صلّى الله عليه وسلم تنفّل سيفه ذا الفقار يوم بدر. وللحاكم؛ من حديث علي؛ في أثناء حديث: وسيفه ذو الفقار. وهو ضعيف. انتهى. قال الأصمعيّ: دخلت على الرّشيد فقال: أريكم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذا الفقار؟ قلنا: نعم، فجاء به، فما رأيت سيفا أحسن منه إذا نصب لم ير فيه شيء، وإذا بطح عدّ فيه سبع فقر، وإذا صفيحته يمانيّة يحار الطّرف فيه من حسنه. وقال قاسم بن ثابت بن حزم الأندلسي الفقيه المالكي المتوفّى سنة: - 302- اثنين وثلاثمائة في «الدلائل» : إنّ ذلك كان يرى في رونقه شبيها بفقار الحيّة، فإذا التمس لم يوجد، وله ذكر في حديث ابن عبّاس الطّويل، وسيأتي في المتن. وقد تقدّم في الفصل الخامس كلام في ذي الفقار بعضه غير مذكور هنا. (وكانت له) صلّى الله عليه وسلم (أسياف) ستّة (أخر) - بضمّ الهمزة وفتح الخاء- ممنوع من الصّرف للصفة والعدل، كما قال ابن مالك: ومنع عدل مع وصف معتبر ... في لفظ مثنى وثلاث وأخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وكانت له منطقة من أدم، فيها ثلاث حلق من فضّة. وكان اسم جعبته: (الكافور) . واسم ناقته: (القصواء) ؛ ... وبذي الفقار تصير أسيافه صلّى الله عليه وسلم سبعة، وقد تقدّمت مفصلة في الفصل الخامس. (وكانت له) صلّى الله عليه وسلم (منطقة) - بكسر الميم-: اسم لما يسمّيه النّاس الحياصة. ويقال له: العرقة- بعين مهملة مفتوحة وراء مفتوحة وقاف مفتوحة آخره تاء مربوطة- (من أدم) - بفتحتين- جلد (فيها ثلاث حلق من فضّة) ، والإبزيم من فضّة، والطرف الّذي يدخل في الإبزيم من فضّة. وقد ذكر ابن سعد وغيره: أنّه صلّى الله عليه وسلم يوم أحد حزم وسطه بمنطقة؛ وأقرّه اليعمري وغيره، فقول ابن تيمية «لم يبلغنا أنّه شدّ على وسطه منطقة» !! تقصير، فابن سعد ثقة حافظ، فهو حجّة على النّافي، ولا سيّما أنّما نفى أنّه بلغه، ولم يطلق النّفي؛ فدع عنك قيل وقال. انتهى «زرقاني» . (و) في «الإحياء» و «المواهب» و «كشف الغمة» : (كان اسم جعبته) بفتح الجيم والموحّدة بينهما عين مهملة ساكنة- وهي الكنانة يجمع فيها نبله: ( «الكافور» ) . قال العراقي: لم أجد له أصلا، وفي حديث ابن عبّاس عند الطّبراني أنّه كان له قوس يسمّى: «السّداد» ، وكانت له كنانة تسمّى: «الجمع» ؛ ذكره في «شرح الإحياء» . وسيأتي حديث ابن عبّاس الذي أشار إليه العراقي. (و) كان (اسم ناقته) صلّى الله عليه وسلم: ( «القصواء» ) - بفتح القاف والمدّ على غير قياس، والقياس القصر؛ كما وقع في بعض نسخ أبي ذر في البخاري- قيل: وهي الّتي هاجر عليها. والقصواء: النّاقة الّتي قطع طرف أذنها؛ وكل ما قطع من الأذن فهو: جدع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وهي الّتي يقال لها: (الغضباء) . فإذا بلغ الرّبع فهو: قصوى، فإذا جاوز فهو: عضب، فإذا استؤصلت فهو: صلم. قال ابن الأثير: ولم تكن ناقة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قصوا بهذا المعنى، وإنّما هو لقب لها، لقّبت به!! لأنّها كانت غاية في الجري، وآخر كلّ شيء أقصاه. وجاء في خبر أنّ له ناقة تسمّى: العضباء، وهي: الّتي كانت لا تسبق، فجاء أعرابيّ على قعود له فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين، فقال عليه الصلاة والسّلام: «إنّ حقّا على الله أن لا يرفع شيئا من الدّنيا إلّا وضعه» . وجاء في خبر أنّ له ناقة تسمّى: الجدعاء- بفتح الجيم وإسكان الدّال المهملة بعدها عين مهملة-: هي المقطوعة الأنف، أو الأذن، أو الشّفة. فقول الشّامي: إنّ الجذعاء- بالذّال المعجمة- سبق قلم؛ والعضباء والجدعاء لقب لهما، ولم يكن بهما عضب ولا جدع. وهذه الأوصاف الثّلاثة يحتمل أن تكون صفة لناقة واحدة فسمّى كلّ بما تخيّل إليه فيها، ويحتمل أنّ كلّ واحدة صفة ناقة مفردة. (و) قال المصنّف تبعا لأصله «الإحياء» و «كشف الغمة» : إنّ القصواء (هي الّتي يقال لها: «العضباء» ) - بفتح المهملة وسكون المعجمة بعدها موحّدة ومدّ- هي المقطوعة الآذان أو المشقوقتها. وقال ابن فارس: كان ذلك لقبا لها، وقال الزّمخشريّ: العضباء: منقول من قولهم «ناقة عضباء» ؛ أي: قصيرة القدّ. قال في «الفتح» : اختلف؛ هل العضباء هي القصواء أو غيرها؟ فجزم الحربيّ بالأوّل، وقال تسمّى العضباء والقصواء والجدعاء. وروى ذلك ابن سعد؛ عن الواقديّ، وقال غير الحربي بالثّاني، وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحملها «1» عند نزول الوحي غيرها. انتهى.   (1) هكذا الأصل!! ولعل الصواب: يحمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وكان اسم بغلته: (دلدل) . واسم حماره: (يعفورا) . وعلى القول الأوّل جرى العراقي في «ألفيّته» حيث قال: عضباء جدعاء هما القصواء ... لكن روى البزّار عن أنس: خطبنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على العضباء؛ وليست بالجدعاء. قال السّهيلي: فهذا من قول أنس أنّها غير الجدعاء، وهو الصّحيح. انتهى «زرقاني ومناوي» . (وكان اسم بغلته: «دلدل» ) - بدالين مهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة- وكانت شهباء؛ أي: بياضها غالب على سوادها، أهداها له المقوقس، قيل: وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، وكان صلّى الله عليه وسلم يركبها في السّفر، وعاشت بعده حتّى كبرت وسقطت أسنانها؛ وكان يجيش لها الشّعير، وعميت وماتت ب «ينبع» ؛ ذكره الزّرقاني على «المواهب» . وسيأتي لها ذكر في حديث ابن عبّاس. (و) كان (اسم حماره: «يعفورا» ) - بسكون العين المهملة وضمّ الفاء مصروف- قال الحافظ ابن حجر وغيره: هو اسم ولد الظّبي، كأنّه سمّي بذلك لسرعته، وقيل: تشبيها في عدوه باليعفور؛ وهو الخشف، أي: ولد الظّبي وولد البقرة الوحشيّة. ومات يعفور منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حجّة الوداع، وبه جزم النّوويّ؛ عن ابن الصّلاح. وقيل: طرح نفسه في بئر لأبي الهيثم بن التّيّهان يوم مات صلّى الله عليه وسلم، فكانت قبره، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في «الضعفاء» وقال: لا أصل له، وليس سنده بشيء. وفيه: أنّه غنمه من خيبر، وكان اسمه يزيد بن شهاب، وقد ساقه القسطلّاني في المعجزات: وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حمار يقال له: عفير، ثمّ المشهور؛ كما في «الألفيّة» وهو قول الجمهور- أنّهما اثنان، وقيل: هما واحد. قال في «الفتح» : زعمه ابن عبدوس، وقوّاه صاحب «الهدي» ، وردّه الدمياطي؛ فقال: عفير أهداه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 واسم شاته الّتي كان يشرب لبنها: (غيثة) . وفي حديث آخر: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيف محلّى، قائمته من فضّة، ونعله ... المقوقس، ويعفور أهداه فروة بن عمرو الجذامي، وقيل: بالعكس. والله أعلم. (و) قال المناوي في شرح «الجامع الصّغير» ؛ عن العراقي: وفي حديث للطّبراني: كان (اسم شاته الّتي كان يشرب لبنها: «غيثة» ) - بغين معجمة ومثلّثة، وقيل: غوثة؛ بواو بدل الياء-. وأخرج ابن سعد في «طبقاته» : كانت منايح رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الغنم سبع: عجوة، وسقيا، وبركة، وزمزم، وورسة، وأطلال، وأطراف. وفي سنده الواقديّ. وله؛ عن مكحول مرسلا: كانت له شاة تسمّى: قمر. وذكر في «العيون» : أنّ له شاة تسمّى: اليمن؛ بل روى أبو داود: أنّ له مائة شاة لا يريد أن تزيد على ذلك كلّما ولدت بهيمة دمج الرّاعي مكانها شاة. (وفي حديث آخر) رواه الطّبراني في «الكبير» ؛ من طريق عثمان بن عبد الرحمن؛ عن علي بن عذرة الدّمشقيّ؛ عن عبد الملك بن أبي سليمان؛ عن عطاء وعمرو بن دينار؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما-. وعليّ بن عذرة الدّمشقي! قال: الهيثميّ: متروك. وقال العراقيّ: إنّه نسب إلى وضع الحديث. وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وقال: عبد الملك وعليّ وعثمان متروكون، ونوزع في عبد الملك بأنّ الجماعة سوى البخاريّ رووا له-. وهذا هو حديث ابن عبّاس الموعود به، وهو جامع لكثير مما تقدّم؛ قال: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سيف محلّى) بفضّة؛ أي: مزيّن بها لأن التّحلية لم تكن عامة لجميعه؛ كما بيّنه بقوله: (قائمته) ؛ أي: مقبضه (من فضّة، ونعله) ؛ أي: الحديدة الّتي في أسفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 من فضّة، وفيه حلق من فضّة، وكان يسمى: (ذا الفقار) . وكان له قوس تسمى: (ذا السّداد) . وكانت له كنانة تسمى: (ذا الجمع) . وكان له درع موشّحة بنحاس تسمى: (ذات الفضول) . قرابه (من فضّة، وفيه حلق) في وسطه (من فضّة) . قال مرزوق الصّقال: أنا صقلته؛ فكانت قبيعته من فضّة وحلق في قيده، وبكر في وسطه من فضه. وجاء بسند حسن أنّ قبيعة سيفه ونعله وحلقا بينهما كانت من فضّة. انتهى «زرقاني» . والقبيعة- بالقاف-: ما على طرف مقبضه. والبكر: الحلق الّتي في حليته، وهي ما يكون في وسطه. (وكان يسمى: «ذا الفقار» ) - بفتح الفاء وفتح القاف- سمّي به!! لأنّه كان فيه حفر متساوية. (وكان له قوس تسمى) - بمثناة فوقية مضمومة وسكون السّين المهملة؛ وكذا ما يأتي، قاله المناوي-: ( «ذا السّداد» ) - بفتح السّين المهملة- علم منقول؛ لأنّه الصّواب من قول أو عمل. قال ابن القيّم: وكان له ستّة قسيّ؛ هذا أحدها، والزّوراء، والكتوم كسرت يوم أحد، وثلاث من سلاح بني قينقاع؛ قوس تدعى: الرّوحاء، وقوس شرحط تدعى: البيضاء، وقوس تدعى: الصّفراء. (وكانت له كنانة) - بكسر الكاف-: جعبة السّهام، وبها سمّيت القبيلة- (تسمى: «ذا الجمع» ) - بضم الجيم وسكون الميم-. (وكان له درع) - بكسر الدّال وسكون الرّاء المهملتين-: هو القميص المتّخذ من الزّرد- (موشّحة) - بتشديد الشّين المعجمة بعدها حاء مهملة- (بنحاس) - بضمّ النّون-؛ أي: موضوع فيها نحاس (تسمى: «ذات الفضول» ) ، وهي التي رهنها عند أبي الشّحم، وكان له سبعة دروع هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وكان له حربة تسمى: (النّبعاء) . وكان له مجنّ يسمى: (الذّفن) . وكان له فرس أشقر يسمى: (المرتجز) . وكان له فرس أدهم يسمى: (السّكب) . أحدها. وقد تقدّم الكلام على أدراعه في آخر الفصل الخامس. (وكان له حربة تسمى: «النّبعاء» ) - بنون مفتوح فموحّدة ساكنة فعين مهملة، وقيل: بباء موحّدة، ثم نون ساكنة، فعين مهملة، وبالمدّ-: شجر يتّخذ القسيّ منه. قال ابن القيّم: وكان له حربة أخرى كبيرة تدعى: البيضاء. (وكان له مجنّ) - بكسر الميم وفتح الجيم- أي: ترس، سمّي به! لأنّ صاحبه يستتر به، وجمعه مجان ككتاب (يسمى: «الذّفن» ) - بفتح الذال وسكون الفاء وفي بعض النسخ بالقاف بدل الفاء-. (وكان له فرس أشقر) ؛ أي: أحمر، في حمرته صفاء، (يسمى: «المرتجز» ) - بضم الميم وسكون الرّاء وفتح المثنّاة الفوقيّة وكسر الجيم بعدها زاي- سمّي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرّجز الّذي هو ضرب من الشّعر. قال في «العيون» : كأنّه ينشد رجزا؛ وكان أبيض. قال النّوويّ في «التّهذيب» : وهو الّذي اشتراه من الأعرابي الّذي شهد عليه خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي؛ فجعل شهادته شهادة رجلين. (وكان له فرس أدهم) ؛ أي: أسود (يسمى: «السّكب» ) - بفتح السّين المهملة وإسكان الكاف، وبالموحّدة- سمّي به لأنّه كثير الجري. وأصل السّكب: الصبّ، فاستعير لشدّة الجري. قيل: وهذا أوّل فرس ملكه؛ كما في «تهذيب النووي» . قال: وكان أغرّ محجّلا طلق اليمين. وهو أوّل فرس غزا عليه. وله عدة أفراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 وكان له سرج يسمى: (الرّاجّ) . وكان له بغلة شهباء تسمى: (الدّلدل) . (وكان له سرج يسمى: «الرّاجّ» ) - بالرّاء المهملة والجيم آخره- ذكره في «شرح الراموز» . (وكان له بغلة شهباء) - بالمدّ- أي: يغلب بياضها سوادها، ومن ثمّ أطلق عليها عمرو بن الحارث الصّحابيّ أنّها بيضاء؛ كما في «الصّحيح» ، وغيره. وقال بعضهم: كانت بيضاء، وقيل: شهباء. (تسمى: «الدّلدل» ) - بدالين مهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة؛ كقنفذ- أهداها له المقوقس، وعاشت بعده صلّى الله عليه وسلم حتى كبرت وسقطت أسنانها. وفي «تاريخ ابن عساكر» من طرق أنّها بقيت حتى قاتل عليها عليّ الخوارج في خلافته. وفي البخاري وغيره عن عمرو بن الحارث: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا تركها صدقة. قال شرّاحه: هي دلدل، لأنّ أهل السّير لم يذكروا بغلة بقيت بعده سواها، وهل هذه البغلة المسمّاة دلدل أنثى؟ كما أجاب به ابن الصّلاح، أو ذكر؛ كما نقل عن إجماع أهل الحديث. ويدلّ له قوله صلّى الله عليه وسلم: «ابرك دلدل» . ولم يقل: ابركي؛ قاله الزرقاني. وكان له بغلة تسمّى فضّة؛ أهداها له فروة بن عمرو الجذامي، فوهبها لأبي بكر؛ رواه ابن سعد؛ وكانت بيضاء. وهي الّتي كان عليها يوم حنين؛ كما في «مسلم» ؛ عن العبّاس: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. وعند «مسلم» ؛ عن سلمة: وكان على بغلته الشّهباء. ولا منافاة؛ وقيل: كان على دلدل؛ ذكره ابن سعد وغيره؛ وجمع القطب الحلبي باحتمال أنّه ركب كلّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 وكان له ناقة تسمى: (القصواء) . منهما يومئذ إن ثبت أنّها كانت صحبته، وإلّا فما في «الصّحيح» أصحّ. وأغرب النّوويّ؛ فقال: البيضاء والشّهباء واحدة، ولا يعرف له بغلة غيرها. وتعقبوه بدلدل، فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل: إنّ الاسمين لواحدة، وهذا القيل زعمه ابن الصّلاح، وهو مردود؛ بأنّ البيضاء الّتي هي الشّهباء أهداها له فروة بن نفاثة، ودلدل أهداها له المقوقس. انتهى «زرقاني» . وله صلّى الله عليه وسلم بغال غيرها ذكرها في «المواهب» ، و «فيض القدير» للمناوي و «شرح الإحياء» . (وكان له ناقة تسمى: «القصواء» ) - بفتح القاف والمدّ على غير قياس، والقياس القصر؛ كما وقع في بعض نسخ البخاريّ رواية أبي ذر- والقصو: قطع طرف الأذن. وقد قيل: كان طرف أذنها مقطوعا. وزعم الدّاوودي شارح البخاريّ: أنّها كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء لأنّها بلغت من السّبق أقصاه. قال القاضي عياض: ووقع في رواية العذري في «مسلم» بالضّمّ والقصر [قصوا] «1» !! وهو خطأ. وقال الخطّابي: أكثر أصحاب الحديث يقولون بالضمّ والقصر، وهو خطأ فاحش. إنّما القصوى تأنيث الأقصى؛ كالسّفلى تأنيث الأسفل، وهي الّتي هاجر عليها؛ كما قاله الواقدي وتبعه غير واحد من الحفّاظ. اشتراها من أبي بكر بثمانمائة درهم، وكانت من نعم بني قشير، وعاشت بعده صلّى الله عليه وسلم وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع؛ ذكره الواقديّ. وعند ابن إسحاق أنّ الّتي هاجر عليها الجدعاء، وكانت من إبل بني الحريش؛ وكذا في رواية «البخاري» في غزوة الرّجيع. وابن حبّان؛ عن عائشة؛ وهو أقوى إن لم نقل إنّهما واحدة، وكان على القصواء يوم الحديبية ويوم الفتح، ودخل عليها مردفا أسامة.   (1) إضافة للإيضاح ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وكان له حمار يسمى: (يعفورا) . وكان له بساط يسمى: (الكزّ) . وكان له عنزة تسمى: (النّمر) . وكان له ركوة تسمى: (الصّادر) . (وكان له حمار يسمى: «يعفورا» ) - بمثنّاة تحتيّة وعين مهملة ساكنة، وفاء مضمومة- اسم ولد الظّبية، كأنّه سمّي به لسرعته. قال الواقدي: نفق يعفور منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حجّة الوداع. وقيل: طرح نفسه في بئر يوم مات المصطفى صلّى الله عليه وسلم. قال الزّمخشريّ: وإنّما سمّي به لعفرة لونه. والعفرة: بياض غير ناصع كلون عفر الأرض؛ أي: وجهها. قال: ويجوز كونه سمّي به تشبيها في عدوه باليعفور؛ وهو الظّبي. انتهى. ويعفور غير عفير- بعين مهملة مصغرا- ووهّموا القاضي عياضا في ضبطه بغين معجمة!! وزعم ابن عبدوس أنّهما واحد. لكن ردّه الدّمياطي؛ فقال: عفير أهداه له المقوقس، ويعفور أهداه فروة بن عمرو، وقيل: بالعكس. انتهى «مناوي» . (وكان له بساط) - بكسر الباء الموحّدة- (يسمى: «الكزّ» ) - بكاف مفتوحة وزاي معجمة مشددة-. (وكان له عنزة) - بفتح العين المهملة وبفتح النّون والزّاي آخرها تاء مربوطة-: عصا ذات زجّ- بزاي مضمومة ثمّ جيم مشددة- أي: سنان؛ وهي الحربة الصغيرة دون الرّمح بنصفه، عريضة النّصل، لكن سنانها في أسفلها بخلاف الرّمح فإنّه في أعلاه؛ قاله القسطلّاني، (تسمى: «النّمر» ) بفتح النّون وكسر الميم. (وكان له ركوة) يشرب منها- بتثليث الرّاء، والفتح أفصح، وسكون الكاف- وهي الّتي للماء شبه تور من أدم، وفي «المصباح» : دلو صغير. وفي «النّهاية» : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء؛ (تسمى: «الصّادر» ) ؛ لصدور الرّي عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 وكان له مرآة تسمى: (المدلّة) . وكان له مقراض يسمى: (الجامع) . وكان له قضيب شوحط يسمى: (الممشوق) . وكان له صلّى الله عليه وسلّم ربعة ... (وكان له مرآة) يرى فيها وجهه الشّريف- وهي بالمدّ على وزان مفتاح- (تسمى: «المدلّة» ) - بضمّ الميم وكسر الدّال المهملة وشد اللّام-. (وكان له مقراض) - بكسر الميم وقاف وضاد معجمة آخره، والجمع: المقاريض والمقراض هو المقص؛ (يسمى: «الجامع» ) - بالجيم وآخره عين مهملة-. (وكان له قضيب) - فعيل بمعنى مفعول- أي: غصن مقطوع من شجرة (شوحط) - بفتح الشّين المعجمة وإسكان الواو فحاء مفتوحة فطاء مهملتين؛ هكذا ضبطه الزرقاني. قال في «شرح القاموس» : وهو ضرب من شجر الجبال تتّخذ منه القسيّ، والمراد بالجبال: جبال السّراة، فإنّها هي الّتي تنبته، قال الأعشى: وجيادا كأنّها قضب الشّو ... حط يحملن شكّة الأبطال وقال أبو حنيفة: أخبرني العالم بالشّوحط أن نباته نبات الأرز قضبان تسمو كثيرة من أصل واحد، قال: وورقة فيما ذكر رقاق طوال، وله ثمرة مثل العنبة الطّويلة إلّا أنّ طرفها أدقّ، وهي ليّنة تؤكل. انتهى. «ذكره في مادة شحط» . وبه تعلم أنّ ما قاله العزيزي على «الجامع الصغير» : إنّ الشّوحظ- بضم الشّين المعجمة وفتح الحاء المهملة فظاء معجمة آخره- خلاف المعروف، والله أعلم، (يسمى: «الممشوق» ) لطوله ودقّته- وهو بميمين فشين معجمة آخره قاف، على زنة اسم المفعول-. (و) في «المواهب» و «كشف الغمّة» : (كان له صلّى الله عليه وسلم ربعة) - بفتح الرّاء وإسكان الموحّدة وعين مهملة، كجؤنة العطار بإسكان الواو وربّما همزت- وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 يجعل فيها المرآة والمشط والمقراضين والسّواك. وكان له صلّى الله عليه وسلّم فرس يقال له: (اللّحيف) . جلد يجعل فيه العطار الطّيب، وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الإسكندريّة مع مارية في جملة ما أهداه، وفي «الألفيّة» للعراقي رحمه الله تعالى: كانت له ربعة، أي: مربّعه ... كجؤنة يجعل فيها أمتعه (يجعل فيها المرآة) الّتي كان ينظر فيها، فلم تبد أوسم من وجهه صلّى الله عليه وسلم، (و) يجعل فيها (المشط) - بضمّ الميم مع إسكان الشّين وضمّها وكسر الميم مع إسكان الشّين-، ويقال ممشط- بميمين الأولى مكسورة-؛ وكان من عاج، وهو ظهر السّلحفاة البّحريّة؛ كما في «المصباح» قائلا: وعليه يحمل أنّه كان لفاطمة سوار من عاج، ولا يجوز حمله على أنياب الفيلة؛ لأن أنيابها ميّتة بخلاف السّلحفاة. انتهى. وعليه يحمل المشط النّبويّ بالأولى. (و) يجعل فيها المكحلة الّتي كان يكتحل منها عند النوم ثلاثا في كل عين، ويجعل فيها (المقراضين) - بكسر الميم- وهو المسمّى الآن ب «المقص» ، (و) يجعل فيها (السّواك) - بكسر السّين- على الأفصح؛ كما قاله الحافظ ابن حجر والكرماني، يطلق على الفعل والآلة، وهو المراد هنا. (و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن سهل بن سعد السّاعدي رضي الله عنه قال: (كان له صلّى الله عليه وسلم فرس) - يذكّر ويؤنّث- (يقال له: «اللّحيف» ) - بحاء مهملة، كرغيف، وقيل: بالتّصغير. سمّي به لطول ذنبه، فعيل بمعنى فاعل، كأنّه يلحف الأرض بذنبه، وقيل: هو بخاء معجمة، وقيل: بجيم، وعند ابن الجوزيّ: بالنّون بدل اللّام من النّحافة- أهداها له ربيعة بن أبي البراء؛ واسمه عامر بن مالك العامري، يعرف عامر ب «ملاعب الأسنّة» ؛ ذكره ابن سعد عن الواقدي. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وفرس يقال له: (الظّرب) . وفرس يقال له: (اللّزاز) . (و) أخرج البيهقيّ في «سننه» بإسناد صحيح؛ عن سهل بن سعد: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم (فرس يقال له: «الظّرب» ) - بفتح الظّاء المعجمة وكسر الرّاء وبالموحّدة، ويقال: بكسر أوّله وسكون الرّاء، واحد الظّراب- وهي: الجبال الصّغار، سمّي الفرس به لكبره وسمنه. وقيل: لقوّته وصلابة حافره. أهداها له فروة بن عمرو- على الأشهر- ويقال: ابن عامر، ويقال: ابن نفاثة الجذامي «عامل قيصر على من يليه من العرب» ، وكان منزله «معان» وما حولها من الشّام، أسلم لما بعث صلّى الله عليه وسلم إليه يدعوه، وكتب إليه بإسلامه، ولم ينقل أنّه اجتمع به، فلمّا بلغ الرّوم إسلامه قتلوه، ذكره ابن إسحاق؛ وجزم به في «الإصابة» . (و) كان له (فرس يقال له: «اللّزاز» ) - بكسر اللّامين وزايين معجمتين خفيفتين- سمّي به لشدّة تلزّزه أو اجتماع خلقه، والملزّز المجتمع، ولزّ به الشّيء؛ أي: لزق به كأنّه يلتزق بالمطلوب لسرعته. قال السّهيلي: معناه: لا يسابق شيئا إلّا لزّة؛ أي: أثبته- وهذه أهداها له المقوقس، جريح بن ميناء القبطي في جملة ما أهدى قبل. وكان صلّى الله عليه وسلم معجبا به. وروى ابن منده؛ من رواية عبد المهيمن بن عبّاس بن سهل؛ عن أبيه؛ عن جده سهل قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عند سعد «والد سهل» ثلاثة أفراس، فسمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يسمّيهنّ: لزاز والظّرب واللّخيف؛ أي: بالخاء المعجمة. قال المناوي: وجملة أفراسه صلّى الله عليه وسلم سبعة متفق عليها، جمعها ابن جماعة في بيت فقال: والخيل سكب لحيف سبحة ظرب ... لزاز مرتجز ورد لها اسرار وقيل: كانت له أفراس أخر خمسة عشر. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وكان له قصعة يقال لها: (الغرّاء) ؛ يحملها أربعة رجال. وكان له جارية تسمى: (خضرة) . (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود؛ عن عبد الله بن بسر- رضي الله تعالى عنه- قال: (كان له) صلّى الله عليه وسلم (قصعة) - بفتح القاف ولا تكسرها-. ومن اللّطائف: لا تكسر القصعة ولا تفتح الخزانة. وبعضهم يقول: ولا تفتح الجراب، بدل الخزانة، والكلّ صحيح. (يقال لها: «الغرّاء» ) ؛ أي: تسمّى الغرّاء؛ قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» : الغرّاء تأنيث الأغرّ؛ مشتقّ من الغرّة، وهي بياض الوجه وإضاءته، ويجوز أن يراد أنّها من الغرة؛ وهي: الشّيء النّفيس والمرغوب فيه، فتكون سمّيت بذلك لرغبة النّاس فيها، لنفاسة ما فيها أو لكثرة ما تشبعه. وقال المنذري: سمّيت غرّاء!! لبياضها بالألية والشّحم. انتهى؛ ذكره الزّرقاني على «المواهب» . قال: وكانت كبيرة بأربع حلق، (يحملها أربعة رجال) بينهم؛ لعظمها. وتمام الحديث؛ كما في أبي داود: فلمّا أضحوا وسجدوا الضّحى؛ أي: صلّوها، أتي بتلك القصعة وقد ثرد فيها؛ فالتفّوا عليها، فلما كثروا جثا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أعرابيّ: ما هذه الجلسة؟ قال: «الله تعالى جعلني عبدا كريما؛ ولم يجعلني جبّارا عنيدا» . ثمّ قال: «كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك فيها» . انتهى. وفيه دلالة على سعة كرم المصطفى صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج البيهقي في «سننه» ؛ عن جعفر الصّادق؛ عن أبيه محمد الباقر مرسلا قال: (كان له) صلّى الله عليه وسلم (جارية تسمى: «خضرة» ) - بفتح الخاء وسكون الضاد المعجمتين- كما ضبطه العزيزي على «الجامع الصغير» . وقال المناوي؛ وتبعه الحفني: إنّه بكسر الضّاد. ولفظ الحديث؛ كما في «الجامع الصغير» : كانت ناقته تسمى العضباء، وبغلته الشّهباء، وحماره يعفور، وجاريته خضراء. وانتهى. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ......... انتهى الجزء الأوّل من كتاب «منتهى السّول» شرح كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول» تأليف الشّيخ يوسف النّبهاني رحمه الله تعالى جمع الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن سعيد محمّد عبادي اللّحجي اليماني المراوعي، ثمّ المكّي الشّافعي- وفقه الله تعالى-. وكان الفراغ من تبيضه ضحوة نهار يوم الخميس الموافق 11 شهر محرّم الحرام سنة- 1395- خمس وتسعين وثلثمائة وألف هجريّة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التّحيّة، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم، وصلّى الله وسلم على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا آمين، وفّقنا الله لمرضاته.. آمين. كتبه مؤلفه الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن سعيد محمّد عبادي اللّحجي اليماني ويليه الجزء الثاني وأوّله: الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 فهرسة الجزء الأول من كتاب منتهى السول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم كلمة الناشر 5 ترجمة الشيخ عبد الله اللّحجي 9 تعريف بكتاب منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم 23 الباب الأول: في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسمائه الشريفة وفيه: 125 الفصل الأول: في نسبه الشريف صلّى الله عليه وسلم 127 الفصل الثاني: في أسمائه الشريفة صلّى الله عليه وسلم 141 الباب الثاني: في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيه عشرة فصول 185 الفصل الأول: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلم وما شاكلها 186 الفصل الثاني: في صفة بصره صلّى الله عليه وسلم واكتحاله 289 الفصل الثالث: صفة شعره صلّى الله عليه وسلم وشيبه وخضابه 302 الفصل الرابع: في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلم ورائحته الطبيعية 343 الفصل الخامس: في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلم وتطيبه 355 الفصل السادس: في صفة صوته صلّى الله عليه وسلم 372 الفصل السابع: في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلم وسروره 377 الفصل الثامن: في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلم وبكائه وعطاسه 381 الفصل التاسع: في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلم وسكوته 413 الفصل العاشر: في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلم 421 الباب الثالث: في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفراشه وسلاحه وفيه ستة فصول 431 الفصل الأول: في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة 432 الفصل الثاني: في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلم وما يناسبه 522 الفصل الثالث: في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلم 538 الفصل الرابع: في صفة نعله صلّى الله عليه وسلم وخفّه 564 الفصل الخامس: في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلم 590 الفصل السادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلم أن يسمي سلاحه ودوابه ومتاعه 607 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 الجزء الثاني [الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه،] الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين على أمور الدّنيا والدّين. (الباب الرّابع) من الكتاب المشتمل على ثمانية أبواب ومقدّمة وخاتمة. (في) بيان ما ورد في (صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وإدامه. والأكل- بفتح الهمزة-: إدخال الطّعام الجامد من الفم إلى البطن، سواء كان بقصد التغذّي، أو غيره، كالتفكّه، فمن قال الأكل إدخال شيء من الفم إلى البطن بقصد «الاغتذاء» ) ! لم يصب، لأنه يخرج من كلامه أكل الفاكهة، وخرج بالجامد المائع، فإدخاله ليس بأكل بل شرب، وأما الأكل بضمّ الهمزة فاسم لما يؤكل. (و) في بيان ما ورد في صفة (شربه) بالضمّ، مصدر والفاعل شارب والجمع شاربون، وشرب كصاحب وصحب، وشربة ككافر وكفرة، قال في «المصباح» : والشّرب مخصوص بالمص حقيقة، ويطلق على غيره مجازا، والقصد هنا بيان كيفية شربه صلّى الله عليه وسلم، وفيه ذكر شرابه وهو ما يشرب من المائعات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ونومه وفيه ستّة فصول (و) في بيان ما ورد في صفة (نومه) صلى الله عليه وسلم؛ والنّوم: حالة طبيعية تتعطل معها القوى تسير في البخار إلى الدماغ، وقيل: غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، فهو آفة، ومن ثمّ قيل (إنّ النّوم أخو الموت) ، وأما السّنة ففي الرأس، والنّعاس في العين، وقيل السّنة هي النّعاس، وقيل السّنة ريح النّوم يبدو في الوجه ثم ينبعث إلى القلب فيحصل النعاس ثم النوم (وفيه ستّة فصول) يأتي بيانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 [الفصل الأوّل في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه] الفصل الأوّل في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه عن سماك بن حرب [رحمه الله تعالى] قال: سمعت النّعمان بن بشير (الفصل الأوّل) من (الباب الرابع) (في) بيان ما ورد في (صفة عيشه صلّى الله عليه وسلم) أي: كيفية معيشته حال حياته، إلى وقت مماته، لأن العيش يطلق على الحياة وعلى ما يكون به الحياة. والمراد بالعيش هنا الحياة، والمبوّب له هنا بيان صفة حياته صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه وما اشتملت عليه حياتهم من الضيق والفقر. (و) في بيان ما ورد في صفة (خبزه) الخبز- بضم الخاء المعجمة وإسكان الباء-: الشيء المخبوز أي: اسم ما يؤكل من نحو برّ، وبفتح الخاء المعجمة مع إسكان الباء مصدر، بمعنى اصطناع الخبز بالضمّ. (عن) أبي المغيرة (سماك) بكسر السين المهملة (ابن حرب) بن أوس بن خالد البكري الذهلي الكوفي، أحد الأعلام التابعين. أدرك ثمانين صحابيا، وروى عن جابر بن سمرة والنعمان بن بشير وغيرهما، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه والبخاري في «التاريخ» ، وفي المحدثين من يضعّفه، وكان ذهب بصره ثم شفي وعاد إليه، ومات سنة: ثلاث وعشرين ومائة هجرية رحمه الله تعالى (قال: سمعت) أبا عبد الله (النّعمان) - بضم النون- (بن بشير) - بالباء الموحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 رضي الله تعالى عنهما يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم وما يجد من الدّقل ما يملأ بطنه. والشين المعجمة- بزنة «نذير» ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، هو وأبوه وأمّه صحابيون، اسم أمّه: عمرة بنت رواحة. وولد النّعمان على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة على الأصح، وهو أوّل مولود من الأنصار بعد الهجرة، استعمله معاوية على حمص ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده يزيد بن معاوية، وكان كريما جوادا شاعرا. وروي له عن النّبي صلّى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة عشر حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، وانفرد مسلم بأربعة. وروى عنه ابناه محمد وبشير، وعروة بن الزّبير والشعبي وآخرون. قتل بالشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين، وقيل سنة ستين (رضي الله تعالى عنهما؛ يقول: (ألستم في طعام وشراب ما شئتم) أي: ألستم متنعمين؟! في طعام وشراب الذي شئتموه من التوسعة والإفراط! ف «ما» موصولة، وهي بدل مما قبله، والقصد التقريع والتوبيخ، ولذلك أتبعه بقوله: (لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلم) أضاف النبيّ إلى المخاطبين؛ للإشارة إلى أنّه يلزمهم الاقتداء به والمشي على طريقته، وعدم التطلع إلى الدنيا- أي: إلى نعيم الدّنيا وزخارفها- والرغبة في القناعة، والمعنى: والله لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلم (و) الحال أنه (ما يجد من الدّقل) - بفتحتين- وهو رديء التمر (ما يملأ بطنه) لإعراضه عن الدّنيا وما فيها، وإقباله على الآخرة، وهو مع ذلك نضير الجسم، محفوظ القوة، حتى إن رأيته لا تقول «به جوع» !. وفي «مسند» الحارث بن أبي أسامة عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت بكسرة خبز إلى المصطفى صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذه؟» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 و (الدّقل) : رديء التّمر. وكان أكثر طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: التّمر والماء. قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه. فقال: «أما إنّه أوّل طعم دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام» . وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لم يشبع صلّى الله عليه وسلم قط، وما كان يسأل أهله طعاما ولا يشتهي؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. وذلك كله رفعة في مقامه الشريف، وزيادة في علو قدره المنيف. واعلم أن فقره صلّى الله عليه وسلم كان اختياريا؛ لا كرها واضطراريا!! وقد استمر عليه حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، فلا يحتاج إلى ما قاله بعضهم من «أن هذا كان في ابتداء الحال» . والله أعلم. وقد انقسم النّاس بعده عليه الصّلاة والسّلام أربعة أقسام: قسم لم يرد الدّنيا ولم ترده؛ كالصّدّيق الأكبر رضي الله تعالى عنه. وقسم لم يرد الدّنيا وأرادته؛ كالفاروق. وقسم أرادها وأرادته؛ كخلفاء بني أمية، وبني العباس؛ إلّا عمر بن عبد العزيز. وقسم أرادها ولم ترده؛ كمن أفقره الله تعالى، وامتحنه بجمعها وحبّها. (والدّقل) - بفتح الدال والقاف؛ بوزن «دخل» و «فرس» ، - هو: (رديء التّمر) ويابسه، وما ليس له اسم خاص. (و) قال حجة الإسلام الغزالي، والشعراني في «كشف الغمة» : (كان أكثر طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلم التّمر والماء) . قال العراقي: روى البخاري من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد شبعنا من الأسودين؛ التّمر والماء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا آل محمّد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلّا التّمر والماء. وفي رواية البخاريّ ... (و) روى الترمذي وغيره في «الشمائل» وغيرها؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كنّا) ، وفي نسخة من «الشمائل» : إن كنا؛ بزيادة «إن» المخفّفة من الثقيلة، والمعنى: إنّا كنّا (آل محمّد) ؛ بالرفع بدل من الضمير في «كنا» ، وبالنصب على تقدير «أعني» أو «أخص» ، وجعله خبر «كنا» بعيد لأنّ القصد ليس كونهم آله، بل المقصود بالإفادة ما بعده، وهو قولها: (نمكث شهرا) لا يشكل عليه رواية «الصحيحين» الآتية عنها؛ شهرين!! لأن الأكثر لا ينفي الأقل، ولا يشكل عليه اتفاق النحاة على لزوم اللّام في الفعل الواقع في خبر «إن» المخففة؛ لأنّه محمول على الغالب، فعائشة من فصحاء العرب وقد نطقت به بلا لام!! (ما نستوقد) - حال، وجعله خبرا بعد خبر!! بعيد- (بنار) أي: لا نهيّء شيئا نطبخه بها (إن هو) أي: الذي نتناوله (إلّا التّمر والماء) أي: ما طعامنا إلا التّمر والماء، وفي رواية: «إلّا التّمر والملح» ، وفي أخرى: «إلا الأسودان» ، والجملة مستأنفة جوابا لنحو: ما كنتم تتقوتون. (وفي رواية) الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي مولاهم (البخاريّ) أمير المؤمنين في الحديث مؤلف «الصحيح» و «التاريخ» وغير ذلك، ولد في ثالث شوال سنة: - 194- أربع وتسعين ومائة. وألهم حفظ الحديث في الكتّاب وهو ابن عشر سنين، وحفظ «كتب» ابن المبارك ووكيع وهو ابن ست عشرة سنة، وخرج مع أمّه وأخيه أحمد إلى مكّة وتخلّف بها يطلب، وكتب بخراسان والجبال والعراق والشام ومصر. وروى عن مكّي بن إبراهيم، وأبي نعيم الفضل بن دكين وخلائق من هذه الطّبقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 ومسلم: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي؛ ... ومن بعدهم، حتى كتب عن أقرانه وعن أصغر منه حتى زاد عدد شيوخه على ألف!!. روى عنه مسلم خارج «الصحيح» والترمذي وأبو زرعة وابن خزيمة وابن حبان ومحمد بن يوسف الفربري وهو آخر من روى «الصّحيح» ، وآخر من زعم أنّه سمع منه عبد الله بن فارس البلخي. وروى الفربري عنه «ما وضعت في «الصحيح» حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» . وقال جماعة من المشايخ: حول البخاري تراجم «جامعه» بين قبر النبي صلّى الله عليه وسلم ومنبره، «وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين» . قال البخاري: صنفت «كتاب الصحيح» لستّ عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله تعالى!. وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر سنة- 256- ست وخمسين ومائتين، ودفن ب «خرتنك» قرية على فرسخين من سمرقند رحمه الله تعالى رحمة الأبرار آمين. (و) رواية أبي الحسين (مسلم) بن الحجاج بن مسلم القشيري النّيسابوري الإمام المشهور صاحب «الصحيح» رحمه الله تعالى. (كانت عائشة) أم المؤمنين الصّدّيقة بنت الصّدّيق (رضي الله تعالى عنها) وعن أبيها (تقول لعروة) بن الزبير ترغيبا للمسلمين، وتذكيرا للنّعم الطارئة عليهم بعده ببركته عليه الصّلاة والسّلام، وحملا على التأسي به في التقلل من الدنيا. (والله يا ابن أختي) أسماء ذات النطاقين وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري أنها قالت لعروة: ابن أختي، قال القسطلّاني: بوصل الهمزة وتكسر في الابتداء وفتح النون على النداء وأداته محذوفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 إن كنّا لننظر إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. قال: قلت يا خالة؛ فما كان يعيّشكم؟ قالت: الأسودان؛ التّمر والماء، إلّا أنّه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار، (إن كنّا) إن مخفّفة من الثّقيلة دخلت على الفعل الماضي الناسخ، واللّام في (لننظر) فارقة بينها وبين «إن» النافية عند البصريين قاله القسطلّانيّ. (إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة) بجرّ ثلاثة ونصبه بتقدير لننظر (في شهرين) باعتبار رؤية الهلال أول الشهر الأول والثاني وآخره ليلة الثالث، فالمدة ستون يوما والمرئي ثلاثة أهلة، (وما أوقد) بضم الهمزة وكسر القاف (في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار) بالرفع نائب عن الفاعل، لا لطبخ ولا لغيره، فعند ابن جرير عنها: أهدى لنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رجل شاة فإني لأقطّعها في ظلمة البيت، فقيل لها: أما كان لكم سراج؟! فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه. (قال) أي: عروة (قلت: يا خالة) بضم التاء منادى مفرد، وفي رواية خالتي (فما كان يعيّشكم) بضم أوله من أعاشه الله يعيشه، وضبطه النّووي بتشديد الياء الثّانية، أي: مع فتح العين؛ قاله الحافظ ابن حجر وغيره، أي: يدفع عنكم ألم الجوع ويكون سببا في الحياة. (قالت: الأسودان؛ التّمر والماء) هو على التغليب، فالماء لا لون له، وكذا قالوا: الأبيضان اللبن والماء، وإنما أطلق على التمر أسود لأن غالب تمر المدينة أسود. (إلّا أنّه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم جيران) بكسر الجيم جمع جار؛ وهو المجاور في السكن (من الأنصار) سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حرام وأبو أيوب خالد بن زيد وسعد بن زرارة وغيرهم؛ قاله الحافظ ابن حجر وتبعه القسطلاني في باب الهبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ألبانها، فيسقيناه. وعن أبي طلحة ... (وكانت لهم منائح) بنون ومهملة جمع منيحة وهي العطيّة لفظا ومعنى، أي غنم فيها لبن، وأصلها عطيّة الناقة أو الشّاة. وقيل: لا يقال منيحة إلّا للنّاقة وتستعار للشاة. قال الحربي: يقولون منحتك الناقة، وأعرتك النخلة، وأعمرتك الدار، وأخدمتك العبد، وكل ذلك هبة منافع؛ لا رقبة! انتهى «زرقاني» . والمعتمد عند الشافعية: أن أعمرتك الدار كوهبتك الدار في كون كل منهما هبة للرقبة حيث وجد باقي شروط الهبة. والله أعلم. (فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) أي: منه لا يخصهم بجميعه، بحيث لا يتناول منه شيئا، ففي رواية الإسماعيلي: فيسقينا منه. (و) أخرج الترمذي من طريق أنس بن مالك، (عن أبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حزام، - بالزاي- ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري المدني. شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهو أحد النقباء رضي الله عنهم، روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا؛ اتّفق البخاري ومسلم منها على حديثين وانفرد البخاري بحديث وانفرد مسلم باخر. روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وأنس وآخرون وجماعات من التابعين. توفي بالمدينة المنورة سنة: - 32- اثنتين وثلاثين. وقيل أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة كذا قال الأكثرون بأنّه توفي بالمدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 رضي الله تعالى عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه عن حجرين. وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله (ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر) : وكان أحدهم يشدّ في بطنه الحجر من الجهد والضّعف الّذي به من الجوع. وصلّى عليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما وعن سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم آمين (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه. (قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا) أي: كشفنا (عن بطوننا عن حجر حجر) بدل اشتمال بإعادة الجار، أي: رفع كل واحد عن حجر مشدود عن بطنه، كعادة العرب أو أهل المدينة إذا خلت أجوافهم لئلا تسترخي، فالتكرير باعتبار تعدد المخبر. (فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين) ليعلم أصحابه أن ليس عنده ما يستأثر به عليهم، وتسلية لهم؛ لا شكاية أن ما بهم من الجوع أصابه فوقه حتى احتاج إلى حجرين!! (وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله: ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر!! وكان أحدهم يشدّ في بطنه) أي عليه (الحجر من الجهد) أي: من أجله، ف «من» تعليلية، والجهد- بضمّ الجيم وفتحها-: المشقة (والضّعف) - بفتح الضاد، ويجوز ضمها- وهو كالتفسير لما قبله. وقوله: (الّذي به) صفة للجهد والضعف، وإنما أفرد الموصول!! لما علمت من أن الضعف كالتفسير للجهد. وقوله (من الجوع) أي: الناشىء من الجوع، وفي تعبيره ب «معنى» تجوّز إذ معنى اللفظ ما دلّ عليه، وإنما هذا بيان لحكمة وضع الحجر!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وفي كتاب «المواهب» : عن ابن بجير [رضي الله تعالى عنه] قال: أصاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جوع يوما، فعمد إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا ربّ نفس طاعمة ناعمة في الدّنيا.. جائعة عارية يوم القيامة، ... (وفي كتاب «المواهب) اللدنية» للعلامة القسطلّانيّ (عن ابن بجير) : بموحّدة وجيم، صحابي يعدّ في الشاميين، روى عنه جبير بن نفير هكذا أورده الذهبي في «التجريد فيمن عرف بأبيه ولم يسمّ» تبعا لأبي نعيم، وكذا تبعه الحافظ في «أطراف الفردوس» والمنذري في «الترغيب» . وأورده الذهبي أيضا في باب الكنى فقال: أبو البجير صحابي روى عنه جبير بن نفير ثم ترجم له أبو بجير، روى عنه ابنه بجير حديثا. وفي «الإصابة» أبو بجير غير منسوب. ذكره ابن منده. وأخرج من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بجير عن أبيه عن جده عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القرآن كلام ربي» .. الحديث وسنده ضعيف. وترجم عقبه أبو البجير، استدركه ابن الأمين وعزاه لابن العرضي في «المؤتلف» ، ولعله ابن البجير الآتي في المبهمات. انتهى. فيجوز أن ابن بجير يكنى بأبي البجير فلا خلف، ثم هما شخصان كلّ يكنى بأبي البجير، وراوي هذا الحديث ليس هو الذي روى عنه ابنه، بل الثاني الذي روى عنه جبير بن نفير كما بيّنه في «الجامع الكبير» . وأما الذي روى عنه ابنه فإنما له حديث: «القرآن كلام ربي» انتهى «زرقاني» . (قال: أصاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم جوع يوما، فعمد) - بفتح الميم- (إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا) - حرف تنبيه تؤكّد بها الجملة المصدرة بها- (ربّ نفس) وفي رواية: «ألا يا ربّ نفس» بأداة النداء وحذف المنادى؛ أي: ألا يا قوم ربّ. وهي للتقليل، والمقام مقام تخويف وتهويل (طاعمة ناعمة في الدّنيا) ؛ أي: مشغولة بلذات المطاعم والملابس، غافلة عن أعمال الآخرة (جائعة عارية) - بالرفع خبر مبتدأ- أي: هي لأنّه إخبار عن حالها (يوم القيامة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ألا ربّ مكرم لنفسه.. وهو لها مهين، ألا ربّ مهين لنفسه.. وهو لها مكرم» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ... لا في الدّنيا لوصفها فيها بضد ذلك، أي: تحشر وهي كذلك، يوم الموقف الأعظم، زاد في رواية ابن سعد والبيهقي: «ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدّنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة» . (ألا ربّ مكرم لنفسه) بمتابعة هواها وتبليغها مناها بتبسطه بألوان طعام الدنيا وشهواتها، وتزينه بملابسها ومراكبها، وتقلبه في مبانيها، وزخارفها، (وهو لها مهين) أن ذلك يبعده عن الله، ويوجب حرمانه من مثال حظ المتقين في الآخرة. (ألا ربّ مهين لنفسه) بمخالفتها وإذلالها، وإلزامها بعدم التطاول، والاقتصار على الأخذ من الدّنيا بقدر الحاجة، (وهو لها مكرم» ) يوم العرض الأكبر لسعيه لها، فيما يوصلها إلى السعادة الأبدية والراحة السرمدية. رواه ابن أبي الدنيا وضعّفه المنذري، وأخرجه ابن سعد والبيهقي بزيادة: «ألا يا ربّ متخوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله!؟ ما له عند الله من خلاق. ألا وإنّ عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإنّ عمل النار سهل بشهوة!! ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا» . وروى ابن أبي الدّنيا وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا، فقلت: ما أصابك: قال: «الجوع» . فبكيت، فقال: «لا تبك فإنّ شدّة الجوع لا تصيب الجائع- أي: في يوم القيامة- إذا احتسبت في دار الدّنيا» . (و) روى مسلم وأصحاب «السنن الأربعة» والترمذي أيضا في «الشمائل» : كلهم (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟» ، قال: خرجت ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنظر في وجهه، والتّسليم عليه، ... ورواه مالك عنه في «الموطأ» بلاغا والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم؛ عن عمر بن الخطاب، وابن حبان عن ابن عباس، وابن مردويه عن ابن عمر، والطبراني عن عبد الله بن مسعود، وفي سياقهم اختلاف بالزيادة والنقص. (قال) - أي- أبو هريرة رضي الله تعالى عنه؛ كما «في الشمائل» : (خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: من بيته إلى المسجد، أو إلى غيره (في ساعة لا يخرج فيها) ؛ أي: لم تكن عادته الخروج فيها، (ولا يلقاه فيها أحد) أي: باعتبارها عادته. وهذه الساعة يحتمل أن تكون من الليل وأن تكون من النهار!! ويعيّن الأول ما في مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر؛ فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة؟» . قالا: الجوع يا رسول الله. قال: «وأنا والّذي نفسي بيده أخرجني الّذي أخرجكما!! قوما» . فقاما معه، فأتوا رجلا من الأنصار، وهو أبو الهيثم بن التّيّهان. انتهى. وفي شرح ملّا علي قاري على «الشمائل» ما يعيّن الثاني، وهو ما روي عن جابر: أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم جائعا فلم يجد عند أهله شيئا يأكله، وأصبح أبو بكر جائعا ... الحديث. ولعل ذلك تعدّد فمرة كان ليلا ومرة كان نهارا!. (فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟!» ) أي: ما حملك على المجيء؟ (قال: خرجت ألقى رسول الله) أي: حال كوني أريد أن ألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه) أي: وأريد أن أنظر في وجهه الشريف، (والتّسليم عليه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 فلم يلبث أن جاء عمر فقال: «ما جاء بك يا عمر؟» ، قال: الجوع يا رسول الله، قال صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك» . فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم ... - بالنصب- على أن التقدير: وأريد التسليم عليه (فلم يلبث أن جاء عمر) أي: فلم يلبث مجيء عمر، ف «أن» وما بعدها في تأويل مصدر فاعل، والمعنى لم يتأخّر مجيء عمر، بل حصل سريعا بعد مجيء أبي بكر. (فقال) أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (: «ما جاء بك يا عمر؟!» أي: ما حملك على المجيء؟. (قال: الجوع يا رسول الله!) كأنه جاء ليتسلّى عنه بالنظر إلى وجهه المكرم، وكان ذلك بعد كثرة الفتوحات، وكثرتها لا تنافي ضيق الحال في بعض الأوقات! لا سيما بعد ما تصدّق أبو بكر بماله. (قال) رسول الله (صلى الله عليه وسلم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك» ) الجوع الذي أدركك! قاله تسليا وإيناسا لهما لما علم من شدّة جوعهما، ( [فانطلقوا] ) أي: ذهبوا وتوجهوا (إلى منزل أبي الهيثم) - بمثلاثة- هكذا صرّح به في «الموطأ» ؛ والترمذي، وكذا البزار، وأبو يعلى، والطبراني؛ عن ابن عباس، والطبراني أيضا عن ابن عمر. وفي رواية عند الطبراني وابن حبان «في صحيحه» عن ابن عباس أنّه أبو أيوب، والظاهر أن القضية اتفقت مرة مع أبي الهيثم، كما صرّح به في أكثر الروايات، ومرة مع أبي أيوب. وفي رواية مسلم: رجلا من الأنصار. وهي محتملة لهما، وعلى كل ففيه منقبة عظيمة لكلّ منهما إذ أهّله صلّى الله عليه وسلم لذلك، وجعله ممن قال الله فيهم: أَوْ صَدِيقِكُمْ [61/ النور] . انتهى «زرقاني» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 ابن التّيّهان الأنصاريّ- وكان رجلا كثير النّخل والشّاء، ولم يكن له خدم- فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: «أين صاحبك؟» ، فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء. واسم أبي الهيثم: مالك (بن التّيّهان) - بفتح التاء المثناة فوق، وتشديد الياء المثناة، تحت مكسورة- وهو لقب، واسمه عامر بن الحارث، وقيل: عتيك بن عمرو (الأنصاريّ) أي: المنسوب للأنصار لأنه حليفهم، وإلّا! فهو قضاعي ترهّب قبل الهجرة، وأسلم وحسن إسلامه. وانطلاقهم إلى منزله لا ينافي كمال شرفهم، فقد استطعم موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام قبلهم، وكان للمصطفى مندوحة عن ذلك؛ ولو شاء لكانت جبال تهامة تمشي معه ذهبا؛ لكن الله سبحانه وتعالى، أراد أن يهتدي الخلائق بهم، وأن يستنّ بهم السنن، ففعلوا ذلك تشريعا للأمة. وهل خرج صلّى الله عليه وسلم قاصدا من أوّل خروجه إنسانا معينا، أو جاء التعيين بالاتفاق؟! احتمالان، قال بعضهم: الأصحّ أن أوّل خاطر حركه للخروج لم يكن إلى جهة معينة، لأن الكمّل لا يعتمدون إلّا على الله تعالى. (وكان) أي: أبو الهيثم (رجلا) من أشراف الصحابة وأكابرهم، (كثير النّخل) ؛ واحده نخلة، (والشّاء) بالهمز؛ جمع شاة بالتاء، وتجمع أيضا على شياه. (ولم يكن له خدم) - بفتحتين- جمع خادم، يقع على الذكر والأنثى. وليس المراد نفي الجمع، بل نفي جميع الأفراد، إذ لم يكن له خادم لا ذكر ولا أنثى، والمقصود من ذكر ذلك بيان سبب خروجه بنفسه لحاجته، فهو توطئة لقوله: (فلم يجدوه) أي: في البيت لاحتياجه إلى خروجه، بسبب خدمة عياله (فقالوا لامرأته: «أين صاحبك؟» ) ؛ وهو أحسن عبارة من «زوجك» . (فقالت: انطلق) أي: ذهب (يستعذب لنا الماء) ؛ أي: يأتي لنا بماء عذب، من بئر، وكان أكثر مياه المدينة مالحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها- أي: يملؤها- فوضعها، ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويفدّيه بأبيه وأمّه. ثم إن هذه المرأة تلقّتهم أحسن التلقّي، وأنزلتهم أكرم الإنزال، وفعلت ما يليق بذلك الجناب الأفخم، والملاذ الأعظم. ويؤخذ من ذلك حلّ تكليم الأجنبيّة، وسماع كلامها مع أمن الفتنة؛ وإن وقعت فيه مراجعة. ويؤخذ منه جواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها؛ إذا علمت رضاه، وجواز دخول الضيف منزل الشخص، بإذن زوجته؛ مع علم رضاه، حيث لا خلوة محرّمة. ويؤخذ منه حلّ استعذاب الماء، وجواز الميل إلى المستطاب طبعا من ماء وغيره وأن ذلك لا ينافي الزهد. (فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم) أي: فلم يمكثوا زمنا طويلا، إلى أن جاء أبو الهيثم، بل مكثوا يسيرا لقرب مجيئه لهم، والمعنى أنه لم يكن لهم انتظار كثير إلى مجيئه (بقربة) أي: متلبسا بقربة، وحاملا لها (يزعبها) - بتحتية مفتوحة، فزاي ساكنة، فمهملة، فموحّدة-؛ من زعب القربة كنفخ إذا ملأها فلذلك قال المصنف: (أي: يملؤها) وقيل: حملها ممتلئة. ويؤخذ منه أن خدمة الإنسان بنفسه لأهله، لا تنافي المروءة، بل هي من التواضع، وكمال الخلق، (فوضعها) أي: القربة (ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) : يعانقه، ويلصق صدره به؛ تبركا به. (ويفدّيه) - بضم ففتح فتشديد- (بأبيه وأمّه) أي: يقول: فداك أبي وأمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ثمّ انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطا، ثمّ انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أفلا تنقّيت لنا من رطبه؟!» ، فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا (ثمّ انطلق بهم إلى حديقته) أي: ثمّ انطلق مصاحبا لهم إلى بستانه، فالباء للمصاحبة، والحديقة: البستان، سمي بذلك! لأنهم في الغالب يجعلون عليه حائطا؛ يحدق به، أي: يحيط به، يقال: أحدق القوم بالبلد، إذا أحاطوا به. (فبسط لهم بساطا) - بكسر أوّله-؛ أي: مدّ لهم فراشا، ونشره للجلوس عليه، وهو فعال بمعنى مفعول، كفراش بمعنى مفروش. (ثمّ انطلق إلى نخلة) من نخيله (فجاء بقنو) - بكسر القاف وسكون النون-؛ بوزن حمل، - أي: عذق، كما في مسلم وهو: الغصن من النخلة المسمّى بالعرجون؛ فيه بسر وتمر ورطب؛ بمنزلة العنقود من الكرم. (فوضعه) أي: بين أيديهم، ليتفكّهوا منه قبل الطعام، لأن الابتداء بما يتفكّه من الحلاوة أولى، فإنّه مقوّ للمعدة لأنه أسرع هضما. وقال القرطبي: إنما قدّم لهم هذا العرجون!! لأنّه الذي تيسر فورا، من غير كلفة، ولأن فيه أنواعا من التمر والبسر والرطب. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أفلا تنقّيت) من التنقّي، بمعنى التخيّر، أي: أفلا تخيرات؟ (لنا من رطبه» ) وتركت باقيه! حتى يترطّب فينتفعون به. فالتنقّي: التخيّر، والتنقية: التنظيف، والرّطب- بضم الراء وفتح الطّاء-: تمر النّخل؛ إذا أدرك ونضج، الواحدة رطبة. وهو نوعان: نوع لا يتتمّر، بل إذا تأخر أكله أسرع إليه الفساد، ونوع يتتمر؛ أي: يصير تمرا. ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للمضيف أن يقدّم إلى الضيف أحسن ما عنده. (فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا) أي: تتخيروا أنتم بأنفسكم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 من رطبه وبسره. فأكلوا وشربوا من ذلك الماء. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذا- والّذي نفسي بيده- من النّعيم الّذي تسألون عنه يوم القيامة؛ ... فتأخذوا الخيّر (من رطبه وبسره) أي: تارة من رطبه، وأخرى من بسره، بحسب اشتهاء الطبع، أو بحسب اختلاف الأمزجة في الميل إلى أحدهما، أو إليهما جميعا. (فأكلوا) أي من ذلك القنو، (وشربوا من ذلك الماء) . زاد في رواية مسلم: «حتى شبعوا» ، وهو دليل على جواز الشبع، ومحلّ كراهته في الشبع المثقّل للمعدة، المبطّئ بصاحبه عن العبادة. (فقال) أي: (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هذا) أي المقدّم لنا (و) الله (الّذي نفسي بيده) أي: بقدرته فيتصرّف فيها كيف يشاء، ووسّط القسم بين المبتدأ والخبر!! لتأكيد الحكم (من النّعيم) ؛ أي: التنعم (الّذي تسألون عنه) - بالبناء للمجهول-، وهذا ناظر لقوله عليه الصلاة والسلام في موضع آخر: «حلالها حساب، وحرامها عقاب» (يوم القيامة) ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) [التكاثر] أي: عن القيام بحقّ شكره، أو تعداد النّعم والامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال تقريع وتوبيخ ومحاسبة. والمراد أن كلّ أحد ليسأل عن نعيمه الذي كان فيه: هل ناله من حلّه ووجهه أم لا؟! فإذا خلص من هذا سئل: هل قام بواجب الشّكر، فاستعان به على الطّاعة أم لا؟. فالأول سؤال عن سبب استخراجه، والثاني عن محل صرفه؛ ذكره ابن القيم. وإنما ذكر صلّى الله عليه وسلم ذلك في ذلك المقام!! إرشادا للآكلين والشاربين، إلى حفظ أنفسهم في الشبع من الغافلة؛ باشتغال أحدهم بحديقته، ونعيمه عن تدبّر الآخرة، والنعيم: كلّ ما يتنعّم به؛ أي: يستطاب ويتلذذ به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» . فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تذبحنّ لنا ذات درّ» ، فذبح لهم عناقا؛ أو جديا،.. ثم عدد صلّى الله عليه وسلم أوجه النّعيم الذي هم فيه بقوله: (ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» ) . وهو خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان لكون ذلك من النّعيم. (فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما) ؛ أي: مطبوخا، على ما هو معروف في العرف العام؛ وإن كان قد يطلق الطّعام على الفاكهة لغة. وبهذا الحديث استدلّ الشافعي على أن نحو الرطب فاكهة؛ لا طعام. وقال أبو حنيفة: إنّ الرّطب والرّمّان ليسا بفاكهة، بل الرطب غذاء، والرمان دواء، وأما الفاكهة، فهو ما يتفكه به تلذّذا. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا تذبحنّ لنا) شاة (ذات درّ» ) - بفتح الدال وتشديد الراء المهملتين- أي: لبن، وفي المستقبل بأن تكون حاملا. ولعله صلّى الله عليه وسلم فهم من قرائن الأحوال أنّه أراد أن يذبح لهم شاة؛ فقال له ذلك، وهذا نهي إرشاد، وملاطفة، لا كراهة في مخالفته، فالمقصود الشفقة عليه؛ وعلى أهله، لأنهم ينتفعون باللبن مع حصول المقصود بغيرها. وفي رواية مسلم: أنّه أخذ المدية، فقال له صلّى الله عليه وسلم: «إيّاك والحلوب» . (فذبح لهم عناقا) - بفتح العين كسحاب-: أنثى المعز لها أربعة أشهر. (أو) شك (جديا) - بفتح فسكون- كفلس: ذكر المعز ما لم يبلغ سنة، وهذا ليس من التكلف للضيف؛ المكروه عند السّلف، لأنّ محلّ الكراهة إذا شقّ ذلك على المضيف، وأما إذا لم يشقّ عليه! فهو مطلوب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» لا سيما هؤلاء الأضياف، الذين فيهم سيد ولد عدنان!! صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فأتاهم بها فأكلوا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك خادم؟» قال: لا. قال: «فإذا أتانا سبي.. فأتنا» . فأتي صلّى الله عليه وسلّم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اختر منهما» . قال: يا رسول الله؛ اختر لي. (فأتاهم بها) أي: بالعناق، وهذا ظاهر على الشق الأول من الشك. (فأكلوا) أي: منها، وفي رواية: فشوى نصفه، وطبخ نصفه، وأتاهم به، فلما وضع بين يديه صلّى الله عليه وسلم أخذ من الجدي؛ فجعله في رغيف، وقال للأنصاري: «أبلغ بهذا فاطمة، لم تصب مثله منذ أيّام» فذهب به إليها. (فقال) : أي النّبي (صلى الله عليه وسلم) لما رآه يتولى خدمة بيته بنفسه، (: «هل لك خادم؟» ) يقع على الذكر والأنثى، لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال؛ كحائض. (قال: لا) أي: ليس لي خادم، (قال: «فإذا أتانا سبي) - بفتح السين المهملة فسكون الموحدة-؛ أي: سبي من الأسارى عبد أو جارية (فأتنا» ) لنعطيك خادما، مكافأة على إحسانك إلينا. وفي هذا إشارة إلى كمال جوده وكرمه صلّى الله عليه وسلم (فأتي) - بصيغة المجهول- أي: فجيء النبي (صلى الله عليه وسلم برأسين) أي: بأسيرين اثنين، (ليس معهما ثالث) تأكيدا لما قبله، (فأتاه أبو الهيثم) امتثالا لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فأتنا» . (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم «اختر» ) واحدا (منهما» . قال) ؛ أي أبو الهيثم: (يا رسول الله؛ اختر لي) أي: أنت، فإن اختيارك لي خير من اختياري لنفسي، وهذا من كمال عقله، وحسن أدبه وفضله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ المستشار مؤتمن، خذ هذا فإنّي رأيته يصلّي، ... (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنّ المستشار مؤتمن» ) - بصيغة المفعول-. وهو حديث صحيح كاد أن يكون متواترا. ففي «الجامع الصغير» «المستشار مؤتمن» رواه الأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والترمذي عن أم سلمة، وابن ماجه عن ابن مسعود، والطبرانيّ في «الكبير» عن سمرة، وزاد: «إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر» . وفي «الأوسط» عن عليّ كرّم الله وجهه؛ وزاد: «فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه» . ثمّ الاستشارة: استخراج الرأي، من قولهم شرت العسل إذا أخرجتها من خلاياها، والاسم المشورة. وفيها لغتان: [مشورة] سكون الشّين وفتح الواو، والثانية [مشورة] ضم الشين وسكون الواو، وزان معونة. ومعنى الحديث: أن من استشار ذا رأي في أمر اشتبه عليه وجه صلاحه فقد ائتمنه واستشفى برأيه، فعليه أن يشير عليه بما يرى النّصح فيه، ولو أشار عليه بغيره! فقد خانه ويبتلى بخلل في عقله. والحاصل: أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته، وامتناع نصيحته. وسيأتي الكلام على ذلك مطولا في «الفصل الثالث» ؛ من «الباب السابع في جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم» . وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك! إعلاما أو تعليما لأبي الهيثم ( «خذ هذا) إشارة إلى أحد الرأسين، (فإنّي) تعليل لاختياره (رأيته يصلّي) . ويؤخذ منه أنّه يستدل على خيريّة الإنسان بصلاته، قال تعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [45/ العنكبوت] . ويؤخذ منه أيضا أنه ينبغي للمستشار أن يبيّن سبب إشارته بأحد الأمرين؛ ليكون أعون للمستشير على الامتثال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 واستوص به معروفا» . فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت امرأته: ما أنت ببالغ حقّ ما قال فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. إلّا أن تعتقه. قال: فهو عتيق. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة.. إلّا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ... (واستوص به معروفا» ) ؛ أي: اقبل وصيتي به، وكافئه بالمعروف، ف «معروفا» ليس منصوبا ب «استوص» ، بل مفعولا لمحذوف، أو افعل في حقه معروفا؛ وصية مني، فهو منصوب ب «استوص» بتضمين «افعل» . (فانطلق أبو الهيثم) أي: فذهب به (إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت) أي: لو صنعت ما صنعت من المعروف به ما أنت (ببالغ) أي: بواصل (حقّ ما قال فيه) ؛ أي: في حقه (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي من المعروف (إلّا أن تعتقه) أي: ما أنت ببالغ حق المعروف الذي وصّاك به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلّا بعتقه، فلو فعلت به ما فعلت ما عدا العتق لم تبلغ ذلك المعروف؟. (قال) أي: أبو الهيثم: (فهو) أي: فبسبب ما قلت الذي هو الحق؛ هو (عتيق) أي: معتوق؛ فعيل بمعنى مفعول، فتسبّبت في عتقه ليحصل لها ثوابه، فقد صحّ في الحديث: «إنّ الدّالّ على الخير كفاعله» . (فقال) أي: فأخبره أبو الهيثم بمقالة امرأته التي تسبّب عنها العتق؛ فقال (صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة) ؛ فضلا عن غيرهما؛ (إلّا وله بطانتان) - بكسر أوله، تثنية بطانة- وهو المحب الخالص للرجل؛ مستعار من بطانة الثوب وهي خلاف الظّهارة، ومنه قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [118/ آل عمران] . وبطانة الرجل: صاحب سره، الذي يستشيره في أموره، ويطلعه على خفايا أحواله؛ ثقة به. (بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر) ، يعلم منه أن بطانة الخير لا تكتفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السّوء فقد وقي، والمعصوم من عصمه الله تعالى» . بالسكوت، بل لا بد من الأمر بالمعروف والحثّ عليه، والنّهي عن المنكر والزجر عنه، وقد علم أن زوجة أبي الهيثم من هذا القسم الّذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهي بطانة خير. (وبطانة لا تألوه) أي: لا تمنعه (خبالا) - بخاء معجمة، فموحدة مفتوحتين-: أي: فسادا، أي: لا تقصر في فساد حاله ولا تمنعه منه. فالألو: التقصير، وقد تضمن معنى المنع فلذلك تعدّى إلى مفعولين. وعبّر هنا بهذا!! تنبيها على أن بطانة السوء يكفي فيها السكوت على الشر، وعدم النّهي عن الفساد. وهذا ظاهر في الخليفة، ولا يجيء في الأنبياء. فالمراد ببطانة الخير في حق النبي الملك، وببطانة السّوء الشيطان، بل هذا عامّ في كلّ أحد كما يصرح به قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد، إلّا وقد وكّل به قرينه من الجنّ، وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك؛ يا رسول الله؟ قال: «وإيّاي إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلّا بخير» . (ومن يوق) - بصيغة المجهول-؛ من وقى يقي- أي يحفظ (بطانة السّوء) - بفتح السين، ويجوز ضمّه، ففيه لغتان؛ قرئ بهما في السبع «1» ، كما في الكره والضّعف، إلا أن المفتوحة غلبت في أن يضاف إليها ما يراد ذمّه من كلّ شيء. (فقد وقي) ماض مجهول، أي: من يحفظ من بطانة السوء وأتباعها فقد حفظ من الفساد، أي من جميع الأسواء والمكاره؛ في الدنيا والآخرة. وجاء في رواية: (والمعصوم من عصمه الله تعالى» ) وفيه الإحسان للضيف بالفعل إن وجد، وإلّا فالوعد، وأنه لا بأس أن يطالبه بما وعد به؛ وتخيير الموعود   (1) قرأ ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري: بضمّ السين. وقرأ الباقون: بفتحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وعن عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه ... له حين الوفاء بين أشياء متعدّدة؛ زيادة في إكرامه وتأكّد النّصح لا سيما للمستشير، والوصيّة بالضّعفاء، وجواز مشي الصّاحب إلى صاحبه الموسر من غير طلب وغير ذلك. (و) أخرج مسلم والتّرمذي وغيرهما (عن عتبة) - بضمّ العين المهملة، وإسكان المثناة الفوقية، وموحدة- (بن غزوان) - بفتح المعجمة وسكون الزاي- ابن جابر بن وهب المازني «حليف بني عبد شمس؛ أو بني نوفل» . من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع مهاجرا إلى المدينة. وشهد بدرا وما بعدها، وروى له مسلم وأصحاب السنن، وولاه عمر في الفتوح؛ فاختط البصرة وفتح فتوحا، وكان طوالا جميلا. قال ابن سعد وغيره: قدم على عمر يستعفيه من الإمارة فأبى، فرجع في الطريق ب «معدن بني سليم» فدعا الله فمات سنة: - 17- سبع عشرة، وقيل: ستّ وعشرين، وقيل قبل ذلك. وعاش سبعا وخمسين- 57- سنة (رضي الله تعالى عنه) . لمّا بعثه عمر بن الخطاب وقال: انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم- أي: للمرابطة هنالك لحفظ بلاد العرب من العجم-. فأقبلوا، حتى إذا كان بالمربد، وجدوا هذا الكذّان؛ فقالوا: ما هذه؟ قال بعضهم: هذه البصرة، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فقالوا: ها هنا أمرتم. فنزلوا، ولما حلّوا هناك استمد عتبة من بعض الدهاقين من أهل خوزستان، فجاؤوا فوافوا ضعفه وقلة رجاله؛ وكان معه ثلثمائة رجل فنقضوا العهد وقاتلوه، فنصره الله عليهم. ثم شرع عتبة في بناء البصرة لمشقّة الإقامة من غير بناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 قال: لقد رأيتني وإنّي لسابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر، حتّى تقرّحت أشداقنا، فالتقطت بردة فقسمتها بيني وبين سعد بن مالك؛ فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، ... (قال) أي عتبة (: لقد رأيتني) أي: والله لقد أبصرت نفسي (وإنّي) - بكسر الهمزة- أي: والحال أنّي (لسابع سبعة) أي: في الإسلام (مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، لأنه أسلم مع ستة فصار متمّما لهم سبعة، فهو من السّابقين الأولين. واعلم أن سابع ونحوه له استعمالان: أحدهما: أن يضاف إلى العدد الذي أخذ منه؛ فيقال «سابع سبعة» كما هنا، وهو حينئذ بمعنى الواحد من السبعة، ومثله في التنزيل ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: 40] . وثانيهما: أن يضاف إلى العدد الذي أخذ منه؛ فيقال «سابع ستة» وهو حينئذ بمعنى مصيّر الستة سبعة. (ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر) بالرفع على البدل، جعله طعاما لقيامه مقام الطّعام في حقّهم (حتّى تقرّحت) - بالقاف وتشديد الرّاء بعدها حاء مهملة- (أشداقنا) جمع شدق- بالكسر- وهو جانب الفم، أي: ظهر في جوانب أفواهنا قروح من خشونة ذلك الورق وحرارته. (فالتقطت بردة) أي: عثرت عليها بغير قصد وطلب، والبردة: شملة مخطّطة، أو كساء أسود مربّع فيه خطوط يلبسه الأعراب، واللّقط أخذ الشيء من الأرض، وقيل: أخذ الشيء بغير طلب. (فقسمتها) - بتخفيف السين؛ ويجوز تشديدها- (بيني وبين سعد بن مالك) هو سعد بن أبي وقّاص القرشي الزّهري المكّي المدني، أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة، وتوفي وهو عنهم راض، - وقد مرت ترجمته، وترجمة ولده عامر-. (فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها) دليل لضيق عيشهم؛ وعيش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 فما منّا من أولئك السّبعة أحد.. إلّا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجرّبون الأمراء بعدنا. المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنّ أهل المدينة كانوا في شظف من العيش، عندما قدم عليهم المصطفى صلّى الله عليه وسلم مع المهاجرين، وكان المهاجرون فرّوا بدينهم، وتركوا أموالهم وديارهم، فقدموا فقراء على أهل شدّة وحاجة، مع أن الأنصار واسوهم، وأشركوهم فيما بيدهم، غير أن ذلك ما سدّ خلّتهم ولا دفع فاقتهم، مع إيثارهم الضراء على السراء؛ والفقر على الغنى، ولم يزل ذلك دأبهم حتى فتح عليهم الفتوح كخيبر وغيرها، ومع ذلك لم يزل عيشهم شديدا، وجهدهم جهيدا، حتى لقوا الله صابرين على شدّة العيش؛ معرضين عن الدنيا وزهرتها ولذّتها، مقبلين على الآخرة ونعيمها، فحماهم الله ما رغبوا عنه، وأوصلهم إلى ما رغبوا فيه، حشرنا الله في زمرتهم. آمين. (فما منّا من أولئك السّبعة أحد؛ إلّا وهو أمير مصر) بالتنوين (من الأمصار) ، وهذا جزاء الأبرار في هذه الدار، وهو خير وأبقى في دار القرار. (وستجرّبون الأمراء بعدنا!) إخبار بأن من بعدهم من الأمراء، ليسوا مثل الصّحابة في العدالة والديانة والإعراض عن الدنيا الدنية والأغراض النفسية، وكان الأمر كذلك. فهو من الكرامات بالخبر عن الأمور الغيبية، وذلك لأنهم رأوا منه صلّى الله عليه وسلم ما كان سببا لرياضتهم ومجاهدتهم وتقلّلهم في أمر معيشتهم، فمضوا بعده على ذلك واستمروا على ما هنالك، وأما غيرهم ممن بعدهم! فليسوا كذلك، فلا يكونون إلا على قضية طباعهم المجبولة على الأخلاق القبيحة، فلا يستقيمون مع الحق على الصدق، ولا مع الخلق على حسن الخلق. وهذا الّذي ذكره المصنف بعض من خطبة عتبة بن غزوان العظيمة التي رواها مسلم في أواخر «صحيحه» . ورواها الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ؛ مقتصرا منها على ما ذكره المصنف هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ... ورواها النسائي في «الرقاق» ، وابن ماجه في «الزهد» مختصرة. وذكرها الإمام النووي في «رياض الصالحين» منقولة عن «صحيح مسلم» ولفظها- كما في مسلم-: عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد؛ فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شقّة جهنّم، فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا، وو الله لتملأنّ. أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام!. ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ما لنا طعام إلّا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتّزرت بنصفها واتّزر سعد بنصفها؛ فما أصبح اليوم منا أحد إلّا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما؛ وعند الله صغيرا، وإنّها لم تكن نبوّة إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا، فستخبرون وتجرّبون الأمراء بعدنا. انتهى. (و) روى الإمام أحمد، والترمذي في «الزهد» من «جامعه» وفي «شمائله» - وقال: حسن صحيح- وصححه ابن حبان، ورواه ابن ماجه أيضا: كلهم (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لقد أخفت) - ماض مجهول؛ من الإخافة- (في) إظهار دين (الله) أي: أخافني المشركون بالتهديد والإيذاء الشديد، في أمر الله؛ أو لله، كما في حديث «دخلت امرأة النّار في هرّة» ؛ أي: بهرة (وما يخاف) - بضمّ أوّله- أي: والحال أنّه لا يخاف (أحد) غيري مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين ليلة ويوم ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال» . ما أخفت، لأنهم في حال الأمن، وكنت وحيدا في إظهار ديني، ولم يكن أحد يوافقني في تحمل أذيّة الكفار، أو هو دعاء، أي: حفظ الله المسلمين عن الإخافة، أو مبالغة في الإخافة، وذلك معروف لغة، يقال: لي بليّة لا يبلى بها أحد. (ولقد أوذيت) - ماض مجهول؛ من الإيذاء- (في الله) بقولهم ساحر، شاعر، مجنون، وغير ذلك، (وما يؤذى أحد) غيري بشيء من ذلك، بل كنت المخصوص بالإيذاء، لنهيي إيّاهم عن عبادة الأوثان، وأمري لهم بعبادة الرحمن. وقال ابن القيّم: قوله في كثير من الأحاديث «في الله» يحتمل معنيين: أحدهما أن ذلك في مرضاة الله وطاعته، وهذا فيما يصيبه باختياره. والثاني: أنّه بسببه ومن جهته حصل ذلك، وهذا فيما يصيبه بغير اختياره، وغالب ما يجيء من الثاني، وليست «في» للظرفية، ولا لمجرّد السببية؛ وإن كانت السببية أصلها. ألا ترى إلى خبر: «دخلت النّار امرأة في هرّة» ، فإن فيه معنى زائدا على السببية، فقولك «فعلت كذا في مرضاتك» فيه معنى زائد على فعلته لرضاك. وإن قلت: أوذيت في الله لا تقوم مقامه بسببه. انتهى. (ولقد أتت) أي: مرّت، ومضت (عليّ) - بتشديد الياء- (ثلاثون من بين ليلة ويوم) أي: ثلاثون متواليات غير متفرقات لا ينقص منها شيء. قال الطيبي: وهو للتأكيد الشمولي. ووجه إفادة الشّمول أنّه يفيد أنه لم يتكلم بالتسامح والتساهل، بل ضبط أول الثلاثين وآخرها، وأحصى أيامها ولياليها. (ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد) ؛ أي: حيوان عاقل أو دابة (إلّا شيء) أي: قليل، ولقلّته جدّا كان (يواريه) ؛ أي: يستره (إبط بلال» ) - بالكسر-: ما تحت الجناح يذكّر ويؤنّث، يعني كان ذلك الوقت بلال رفيقي، ولم يكن لنا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 قال المصنّف في «جامعه» : معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه. وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلّا على ضفف. و (الضّفف) : كثرة أيدي الأضياف. الطّعام إلّا شيء قليل بقدر ما يأخذه بلال تحت إبطه، ولم يكن لنا ظرف نضع الطعام فيه؛ كناية عن كمال القلّة. (قال المصنّف) يعني الترمذي (في «جامعه» ) : الذي قيل فيه: من كان عنده «جامع» الترمذي؛ فكأنما في بيته نبي يتكلّم (معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه) واعترضه العصام؛ بأن بلالا لم يكن معه حين الهجرة. وردّ بأن الترمذي لم يرد خروجه مهاجرا، بل خروجه قبل الهجرة إلى الطائف وغيره. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء) - بفتح المعجمة فمهملة- وهو الذي يؤكل أوّل النّهار، ويسمّى السّحور غداء، لأنه بمنزلة غداء المفطر. (ولا عشاء) - بفتح العين المهملة- هو: ما يؤكل آخر النهار (من خبز ولحم) ؛ أي: من هذين الجنسين (إلّا على ضفف) - بفتح الضاد المعجمة والفاء الأولى- أي: حال نادر وهو تناوله مع الضيف. (و) قال المصنف كما في «الشمائل» نقلا عن بعضهم: (الضّفف) - ك: فرس- (: كثرة أيدي الأضياف) . وهذا المعنى هو المراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما لأجلهم. وعن نوفل بن إياس الهذليّ قال: كان عبد الرّحمن ابن عوف هنا، وإن كان الضّفف له معان أخر أكثرها لا يناسب هنا. وفي «النهاية» : الضفف الضيق والشدّة، ومنه ما يشبع منها إلّا عن ضيق وقلة. وقيل: هو اجتماع النّاس، أي: لم يأكلهما وحده؛ ولكن مع النّاس. وقيل: الضّفف أن تكون الأكلة أكثر من مقدار الطّعام، والحفف أن يكونوا بمقداره. انتهى. قال الباجوري في «حاشية الشمائل» : (فكان صلّى الله عليه وسلم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما) ولو يتكلف (لأجلهم) . (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن نوفل) - بفتح الفاء- (بن إياس) - بكسر الهمزة- (الهذليّ) - بضمّ الهاء وفتح الذال المعجمة- المدني، يروي عن عبد الرحمن بن عوف، وعنه مسلم بن جندب؛ وثّقه ابن حبّان. (قال: كان) أبو محمد (عبد الرّحمن بن عوف) القرشي الزهري المدني، أحد الثّمانية السّابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستة الّذين هم أهل الشّورى. وكان من المهاجرين الأولين، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع. وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد. ومن مناقبه التي لا توجد لغيره من الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى وراءه في غزوة تبوك!! حين أدركه وقد صلى بالنّاس ركعة، وحديثه هذا في «صحيح مسلم» وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 رضي الله تعالى عنه لنا جليسا، وكان نعم الجليس، وإنّه انقلب بنا ذات يوم حتّى إذا دخلنا بيته.. دخل فاغتسل، ثمّ خرج وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلمّا وضعت.. بكى عبد الرّحمن. فقلت: يا أبا محمّد؛ ما يبكيك؟. قال بعضهم: ولم يصلّ المصطفى خلف أحد ... إلّا ابن عوف فله الفضل أبد روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثا؛ اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. وتوفي سنة: - 32- اثنتين وثلاثين. وقيل: إحدى وثلاثين. وعمره اثنان وسبعون سنة، ودفن بالبقيع (رضي الله تعالى عنه لنا جليسا) أي: مجالسا؛ (وكان) مقولا في حقه: (نعم الجليس) هو، (وإنّه) بكسر الهمزة (انقلب) أي: رجع (بنا) ؛ أي: انقلب معنا من السوق، أو غيرها فالباء بمعنى «مع» ، ويحتمل أنها للتعدية؛ أي: قلبنا وردّنا من الجهة الّتي كنّا ذاهبين إليها إلى بيته (ذات يوم) ؛ أي: ساعة ذات يوم؛ أي: في ساعة من يوم، ويحتمل أن «ذات» مقحمة، والمعنى: في يوم. (حتّى إذا دخلنا بيته دخل) يغتسل (فاغتسل) لكونه محتاجا للغسل، ولم يكن ليأكل طعاما بدون الغسل؛ لأنه خلاف الكمال، وهذا من مؤكّدات أنّه «نعم الجليس» . (ثمّ خرج) أي: من مغتسله إلينا، (وأتينا) - بالبناء للمجهول- أي: أتانا غلامه أو خادمه (بصحفة) هي إناء كالقصعة، وقيل: إناء مبسوط كالصّحيفة؛ (فيها) أي: في تلك الصّحفة (خبز ولحم، فلمّا وضعت) ؛ أي: الصّحفة الّتي فيها خبز ولحم (بكى عبد الرّحمن) بن عوف؛ خوفا مما يترتب على السّعة في الدّنيا. (فقلت) له (: يا أبا محمّد) هذه كنية عبد الرحمن (ما يبكيك؟) أي أيّ شيء يجعلك باكيا؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فقال: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشّعير، فلا أرانا أخّرنا لما هو خير لنا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّه أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتمر؛ فرأيته يأكل وهو مقع من الجوع. ومعنى (الإقعاء) : التّساند إلى وراء. (فقال: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يشبع) أي يومين متواليين!! في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها (هو وأهل بيته من خبز الشّعير) . وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الدّنيا؛ ولم يشبع من خبز الشّعير» رواه البخاري. ولعل ما في الصّحفة كان مشبعا لهم؛ فلذلك بكى. (فلا أرانا) - بضمّ الهمزة- أي: لا أظنّنا (أخّرنا) - بصيغة المجهول- أي: أبقينا بعده موسّعا علينا وقد ضيّق عليه (لما هو خير لنا!) ، لأنّه إذا كان خير النّاس حاله كذلك؛ فما صرنا إليه من السّعة يخاف عاقبته، ومن ثمّ كان الصدر الأول يخافون على من هو كذلك أنّه إنّما عجّلت له طيباته في حياته الدنيا. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أنّه أتي) أي: جيء. ولفظ «الشمائل» : حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا مصعب بن سليم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: أتي (رسول الله صلّى الله عليه وسلم [بتمر فرأيته يأكل] ) حال من مفعول «رأيت» ؛ (وهو مقع) ؛ أي: متساند إلى ما وراءه (من) الضّعف الحاصل له بسبب (الجوع) ، فلذلك قال المصنف: (ومعنى الإقعاء) هنا (: التّساند إلى وراء) وجملة «وهو مقع» حال من فاعل «يأكل» . وفي «القاموس» : أقعى في جلوسه تساند إلى ما وراءه، وليس في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأخذ ممّا آتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عزّ وجلّ. وروى البخاريّ ومسلم: ... ما يفيد أن الاستناد من آداب الأكل، لأنّه إنّما فعله لضرورة الضعف، وليس المراد بالإقعاء هنا النّوع المسنون في الجلوس بين السجدتين؛ وهو أن يبسط ساقيه ويجلس على عقبيه، ولا النّوع المكروه في الصّلاة؛ وهو أن يجلس على ألييه ناصبا ساقيه. قاله الباجوري كالمناوي. (و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يأخذ ممّا آتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط؛ من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عزّ وجلّ) قال العراقي: متفق عليه، بنحوه من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدّم في «الزّكاة» ، وقال في «الزّكاة» : أخرجاه من حديث عمر: كان يعزل نفقة أهله سنة. وللطبراني في «الأوسط» من حديث أنس: كان إذا ادّخر لأهله قوت سنة تصدّق بما بقي. قال الذّهبي: حديث منكر. انتهى. قلت: وفي حديث عمر بن الخطاب ومخاصمة علي بن أبي طالب والعباس في أموال بني النضير ما نصه: قال: فإنّي سأخبركم عن هذا الفيء. ثم ساق، وفيه: ولقد قسّمها بينكم وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال، فكان ينفق منه على أهله رزق سنة، ثمّ يجمع ما بقي منه مجمع مال الله عزّ وجلّ.. الحديث. وفي رواية: وكان ينفق منها على أهله ... فهذا يؤيّد ما أخرجه الطبراني. فتأمل. انتهى. «شرح الإحياء» . (وروى) الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاريّ) - وقد تقدمت ترجمته- (و) الإمام أبو الحسين (مسلم) بن الحجّاج القشيري النيسابوري في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعزل نفقة أهله سنة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء. وروى التّرمذيّ عن أنس: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يدّخر شيئا لغد. «صحيحيهما» ؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما تقدم آنفا (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعزل نفقة أهله سنة) . ولا تعارض بينه وبين ما روي عنه أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يدّخر قوت غد، كما سيأتي فإنّ معناه لا يدخر لنفسه، وأمّا لعياله فقد كان يدخر لهم قوت سنة، على أنّه مع ذلك كان تنوبه أشياء يخرج فيها ما ادّخره لهم، فلا تنافي بين ادخاره ومضي الزمن الطويل عليه؛ وليس عنده شيء له ولا لهم. انتهى (شرح «الإحياء» ) . (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء) لمزيد ثقته بربّه. (وروى) الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) في «جامعه» في «كتاب الزهد» ؛ من حديث قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئا لغد) أي: لا يدّخره ملكا؛ بل تمليكا، فلا ينافي أنه ادّخر قوت سنة لعياله، فإنّه كان خازنا، فلما وقع المال بيده قسم لعياله؛ كما قسم لغيرهم، فإن لهم حقّا في الفيء. قال بعض الصوفية: ولا بأس بادخار القوت لأمثالنا، لأن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت. وحقق بعضهم فقال: من كانت نفسه مطمئنة بربّها كانت عيناه وسكونه إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تغدّى.. لم يتعشّ، وإذا تعشّى.. لم يتغدّ. قال القسطلّانيّ في «المواهب اللّدنّيّة» : (قد استشكل كونه عليه الصّلاة والسّلام وأصحابه كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت: فلا يلتفت لذلك. انتهى «عزيزي» . قال الشيخ: حديث صحيح. انتهى «منه» . (و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناد ضعيف؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تغدّى) - بالدال المهملة- بدليل مقابلته بالعشاء، إذ هو بالذال المعجمة شامل للغداء والعشاء، والغداء- بالمهملة-: من طلوع الشمس إلى الزوال، وبعد الزوال يسمّى عشاء؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» . (لم يتعشّ، وإذا تعشّى لم يتغدّ) أي: لا يأكل في يوم مرتين؛ تنزّها عن الدنيا، وتقوّيا على العبادة، وتقديما للمحتاج على نفسه. وفي قلة الأكل فوائد. منها: رقة القلب، وقوة الفهم والإدراك، وصحّة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل. ومنها: خفّة المؤونة، فإن من تعوّد قلّة الأكل كفاه من المال قدر يسير. ومنها: التمكّن من التصدق بما فضل من الأطعمة على الفقراء والمساكين. وليس للعبد من ماله إلّا ما تصدق فأبقى أو أكل فأفنى أو لبس فأبلى. انتهى «عزيزي» . (قال) العلامة الحافظ شهاب الدين: أبو العباس أحمد بن محمد (القسطلّانيّ) رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «المواهب اللّدنّيّة» ) ؛ في النّوع الأول من «الفصل الثالث» ، الكائن في المقصد الثالث: (قد استشكل كونه عليه الصّلاة والسّلام و) كون (أصحابه) - فهو بالجر؛ عطفا على الضمير، ويجوز نصبه مفعولا معه- (كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أنّه كان يرفع لأهله قوت سنة. وأنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه. وأنّه ساق في عمرته مئة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين. وأنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم.. وغير ذلك. مع من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه. وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه. وحثّ على تجهيز جيش العسرة؛ فجهّزهم عثمان بألف بعير ... إلى غير ذلك؟. وأجاب عنه الطّبريّ ... 1- أنّه كان يرفع) أي يدّخر (لأهله قوت سنة) وسماه «رفعا» تجوّزا. (و 2- أنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه. و3- أنّه ساق في عمرته مائة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين. و4- أنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم ... وغير ذلك) ؛ كإعطائه جماعة كثيرة من أموال خيبر، وفدك، وقريظة، والنضير، وكانت خالصة له!! (مع) وجود (من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة) بن عبيد الله (وغيرهم) ؛ كالزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة (مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه! وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله) ؛ وقال: أبقيت الله ورسوله لعيالي. (و) جاء (عمر بنصفه، وحثّ على تجهيز جيش العسرة) [في] غزوة تبوك، حين أراد السير إليها (فجهّزهم عثمان بألف بعير) ، وجاء بعشرة آلاف درهم، إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم فوضعها بين يديه (إلى غير ذلك!؟ وأجاب عنه) أي: عن هذا الإشكال؟! الإمام البارع في أنواع العلوم: أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب (الطّبريّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 - كما حكاه في «فتح الباري» -: بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز ... كان أحد أئمة الدنيا يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. وكان قد جمع من العلوم؛ ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره. وكان حافظا لكتاب الله تعالى؛ عارفا بالقراآت؛ بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها؛ صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم في الأحكام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم. قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما أعلم تحت أديم السّماء أعلم من محمد بن جرير. وتفرّد بمسائل حفظت عنه. قال الرافعي: تفرّد ابن جرير لا يعدّ وجها في مذهبنا؛ وإن كان معدودا من طبقات أصحاب الشافعي!! وأخذ فقه الشافعي عن الربيع المرادي، والحسن الزعفرانيّ. وهو في طبقة الترمذي والنّسائي، سمع أحمد بن منيع، وأبا كريب: محمد بن العلاء، ومحمد بن المثنى وغيرهم من شيوخ البخاري ومسلم. وحدّث عنه خلائق؛ منهم أحمد بن كامل ومخلد بن جعفر، وتوفي ابن جرير وقت المغرب؛ ليلة الاثنين ليومين بقيا من شهر شوال، سنة: - 310- عشر وثلثمائة هجرية. ودفن ضحوة يوم الاثنين في داره، وكان مولده في آخر سنة- 224- أربع- أو أول سنة: - 225- خمس- وعشرين ومائتين. فعمره يقارب: خمسا وثمانين- 85- سنة رحمه الله تعالى. آمين. (كما حكاه) أي الحافظ الحجة شهاب الملة والدين: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى (في «فتح الباري» ) شرح «صحيح البخاري» (بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز) - بفتح العين المهملة، وفتح الواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهة الشّبع وكثرة الأكل. قال الحافظ ابن حجر: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل ... وإسكانها-؛ يقال عوز؛ من باب تعب: عزّ فلم يوجد؛ وعزت الشّيء أعوزه؛ من باب قال: احتجت إليه فلم أجده، كما في «المصباح» . فإن أخذ من الأول فتحت الواو، أي لا لعدم وجدان، أو من الثاني سكّنت؛ أي لا للاحتياج (وضيق) تفسير. ولا يرد على ذا الجواب أنه لم يعرج على قول الإشكال «كان يرفع لأهله قوت سنة» ! لأنه أشار للجواب عنه بقوله: (بل تارة للإيثار) ؛ فقد كان يدّخر قوت عام، ثمّ يجد المحاويج فيدفعه إليهم؛ ويترك أهله، (وتارة لكراهة الشّبع) لأنهم لم يكونوا يشبعون، إذ الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول. قال بعضهم: الشّبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة. (و) لكراهة (كثرة الأكل) . انتهى جواب الطبري.. وتعقّب بأنّ ما نفاه مطلقا في قوله «لا لعوز وضيق» فيه نظر؛ لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه للعوز. وأخرج ابن حبان في «صحيحه» عن عائشة رضي الله تعالى عنها: من حدّثكم أنّا كنّا نشبع من التّمر؛ فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التّمر والودك. إلى غير ذلك. (قال الحافظ ابن حجر) العسقلاني رحمه الله تعالى (: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة؛ حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك؛ فواساهم الأنصار بالمنازل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 والمنائح، فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها.. ردّوا عليهم منائحهم. نعم.. كان صلّى الله عليه وسلّم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له؛ كما أخرج التّرمذيّ من حديث أبي أمامة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا، ... والمنائح) تمليكا للمنافع، لا للرقاب. وذكر البيضاوي: أنّ من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة؛ وزوّجها من أحدهم، (فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها؛ ردّوا عليهم منائحهم) ومنازلهم. (نعم؛ كان صلّى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له، كما أخرج) الإمام أحمد و (التّرمذيّ) وحسّنه ونوزع؛ (من حديث أبي أمامة) الباهلي: صديّ- بضمّ الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء- ابن عجلان بن والبة- بالموحدة- ابن رياح- بكسر الراء- ابن الحارث بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان- بالمهملة- ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وقيل غير ذلك في نسبه، وهو من مشهوري الصّحابة رضوان الله عليهم. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائتا حديث وخمسون حديثا؛ انفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثلاثة. سكن مصر، ثم حمص؛ وبها توفي، سنة: - 81- إحدى وثمانين هجرية، وقيل: سنة ست وثمانين. قيل: هو آخر الصحابة موتا بالشام، رضي الله تعالى عنه وعامّة حديثه عند الشاميين (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة) ؛ أي: حصباءها. قال الطيبي: تنازع فيه «عرض» و «ليجعل» ؛ أي: عرض علي بطحاء مكّة ليجعلها لي (ذهبا) ، فلا حاجة لتقدير مفعول «عرض» محذوفا، أي: أسباب الغنى؛ كما قاله بعضهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فقلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت.. تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت.. شكرتك وحمدتك» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم وجبريل على الصّفا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ ما أمسى لآل محمّد سفّة من دقيق، ولا كفّ من سويق» . فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة ... فقلت: لا) أريدها (يا ربّ؛ ولكن أشبع يوما وأجوع يوما) . هذا ورد على منهج التقسيم، وهو ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكلّ على التعيين، فذكر أولا الشّبع والجوع في أيامهما، ثم أضاف لكلّ ما يناسبه بقوله: (فإذا جعت تضرّعت إليك) بذلّة وخضوع، (وذكرتك) في نفسي، وبلساني، (وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ) عطفه على سابقه!! لما بينهما من عموم الحمد موردا، وخصوصه متعلّقا، وخصوص الشّكر موردا وعمومه متعلقا. وحكمة هذا التفصيل: الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فالله تعالى أعلم بالأشياء جملة وتفصيلا. (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصّفا) بمكّة؛ (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ) رسولا إلى أنبيائه، (ما أمسى لآل محمّد سفّة) - بضم السين المهملة-: قبضة (من دقيق، ولا كفّ من سويق» ) كأمير هو دقيق الشعير المقلو، ويكون من القمح، والأكثر جعله من الشعير. قال أعرابي يصفه: هو عدة المسافر، وطعام العجلان، وبلغة المريض. (فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة) - بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 من السّماء أفزعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمر الله القيامة أن تقوم؟» . قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك. فأتاه إسرافيل، فقال: إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك: إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا ... أي: صوتا قويا (من السّماء أفزعته) : خوّفته. (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) لجبريل مستفهما. - بحذف همزته- (: «أمر الله القيامة أن تقوم» ؟! قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك) لي! ولعل حكمة نزوله بتلك الهدة، الإشارة إلى قدرته على فعل ما يعرضه عليه!! (فأتاه إسرافيل، فقال) : (إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت) لجبريل، (فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض) المعادن، أو البلاد التي فيها، أو الممالك التي فتحت لأمته بعده، وظاهر الحديث أنّها مفاتيح وخزائن حقيقية، وهو الأصل. وذكر الزمخشري فيه وما أشبهه أنه من قبيل التمثيل والاستعارة حيث قال في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [21/ الحجر] . ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلّا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به؛ فضرب الخزائن مثلا. (وأمرني أن أعرض عليك؛ إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا) - بزاي أوله وذال معجمة آخره وراء قبل آخره مشدّدة؛ مضمومات الأوائل. هو أربعة أضرب: الأول: الذّبابيّ. الثّاني: الرّيحاني؛ وهو أخضر مفتوح اللون شبيه بلون ورق الرّيحان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ......... الثالث: السّلقي؛ وخضرته أشبه شيء بلون السّلق. الرابع: الصّابوني؛ ولونه كلون الصابون الأخضر. وأفضل أنواعه وأشرفها الذّبابيّ، وهو شديد الخضرة لا يشوب خضرته شيء آخر من الألوان؛ من صفرة ولا سواد ولا غيرهما، حسن الصبغ، جيد المائية، شديد الشعاع؛ ويسمى ذبابيا!! لمشابهة لونه في الخضرة لون كبار الذباب الأخضر الربيعي، وهو من أحسن الألوان خضرة وبصيصا، ويزداد حسنه بكبر الجرم، واستواء القصبة، وعدم الاعوجاج فيها. ومن عيوب الذبابي اختلاف الصبغ، بحيث يكون موضع منه مخالفا للموضع الآخر، وعدم الاستواء في الشكل، والتشعير وهو شبه شقوق خفية؛ إلّا أنه لا يكاد يخلو منه. ومن عيوبه: الرخاوة، وخفة الوزن، وشدة الملاسة، والصقال، والنعومة، وزيادة الخضرة، والمائية، إذا ركّب على البطانة. ومن خاصّيّة الذبابي التي امتاز بها عن سائر الأحجار: أنّ الأفاعي إذا نظرت إليه، ووقع بصرها عليه؛ انفقأت عيونها. وبهذه الخاصّية يمتحن الزمرّذ الخالص من غيره، كما يمتحن الياقوت بالصبر على النار. ومن منافع الزمرّذ الذبابي: أنّ من أدمن نظره أذهب عن بصره الكلال، ومن تختّم به دفع عنه داء الصرع؛ إذا كان قد لبسه قبل ذلك. وإذا كان في موضع لم تقربه ذوات السموم، وإذا سحل منه وزن ثمان شعيرات وسقيته شارب السّمّ قبل أن يعمل السّم فيه خلّصته منه. وإذا تختّم به من به نفث الدّم؛ أو إسهاله! منع من ذلك، وإذا علق على المعدة من خارج نفع من وجعها، وشرب حكاكته ينفع من الجذام. وهذه الخواصّ توجد في الصغير منه والكبير والمعوجّ والمستقيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وياقوتا، ... أما بقية أصناف الزمرذ! فإنّه لا قيمة لها يعتدّ بها، لعدم المنافع الموجودة في الذبابي، انتهى ملخصا من «صبح الأعشى» . (وياقوتا) هو ثلاثة أضرب: الضرب الأول: الأحمر ومنه البهرمان، ولونه كلون العصفر الشّديد الحمرة؛ النّاصع في القوّة الذي لا يشوب حمرته شائبة، ويسمّى «الرّمّاني» لمشابهته حب الرمان الرائق الحب، وهو أعلى أصناف الياقوت، وأفضلها، وأغلاها ثمنا. وأردأ ألوانه الوردي الذي يضرب إلى البياض. الضرب الثاني: الأصفر، وأعلاه الجلّناري، وهو أشدّه صفرة، وأكثره شعاعا، ومائية. ودونه الخلوقي؛ وهو أقلّ صفرة منه؛ ودونه الرّقيق؛ وهو قليل الصفرة كثير الماء ساطع الشعاع. وأردأ الأصفر ما نقص لونه؛ ومال إلى البياض. الضرب الثالث: الأبيض، ومنه المهاني وهو أشدّها وأكثرها ماء، وأقواها شعاعا، وأصلب حجرا، وهو أدون أصناف الياقوت وأقلها ثمنا. وأجود الياقوت الأحمر: البهرماني والرّمّاني والوردي النيّر المشرق اللّون الشفّاف الذي لا ينفذه البصر بسرعة. وعيوب الياقوت: الشعرة؛ وهي شبه تشقيق يرى فيه. والسوس؛ وهو خروق توجد في باطنه، ويعلوها شيء من ترابية المعدن. ومن خواصّ الياقوت بأنواعه: أنه يقطع كل الحجارة كما يقطعها الماس. وليس يقطعه هو- على أي لون كان- غير الماس. ومن خواصّه: أنه ليس لشيء من الأحجار المشعة شعاع مثله، وأنه أثقل من سائر الأحجار المساوية له في المقدار، وأنه يصبر على النار؛ فلا يتكلّس بها كما يتكلس غيره من الحجارة النفيسة، وإذا أخرج من النار برد بسرعة؛ حتى أن الإنسان يضعه في فيه عقب إخراجه من النار فلا يتأثّر به، إلّا أن لون غير الأحمر منه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وذهبا وفضة.. فعلت، فإن شئت: نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا؟ فأومأ إليه جبريل أن تواضع. فقال: «بل نبيّا عبدا» (ثلاثا) . رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن. كالصفرة وغيرها يتحول إلى البياض، أما الحمرة فإنها تقوى بالنار، فما ذهبت حمرته بالنار، فليس بياقوت أحمر بل ياقوت أبيض مصبوغ، أو حجر يشبه الياقوت. ومن منافعه: أنّ التختّم به يمنع صاحبه أن يصيبه الطّاعون؛ إذا ظهر في بلد هو فيه، وأنّه يعظّم لابسه في عيون الناس، ويسهل عليه قضاء الحوائج، وتتيسر له أسباب المعاش، ويقوّي قلبه ويشجعه، وأن الصاعقة لا تقع على من تختم به. وإذا وضع تحت اللسان قطع العطش؛ قاله أرسطاطاليس. قال: وامتحانه أن يحك به ما يشبهه من الأحجار فإنه يجرحها بأسرها ولا تؤثر هي فيه. انتهى ملخصا من «صبح الأعشى» . (وذهبا وفضّة) لفظ «المواهب» : وأمرني أن أعرض عليك؛ أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا وياقوتا وذهبا وفضة (فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا!! فأومأ إليه جبريل) لما استشاره (أن تواضع. فقال: «بل نبيّا عبدا» . قالها (ثلاثا. رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن) كما قال المنذري وغيره، ولا يعارضه قوله صلّى الله عليه وسلم أتيت بمقاليد الدّنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل» رواه الإمام أحمد برجال الصحيح، وصححه ابن حبّان عن جابر رضي الله تعالى عنه! لأنّ هذا بعد ذاك للإشارة إلى ما ستملكه أمته من بعده. فانظر إلى همته العلية صلّى الله عليه وسلم كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها؟! ومعلوم أنّه لو أخذها لأنفقها في طاعة ربه، فأبى ذلك مع أن النّبوة معطاة له على كلا التقديرين. فيا لها من همّة شريفة رفيعة ما أسناها! ونفس زكيّة ما أبهاها! وقد عوّضه الله تعالى بالتصرف في خزائن السماء: ردّ الشمس بعد غروبها، وشقّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 ولله درّ الأبوصيريّ حيث قال: وراودته الجبال الشّمّ من ذهب ... عن نفسه فأراها أيّما شمم) القمر، ورجم النجوم، واختراق السموات، وحبس المطر وإرساله، وإرسال الريح وإمساكها وغير ذلك (ولله درّ الأبو صيريّ حيث قال) في «بردة المديح» : (وراودته) أي: طلبت منه (الجبال الشّمّ) - بضم الشين-: المرتفعة (من ذهب عن نفسه) ونسبة المراودة إليها مجاز، (فأراها) - بفتحتين- (أيّما شمم) بفتح المعجمة والميم، وبعد هذا البيت قوله: فأكّدت زهده فيها ضرورته ... إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم ولعل المصنف حذف هذين البيتين من كلام القسطلّاني، لمّا أورده في «المواهب» ؛ من أنّ في البيتين شيئا! قال: لأنه في مقام المدح فلا يليق منه الوصف بالزهد ولا بالضرورة. قال الزرقاني: لأن الزهد يقتضي رغبته فيما زهد فيه والضرورة تقتضي الحاجة. انتهى. قال الحليمي في «شعب الإيمان» : من تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلم ألايوصف بما هو عند النّاس من أوصاف الضّعة، فلا يقال كان فقيرا. وأنكر بعضهم إطلاق الزهد في حقّه صلّى الله عليه وسلم. إذ لا قدر للدّنيا عنده. وقد حكى صاحب كتاب «نثر الدر» ؛ وهو أبو سعيد منصور بن الحسين الآبي- بالمد- عن محمد بن واسع، أنّه قيل له: فلان زاهد. فقال: وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها!!. فإذا قيل هذا في حقّ غير المصطفى صلّى الله عليه وسلم فما بالك به؟!. وقد ذكر القاضي عياض في «الشفاء» ؛ ونقله عنه الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه «السيف المسلول» : أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل حاتم المتفقه الطليطليّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وأمّا خبز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيت اللّيالي المتتابعة طاويا هو وأهله؛ لا يجدون ... وصلبه لاستخفافه بحق النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته ب «اليتيم» ، وزعمه أنّ زهده لم يكن قصدا!! ولو قدر على الطيبات أكلها!. انتهى. وكلّ واحدة من هذه الثلاث كافية في القتل؛ بلا استتابة عند مالك رحمه الله تعالى. وذكر الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض الفقهاء المتأخرين؛ أنّه كان يقول: لم يكن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقيرا من المال، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى النّاس، فقد كفي أمر دنياه في نفسه وعياله. وكان يقول في قوله صلّى الله عليه وسلم «اللهم أحيني مسكينا» أنّ المراد به استكانة القلب، لا المسكنة الّتي هي ألايجد ما يقع موقعا من كفايته. وكان يشدّد النكير على من يعتقد خلاف ذلك. انتهى. وهو حسن نفيس. انتهى كلام «المواهب» ؛ مع شيء من «شرح الزرقاني» رحمهما الله تعالى. (وأمّا خبز رسول الله صلّى الله عليه وسلم!) والخبز- بالضمّ-: الشّيء المخبوز من نحو برّ. وهو المراد هنا، فقد جاء بيانه في أحاديث كثيرة. أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «جامعه» و «شمائله» وصححه، وابن سعد في «طبقاته» - واللفظ ل «الشمائل» - (فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت اللّيالي المتتابعة) أي المتوالية، يعني كان في تلك الليالي على الاتصال (طاويا) أي: خالي البطن جائعا (هو) تأكيد فاعل «طاويا» ، لتصحيح عطف (وأهله) عليه، (لا يجدون) أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهله فأفرد «طاويا» نظرا لمطابقة الفاعل، وجمع «لا يجدون» ! نظرا لمشاركتهم له في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم من خبز الشّعير يومين متتابعين ... عدم وجدانهم، (عشاء) - بفتح العين المهملة والشين المعجمة والمدّ- هو: ما يؤكل آخر النّهار الصادق؛ بما بعد الزوال. والمراد بأهله عياله الذين في نفقته. وفي «المغرب» : أهل الرّجل؛ امرأته وولده، والذين في عياله، ونفقته، وكذا كل أخ وأخت، وعمّ وابن عمّ وصبيّ يقوته في منزله. انتهى. وكان صلّى الله عليه وسلم لشرف نفسه، وفخامة منصبه؛ يبالغ في ستر ذلك عن أصحابه؛ وإلّا فكيف يظنّ عاقل أنه يبلغهم أنه يبيت طاويا، هو وأهل بيته اللّيالي المتتابعة، مع ما عليه طائفة منهم من الغنى؛ بل لو علم فقراؤهم- فضلا عن أغنيائهم- ذلك لبذلوا الجهد في تقديمه، هو وأهل بيته، على أنفسهم واستبقوا على إيثاره!!؟ وهذا يدلّ على فضل الفقر والتجنّب عن السؤال مع الجوع. (وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير) أي: وقد يكون خبزهم خبز البرّ مثلا. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلم) - هم هنا: عياله الّذين في مؤونته، لا من تحرم عليهم الصّدقة. وما يأكله عياله يسمّى خبزه، ومنسوب له؛ فالخبر مطابق للترجمة. ويحتمل أن لفظ «آل» مقحم، والمراد هو!! ويؤيده الرواية الآتية: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخ (من خبز الشّعير يومين متتابعين) . خرج بقوله «خبز الشعير» خبز البر. ففي رواية البخاري عن عائشة: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام برّ ثلاث ليال تباعا حتّى قبض!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 حتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن سليم بن عامر [رحمه الله تعالى] قال: سمعت أبا أمامة [الباهليّ] رضي الله تعالى عنه يقول: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبز الشّعير. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رفع عن مائدته صلّى الله عليه وسلّم كسرة خبز حتّى قبض. وقد ورد عنها أيضا أنّها ... وأخذ منه أن المراد هنا اليومان بلياليهما، كما أنّ المراد اللّيالي بأيامهما. وقولها (حتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم) إشارة إلى استمرار تلك الحالة مدة إقامته بالمدينة، وهي عشر سنين؛ بما فيها من أيام حجّه وغزوه. (و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» (عن سليم) - بالتصغير- (بن عامر) الرّحبي المشرفي الحمصي- ورحبة: بطن من حمير-. له نحو مائتي حديث، وكان ثبتا ناصبيا. مات سنة ثلاث وستين ومائة. وغلا من قال (له رؤية) . خرّج له مسلم والأربعة (قال: سمعت أبا أمامة) - بضم الهمزة- ( [الباهليّ] ) اسمه: صدي بن عجلان- تقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه؛ يقول: (ما كان يفضل) - بضم الضاد المعجمة؛ أي: يزيد- (عن أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبز الشّعير) . أي: ما كان يزيد عن كفايتهم، بل كان ما يجدونه لا يشبعهم في الأكثر، كما تدلّ عليه الرواية السابقة. (و) في الباجوري على «الشمائل» : روي (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أنها قالت: (ما رفع عن مائدته صلّى الله عليه وسلم كسرة خبز حتّى قبض. وقد ورد عنها) أي: عائشة (أيضا) ؛ فيما رواه البخاري ومسلم؛ (أنّها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رفّ لي- أي: نصف وسق- فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني. قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وليس عندي شيء يأكله ذو كبد) شامل لكل حيوان، (إلّا شطر شعير) قال التّرمذي: أي: شيء من شعير. وقال ابن الأثير: قيل: نصف مكوك، وقيل: نصف وسق. ويقال: شطر وشطير؛ مثل نصف ونصيف؛ انتهى ذكره الشّمنّي في «حواشي الشفاء» ( [في رفّ لي] ) - بفتح الراء وشد الفاء مكسورة-: خشب يرفع عن الأرض في البيت، يوضع فيه ما يراد حفظه؛ قاله القاضي عياض. وفي «الصّحاح» : الرفّ شبه الطاق في الحائط. قيل: وهو أقرب هاهنا، لأن الخشب لا يحتمل وضع هذا المقدار عليه، وفيه نظر لقلّته؛ ذكره الزرقاني. وقال المصنف تبعا للباجوري؛ في تفسير قوله شطر شعير: (أي: نصف وسق) . قالت عائشة: (فأكلت منه حتّى طال عليّ) - بتشديد الياء- (فكلته) - بكسر الكاف- (ففني) . زادت في رواية: «فياليتني لم أكله» . فإن قيل: مقتضى هذا أنّ الكيل سبب لعدم البركة، فيعارض قوله صلّى الله عليه وسلم: «كيلوا طعامكم؛ يبارك لكم فيه» رواه البخاري وأحمد عن المقدام بن معدي كرب؟ وفي الباب غيره!؟ أجيب: بأن البركة عند البيع، ودخوله البيت، وعدمها عند النفقة، وبأن المراد أن يكيله بشرط بقاء الباقي مجهولا، أو لأن الكيل عند الشراء مطلوب لتعلّق حق المتبايعين؛ فلذا ندب، وحصلت البركة فيه!! لامتثال أمر الشارع، بخلاف كيله عند الإنفاق للاختبار، فقد يبعث عليه الشح؛ فلذا كره وذهبت بركته. والحاصل: أنّ مجرد الكيل إنما يحصّل البركة بقصد الامتثال فيما شرع كيله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل خبز الشّعير غير منخول، وربّما وقف في حلقه فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء. وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما أنّه قيل له: أكل ... ومجرد عدمه إنما ينزعها إذا انضم إليه الاختبار والمعارضة، ولذا قال القرطبي: سبب رفع النّما الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته وكثرة بركاته، والغافلة عن الشّكر عليها، والثّقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة. انتهى «زرقاني على «المواهب» » . (و) في «الإحياء» مع الشرح: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل خبز الشّعير غير منخول) من نخالته. وفي هذا تركه صلّى الله عليه وسلم التكلّف والاعتناء بشأن الطّعام، فإنّه لا يعتني به إلّا أهل البطالة والغافلة. قال العراقي: رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. انتهى. قلت: ورواه مسلم والترمذي نحوه. انتهى كلام «شرح الإحياء» . (وربّما وقف في حلقه؛ فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء) . هذه الزيادة غير موجودة في «الإحياء» !. (و) أخرج البخاري والترمذي في «الشمائل» - واللفظ لهما-. (عن سهل) - بفتح السين المهملة وسكون الهاء- (بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي: أبي العباس. له ولأبيه صحبة وهو آخر من مات من الصحب بالمدينة المنورة، مات سنة: - 88- ثمان وثمانين أو إحدى وتسعين وعمره جاوز المائة (رضي الله تعالى عنهما أنّه) أي: الشأن (قيل له) أي لسهل (: أكل) هو استفهام بحذف الهمزة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّقيّ يعني: الحوّارى؟ فقال سهل: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّقيّ حتّى لقي الله عزّ وجلّ. فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما كانت لنا مناخل. أي: قال بعضهم له على وجه الإستفهام: أأكل (رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّقيّ؟) - بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء- أي: الخبز المنقّى من النّخالة، أي: المنخول دقيقه. وأما النّفي بالفاء: فهو ما ترامت به الرحى؛ كما قاله الزمخشري. (يعني) أي: يريد سهل بالنقي (الحوّارى) تفسير من الراوي أدرجه في الخبر. وهو- بضمّ الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، وفي آخره ألف تأنيث مقصور-: ما حوّر من الدّقيق بنخله مرارا، فهو خلاصة الدقيق وأبيضه، وكل ما بيض من الطعام كالأرز. وقصره على الأول تقصير. (فقال سهل: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّقيّ) ، أجابه بنفي الرؤية مع أن السؤال عن الأكل! لأنّه يلزم من نفي رؤيته نفي أكله. وإنما عدل عن نفي الأكل!! لأن نفي الرؤية أبلغ. أي: ما رآه فضلا عن أكله (حتّى لقي الله عزّ وجلّ) أي: حتى فارق الدّنيا، لأن الميت بمجرّد خروج روحه تأهّل للقاء ربه، إذ الحائل بين الله وبين العبد هو التعلقات الجسمانية، فبعد قطعها يلاقيه؛ إمّا بصفاته الجلالية، أو الجمالية. (فقيل له) أي لسهل (: هل كانت لكم) معشر الصحابة من المهاجرين والأنصار (مناخل) جمع منخل- بضم الميم والخاء المعجمة- وهو: اسم آلة على غير قياس، إذ القياس كسر الميم وفتح الخاء (على عهد) أي: في زمن (رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟) (قال) أي سهل (: ما كانت لنا مناخل) أي: في عهده صلّى الله عليه وسلم وزمانه ليطابق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟ قال: كنّا ننفخه فيطير منه ما طار، ثمّ نعجنه. وفي رواية له: هل كانت لكم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى. الجواب السؤال، وليوافق ما في الواقع. إذ بعده صلّى الله عليه وسلم كانت لهم ولغيرهم مناخل ممن لم يثبت على حاله. ولذا قيل: المنخل أوّل بدعة في الإسلام. وفي «صحيح مسلم» عن الحسن أنّ عائذ بن عمرو- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- دخل على عبيد الله بن زياد الأمير الظالم. فقال: - أي: عائذ بن عمرو-: أي بني؛ إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ شرّ الرّعاء الحطمة فإيّاك أن تكون منهم» . فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم. فقال: هل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم!!. (قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟) أي: بدقيقه مع ما فيه من النخالة، ولا بد من نخلها ليسهل بلعه!!. (قال: كنّا ننفخه) بضمّ الفاء أي: نطيّره، والاستعمال الأشيع: ننفخ فيه (فيطير منه ما طار) من القشر، (ثمّ نعجنه) - بفتح النون وكسر الجيم؛ من باب ضرب-. (وفي رواية له) أي: لسهل في البخاري؛ بعد «باب الأطعمة» : (هل كانت لكم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى) . وبقية الحديث: قلت: كيف كنتم تأكلون الشّعير غير منخول؟ قال: كنّا نطحنه وننفخه فيطير ما طار، وما بقي ثرّيناه فأكلناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّقا حتّى لحق بالله، ... وقوله ثرّيناه- بمثلاثة وراء ثقيلة مفتوحتين- أي: ندّيناه وليّنّاه بالماء. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : قوله «من حين ابتعثه الله» أظنّه احتراز عما قبل البعثة، لأنه صلّى الله عليه وسلم توجّه في أيام الفترة مرتين، إلى جانب الشام تاجرا، ووصل إلى بصرى، وحضر في ضيافة بحيرا الراهب، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقي عندهم كثير، والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ذلك عندهم. وأما بعد ظهور النّبوة! فلا شك أنّه في مكة والطائف والمدينة المنورة. وقد اشتهر أنّ سبيل العيش صار مضيّقا عليه وعلى أكثر أصحابه؛ اضطرارا أو اختيارا. انتهى؛ ذكره في «جمع الوسائل» . وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والله الذي بعث محمدا بالحق؛ ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض. قلت: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول: أف. قال الغزالي: وهذا لا يقتضي أنّ اتّخاذ المناخل لنخل الطعام منهيّ عنه، وإن كان أبدع بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم!! لأنّ المنهي عنه بدعة تضادّ سنة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علّته، وليس نخل الطعام كذلك!! لأن القصد منه تطييب الطّعام، وذلك مباح ما لم ينته إلى التّنعّم المفرط. انتهى. (وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرقّقا) - براء مهملة فقافين- وهو: المليّن المحسّن كخبز الحوّارى وشبهه. والترقيق: التليين. وفي رواية في «الأطعمة» ؛ عن أنس: ما أكل خبزا مرقّقا (حتّى لحق بالله) عزّ وجلّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ولا رأى شاة سميطا بعينه حتّى لحق بالله. رواه البخاريّ. و (الشّاة السّميط) : هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن، وشويت والمعنى لم يأكل خبزا مليّنا؛ أي: متّخذا من دقيق ناعم، بحيث إذا عجن يلين عجينه، بل كان أكله من نحو الشّعير، الذي يغلب على عجينه اليبس، ولم يكن عندهم مناخل، وذلك سبب لعدم لين خبزهم. (ولا رأى شاة سميطا) - بمهملتين- من سمط الشاة إذا نتف صوفه؛ بعد إدخاله في الماء الحار. فإن قلت: القياس سميطة. قلت: لا؛ إذ الفرق في الشاة ونحوها بين المذكر والمؤنث بالصّفة نحو شاة وحشي ووحشية. أو أن الفعيل بمعنى المفعول؛ يستوي فيه المذكر والمؤنث. وغرضه أنّه صلّى الله عليه وسلم ما كان متنعّما في المأكولات؛ قاله الكرماني. (بعينه) - بالإفراد قاله القسطلّانيّ- (حتّى لحق بالله) تعالى. وفي رواية: حتّى لقي الله تعالى. قال القسطلّانيّ: وهذا يعارضه ما ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلم أكل الكراع؛ وهو لا يؤكل إلّا مسموطا. انتهى. ولا معارضة، إذ نفي رؤية الشاة بتمامها سميطا؛ لا ينفي رؤية الأكارع؛ كما هو بيّن!! (رواه البخاريّ) في «الرقاق» بلفظه، و «الأطعمة» بنحوه؛ عن قتادة قال: «كنّا عند أنس وعنده خبّاز له، فقال: كلوا، ما أعلم ... » الحديث. ولم يعرف الحافظ ابن حجر اسم الخباز. وفي الطّبراني: «كان لأنس غلام يخبز له الحوّارى ويعجنه بالسمن، فقال: كلوا ... » الحديث. (والشّاة السّميط: هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن؛ وشويت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 بجلدها، وهو من فعل المترفّهين. وعن قتادة، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على خوان، ولا في سكرّجة، ... بجلدها) وإنما يصنع ذلك في الصغير السّن، (وهو من فعل المترفّهين) ، أي الأغنياء المتنعّمين. وإنما كان هذا من فعلهم! لأنهم لا يفوت غرضهم لزيادة ثمن مثل هذا، ولأن المسلوخ ينتفع بجلده في اللّبس وغيره، والسّمط يفسده. والمترفّه لا يبالي بفوات ذلك. (و) أخرج البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له- (عن قتادة) بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما أكل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم على خوان) لما فيه من الترفّه والتكبّر، والخوان- بكسر أوله المعجم ويضم-: وهو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه كالكراسي المعتادة عند أهل الأمصار، وهو فارسيّ معرّب. يعتاد المتكبرون من العجم الأكل عليه كيلا تنخفض رؤوسهم. فالأكل عليه بدعة، لكنه جائز؛ إن خلا عن قصد التكبر. (ولا في سكرّجة) - بضمّ السين المهملة والكاف والراء مع التشديد-، وهي كما قال ابن العربي: إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل المشهّي للطّعام الهاضم له؛ كالسّلطة والمخلّل. وإنما لم يأكل النبي صلّى الله عليه وسلم في السّكرّجة!! لأنّه لم يأكل حتّى يشبع فيحتاج لاستعمال الهاضم والمشهّي، بل كان لا يأكل إلّا لشدّة الجوع، ولأنها أوعية الألوان؛ ولم تكن الألوان من شأن العرب، إنما كان طعامهم الثّريد عليه مقطّعات اللّحم. قاله الباجوري. قال في «جمع الوسائل» : والأكل في السّكرّجة من دأب المترفين، وعادة الحريصين على الأكل المفرطين. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ولا خبز له مرقّق. قال قتادة: كانوا يأكلون على هذه السّفر. و (الخوان) : هو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه. (ولا خبز) - ماض مجهول- (له) أي: لأجله صلّى الله عليه وسلم (مرقّق) - بصيغة اسم المفعول؛ مرفوع على أنه نائب الفاعل، وهو بتشديد القاف الأولى-: ما رقّقه الصانع أي جعله رقيقا، وهو الرّقاق- بالضم- يعني لم يكن يخبز له خبز مليّن محسّن مبيّض كالحوّارى، لأنّ عامة خبزهم إنّما كان من الشّعير، والرّقاق إنما يتّخذ من دقيق البرّ، وليس ذا من شأن العرب. وهذا الحديث إنما يفيد نفي خبزه له، وحديث البخاري يفيد نفي رؤيته له؛ سواء خبز له أو لغيره. (قال قتادة:) لسائله؛ وهو يونس بن أبي الفرات عبيد البصري- ولفظ الترمذي في «الشمائل» فقلت لقتادة-: فعلام (كانوا يأكلون؟) . قال: (على هذه السّفر) أي: كانوا يأكلون على هذه السّفر- بضمّ السين المهملة المشددة وفتح الفاء؛ جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطعام كما سيأتي. والسفرة أخصّ من المائدة؛ وهي ما يمد ويبسط ليؤكل عليه؛ سواء كان من الجلد، أو من الثياب. وممّا يحقّق أنّ المائدة ما يمدّ ويبسط ما جاء في تفسير المائدة حيث قالوا: نزلت سفرة حمراء مدورة. وقال ابن العربي: رفع الطّعام على الخوان من الترفّه، ووضعه على الأرض إفساد له، فتوسّط الشارع حيث طلب أن يكون على السفرة والمائدة. وقال الحسن البصري: الأكل على الخوان فعل الملوك، وعلى المنديل فعل العجم، وعلى السفرة فعل العرب، وهو سنة. انتهى (باجوري؛ على «الشمائل» ) . (والخوان) - المشهور فيه كسر الخاء المعجمة، ويجوز ضمها- و (هو مرتفع) عن الأرض (يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه) ، واستعماله لم يزل دأب المترفين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 و (السّكرّجة) : إناء صغير يوضع فيه الشّيء القليل المشهّي للطّعام؛ كالسّلطة. و (السّفر) - جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام. وعن مسروق ... وفيه لغة ثالثة، وهي: إخوان؛ بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة، ولعله سمي بذلك! لاجتماع الإخوان والأصحاب عنده وحوله. والصحيح أنّه اسم أعجميّ معرب. (والسّكرّجة) - بضم أحرفه الثلاثة مع تشديد الراء وقد تفتح الراء- (: إناء صغير يوضع فيه الشّيء القليل المشهّي للطّعام) الهاضم له؛ حول الطعام على المائدة (كالسّلطة) - بفتحات، ويقال لها الزلطة؛ بالزّاي- وكالمخلل وما أشبههما من الجوارش. (والسّفر) - بضمّ السين المهملة وفتح الفاء- (جمع سفرة؛ وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام) . وأصل السّفرة: طعام يتّخذ للمسافر، والغالب حمله في جلد مستدير. فنقل اسمه لذلك الجلد؛ فسمّي به لذلك، كما سميت المزادة راوية. فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة. ولأن للجلد المذكور معاليق تنضمّ وتنفرج، فللانفراج سمّي سفرة، لأنها إذا حلّت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها. وسمي السّفر سفرا!! لإسفاره عن أخلاق الرّجال. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن) أبي عائشة (مسروق) بن الأجدع- بالجيم والدّال المهملة- ابن مالك بن أميّة بن عبد الله الهمذاني الكوفي التابعي المخضرم، يقال أنه سرق صغيرا ثم وجد؛ فسمي مسروقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها، فدعت لي بطعام، وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت. قال: قلت: لم؟ قالت: أذكر الحال الّتي فارق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدّنيا، ... أسلم قبل وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأدرك الصدر الأول من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود. وروى عنهم؛ وعن خبّاب بن الأرتّ، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، والمغيرة، وعائشة، رضي الله تعالى عنهم. روى عنه أبو وائل؛ وهو أكبر منه، وسليم بن أسود والشّعبي والنّخعي والسّبيعي وعبد الله بن مرّة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة «أحد الفقهاء السبعة» وآخرون. اتفقوا على جلالته، وتوثيقه، وفضيلته، وإمامته. وكان يصلّي حتى تورّمت قدماه. وتوفي سنة: - 62- اثنتين وستين. وقيل سنة: - 63- ثلاث وستين هجرية كما في «تهذيب الأسماء واللغات» للنّووي. (قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فدعت لي بطعام) أي: طلبت من خادمها طعاما لأجلي، (وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت) أي: ما أشبع من مطلق الطعام، فأريد البكاء؛ إلّا بكيت تأسّفا وحزنا على فوات تلك الحالة العليّة، والمرتبة المرضيّة، وهي ما كان عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكأنها ذكرت هذا اعتذارا، عن عدم اهتمامها بالأكل، كما هو سنة المضياف! ليأكل الضيف بلا خجل. ومرادها أنه ما يحصل من شبع، إلّا تسبب عنه مشيئتي للبكاء؛ فيوجد مني فورا. (قال) أي مسروق (: قلت: لم؟) أي: لم تسبّب عن الشبع تلك المشيئة المسبب عنها وجود البكاء فورا. (قالت: أذكر الحال الّتي فارق) مستقرا (عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدّنيا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 والله ما شبع من خبز ولا لحم مرّتين في يوم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم من طعام ثلاثة أيّام تباعا حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم. وروى مسلم: ما شبع آل محمّد يومين من خبز البرّ إلّا وأحدهما تمر. وحاصله أنّها قالت: كلما شبعت بكيت لتذكّر الحال الّتي فارقت عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبيّنت تلك الحالة بقولها: (والله ما شبع من خبز؛ ولا لحم؛ مرّتين في يوم) واحد من أيام عمره، فلم يوجد [يوم] قط شبع فيه مرتين منهما؛ ولا من أحدهما. قال ابن العربي: الاتساع في الشهوات من المكروهات، وقد نهى الله تعالى قوما عن ذلك في كتابه العزيز فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا [20/ الأحقاف] ، وكذا التبسّط في المأكول والموائد والتّجمّع بالألوان، والفواكه، والتقلّل هو المحبوب، والتّواضع هو المحمود المطلوب. (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم) والمراد ب «آله» : هو وآله. ففي رواية لمسلم «ما شبع محمد وأهله» (من طعام ثلاثة أيّام) . ولمسلم «ثلاث ليال» ، فالمراد هنا الأيام بلياليها، كما أنّ المراد اللّيالي بأيّامها؛ كما في «الفتح» (تباعا) - بكسر الفوقية وخفّة الموحدة- أي: متتابعة متتالية، (حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم) في «الأطعمة» وغيرها. (وروى مسلم) في «صحيحه» من حديث مسعر بن كدام الهلالي، عن هلال بن حميد، عن عروة، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها قالت: (ما شبع آل محمّد يومين من خبز البرّ) القمح (إلّا وأحدهما) أي اليومين (تمر) لقلة خبز البرّ. وأخرجه البخاري من هذا الطريق عنها بلفظ «ما أكل آل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وروى مسلم أيضا: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين. وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض. وفي رواية عنها أيضا: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء.. لأعطاه الله عزّ وجلّ ما لا يخطر ببال. محمّد أكلتين في يوم إلّا وإحداهما تمر» . ولأبي ذر «تمرا» بالنصب. إما على تقدير إلّا كانت إحداهما تمرا؛ وإما جعل إحداهما تمرا!! (وروى مسلم أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين) . خصّت الزيت! لأنهم كانوا يأتدمونه كثيرا، ومع ذلك لم يأكله في اليوم إلّا مرة زهدا في الدنيا. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عنها) أي: عائشة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض) ، لاجتنابه الشّبع وإيثاره الجوع. ولا يناقضه خبر أبي الهيثم «فلمّا أن شبعوا» ! لأن ذلك الشّبع كان من الشاة. ولا قوله في خبر آخر حين عرضت عليه الدّنيا واختار الفاقة؛ وقال: «أريد أن أجوع يوما فأصبر، وأشبع يوما فأشكر» ! لأنها بيّنت جنس ما لم يشبع منه؛ وهو خبز الشعير. (وفي رواية عنها أيضا) رواها البخاري (: ما شبع) - بكسر الموحدة- أي ما أكل حتى شبع (رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء) الدنيا وترفها ونعيمها (لأعطاه الله عزّ وجلّ ما لا يخطر) - بضم الطاء المهملة وكسرها- يقال خطر يخطر خطورا: إذا ذكر وتصوّر- (ببال) البال: القلب والعقل والفكر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 قال القسطلّاني في «المواهب» : (وقد تتبّعت هل كانت أقراص خبزه صلّى الله عليه وسلّم صغارا أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش. نعم.. روي أمره بتصغيرها في حديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها، رفعته بلفظ: «صغّروا الخبز، وأكثروا عدده.. يبارك لكم فيه» . وكان شيخي العارف الرّبّانيّ ... أي: يعطيه منها كل أمر نفيس لم يتصوّره أحد من الناس، لجلالته وعظمته، وكونه لم يعهد مثله حتى يعرف قدره. (قال) العلامة أبو العباس أحمد بن محمد شهاب الدين (القسطلّاني) رحمه الله تعالى (في) كتابه ( «المواهب) اللّدنيّة» في النوع الأول؛ من الفصل الثالث في المقصد الثالث: (وقد تتبّعت! هل كانت أقراص خبزه صلّى الله عليه وسلم صغارا؛ أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش. نعم؛ روي أمره بتصغيرها في حديث) عند الديلمي، من طريق عبد الله بن إبراهيم قال: حدثنا جابر بن سليم الأنصاري عن يحيى بن سعيد عن عمرة (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ رفعته بلفظ: «صغّروا الخبز، وأكثروا عدده؛ يبارك لكم فيه» ) وهو واه جدا بحيث ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» . وقال: إنّ المتّهم بوضعه جابر بن سليم الأنصاري. (وكان شيخي) وقدوتي (العارف الرّبّاني) هو العالم المعلّم، الذي يغذو النّاس بصغار العلوم قبل كبارها. وقال محمد بن الحنفية- لما مات عبد الله بن عبّاس- اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة. وروي عن علي أنّه قال: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل نجاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 إبراهيم المتبوليّ ... وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق. والربّاني، العالم الرّاسخ في العلم والدّين، أو العالم العامل المعلّم، أو العالي الدّرجة في العلم. وقيل: الرّباني المتألّه العارف بالله تعالى برهان العارفين: أبو إسحاق (إبراهيم) بن علي بن عمر (المتبوليّ) الأنصاري الأحمدي. والمتبولي نسبة إلى محلة «متبول» : قرية بالجيزة؛ من مصر. وكان إمام الأولياء في عصره، وهو أحد شيوخ سيدي علي الخوّاص. وله كرامات كثيرة؛ منها أنّه كان يرى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في المنام، فيخبر بذلك أمه؛ فتقول له: يا ولدي؛ إنّما الرجل من يجتمع به في اليقظة. فلمّا صار يجتمع به في اليقظة، ويشاوره في أموره؛ قالت له: الآن قد شرعت في مقام الرّجولية. وكان إذا جاءه رجل يطلب تسكين شهوته؛ يقول: تطلب مرة أو دائما؟ فإن قال مرة، شدّ وسطه بخيط فما دام كذلك لا تتحرك شهوته، وإن قال أبدا، مسح ظهره فلا يشتهي النّساء حتى يموت. وكراماته كثيرة؛ ذكرها المصنف في «جامع كرامات الأولياء» . وكان متعبّده في بركة الحاج مشهور، وخرج إلى القدس؛ فمات في الطريق، فدفن بقرية سدود من أرض فلسطين؛ عند سلمان الفارسي سنة: نيف وثمانين وثمانمائة هجرية. وذكر الشعراني في «الأخلاق المتبولية» أنه عاش مائة وتسع سنين- بتقديم المثنّاة على المهملة-. قال المناوي: وذكر «شارح القاموس» : أنّ من ولده الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد المتبولي «1» . أخذ عن السيوطي وابن حجر المكي وشرح «الجامع الصغير» . انتهى كلام شارح القاموس.   (1) توفي سنة: ألف وثلاث، رحمه الله تعالى «هامش الأصل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 يصغّر أرغفة سماطه، كالشيخ أبي العبّاس أحمد البدويّ ... وفيه نظر؟ فإن الشّعراني صرّح في «الطّبقات» بأنّ إبراهيم المتبولي لم يتزوّج. وكان يقول: ما في ظهري أولاد! حتى أتزوّج بقصدهم! فالظاهر أنّ أحمد المتبولي شارح «الجامع الصغير» رجل منسوب إلى «متبولة» ، المحلّة المذكورة، وليس هو من ذرية القطب البرهان المتبولي. والله أعلم!؟ (يصغّر أرغفة) - جمع رغيف- من الخبز؛ مشتق من الرّغف كالمنع جمعك العجين تكتله بيدك. أي: يأمر بجعل أقراص الخبز صغارا يقدّمها على (سماطه) يمدّ عليه الطعام. (كالشّيخ) أي: مثل فعل الشيخ العارف بالله تعالى السيد الشريف الحسيب النسيب سيدي (أبي العبّاس أحمد) بن علي (البدويّ) الغوث الكبير، والقطب الشهير. أحد أركان الولاية الذين اجتمعت الأمة على اعتقادهم ومحبتهم. وشهرته في جميع الأقطار تغني عن تعريفه، ولقب ب «البدوي» لكثرة ما كان يتلثّم. وكانت ولادته بمدينة فاس؛ من أرض المغرب، فلما بلغ سبع سنين انتقل والده بعائلته إلى مكّة المشرّفة، وكان ذلك سنة: ثلاث وستمائة. فقرأ القرآن بمكّة وحفظه غيبا، ثم انتقل إلى مصر، واشتغل بالعلم على مذهب الإمام الشّافعي مدة، حتى حدث له حادث الوله، فترك ذلك. وله كرامات كثيرة؛ منها قصة المرأة التي أسر ابنها الفرنج فلاذت به، فأحضره في قيوده. ومرّ به رجل يحمل قربة لبن، فأشار بإصبعه إليها، فانفذت فخرجت منها حية انتفخت. وكراماته تتجاوز العدّ والحدّ. وهو إمام الأولياء وأحد أفراد العالم. قال المتبولي: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما في أولياء مصر بعد محمد بن إدريس [الشافعي] ؟! أكبر فتوّة من أحمد البدوي! ثم نفيسة، ثم شرف الدين الكردي، ثم المنوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 والسّادات بني الوفاء. أعاد الله تعالى علينا من بركاتهم) . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج- تعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم- من الدّنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التّمر.. لم يشبع من الشّعير، وإذا شبع من الشّعير.. لم يشبع من التّمر. وكانت وفاة صاحب الترجمة سنة: - 675- خمس وسبعين وستمائة هجرية رحمه الله تعالى. (والسّادات) إكسير معارف السعادات، أولي المواهب العليّة والحقائق المحمّديّة (بني الوفاء) الذين لم يشتهر ب «السّادات» في مصر أحد سواهم؛ كسيدي محمد بن محمد وفاء السكندري الأصل، ثم المغربي ثم المصري؛ الشاذلي المالكي الصّوفي الكبير الشهير، وولده سيدي علي بن محمد وفاء الصّوفي الولي الكبير الشّهير أحد أفراد الزّمان، وبحور العرفان. قال الإمام الشعراني في حقه: طالعت كثيرا وقليلا من كلام الأولياء! فما رأيت أكثر علما؛ ولا أرقى مشهدا من كلام سيدي علي وفاء!! قال الشعراني: وسمي والده «وفاء» !! لأن بحر النيل توقف، فلم يزد إلى أوان الوفاء، فعزم أهل مصر على الرحيل، فجاء إلى البحر وقال: اطلع بإذن الله تعالى. فطلع ذلك اليوم سبعة عشر ذراعا، وأوفى فسمّوه «وفاء» . انتهى. وتراجمهم مذكورة في «طبقات» الشّعراني والمناوي، «وجامع كرامات الأولياء» . (أعاد الله تعالى علينا من بركاتهم) وواصل إمداداتهم إلينا. آمين (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» من طريق عمران بن زيد المدني قال: حدثني والدي (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: خرج- تعني) أي: تريد (النّبي- صلى الله عليه وسلم- من الدّنيا) أي: مات (ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين؛ كان إذا شبع من التّمر لم يشبع من الشّعير، وإذا شبع من الشّعير لم يشبع من التّمر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 قال القسطلّاني: (واعلم أنّ الشّبع بدعة ظهرت بعد القرن الأوّل. وقد روى النّسائيّ ... وليس في هذا ما يدلّ على ترك الجمع بين نوعين من الطّعام، إذ صريحه عدم امتلائه منهما، أما الجمع فقدر آخر، فقد جمع صلّى الله عليه وسلم القثاء بالرّطب. ثم هذه الأحاديث السابقة لا تنافي أنّه كان في آخر حياته يدّخر قوت عياله سنة، لأنّه كان يعرض له حاجة المحتاج فيخرج فيها ما كان ادّخره؛ ولا يبقي منه بقية. فصدق أنّه لم يشبع، وأنّ أصحابه لم يشبعوا، وأنّه ادّخر قوت سنة. كذا قاله المناوي وغيره؛ أخذا من كلام النووي في «شرح مسلم» . وقال في «جمع الوسائل» : وفيه أنّه يلزم منه أنّ تضييق الحال كان في أواخر السنة، والحال أن الأحاديث تعمّ الأحوال، فالأحسن في الجواب أن يقال: إنّما كان يدّخر قوتهم؛ لا على وجه الشّبع، أو أنّه كان لا يدّخر لنفسه. فما كانوا يشبعون معه صلّى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، مع أنّه لا تصريح في الحديث أنّهم كانوا لا يشبعون من القلة، وإنما كان عادتهم عدم الشّبع. نعم؛ ما كانوا يجدون من لذيذ الأطعمة المؤدية إلى الشّبع غالبا. والله أعلم. انتهى. (قال) العلامة الشهاب (القسطلّانيّ) في «المواهب» : (واعلم أنّ الشّبع بدعة ظهرت بعد القرن الأوّل) . قال بعضهم: الشّبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة. (وقد روى) الترمذي و (النّسائيّ) - بفتح النّون والسّين المهملة المخففة بعدها ألف ممدودة؛ منسوب إلى «نسا» مدينة بخراسان، ويقال في النسب إليها نسوي أيضا. انتهى. وقال بعضهم: والنّسئيّ نسبة لنسأ ... مدينة في الوزن مثل سبأ والنّسائي هو: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار. أبو عبد الرحمن، الحافظ مصنف السنن، وأحد الأئمة المبرزين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وابن ماجه ... قال الدارقطني: كان النّسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسّقيم، وأعلمهم بالرّجال ولم يكن مثله، ولا أقدّم عليه أحدا!. ولم يكن في الورع مثله، يقدّم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره. وقال ابن يونس: كان إماما في الحديث ثقة، ثبتا حافظا، وكان مولده سنة: - 214- أربع عشرة ومائتين، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة: - 302- اثنتين وثلثمائة إلى دمشق فوقعت له بها كائنة، ثم حمل إلى مكّة ومات بها في شعبان سنة: - 303- ثلاث وثلثمائة؛ قاله الدارقطني، وابن منده. رحمهم الله تعالى. آمين (و) الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد (ابن ماجه) القزويني- بفتح القاف وسكون الزاي المعجمة وكسر الواو وسكون التحتية ثم نون- نسبة لقزوين: أشهر مدن عراق العجم قال العراقي: الربعي نسبة إلى ربيعة «مولاهم» ، و «ماجه» بالهاء وصلا ووقفا، وهو لقب لأبيه يزيد. وابن ماجه: الحافظ إمام كبير من أئمة المسلمين، متقن مقبول بالاتفاق، صنف «التفسير» ، و «التاريخ» ، و «السنن» وتقرن سننه بالكتب الخمسة. وأوّل من قرنه بها الحافظ أبو الفضل بن طاهر، وتبعه عليه من بعده، فصار أحد الكتب الستّة، وجرى على ذلك أصحاب الأطراف، وأسماء الرجال. ومن نظر في كتابه علم منزلته من حسن الترتيب وغزارة الأبواب وقلّة الأحاديث الزائدة على القصد، بالتبويب وترك التكرار- إلا نادرا جدا- والمقاطيع والمراسيل والموقوفات، ونحو ذلك. وكانت ولادة ابن ماجه سنة: - 209- تسع ومائتين، ورحل إلى البلدان، وسمع بمكة، والمدينة، ومصر، والشام، والعراق، والرّي، ونيسابور، والبصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وصحّحه الحاكم ... قال السخاوي: ولم أر أحدا ذكره في طبقات الشافعية، وإن كان الميل في غالب أئمة الحديث لعدم التقليد. وكانت وفاته سنة: - 273- ثلاث وسبعين ومائتين، فعمره: أربع وستون سنة تقريبا رحمه الله تعالى. (وصحّحه الحاكم) ، قال في «الفتح» : وإسناده حسن. والحاكم هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف ب «ابن البيع» . ولد بنيسابور في شهر ربيع الأول سنة: - 321- إحدى وعشرين وثلثمائة. وتوفي بها في يوم الأربعاء ثالث صفر سنة: - 405- خمس وأربعمائة. طلب العلم من الصغر باعتناء والده وخاله، وأول سماعه سنة ثلاثين، وأكثر من الشيوخ أكثرهم من نيسابور، وله فيها نحو ألف شيخ وفي غيرها نحو ألف شيخ أيضا. روى عنه خلق كثير؛ من أجلّهم البيهقي والدارقطني؛ وهو من شيوخه، ورحل إليه من البلاد الشاسعة لسعة علمه وروايته واتفاق العلماء على أنّه من أعلام الأمّة الذين حفظ الله بهم هذا الدين، وحدّث عنه في حياته، وكان يرجع إلى قوله حفاظ عصره. وكتابه «المستدرك» - بفتح الراء- سمي به! لأنه استدرك فيه الزائد على «الصحيحين» من الصحيح مما هو على شرطهما؛ أو شرط أحدهما؛ أو ما ليس على شرط واحد منهما، وربّما أورد فيه ما هو فيهما؛ أو في أحدهما سهوا، وربما أورد فيه ما لم يصحّ عنده منبّها على ذلك. وهو متساهل في التصحيح. قال النووي في «شرح المهذب» : اتفق الحفاظ على أن تلميذه البيهقي أشدّ تحرّيا منه. وقد لخّص الذهبي «المستدرك» وتعقب كثيرا منه بالضعف والنكارة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 من حديث المقدام بن معدي كرب: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات ... وجمع جزآ فيه الأحاديث التي هي فيه وهي موضوعة؛ فذكر نحو مائة حديث. قال أبو موسى المديني: إنّ الحاكم اغتسل في الحمام وخرج؛ وقال: آه. وقبضت روحه وهو متّزر لم يلبس قميصه بعد رحمه الله تعالى. (من حديث المقدام) - بالميم أوله وآخره- (بن معدي كرب) - بفتح الكاف وكسر الراء، أما الباء الموحدة! فيجوز كسرها مع التنوين، ويجوز فتحها على البناء- وهو أبو كريمة المقدام بن معدي كرب بن عمرو بن يزيد بن معدي كرب الكندي. وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وفد كندة، عداده في أهل الشّام سكن حمص. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة وأربعون حديثا. وتوفي بالشّام سنة: سبع وثمانين؛ وهو ابن إحدى وتسعين سنة رضي الله تعالى عنه. (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما ملأ ابن آدم) - وفي رواية: آدمي- (وعاء شرّا من بطنه) لما فاته من الخير الكثير، حيث جعل بطنه كالأوعية، التي تجعل ظروفا، وتوهينا لشأنه، ثم جعله شرّ الأوعية، لأنها تستعمل في غير ما هي له، والبطن خلق ليتقوّم به الصلب بالطّعام، وامتلاؤه يفضي إلى إفساد الدين والدنيا؛ فيكون شرّا منها. ووجه ثبوت الوصف في المفضّل عليه!! أنّ ملء الأوعية لا يخلو عن طمع أو حرص، وكلاهما شرّ، والشّبع يوقع في مداحض فيزيغ عن الحق، ويغلب عليه الكسل، فيمنعه التعبّد، وتكثر فيه موادّ الفضول؛ فيكثر غضبه، وشهوته، ويزيد حرصه، فيطلب الزائد عن الحاجة. (حسب ابن آدم) أي: يكفيه (لقيمات) جمع قلة؛ فهو لما دون العشرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 يقمن صلبه، فإن غلبت الآدميّ نفسه.. فثلث للطّعام، وثلث للشّراب، وثلث للنّفس» . قال القرطبيّ: ... قاله الغزالي. وفي رواية: «أكلات» بفتح الهمزة والكاف؛ جمع أكلة- بالضمّ- وهي: اللّقمة. أي: يكفيه هذا القدر في سدّ الرّمق، وإمساك القوّة، ولذا قال: (يقمن صلبه) أي: ظهره! تسمية للكلّ باسم جزئه، إذ كلّ شيء من الظهر فيه فقار، فهو صلب كناية عن أنّه لا يتجاوز ما يحفظه من السقوط، ويتقوّى به على الطّاعة. (فإن غلبت الآدميّ نفسه) وفي رواية «فإن كان لا محالة» ؛ (فثلث للطّعام، وثلث) يجعله (للشّراب) ؛ أي: المشروب (وثلث للنّفس» ) - بفتحتين- وفي رواية: لطعامه.. لشرابه.. لنفسه. بالضمير في الثلاثة، وهذا غاية ما اختير للأكل، وهو أنفع للبدن والقلب، فإن البدن إذا امتلأ طعاما؛ ضاق عن الشّراب، فإذا ورد عليه الشّراب ضاق عن النّفس، وعرض الكرب والثّقل. وقسم إلى الثلاثة!! لأن الإنسان فيه أرضي، ومائي، وهوائي، وترك الناري! لأنّه ليس في البدن جزء ناري، كما قاله جمع من الأطباء؛ قاله ابن القيّم الحنبلي رحمه الله تعالى. (قال) العلامة الإمام الشّيخ محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح- بإسكان الراء والحاء المهملة- الأنصاري الأندلسي أبو عبد الله (القرطبيّ) المفسّر: كان من عباد الله الصّالحين، والعلماء العارفين الورعين؛ الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجّه، وعبادة، وتصنيف؛ جمع في تفسير القرآن كتابا كبيرا في اثني عشر مجلدا؛ سماه كتاب «جامع أحكام القرآن المبيّن لما تضمن من السنّة وآي القرآن» وهو من أجلّ التفاسير! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة) ... وأعظمها نفعا! أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الأدلّة، وذكر القراآت والإعراب، والناسخ والمنسوخ. وله كتاب «شرح أسماء الله الحسنى» ، وكتاب «التذكار في أفضل الأذكار» وضعه على طريقة «التبيان» للنووي؛ لكن هذا أتمّ منه، وأكثر علما. وكتاب «التذكرة بأمور الآخرة» مجلدين، وكتاب «شرح التقصّي» ، وكتاب «قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذلّ السؤال بالكتب والشفاعة» . وله أرجوزة؛ جمع فيها أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. وله تاليف وتعاليق مفيدة غير هذه. وكان قد طرح التكلّف، يمشي بثوب واحد؛ وعلى رأسه طاقية. سمع من الشيخ أبي العباس: أحمد بن عمر القرطبي، مؤلف كتاب «المفهم شرح صحيح مسلم» بعض هذا الشرح، وحدّث عن أبي علي: الحسن بن محمد بن محمد البكري وغيرهما. وكان مستقرا بمصر، ب «منية بني خصيب» ، وتوفي بها ودفن بها؛ في شوال سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة رحمه الله تعالى. قال في كتابه «شرح أسماء الله الحسنى» كما نقله عنه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : (لو سمع بقراط) - بضم الباء- (هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة!!) ، لأنها أرجح وأتمّ ممّا يتخيّلونه في نفوسهم، إذ هو بالحدس والتخمين، وهذا ممّن لا ينطق عن الهوى. وقال الغزالي: ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة؛ فقال: ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم منه. وإنّما خصّ الثلاثة: الطّعام والشّراب والنّفس بالذكر!! لأنها أسباب حياة الحيوان، إذ لا بدّ له من الثلاثة، ولأنه لا يدخل البطن سواها. وهل المراد بالثلث المساوي حقيقة على ظاهر الخبر؟ والطريق إليه غلبة الظّن!! أو المراد التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة؟؛ وإن لم يغلب ظنّه بالثلث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وعن الحسن رضي الله تعالى عنه ... الحقيقي!؟ محلّ احتمال. قال الحافظ ابن حجر: والأول أولى. ويحتمل أنّه لمّح بذكر الثّلث إلى قوله في الحديث الآخر «والثّلث كثير» . انتهى. وقال غيره: أرجح الاحتمالين الأول، إذ هو المتبادر، والثّاني يحتاج لدليل. (و) روى الدمياطي في السيرة له- كما في «المواهب» - (عن الحسن رضي الله تعالى عنه) أي: البصري، لأنّه المراد عند الإطلاق مرسلا. وهو الإمام المشهور، المجمع على جلالته في كلّ فنّ، أبو سعيد الحسن بن [أبي الحسن] يسار التابعي، البصري- بفتح الباء وكسرها- الأنصاري «مولاهم» ، مولى زيد بن ثابت. وقيل: مولى جميل بن قطبة. وأمّه اسمها خيرة، مولاة لأم المؤمنين أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها. ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قالوا: فربما خرجت أمّه في شغل فيبكي؛ فتعطيه أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها ثديها فيدر عليه، فيرون أن تلك الفصاحة والحكم من ذلك. ونشأ الحسن بوادي القرى، وكان فصيحا، رأى طلحة بن عبيد الله وعائشة رضي الله تعالى عنها، ولم يصح له سماع منها!! وقيل: إنّه لقي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ولم يصح! وسمع ابن عمر، وأنسا، وسمرة، وأبا بكرة، وقيس بن عاصم، وجندب بن عبد الله، ومعقل بن يسار، وعمرو بن تغلب- بالمثناة والغين المعجمة- وعبد الرحمن بن سمرة، وأبا برزة الأسلمي، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن المغافل، وأحمد بن جزء، وعائذ بن عمرو المزني الصحابيين رضي الله تعالى عنهم. وسمع خلائق من كبار التابعين وغيرهم. قال ابن سعد: كان الحسن جامعا، عالما، رفيعا، فقيها، ثقة، مأمونا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «والله ما أمسى في آل محمّد صاع من طعام، وإنّها لتسعة أبيات» . والله ما قالها استقلالا لرزق الله سبحانه وتعالى، ولكن أراد أن تتأسّى به أمّته. وفي «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: ... عابدا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، جميلا، وسيما. قدم مكّة، فأجلسوه على سرير واجتمع النّاس إليه؛ فيهم طاووس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن شعيب، فحدّثهم فقالوا- أو قال بعضهم-: لم ير مثل هذا قط. وتوفي سنة: - 110- عشر ومائة رحمه الله تعالى عليه. آمين. (قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «والله؛ ما أمسى في آل محمّد صاع من طعام، وإنّها) أي: آل محمد (لتسعة) أي: أهل تسعة (أبيات» ) هي أبيات زوجاته. (والله ما قالها) أي: هذه الكلمة (استقلالا لرزق الله سبحانه وتعالى) ، إذ لا يتأتّى ذلك منه، (ولكن أراد أن تتأسّى) : تقتدي (به أمّته) في القناعة، والرّضا بالمقسوم. قال الزرقاني: جزم شيخنا بأن القسم من الحسن راوي الحديث، والأصل أنّه من المرفوع، لأن الإدراج إنما يكون بورود رواية تبيّن القدر المدرج، أو استحالة أنّ المصطفى يقوله!! ولا استحالة هنا، فقد يكون قال ذلك خوفا على بعض أمّته اعتقاد أنّه قاله استقلالا فيهلك بذلك؛ كما قال لرجل مرّ عليه ومعه زوجته صفية: «إنّها صفيّة؟!» . فقال الرّجل: أفيك يا رسول الله؟! فقال: «خشيت عليك الشّيطان» . (وفي) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلم» (للقاضي) أبي الفضل (عياض) بن موسى اليحصبي- وقد تقدمت ترجمته في أول الكتاب- (رحمه الله تعالى) في (الباب الثاني) في فصل زهده صلّى الله عليه وسلم «1» :   (1) بل وردت في بداية الكتاب، عند ذكر المصنف للكتب التي جمع منها كتابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يمتلئ جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى، ... و: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لم يمتلئ) - بهمز- وهو الصحيح (جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلم شبعا) - بكسر الشّين المعجمة وفتح الموحدة- (قطّ) ؛ أي: أبدا، ولعلّ مرادها غالب أحواله، أو شبعا مفرطا غير مناسب لكماله، فإنّ المطلوب تقليل الطّعام، والاقتصار على ما يقوم به الأود، ثم ملء ثلث البطن، فإنّ ثلثا للزاد، وثلثا للماء، وثلثا للنفس- كما مرّ- فإن زاد! فنصفها، وما زاد على ذلك حرص وبطنة غير ممدوحة، وقد يحرم، إن وصّله للضرورة، والتّخمة قصدا، كما أنّ أول مراتبه واجب. (ولم يبثّ) - بفتح الياء التحتية؛ وضمّ الباء الموحدة وتشديد المثلّثة- أي: لم يذكر ولم يظهر (شكوى) ؛ أي: شكايته، ولا بطريق حكايته، في جميع حالاته (إلى أحد) من أصحابه وزوجاته، لقوله تعالى في ضمن آياته؛ حكاية عن يعقوب، في شدة ما ابتلاه قال نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [86/ يوسف] . فالشكوى إلى الخلق مذمومة، والّذي يليق بمقام العارفين الصبر وكتم ما بهم؛ لا سيما والنّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يسرّ بكلّ ما يأتيه من الله، ولا يعدّه مؤلما؛ بل يتلذّذ به، فكيف يتصور شكواه؟!. وإلى هذا أشار بقوله: (وكانت الفاقة) : وهي الحاجة الملازمة، المقتضية للصبر (أحبّ إليه من الغنى) المقتضي للشّكر. وهذا صريح في تفضيل الصبر على الشكر؛ كما ذهب إليه أجلّاء الصوفية، وأكثر علماء الفقه وقد ورد: «لو تعلمون ما لكم عند الله؛ لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة» على ما رواه الترمذي؛ عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه. كذا قاله القاري رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وإن كان ليظلّ جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع ... وقد اختلف هل الغنيّ الشّاكر خير أم الفقير الصابر؟! فذهب إلى كلّ منهما قوم من العلماء، ولكلّ منهم أدلّة مبسوطة في محلّها. وللعلامة الحافظ محمد بن أبي بكر بن قيّم الجوزية الحنبلي رحمه الله تعالى كتاب «عدة الصابرين» ذكر فيه هذه المسألة بأدلّتها من الجانبين. فليراجع. وقال الإمام حجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: قد انكشف أنّ الفقر هو الأفضل لكافّة الخلق؛ إلا في موضعين: 1- : غنى يستوي فيه الوجود والعدم، ويستفاد به دعاء المساكين وقضاء حوائجهم، كغنى بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم. و2- فقر يكون مع الضرورة حتى يكاد يكون كفرا؛ فالأول خير محض، وهذا لا خير فيه بوجه من الوجوه. والممدوح غنى النّفس؛ لا غنى المال من حيث هو، والفضل كلّه في الكفاف، والاقتصار على مقدار الحاجة، ولذا طلبه صلّى الله عليه وسلم له ولآله. انتهى. نقله الخفاجيّ رحمه الله تعالى. (وإن) مخفّفة من الثقيلة، أي: وإنّه (كان ليظلّ) - بفتح الظاء المعجمة وتشديد اللام- أي: يكون في طول النّهار (جائعا) - بهمزة مكسورة- (يلتوي) - بتقديم اللّام على التاء الفوقية، وواو مخففة مكسورة- وفي نسخة من «الشّفاء» : ويتلوّى- بياء مثنّاة مفتوحة وفوقية مفتوحة، ولام كذلك، وواو مشددة مفتوحة، يليها ألف- أي: حال كونه يتقلب ويضطرب (طول ليلته من الجوع) ؛ أي: من أجل حرارة لذعته، ولذا ورد «اللهم؛ إنّي أعوذ بك من الجوع، فإنّه بئس الضّجيع» كما رواه الحاكم في «مستدركه» عن ابن مسعود مرفوعا، وهذا كله لكمال زهده في الدّنيا، وصبره على مشاقّها، وإقبال قلبه على الآخرى؛ لرضى المولى وليرشد أمّته لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء.. سأل ربّه جميع كنوز الأرض وثمارها، ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي رحمة له ممّا أرى به وأمسح بيدي على بطنه ممّا به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء؛ ... (فلا يمنعه) أي: جوعه (صيام يومه) ؛ أي: الذي فيه، ولو كان نفلا، أو صيام يوم عادته في مستقبله. وهذا بيان بعض شدّة حاله. (ولو شاء) صلى الله عليه وسلم الغنى، وما يترتب عليه من التنعّم وحصول المنى. و «شاء» كثيرا ما يحذف مفعولها بعد «لو» لدلالة جوابها عليه. (سأل ربّه جميع كنوز الأرض) ؛ لا سيما وقد عرضها عليه مولاه (وثمارها) يجوز نصبه عطفا على «جميع» ، وجرّه عطفا على «كنوز» ، ومثله ما بعده، والثّمار جمع ثمرة، وهي ما يحصل من الأشجار ونحوها؛ وقد يراد به كلّ ما يستفاد من غيره؛ كما يقال ثمرة العلم العمل. (ورغد) - بفتحتين؛ وقد يسكن ثانيه-، وأصل معنى الرغد: الواسع، يقال: أرغد فلان إذا أصاب رغدا؛ أي: سعة وخصبا وغيره. (عيشها) أي: سعة معيشتها وطيب منفعتها. (ولقد كنت أبكي رحمة له ممّا أرى به) ، أي: ممّا أشاهده به، أو ممّا أعلمه به، (وأمسح بيدي على بطنه) كأنه بمسحه يستريح بذلك، كما كان يضع الحجر عليه ليبرّده، ويشدّ صلبه؛ وهذا للشفقة (ممّا به من الجوع) ، أي: من ألمه. ثم بينت أنّ ذلك شفقة؛ بقولها: (وأقول: نفسي لك الفداء) . الفداء- بالكسر والفتح؛ والقصر والمد-: هو ما يفدى به الأسير ونحوه، فيجعل عوضا عنه، ويقال: أفديه بنفسي، وبأمي، وبأبي، وبمالي، وقد يقال: بنفسي؛ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 لو تبلّغت من الدّنيا بما يقوتك؟ فيقول: «يا عائشة؛ ما لي وللدّنيا؟! ... غير ذكر للفداء، وتسمّى الباء باء التفدية- بالفاء-. وهذا جائز بل مستحبّ لصدوره منه صلّى الله عليه وسلم، فيقال لمن شرف؛ كالحكام، والعلماء، والصلحاء، وأعزة الإخوان، قصدا لتوقيره واستعطافه، ولو كان محظورا- كما قيل- لما قاله صلّى الله عليه وسلم، ولكان نهى عنه من قاله له، وقد قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فديناك بابائنا وأمهاتنا. وقال صلّى الله عليه وسلم لسعد: «إرم فداك أبي وأمّي» . ومنعه قوم، لحديث مالك بن فضالة؛ أنّ الزبير رضي الله تعالى عنه دخل عليه صلّى الله عليه وسلم وهو شاك؛ فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟، فقال له صلّى الله عليه وسلم «ما زلت على أعرابيّتك بعد» ؟! قيل: ولا حجّة فيه لما ادّعوه، لأن الحديث الواحد لا يقاوم الأحاديث الصحيحة الكثيرة الواردة بخلافه، ولاحتمال أنّه إنّما نهاه عنه لوروده في غير محلّه، لأنّه لا ينبغي أن يقال ذلك للمريض، بل يتوجّع له، ويقال «لا بأس عليك» ، و «عافاك الله وشفاك» ونحوه، ولكل مقام مقال، لا لأن القائل له كان أبواه مشركين، ولا لأنه من خصوصياته، لأنّ من قائليه من ليس كذلك، والأصل عدم الخصوصية. (لو تبلّغت) التبلغ من البلاغ؛ وهو مقدار الكفاية، يقال: تزود من دنياك بالبلاغ؛ مأخوذ من الزّاد الّذي يبلغ به المسافر منزله، وضمّنه هنا معنى «اكتفيت» (من الدّنيا بما يقوتك) - بضم القاف- أي: لو اكتفيت منها بالكفاف من القوت، من غير ضرورة ومخمصة، و «لو» للتمني. (فيقول) صلى الله عليه وسلم (: «يا عائشة ما لي وللدّنيا؟!) قيل: «ما» نافية، أي: ليس لي ألفة ومحبة مع الدنيا، حتى أرغب فيها، أو استفهامية أي: أيّ ألفة ومحبّة ورغبة لي في الدنيا؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 إخواني من أولي العزم من الرّسل صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربّهم، فأكرم مابهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصّربي ... وهذا من إيثاره صلّى الله عليه وسلم الزّهد، وإظهاره لغنى القلب، ومحبّة تركه لها. ثم بيّن أنّه مقام عظيم سبق به الرسل عليهم الصّلاة والسّلام، فجرى على طريقهم، فقال: (إخواني من أولي العزم من الرّسل) ؛ وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم الصّلاة والسّلام، على خلاف فيهم. وقد نظم هؤلاء الخمسة بعضهم فقال: محمّد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم (صبروا على ما هو أشدّ من هذا) ؛ أي: ممّا أنا صابر عليه، لما روي أنّ بعضهم مات من الجوع، وبعضهم من شدّة أذى القمل، وبعضهم من كثرة الجراحات، وشدة الأمراض والعاهات، وقد خصّني الله تعالى فيما حثّني وحضّني على الاقتداء بهم، بقوله سبحانه وتعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [35/ الأحقاف] ؛ كذا قال القاري في «شرح الشفا» . (فمضوا) أي: استمرّوا (على حالهم) الّتي كانوا عليها، راضين بقضاء الله تعالى لهم، صابرين على بلائه، شاكرين على نعمائه؛ إلى أن ماتوا، ولم يطلبوا من ربّهم السّعة، ولا دفع المضرّة؛ نظرا إلى كمال حسن مالهم. (فقدموا على ربّهم) لاقوه (فأكرم مابهم) أي: أكرمهم الله تعالى في مرجعهم إليه، يقال: آب يؤوب إذا رجع، فهو اسم مكان أو مصدر ميمي (وأجزل ثوابهم) ؛ أي: كثّر لهم العطاء والجزاء في دار المقام، (فأجدني أستحيي) - بيائين، وفي نسخة من «الشفاء» بياء واحدة؛ أي: من الله تعالى عند لقائه، (إن ترفّهت) أي: إن تنعّمت (في معيشتي) ، وقد كان الله تعالى خيّره صلّى الله عليه وسلّم قبيل موته؛ بين الخلد في الدنيا ولقائه؟ فاختار لقاءه (أن يقصّر بي) - بتشديد الصاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 غدا دونهم، وما من شيء هو أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني وأخلّائي» . قالت: فما أقام بعد شهرا حتى توفّي صلوات الله وسلامه عليه. ثمّ قال رحمه الله تعالى بعد ثلاث ورقات: ... المفتوحة؛ مبنيا للمجهول- (غدا) بالمعجمة؛ اليوم الذي بعد يومك، والمراد به الآخرة، جعل الدنيا بمنزلة اليوم الحاضر، والآخرة لكونها بعدها بمنزلة غد. (دونهم) أي: دون مرتبتهم، وتحت درجتهم، فيكون مقامي دون مقامهم، وهمّتي أن أكون فوق جملتهم. (وما من شيء هو أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني) أي: في الجملة، (وأخلّائي» ) أي: أحبائي في الملّة؛ والمراد بالإخوان والأخلّاء الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، واللّحوق بهم كونه معهم. (قالت) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها: (فما أقام بعد) - بالبناء على الضمّ- أي: بعد مقالته هذه (شهرا حتّى توفّي صلوات الله وسلامه عليه) غاية لاقامته أي: إلى أن مات وانتقل إلى رحمة ربه واستوفى أيام عمره، وهذا يدل على اختياره الفقر في جميع أمره إلى آخر عمره. قال الدلجي رحمه الله تعالى: لم أدر من روى هذا الحديث!! لكن روى ابن أبي حاتم؛ في تفسيره عنها قالت: ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم صائما ثم طواه، ثم ظلّ صائما ثمّ طواه، ثم ظل صائما!! قال: «يا عائشة؛ إنّ الدّنيا لا تنبغي لمحمّد ولا لآل محمّد، يا عائشة؛ إنّ الله تعالى لم يرض من أولى العزم من الرّسل إلّا بالصّبر على مكروهها، والصّبر عن محبوبها، ولم يرض منّي إلّا أن يكلّفني ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [35/ الأحقاف] ، وإنّي والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ولا قوّة إلّا بالله» . انتهى. (ثمّ قال) ؛ أي: القاضي عياض (رحمه الله تعالى) في «الشفاء» (بعد) نحو (ثلاث ورقات) من الكلام السابق، وذلك قبل فصلين من «الباب الثالث» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 كان داود عليه الصّلاة والسّلام يلبس الصّوف، ويفترش الشّعر، ويأكل خبز الشّعير بالملح والرّماد، ويمزج شرابه بالدّموع. وقيل لعيسى عليه الصّلاة والسّلام: لو اتّخذت حمارا؟ فقال: أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار. وكان يلبس الشّعر ... (كان داود) على نبينا و (عليه) الصّلاة و (السّلام يلبس الصّوف، ويفترش الشّعر) أي: ما نسج منه، لأنه خشن يمنعه لذة النّوم والاستغراق فيه، المانع له عن ورده، وهذا شعار الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والصّلحاء، ولذا اختاره السّادة الصّوفية. (ويأكل خبز الشّعير بالملح) لأنّه إدام، (والرّماد) قال ملا علي قاري: لعله أراد به ما اختلط بالخبز واستهلك فيه! وإلّا فأكل الرّماد حرام لما فيه من الضرر. ( [ويمزج شرابه بالدّموع] ) لكثرة بكائه وعدم خلوّه منه. وهذا رواه ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعا، وعن مجاهد وغيره موقوفا. (وقيل لعيسى) على نبيّنا و (عليه) الصّلاة و (السّلام) - كما أخرجه الإمام أحمد في «الزهد» ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ثابت- (لو اتّخذت حمارا) لتركبه لتستريح من المشي؟! (فقال: أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار!!) أي: بأن يتعلّق قلبي به وبكلفته وخدمته. ويشغلني- بفتح الغين- من شغله يشغله؛ كسأله يسأله، وأشغله لغة رديئة. (وكان) كما روى أحمد في «الزهد» ؛ عن عبيد بن عمير، ومجاهد والشعبي وابن عساكر في «تاريخه» أنّه كان (يلبس الشّعر) أي: ما نسج منه؛ زيادة في تقشفه. وإنما كره مالك لبس الصوف لمن يتخذه شعارا له؛ إظهارا لزهده، فإن إخفاءه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ويأكل الشّجر؛ ولم يكن له بيت، أينما أدركه النّوم.. نام. وكان أحبّ الأسامي إليه أن يقال له: (يا مسكين) . وقيل: إنّ موسى لمّا ورد ماء مدين كانت ترى خضرة البقل في بطنه من الهزال. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ... أفضل، لما فيه من الرّياء (ويأكل الشّجر) أي: ورقه، (ولم يكن له بيت) يأوي إليه؛ (أينما أدركه النّوم) أي: وقت (نام) . أي: ينام في أيّ مكان يجنّ عليه اللّيل فيه. (وكان أحبّ الأسامي) جمع الأسماء (إليه) أي: الألفاظ التي ينادى بها (أن يقال له «يا مسكين» ) رغبة في التواضع لعظمة الله عز وجل. وقد رواه أحمد في «الزهد» عن سعيد بن عبد العزيز بلفظ: بلغني أنه ما من كلمة كانت تقال لعيسى بن مريم أحبّ إليه من أن يقال «هذا المسكين» . (وقيل) - كما رواه الإمام أحمد أيضا في «الزهد» ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، موقوفا-: (إنّ موسى) على نبينا وعليه الصّلاة والسّلام (لمّا ورد ماء مدين) ، سمي باسم مدين بن إبراهيم الخليل، وكان ورود موسى صلّى الله عليه وسلم لماء مدين لمّا فرّ من قبط مصر؛ فلقي ابنتي شعيب على ذلك الماء، وبينه وبين مصر ثماني مراحل أو أكثر؛ في قصته المذكورة في القرآن، وكان موسى صلّى الله عليه وسلم حافيا؛ من غير زاد وبه جوع شديد، حتّى كانت ترى أمعاؤه، و (كانت ترى خضرة البقل) الذي كان يأكله موسى صلّى الله عليه وسلم إذ لم يجد غيره. والبقل: ما ليس بشجر؛ من النّبات الّذي لا تبقى أرومته وأصوله بعد أخذه، وهو معروف (في بطنه من الهزال) - بضم الهاء وزاي معجمة- ضدّ السّمن. (وقال صلّى الله عليه وسلم) كما رواه الحاكم وصححه؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 «لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر والقمل، وكان ذلك أحبّ إليهم من العطاء إليكم» . تعالى عنه مرفوعا: ( «لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى) - بالبناء للمفعول ونائبه- (أحدهم بالفقر) أي: بشدة الحاجة في مطعمه، (والقمل) ؛ أي بكثرته في ثوبه وبدنه. (وكان ذلك) الابتلاء (أحبّ إليهم من العطاء إليكم» ) ؛ رضا بقضاء المولى، وعلما بأنّ ما أعده الله لهم خير وأبقى، ولفظ الحديث ليس كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وهو ما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: قلت: يا رسول الله؛ من أشدّ النّاس بلاء؟ قال: «الأنبياء» . قلت: ثمّ من؟ قال: «العلماء» . قلت: ثمّ من؟ قال: «الصّالحون؛ كان أحدهم يبتلى بالقمل حتّى يقتله، ويبتلى بالفقر حتّى لا يجد إلّا العباءة يلبسها، ولأحدهم أشدّ فرحا بالبلاء من أحدنا بالعطاء» . وهو صحيح على شرط مسلم. قيل: وهو يدلّ على أنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام يتسلّط عليهم القمل، ويعرض لهم، لأنه من الأعراض البشرية، إلّا أنّ ابن الملقن رحمه الله تعالى نقل عن ابن سبع أنّ القمل لم يكن يؤذيه صلّى الله عليه وسلم؛ تكريما له. ونقل ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى في «التمهيد» أنّ نعيم بن حماد ذكر عن ابن المبارك [عن مبارك] بن فضالة عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يقتل القمل في الصّلاة والظّاهر أن جسده الشّريف لا يتولّد منه القمل، لاعتدال مزاجه الشّريف، وإنّما كان يوجد في ثيابه؛ من الفقراء المجالسين له، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، ولو قيل: «إنّ ضمير «يبتلى» في حديث الحاكم للصّالحين» ! كان أقرب. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وقال مجاهد: كان طعام يحيى: العشب، وكان يبكي من خشية الله تعالى عزّ وجلّ، حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه. وحكى الطّبريّ عن وهب: ... وهذا ينافيه ما نقله عن «التمهيد» ؛ وقد تقدّم. وفيما قاله دليل على صبر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، وعلو همّتهم في النّظر للآخرة. انتهى؛ من شرح الخفاجي على «الشفاء» . (وقال مجاهد:) رواه الإمام أحمد في «الزهد» ، وابن أبي حاتم عنه: (كان طعام) النّبيّ (يحيى) على نبينا وعليه الصّلاة والسّلام (العشب) - بضمّ العين المهملة- هو النبت الذي يخرج بغير زرع. (وكان) مع ذلك (يبكي من خشية الله تعالى عزّ وجلّ) . والخشية: خوف مع تعظيم؛ مع أنّه ما همّ بمعصية (حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه) ؛ أي: صار محلّ جريانه منخفضا متميزا عن غيره، لتأثيره بدوام جريانه فيه وذلك لشدة معرفته بربه، لقوله سبحانه وتعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] . (وحكى) الإمام الحافظ المجتهد المطلق محمد بن جرير (الطّبري) رحمه الله تعالى- وتقدمت ترجمته- (عن) أبي عبد الله (وهب) بن منبّه التابعي الأنباوي اليماني؛ أخو همام بن منبّه. وهو تابعي جليل، من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية. سمع جابر بن عبد الله وابن عباس وابن عمرو بن العاصي وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة وأنسا والنّعمان بن بشير. روى عنه عمرو بن دينار وعوف الأعرابي والمغيرة بن حكيم وآخرون. واتفقوا على توثيقه، توفي سنة: - 114- أربع عشرة ومائة. وقال ابن سعد: سنة عشر ومائة رحمه الله تعالى؛ قاله النّووي رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام كان يستظلّ بعريش، ويأكل في نقرة من حجر، ويكرع فيها إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدّابّة؛ تواضعا لله تعالى بما أكرمه من كلامه) انتهى. (أنّ موسى) على نبينا و (عليه) الصّلاة و (السّلام كان يستظلّ بعريش) هو: كلّ ما يستظلّ به؛ خيمة كان أو خشبا أو نباتا مثلا. (ويأكل في نقرة) - بضمّ النّون وسكون القاف- أي: حفرة (من حجر) بدلا من ظرف خشب أو خزف، ولا يأكل في آنية، ويضع طعامه في الأرض. (ويكرع) - بفتح الراء- (فيها) أي: النقرة؛ أي: يأخذ الماء بفيه بأن يكب عليها ويشرب منها بفيه من غير كف ولا إناء؛ (إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدّابّة) أي: تشرب بفمها بلا آنية؛ (تواضعا لله تعالى بما أكرمه من كلامه) إذ كلّمه بلا واسطة، كما قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [النساء] وأخبارهم في هذا المعنى مسطورة، وصفاتهم في الكمال وحسن الأخلاق، وحسن الصورة؛ والشمائل معروفة مشهورة، (انتهى) . أي: كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى في «الشفاء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 [الفصل الثّاني في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه] الفصل الثّاني في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه عن كعب بن عجرة (الفصل الثاني) من الباب الرّابع (في) بيان ما ورد في (صفة أكله صلّى الله عليه وسلم) من الأخبار. والأكل- بفتح الهمزة-: إدخال الطعام الجامد من الفم إلى البطن؛ سواء كان بقصد التغذّي، أو غيره؛ كالتفكّه، وقد تقدّم الكلام على ذلك. (و) في بيان ما ورد في (إدامه) صلّى الله عليه وسلم. والإدام- بكسر الهمزة-: ما يساغ به الخبز، ويصلح به الطعام. فيشمل الجامد؛ كاللحم. وفي «النهاية» : الإدام- بالكسر-؛ والأدام- بالضم-: ما يؤكل مع الخبز أيّ شيء كان مائعا أو غيره. انتهى. وكون اللحم إداما!! إنما هو بحسب اللغة، أما بحسب العرف؛ فلا يسمى «إداما» ، ولهذا لو حلف (لا يأكل إداما) ؛ لم يحنث بأكل اللحم. أخرج الطبراني في «الأوسط» ؛ (عن) أبي محمد- وقيل: أبي عبد الله، وقيل: أبي إسحاق- (كعب بن عجرة) - بضم العين المهملة، وإسكان الجيم، ثم راء مهملة مفتوحة- ابن أميّة بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد- بالتخفيف- البلوي المدني؛ الصحابي الجليل المشهور. حليف الأنصار- وقال الواقدي: ليس حليفا لهم، وإنما هو من أنفسهم. وتعقّبه ابن سعد كاتبه؛ بأنّ المشهور أنّه بلوي حالف الأنصاري. ولم نجده في نسب الأنصار-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل بأصابعه الثّلاث؛ بالإبهام، والّتي تليها، والوسطى ... تأخّر إسلامه، وكان له صنم في بيته، فجاءه صديقه عبادة بن الصامت يوما؛ فلم يجده، فدخل البيت فكسر الصنم بالقدوم، فلما جاء كعب ورآه؛ خرج مغضبا يريد الانتقام من عبادة، ثم فكّر في نفسه؛ فقال: لو كان هذا الصنم ينفع لنفع نفسه. فأسلم. وشهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد، وفيه نزل قوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [196/ البقرة] . روي له عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فيما قيل: سبعة وأربعون حديثا، في «الكتب الستة» وغيرها، منها؛ في «الصحيحين» أربعة؛ اتّفقا منها على حديثين، وانفرد مسلم باخرين. روى عنه ابن عمر، وابن عبّاس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، وغيرهم. سكن الكوفة مدّة، ومات بها. وقيل: مات بالمدينة بعد الخمسين من الهجرة، وله سبع وسبعون سنة. وقيل: خمس وسبعون سنة (رضي الله تعالى عنه. قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثّلاث، بالإبهام والّتي تليها) السّبابة (والوسطى) . وهذا بيان للأصابع التي كان يأكل بها، فتفسّر به الروايات المطلقة، التي منها ما رواه الترمذيّ في «الشمائل» من حديث كعب بن مالك: كان عليه الصلاة والسلام يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهنّ. وأخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود عنه؛ قال: كان صلّى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويلعق يده قبل أن يمسحها. ولذا تورّع بعض السّلف عن الأكل بالملاعق؛ لأن الوارد إنّما هو الأكل بالأصابع. وفي «الكشاف» : أحضر الرّشيد طعاما فدعا بالملاعق، وعنده أبو يوسف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ثمّ رأيته يلعق أصابعه الثّلاث قبل أن يمسحها؛ الوسطى، ثمّ الّتي تليها، ثمّ الإبهام. فقال: جاء في تفسير جدّك ابن عباس في قوله تعالى. وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [70/ الإسراء] : جعلنا لهم أصابع يأكلون بها. فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه. وكذلك وقع من بعض الصالحين القريبين من عصرنا؛ فإنّه لمّا عرضت عليه الملاعق حين دخوله مصر؛ وكان أهل مصر إذ ذاك قد دخلت عندهم الحضارة الغربية ردّها؛ ولم يأكل بها، وأنشد قول ابن مالك في «الألفيّة» : فما لنا إلّا اتّباع أحمدا وبعضهم أنشد قوله: وفي اختيار لا يجيء المنفصل ... إذا تأتّى أن يجيء المتّصل وهو ظريف جدا. فيستحب الأكل بالثّلاث فقط؛ إن كفت، وإلّا زاد بقدر الحاجة، لقول عامر بن ربيعة: كان صلّى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويستعين بالرابعة. أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» . قال ابن العربي: إن شاء أحد أن يأكل بخمس فليأكل، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يتعرّق العظم، وينهش اللحم، ولا يمكن عادة إلّا بالخمس. قال الحافظ العراقيّ: وفيه نظر، لأنّه يمكن بالثلاث، سلّمنا، لكنه ممسك بكلّها، لا آكل بها، فسلمنا، لكنّ المحلّ محلّ ضرورة لا يدل على عموم الأحوال، فهو كمن لا يمين له؛ يأكل بشماله. (ثمّ رأيته يلعق أصابعه الثّلاث) المذكورة (قبل أن يمسحها؛) محافظة على بركة الطّعام، فيستحبّ ذلك، كما يستحبّ الاقتصار على الأكل بالثلاث. ثم بيّن كيفية لعقه؛ فقال: (الوسطى) أي: يلعق أصبعه الوسطى، (ثمّ) يلعق الأصبع (الّتي تليها) وهي: السّبابة، (ثمّ) يلعق (الإبهام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ......... قال الحافظ زين الدّين العراقيّ في «شرح الترمذي» : كأنّ السرّ فيه أنّ الوسطى أكثر تلويثا؛ لأنّها أطول، فيبقى فيها الطّعام أكثر من غيرها، ولأنّها لطولها أوّل ما ينزل فيها الطّعام، وهي أقرب إلى الفم حين يرتفع، فزعم أنّ نسبة الأصابع إلى الفم على السواء ساقط. ووقع في مرسل ابن شهاب الزهريّ؛ عن سعيد بن منصور الخراساني: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس. فيجمع بينه وبين ما تقدّم من أكله بثلاث، باختلاف الحال، فأكثر الأحوال بالثلاث؛ وبعضها بالخمس. وحمل على ما إذا كان الطّعام مائعا. وقد جاءت علّة اللّعق مبيّنة في بعض روايات مسلم: بأنّه لا يدري في أيّ طعامه البركة، هل في الباقي في الإناء؛ أو على الأصابع؟ قال ابن دقيق العيد: وقد يعلّل بأنّ مسحها قبل لعقها فيه زيادة تلويث لما يمسح به، مع الاستغناء عنه بالرّيق!! لكن إذا صحّ الحديث بالتّعليل لم يتعدّ عنه. قال الحافظ ابن حجر: العلّة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشيخ، فقد يكون للحكم علّتان؛ أو أكثر، والنّصّ على واحدة لا ينفي الزيادة. قال: وأبدى القاضي عياض علّة أخرى: وهي أنّه لا يتهاون بقليل الطعام. انتهى. وفي الحديث ردّ على من كره لعق الأصابع استقذارا؛ ممّن ينسب إلى الرّياسة والإمرة في الدنيا. نعم يحصل ذلك الاستقذار لو فعل اللّعق في أثناء الأكل، لأنّه يعيد أصابعه في الطّعام وعليها أثر ريقه، والمصطفى إنّما كان يلعق بعد الفراغ من الأكل، وبذلك أمر. وقال الخطّابي: عاب قوم- أفسد عقولهم الترفّه- لعق الأصابع، وزعموا أنّه مستقبح، كأنّهم لم يعلموا أنّ الطعام الذي علق بالأصابع والصّحفة جزء من أجزاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يأكل الطّعام الحارّ حتّى تذهب فورة دخانه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الطّعام الحارّ، ويقول: «إنّه غير ذي بركة، فأبردوه؛ فإنّ الله لم يطعمنا نارا» . ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرا!! وليس في ذلك أكثر من مصّه أصابعه ببطن شفتيه، ولا يشكّ عاقل أنّه لا بأس بذلك، فكيف يزعمون قبحه؟! فقد يتمضمض الإنسان فيدخل أصابعه في فيه؛ فيدلك أسنانه وباطن فمه، ثم لم يقل أحد: إنّ ذلك قذارة وسوء أدب!!. انتهى. ولا ريب أنّ من استقذر ما نسب إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيّىء الأدب يخشى عليه أمر عظيم، فنسأل الله تعالى بوجاهة وجهه الكريم: ألايسلك [بنا] غير سبيل سنّته، وأن يديم لنا حلاوة محبّته، بمنّه وكرمه. آمين. (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» بإسناد- قال الهيثمي: فيه راو لم يسمّ، وبقيّة إسناده حسن- عن جويرية رضي الله تعالى عنه- وهو أحد وفد عبد القيس رضي الله تعالى عنهم- قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يأكل الطّعام الحارّ حتّى تذهب فورة دخانه) أي: حدّته وغليانه، لأنّ الحارّ لا بركة فيه، كما جاء مصرّحا به في عدّة أخبار. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الطّعام الحارّ، ويقول: «إنّه غير ذي بركة فأبردوه، فإنّ الله لم يطعمنا نارا!» ) . روى الطبرانيّ في «الصغير» ، و «الأوسط» ؛ من حديث بلال بن أبي هريرة عن أبيه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتي بصحفة تفور، فرفع يده منها- وفي لفظ: فأشرع يده فيها، ثمّ رفع يده عنها- فقال: «إنّ الله لم يطعمنا نارا» . وفي إسناده عبد الله بن يزيد البكري؛ ضعّفه أبو حاتم. وللطبرانيّ في «الأوسط» ؛ من حديث أبي هريرة: «أبردوا الطّعام، فإنّ الطّعام الحارّ غير ذي بركة» وكلاهما ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل بأصابعه الثّلاث، ... وعند أبي نعيم في «الحلية» ؛ من حديث أنس مرفوعا: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يكره الكيّ، والطعام الحارّ، ويقول: عليكم بالبارد؛ فإنّه ذو بركة، ألا وإنّ الحارّ لا بركة فيه» ، وكان له مكحلة يكتحل بها عند النّوم ... ثلاثا ثلاثا. وروى الدّيلميّ؛ عن ابن عمر مرفوعا: «أبردوا بالطّعام؛ فإنّ الحارّ لا بركة فيه» . ولأحمد، وأبي نعيم؛ من حديث ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزّبير؛ عن أسماء بنت الصّدّيق؛ أنّها كانت إذا ثرّدت غطّته بشيء حتى يذهب فوره، ثمّ تقول: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «هو أعظم بركة» - يعني: الطّعام البارد أعظم بركة-. وقد علمت أنّ في إسناده ابن لهيعة؛ وفيه ضعف، وكذا في أسانيد الأحاديث التي ذكرناها مقال؛ فلا تصلح للحجّية في أنّه لم يأكل طعاما حارّا؛ لضعف مفرداتها. نعم؛ روى البيهقيّ بسند صحيح؛ عن أبي هريرة قال: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوما بطعام سخن؛ فقال: «ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا قبل اليوم» . وهو عند ابن ماجه من وجه آخر؛ عن أبي هريرة بلفظ: أتي يوما بطعام سخن فأكل منه، فلمّا فرغ قال: «الحمد لله؛ ما دخل ... » . وذكره. ولأحمد بإسناد جيّد، والطبرانيّ، والبيهقيّ في «الشعب» ؛ من حديث خولة بنت قيس، وقدّمت له حريرة، فوضع يده فيها؛ فوجد حرّها فقبضها. هذا لفظ الطّبراني، والبيهقي، وقال أحمد: فأحرقت أصابعه. ورواه ابن منده في «معرفة الصحابة» ؛ وفيه بعد قوله «فقبضها» : وقال: «يا خولة لا نصبر على حرّ ولا برد ... » الحديث. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأكل بأصابعه الثّلاث) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وربّما استعان بالرّابعة، ولم يكن يأكل قطّ بأصبعين، ويخبر أنّ ذلك من فعل الشّيطان. الإبهام والسّبّابة والوسطى. قال العراقيّ: رواه مسلم؛ من حديث كعب بن مالك. انتهى. قلت: وكذلك رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ولفظهم جميعا: كان يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها. ذكره في «شرح الإحياء» ، وقد تقدّم. (وربّما استعان بالرّابعة) قال العراقيّ: رويناه في «الغيلانيّات» ؛ من حديث عامر بن ربيعة، وفيه القاسم بن عبد الله العمري: هالك. وفي «مصنّف ابن أبي شيبة» ؛ من رواية الزّهري مرسلا: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأكل بالخمس» . انتهى. قلت: حديث عامر بن ربيعة رواه أيضا الطبرانيّ في «الكبير» ؛ ولفظه: كان يأكل بثلاث أصابع ويستعين بالرّابعة. وأمّا مرسل الزهري! فمحمول على المائع، وذلك لأنّ الاقتصار على الثلاث محلّه إن كفت، وإلّا! فكما في المائع؛ زاد بحسب الحاجة. انتهى شرح «الإحياء» . وقد سبق قريبا الكلام على ذلك بأوسع ممّا هنا. (ولم يكن) النبي صلّى الله عليه وسلّم (يأكل قطّ بأصبعين، ويخبر أنّ ذلك من فعل الشّيطان) . روى الدارقطنيّ في «الأفراد» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يأكل بأصبعين، وقال: «إنّه أكل الشّياطين» . وأخرج أيضا عنه بسند ضعيف: «لا تأكل بأصبع فإنّه أكل الملوك، ولا تأكل بأصبعين، فإنّه أكل الشّياطين» . ورواه الحكيم الترمذيّ في «نوادر الأصول» بلفظ: «لا تأكلوا بهاتين» - وأشار بالإبهام والمشيرة- كلوا بثلاث فإنّها سنّة، ولا تأكلوا بالخمس فإنّها أكلة الأعراب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وكان صلّى الله عليه وسلّم يلعق الصّحفة بأصابعه، ويقول: «آخر الطّعام أكثر بركة» . وكان يلعق أصابعه من الطّعام ... وروى الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن الحسن الغطريف، وابن النّجار؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: الأكل بأصبع أكل الشيطان، وبالأصبعين أكل الجبابرة، وبالثلاث أكل الأنبياء. وفي «الإحياء» : الأكل بالأصبع من المقت، وبأصبعين من الكبر، وبثلاث من السنّة، وبأربع أو خمس من الشّره. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم يلعق) - بفتح العين المهملة- أي: يلحس (الصّحفة) الّتي فيها الطعام (بأصابعه) إذا فرغ من الأكل؛ لا في أثنائه، لأنّه يقذر الطّعام، (ويقول: «آخر الطّعام أكثر بركة» ) . قال العراقيّ: روى البيهقيّ في «الشعب» ؛ من حديث جابر في حديث قال فيه: ولا يرفع القصعة حتى يلعقها، أو يلعقها؛ فإنّ آخر الطّعام فيه البركة. ولمسلم؛ من حديث أنس: أمرنا أن نسلت الصّحفة؛ قال: إنّ أحدكم لا يدري في أيّ طعامه يبارك له فيه؟. انتهى. قلت: وفي بعض روايات مسلم من حديث جابر: فإنّكم لا تدرون في أيّ طعامكم البركة. وأمّا حديث جابر الذي رواه البيهقيّ! فقد رواه أيضا ابن حبّان بلفظ: ولا ترفع الصحفة حتى تلعقها، فإنّ في آخر الطعام البركة. وروى الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، والبغويّ، والدارميّ، وابن أبي خيثمة، وابن السّكن، وابن شاهين، وابن قانع، والدارقطني؛ من حديث نبيشة الخير الهذلي مرفوعا: «من أكل في قصعة ولحسها استغفرت له» . قال الترمذيّ، والدارقطنيّ: غريب. وأورده بعضهم: «تستغفر القصعة للاحسها» . انتهى (شرح «الإحياء» ) . (وكان يلعق أصابعه من الطّعام) أي: ثلاثا إذا فرغ من الأكل؛ لا في أثنائه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 حتّى تحمّر. وكان لا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعق أصابعه واحدة واحدة، ويقول: «إنّه لا يدري في أيّ الطّعام البركة» . لأنّه يقذر الطعام، وتعاف منه نفس الآكلين (حتّى تحمرّ) . قال العراقيّ: رواه مسلم من حديث كعب بن مالك دون قوله «حتى تحمرّ» ؛ فلم أقف له على أصل. قلت: والمعنى: يبالغ في لعقها، وكأنّه أخذ ذلك من رواية الترمذيّ في «الشمائل» : كان يلعق أصابعه ثلاثا، أي: يلعق كلّ أصبع ثلاث مرات. انتهى شرح «الإحياء» . (وكان) صلى الله عليه وسلم (لا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعق أصابعه واحدة واحدة، ويقول: «إنّه لا يدري في أيّ الطّعام البركة» ) . قال العراقيّ: روى مسلم من حديث كعب بن مالك: أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعقها. وله من حديث جابر: فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنّه لا يدري في أيّ طعامه تكون البركة!!. وللبيهقي في «الشعب» من حديثه: «لا يمسح أحدكم يده بالمنديل حتّى يلعق يده، فإنّ الرّجل لا يدري في أيّ طعامه يبارك له» . انتهى. قلت: روي في هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، وأنس بلفظ حديث ابن عباس: «إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعقها، أو يلعقها» . رواه كذلك أحمد، والشيخان، وأبو داود، وابن ماجه. وحديث جابر مثله؛ بزيادة: «فإنّه لا يدري في أيّ طعامه البركة» . رواه كذلك أحمد، ومسلم، والنسائيّ، وابن ماجه. وأمّا حديث أبي هريرة! فلفظه: إذا أكل أحدكم طعاما فليلعق أصابعه، فإنّه لا يدري في أيّ طعامه تكون البركة. رواه كذلك أحمد، ومسلم، والترمذيّ. ورواه كذلك الطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن زيد بن ثابت. ورواه كذلك الطبرانيّ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل الخبز واللّحم خاصّة.. غسل يديه غسلا جيّدا، ... «الأوسط» ؛ عن أنس. قال ابن حجر في «شرح الشمائل» : الأكمل أن يلعق كلّ أصبع ثلاثا متوالية، لاستقلال كلّ؛ فناسب كمال تنظيفها قبل الانتقال إلى البقية، فيبدأ بالوسطى لكونها أكثر تلوّثا، إذ هي أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنّها لطولها أوّل ما ينزل الطّعام، ثمّ بالسّبابة، ثم بالإبهام، لما روى الطبرانيّ في «الأوسط» : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها؛ الوسطى ثمّ التي تليها، ثم الإبهام. وعند مسلم من حديث جابر، وأنس مرفوعا: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، وليمط ما كان بها من أذى، ولا يدعها للشّيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعق أصابعه، لأنّه لا يدري في أيّ طعامه البركة» . وفي هذه الأخبار الردّ على من كره اللّعق استقذارا، وقد مرّ كلام الخطّابي المشتمل على تقريع المستقذرين للعق الأصابع، والكلام فيمن استقذر ذلك من حيث هو؛ لا مع نسبته للنّبي صلّى الله عليه وسلم، وإلّا! خشي عليه الكفر، إذ من استقذر شيئا من أحواله صلّى الله عليه وسلم مع علمه بنسبته إليه كفر. انتهى شرح «الإحياء» مع حذف منه. (و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أكل الخبز واللّحم خاصّة؛ غسل يديه غسلا جيّدا) . قال العراقيّ: روى أبو يعلى من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف: «من أكل من هذه اللحوم شيئا فليغسل يده من ريح وضره، ولا يؤذي من حذاءه» . انتهى. قلت: ورواه ابن عديّ في «الكامل» ؛ بلفظ: «إذا أكل أحدكم طعاما فليغسل يده من وضر اللّحم» وإسناده ضعيف أيضا، وعليه يحمل ما رواه أحمد، والطحاوي، والطبرانيّ، وابن عساكر من حديث سهل بن الحنظليّة رفعه: «من أكل لحما فليتوضّأ» . أي: فليغسل يده من وضره، أي: زهومته ودسمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 ثمّ يمسح بفضل الماء على وجهه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أكل من هذه اللّحوم شيئا.. فليغسل يده من ريح وضره، ولا يؤذي من حذاءه» . وكان أكثر جلوسه صلّى الله عليه وسلّم ... وروى النّسائيّ، والحاكم، وابن حبّان في «صحيحيهما» «1» - وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دعانا رجل من الأنصار من أهل قباء- يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلم- فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يده- أو يديه-؛ قال: «الحمد لله الّذي يطعم؛ ولا يطعم» ... الحديث. انتهى شرح «الإحياء» . (ثمّ يمسح بفضل الماء على وجهه) . لم يتكلّم على هذه الجملة في شرح «الإحياء» !! (و) أخرج أبو يعلى بإسناد ضعيف؛ (عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب- وقد تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أكل من هذه اللّحوم شيئا فليغسل يده من ريح وضره) - بفتح الواو والضّاد المعجمة-: وسخ الدّسم واللّبن، يعني: يزيل ذلك بالغسل بالماء أو بغيره؛ لكن بعد لعق أصابعه؛ حيازة لبركة الطعام، كما تقدّم. (ولا يؤذي من حذاءه) - بكسر الحاء المهملة، وذال معجمة ممدودة- أي: عنده، من آدمي، أو ملك. فترك غسل اليد من الطّعام الدّسم مكروه، لتأذّي الحافظين به وغيرهم. (و) في «كشف الغمّة» - ونحوه في «الإحياء» -: (كان أكثر جلوسه صلّى الله عليه وسلم   (1) غلّب اسم الصحيحين على صحيح ابن حبّان علما، و «مستدرك» الحاكم إلحاقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 للأكل أن يجمع بين ركبتيه وبين قدميه؛ كما يجلس المصلّي، إلّا أنّ الرّكبة تكون فوق الرّكبة، والقدم فوق القدم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: ... للأكل أن يجمع بين ركبتيه وبين قدميه؛ كما يجلس المصلّي) في حال صلاته، (إلّا أنّ الرّكبة تكون فوق الرّكبة، والقدم فوق القدم) . قال العراقيّ: رواه عبد الرزاق في «المصنف» ؛ من رواية أيوب معضلا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أكل احتفز؛ وقال: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وروى ابن الضّحّاك في «الشمائل» ؛ من حديث أنس- بسند ضعيف-: كان إذا قعد على الطّعام استوفز على ركبته اليسرى، وأقام اليمنى؛ ثمّ قال: «إنّما أنا عبد؛ أجلس كما يجلس العبد، وأفعل كما يفعل العبد» . وروى أبو الشّيخ في «الأخلاق» - بسند جيد-؛ من حديث أبيّ بن كعب: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يجثو على ركبتيه، وكان لا يتّكئ. أورده في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإنّما فعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم تواضعا لله تعالى، فالسنّة أن يجلس جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى. قال ابن القيّم: ويذكر عنه صلّى الله عليه وسلم: أنّه كان يجلس للأكل متورّكا على ركبتيه، ويضع ظهر اليمنى على بطن قدمه اليسرى؛ تواضعا لله عزّ وجلّ، وأدبا بين يديه. قال: وهذه الهيئة أنفع الهيئات للأكل وأفضلها، لأنّ الأعضاء كلّها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله تعالى عليه. انتهى شرح «الإحياء» بتصرّف. (و) في «كشف الغمة» - ونحوه في «الإحياء» -: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يقول) ؛ كما رواه أبو داود، وابن ماجه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متوكّئا على عصا؛ فقمنا له. فقال: «لا تقوموا كما تقوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 «إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وعن أبي جحيفة ... الأعاجم يعظّم بعضهم بعضا! (إنّما أنا عبد) ، حصر إضافيّ؛ أي: لست بملك، فإن أريد به الرّقيق فهو استعارة، شبّه نفسه تواضعا لله تعالى بالرّقيق؛ فقوله: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» ) بيان لوجه الشبه، وإن أريد عبد الله، وكلّ الخلق عبيده؛ الملوك وغيرهم!! فالمراد أنّه متمحّض لهذه العبودية؛ لا يشوبها بشيء من أمور الدنيا، ولا يتخلّق بشيء من أخلاق أهلها؛ في جلوس وأكل وغيرهما، بل كان يجلس على الأرض، ولا يأكل على خوان، ولا يغلق عليه باب، وليس له بوّاب، ويأكل مستوفزا. وأخرج البزّار من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد» . ولأبي يعلى؛ من حديث عائشة: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وإسنادهما ضعيف. (و) أخرج البخاريّ والترمذيّ (عن أبي جحيفة) - بجيم مضمومة ثمّ حاء مهملة مفتوحة؛ مصغّرا- وهب بن عبد الله، ويقال: وهب بن وهب السّوائي- بضمّ السّين المهملة، وتخفيف الواو، وبالمد- منسوب إلى سواة بن عامر بن صعصعة: صحابيّ كوفيّ، توفي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ وهو صبي لم يبلغ. وكان عليّ بن أبي طالب يكرم أبا جحيفة ويسمّيه «وهب الخير» ، و «وهب الله» ، وكان يحبّه ويثق به، وجعله على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلّها، ونزل الكوفة؛ وابتنى بها دارا. روي له عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خمسة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا أنا فلا آكل متّكئا» . روى عنه ابنه عون، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبو إسحاق السّبيعي، وعليّ بن الأقمر، والحكم بن عتيبة- بالمثناة فوقا-. وكانت وفاته سنة: اثنتين وسبعين؛ (رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمّا) - هي لتفصيل ما أجمل، ولتأكيد الحكم غالبا، نحو جاء القوم؛ أمّا زيد فراكب، وأمّا عمرو فماش، وقد تجيء لمجرّد التّأكيد. ذكره الرّضيّ. والثاني هو المراد هنا. (أنا) قال ابن حجر: خصّص نفسه الشريفة بذلك!! لأنّ من خصائصه كراهته له دون أمّته؛ على ما زعمه ابن القاصّ من أئمّتنا، والأصحّ: كراهته لهم أيضا، فوجه ذلك أنّ قضية كماله صلّى الله عليه وسلم عدم الاتّكاء في الأكل؛ إذ مقامه الشريف يأباه من كلّ وجه، فامتاز عليهم بذلك. انتهى. قال في «جمع الوسائل» : والأظهر أن يراد به تعريض غيره من أهل الجاهلية والأعجام؛ بأنّهم يفعلون ذلك إظهارا للعظمة والكبرياء، والافتخار والخيلاء، وأمّا أنا فلا أفعل ذلك، وكذلك من تبعني، قال تعالى قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [108/ يوسف] . وفيه إشارة خفيّة إلى أنّ امتناعه إنّما هو بالوحي الخفيّ؛ لا الجليّ. انتهى كلام ملّا علي قاري رحمه الله تعالى. (فلا آكل) - بالمدّ؛ على أنّه متكلم- (متّكئا» ) - بالهمز- ومعنى المتّكئ: المائل إلى أحد الشّقين؛ معتمدا عليه وحده. وحكمة كراهة الأكل متّكئا: أنّه فعل المتكبّرين، المكثرين من الأكل نهمة وشرها، المشغوفين من الاستكثار من الطعام. والكراهة مع الاضطجاع أشدّ منها مع الاتّكاء. نعم؛ لا بأس بأكل ما يتنقّل به مضطجعا، لما ورد عن عليّ كرم الله وجهه أنّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وروى ابن ماجه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يأكل الرّجل وهو منبطح على وجهه. أكل كعكا على برش، وهو منبطح على بطنه. قال حجّة الإسلام: والعرب قد تفعله. والأكل قاعدا أفضل، ولا يكره قائما بلا حاجة. واعلم أنّ الاتّكاء أربعة أنواع: الأوّل: أن يضع جنبه على الأرض مثلا. الثّاني: أن يتربّع على وطاء ويستوي عليه. الثالث: أن يضع إحدى يديه على الأرض ويعتمدها. الرّابع: أن يسند ظهره على وسادة ونحوها. وكلّها مذمومة حالة الأكل، لكن الثاني لا ينتهي إلى الكراهة، وكذا الرّابع فيما يظهر، بل هما خلاف الأولى، وما صار إليه بعضهم «من أنّ الاستناد من مندوبات الأكل؛ تمسّكا بأنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلم كان يأكل وهو مقع من الجوع، أي: مستند لما وراءه من الضّعف الحاصل له بسبب الجوع» !! عليه منع ظاهر لأنّه لم يفعله إلّا لتلك الضرورة، والكلام في حالة الاختيار. وما رواه ابن أبي شيبة عن مجاهد: أنّه أكل مرة متّكئا!! فلعلّه لبيان الجواز، أو كان قبل النهي. ويؤيد الثاني ما رواه ابن شاهين عن عطاء: أنّ جبريل رأى المصطفى صلّى الله عليه وسلم يأكل متّكئا فنهاه. ومن حكم كراهة الأكل متّكئا: أنّه لا ينحدر الطعام سهلا، ولا يسيغه هيّنا، وربّما تأذّى به. والله أعلم. (وروى) الحافظ أبو عبد الله محمّد بن يزيد (ابن ماجه) - بالهاء وصلا ووقفا- لقب يزيد والد أبي عبد الله- وقد مرّت ترجمته؛ رحمه الله تعالى-. (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرّجل) - وصف أغلبي- (وهو منبطح) ؛ أي: ملقى (على وجهه) ، لأنّه مضرّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وأخرج ابن عديّ: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زجر أن يعتمد الرّجل على يده اليسرى عند الأكل. وأمّا إدام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يتورّع عن مطعم حلال؛ إن وجد تمرا دون خبز.. أكله، ... (وأخرج) الحافظ أبو أحمد عبد الله (بن عديّ) بن عبد الله بن محمّد بن مبارك بن القطان الجرجاني، أحد أئمة الحديث ورجاله. ولد سنة: - 277- سبع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة: - 365- خمس وستين وثلثمائة، وعمره: ثمان وثمانون سنة تقريبا. أخذ عن أكثر من ألف شيخ، وكان يعرف في بلده ب «ابن القطّان» ، واشتهر بين علماء الحديث ب «ابن عديّ» ، وهو من الأئمة الثقات في الحديث. له من التّصانيف: «الكامل في معرفة الضعفاء والمتروكين من الرواة» ، وكتاب «علل الحديث» ، و «معجم في أسماء شيوخه» ، وله «كتاب الانتصار على مختصر المزني» في الفروع الشافعية. رحمه الله تعالى. آمين (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم زجر) أي: منع (أن يعتمد الرّجل على يده اليسرى عند الأكل) ، وسنده ضعيف. (وأمّا إدام رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقد كان صلّى الله عليه وسلم) - كما في «كشف الغمّة» و «الإحياء» - (لا يتورّع عن مطعم حلال) ؛ ففي الترمذيّ؛ من حديث أمّ هانىء قالت: دخل عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «أعندك شيء؟» قلت: لا، إلّا خبز يابس وخلّ، فقال: «هاتي ... » الحديث. ولمسلم؛ من حديث جابر: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم!! فقالوا: ما عندنا إلّا خلّ، فدعا به ... الحديث. (إن وجد تمرا دون خبز أكله) . روى مسلم، والترمذيّ، من حديث أنس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وإن وجد لحما مشويّا.. أكله، وإن وجد خبز برّ.. أكله، أو شعيرا.. أكله، وإن وجد حلوى، أو عسلا.. أكله، ... قال: رأيته مقعيا يأكل تمرا. وروى أبو داود؛ من حديث أنس قال: كان يؤتى بالتمر فيه دود فيفتّشه يخرج السّوس منه. (وإن وجد لحما مشويّا أكله) روى الترمذيّ في «السنن» ؛ وصحّحه، وكذا في «الشمائل» ؛ من حديث أمّ سلمة أنّها أخرجت إليه جنبا مشويا؛ فأكل منه ... الحديث. وسيأتي في المتن. (وإن وجد خبز برّ) : حنطة (أكله، أو) خبزا (شعيرا أكله) . روى الشّيخان؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أيّام تباعا من خبز برّ، حتى مضى لسبيله. لفظ مسلم، وفي رواية له: ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين. وللطبراني في «الكبير» ؛ من حديث ابن عبّاس: كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشّاة «1» ، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشّعير. وللترمذي وصحّحه، وابن ماجه؛ من حديث ابن عباس: كان أكثر خبزهم الشعير. وروى الترمذيّ في «الشمائل» : كان يدعى إلى خبز الشّعير والإهالة السّنخة» . (وإن وجد حلوى) - بالمد والقصر- (أو عسلا أكله) . روى الشيخان والأربعة من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ الحلواء والعسل. والحلواء: كلّ ما فيه حلاوة، فالعسل تخصيص بعد تعميم.   (1) ليحلبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وإن وجد لبنا دون خبز.. أكله واكتفى به، وإن وجد بطّيخا، أو رطبا.. أكله. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل ما حضر، ولا يردّ ما وجد. وقال الخطابيّ: الحلواء يختصّ بما دخلته الصّنعة. وقال ابن سيده: هي ما عولج من الطعام بحلو. وقد تطلق على الفاكهة. وقال الثعالبيّ في «فقه اللغة» : إنّ حلواءه صلّى الله عليه وسلم التي كان يحبّها هي المجيع، وهي تمر يعجن بلبن. وقال الخطابيّ: لم تكن محبّته صلّى الله عليه وسلم للحلواء على معنى كثرة التّشهّي لها، وشدّة نزوع النفس، وإنّما كان ينال منها إذا حضرت نيلا صالحا؛ فيعلم بذلك أنّها تعجبه. (وإن وجد لبنا دون خبز؟ أكله واكتفى به) . روى الشيخان من حديث ابن عباس: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم شرب لبنا، فدعا بماء فمضمض. (وإن وجد بطّيخا، أو رطبا أكله) . روى الحاكم؛ من حديث أنس قال: كان يأكل الرّطب ويلقي النّوى في الطّبق. وروى النّسائي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يأكل الرّطب بالبطّيخ. وإسناده صحيح. ولفظ الترمذيّ: كان يأكل البطّيخ بالرّطب. وهكذا رواه ابن ماجه؛ من حديث سهل بن سعد، والطّبرانيّ؛ من حديث عبد الله بن جعفر. وزاد أبو داود، والبيهقيّ في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ويقول: «يكسر حرّ هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحرّ هذا» . وروى الطبرانيّ في «الأوسط» ، والحاكم، وأبو نعيم في «الطب» ؛ من حديث أنس قال: كان يأخذ الرّطب بيمينه، والبطّيخ بيساره، فيأكل الرّطب بالبطيخ، وكانا أحبّ الفاكهة إليه. (و) في «كشف الغمّة» و «إحياء علوم الدين» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأكل ما حضر) لديه، (ولا يردّ ما وجد) . في كتاب «الشمائل» لأبي الحسن بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وعن زهدم الجرميّ قال: كنّا عند أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه، فأتي بلحم دجاج، فتنحّى رجل من القوم، فقال: ما لك؟ ... الضّحّاك بن المقري؛ من رواية الأوزاعيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أبالي ما رددتّ به عنّي الجوع» !. وهذا معضل؛ قاله العراقي. قلت: وقد رواه ابن المبارك في «الزهد» ؛ عن الأوزاعيّ، كذلك. انتهى شرح «الإحياء» . (و) أخرج الشّيخان، والتّرمذيّ في «الشمائل» ، واللفظ له قال: حدّثنا هنّاد، قال: حدّثنا وكيع عن سفيان عن أيّوب عن أبي قلابة. (عن زهدم) - بفتح الزّاي، وسكون الهاء وفتح الدّال المهملة وآخره ميم؛ بوزن جعفر- (الجرميّ) - بالجيم المفتوحة والرّاء السّاكنة-؛ نسبة لقبيلة جرم كفلس. أبو مسلم البصريّ، ثقة من الثالثة، خرّج له البخاريّ وغيره. (قال:) أي: زهدم الجرميّ: (كنّا عند أبي موسى الأشعريّ) ؛ نسبة إلى «أشعر» قبيلة باليمن، واسمه عبد الله بن قيس- وتقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه) . وهذا يدلّ على مشروعية اجتماع القوم عند صديقهم. (فأتي) - بصيغة المجهول- أي: جيء (بلحم دجاج) ، أي: فأتاه خادمه بطعام فيه لحم دجاج، وهو اسم جنس مثلّث الدّال، واحده دجاجة؛ مثلّثة الدال أيضا، سمّي به لإسراعه من دجّ يدجّ؛ إذا أسرع. (فتنحّى) ؛ أي: تباعد (رجل من القوم) عن الأكل، بمعنى أنّه لم يتقدّم له، وهذا الرّجل من بني تيم الله أحمر، كأنّه من الموالي!! أي: العجم. (فقال) أي أبو موسى (: ما لك) تنحّيت؟! فهو استفهام متضمّن للإنكار. أي: أيّ شيء باعث لك على ما فعلت من التنحي؟! أو أيّ شيء مانع لك من التّقدّم؟!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فقال: إنّي رأيتها تأكل شيئا، فحلفت ألاآكلها. قال: ادن، فإنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدّجاج. وهذا يدلّ على أنّه ينبغي لصاحب الطعام أن يسأل عن سبب امتناع من حضره من الأكل. (فقال) أي الرّجل لأبي موسى (: إنّي رأيتها) ، أي: أبصرت الدّجاجة حال كونها (تأكل شيئا) أي: قذرا. وأبهمه لئلّا يعاف الحاضرون أكله عند التصريح به. زاد في بعض الروايات: فقذرتها، أي: كرهتها نفسي، (فحلفت) - بفتح اللّام- أي: أقسمت (ألاآكلها) ، ولعلّ حلفه لئلّا يكلّفه أحد أكله فيعذره بالحلف. (قال:) أي: أبو موسى للرّجل: (ادن) ؛ أي: اقرب؛ من الدّنوّ وهو القرب. وأمره بالقرب ليأكل من الدّجاج؛ (فإنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل لحم الدّجاج) . بيّن له أبو موسى أنّ ظنّه ليس في محله؛ لما رأى من أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها، فينبغي أن يأكل هذا الرّجل منها؛ اقتداء بالمصطفى صلّى الله عليه وسلم ويكفّر عن يمينه، فإنّه خير له من بقائه على يمينه، لخبر: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» . وهذا يدلّ على أنّه ينبغي لصاحب الطّعام أن يسعى في حنث من حلف على ترك شيء لأمر غير مكروه شرعا، إلّا إذا كان الحلف بالطلاق، فلا ينبغي له أن يسعى في حنثه فيه، وكذا لو حلف بالعتق؛ وهو محتاج لقنّه، لنحو خدمة أو منصب. ويؤخذ منه جواز أكل الدّجاج، وهو إجماع، إلا ما شذّ به بعض المتعمّقين على سبيل الورع، لكن استثنى بعضهم الجلّالة؛ فتحرم أو تكره- على الخلاف المشهور فيها-. وما ورد من أنّه صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أيّاما؛ ثمّ يأكلها بعد ذلك!! إنّما هو في الجلّالة، فكان يقصرها حتّى يذهب اسم الجلّالة عنها. قال ابن القيّم: ولحم الدّجاج حارّ رطب، خفيف على المعدة، سريع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وعن إبراهيم بن عمر بن سفينة، عن أبيه، عن جدّه سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أكلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحم حبارى. الهضم، جيد الخلط، يزيد في الدّماغ والمنيّ، ويصفّي الصّوت، ويحسّن اللّون، ويقوّي العقل. وما قيل من أنّ المداومة عليه تورث النّقرس- بكسر النّون والرّاء بينهما قاف ساكنة، وآخره سين مهملة-؛ وهو: ورم يحدث في مفاصل القدمين!! لم يثبت. ولحم الدّيوك أسخن مزاجا، وأقلّ رطوبة. انتهى «باجوري رحمه الله تعالى» . (و) أخرج أبو داود، والترمذيّ في «الجامع» ، واستغربه وفي «الشمائل» - واللّفظ لها- قال: حدّثنا الفضل بن سهل الأعرج البغدادي؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مهدي؛ (عن إبراهيم بن عمر بن سفينة) «مولى أمّ سلمة» ، صدوق من الثالثة، خرّج له أبو داود. قال الترمذيّ في «الجامع» : هذا حديث غريب لا يعرف إلّا من هذا الوجه، وإبراهيم روى عنه ابن أبي فديك، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي، وأبو الحجّاج النّضر بن طاهر البصريّ. (عن أبيه) ؛ أي: عمر بن سفينة (عن جدّه) ؛ أي: (سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، يكنّى أبا عبد الرحمن، ويقال: كان اسمه «مهران» أو غيره. ولقّب «سفينة» ! لكونه حمل شيئا كثيرا في سفر. مات بعد السبعين، خرّج له مسلم، والأربعة. (قال: أكلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحم حبارى) - بضمّ الحاء المهملة، وتخفيف الموحدة، وفتح الرّاء، وفي آخره ألف تأنيث-: طائر طويل العنق، في منقاره طول، رماديّ اللون، شديد الطيران، ويسمّى عند بعض أهل اليمن «اللوام» ، ولحمه بين لحم الدّجاج والبطّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 و (الحبارى) : طائر طويل العنق، في منقاره طول، رماديّ اللّون، شديد الطّيران. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدّجاج ... قال ابن القيّم: لحم الحبارى حارّ، يابس، بطيء الانهضام، نافع لأصحاب الرياضة والتعب. وهذا الحديث يدلّ على جواز أكل الحبارى، وبه صرّح أصحابنا الشافعيّة. وفي ذلك الحديث وغيره ردّ على من حرّم أكل اللّحم من الفرق الزائغة. ولم يذكر المصنّف- كالتّرمذيّ- في الحبارى غير حديث سفينة هذا!! وفيه عن أنس- رواه ابن عديّ في «الكامل» - قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطير حبارى؛ فقال: «اللهمّ ائتني برجل يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، فإذا عليّ يقرع الباب» . فقال أنس رضي الله تعالى عنه: رسول الله مشغول. ثمّ أتى الثّانية؛ فقال: رسول الله مشغول. ثمّ أتى الثالثة؛ فقال: «يا أنس؛ أدخله فقد عنيته» . انتهى. ذكره المناوي؛ نقلا عن الحافظ العراقيّ رحمهم الله تعالى. (والحبارى) ؛ كسمانى ألفها للتّأنيث؛ يقال له في بعض بلدان اليمن «اللوام» وصفته أنه (طائر طويل العنق؛ في منقاره) بعض (طول) ، وهو (رماديّ اللّون) أي: على لون الرّماد؛ (شديد الطّيران) ، واسمه يقع على الذكر والأنثى؛ والواحد والجمع. وهو من أكثر الطّير حيلة في تحصيل الرّزق، ومع ذلك يموت جوعا بهذا السبب!! وقيل: يوجد في بطنه حجر إذا علق على شخص لم يحتلم ما دام عليه، وقيل: يضرب به المثل في الحمق، ويقال «كلّ شيء يحبّ ولده؛ حتّى الحبارى» . وولدها يقال له «النّهار» ، وفرخ الكروان «اللّيل» . قال الشاعر: ونهارا رأيت منتصف اللّي ... ل وليلا رأيت نصف النّهار (و) في «كشف الغمّة» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدّجاج) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 والطّير الّذي يصاد، وكان لا يشتريه ولا يصيده، ويحبّ أن يصاد له، فيؤتى به فيأكله. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لعائشة رضي الله تعالى عنها: «إذا طبختم قدرا.. فأكثروا فيها من الدّبّاء؛ فإنّها تشدّ قلب الحزين» . رواه الشيخان والترمذيّ، وغيرهم؛ عن أبي موسى الأشعريّ في حديث طويل قد تقدّم. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : كان يأكل لحم (الطّير الّذي يصاد) . قال العراقيّ: روى التّرمذيّ من حديث الحسن؛ قال: كان عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلم طير، فقال: «اللهمّ؛ ائتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي هذا الطّير» . فجاء عليّ فأكل معه. قال: حديث غريب. انتهى «شرح الإحياء» . (وكان لا يشتريه) ، وفي «الإحياء» : لا يتبعه، (ولا يصيده، ويحبّ أن يصاد له فيؤتى به فيأكله) . قال العراقيّ: هذا هو الظّاهر من أحواله، فقد قال: «من اتّبع الصّيد غفل» . رواه أبو داود، والترمذيّ، والنّسائيّ؛ من حديث ابن عباس، وقال الترمذيّ: حسن غريب. وأمّا حديث صفوان بن أميّة عند الطبرانيّ: «قد كانت قبلي لله رسل كلّهم يصطاد» أو: «يطلب الصّيد» !! فهو ضعيف جدا. انتهى شرح «الإحياء» . (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لعائشة رضي الله تعالى عنها) : «يا عائشة؛ (إذا طبختم قدرا) أي: طعاما في قدر- بكسر القاف وسكون الدال المهملة؛ مؤنّثة-: آنية يطبخ فيها (فأكثروا فيها من الدّبّاء؛ فإنّها) أي: الدّبّاء (تشدّ قلب الحزين» ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل الثّريد باللّحم والقرع. وكان يحبّ القرع، ويقول: «إنّها شجرة أخي يونس» . قال العراقيّ: رويناه في «فوائد» أبي بكر الشافعي من حديثها، ولا يصحّ؛ قاله في شرح «الإحياء» . قال الزرقاني على «المواهب» : ولأحمد وغيره: أنّه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إذا طبخت قدرا فأكثري فيها من الدّبّاء، فإنّها تشدّ قلب الحزين» . انتهى. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل الثّريد) - بفتح المثلّثة وكسر الرّاء؛ فعيل، بمعنى مفعول، ويقال أيضا: مثرود- وهو: أن يثرد؛ أي: يفتّ ثمّ يبلّ بمرق اللّحم، وقد يكون معه لحم، أو يفتّ ثمّ يبلّ بأي مرق كان. وهو ظاهر «القاموس» ، و «المصباح» . (باللّحم والقرع) . رواه مسلم من حديث أنس. وروى أبو داود، والحاكم وصحّحه؛ من حديث ابن عبّاس: كان أحبّ الطّعام إليه الثّريد من الخبز، والثّريد في الحيس. (وكان) صلى الله عليه وسلم (يحبّ القرع) - بسكون الراء وفتحها؛ لغتان- وهو: الدّبّاء، (ويقول: «إنّها شجرة أخي يونس» ) على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام. قال العراقيّ: روى النّسائيّ، وابن ماجه؛ من حديث أنس: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يحبّ القرع. وقال النّسائيّ: الدّباء. وهو عند مسلم بلفظ: يعجبه الدّبّاء. وروى ابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة في قصة يونس فلفظته في أصل شجرة وهي الدباء. انتهى. قلت: وروى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث أنس: كان يتتبّع الدّبّاء من حوالي القصعة. وعند أحمد؛ كما عند مسلم: كان يعجبه القرع. وقوله تعالى وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) [الصافات] !! قالوا: هي الدّبّاء. انتهى شرح «الإحياء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وعن جابر بن طارق رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرأيت عنده دبّاء يقطّع، فقلت: ما هذا؟ فقال: «نكثّر به طعامنا» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إنّ خيّاطا ... وسيأتي الكلام على حديث أنس رضي الله تعالى عنه. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن طارق رضي الله تعالى عنه) صحابيّ مقلّ. روى له النّسائيّ، وابن ماجه. وعنه ابنه حكم. قال الترمذيّ: ولا نعرف له إلّا هذا الحديث؛ (قال: دخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي: في بيته، (فرأيت عنده دبّاء يقطّع) - بكسر الطّاء المهملة؛ بصيغة المعلوم، كما هو كذلك في أكثر الأصول من «الشمائل» ، وفي بعض النّسخ [يقطّع] بصيغة المجهول، فيكون بفتح الطّاء المهملة!! وعلى كلّ؛ فهو بضمّ الياء وفتح القاف مع تشديد الطّاء؛ من التّقطيع، وهو جعل الشيء قطعا-. (فقلت: ما هذا؟!) أي: ما فائدة هذا التقطيع؟!! فليس المراد السّؤال عن حقيقته، وإن كان هو الأصل في «ما» !! لأنّه لا يجهل حقيقته، (فقال: «نكثّر) - بنون مضمومة وكاف مفتوحة ومثلّثة مشدّدة مكسورة؛- من التّكثير، ويجوز أن يكون: بسكون الكاف وتخفيف المثلّثة؛ من الإكثار، لكن الأصول على الأوّل- (به) أي: بالتّقطيع (طعامنا» ) . وهذا يدلّ على أنّ الاعتناء بأمر الطّبخ لا ينافي الزّهد والتّوكل؛ بل يلائم الاقتصاد في المعيشة، المؤدّي إلى القناعة. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما- واللّفظ ل «الشمائل» - (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: إنّ خيّاطا) لا يعرف له اسم، لكن في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لطعام صنعه. قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك الطّعام، فقرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبزا من شعير، ومرقا فيه دبّاء، وقديد. قال أنس: فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتتبّع الدّبّاء حوالي القصعة، ... رواية: أنّه مولى للمصطفى صلّى الله عليه وسلم (دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لطعام) ؛ قيل: كان ثريدا (صنعه؛ قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك الطّعام) ؛ تبعا له صلّى الله عليه وسلم لكونه خادما، أو بطلب مخصوص، (فقرّب) - بتشديد الرّاء المفتوحة؛ مبنيّ للفاعل- أي: فقدّم الخيّاط (إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبزا من شعير، ومرقا) - بفتحتين- (فيه دبّاء) ، - بضم الدّال وتشديد الموحدة وبالمد ويقصر-: القرع، الواحدة دبّاءة، (وقديد) أي: لحم مملوح مجفّف في الشمس؛ فعيل بمعنى مفعول. وفي «السنن» ؛ عن رجل: ذبحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم شاة؛ ونحن مسافرون، فقال: «أملح لحمها» . فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة. (قال أنس: فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يتتبّع) ؛ أي يتطلّب (الدّبّاء حوالي) - بفتح اللّام وسكون التّحتيّة؛ مفرد مثنّى الصورة- أي: جوانب. وفي «الصحيح» : من حوالي (القصعة) - بفتح القاف في الأشهر الأكثر- وهي: إناء يشبع منه عشرة، وأمّا الصّحفة: فهي الّتي تشبع الخمسة. ومن اللّطائف: لا تكسر القصعة ولا تفتح الخزانة. ثمّ تتبّعه من جوانبها؛ إمّا بالنّسبة لجانب؛ دون بقية الجوانب، بدليل أنّ أنس بن مالك كان يقرّبه إلى جهته عليه الصلاة والسلام، أو مطلقا. ولا ينافيه النّهي عن ذلك!! لأنه للتّقذر والإيذاء، وهو منتف فيه صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّهم كانوا يودّون ذلك منه، لتبرّكهم باثاره صلّى الله عليه وسلم، حتى أنّ نحو بصاقه، ومخاطه كانوا يدلكون به وجوههم، ويشربون بوله ودمه؛ فلا تناقض بين هذا وحديث: «كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 فلم أزل أحبّ الدّبّاء من يومئذ. قال النّوويّ: (فيه أنّه يستحبّ أن يحبّ المرء الدّبّاء، وكذلك كلّ شيء كان يحبّه صلّى الله عليه وسلّم) . ممّا يليك» . على أنّ محلّ كراهة الأكل من غير ما يلي الآكل؛ إذا اتّحد لون ما في الإناء، لا إن اختلف كما هنا، فإنّ الإناء فيه قديد، ودبّاء، ومرق. قال أنس رضي الله تعالى عنه: (فلم أزل أحبّ الدّبّاء من يومئذ) ، أي: من يوم إذ رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يتتبّعه. وللترمذيّ من حديث طالوت الشامي: دخلت على أنس رضي الله تعالى عنه؛ وهو يأكل قرعا، وهو يقول: يا لك شجرة، ما أحبّك إليّ بحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إيّاك. (قال) العلّامة الإمام وليّ الله تعالى محيي الدّين يحيى (النّوويّ) رحمه الله تعالى: (فيه أنّه يستحبّ أن يحبّ المرء الدّبّاء) ، أي: يسعى في الأسباب المحصّلة إلى محبّتها، (وكذلك كلّ شيء كان يحبّه صلّى الله عليه وسلم) ؛ لأنّ من خالص الإيمان حبّ ما كان يحبّه، واتّباع ما كان يفعله، ألا ترى إلى قول أنس: «فلم أزل أحبّ الدّبّاء ... » إلى آخره!!. ولا شكّ أنّ محبّة المصطفى صلّى الله عليه وسلم مؤدّية إلى محبّة ما كان يحبّه، حتى من مأكول ومشروب وملبوس؛ فيسنّ محبّة الدّبّاء لمحبّته صلّى الله عليه وسلم له، وقد قال: «عليكم بالقرع؛ فإنّه يزيد في الدّماغ» . رواه الطبرانيّ؛ عن واثلة. وللبيهقي: «فإنّه يزيد في العقل ويكبّر الدّماغ» . وروى الإمام أحمد؛ عن أنس: أنّ القرع كان أحبّ الطعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولعلّه لما فيه من الرّطوبة في البدن. وفي الحديث أنّه يسنّ إجابة الدّعوة؛ وإن قلّ الطعام، أو كان المدعوّ شريفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الحلواء والعسل. والدّاعي دونه، وأنّ كسب الخيّاط ليس بخبيث، ومحبّة ما يحبّه المصطفى ومؤاكلة الخادم، وجواز أكل الشّريف طعام من دون؛ من محترف وغيره، ومزيد تواضع المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وملاطفة أصحابه وجبر خواطرهم، وتعاهدهم بالمجيء لمنازلهم. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأصحاب «السنن الأربعة» ، و «الشمائل» (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يحبّ الحلواء) - بالمدّ على الأشهر فتكتب بالألف، وتقصر؛ فتكتب بالياء، وهي مؤنثة- قال الأزهري، وابن سيده: اسم طعام عولج بحلاوة، لكنّ المراد هنا- كما قال النووي-: كلّ حلو؛ وإن لم تدخله صنعة، وقد تطلق على الفاكهة. (والعسل) النّحل، عطف خاصّ على عام لشرفه، كقوله تعالى وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [98/ البقرة] ، فما خلق لنا في معناه أفضل منه، ولا مثله، ولا قريبا منه، إذ هو غذاء من الأغذية، شراب من الأشربة، دواء من الأدوية، حلو من الحلواء، طلاء من الأطلية، مفرح من المفرحات؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . وحبّه صلّى الله عليه وسلم لذلك لم يكن للتّشهي، وشدّة نزوع النّفس له، وتأّنّق الصّنعة في اتّخاذها كفعل أهل التّرفّه المترفين الآن؛ بل معناه أنّه إذا قدّم له نال منه نيلا صالحا، فيعلم منه أنّه أعجبه. وفيه حلّ اتّخاذ الحلاوات والطّيّبات من الرّزق، وأنّه لا ينافي الزهد، وردّ على من كره من الحلواء ما كان مصنوعا. كيف؛ وفي «فقه اللّغة» : أنّ حلواه التي كان يحبّها المجيع- كعظيم-: تمر يعجن بلبن. وفيه ردّ على من زعم: «أنّ حلواه أنّه كان يشرب كلّ يوم قدح عسل بماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وكان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. العسل. وكان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اللّبن. وأنّ الحلواء المصنوعة لا يعرفها» . ولم يصحّ أنّه رأى السّكّر. وخبر: «أنّه حضر ملاك أنصاري وفيه سكر» !!. قال السّهيلي: غير ثابت. وشنّع على من احتجّ به؛ كالطحاوي، لعدم كراهة النّثار. وأوّل من خبص في الإسلام عثمان؛ خلط بين دقيق وعسل وعصره على النّار حتّى نضج، أو كاد، وبعث به إلى المصطفى صلّى الله عليه وسلم فاستطابه. رواه الطبرانيّ، وغيره، وسيأتي. (و) أخرج ابن السّنّي، وأبو نعيم: كلاهما في «الطبّ النبويّ» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان أحبّ الشّراب) ؛ أي: المشروب (إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العسل) ؛ أي: الممزوج بالماء، كما قيّده به في رواية أخرى. وفيه من حفظ الصّحّة ما لا يهتدي لمعرفته إلّا فضلاء الأطبّاء، فإنّ شربه ولعقه على الرّيق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها، ويدفع فضلاتها، ويفتح سددها، ويسخّنها باعتدال، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة. وإنّما يضر بالعرض؛ لصاحب الصّفراء!! لحدّته وحدّة الصّفراء، فربّما هيّجها!! ودفع ضرره لهم بالخل. (و) أخرج أبو نعيم في «الطب» ، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- وهو حديث حسن لغيره؛ كما في العزيزي- قال: (كان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللّبن) ؛ لكثرة منافعه، ولكونه لا يقوم مقام الطّعام غيره، لتركّبه من الجبنيّة والسّمنيّة والمائيّة، فالجبنيّة باردة رطبة؛ مغذّية للبدن. والسّمنيّة معتدلة الحرارة والرطوبة؛ ملائمة للبدن الإنسانيّ الصحيح، كثيرة المنافع. والمائيّة حارّة رطبة؛ مطلقة للطبيعة، مرطّبة للبدن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب اللّبن.. قال: «إنّ له دسما» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب اللّبن خالصا تارة، وتارة مشوبا بالماء البارد. وليس شيء من المائعات كذلك، كما قال عليه الصّلاة والسلام: «ليس شيء يجزىء من الطّعام والشّراب إلّا اللّبن» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. لكن ينبغي ألايفرط في استعماله، لأنّه رديء للمحموم والمصروع، وإدامته تؤذي الدّماغ، وتحدث ظلمة البصر، والغشي، ووجع المفاصل، وسدد الكبد، ونفخ المعدة، ويدفع ضرره إضافة العسل أو السّكر إليه. قال في «العارضة» : العسل واللّبن مشروبان عظيمان، سيما لبن الإبل «1» ، فإنّه أجود الألبان، فإنّها تأكل من كلّ الشجر، وكذا النّحل لا تبقي نورا إلّا أكلت منه، فهما مركّبان من أشجار مختلفة، وأنواع من النّبات متباينة، فكأنّهما شرابان مطبوخان مصعّدان؛ لو اجتمع الأوّلون والآخرون على أن يركّبوا شيئين منهما ما أمكن؛ فسبحان جامعهما!!. واللّبن أفضل من العسل؛ على ما قاله السبكيّ، وقال غيره: العسل أفضل، وجمع بأنّ اللّبن أفضل من جهة التّغذّي والرّي، والعسل أفضل من حيث عموم المنافع؛ كالشفاء للناس والحلاوة. ثمّ قضيّة حديث ابن عباس: «ليس يجزىء من الطّعام والشّراب إلّا اللّبن» : أنّ اللّبن أفضل من اللّحم!! ويعارضه ما ورد: «أفضل طعام الدّنيا والآخرة اللّحم» . وهذه الثلاثة- أعني الحلواء والعسل واللّحم- من أفضل الأغذية، وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء، ولا ينفر منها إلّا من به علّة وآفة. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا شرب اللّبن؛ قال: «إنّ له دسما» . و) في «المواهب» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يشرب اللّبن خالصا تارة، وتارة) أخرى (مشوبا) مخلوطا (بالماء البارد) .   (1) لعلها: البقر والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بلبن.. قال: «بركة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يتمجّع التّمر باللّبن، ويسمّيهما: «الأطيبين» . ولا يرد أنّ اللّبن بارد؛ لأنّ اللّبن عند الحلب فيه حرارة بالنّسبة لما بعد الحلب بمدة، وتلك البلاد الحجازيّة في الغالب حارّة، فكان يكسر حرّ اللّبن النّسبيّ بالماء البارد على عادته في التعديل، وكان إذا شرب منه؛ قال: «اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» ، بخلاف غيره؛ فيقول: «وأبدلنا خيرا منه» . (و) أخرج ابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- قال العزيزيّ: وهو حديث صحيح- (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أتي بلبن؛ قال «بركة» ) ، أي: هو بركة، يعني شربه زيادة في الخير. (و) أخرج الإمام أحمد- بإسناد قويّ- عن بعض الصّحابة قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم [يتمجّع] التّمر باللّبن، ويسمّيهما: «الأطيبين» ) ؛ لأنّهما أطيب ما يؤكل. وفي رواية الإمام أحمد عن أبي خالد: دخلت على رجل وهو يتمجّع لبنا بتمر، فقال: ادن فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمّاهما «الأطيبين» . ورجاله ثقات، وإبهام الصحابيّ لا يضرّ «1» . قال في «شرح الإحياء» : المجيع- كأمير-: تمر يعجن بلبن. وقد جاء ذكره في «فقه اللّغة» للثّعالبيّ، وأنّه صلّى الله عليه وسلم كان يحبّه، وتقدم. قال المجد: تمجّع: أكل التّمر اليابس باللّبن معا، أو أكل التّمر وشرب عليه اللّبن. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسمّي التّمر واللّبن: «الأطيبين» . رواه الحاكم وصحّحه، وردّه الذهبيّ بأن طلحة بن زيد   (1) لأن جميعهم ثقات عدول رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وأكل صلّى الله عليه وسلّم التّمر بالزّبد، وكان يحبّه. وفي «الإحياء» : أنّه جاء عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه بفالوذج، فأكل منه، وقال: «ما هذا يا أبا عبد الله؟» . - روايه عن هشام عن عروة عنها- ضعيف. انتهى «زرقاني» . (و) في «المواهب» : (أكل صلّى الله عليه وسلم التّمر بالزّبد) - بالضم فسكون-: ما يستخرج بالخضّ؛ من لبن البقر والغنم، أمّا المستخرج من لبن الإبل! فلا يسمى زبدا، بل يقال «حباب» ؛ «حبابي» . (وكان يحبّه) ، يعني الجمع بينهما في الأكل، لأنّ الزّبد حارّ رطب، والتّمر يابس، ففيه إصلاح كلّ بالآخر. أخرج أبو داود، وابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما قال بعض الحفّاظ- عن عبد الله، وعطيّة «ابني بسر المازنيّ» ؛ قالا: دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقدّمنا له زبدا وتمرا، وكان يحبّ الزّبد والتمر. وفيه جواز أكل شيئين من فاكهة وغيرها معا، وجواز أكل طعامين معا، والتوسّع في المطاعم. وما روي عن السّلف من خلافه!! محمول على الكراهة في التّوسّع، والترفّه، والإكثار؛ لغير مصلحة دينيّة. قال القرطبيّ: ويؤخذ منه مراعاة صفة الأطعمة، وطبائعها، واستعمالها على الوجه اللّائق على قاعدة الطبّ. انتهى «زرقاني» . (وفي «الإحياء» ) : يروى (أنّه) صلى الله عليه وسلم (جاء) هـ (عثمان بن عفّان) ، ذو النّورين؛ أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وثالث الخلفاء الراشدين. وتقدّمت ترجمته. (رضي الله تعالى عنه؛ بفالوذج) : وهو اسم أعجميّ لنوع من الحلوى، (فأكل منه؛ وقال: «ما هذا يا أبا عبد الله؟» ) . قال ابن عبد البرّ: يكنى أبا عبد الله، وأبا عمرو؛ كنيتان مشهورتان، وأبو عمرو أشهرهما؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قال: بأبي أنت وأمّي، نجعل السّمن والعسل في البرمة، ونضعها على النّار، حتّى نغليه، ثمّ نأخذ مخّ الحنطة إذا طحنت، فنلقيه على السّمن والعسل في البرمة، ثمّ نسوطه حتّى ينضج؛ فيأتي كما ترى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا الطّعام طيّب» . قيل: إنّه ولدت له رقيّة بنت النبيّ صلّى الله عليه وسلم ابنا؛ فسماه عبد الله، واكتنى به ومات. ثمّ ولد له عمرو، فاكتنى به إلى أن مات. قال: وقد قيل: إنّه كان يكنى أبا ليلى. (قال: بأبي أنت وأمّي، نجعل السّمن والعسل في البرمة) - بالضمّ-: قدر من فخّار، والجمع برم، كغرفة وغرف. (ونضعها على النّار، حتّى نغليه، ثمّ نأخذ مخّ الحنطة) ؛ أي: لبابها (إذا طحنت، فنلقيه على السّمن والعسل في البرمة، ثمّ نسوطه) أي: نحرّكه بالسّوط (حتّى ينضج) ؛ أي: يستوي، (فيأتي كما ترى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الطّعام طيّب» ) . قال العراقيّ: المعروف أنّ الّذي صنعه عثمان: الخبيص. رواه البيهقيّ في «الشّعب» من حديث ليث بن أبي سليم؛ قال: أوّل من خبص الخبيص عثمان بن عفان، قدمت عليه عير تحمل الدّقيق والعسل، فخلط بينها، وبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأكل فاستطابه. وقال العراقيّ: هذا منقطع. وروى الطبرانيّ، والبيهقيّ في «الشعب» من حديث عبد الله بن سلام: أقبل عثمان ومعه راحلة، وعليها غرارتان. وفيه: فإذا دقيق وسمن وعسل. وفيه: ثمّ قال لأصحابه: كلوا هذا الّذي تسمّيه فارس «الخبيص» . وأمّا خبر الفالوذج!! فرواه ابن ماجه- بإسناد ضعيف- من حديث ابن عبّاس قال: أوّل ما سمعنا بالفالوذج: أنّ جبريل أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: إنّ أمّتك تفتح عليهم الأرض، ويفاض عليهم من الدنيا، حتّى أنّهم ليأكلون الفالوذج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وذكر هذه القصّة في «المواهب» عن عبد الله بن سلام بوجه آخر، مع تسمية هذا الطّعام: الخبيص. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «وما الفالوذج؟!» . قال: يخلطون السّمن والعسل جميعا. قال ابن الجوزي في «الموضوعات» : هذا حديث باطل لا أصل له. انتهى كلام العراقيّ نقله في «شرح الإحياء» ثمّ قال: قلت: أخرجه ابن الجوزي من طريق ابن أبي الدنيا؛ قال: حدّثني إبراهيم بن سعد الجوهري؛ قال: حدّثنا أبو اليمان عن إسماعيل بن عيّاش؛ عن محمد بن طلحة عن عثمان بن يحيى عن ابن عبّاس ... فذكره. وفي رواية أخرى بزيادة: فشهق النّبيّ صلّى الله عليه وسلم شهقة. قال: وهذا حديث باطل لا أصل له. ومحمد بن طلحة: قد ضعّفه يحيى بن معين، وعثمان بن يحيى الحضرميّ. قال الأزديّ: لا يكتب حديثه عن ابن عباس. وقال النّسائيّ: إسماعيل بن عيّاش ضعيف. قلت: وهذا القدر الّذي ذكره لا يوجب أن يكون الحديث باطلا؛ لا أصل له. كيف؛ وقد أخرجه ابن ماجه؟! وغاية ما يقال: إن إسماعيل بن عيّاش إذا روى عن غير الشّاميّين فلا يحتجّ بحديثه، وفرق بين أن يقال: ضعيف؛ وأن يقال: باطل. والعجب من الحافظ العراقيّ كيف سكت عن التّعقّب عليه؟!. انتهى. (وذكر هذه القصّة) القسطلّانيّ (في «المواهب» ؛ عن عبد الله بن سلام) ، بالتّخفيف- الإسرائيليّ أبي يوسف، حليف بني الخزرج. قيل: كان اسمه الحصين، فسمّاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عبد الله، وهو صحابي جليل مشهور، مبشّر بالجنة، له أحاديث. مات بالمدينة المنوّرة سنة: - 43- ثلاث وأربعين، رضي الله تعالى عنه (بوجه آخر) فيه مخالفة لما ساقه في «الإحياء» ؛ (مع تسمية هذا الطّعام) المتّخذ من العسل والدقيق والسّمن (الخبيص) !! أي: الخليط، فعيل بمعنى مفعول، من الخبص بمعنى الخلط يقال: خبصت الشّيء خبصا- من باب ضرب-: خلطته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللّحم، قال في «المواهب» : وعن عبد الله بن سلام قال: قدمت عير فيها جمل لعثمان رضي الله تعالى عنه، عليه دقيق حوّارى وسمن وعسل، فأتى بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فدعا فيها بالبركة، ثمّ دعا صلّى الله عليه وسلم ببرمة فنصبت على النار، وجعل فيها من العسل والدقيق والسمن، ثمّ عصد حتى نضج؛ أو كاد ينضج، ثمّ أنزل، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كلوا؛ هذا شيء تسمّيه فارس: الخبيص» . قال المحبّ الطبريّ: خرّجه تمّام في «فوائده» ، والطبرانيّ في «معاجيمه» ، ورجاله ثقات. وفي الشّاميّ: رجال «الأوسط» و «الصغير» ثقات، وقد أخرجه الحاكم وصحّحه، وبقيّ بن مخلد. انتهى. ومقتضى هذا الحديث أنّ أوّل من خبص في الإسلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فيخالف ما ذكره في «شرح الإحياء» وغيره: أنّ أوّل من خبص عثمان بن عفان. ويحتمل أنّ نسبته إلى عثمان؛ لكونه كان سببا في فعله بإهدائه إليه. لكن روى الحارث بسند منقطع: صنع عثمان خبيصا بالعسل والسّمن والبرّ، وأتى به في قصعة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذا؟» . قال: هذا شيء تصنعه الأعاجم، تسمّيه الخبيص. فأكل. ويمكن الجمع أيضا بتكرّر ذلك، فيكون عثمان فعله أوّلا بنفسه، ثمّ عرضه على المصطفى فأمر بأن يصنع له منه ففعل. والله أعلم. انتهى «زرقاني» . (و) أخرج أبو الشّيخ ابن حيّان؛ من رواية ابن سمعان «1» قال: سمعت علماءنا «2» يقولون: (كان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللّحم) .   (1) هو محمد بن أبي يحيى وهو سمعان الأسلمي المدني صدوق من الخامسة. مات سنة 147؛ كما في «التقريب» . وليس هو أبا منصور السمعاني محمد بن محمد بن سمعان بكسر السين المذكور في «التبصرة» . «هامش الأصل» . (2) يعني التابعين. «هامش الأصل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ويقول: «إنّه يزيد في السّمع، وهو سيّد الطّعام في الدّنيا والآخرة، وللتّرمذي في «الشمائل» ؛ من حديث جابر: أتانا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في منزلنا، فذبحنا له شاة، فقال: «كأنّهم علموا أنّا نحبّ اللّحم» !. وإسناده صحيح. وفي حديث قصة جابر في الخندق؛ وهي طويلة: (ويقول: «إنّه) ؛ أي: اللحم (يزيد في السّمع) . قال الإمام الشافعيّ: إنّ أكله يزيد في العقل. وقال الإمام الزهريّ: أكل اللحم يزيد سبعين قوة، ولكن ينبغي ألايواظب على أكله؛ كما قال الغزاليّ، لما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه: إنّه يصفّي اللّون، ويحسّن الخلق، ومن تركه أربعين ليلة ساء خلقه، ومن داوم عليه أربعين يوما قسا قلبه» . وقال ابن القيّم: ينبغي عدم المداومة على أكل اللّحم؛ فإنّه يورث الأمراض الدّمويّة والامتلائيّة، والحمّيّات الحادّة. وقال بقراط: لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوان. انتهى «زرقاني» . (وهو سيّد) أي: أفضل، إذ السّيّد الأفضل، كخبر: «قوموا إلى سيّدكم» أي: أفضلكم (الطّعام في الدّنيا والآخرة) . ولابن ماجه؛ من حديث أبي الدرداء- بإسناد ضعيف لا موضوع؛ كما زعم ابن الجوزي! -: «سيّد طعام أهل الدّنيا وأهل الجنّة اللّحم» . وروى أبو نعيم في «الطب» ؛ من حديث عليّ: «سيّد طعام الدّنيا اللّحم، ثمّ الأرزّ. وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» أيضا.. وروى الدّيلميّ؛ عن صهيب رفعه: «سيّد الطّعام في الدّنيا والآخرة اللّحم، ثمّ الأرزّ، وسيّد الشّراب في الدّنيا والآخرة الماء» . وعن بريدة مرفوعا: «سيّد الإدام في الدّنيا والآخرة اللّحم، وسيّد الشّراب في الدّنيا والآخرة الماء، وسيّد الرّياحين في الدّنيا والآخرة الفاغية» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ولو سألت ربّي أن يطعمنيه كلّ يوم.. لفعل» . وعن عطاء بن يسار: أنّ أمّ سلمة ... رواه الطّبرانيّ وغيره، ورواه أبو نعيم في «الطب» بلفظ «خير» . وعن ربيعة بن كعب رفعه: «أفضل طعام الدّنيا والآخرة اللّحم» . رواه العقيلي، وأبو نعيم في «الحلية» . وكلّها ضعيفة، لكن بانضمامها تقوى، كما أشار إليه السّخاوي رحمه الله تعالى. (ولو سألت ربّي أن يطعمنيه كلّ يوم لفعل» ) ، لكنّي لم أسأله، ولذا كان لا يأكل اللّحم إلّا غبّا. كما رواه الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» . (و) أخرج الترمذيّ (عن عطاء بن يسار) الهلاليّ المدنيّ «مولى ميمونة بنت الحارث الهلاليّة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها» ، أخي سليمان، وعبد الله، وعبد الملك، بني يسار، وهو من كبار التابعين. سمع ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن سلام، وأبا أيّوب، وابن عمر، وابن عبّاس، وابن عمرو بن العاصي، وأبا واقد اللّيثيّ، وأبا رافع، وأبا سعيد الخدريّ، وأبا هريرة، وأبا ملك، وزيد بن ثابت، وزيد بن خالد، ومولاته ميمونة رضي الله تعالى عنهم. وقال أبو حاتم: لم يسمع ابن مسعود، وأثبت البخاري سماعه منه. روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمرو بن دينار، وغيرهما. قال ابن سعد: كان ثقة؛ كثير الحديث، واتّفقوا على توثيقه، وتوفي سنة: - 103- ثلاث ومائة، وقيل غير ذلك رحمه الله تعالى. (أنّ أمّ سلمة) ، كنيت بابنها سلمة بن أبي سلمة، واسمها: هند بنت أبي أمية، - واسمه: حذيفة، أو سهيل، أو هشام- ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومية كانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد، وهاجر بها أبو سلمة إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعا، فولدت له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 رضي الله تعالى عنها أخبرته أنّها قرّبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جنبا مشويّا فأكل منه. هناك زينب بنت أبي سلمة، وولدت له بعد ذلك سلمة، وعمر، ودرّة: بني أبي سلمة؛ قاله ابن سعد. ومات أبو سلمة سنة: أربع من الهجرة في جمادى الآخرى فاعتدّت، وحلّت في أواخر شوّال سنة: أربع، وتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنة أربع في أواخر شوال، وتوفّيت في ذي القعدة سنة: - 59- تسع وخمسين. وكانت من أجلّ النّساء، واتّفقوا على أنّها دفنت بالبقيع، وهي آخر أمّهات المؤمنين وفاة، وكانت هي وزوجها أوّل من هاجر إلى الحبشة (رضي الله تعالى عنها) ، وعن زوجها وأولادها. آمين. (أخبرته أنّها قرّبت) - بتشديد الراء- أي: قدّمت (إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جنبا) - بفتح الجيم وسكون النّون وموحدة-: شقّ الإنسان وغيره؛ كما في «القاموس» ، ولذا أطلق على الشّق الذي قدّمته له من شاة، كما قال بعض الشّرّاح، وزعم «أنّه لا دليل عليه» !! يدفعه أنّه الظّاهر من أحوالهم. (مشويّا) بمطلق نار؛ أو بالحجارة المحماة، كما قيل في قوله تعالى ف جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) [هود] : أي: مشويّ بالرّضف، أي: الحجارة المحماة. وقال ابن عبّاس: أي: نضيج، وهو أخصّ منه. قال العراقيّ: وقع الاصطلاح في هذه الأعصار على أنّ المراد بالشّواء اللحم السّميط؛ وإنّما كان يطلق قبل هذا على المشويّ، ولم يكن السّميط على عهده صلّى الله عليه وسلم، ولا رأى شاة سميطا قطّ. (فأكل منه) ثمّ قام إلى الصّلاة وما توضأ. قال الترمذيّ- بعد ما رواه-: حديث صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وعن عبد الله بن الحارث قال: أكلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شواء في المسجد. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: ضفت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فأتي بجنب مشويّ، ثمّ أخذ الشّفرة؛ (و) أخرج الترمذيّ أيضا (عن عبد الله بن الحارث؛ قال: أكلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم شواء) - بكسر الشّين المعجمة أو ضمّها؛ مع المدّ، ويقال: شوى كغنى-: هو اللّحم المشويّ بالنّار. فقول شارح «أي: لحما ذا شواء» !! ليس على ما ينبغي، لأنّ الشّواء ليس مصدرا كما يقتضيه كلامه، بل اسم اللّحم المشويّ (في المسجد) . زاد ابن ماجه: ثمّ قام فصلّى وصلّينا معه، ولم نزد أن مسحنا أيدينا بالحصباء. وفيه دليل لجواز أكل الطّعام في المسجد؛ جماعة وفرادى، ومحلّه إن لم يحصل ما يقذر المسجد، وإلّا! فيكره أو يحرم، ويمكن حمل أكلهم على زمن الاعتكاف، فلا يرد أنّ الأكل في المسجد خلاف الأولى عند أمن التّقذير، على أنّه يمكن أن يكون لبيان الجواز. والله أعلم. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه؛ قال: ضفت) - بكسر أوّل- (مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة) ، أي: نزلت معه صلّى الله عليه وسلم ضيفين على إنسان في ليلة من اللّيالي. يقال: ضفت الرجل؛ إذا نزلت به في ضيافة، وأضفته إذا أنزلته، فليس المراد جعلته ضيفا لي حال كوني معه، خلافا لمن زعمه. وقد وقعت هذه الضّيافة في بيت ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلب، «بنت عم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم» ؛ كما أفاده القاضي إسماعيل (فأتي بجنب مشويّ، ثمّ أخذ) ، أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (الشّفرة) - بفتح الشّين المعجمة، وسكون الفاء؛ كطلحة-: وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فجعل يحزّ، فحزّ لي بها منه. قال: فجاء بلال يؤذنه بالصّلاة، فألقى ... السّكين العريض العظيم، وجمعه شفار؛ ككلب وكلاب، وشفرات مثل سجدة وسجدات. (فجعل) أي: شرع (يحزّ) - بضم الحاء؛ من باب ردّ- أي: يقطع من الحزّ- بحاء مهملة-: القطع (فحزّ) - بتشديد الزّاي- أي: فقطع (لي) ؛ أي: لأجلي (بها) ، أي: بالشّفرة (منه) ، أي: من ذلك الجنب المشويّ. وفيه حلّ قطع اللّحم بالسّكين! ولا يشكل على ذلك خبر: «لا تقطعوا اللّحم بالسّكّين؛ فإنّه من وضع الأعاجم، وانهسوه، فإنّه أهنأ وأمرأ» . رواه أبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها!! لقول أبي داود- عقب روايته- فيه: ليس بالقويّ. وعلى التنزّل! فالنّهي وارد في غير المشويّ، أو محمول على ما إذا اتّخذه عادة. ويمكن أن يقال: النّهس محمول على النّضيج، والحزّ على غير النّضيج، وبذلك عبّر البيهقيّ؛ فقال: النّهي عن قطع اللّحم بالسّكين في لحم تكامل نضجه. وذهب بعضهم إلى أنّ الحزّ لبيان الجواز؛ تنبيها على أنّ النّهي للتّنزيه لا للتّحريم. وفيه أنّه ينبغي للكبير أن يحزّ للصغير؛ إظهارا لمحبّته، وتألّفا له. قاله المناوي. (قال) أي المغيرة (: فجاء بلال) أي: المؤذّن، أبو عبد الرّحمن. كان يعذّب في ذات الله، فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأعتقه. وهو أوّل من أسلم من الموالي «1» ، شهد بدرا وما بعدها، ومات بدمشق سنة: - 18- ثمان عشرة، وله ثلاث وستون سنة؛ من غير عقب، ودفن بباب الصغير رضي الله تعالى عنه. (يؤذنه) - بسكون الهمزة وقد تبدل واوا؛ من الإيذان- وهو: الإعلام، والتّأذين مثله إلّا أنّه خصّ بالإعلام بوقت الصّلاة، أي: يعلمه (بالصّلاة، فألقى   (1) لعل أول من أسلم من الموالي الصحابي زيد بن حارثة رضي الله عنه. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 الشّفرة، فقال: «ما له؟! تربت يداه» . قال: وكان شاربه قد وفا، فقال له: «أقصّه لك على سواك؟ أو: قصّه على سواك» . الشّفرة) ، أي: رماها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (فقال: «ما له) ، أي: لبلال (تربت يداه؟!» ) ، أي: أيّ شيء ثبت له؛ يبعثه على الإعلام بالصلاة بحضرة الطعام، التصقت يداه بالتراب من شدة الفقر؟!. وهذا معناه بحسب الأصل. والمقصود منه هنا: الزّجر عن ذلك؛ لا حقيقة الدّعاء عليه، فإنّه صلّى الله عليه وسلم كره منه إعلامه بالصّلاة بحضرة الطعام. والصّلاة بحضرة طعام تتوق إليه النّفس مكروهة، مع ما في ذلك من إيذاء المضيف وكسر خاطره!! هذا هو الأليق بالسّياق وقواعد الفقهاء. قاله الباجوريّ. (قال) ؛ أي المغيرة (: وكان شاربه) أي: بلال (قد وفا) ، أي: طال. أي: قال المغيرة: وكان شارب بلال قد طال وأشرف على فمه. والشّارب: هو الشّعر النّابت على الشّفة العليا، والذي يقصّ منه هو الذي يسيل على الفم، ولا يكاد يثنّى؛ فلا يقال: شاربان، لأنّه مفرد، وبعضهم يثنّيه باعتبار الطّرفين، وجمعه: شوارب. (فقال) أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (له) أي: لبلال (: «أقصّه) أنا (لك على سواك!) ، بوضع السّواك تحت الشّارب، ثم قصّ ما فضل عن السواك (أو: قصّه) أنت (على سواك» ) ، بصيغة الفعل المضارع المسند للمتكلم وحده في الأوّل، وبصيغة الأمر في الثّاني. وهذا شكّ من المغيرة، أو ممّن دونه من الرواة؛ في أيّ اللّفظين صدر من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. وسبب القصّ على السّواك ألاتتأذّى الشّفة بالقصّ. ويؤخذ من هذا الحديث: ندب قصّ الشّارب إذا طال حتّى تظهر حمرة الشّفة، وجواز أن يقصّه لغيره، وأن يباشر القصّ بنفسه. ويندب الابتداء بقصّ الجهة اليمنى من الشارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل من الكبد إذا شويت. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ من الشّاة الذّراع والكتف. وهل الأفضل قصّه؛ أو حلقه؟! والأكثرون على الأوّل، بل قال مالك: يؤدّب الحالق، وبعضهم على الثّاني، وجمع بأنّه يقصّ البعض ويحلق البعض. ويكره إبقاء السّبال، لخبر ابن حبّان: ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم المجوس، فقال: «إنّهم قوم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم، فخالفوهم» ، وكان يجزّ سباله كما يجزّ الشاة والبعير! وفي خبر عند أحمد: «قصّوا سبالكم ووفّروا لحاكم» . وفي «الجامع الصغير» : «وفّروا اللّحى، وخذوا من الشّوارب، وانتفوا الإبط، وقصّوا الأظافير» . رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ عن أبي هريرة. وروى البيهقيّ؛ عن أبي أمامة: «وفّروا عثانينكم وقصّوا سبالكم» . والعثنون: اللّحية. لكن رأى الغزاليّ وغيره: أنّه لا بأس بترك السّبال؛ اتّباعا لعمر وغيره، فإنّه لا يستر الفم، ولا يصل إليه غمر الطعام. أي: دهنه. (و) في «كشف الغمة» للشّعرانيّ: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأكل من الكبد إذا شويت) . روى الدّارقطنيّ: أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يفطر يوم النّحر حتى يرجع ليأكل من كبد أضحيته. (و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ من الشّاة الذّراع والكتف) . وفي رواية: «لحم الظّهر» . والجمع: أنّه كان يحبّ ذلك كلّه، وربّما قدّم بعضها على بعض؛ في بعض الأحيان، فأخبر كلّ راو عما رآه يتعاطاه. وروى الشّيخان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذّراع، وكانت أحبّ الشاة إليه ... الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلحم، فرفع إليه الذّراع- وكانت تعجبه- فنهس منها. وعن ابن مسعود ... وروى أبو الشّيخ وغيره؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان أحبّ اللّحم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكتف. وإسناده ضعيف. ومن حديث أبي هريرة: لم يكن يعجبه من الشّاة إلّا الكتف. وروى أبو داود؛ من حديث ابن مسعود بلفظ: كان يعجبه الذّراع. ولابن السّنّي، وأبي نعيم في «الطب» ؛ من حديث أبي هريرة: كان يعجبه الذّراعان والكتف. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: أتي) بصيغة المجهول (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذّراع) - كحمار- هو اليد من كلّ حيوان، لكنّها من الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى؛ تؤنّث وقد تذكّر، ومن البقر والغنم ما فوق الكراع- بضم الكاف- الذي هو مستدقّ السّاق. (وكانت تعجبه) !! لأنّها أحسن نضجا، وأعظم لينا، وأسرع استمراء، وأبعد عن مواضع الأذى، مع زيادة لذّتها وحلاوة مذاقها. (فنهس منها) - بمهملة أو بمعجمة- أي: تناوله بأطراف أسنانه، وقيل: هو بالمهملة ما ذكر، وبالمعجمة: تناوله بجميع الأسنان، وهذا أولى وأحبّ من القطع بالسّكين، حيث كان اللّحم نضيجا- كما سبق-. ويؤخذ من هذا منع الأكل بالشّره، فإنّه صلّى الله عليه وسلم مع محبّته للذّراع نهس منها، ولم يأكلها بتمامها؛ كما يدلّ عليه حرف التّبعيض!. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» (عن ابن مسعود) : عبد الله بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الذّراع، وسمّ في الذّراع، وكان يرى أنّ اليهود سمّوه. عبد الرحمن الهذليّ، حليف بني زهرة، من السّابقين البدريّين، شهد المشاهد كلّها، ومات بالمدينة المنورة سنة: - 32- اثنتين وثلاثين، وتقدّمت ترجمته (رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يعجبه) بالتذكير، وفي نسخة صحيحة من «الشمائل» [تعجبه] بالتّأنيث (الذّراع) ، وفي رواية: الكتف؛ بدل: الذراع. (وسمّ في الذّراع) في فتح خيبر، أي: جعل فيه سمّا قاتلا لوقته، فأكل منه لقمة، فأخبره جبريل؛ أو الذراع- على الخلاف-، وجمع بأنّ الذّراع أخبرته أوّلا، ثمّ أخبره جبريل بذلك تصديقا لها، فتركه؛ ولم يضرّه السّمّ- ففي ذلك ما أظهره الله من معجزاته صلّى الله عليه وسلم من تكليم الذّراع له، وعدم تأثير السّمّ فيه حالا. وفي رواية: «لم تزل أكلة خيبر تعاودني حتّى قطعت أبهري» . ومعناه: أنّ سمّ أكلة خيبر- بضم الهمزة-: وهي اللّقمة التي أكلها من الشاة. وبعض الرواة فتح الهمزة! وهو خطأ؛ كما قاله ابن الأثير- كان يعود عليه، ويرجع إليه حتّى قطعت أبهره! وهو: عرق مستبطن بالصّلب متّصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. قال العلماء: فجمع الله له بين النّبوّة والشهادة. ولا يرد على ذلك قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [67/ المائدة] !! لأنّ الآية نزلت عام تبوك، والسّمّ كان بخيبر قبل ذلك. (وكان) أي: ابن مسعود (يرى) - بصيغة المجهول، أو [يرى] المعلوم- أي: يظنّ (أنّ اليهود سمّوه) ، أي: أطعموه السّمّ في الذّراع. وأسنده إلى اليهود!! لأنّه صدر على أمرهم واتّفاقهم، وإلّا! فالمباشر لذلك زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم اليهوديّ، وقد أحضرها صلّى الله عليه وسلم، وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وعن أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه قال: طبخت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدرا، وكان يعجبه الذّراع، فناولته الذّراع، ثمّ قال: «ناولني الذّراع» ، فناولته، ثمّ قال: «ناولني الذّراع» ، فقلت: يا رسول الله؛ وكم للشّاة من ... «ما حملك على ذلك» ؟ فقالت: قلت: إن كان نبيّا لا يضرّه السّمّ، وإلّا! استرحنا منه. فاحتجم على كاهله وعفا عنها، لأنّه كان لا ينتقم لنفسه. قال الزّهريّ وغيره: أسلمت، فلمّا مات بشر بن البراء- وكان أكل مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم- من الذراع دفعها لورثته فقتلوها قودا. وبه جمع القرطبيّ وغيره بين الأخبار المتدافعة. (و) أخرج الدارميّ، وتلميذه الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن أبي عبيدة) - بالتصغير- مولى المصطفى صلّى الله عليه وسلم، صحابيّ، له هذا الحديث في هذا الكتاب، اسمه كنيدة (رضي الله تعالى عنه) . قال زين الحفّاظ العراقيّ: هكذا وقع في سماعنا من كتاب «الشمائل» : أبي عبيدة، بزيادة تاء التّأنيث في آخره. وهكذا ذكره المؤلّف في «الجامع» ، والمعروف أنّه أبو عبيد!! وهكذا هو في بعض نسخ «الشمائل» ، بلاتاء تأنيث، وهكذا ذكره المزّيّ في «أطرافه» ؛ (قال: طبخت) ، أي: أنضجت (للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم قدرا) ؛ أي: شاة في قدر، يقال: طبخت اللّحم طبخا؛ أنضجته، قاله الزّهريّ: ومن ثمّ قال بعضهم: لا يسمّى طبيخا- فعيلا بمعنى مفعول- إلّا إذا كان يمرق، ويكون الطبخ في غير اللّحم أيضا، فيقال: خبزة جيّدة الطبخ؛ كما في «الصحاح» وغيره. (وكان يعجبه الذّراع) ذكره توطئة لقوله: (فناولته الذّراع) . ظاهره أنّه لم يطلبه منه أوّل مرّة، بل ناوله إيّاه لعلمه أنّه يعجبه، (ثمّ قال: «ناولني الذّراع» ، فناولته، ثمّ قال: «ناولني الذّراع» ، فقلت: يا رسول الله؛ وكم للشّاة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ذراع؟! فقال: «والذي نفسي بيده؛ لو سكتّ.. لناولتني الذّراع ما دعوت» . ذراع؟!) استفهام، لكن فيه إساءة أدب، وعدم امتثال له صلّى الله عليه وسلم، فلذلك عاد عليه شؤم عدم الامتثال، بأن حرم مشاهدة المعجزة، وهي أن يخلق الله تعالى ذراعا بعد ذراع وهكذا؛ إكراما لخلاصة خلقه صلّى الله عليه وسلم. (فقال) أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (: «و) الله (الّذي نفسي) أي: روحي أو جسدي أوهما (بيده) : بقوّته وقدرته وإرادته، إن شاء أبقاه، وإن شاء أفناه. وكان يقسم به كثيرا، والظاهر أنّه يريد به: أنّ ذاته منقادة له لا يفعل إلّا ما يريد (لو سكتّ) عمّا قلت، ممّا فيه إساءة أدب، وامتثلت أمري في مناولة المراد (لناولتني الذّراع) أي: واحدا بعد واحد (ما دعوت» ) ، أي: مدّة طلبي الذّراع؛ بأن يخلق الله تعالى فيها ذراعا بعد ذراع ... وهكذا؛ معجزة لي، لكنّك لم تسكت!! فمنعت تلك المعجزة التي فيها نوع تشريف لمشاهدها، لأنّه لا يليق إلّا بكامل التّسليم الذي لا يستفهم، فحملته عجلة نفسه على أن قال ما قال، فانقطع المدد. فلو تلقّاه المناول بالأدب، وصمت مصغيا إلى ذلك العجب؛ لشرّفه الله بإجراء هذا المزيد عليه ولم ينقطع لديه، فلمّا عجل وعارض تلك المعجزة برأيه؛ منعه ذلك عن مشاهدة هذه المعجزة العظمى التي لا تناسب إلّا من كمل تسليمه. وقد روى الحديث أيضا الإمام أحمد؛ عن أبي رافع القبطيّ «مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ، واسمه: أسلم، ومات في أوّل خلافة عليّ- على الصحيح- ولفظه: أنّه أهديت له شاة؛ فجعلها في قدر. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا؟» . قال: شاة أهديت لنا فطبختها في القدر، قال: «ناولني الذّراع يا أبا رافع» . فناولته الذّراع، ثمّ قال: «ناولني الذّراع الآخر» . فناولته الذّراع الآخر، فقال: «ناولني الذّراع الآخر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كانت الذّراع أحبّ اللّحم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه كان لا يجد اللّحم إلّا غبّا، وكان يعجل إليها؛ لأنّها أعجلها نضجا. فقال: يا رسول الله؛ إنّما للشّاة ذراعان!!. فقال له صلّى الله عليه وسلم: «أما إنّك لو سكتّ لناولتني ذراعا فذراعا ما سكتّ» . ثمّ دعا بماء فمضمض فاه، وغسل أطراف أصابعه، ثمّ قام فصلّى ... الحديث. والظّاهر أنّ القضيّة متعدّدة لاختلاف مخرج الحديث. (و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» بإسناد فيه مقال؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما كانت الذّراع أحبّ اللّحم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - أي: على الإطلاق، لما سيأتي من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أطيب اللّحم لحم الظّهر» ! (ولكنّه كان لا يجد اللّحم إلّا غبّا) - بكسر الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة- أي: وقتا دون وقت، لا يوما بعد يوم، لما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر، ما نوقد فيه نارا؛ إنّما هو التّمر والماء، إلّا أن يؤتى باللّحم. قاله في «جمع الوسائل» . (وكان يعجل) - بفتح الجيم- أي: يسرع (إليها) ، أي: إلى الذّراع، (لأنّها) ، أي: الذّراع، وتأنيثها باعتبار كونها قطعة من الشاة؛ قاله المناوي. وقد تقدّم أنّ الذّراع تذكّر وتؤنّث، فلا معنى لهذا التأويل (أعجلها) ؛ أي: أعجل اللّحوم، أو أعجل الشّاة (نضجا) - بضمّ النّون- أي: طبخا، ومعنى الحديث: أنّ الذّراع ما كان أحبّ إليه؛ وإنّما يعجل إليه لسرعة نضجه، لكونه كان لا يجد اللّحم إلّا غبّا. قال الحافظ العراقيّ: وليس فيه منافاة لبقيّة الأحاديث، أنّه كان يعجبه الذّراع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وكان أحبّ الشّاة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدّمها. إذ يجوز أن يعجبه وليست بأحبّ اللّحم إليه، ويؤيّده تصريحه في الحديث الآخر: أنّ أطيب اللّحم لحم الظهر. وقال ابن حجر الهيتميّ: هذا بحسب ما فهمته عائشة رضي الله تعالى عنها، وإلّا فالذي دلّت عليه الأحاديث السابقة وغيرها: أنّه كان يحبّها محبّة غريزيّة طبيعيّة، سواء فقد اللّحم أم لا!! وكأنّها أرادت بذلك تنزيه مقامه الشريف عن أن يكون له ميل إلى شيء من الملاذّ، وإنما سبب المحبّة سرعة نضجها، فيقلّ الزّمن للأكل، ويتفرّغ لمصالح المسلمين. وعلى الأوّل!! فلا محذور في محبّة الملاذّ بالطبع، لأنّ هذا من كمال الخلقة؛ وإنما المحذور المنافي للكمال التفات النّفس وعناؤها في تحصيل ذلك وتأثّرها لفقده. وتعقّب بأنّ نسبة قصور الفهم لعائشة رضي الله تعالى عنها لا تليق. (و) أخرج ابن السّنّي، وأبو نعيم في «الطب النبوي» ، والبيهقيّ في «سننه» ؛ عن مجاهد مرسلا- وهو حسن لغيره-، والطبرانيّ؛ عن ابن عمر، وابن عديّ، والبيهقيّ- بسند ضعيف؛ كما قال العراقيّ- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان أحبّ الشّاة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقدّمها) ؛ لكونه أقرب إلى المرعى، وأبعد عن النجاسة، وأخفّ على المعدة، وأسرع انهضاما. وهذا لا يدركه إلّا أفاضل الأطباء؛ فإنهم شرطوا في جودة الأغذية نفعها وتأثيرها في القوى، وخفّتها على المعدة وسرعة هضمها. وكان صلّى الله عليه وسلم أحبّ المقدم إليه الذّراع- كما سبق-. (و) أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ لها-، والنّسائيّ، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقيّ: كلهم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أطيب اللّحم لحم الظّهر» . وعن ضباعة بنت الزّبير رضي الله تعالى عنها: ... (عن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أبو محمد، وأبو جعفر؛ وهي أشهر. أمّه أسماء بنت عميس، ولدته بأرض الحبشة، وهو أوّل مولود من المسلمين ولد بها، توفّي بالمدينة المنوّرة سنة: ثمانين، عن سبعين سنة. وكان عبد الله كريما، جوادا، ظريفا، حليما، عفيفا، سخيّا. سمّي «بحر الجود» ، ويقال: إنّه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وعوتب في ذلك؛ فقال: إنّ الله عوّدني عادة وعوّدت النّاس عادة، وأخاف إن قطعتها قطعت عنّي، وأخباره في الجود شهيرة، وفضائله كثيرة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثا، اتّفقا منها على اثنين. (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أطيب اللّحم) أي: ألذّه وأحسنه (لحم الظّهر» ) . والتفضيل نسبيّ إضافي، أو «من» مقدّرة، أي: من أطيب، فلا ينافي أنّ الذّراع أطيب منه؛ ومن الرقبة! ووجه مناسبة هذا الحديث للتّرجمة: أنّ أطيبيّته تقتضي أنّه صلّى الله عليه وسلم ربّما تناوله في بعض الأحيان. (و) أخرج الإمام أحمد، والنّسائيّ، والبيهقيّ (عن ضباعة) - بضاد معجمة مضمومة فموحدة فألف؛ فعين مهملة؛ فتاء تأنيث- (بنت الزّبير) بن عبد المطّلب الهاشميّة، بنت عمّه صلّى الله عليه وسلم، زوج المقداد بن الأسود، وولدت له عبد الله وكريمة، وليس للزبير بن عبد المطّلب عقب إلّا منها. روت عن النّبي صلّى الله عليه وسلم، وعن زوجها، وعنها ابن عبّاس، وعائشة، وبنتها كريمة وآخرون. (رضي الله تعالى عنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 أنّها ذبحت في بيتها شاة، فأرسل إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أن أطعمينا «1» من شاتكم» . فقالت: ما بقي عندنا إلّا الرّقبة، وإنّي لأستحي أن أرسل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فرجع الرّسول، فأخبره بقولها. فقال: «ارجع إليها، فقل لها: أرسلي بها، فإنّها هادية الشّاة، وأقرب الشّاة إلى الخير، وأبعدها عن الأذى» . أنّها ذبحت في بيتها شاة، فأرسل إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن أطعمينا من شاتكم» ) ؛ يا أهل البيت، أو قصد تعظيمها، وإلّا! فالقياس: من شاتك!! (فقالت: ما بقي عندنا إلّا الرّقبة، وإنّي لأستحي أن أرسل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ؛ لحقارتها عند العرب، لكثرة عظمها. قال الشاعر: أمّ الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللّحم بعظم الرّقبه (فرجع الرّسول؛ فأخبره بقولها، فقال: «ارجع إليها؛ فقل لها: أرسلي بها) ولا تستحي؛ إذ هي عظيمة، فيها منافع؛ (فإنّها هادية الشّاة، وأقرب الشّاة إلى الخير، وأبعدها عن الأذى» ) : البول، والرّجيع. ولذا قيل: إنّها أفضل الشاة، والأصحّ: أنّ الأفضل الذّراع. قال في «المواهب» : ولا ريب أنّ أخفّ لحم الشاة لحم الرقبة، ولحم الذّراع، والعضل، وهو أخفّ على المعدة وأسرع انهضاما. وفي هذا دليل على أنّه ينبغي مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاث خواصّ: أحدها: كثرة نفعها وتأثيرها في القوى. ثانيها: خفّتها على المعدة وسرعة انحدارها عنها. ثالثها: سرعة هضمها. وهذا أفضل ما يكون من الغذاء؛ لاشتماله على النفع وعدم الضّرر.   (1) في «وسائل الوصول» : أطعمونا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل اللّحم.. لم يطأطىء رأسه إليه، بل يرفعه إلى فيه، ثمّ ينهسه انتهاسا. وأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القديد؛ كما في حديث «السّنن» ... وقال الحافظ العراقيّ: وتفضيل لحم الرّقبة في الحديث السابق ونحوه لا يقتضي تفضيله على لحم الظّهر، ولا على لحم الذراع؛ وإنّما فيه مدحه بالأوصاف المتقدّمة، أي: ومدحه إنّما فيه فضيلته؛ لا أفضليّته على غيره. قال: ويجوز أن يكون صلّى الله عليه وسلم قال ذلك جبرا لمن أخبره أنّه ليس عنده إلّا الرقبة، فمدحه بما هو صادق عليها، كما قال: «نعم الإدام الخلّ» ؛ حيث طلب إداما فلم يجد عندهم إلّا الخل. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أكل اللّحم لم يطأطىء رأسه) ، أي: لم يخفضه (إليه، بل يرفعه إلى فيه، ثمّ ينهشه) - بالشّين المعجمة، والسين المهملة- (انتهاشا) ، النّهش والانتهاش؛ كلاهما بمعنى الأخذ بمقدّم الأسنان- كما مر-. قال في «شرح الإحياء» : روى أبو داود؛ من حديث صفوان بن أميّة قال: كنت آكل مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فاخذ اللّحم من العظم، فقال: «ادن العظم من فيك، فإنّه أهنأ وأمرأ» . وللترمذيّ من حديثه: «انهس اللّحم نهسا، فإنّه أهنأ وأمرأ» . وهو والذي قبله منقطع. وللشيخين من حديث أبي هريرة: فتناول الذّراع؛ فنهس منها نهسة ... الحديث؛ قاله العراقيّ. انتهى (وأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم القديد) - بفتح القاف وكسر الدّال المهملة مكبّرا-: هو اللّحم [المملوح] المقدّد؛ أي: المجفّف في الشّمس. وفي «شرح البخاريّ» للقسطلّاني: القديد لحم مشرر مقدّد، أو ما قطع منه طوالا. انتهى، ونحوه في «القاموس» ؛ (كما في حديث «السّنن) الأربعة» ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 عن رجل قال: ذبحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شاة ونحن مسافرون، فقال: «أصلح لحمها» ، فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة. وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم حمار الوحش. (عن رجل) من الصحابة، ولا ضير في إبهامه لعدالة جميع الصّحابة رضوان الله عليهم. (قال: ذبحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم شاة ونحن مسافرون، فقال: «أصلح لحمها) ؛ أي: اجعله قديدا على حالة يبقى معها؛ بحيث لا يسرع فساده، بدليل قوله (فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة) المنوّرة. فظاهره طول المدّة، إذ هي التي يتمدّح بها في مثل هذا المقام. وفي لفظ «أملح لحمها» - بالميم- أي: اجعل عليه ملحا، ليمنعه العفونة. وفي «الصحيح» ؛ عن أنس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بمرقة فيها دبّاء وقديد، فرأيته يتتبّع الدّبّاء يأكلها. تنبيه: علم ممّا تقدّم أنّه صلّى الله عليه وسلم أكل القديد والحنيذ؛ الذي هو المشوي، والحنيذ أعجله وألذّه، وهو كان قرى إبراهيم الخليل للملائكة. ومن الناس من يقدّم القديد على المشويّ، وهذا كلّه في حكم الشهوة. أمّا في حكم المنفعة! فالقديد أنفع، وهو الذي يدوم عليه المرء، ويصلح به الجسد، وعليه أثنى الشّرع لوجهين: أحدهما: أنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلم في «الصحيحين» أمر بإكثار المرقة، ليقع بها عموم المنفعة في أهل البيت. الثاني: أنّه يصنع به الثّريد، وهو أفضل الطعام الذي ضرب به المصطفى المثل في التفضيل، حيث قال: «فضل عائشة على النّساء كفضل الثّريد» ... إلى آخره. والمرق من اللّحم هو لبّه. انتهى «مناوي» . (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لحم حمار الوحش) . رواه الشّيخان؛ عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه في حديث طويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم الضّأن، وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم الجمال سفرا وحضرا. وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم الأرنب. وأكل صلّى الله عليه وسلّم من دوابّ البحر. (وأكل صلّى الله عليه وسلم لحم الضّأن. وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لحم الجمال) - جمع جمل-: وهو الذّكر من الإبل؛ كبيرا وصغيرا. وإن قالوا: لا يسمّى جملا إلّا إذا بزل، لكنّ المراد هنا ما هو أعمّ، (سفرا وحضرا) ؛ أي: في السّفر والحضر. روى النّسائيّ؛ عن جابر قال: قدم عليّ بهدي للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم من اليمن، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهدي، فكان الجميع مائة بدنة، فنحر صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين، ونحر عليّ سبعا وثلاثين، وأشرك عليا في بدنه، ثمّ أخذ من كلّ بدنة بضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل صلّى الله عليه وسلم وعليّ من لحمها، وشربا من مرقها. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لحم الأرنب) . رواه الشيخان؛ عن أنس أنّه أصاب أرنبا بمرّ الظّهران، فأتى به أبا طلحة فذبحه بمروة وشواها، وبعث معي بعجزها. وفي لفظ: بوركها. وفي لفظ: بفخذها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقبلها، والبخاريّ في (الهبة) : فأكلها. وفي رواية: أكله. قيل له: أكله!؟ قال: قبله. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم من دوابّ البحر) . رواه مسلم. وذكر القسطلّاني في «المواهب» ؛ في سرية الخبط: أنّه روى الأئمة السّتّة عن جابر: بعثنا صلّى الله عليه وسلم ثلثمائة راكب؛ أميرنا أبو عبيدة، فأقمنا على السّاحل حتّى فني زادنا، حتّى أكلنا الخبط «1» ، ثمّ إنّ البحر ألقى لنا دابّة؛ يقال لها: العنبر، فأكلنا منها نصف شهر حتى صحّت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه، ونظرنا إلى أطول بعير فجاز تحته.   (1) الخبط: ورق يخبط بالمخابط ويجفّف ويطحن ويخلط بدقيق.. «القاموس» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وأكل صلّى الله عليه وسلّم الثّريد؛ وهو أن يثرد الخبز بمرق اللّحم، وقد يكون معه لحم. ومن أمثالهم: (الثّريد أحد اللّحمين) . وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخبز بالزّيت. وعن عمر بن الخطّاب ... زاد الشّيخان في رواية: فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا؟» ، فأرسلنا إليه منه فأكل. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الثّريد) - بفتح المثلّثة وكسر الراء؛ فعيل بمعنى مفعول، ويقال أيضا مثرود- (وهو أن يثرد الخبز) أي: يفتّ، ثمّ يبلّ (بمرق اللّحم، وقد يكون معه لحم) وقضيّته، أنّه إذا ثرد بمرق، غير اللّحم لا يسمّى «ثريدا» . وظاهر «القاموس» و «المصباح» : أيّ مرق كان. وكذا قول الزّمخشريّ: ثردت الخبز أثرده؛ وهو أن تفتّه، ثم تبلّه بمرق وتشرفه في وسط الصّحفة؛ وتجعل له وقبة «1» . (ومن أمثالهم: «الثّريد أحد اللّحمين» ) ، لأّنّ المرق يطبخ باللّحم، فتنزل خاصّية اللّحم في المرق. ومحلّ اللّذّة والقوّة إذا كان اللحم نضيجا في المرق أكثر مما في اللّحم وحده. فإن كان معه لحم فهو الثّريد الكامل، وعليه قول الشاعر: إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثّريد (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الخبز بالزّيت) ، وأمر بأكله. روى أبو نعيم في «الطّبّ» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «كلوا الزّيت وادّهنوا به، فإنّ فيه شفاء من سبعين داء؛ منها الجذام» . (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» ، و «الشمائل» (عن عمر [بن الخطّاب] )   (1) الوقبة: منخفض ضمن القصعة يتجمع فيها المرق ليسر الاستفادة منه مع بقية الطعام. «عبد الجليل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلوا الزّيت وادّهنوا به، فإنّه من شجرة مباركة» . الخليفة عشر سنين ونيّفا، وأوّل من سمّي «أمير المؤمنين» ، ومات سنة: أربع وعشرين عن ثلاث وستين، روى له الجماعة (رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كلوا الزّيت) : دهن الزّيتون، أي: مع الخبز، واجعلوه إداما. فلا يرد أنّ الزّيت مائع؛ فلا يكون تناوله أكلا، (وادّهنوا به) : أمر من الادّهان، وهو استعمال الدّهن، أي: ادهنوا به شعر رؤوسكم. كما قيّد به في رواية. وعادة العرب دهن شعر رؤوسهم. وقال الباجوريّ: ادّهنوا به في سائر البدن. وأمثال هذا الأمر للإباحة، أو النّدب لمن وافق مزاجه وعادته، وقدر على استعماله؛ كما قاله ابن حجر. قال الحافظ العراقيّ: لكنّ الأمر بالادهان به لا يحمل على الإكثار منه، ولا على التّقصير فيه؛ بل بحيث لا يشعث رأسه، كما يرشد إليه الأمر بالادّهان غبّا. وقال ابن القيّم: الدّهن في البلاد الحارّة كالحجاز من أسباب حفظ الصّحة وإصلاح البدن، وهو كالضروري لهم. وأما في البلاد الباردة! فضارّ، وكثرة دهن الرّأس به خطر بالبصر، (فإنّه) أي: لأّنه يخرج (من شجرة مباركة» ) يعني: زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء؛ ولو لم تمسسه نار. ووصفها بالبركة لكثرة منافعها، ولكونها تنبت في الأرض المقدّسة التي بارك الله تعالى فيها للعالمين. قيل: بارك فيها سبعون نبيّا؛ منهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ويلزم من بركة هذه الشّجرة بركة ثمرتها؛ وهو الزّيتون، وبركة ما يخرج منها من الزّيت، وكيف لا؛ وفيه التّأدّم والتّدهّن!! وهما نعمتان عظيمتان؟! وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وأكل صلّى الله عليه وسلّم السّلق مطبوخا. ورد: «عليكم بهذه الشّجرة المباركة زيت الزّيتون فتداووا به؛ فإنّه مصحّة من الباسور» رواه الطبراني، وأبو نعيم عن عقبة بن عامر. وفي «الجامع الصغير» ؛ بعد ذكر حديث الباب الذي أورده المصنّف: رواه التّرمذيّ عن عمر. ورواه أحمد، والترمذيّ، والحاكم؛ عن أبي أسيد. ورواه ابن ماجه، والحاكم عن أبي هريرة؛ ولفظه: «كلوا الزّيت وادّهنوا به، فإنّه طيّب مبارك» . ورواه أبو نعيم في «الطب» عنه؛ وقال: «فإنّ فيه شفاء من سبعين داء منها الجذام» انتهى. ومناسبة الحديث للباب: أنّ الأمر بأكله يستدعي أكله صلّى الله عليه وسلم منه. أو يقال: المقصود من الترجمة معرفة ما أكل منه صلّى الله عليه وسلم؛ وما أحبّ الأكل منه. قال الترمذيّ؛ بعد ذكر حديث عمر المذكور في الباب: وعبد الرزّاق كان مضطربا في هذا الحديث؛ فربّما أسنده وربما أرسله. انتهى. والاضطراب؛ تخالف روايتين أو أكثر؛ إسنادا أو متنا بحيث لا يمكن الجمع بينهما، لكنّه بيّن المراد بالاضطراب هنا بقوله: فربما أسنده وربّما أرسله. ففي بعض الطّرق أسنده حيث ذكر فيه عمر بن الخطّاب. وفي بعضها أرسله؛ حيث أسقط عمر بن الخطّاب، والمضطرب ضعيف لإنبائه عن عدم إتقان ضبطه. فهذا الحديث ضعيف للاضطراب في إسناده، لكن رجّح بعضهم عدم ضعفه، لأنّ طريق الإسناد فيها زيادة علم، وخصوصا وقد وافق إسناد غيره؛ كما في بعض الروايات. والله أعلم. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم السّلق) - بكسر السّين المهملة، وإسكان اللام، وآخره قاف-: بقلة معروفة وهو نبت له ورق طوال، وأصل ذاهب في الأرض، يقال له: السّلك- بالكاف آخره بدل القاف-. (مطبوخا) بالشعير، قال التّرمذيّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخزيرة؛ وهي: ما يتّخذ من الدّقيق على هيئة العصيدة، لكنّه أرقّ منها. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الأقط؛ ... بعد ما رواه: حديث حسن غريب. وفي «الصّحيحين» ؛ عن سهل بن سعد: إن كنّا لنفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوز تأخذ أصول السّلق فتجعله في قدرها فتجعل عليه حبّات من شعير، إذا صلّينا الجمعة زرناها؛ فقرّبته إلينا، والله ما فيه شحم؛ ولا ودك!!. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الخزيرة) كما في «الصحيح» ؛ من حديث عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه، (وهي) - بخاء معجمة مفتوحة، ثم زاي مكسورة، وبعد التّحتانية الساكنة راء- (: ما يتّخذ من الدّقيق على هيئة العصيدة، لكنّه أرقّ منها) ؛ قاله الطّبري. وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم. وقال ابن قتيبة- وتبعه الجوهريّ-: أن يؤخذ اللّحم فيقطع قطعا صغارا ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدّقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وفي «القاموس» مع «الشرح» : الخزير والخزيرة شبه عصيدة، وهو: اللّحم الغابّ «1» يقطع صغارا في القدر، ثمّ يطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أميت طبخا ذرّ عليه الدّقيق، فعصد به ثمّ أدم بأيّ إدام. ولا تكون الخزيرة إلا بلحم، وإذا كانت بلا لحم؟ فهي عصيدة. انتهى. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الأقط) - قال بعضهم عن «القاموس» : هو بتثليث الهمزة مع سكون القاف، و [الأقط] بفتح الهمزة مع فتح القاف؛ أو كسرها. أو [الأقط] ضمّها، و [الإقط] بكسرها جميعا-: شيء يتّخذ من المخيض الغنمي. روى البخاريّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:   (1) لعله الفاسد أو المنتن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وهو: جبن اللّبن المستخرج زبده، وهو أشبه شيء بالكشك. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الرّطب والتّمر والبسر. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الكباث؛ ... أهدت خالتي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم ضبابا وأقطا ولبنا، فوضع الضّبّ على مائدته، فلو كان حراما لم يوضع، وشرب اللّبن وأكل الأقط؛ (وهو: جبن اللّبن المستخرج زبده) لا الحليب. ويوافق قول الأزهري: الأقط يتّخذ من اللبن المخيض ثم يترك حتّى يمصل؛ أي: تسيل عصارته؛ وهي ماؤه الذي يخرج منه حين يطبخ، وهو كثير بالحرمين وغيرهما، ويقال له «المضير» عندهم. (وهو أشبه شيء بالكشك) وزان فلس: ما يعمل من الحنطة، وربّما عمل من الشّعير. قال المطرّزيّ: فارسيّ معرّب؛ قاله في «المصباح» . (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الرّطب) - بضمّ الرّاء وفتح الطّاء المهملة-: هو ثمر النّخل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمّر، والرّطب نوعان: نوع لا يتتمّر، وإذا تأخّر أكله أسرع إليه الفساد. ونوع يتتمّر ويصير عجوة وتمرا يابسا. (و) أكل (التّمر والبسر) - بضمّ الباء- هو: البلح الطّريّ، أكل الثلاثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في وقت واحد في حديقة الأنصاريّ. رواه مسلم، وأصحاب «السّنن الأربعة» ، والتّرمذيّ في «الشمائل» كلّهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقد مرّ الكلام على ذلك في حديث أبي الهيثم بن التيّهان رضي الله تعالى عنه. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الكباث) رواه مسلم، وبوّب عليه البخاريّ في؛ الأطعمة «باب الكباث» . وروى فيه وفي أحاديث الأنبياء حديث جابر: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بمرّ الظهران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وهو: ثمر الأراك. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الجبن. عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بجبنة في تبوك، فدعا بسكّين فسمّى وقطع. نجني الكباث، فقال: «عليكم بالأسود منه فإنّه أطيب» . فقيل: أكنت ترعى الغنم؟ قال: «نعم، وهل من نبيّ إلّا رعاها!!» (وهو) أي: الكباث- بفتح الكاف، وتخفيف الموحّدة، وبعد الألف مثلاثة- (: ثمر الأراك) - بفتح الهمزة وخفّة الراء- أي: النّضيج من ثمر الأراك. وقيل: ورق الأراك. وقيل: تمر الأراك- بالمثنّاة-؛ وهو البرير- بموحدة؛ بوزن الحرير- فإذا اسودّ فهو الكباث. وفي «المطالع» : الكباث تمر الأراك قبل نضجه. وقيل: بل هو حصرمه. وقيل: غضّه. وقيل: متزبّبه. (وأكل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم الجبن) . فيه ثلاث لغات؛ رواها أبو عبيد عن يونس ابن حبيب؛ سماعا من العرب. أجودها: إسكان الباء؛ مع ضمّ الجيم، والثانية: ضمّ الباء للإتباع. والثالثة؛ وهي أقلّها: التّثقيل. ومنهم من يجعل التّثقيل من ضرورة الشعر. ففي «السّنن» لأبي داود (عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: أتي) - بالبناء للمجهول- (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك) من عمل النّصارى. فقيل: هذا طعام تصنعه المجوس! (فدعا بسكّين فسمّى وقطع) . رواه أبو داود ومسدّد وغيرهما. وروى أبو داود الطيالسيّ عن ابن عباس أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لما فتح مكّة رأى جبنة فقال: «ما هذا؟» فقالوا: طعام يصنع بأرض العجم. فقال: «ضعوا فيه السّكّين، وكلوا» . وروى الإمام أحمد والبيهقيّ عنه: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بجبنة في غزوة تبوك، فقال: «أين صنعت هذه؟» قالوا: بفارس؛ ونحن نرى أن يجعل فيها ميتة!. فقال صلّى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وأمّا البصل: فروى أبو داود في «سننه» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها سئلت عن البصل فقالت: إنّ آخر طعام أكله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه بصل. والظّاهر أنّ هذا البصل كان مطبوخا، حتّى لم يبق له رائحة كريهة. ويدلّ على هذا قولها: (إنّ آخر طعام أكله فيه بصل) ، ولم تقل أكل البصل. «اطعموا» . وفي رواية «ضعوا فيها السّكّين واذكروا اسم الله تعالى وكلوا» . قال الخطّابيّ: أباحه صلّى الله عليه وسلم على ظاهر الحال؛ ولم يمتنع من أكله لأجل مشاركة المسلمين للكفّار في عمله. وتعقّبه المقريزيّ بتوقّفه على نقل، إذ لم يكن بفارس والشّام حينئذ أحد من المسلمين. قال الشّامي: وهو ظاهر لا شكّ فيه. (وأمّا البصل) والثّوم والكرّاث!؟ (فروى أبو داود في «سننه» ) ، والنّسائيّ، والتّرمذيّ في «الشمائل» ، وأحمد، والبيهقيّ (عن عائشة) «أمّ المؤمنين» الصّدّيقة بنت الصّديق (رضي الله تعالى عنها) وعن أبيها. (أنّها سئلت عن البصل) ، والسّائل لها أبو زياد خيار بن سلمة، قال: سألتها عن البصل، (فقالت: إنّ آخر طعام أكله رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه بصل) أي: مطبوخ، كما قال: (والظّاهر أنّ هذا البصل كان مطبوخا، حتّى لم يبق له رائحة كريهة. ويدلّ على هذا) الاحتمال (قولها: إنّ آخر طعام أكله) صلى الله عليه وسلم (فيه بصل، ولم تقل أكل البصل!) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ......... وقد صرّح البيهقيّ بذلك؛ فقال: كان مشويّا في قدر، أي: مطبوخا. كما نقله الزّرقاني في «شرح المواهب» ، وكأن المصنّف لم يستحضر كلام الزّرقاني، فأبدى هذا الاحتمال. وقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلم في «الصّحيحين» أنّه منع آكله نيّا من دخول المسجد، لأنه يؤذي بريحه، فروى البخاريّ ومسلم، وغيرهما عن جابر: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أكل الثّوم والبصل والكرّاث فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» وأنه أتي بقدر فيها خضراوات من بقول؛ فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: «قرّبوها» إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، قال: «كل، فإنّي أناجي من لّا تناجي» . وكان عليه الصلاة والسلام يترك الثوم دائما، لأنه يتوقّع مجيء الملائكة والوحي كلّ ساعة. روى أبو نعيم في «الحلية» ، والخطيب في «التاريخ» عن أنس: كان لا يأكل الثّوم ولا البصل ولا الكرّاث؛ من أجل أن الملائكة تأتيه، وأنّه يكلّم جبريل. ولمسلم من حديث أبي أيوب في قصّة بعثه إليه بطعام فيه ثوم؛ فلم يأكل منه، وقال: «لكنّي أكرهه من أجل ريحه» . ويقاس على هؤلاء الفجل وكلّ بقلة كريهة. قال النّوويّ: اختلف أصحابنا في حكم الثوم- بضمّ المثلّثة- في حقّه صلّى الله عليه وسلم وكذلك البصل والكرّاث ونحوها من كلّ ما له رائحة كريهة!! فقال بعض أصحابنا: هي محرّمة عليه، وهو مذهب مالك. والأصحّ عندنا أنّها مكروهة في حقّه كراهة تنزيه؛ ليست محرّمة، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام «لا» في جواب قول السائل «أحرام هي؟» . ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث: ليس بحرام في حقّكم دوني، لأني أناجي من لا تناجون. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وكان أحبّ الصّباغ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلّ. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نعم الإدام الخلّ» . قال في «الفتح» : حجّة التحريم أنّ العلة في المنع ملازمة الملك له، وأنّه ما من ساعة إلا والملك يمكن أن يلقاه فيها صلّى الله عليه وسلم فينبغي لمحبّه موافقته عليه الصلاة والسلام في ترك الثوم ونحوه وإن جاز له! وكراهة ما يكرهه، فإنّ من أوصاف المحبّ الصادق أن يحبّ ما يحبّه محبوبه، ويكره ما يكرهه لأجل الموافقة، وإن كانت الحكمة التي ترك المصطفى الأكل لأجلها ليست في غيره. انتهى «زرقاني» . (و) أخرج أبو الشّيخ بإسناد ضعيف، وأبو نعيم في «الطب» : كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان أحبّ الصّباغ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخلّ) أي: هو أحبّ شيء يصبغ به الخبز، بأن تغمس اللقمة فيه وتؤكل؛ فيكون إداما للخبز، كما ورد: «نعم الإدام الخلّ» وسيأتي. (و) أخرج مسلم، والترمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه كلّهم (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «نعم الإدام الخلّ» ) . ورواه الإمام أحمد، ومسلم، وأصحاب «السّنن» ، عن جابر رضي الله تعالى عنه. قال العلقميّ في «شرح الجامع الصغير» : وقد ورد حديث: «نعم الإدام الخلّ» من رواية جمع من الصّحابة أفردوا بجزء. وهو حديث مشهور كاد أن يكون متواترا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكّة على أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها وكان جائعا، فقال لها: «أعندكم طعام آكله؟» ، ... قال ابن القيّم: هذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر لتيسّره دون غيره؛ لا تفضيل له على غيره كما ظنّه بعضهم، إذ المدح إنما يقتضي فضله في نفسه؛ لا على غيره. قال: وسبب الحديث يدلّ على ذلك، وهو أنه دخل على أهله يوما، فقدّموا له خبزا؛ فقال: «ما عندكم شيء من إدام؟» فقالوا: ما عندنا إلّا خلّ. فقال: «نعم الإدام الخلّ» . والمقصود أنّ أكل الخبز مع الأدم من أسباب حفظ الصّحة، بخلاف الاقتصار على أحدهما، فقد يتولّد منه أمراض! وسمّي الأدم «إداما» لإصلاحه الخبز، وجعله ملائما لحفظ الصّحة. وليس في هذا تفضيل للخلّ على اللّحم واللّبن والعسل والمرق. ولو حضر لحم أو لبن؛ لكان أولى بالمدح منه، فقال هذا جبرا لخاطر وتطييبا لقلب من قدّمه له، سواء التي سألها فقالت «إلّا خلّ» ؛ أو غيرها، لا تفضيلا له على سائر أنواع الإدام، فلا ينافي أحاديث مدح اللّحم والثّريد وغيرهما. (و) أخرج البيهقي في «الشعب» (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة على أمّ هانىء) - بهمز في آخره- بنت أبي طالب، أخت عليّ. واسمها: فاختة، لها صحبة وأحاديث- وتقدمت ترجمتها- (رضي الله تعالى عنها؛ وكان جائعا؛ فقال لها: «أعندكم طعام آكله؟» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 فقالت: إنّ عندي لكسرا يابسة، وإنّي لأستحيي أن أقدّمها إليك. فقال: «هلمّيها» ، فكسّرها في ماء، وجاءته بملح، فقال: «ما من إدام؟» ، فقالت: ما عندي إلّا شيء من خلّ، فقال: «هلمّيه» . فلمّا جاءته به.. صبّه على طعامه؛ فأكل منه، ثمّ حمد الله عزّ وجلّ، وأثنى عليه، ثمّ قال: «نعم الإدام الخلّ، يا أمّ هانىء؛ لا يقفر بيت فيه خلّ» . فقالت: إنّ عندي، لكسرا) - بكسر الكاف، وفتح السّين المهملة، جمع كسرة؛ مثل سدرة وسدر، وهي: القطعة من الخبز (يابسة، وإنّي لأستحيي أن أقدّمها إليك) ، لحقارتها في جنب عظمة المصطفى صلّى الله عليه وسلم. (فقال) تطييبا لخاطرها (: «هلمّيها» ) ؛ أي أحضريها وهو فعل أمر على لغة تميم. (فكسّرها في ماء) لإساغتها (وجاءته بملح؛ فقال) : أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (ما من إدام؟» . فقالت: ما عندي إلّا شيء من خلّ. فقال: «هلمّيه» ) أي: أحضريه. (فلمّا جاءته به صبّه على طعامه؛ فأكل منه، ثمّ حمد الله عزّ وجلّ، وأثنى عليه، ثمّ قال: «نعم الإدام الخلّ؛ يا أمّ هانىء لا يقفر) أي: لا يخلو (بيت فيه خلّ» ) صفة لبيت. والفصل بين الصفة والموصوف بما يتعلّق بعامل الموصوف سائغ. وفيه الحثّ على عدم النّظر للخبز والخلّ بعين الحقارة، وأنّه لا بأس بسؤال الطعام ممّن لا يستحي السائل منه؛ لصدق المحبّة، والعلم بودّ المسؤول. وقد أخرج هذا الحديث التّرمذيّ، والطّبرانيّ، وأبو نعيم عن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «أعندك شيء؟» . فقالت: لا، إلا خبز يابس وخلّ. فقال «هاتي؛ ما أقفر بيت من أدم فيه خلّ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وعن أمّ سعد رضي الله تعالى عنها قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة وأنا عندها، فقال: «هل من غداء؟» ، فقالت: عندنا خبز وتمر وخلّ، فقال: «نعم الإدام الخلّ، اللهمّ؛ بارك في الخلّ؛ فإنّه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يقفر بيت فيه خلّ» . وهذا مدح للخلّ بحسب الوقت- كما قاله ابن القيّم- ... (و) في الباب عند ابن ماجه بسند ضعيف (عن أمّ سعد) بنت زيد بن ثابت الأنصاريّة (رضي الله تعالى عنها) ، قال ابن عبد البرّ: لها أحاديث؛ منها الأمر بذمّ الحجامة، من رواية محمّد بن زاذان عنها. وقيل: لم يسمع منها، بل بينهما واسطة هو عبد الله بن خارجة عنها؛ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم (قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على عائشة؛ وأنا عندها، فقال: «هل من غداء؟» ) الغداء- بفتح الغين المعجمة، والدّال المهملة والمدّ-: طعام الغداة. (فقالت: عندنا خبز وتمر وخلّ. فقال: «نعم الإدام الخلّ؛ اللهمّ) أي: يا الله (بارك) ، أي: ضع البركة التي هي فيض إلهيّ (في الخلّ، فإنّه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يقفر) أي: لم يخل (بيت) من القفر، وهو الأرض الخالية من الماء، والمفازة لا ماء فيها ولا زاد، ودار قفر خالية من أهلها. وأقفرت الدّار: خلت. ووهم من جعله بالفاء مع القاف «1» (فيه خلّ» ) صفة بيت. وفي الحديث الحثّ على عدم النّظر للخبز والخلّ بعين الاحتقار. والله أعلم. (وهذا مدح للخلّ بحسب) بموحّدة (الوقت) الحاضر لتيسّره دون غيره؛ (كما قاله) الحافظ (ابن القيّم) الحنبليّ رحمه الله تعالى؛ يعني: أنّ المتيسّر حقيق بأن يوصف بالحسن ذلك الوقت، لا لأنه نفيس في ذاته.   (1) أي قبلها؛ يفقر!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 لا لتفضيله على غيره، بل هو جبر لقلب من قدّمه له صلّى الله عليه وسلّم، وتطييبا لنفسه، لا تفضيلا له على غيره؛ إذ لو حضر نحو لحم أو عسل أو لبن.. لكان أحقّ بالمدح. وبهذا علم أنّه لا تنافي بين هذا وبين قوله: «بئس الإدام الخلّ» . وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضل عائشة على النّساء ... و (لا لتفضيله على غيره) ؛ كما ظنّه بعضهم، إذ المدح إنّما يقتضي تفضيله في نفسه؛ لا على غيره، ألا ترى أنّ حديث «ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها» مع أنّ الوتر أفضل منهما!! (بل هو جبر لقلب من قدّمه له صلّى الله عليه وسلم، وتطييبا لنفسه) ؛ سواء التي سألها فقالت «إلّا خلّ» ؛ أو غيرها (لا تفضيلا له على غيره) ؛ كاللّحم واللّبن والعسل والمرق، (إذ لو حضر نحو لحم أو عسل أو لبن؛ لكان أحقّ بالمدح) منه. (وبهذا) الجواب (علم أنّه لا تنافي بين هذا) المدح المذكور في هذا الحديث. (وبين) الذّمّ المذكور في (قوله: «بئس الإدام الخلّ» ) قال في «كشف الخفا» : وأمّا «بئس الإدام الخلّ» ! فلا أصل له، وفي طلبه صلّى الله عليه وسلم الإدام إشارة إلى أنّ أكل الخبز مع الإدام من أسباب حفظ الصّحّة، بخلاف الاقتصار على أحدهما. قال الحكيم التّرمذيّ في «النوادر» : في الخلّ منافع للدّين والدّنيا. وذكر أنّه بارد يقطع حرارة السّموم ويطفيها. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشمائل» (عن أبي موسى الأشعريّ) : عبد الله بن قيس (رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «فضل عائشة) الصّديقة بنت الصّدّيق (على النّساء) أي: نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ......... اللاتي في زمنها؛ فلا تكون أفضل من خديجة، بل خديجة أفضل على الأصحّ، لتصريحه صلّى الله عليه وسلم لعائشة بأنه لم يرزق خيرا من خديجة. وفاطمة أفضل منهما؛ أي من عائشة وخديجة!! قال الباجوري: أفضل النّساء مريم بنت عمران، ثم فاطمة الزّهراء، ثمّ خديجة، ثم عائشة التي قد برّأها الله تعالى. وقد نظم بعضهم ذلك فقال: فضلى النّسا بنت عمران ففاطمة ... خديجة ثمّ من قد برّأ الله وهذا هو الذي أفتى به الرّمليّ. وقد قال جمع من الخلف والسّلف: لا يعدل ببضعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحد!! وبه يعلم أنّ بقية أولاده صلّى الله عليه وسلم كفاطمة، وأنّ سبب الأفضليّة ما فيهن من البضعة الشّريفة. ومن ثمّ حكى السّبكي عن بعض أئمة عصره أنّه فضّل الحسن والحسين على الخلفاء الأربعة، أي: من حيث البضعة؛ لا مطلقا. فهم أفضل منهما علما ومعرفة، وأكثر ثوابا وآثارا في الإسلام. قال في «جمع الوسائل» : قلت: إذا لو حظت الحيثيّة؛ فما يوجد أفضل على الإطلاق مطلقا، ولذا قيل: إن عائشة أفضل من فاطمة، لأنّ كلا منهما تكون مع زوجها في الجنّة، ولا شكّ في تفاوت منزلتيهما!! هذا وقد قال السيوطي: في «إتمام الدراية شرح النقاية» : ونعتقد أن أفضل النساء مريم بنت عمران، وفاطمة بنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. روى التّرمذيّ وصحّحه: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسيّة امرأة فرعون» . وفي «الصحيحين» ؛ من حديث علي: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد. وفي «الصحيح» : «فاطمة سيّدة نساء هذه الأمّة» وروى النّسائيّ عن حذيفة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «هذا ملك من الملائكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ......... استأذن ربّه ليسلّم عليّ، وبشّرني أنّ حسنا وحسينا سيّدا شباب أهل الجنّة، وأمّهما سيّدة نساء أهل الجنّة» . وروى الطّبرانيّ عن عليّ مرفوعا: «إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع غضّوا أبصاركم حتّى تمرّ فاطمة بنت محمّد» . وفي هذه الأحاديث دلالة على تفضيلها على مريم؛ خصوصا إذا قلنا بالأصحّ «إنّ مريم ليست نبية» ، وقد تقرّر أن هذه الأمة أفضل من غيرها!!. وروى الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» بسند صحيح لكنّه مرسل: «مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها» . ورواه التّرمذيّ موصولا من حديث عليّ بلفظ: «خير نسائها مريم، وخير نسائها فاطمة» . قال الحافظ ابن حجر: والمرسل يفسّر المتّصل. قلت: يعكّر عليه ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس مرفوعا؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سيّدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثمّ خديجة، ثم آسيّة امرأة فرعون» . وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاطمة سيّدة نساء العالمين بعد مريم بنت عمران» . وأخرج ابن أبي شيبة عن مكحول؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده، ولو علمت أنّ مريم بنت عمران ركبت بعيرا ما فضّلت عليها أحدا» . ثم قال: قال السّيوطي: إنّ أفضل أمّهات المؤمنين خديجة، وعائشة. قال صلّى الله عليه وسلم: «كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا مريم وآسيّة وخديجة، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام» . وفي التفضيل بينهما أقوال؛ ثالثها الوقف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 كفضل الثّريد على سائر الطّعام» . قلت: وقد صحّح العماد بن كثير أن خديجة أفضل، لما ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة حين قالت: قد رزقك الله خيرا منها. فقال لها: «لا؛ والله ما رزقني الله خيرا منها؛ آمنت بي حين كذّبني الناس، وأعطتني ما لها حين حرمني النّاس» . وسئل ابن داود؛ فقال: عائشة أقرأها النبيّ صلّى الله عليه وسلم السّلام من جبريل. وخديجة أقرأها السّلام جبريل من ربّها، فهي أفضل على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم. فقيل: فأيّ أفضل؛ فاطمة أم أمّها؟ قال: فاطمة بضعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فلا نعدل بها أحدا. وسئل السّبكيّ، فقال: الذي نختاره وندين الله به: أنّ فاطمة بنت محمد أفضل، ثمّ أمّها خديجة، ثم عائشة. وعن ابن العماد أنّ خديجة إنما فضّلت باعتبار الأمومة؛ لا السّيادة. انتهى. والحاصل: أنّ الحيثيات مختلفة، والروايات متعارضة والمسألة ظنية. والتّوقف لا ضرر فيه قطعا. فالتسليم أسلم. والله أعلم (كفضل الثّريد) - بفتح الثاء المثلّثة؛ فعيل بمعنى مفعول-. وهو الخبز المأدوم بالمرق، سواء كان مع اللّحم؛ أو لم يكن، لكنّ الأوّل ألذّ وأقوى، وهو الأغلب. قال بعض الأطباء: الثّريد من كلّ طعام أفضل من المرق؛ فثريد اللّحم أفضل من مرقه، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه. وفي «النهاية» : بل اللّذّة والقوة إذا كان اللحم نضيجا في المرق أكثر مما في نفس اللّحم. قال الأطبّاء: الثّريد يعيد الشّيخ إلى صباه. (على سائر الطّعام» ) أي: باقي الأطعمة من جنسه بلا ثريد، لما في الثّريد من النّفع، وسهولة مساغه وتيسّر تناوله، وبلوغ الكفاية منه بسرعة، واللذّة والقوّة وقلّة المؤنة في المضغ، فشبّهت به؛ لما أعطيت من حسن الخلق، وحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: أو لم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... الخلق، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتّحبّب إلى البعل. فهي تصلح للتّبعّل والتحدّث والاستئناس بها، والإصغاء إليها. وحسبك أنها عقلت من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النّساء، وروت ما لم يرو مثلها من الرّجال!!. وفي الحديث إشارة إلى أنّ الفضائل التي اجتمعت في عائشة لا توجد في جميع النّساء؛ من كونها امرأة أفضل الأنبياء، وأحبّ النساء إليه، وأعلمهنّ وأنسبهنّ وأحسبهنّ، وإن كانت لخديجة وفاطمة وجوه أخر من الفضائل البهيّة، والشمائل العليّة. ولكنّ الهيئة الجامعيّة في الفضيلة المشبّهة بالثريد لم توجد في غيرها. والله أعلم. وحديث أبي موسى الذي ذكره المصنّف! رواه الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم، والتّرمذيّ، وابن ماجه، بلفظ: «كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلّا آسيّة امرأة فرعون، ومريم بنت عمران. وإنّ فضل عائشة على النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام» . ورواه البخاريّ، ومسلم؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. (و) أخرج أبو داود، والترمذيّ في «الجامع» ، و «الشمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: «أو لم رسول الله صلّى الله عليه وسلم) من الولم؛ وهو: الاجتماع، والوليمة: كلّ طعام يتّخذ لحادث سرور أو حزن. ووليمة النّكاح: طعام يصنع عند عقد النّكاح أو بعده، وهي سنّة مؤكّدة. والأفضل فعلها بعد الدّخول؛ اقتداء به صلّى الله عليه وسلم. ونقل القاضي عياض اتفاق العلماء على وجوب الإجابة في وليمة العرس، وقال: واختلفوا فيما سواها؛ فقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 على صفيّة بتمر وسويق؛ وهو: ما يعمل من الحنطة، أو الشّعير. وعن سلمى زوج أبي رافع ... وقال أهل الظّاهر: تجب الإجابة إلى كلّ دعوة من عرس وغيره. وبه قال بعض السّلف، لكن محلّه ما لم يكن هناك مانع شرعيّ؛ أو عرفيّ!!. ومعنى الحديث: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم صنع وليمة (على صفيّة) بنت حييّ بن أخطب اليهوديّ من نسل هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، زوجة سلام بن أبي الحقيق- بالتصغير- شريف خيبر، قتل يوم خيبر فسبيت صفيّة؛ فاصطفاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمّا ذكر له جمالها، وكانت عروسا فخرج حتى بلغ الصّهباء حلّت له؛ أي: طهرت من الحيض فبنى بها، وصنع حيسا (بتمر وسويق. وهو) أي: السّويق (: ما يعمل من الحنطة، أو الشّعير) وهو معروف عند العرب. وفي «الصحيحين» : أولم عليها بحيس، وهو الطعام المتّخذ من التّمر والأقط والسّمن، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق؛ كذا في «النهاية» . وضعه في نطع، ثم قال لأنس: «آذن من حولك» ؛ فكانت وليمته عليها. قال: ثم خرجنا إلى المدينة؛ فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحوّي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعير فيضع ركبته، وتضع صفيّة رجلها على ركبته لتركب. وفي رواية: فأعتقها وتزوّجها. وفي أخرى: قال له: «خذ جارية من السّبي غيرها» ، وفي رواية: «أنّها صارت لدحية، ثم للنبيّ صلّى الله عليه وسلم اشتراها بسبعة أرؤس» ، ولا تعارض، فلعلّه قال له أولا «خذ جارية» ... ثم أكمل له سبعة. وإنما أخذها منه! رعاية للمصلحة العامّة: أنّها بنت ملكهم فخاف من اختصاص دحية بها تغيّر خواطر نظائره، وكانت رأت أنّ القمر سقط في حجرها. فتؤوّل بذلك، وماتت سنة: خمسين. ودفنت بالبقيع رضي الله تعالى عنها. (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ لها؛ (عن) أمّ رافع (سلمى) - بفتح أوّله- (زوج أبي رافع) ، واسمه أسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 - مولى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم-: أنّ الحسن بن عليّ، ... (مولى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ، يقال: إنها مولاة صفية بنت عبد المطلب، ويقال لها أيضا مولاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكانت تخدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ قالت: ما كان يكون برسول الله صلّى الله عليه وسلم قرحة إلّا أمرني أن أضع عليها الحنّاء. وهي قابلة إبراهيم ابن المصطفى، وغاسلة فاطمة بنت عميس، وقابلة فاطمة بنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في ابنيها الحسنين، وغاسلتها مع عليّ رضي الله تعالى عنهم. وزوجها أبو رافع؛ يقال: اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم. وقيل: سنان. وقيل غير ذلك. غلبت عليه كنيته؛ وكان قبطيّا، وكان للعبّاس فوهبه للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فلما بشّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه. قال الحافظ ابن حجر: والمحفوظ أنّه أسلم لما بشّر العبّاس بأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم انتصر على أهل خيبر؛ وذلك في قصّة جرت، وكان إسلامه قبل بدر ولم يشهدها، وشهد أحدا وما بعدها. روى عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وعن عبد الله بن مسعود، وروى عنه خلق؛ منهم أولاده رافع، والحسن، وعبيد الله، والمغيرة، وأحفاده: الحسن وصالح وعبيد الله؛ أولاد عليّ بن أبي رافع، والفضل بن عبيد الله بن أبي رافع. ومات بالمدينة المنورة قبل قتل عثمان بيسير رضي الله تعالى عنه: (أنّ الحسن بن عليّ) بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ أبا محمد سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وريحانته. أمير المؤمنين، خامس الخلفاء الراشدين، ولد في نصف شهر رمضان؛ سنة: - 3- ثلاث من الهجرة بالمدينة المنوّرة، وأمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو أكبر أولادها وأوّلهم؛ وكان عاقلا حليما؛ محبا للخير، فصيحا وسيما من أحسن الناس منطقا وبديهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وابن عبّاس وابن جعفر رضي الله تعالى عنهم.. أتوها، فقالوا: اصنعي لنا طعاما ممّا كان يعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. حجّ عشرين حجّة ماشيا، ودخل أصبهان غازيا مجتازا إلى غزاة جرجان؛ ومعه عبد الله بن الزّبير. وبايعه أهل العراق بالخلافة بعد مقتل أبيه سنة: - 40- أربعين هجرية. وأشاروا عليه بالمسير إلى الشام لمحاربة معاوية بن أبي سفيان، فأطاعهم وزحف بمن معه، وبلغ معاوية خبره؛ فقصده بجيشه وتقارب الجيشان. فهال الحسن أن يقتتل المسلمون، ولم يستشعر الثّقة بمن معه، وطلب منه معاوية الصّلح، فكتب إلى معاوية يشترط شروطا للصّلح، ورضي معاوية، فخلع الحسن نفسه من الخلافة، وسلّم الأمر لمعاوية في بيت المقدس سنة: - 41- إحدى وأربعين هجريّة، وسمّي هذا العام «عام الجماعة» لاجتماع كلمة المسلمين فيه. وانصرف الحسن إلى المدينة المنوّرة راجعا، حيث أقام بها إلى أن توفّي مسموما سنة: - 50- خمسين من الهجرة، ومدّة خلافته ستة أشهر وخمسة أيام. وولد له أحد عشر ابنا وبنت واحدة! روي له عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أحاديث، ودفن بالبقيع رضي الله تعالى عنه. (وابن عبّاس) عبد الله (وابن جعفر) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؛ تقدمت ترجمته (رضي الله تعالى عنهم؛ أتوها) زائرين، لكونها خادمة المصطفى صلّى الله عليه وسلم وطبّاخته (فقالوا: اصنعي لنا طعاما ممّا) ؛ أي: من الطّعام الّذي (كان يعجب) - روي: بضمّ أوّله، وكسر ثالثه؛ من الإعجاب، وروي: بفتح الياء والجيم؛ من العجب، من باب علم- (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) بنصبه على الأوّل، ورفعه على الثّاني. وقال في «جمع الوسائل» : يعجب- على صيغة المعلوم؛ إما من الإعجاب، ف «رسول الله» مفعوله، والضمير المستتر فيه للموصول. أو من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ويحسن أكله. فقالت: يا بنيّ؛ لا تشتهيه اليوم. قال: بلى، اصنعيه لنا. قال: فقامت، فأخذت شيئا من شعير، فطحنته، ثمّ العجب- بفتحتين؛ من باب علم- فهو فاعله وضمير الموصول في الصّلة محذوف، أي مما كان يعجبه صلّى الله عليه وسلم. ويمكن أن يكون الرسول فاعلا في الوجه الأول؛ بناء على أنّ معناه يستحسنه. وبالجملة إن كان يعجب من الإعجاب يمكن أن يكون الرسول مرفوعا ومنصوبا؛ بناء على أن معنى الإعجاب الاستحسان، وإن كان من العجب! فهو مرفوع، وكذا الحال فيما وقع ثانيا في قوله: (ويحسن) ؛ من الإحسان، أو التّحسين. فهو على الأول بسكون الحاء وتخفيف السّين، وعلى الثّاني بفتح الحاء وتشديد السّين؛ وعلى كلّ فهو بضمّ الياء. (أكله) بالنّصب؛ وهو بفتح الهمزة، وسكون الكاف مصدر. (فقالت: يا بنيّ) - روي مصغّرا؛ للشّفقة، وأفردته مع أنّ الأحقّ الجمع؛ إمّا إيثارا لخطاب أعظمهم؛ وهو الحسن، أو لأنّهم لكمال الملاءمة والارتباط والمناسبة بينهم واتّحاد بغيتهم صاروا بمنزلة شخص واحد. وروي كما قال بعض الشّرّاح: يا بنيّ؛ مكبّرا. وقال آخر: يدفعه (لا تشتهيه) بالإفراد، لكن حيث ثبت رواية فلا دفع. فالمعنى: لا تشتهيه نفوسكم (اليوم) أي زمن اعتياد النّاس الأطعمة اللّذيذة التي تطبخها الأعاجم المختلطة بكم، فكلوا ما يوافق عادتكم وأبدانكم، وإن كان المختلط غير ما أكله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن ذلك أمر يتفاوت بالأزمنة وتغيّر العادات، واستعينوا به على أداء العبادة. (قال: بلى) نشتهيه على سبيل البركة (اصنعيه لنا. قال) أي: الرّاوي عن سلمى، أو أحد الثّلاثة: (فقامت) أي: سلمى (فأخذت شيئا من شعير) - بالتّنكير، وروي بالتّعريف- (فطحنته، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 جعلته في قدر، وصبّت عليه شيئا من زيت، ودقّت الفلفل والتّوابل، فقرّبته إليهم. فقالت: هذا ممّا كان يعجب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويحسن أكله. قوله (التّوابل) : هي أدوية حارّة يؤتى بها من الهند، وقيل: إنّها مركّبة من الكزبرة والزّنجبيل والكمّون. ويؤخذ من هذا: أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يحبّ تطييب الطّعام بما تيسّر وسهل، وأنّ ذلك لا ينافي الزّهد. جعلته) ؛ أي دقيقه (في قدر) - بكسر أوّله، أي: برمة- (وصبّت عليه شيئا من زيت) زيت الزّيتون، أو غيره (ودقّت الفلفل) - بضمّ الفاءين وسكون اللّام الأولى؛ كهدهد- مصروف هذا هو الرواية، والواحدة فلفلة، وفي «القاموس» : الفلفل كهدهد وزبرج: حبّ هنديّ، والأبيض أصلح، وكلاهما نافع لأشياء ذكرها. (والتّوابل) - بمثنّاة فوقيّة؛ بزنة المساجد-: أبزار الطّعام. وسيأتي، (فقرّبته) أي: فوضعته على الطّعام وقدّمته (إليهم. فقالت: هذا ممّا كان يعجب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) - بالضبطين- (ويحسن أكله) بالوجهين. (قوله: التّوابل) بالتّاء المثنّاة قبل الواو، وبالباء بعد الألف؛ جمع تابل- بفتح الباء، وقد تكسر- (: هي) أبزار الطّعام، وهي (أدوية حارّة يؤتى بها من الهند. وقيل: إنّها مركّبة من الكزبرة) - بضمّ الباء وفتحها-: نبات معروف (والزّنجبيل) : هو عروق تسري في الأرض حرّيفة تحذي اللّسان وهو ما ينبت في بلاد العرب، له منافع كثيرة (والكمّون) ؛ كتنّور: حبّ معروف أدقّ من السّمسم، واحدته كمّونة، وهو عربيّ. قال الجواليقي: وعوامّ الناس تفرق بين التوابل والأبزار، والعرب لا تفرّق بينهما!! (ويؤخذ من هذا) الحديث؛ كما في الباجوريّ وغيره: (أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ تطييب الطّعام بما تيسّر وسهل) من أنواع الأبازير، (وأنّ ذلك لا ينافي الزّهد) في الدّنيا ولذّاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال في غزوة الخندق: انكفيت- أي: انطلقت إلى امرأتي- فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جوعا شديدا. فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن، ... (وعن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ- وتقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: في غزوة الخندق) وهي الأحزاب؛ قال: لما حفر الخندق رأيت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم خمصا شديدا، ف (انكفيت) قال الحافظ ابن حجر: بفاء مفتوحة بعدها تحتيّة ساكنة، أي: انقلبت، وأصله انكفأت؛ بهمزة، وكأنه سهّلها. وقال القسطلّانيّ: بالهمز، وقد تبدل ياء. لكن قال الحافظ أبو ذرّ: صوابه: فانكفأت بالهمز. وقال في «التنقيح» : أصله الهمزة؛ من كفأت الإناء، وتسهّل! قال في «المصابيح» : لكن ليس القياس في تسهيل مثله إبدال الهمزة ياء، أي: انقلبت. وقال المصنّف تبعا للباجوريّ. (أي: انطلقت إلى امرأتي) : سهيلة بنت مسعود بن أوس بن مالك بن سوّاد الأنصارية الظفريّة، زوجة جابر، وأمّ ولده عبد الله، ذكرها ابن حبيب في المبايعات؛ كما في «الإصابة» رضي الله تعالى عنها. (فقلت) لها (: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم) خمصا أي: (جوعا شديدا!. فأخرجت جرابا) - بكسر الجيم- (فيه صاع من شعير. ولنا بهيمة) - بضمّ الموحّدة وفتح الهاء؛ مصغّر بهمة-: وهي الصّغيرة من أولاد الغنم. وفي رواية: عناق، وهي الأنثى من المعز، (داجن) - بكسر الجيم-: التي تترك في البيت، ولا تخرج إلى المرعى، ومن شأنها أن تسمن. وقد زاد في رواية أحمد: سمينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 فذبحتها، وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئته صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرته الخبر سرّا، وقلت له: تعال أنت ونفر معك. (فذبحتها) - بسكون الحاء، وضمّ التّاء- فالذابح جابر. (وطحنت) - بسكون التّاء الفوقيّة، قبلها نون؛ فحاء مهملة، فطاء مهملة: مفتوحات- أي: امرأتي (الشّعير) . وفي رواية أحمد: فأمرت امرأتي فطحنت لنا الشعير وصنعت لنا منه خبزا وفي رواية في «الصحيح» ؛ من طريق آخر عن جابر: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق؛ فقال: «أنا نازل» ثم قام، وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا. فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم المعول فضرب؛ فعاد كثيبا أهيل أو أهيم. فقلت: يا رسول الله؛ ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلّى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير (حتّى جعلنا) ؛ أي: وشرعنا في تهيئته حتى جعلنا- وللكشميهني: جعلت، أي المرأة- (اللّحم في البرمة) - بضمّ الموحّدة، وسكون الرّاء-: القدر مطلقا، أو من حجارة. وفي رواية: ففرغت إلى فراغي أي معه، وقطّعتها في برمتها وغطتها. (ثمّ جئته صلّى الله عليه وسلم) زاد في رواية «الصحيح» : والعجين قد انكسر؛ أي: اختمر. والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته (وأخبرته الخبر سرّا؛ وقلت له) : يا رسول الله؛ ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت المرأة صاعا من شعير كان عندنا؛ ف (تعال أنت ونفر معك) دون العشرة من الرّجال. وفي رواية: فقلت: طعيم لي صنعته، فقم أنت يا رسول الله؛ ورجل أو رجلان. ولأحمد: وكنت أريد أن ينصرف صلّى الله عليه وسلم وحده. قال: «كم هو؟» فذكرت له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فصاح: «يا أهل الخندق؛ إنّ جابرا صنع سورا فحيّ هلا بكم» ، قال: «كثير طيّب، قل لها لا تنزع البرمة؛ ولا الخبز من التّنّور حتّى آتي» . (فصاح) أي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: ( «يا أهل الخندق؛ إنّ جابرا صنع سورا) - بضمّ السّين المهملة، وسكون الواو بغير همز-: قال ابن الأثير: أي طعاما يدعو الناس إليها، أو هو الطعام مطلقا. وأمّا الذي بالهمز!! فهو البقيّة، وليس مرادا هنا. ولفظة سور- بدون همز- فارسية، ولعله صلّى الله عليه وسلم عبّر بها دون «طعاما» !! لعمومه في كلّ مأكول، بخلاف الطّعام فيختصّ بالحنطة عند أهل مكّة، فقد يفهم بعض السّامعين خلاف المراد، أو لبيان الجواز. (فحيّ) - بحاء مهملة وشدّ التّحتيّة- (هلا) - بفتح الهاء واللّام المنوّنة مخفّفة- وفي رواية: أهلا (بكم» ) بزيادة ألف، والصواب حذفها؛ قاله الحافظ ابن حجر. وهي كلمة استدعاء فيها حثّ على سرعة الإجابة، أي: هلمّوا مسرعين. وفي رواية في «الصحيح» : فقال: «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار. فلما دخل على امرأته؛ قال: ويحك، جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم. قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. وفي سياقه اختصار. وبيانه في رواية يونس بن بكير في «زيادات المغازي» قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت جاء الخلق على صاع من شعير وعناق!! فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت؛ جاءك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجند أجمعين!!. فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم. فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن أخبرناه بما عندنا!! فكشفت عني غمّا شديدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وقال: «لا تنزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينتكم حتّى أجيء» . فلمّا جاء.. أخرجت له العجين؛ فبصق فيه، ... وفي رواية في «الصحيح» : فجئت امرأتي، فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الذي قلت!! ويجمع بينهما بأنّها أوّلا أمرته أن يعلمه بالصورة، فلما قال لها «إنه جاء بالجميع» ؛ ظنّت أنّه لم يعلمه؛ فخاصمته، فلما أعلمها أنّه أعلمه سكن ما عندها، لعلمها بإمكان خرق العادة. ودلّ ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها. وقد وقع لها في قصة التمر: أن جابرا أوصاها لمّا زارهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أن لا تكلّمه. فلما أراد صلّى الله عليه وسلم الانصراف نادته: يا رسول الله؛ صلّ عليّ وعلى زوجي. فقال: «صلّى الله عليك وعلى زوجك» . فعاتبها جابر، فقالت له: أكنت تظنّ أنّ الله يورد رسوله بيتي، ثم يخرج؛ ولا أسأله الدعاء!! أخرجه أحمد بإسناد حسن؛ ذكره الحافظ ابن حجر. (وقال) : أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لجابر (: «لا تنزلنّ) - بضم التّاء الفوقيّة وكسر الزّاي، وضمّ اللّام- (برمتكم) نصب على المفعولية، ولأبي ذرّ: «لا تنزلنّ» - بفتح اللام والزاي؛ مبنيّ للمفعول- برمتكم- بالرفع نائب الفاعل. (ولا تخبزنّ) - بفتح المثنّاة الفوقية، وكسر الموحّدة، وضمّ الزّاي وشدّ النون- (عجينتكم) - بالنّصب، ولأبي ذرّ بضمّ الفوقيّة وفتح الموحّدة والزاي؛ ورفع «عجينكم» (حتّى أجيء» ) إلى منزلكم. (فلمّا جاء أخرجت) ؛ أي المرأة (له العجين) ولفظ البخاريّ: فجئت وجاء صلّى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت إلى امرأتي؛ فقالت: بك وبك. فقلت: فعلت الذي قلت، فأخرجت له عجينا (فبصق فيه) بالصاد. ولأبوي ذرّ والوقت، وابن عساكر: فبسق- بالسّين- ويقال بالزّاي أيضا، لكن قال النّوويّ: بالصّاد في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسّين؛ وهي لغة قليلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا، فبصق، وبارك، ثمّ قال: «ادعي خابزة فلتخبز معك، واغرفي من برمتكم، ولا تنزلوها» . والقوم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه، وانصرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ- أي: تغلي- كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو. (وبارك) في العجين: أي دعا فيه بالبركة، (ثمّ عمد) - بفتح الميم: قصد- (إلى برمتنا فبصق) . زاد الكشميهني: فيها؛ أي البرمة (وبارك) في الطّعام، (ثمّ قال) : أي صلّى الله عليه وسلم لجابر (: «أدع خابزة، فلتخبز) بسكون اللّام (معك) بكسر الكاف! خطابا لزوجة جابر. فخصّه بالأمر بالدّعاء، لأنه صاحب المنزل المشار إليه بإذنه لمن شاء في دخول منزله، وخاطب زوجته بأنه إذا أحضرها يأمرها بالخبز معها؛ أي مساعدتها فيه، ثم تباشر هي غرف الطعام. ولا ينافيه أنّ لفظ البخاريّ: فلتخبز معي، لأنّ المراد: وقولي لها لتخبزي معي؛ أي تعاونيني فيه. ويدلّ عليه قوله: (و) اقدحي أي (اغرفي من برمتكم) والمغرفة: تسمّى المقدحة، وقدحة من المرق: غرفة منه (ولا تنزلوها» ) - بضمّ المثنّاة الفوقية، وكسر الزّاي- أي: البرمة من فوق الأثافي- بفتح الهمزة، والمثلّثة فألف ففاء مكسورة، فتحتيّة مشددة-: حجارة ثلاثة يوضع عليها القدر. (و) هم أي: (القوم) الذين أكلوا (ألف) . وفي «مستخرج أبي نعيم» : وهم سبعمائة، أو ثلثمائة. وللإسماعيلي ثمانمائة، أو ثلثمائة. وفي مسلم: ثلثمائة. قال الحافظ ابن حجر: والحكم للزّائد، لمزيد علمه، ولأنّ القصّة متّحدة. وفي رواية أبي الزّبير عن جابر: وأقعدهم عشرة عشرة يأكلون، (فأقسم بالله، لقد أكلوا حتّى تركوه، و) ؛ انحرفوا أي: (انصرفوا) ومالوا عن الطعام؛ (وإنّ برمتنا لتغطّ) - بكسر الغين المعجمة، وشدّ الطّاء المهملة- (أي: تغلي) وتفور بحيث يسمع لها غطيط (كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو) لم ينقص من ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 رواه البخاريّ ومسلم. وعن جابر أيضا قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت له شاة؛ ... شيء، و «ما» في «كما» كافة، وهي مقحمة لدخول الكاف على الجملة، وهي مبتدأ والخبر محذوف، أي كما هي قبل ذلك. (رواه البخاريّ، ومسلم) في «صحيحيهما» في «كتاب المغازي» من حديث سعيد بن ميناء عن جابر. وأخرجه البخاريّ وحده من رواية أيمن عن جابر بنحوه: وفي آخره: فقال صلّى الله عليه وسلم «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمر البرمة والتنّور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: «كلي هذا، وأهدي فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة» . وفي رواية يونس بن بكير: فما زال يقرّب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا. فقال: «كلي وأهدي» ، فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع. وفي رواية أبي الزّبير عن جابر: فأكلنا نحن وأهديناا لجيراننا، فلما خرج صلّى الله عليه وسلم ذهب ذلك. انتهى. وصريح هذا أنّ الذي باشر الغرف النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فيخالف ظاهر قوله «واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها» ؛ أي: اغرفي من أن مباشرة المرأة!!. ويمكن الجمع بينهما بأنّها كانت تساعده في الغرف. ولم يتعرّض الحافظ ابن حجر، ولا القسطلّانيّ لهذا. والله أعلم. وفي ذلك علم من أعلام نبوّته صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن جابر أيضا) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: من بيته، أو من المسجد (وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار؛ فذبحت له شاة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فأكل منها، وأتته بقناع- أي: طبق من رطب- فأكل منه، ثمّ توضّأ للظّهر، وصلّى، ثمّ انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشّاة، فأكل، ثمّ صلّى العصر، ولم يتوضّأ. يؤخذ منه حلّ ذبح المرأة، لأن الظاهر أنّها ذبحت بنفسها حقيقة، ويحتمل أنّها أمرت بذبحها. والجزم به يحتاج إلى دليل. (فأكل منها) أي: من تلك الشّاة (وأتته) أي: المرأة الأنصاريّة (بقناع) - بقاف مكسورة، فنون، فعين مهملة- (أي: طبق) يعمل من سعف النّخل يؤكل عليه. هذا هو المراد هنا. (من رطب فأكل منه) ؛ أي: من الرّطب (ثمّ توضّأ للظّهر) ، يحتمل أنّه كان محدثا، فلا دلالة فيه على وجوب الوضوء ممّا مسّته النّار، ولا على ندبه، (وصلّى، ثمّ انصرف) من صلاته، أو من محلّها؛ (فأتته بعلالة) - بضمّ العين المهملة- أي بقية (من علالة الشّاة) أي: من بقيّة لحمها. و «من» تبعيضيّة، أو بيانيّة، بل جعلها بيانيّة له وجه وجيه؛ (فأكل) . فيه أنّه لا حرج في الأكل بعد الأكل، بل يندب ذلك جبرا لخاطر المضيف ونحوه؛ كما كان يفعله شيخنا العلّامة السيّد علوي المالكي رحمه الله تعالى، وإن لم يطل فصل؛ ولا انهضم الأوّل، أي إن أمن التّخمة باعتبار عادته، أو قلّة المأكول، أو لم يتخلّل بينهما شرب، لأنه حينئذ أكل واحد، وإلا؛ فهو مضرّ طبّا. وفيه أنّه أكل من لحم في يوم مرّتين! لا أنه شبع في يوم مرّتين؛ كما وهم، إذ لا يلزم من أكله مرّتين الشّبع في كلّ منهما. فمن عارضه بقول عائشة رضي الله تعالى عنها السابق «ما شبع من لحم في يوم مرّتين» !! لم يكن على بصيرة. (ثمّ صلّى العصر؛ ولم يتوضّأ) أي: لكونه لم يحدث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وعن أمّ المنذر رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه عليّ ولنا دوال معلّقة. قالت: فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل، وعليّ معه يأكل. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: «مه يا عليّ، فإنّك ناقه» . ويعلم منه أنّ الوضوء لا يجب مما مسّته النار. والله أعلم. (و) أخرج أبو داود، والتّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» بإسناد حسن- كما قال العراقيّ- (عن أمّ المنذر) اسمها: سلمى بنت قيس بن عمرو الأنصاريّة، من بني النّجار، إحدى خالات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من جهة أبيه؛ بايعت وصلّت إلى القبلتين. لها صحبة، خرّج لها أبو داود والنّسائي (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: دخل عليّ) - بتشديد الياء المثناة- (رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه عليّ ولنا دوال) - بفتح الدال المهملة، وتنوين اللام المكسورة-: أعذاق من بسر النّخل تعلّق، كلما أرطبت أكل منها على التّدريج، واحدتها: دالية. (معلّقة) - بالرّفع، صفة مؤكّدة لدوال- (قالت: فجعل) أي: شرع (رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل، وعليّ معه يأكل) بالجملة عطف على «جعل» (فقال صلّى الله عليه وسلم لعليّ: «مه) ؛ أي: اكفف (يا عليّ، فإنّك ناقه» ) بكسر القاف بعده هاء. اسم فاعل. أي قريب برء من المرض لم تتقرّر صحّتك، نخاف عليك عود المرض؛ إن أكثرت. يقال نقه- بفتح القاف وكسرها- من بابي نفع وتعب؛ إذا برىء من المرض. فالنقاهة حالة بين الصّحة والمرض. قال الأطباء: وأنفع ما يكون الحمية لناقه من المرض، فإنّ طبيعته لم ترجع بعد إلى قوّتها، والقوّة الهاضمة ضعيفة، والطّبيعة قابلة، والأعضاء مستعدّة، فتخليطه يوجب انتكاسا أصعب من ابتداء مرضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 قالت: فجلس عليّ والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأكل. قالت: فجعلت لهم سلقا وشعيرا. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: «من هذا فأصب؛ ... وقد اشتهر على الألسنة: «الحمية رأس الدّواء، والمعدة بيت الدّاء، وعوّدا كلّ جسد ما اعتاد» . وهو ليس بحديث، وإنّما هو من كلام الحارث بن كلدة، طبيب العرب. ولا ينافي نهيه لعليّ خبر ابن ماجه أنّه عاد رجلا فقال له: «ما تشتهي؟» قال: كعكا. وفي لفظ: خبز برّ. فقال: «من عنده خبز فليبعث إلى أخيه، وإذا اشتهى مريض أحدكم شيئا؛ فليطعمه» . لأنّ العليل إذا اشتدّت شهوته لشيء ومالت إليه طبيعته، فتناول منه القليل لا يحصل له منه ضرر، لأنّ المعدة والطّبيعة يتلقّيانه بالقبول؛ فيندفع عنه ضرره، بل ربّما كان ذلك أكثر نفعا من كثير من الأدوية التي تنفر منها الطّبيعة. وهذا سرّ طبيّ لطيف. (قالت: فجلس عليّ) أي: وترك أكل الرّطب (والنّبيّ صلّى الله عليه وسلم يأكل) . فيه جواز الأكل قائما بلا كراهة، لكنّ تركه أفضل كما في «الأنوار» «1» . (قالت: فجعلت) أي: فبسبب أمره صلّى الله عليه وسلم عليا بالتّرك لكونه ناقها؛ جعلت (لهم) المراد بالجمع ما فوق الواحد، وقيل: كان معهما ثالث. واقتصر على ذكر علي فيما سبق!! لداعي بيان ما جرى بينه وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلم. (سلقا) - بكسر السّين المهملة، وسكون اللّام- وهو: النّبت المشهور ويقال له «سلك» بالكاف آخره. (وشعيرا) لأنّه نافع. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لعليّ: «من هذا فأصب) أي: كل. فالفاء في جواب شرط محذوف، أي: إذا حصل هذا فكل منه معنا.   (1) للأردبيلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فإنّ هذا أوفق لك» . وعن عبد الله بن سلام ... وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر أي: أصب من هذا؛ لا من غيره. أي: خصّه بالإصابة ولا تتجاوزه. وفي التعبير ب «أصب» إشارة إلى أنّ أكله منه هو الصّواب. (فإنّ هذا أوفق) أي: موافق (لك» ) فأفعل التّفضيل ليس على بابه، وإنما كان موافقا له، لأن ماء الشّعير نافع للنّاقه جدا، لا سيّما إذا طبخ بأصول السّلق فإنّه من أوفق الأغذية لضعيف المعدة، بخلاف الرّطب والعنب فإنّ الفاكهة تضرّ بالنّاقه لسرعة استحالتها، وضعف المعدة عن دفعها. وفيه أنّ التّداوي مشروع، ولا ينافي التّوكّل اقتداء بسيّد المتوكّلين صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج أبو داود والتّرمذيّ في «الشمائل» بسند حسن أو صحيح (عن عبد الله بن سلام) بن الحارث الإسرائيليّ. وفي بعض النّسخ: عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه. وهذه النّسخة أصحّ، فالحديث من مسند يوسف بن عبد الله بن سلام، لا من مسند أبيه، وكلّ منهما صحابيّ جليل. أما يوسف! فولد في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وحمل إليه، وأقعده في حجره، وسمّاه يوسف، ومسح رأسه. وكنيته أبو يعقوب. روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث، وروى عن أبيه، وعن عثمان وعليّ وأبي الدّرداء وغيرهم. وذكره ابن سعد في الطّبقة الخامسة من الصّحابة، وذكره جمع ممّن ألّف في الصّحابة. وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال بعضهم: بقي إلى سنة مائة من الهجرة رضي الله تعالى عنه وأما أبوه عبد الله بن سلام- بتخفيف اللام- فيكنّى أبا يوسف، أحد الأحبار والعلماء الأخيار، وأحد من شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ كسرة من خبز، فوضع عليها تمرة وقال: «هذه إدام هذه» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الثّفل. روى عنه ابناه يوسف ومحمد وغيرهما، مات بالمدينة المنوّرة سنة ثلاث وأربعين هجرية (رضي الله تعالى عنه؛ قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أخذ كسرة) - بكسر الكاف وسكون السّين- أي قطعة (من خبز فوضع عليها تمرة، وقال: «هذه) التمرة (إدام هذه» ) الكسرة، لأنّ التّمر كان طعاما مستقلا غير متعارف للائتدام، فأخبر أنّه يصلح له. وفي نسخة من «الشمائل» زيادة: «فأكل» بالفاء. وفي نسخة بالواو. وهذا الحديث يقوّي قول من ذهب من الأئمّة إلى أنّ التّمر إدام، كالإمام الشّافعي ومن وافقه. ويؤخذ منه أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يدبّر الغذاء، فإنّ الشّعير بارد يابس، والتّمر حارّ رطب، فكان صلّى الله عليه وسلم لا يجمع بين حارّين ولا باردين، ولا مسهّلين ولا قابضين ولا غليظين، ولا بين مختلفين؛ كقابض ومسهّل. ولم يأكل طعاما قطّ في حال شدّة حرارته، ولا طبيخا بائتا مسخّنا، ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة، فإنّ ذلك كلّه ضارّ مولّد للخروج عن الصّحّة. وبالجملة: فكان صلّى الله عليه وسلم يصلح ضرر بعض الأغذية ببعض ما وجد إليه سبيلا، ولم يشرب على طعامه لئلا يفسده، ذكره ابن القيّم. (و) أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «الشّمائل» ، والحاكم بسند جيّد؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعجبه الثّفل) . قال الزرقانيّ على «المواهب» : بضمّ الثّاء المثلّثة وكسرها، وقاف؛ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 و (الثّفل) : ما بقي من الطّعام في أسافل القدر والقصعة والصّحفة ونحوها. وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثّريد من الخبز، ... الأصل!!: ما يثقل من كلّ شيء، وفسّر في خبر بالثّريد، وبما يقتات به، وبما يعلق بالقدر، وبطعام فيه شيء من حبّ أو دقيق. قيل: والمراد هنا الثّريد. قال ابن الأثير: سمّي ثقلا لأنّه من الأقوات الثّقيلة، بخلاف المائعات. (و) قال المصنّف تبعا لشرّاح «الشمائل» : (الثّفل) - بضمّ المثلّثة وكسرها، وبسكون الفاء- (: ما بقي من الطّعام في أسافل القدر، و) الظّروف ك (القصعة والصّحفة ونحوها) . وقيل: الثّفل هو الثّريد. وهو مختار صاحب «النّهاية» ، وما فسّره به المصنّف هو الذي فسّره به شيخ التّرمذي: عبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ رحمه الله تعالى. قال الباجوريّ كالمناويّ، وغيره: وإنّما فسّره الراوي! حذرا من توهّم خلاف المعنى المراد. ولعلّ حكمة إعجابه صلّى الله عليه وسلم بالثّفل أنّه منضوج غاية النّضج القريب إلى الهضم، فهو أهنأ وأمرأ وألذّ. وفيه إشارة إلى التّواضع والقناعة باليسير. وكثير من الأغنياء يتكبّرون ويأنفون من أكل الثّفل، والله جعل جميل حكمته في أقواله وأفعاله وأحواله صلّى الله عليه وسلم، فطوبى لمن عرف قدره واقتفى أثره. وأخرج أبو داود، وقال في بعض رواياته وهو حديث ضعيف. والحاكم وصحّحه وأقرّه الذّهبيّ كلاهما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال (وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الثّريد من الخبز) لمزيد نفعه، وسهولة مساغه، وتيسّر تناوله، وبلوغ الكفاية منه بسرعة، واللذة، والقوّة وقلة المؤونة في المضغ. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «أثردوا ولو بالماء» رواه الطّبرانيّ، والبيهقي مبالغة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 والثّريد من الحيس. و (الحيس) : التّمر مع السّمن والأقط، وقد يجعل عوض الأقط الدّقيق أو الفتيت، فيدلك الجميع حتّى يختلط. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ من الشّاة الذّراع والكتف، ... تأكّد طلبه، والمراد ولو مرقا يقرب من الماء. (والثّريد من الحيس) - بفتح الحاء المهملة، وإسكان المثنّاة التّحتية وآخره سين مهملة- (و) هو أي (الحيس: التّمر مع السّمن والأقط) لبن مجفّف منزوع الزّبد- كما تقدّم-. (وقد يجعل عوض) أي: بدل (الأقط الدّقيق؛ أو الفتيت) - بفاء ومثنّاتين فوقيّتين، بينهما مثنّاة تحتيّة؛ بوزن شتيت-: الخبز المفتوت، فعيل بمعنى مفعول. (فيدلك الجميع حتّى يختلط) . والأصل فيه الخلط. قال الرّاجز: التّمر والسّمن جميعا والأقط ... الحيس إلّا أنّه لم يختلط قال ابن رسلان: وصفته أن يؤخذ التّمر أو العجوة؛ فينزع منه النّوى، ويعجن بالسّمن أو نحوه، ثم يدلك باليد حتى يصير كالثّريد، وربّما جعل معه سويق. انتهى. ذكره العزيزيّ على «الجامع الصّغير» . (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحبّ من الشّاة الذّراع والكتف) . روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذّراع، وكان أحبّ الشّاة إليه ... الحديث. وروى أبو الشّيخ من حديث ابن عباس: كان أحبّ اللّحم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكتف، وإسناده ضعيف. ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: لم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ومن القدر الدّبّاء، ومن التّمر العجوة. ودعا في العجوة بالبركة، وكان يقول: «إنّها من الجنّة وهي شفاء من السّمّ والسّحر» . يعجبه من الشّاة إلا الكتف، وتقدّم الكلام على الكتف والذّراع بزيادة عما هنا. (ومن القدر) أي: المطبوخ في القدر (الدّبّاء) تقدّم حديث أنس: «كان يحبّ الدّبّاء» . ولأبي الشّيخ من حديث أنس: «كان أعجب الطعام إليه الدّبّاء» . (ومن التّمر العجوة) المراد بالعجوة عجوة المدينة المنوّرة. قال الزّمخشريّ: العجوة تمر بالمدينة من غرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهي أجود التّمر وألينه وألذّه، وأنواع تمر المدينة مائة وعشرون نوعا. روى أبو الشيخ من حديث ابن عباس بسند ضعيف: كان أحبّ التّمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العجوة. وكذا رواه أبو نعيم في «الطّبّ» من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (ودعا) صلى الله عليه وسلم (في العجوة بالبركة. وكان يقول: «إنّها من الجنّة) يريد المبالغة في الاختصاص بالمنفعة والبركة، فكأنّها منها. وقال الحليميّ: معنى كونها من الجنّة أنّ فيها شبها من ثمار الجنّة في الطّبع. فلذلك صارت شفاء من السّمّ. وقال السمهودي: لم يزل إطباق الناس على التّبرك بالعجوة، وهو النّوع المعروف الذي يأثره الخلف عن السّلف بالمدينة المنوّرة، ولا يرتابون في ذلك. (وهي شفاء من السّمّ والسّحر» ) روى الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم، وأبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: «من تصبّح بسبع تمرات من عجوة؛ لم يضرّه في ذلك اليوم سمّ ولا سحر» . وأخرج البزّار، والطّبرانيّ في «الكبير» من حديث عبد الله بن الأسود قال: كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وفد سدوس، فأهديناا له تمرا ... الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وكان أحبّ التّمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العجوة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الزّبد ... وفيه: حتّى ذكرنا له تمرا؛ فقلنا له: هذا الجذاميّ فقال: «بارك الله في الجذاميّ، وفي حديقة خرج منها هذا» ... الحديث. قال أبو موسى المدينيّ: قيل: هو تمر أحمر. ولأحمد والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه من حديث أبي هريرة: «العجوة من الجنّة، وهي شفاء من السّمّ» . وروى أبو نعيم في «الطب» بسند ضعيف من حديث بريدة: «العجوة من فاكهة الجنّة» ، وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم، والديلميّ من حديث رافع بن عمرو المزنيّ: «العجوة والصّخرة والشّجرة من الجنّة» . ولابن النّجار من حديث ابن عباس: «العجوة من الجنّة، وفيها شفاء من السّمّ ... » الحديث. (و) أخرج أبو نعيم في «الطّبّ» ، وأبو الشّيخ بإسناد ضعيف: كلاهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان أحبّ التّمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العجوة) : عجوة المدينة المنورة. (و) أخرج أبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن- كما قال بعض الحفّاظ- كلاهما عن ابن بشر- بموحدة مكسورة، وشين معجمة-. وابن بشر في الصحابة اثنان سلمانيان هما: عبد الله وعطية، فلا يعرف أيّهما المراد! قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ الزّبد) - بضمّ الزّاي، وسكون الموحّدة؛ كقفل-: ما يستخرج بالمخض من لبن بقر أو غنم، معز أو ضأن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 والتّمر. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ من البقول الهندباء، والشّمر، والرّجلة. وأمّا لبن الإبل! فلا يسمّى ما يستخرج منه زبدا، بل يقال له «حباب» (والتّمر) - بمثناة فوقيّة- يعني: يحبّ الجمع بينهما في الأكل، لأنّ الزّبد حارّ رطب، والتّمر بارد يابس. وفي جمعه بينهما من الحكمة إصلاح كلّ منهما بالآخر. قال النّوويّ: فيه جواز أكل شيئين من فاكهة وغيرها معا، وجواز أكل طعامين معا؛ وجواز التوّسع في المطاعم. ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك!! وما نقل عن السّلف من خلافه! محمول على الكراهة في التّوسّع والترفّه والإكثار لغير مصلحة دينيّة. وقال القرطبيّ: ويؤخذ منه مراعاة صفات الأطعمة وطبائعها، واستعمالها على الوجه اللائق على قاعدة الطّبّ. (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ من البقول الهندباء) - بكسر الهاء وسكون النّون وفتح الدّال المهملة، وقد تكسر مقصورة وتمدّ-: بقلة معروفة، تسمى عند بعض الناس ب «السّالط» وبعضهم يسمّيها ... روى أبو نعيم في «الطّب» من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «عليكم بالهندباء، فإنّه ما من يوم إلّا وهو يقطر عليه قطرة من قطر الجنّة» . وفي سنده عمرو بن أبي سلمة. ضعّفه ابن معين وغيره!! ولأبي نعيم، من حديث الحسن بن عليّ، وأنس بن مالك نحوه، وكلّها ضعيفة! (والشّمر) - بالشين المعجمة، والميم المفتوحتين بغير ألف؛ هو: الشّمار- بألف؛ كسحاب- وهو الرازيانج، (والرّجلة) - بكسر الرّاء، وإسكان الجيم- هي البقلة الحمقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ القثّاء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الجذب. و (الجذب) : الجمّار؛ وهو: شحم النّخل، واحدته: جذبه. سمّيت بذلك!! لأنّها تنبت على طرق النّاس فتداس، وفي مسيل الماء فيقتلعها ماء السّيل، وأصل الرّجلة: المسيل، فسمّيت به البقلة، ومنه قولهم «أحمق من رجلة» ؛ يعنون هذه البقلة. روى أبو نعيم في «الطب» من رواية ثوير قال: مرّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالرّجلة؛ وفي رجله قرحة فداواها بها فبرئت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بارك الله فيك، انبتي حيث شئت؛ أنت شفاء من سبعين داء، أدناها الصّداع» وهو مرسل ضعيف. (و) أخرج الطّبرانيّ في «الكبير» عن الرّبيّع- بضمّ الرّاء، وفتح الموحّدة وشدّ المثناة التحتيّة المكسورة مصغّرا مثقّلا- بنت معوّذ- بصيغة اسم الفاعل- الأنصارية النّجّاريّة؛ من صغار الصّحابة- بإسناد حسن- قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ القثّاء) - بكسر القاف أكثر من ضمّها ممدودا-: نوع من الخيار أخفّ منه. وقيل: هو اسم جنس لما يقول له الناس الخيار والعجّور والفقّوس؛ واحدته قثاءة، وإنّما كان يحبّها!! لإنعاش ريحها للروح وإطفائها لحرارة المعدة الملتهبة؛ سيما في أرض الحجاز، ولكونها بطيئة الانحدار عن المعدة، وكان كثيرا ما يعدّلها بنحو رطب أو تمر أو عسل كما سيأتي. (و) في «النهاية» لابن الأثير: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ الجذب) ؛ بالجيم والذّال المعجمة المفتوحتين. (والجذب: الجمّار) - بضم الجيم، وفتح الميم المشدّدة- (وهو: شحم النّخل) وهو قلبها، (واحدته جذبه) ؛ بالهاء. ورطبه الحلو بارد يابس في الأولى، وقيل في الثانية يعقل البطن. وينفع من المرّة الصّفراء، والحرارة والدم الحاد، وينفع من الشّرى أكلا وضمادا، وكذا من الطاعون، ويختم القروح، وينفع من خشونة الحلق، نافع للسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره أكل الكليتين؛ لمكانهما من البول. وكان لا يأكل من الشّاة سبعا: الذّكر، والأنثيين، والحيا- وهو الفرج- الزّنبور ضمادا. انتهى «زرقاني» . وفي البخاريّ عن ابن عمر: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يأكل جمّارة نخل ... الحديث. (و) أخرج ابن السّنّي في كتاب «الطبّ النبويّ» ، وفي جزء من حديث أبي بكر محمد بن عبد الله بن الشخّير؛ من حديث ابن عباس بسند ضعيف، فيه أبو سعيد الحسن بن علي العدولي «أحد الكذّابين؛ كما قال العراقيّ» قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكره أكل الكليتين) - تثنية كلية؛ وهي من الأحشاء معروفة، والكلو والكلوة- بالواو- لغة لأهل اليمن، وهما بضمّ الكاف ولا تكسر. وقال الأزهريّ: الكليتين للإنسان ولكلّ حيوان، وهما منبت زرع الولد (لمكانهما) أي: لقربهما (من البول) لأنّهما كما في «التهذيب» : لحمتان حمراوان لاصقتان بعظم الصّلب عند الخاصرتين، فهما مجاورتان لتكوّن البول، وتجمّعه فتعافهما النفس، ومع ذلك يحلّ أكلهما!. (و) في «كشف الغمة» و «الإحياء» : (كان) صلى الله عليه وسلم (لا يأكل من الشّاة) : الواحدة من الغنم؛ للذكر والأنثى والمعز والضّأن (سبعا) مع كونها حلالا: (الذّكر، والأنثيين) أي: الخصيتين (والحيا) قال العزيزيّ بالقصر (وهو الفرج) . قال ابن الأثير: الحياء ممدود: الفرج من ذوات الخفّ والظّلف؛ نقله عنه المناويّ في «شرح الجامع» ، والزّبيديّ في «شرح الإحياء» ساكتين عليه، لكن قال الحفنيّ على «الجامع» الحيا- بالقصر، وقول بعض الشرّاح بالمدّ غير ظاهر. وفي «القاموس» : ما يؤيّد كلاميهما، فإنه قال: الحياء الفرج من ذوات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 والدّم، والمثانة، والمرارة، والغدد. ويكره لغيره أكلها. الخفّ والظّلف والسّباع، وقد يقصر. قال في «شرحه» : قال الأزهريّ: وهو خطأ لا يجوز قصره إلا لشاعر ضرورة، وما جاء عن العرب إلا ممدودا!!! وإنّما سمّي حياء باسم الحياء من الاستحياء، لأنه يستر عن الآدميّ من الحيوان ويستفحش التّصريح بذكره واسمه الموضوع له، ويستحى من ذلك ويكنّى عنه. انتهى ملخصا (والدّم) غير المسفوح كالكبد والطّحال؛ وأكله من كبد أضحيته؛ لبيان الجواز، وإشارة إلى طلب أكل شيء من الأضحية، أمّا الدّم المسفوح فحرام، والكلام في الحلال الّذي تعافه النّفس. (والمثانة) وهي: مجمع البول، (والمرارة) وهي: ما في جوف الحيوان، فيها ماء أخضر، وكل حيوان له مرارة، إلّا الجمل فلا مرارة له، (والغدد) جمع غدّة- بالضّمّ- وهي: لحم يحدث من داء بين الجلد واللّحم، يتحرّك بالتّحريك، والغدّة للبعير؛ كالطّاعون للإنسان. وإنّما لم يأكل هذه المذكورات! لأنّ الطّبع السّليم يعاف هذه الأشياء، وليس كلّ حلال تطيب النّفس لأكله. (ويكره لغيره أكلها) ، قال الخطابي: الدّم حرام إجماعا، وعامّة المذكورات معه مكروهة لا محرّمة، وقد يجوز أن يفرق بين القرائن التي جمعها نظم واحد؛ بدليل يقوم على بعضها، فيحكم له بخلاف حكم صواحباتها. انتهى. وردّه أبو شامة بأنّه لم يرد بالدّم هنا ما فهمه الخطّابي، فإنّ الدّم المحرّم بالإجماع قد انفصل من الشّاة وخلت منه عروقها، فكيف يقول الرّاوي: كان يكره من الشّاة. - يعني: بعد ذبحها- سبعا، والسّبع موجودة فيها. وأيضا؛ فمنصبه صلّى الله عليه وسلم يجلّ عن أن يوصف بأنّه كره شيئا هو منصوص على تحريمه على النّاس كافّة، وكان أكثرهم يكرهه قبل تحريمه، ولا يقدم على أكله إلّا الجفاة في شظف من العيش وجهد من القلّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الجراد، ولا الكليتين. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعاف الضّبّ، ... وإنّما وجه هذا الحديث المنقطع الضعيف: أنه كره من الشّاة ما كان من أجزائها دما منعقدا مما يحلّ أكله، لكونه دما غير مسفوح، كما في خبر: «أحلّ لنا ميتتان ودمان» . فكأنّه أشار بالكراهة إلى الكبد والطّحال مما ثبت أنّه أكله!! والله أعلم. انتهى من شرح «الإحياء» ، ومن شرح المناوي على «الجامع الصغير» . والحديث رواه الطّبراني في «الأوسط» ؛ من حديث ابن عمر، وفيه يحيى الحمّاني، وهو ضعيف. ورواه البيهقي؛ عن مجاهد مرسلا. ورواه ابن عدي، والبيهقي؛ عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال البيهقي: ووصله لا يصحّ. ولفظ الحديث: كان صلّى الله عليه وسلم يكره من الشّاة سبعا: المرارة والمثانة والحيا والذّكر والأنثيين والغدّة والدّم؛ وكان أحبّ الشّاة إليه مقدّمها. انتهى. (و) أخرج ابن صصرى في «أماليه الحديثيّة» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما وهو حديث حسن لغيره؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد، ولا الكليتين) - بضم الكاف- تثنية كلية، لقربهما من محل البول، وتمام الحديث: ولا الضّبّ؛ من غير أن يحرّمها. انتهى. أي: كان يعاف المذكورات من غير أن يحرّمها، وقد أكل الضّبّ على مائدته؛ وهو ينظر!!. (و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يعاف الضّبّ) وهو دابّة من الحشرات، وهو أنواع، فمنها ما هو على قدر الجرذون، ومنها أكبر منه، ومنها دون العنز، وهو أعظمها. وهو يعيش سبعمائة عام، ولا يشرب الماء، بل يكتفي بالنّسيم، ويبول في كل أربعين يوما قطرة، وأسنانه قطعة واحدة معوجة، وإذا فارق جحره لم يعرفه، ويبيض كالطير، ومن عجيب خلقه أن الذكر له زبّان، والأنثى لها فرجان تبيض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 والطّحال، ولا يحرّمهما. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الثّوم ... منهما، وذنب الضّبّ ذو عقد، والضّبّ يتلوّن ألوانا نحو الشّمس؛ كما تتلوّن الحرباء، وهو أحرش الذّنب خشنه مفقّره، ولونه إلى الصحمة؛ وهو غبرة مشربة سوادا، وإذا سمن اصفرّ صدره، ولا يأكل إلّا الجنادب والدّبا والعشب، ولا يأكل الهوام. انتهى «شرح القاموس» مع زيادة من «المصباح» . (و) يعاف (الطّحال) - بكسر الطّاء- معروف، ويقال: هو لكل ذي كرش، إلّا الفرس فلا طحال له، والجمع طحالات، وأطحلة؛ مثل لسان وألسنة، وطحل؛ مثل كتاب وكتب. (ولا يحرّمهما) ، أما الضّبّ! ففي «الصّحيحين» ؛ من حديث ابن عباس: «لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» . وفي «الصّحيحين» من حديث ابن عمر: «لست باكله ولا محرمه» . وأما الطّحال! فروى ابن ماجه من حديث ابن عمر: «أحلّت لنا ميتتان ودمان» . وفيه: «وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال» . وللبيهقي موقوفا على زيد بن ثابت: «إنّي لا آكل الطّحال، وما بي إليه حاجة؛ إلّا ليعلم أهلي أنّه لا بأس به» . وقد سبق قريبا حديث ابن صصرى في «أماليه» : كان لا يأكل الجراد ولا الكلوتين، ولا الضّبّ من غير أن يحرّمهما. (و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» ، والخطيب في «التاريخ» ، والدّارقطني في «غرائب مالك» : كلهم؛ عن أنس بن مالك، وهو حديث حسن لغيره- كما في «العزيزي» - قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يأكل الثّوم) - بضم المثلّثة- أي: النّيء؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ولا البصل، ولا الكرّاث؛ من أجل أنّ الملائكة تأتيه، وأنّه يكلّم جبريل. وما ذمّ صلّى الله عليه وسلّم طعاما قطّ؛ إن اشتهاه.. أكله، وإلّا.. تركه. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأتيني فيقول: «أعندك غداء» ، ... (ولا البصل) أي: النّيء، (ولا الكرّاث) - بضم الكاف، وقد تفتح؛ مع تشديد الرّاء فيهما، بوزن رمّان وكتّان- (من أجل أنّ الملائكة تأتيه، وأنّه يكلّم جبريل) ، فكان يكره أكل ذلك؛ خوفا من تأذّي الملائكة به. (و) في «الإحياء» : (ما ذمّ) رسول الله (صلى الله عليه وسلم طعاما قطّ؛ إن اشتهاه أكله وإلّا تركه) . رواه البخاري ومسلم، ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم طعاما قطّ؛ إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه. وفي رواية لمسلم: وإن لم يشتهيه سكت. قال النّوويّ في «شرح مسلم» : هذا أدب من آداب الطّعام، كقوله: مالح، قليل الملح، حامض رقيق، غليظ غير ناضج، أو نحو ذلك. وأما حديث ترك أكل الضب! فليس هو من عيب الطّعام، وإنّما هو إخبار بأنّ هذا الطّعام الخاصّ لا أشتهيه. انتهى. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشمائل» (عن عائشة أمّ المؤمنين) إنّما سمّيت زوجات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أمّهات المؤمنين!! لحرمتهنّ عليهم. وقيل: لوجوب رعايتهنّ واحترامهنّ. وعلى الأوّل؛ فلا يقال: أمّهات المؤمنات، وعلى الثّاني! يقال ذلك. (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يأتيني) أي: في أوّل النّهار؛ (فيقول: «أعندك غداء» ) - بفتح الغين المعجمة وبالدّال المهملة مع المدّ-؛ وهو: الطّعام الّذي يؤكل أوّل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 فأقول: لا، فيقول: «إنّي صائم» ، قالت: فأتاني يوما؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنّه أهديت لنا هديّة، قال: «وما هي؟» ، قلت: حيس ... النّهار، وأمّا بكسر الغين المعجمة وبالذّال المعجمة أيضا! فهو ما يؤكل على وجه التّغذّي، مطلقا، فيشمل العشاء كما يشمل الغداء. (فأقول: لا) أي: ليس عندي غداء. (فيقول: «إنّي صائم» ) أي: ينوي الصّوم بهذه العبارة، وهو صريح في جواز نيّة صوم النّفل نهارا «1» ، لكن إلى الزّوال عند الشّافعي، وأوجب مالك التّبييت كالفرض لإطلاق خبر «من لم يبيّت الصّيام فلا صيام له» . وحمل «إنّي صائم» ؛ على أنّي كنت. وأجيب بأنّه تأويل بعيد عن ظاهر اللّفظ، والأصل تراخي رتبة النّفل عن الفرض، فلا يشكل الفرق بينهما، وفي قوله: «إنّي صائم» إيماء إلى أنّه لا بأس بإظهار النّفل لقصد التّعليم. (قالت: فأتاني يوما، فقلت: يا رسول الله، إنّه أهديت) بصيغة المجهول، أي: أرسلت (لنا هديّة، قال: «وما هي» ؟ قلت: حيس) - بفتح الحاء المهملة، وسكون التّحتيّة وفي آخره سين مهملة- وهو التّمر مع السّمن والأقط، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت، فيدلك الجميع حتى يختلط، قال الشاعر: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب هذا وجدّكم الصّغار بعينه ... لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب عجب لتلك قضيّة، وإقامتي ... فيكم على تلك القضيّة أعجب   (1) مما يجب التنبيه عليه ههنا: أن هذه النية ينبغي أن تشمل القصد ما تقدمها من أجزاء اليوم قبل إنشائها؛ فينوي أنه صائم من الفجر ... فليعلم؛ فإن أكثر الناس عنه غافلون. وفيه وجه توفيق من كلام مالك الآتي بعده. والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 قال: «أما إنّي أصبحت صائما» ، قالت: ثمّ أكل. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بطعام.. سأل عنه: «أهديّة أم صدقة؟» ، فإن قيل صدقة.. قال لأصحابه: «كلوا» ، ولم يأكل. وإن قيل هديّة.. ضرب بيده فأكل معهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل من هديّة حتّى يأمر ... (قال: «أما) - بالتّخفيف؛ للتّنبيه- (إنّي أصبحت صائما» ) إخبار عن كونه صائما، فيكون قد نوى من اللّيل. (قالت: ثمّ أكل) ، هذا صريح في حلّ قطع النّفل، - وهو مذهب الشّافعي كالأكثر- ويوافقه خبر «الصّائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر» . وأمّا قوله تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) [محمد] ! فهو في الفرض وجوبا، والنّفل ندبا؛ جمعا بين الأدلة. (و) أخرج البخاريّ ومسلم والنّسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أتي) بالبناء للمجهول (بطعام) - زاد في رواية الإمام أحمد: من غير أهله- (سأل عنه) ممن أتى به (: «أهديّة أم صدقة؟» ) - بالرّفع، خبر مبتدأ محذوف- أي: هذا، أي: عيّنوا لي أحد الأمرين. (فإن قيل:) هو (صدقة؛ قال لأصحابه) أي: من حضر منهم (: «كلوا» ، ولم يأكل) هو منه، لأنّ الصّدقة حرام عليه. (وإن قيل:) هو (هديّة) - بالرّفع- (ضرب بيده) أي: مدّ يده وشرع في الأكل مسرعا؛ (فأكل معهم) من غير تحام عنه؛ تشبيها للمدّ بالذّهاب سريعا في الأرض، فعدّاه بالباء، وذلك لأن الهدية يقصد فيها إكرام المهدى إليه، والصّدقة لم يقصد بها ذلك، بل يقصد بها ثواب الآخرة، ففيها نوع ذلّ للآخذ. (و) أخرج الطّبراني في «الكبير» والبزّار بإسناد صحيح؛ عن عمّار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يأكل من هديّة حتّى يأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 صاحبها أن يأكل منها؛ للشّاة الّتي أهديت له. وكان له صلّى الله عليه وسلّم لقاح وغنم يتقوّت من ألبانها هو وأهله، وكان لا يحبّ أن تزيد على مئة، وإن زادت.. ذبح الزّائد. وكان له جيران ... صاحبها أن يأكل منها. للشّاة) أي: لأجل قصّة الشّاة (الّتي أهديت له) يوم خيبر؛ وفيها سمّ، فأكلوا منها، فمات بعض أصحابه، وصار المصطفى صلّى الله عليه وسلم يعاوده الأذى منها حتّى توفاه الله تعالى إلى كرامته. (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان له صلّى الله عليه وسلم لقاح) - بكسر اللّام فقط، وخفة القاف، جمع لقحة؛ بكسر اللام وفتحها- هي: النّاقة القريبة العهد بالولادة، إلى ثلاثة أشهر، ثمّ هي بعد الثلاثة لبون، وجاء اللّقحة في البقر والغنم أيضا، فمن لقاحه: القصواء والعضباء. قال ابن القيّم في «الهدي النبوي» : كانت له خمسة وأربعون لقحة؛ منها: أطلال وأطراف وبرده، والبغوم والحنّا والرّيا، والسّعدية والسّمراء والشّقراء، والعريّس ومروة ومهرة. (و) كان له (غنم) ، منها شاة تسمّى: زمزم والسّقيا وعجرة وغوثة- وقيل غيثة- وقمر واليمن (يتقوّت من ألبانها) أي: اللّقاح والغنم (هو وأهله. وكان) له مائة شاة (لا يحبّ أن تزيد على مائة، وإن زادت؟ ذبح الزّائد) رواه أبو داود من حديث لقيط بن صبرة العقيلي؛ عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ولفظه: لنا غنم مائة، لنا غنم مائة، لا نريد أن تزيد، فإذا ولّد الرّاعي بهمة ذبحنا مكانها شاة ... الحديث. (وكان له جيران) - بكسر الجيم- جمع جار، وهو المجاور في السّكن من الأنصار؛ سعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وأبو أيّوب خالد بن زيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 لهم منائح، يرسلون له من ألبانها فيأكل منها ويشرب، وكان له صلّى الله عليه وسلّم سبعة أعنز منائح ترعاهنّ أمّ أيمن حاضنته صلّى الله عليه وسلّم. وسعد بن زرارة، وغيرهم؛ قاله الحافظ ابن حجر. (لهم منائح) - بنون، وآخره حاء مهملة-: جمع منيحة، وهي العطيّة لفظا ومعنى، أي: غنم فيها لبن، وأصلها: عطيّة النّاقة؛ أو الشّاة، وقيل: لا يقال: منيحة إلّا للنّاقة، وتستعار للشّاة. قال الحربي: يقولون: منحتك النّاقة. وأعريتك النّخلة، وأعمرتك الدّار، وأخدمتك العبد، وكل ذلك هبة منافع؛ لا رقبة. فظهر بهذا أنّ المنيحة في الأصل شاة أو بقرة يعطيها صاحبها لمن يشرب لبنها، ثمّ يردّها إذا انقطع اللّبن، ثمّ كثر استعمالها حتى أطلق على كل شاة أو بقرة معدّة لشرب لبنها. لكنّ المراد هنا الشّياه، فقد قال اليعمري: وأمّا البقر! فلم ينقل أنّه صلّى الله عليه وسلم ملك منها شيئا. انتهى. أي: للقنية، فلا يرد عليه ما في «الصّحيح» أنّه صلّى الله عليه وسلم ضحّى عن نسائه بالبقر في حجّة الوداع!! قاله الزّرقاني رحمه الله تعالى. (يرسلون له) صلى الله عليه وسلم (من ألبانها فيأكل منها، ويشرب) هو وأهل بيته، (وكان له صلّى الله عليه وسلم سبعة أعنز) - جمع عنز، وهي: الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول- (منائح ترعاهنّ أمّ أيمن) : بركة الحبشية؛ (حاضنته صلّى الله عليه وسلم) . روى محمد بن سعد «كاتب الواقديّ» في «الطّبقات» ؛ من حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان عيشنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللّبن- أو قالت: أكثر عيشنا-. كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالغابة ... الحديث. وفي رواية له: كانت لنا أعنز سبع، فكان الراعي يبلغ بهن مرة الجمد، ومرة أحدا ويروح بهن علينا، وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لقاح بذي الجدر، فيثوب إلينا ألبانها بالليل ... الحديث. وفي إسنادهما محمد بن عمر الواقدي!! ضعيف في الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وكان صلّى الله عليه وسلّم يخرج كثيرا إلى بساتين أصحابه، فيأكل منها ويحتطب. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب دعوة الحرّ والعبد، ... وفي «الصحيحين» من حديث سلمة بن الأكوع: كانت لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد ... الحديث. وقد تقدم حديث «الصحيحين» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وفيه: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم جيران من الأنصار؛ وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه. (و) في «كشف الغمة» : (كان صلّى الله عليه وسلم يخرج كثيرا إلى بساتين أصحابه، فيأكل منها ويحتطب) تقدّم أنه صلّى الله عليه وسلم خرج إلى بستان أبي الهيثم بن التيّهان فيما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة؛ وقال: حسن غريب صحيح. والقصة عند مسلم لكن ليس فيها ذكر لأبي الهيثم، وإنما قال «رجل من الأنصار» !! وكذلك خرج صلّى الله عليه وسلم إلى بستان أبي أيوب الأنصاري؛ كما رواه الطبراني في «المعجم الصغير» من حديث ابن عباس بسند ضعيف. وخرج أيضا إلى بساتين غيرهما؛ كما ذكره في «شرح الإحياء» . (و) في «كشف الغمة» و «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحرّ والعبد) . قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أنس: كان يجيب دعوة المملوك. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قلت: بل ضعيفه. وللدارقطني في «غرائب مالك» والخطيب في «أسماء رواة مالك» ؛ من حديث أبي هريرة: كان يجيب دعوة العبد إلى أيّ طعام دعي، ويقول: «لو دعيت إلى كراع لأجبت» . وهذا بعمومه دالّ على إجابة دعوة الحرّ، وهذه القطعة الأخيرة عند البخاري؛ من حديث أبي هريرة. وروى ابن سعد من رواية حمزة بن عبد الله بن عتبة: كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 ويقبل الهديّة؛ ولو أنّها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافىء عليها ويأكلها؛ ولا يأكل الصّدقة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دعي لطعام وتبعه أحد.. أعلم به ربّ المنزل؛ ... لا يدعوه أحمر ولا أسود من النّاس إلّا أجابه ... الحديث، وهو مرسل. انتهى. (و) كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (يقبل الهديّة؛ ولو أنّها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافىء عليها) . قال العراقيّ: روى البخاريّ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل الهديّة ويثيب عليها. وأمّا ذكر جرعة اللّبن وفخذ الأرنب!! ففي «الصحيحين» من حديث أمّ الفضل أنّها أرسلت بقدح من اللّبن إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم؛ وهو واقف بعرفة، فشربه. ولأحمد من حديث عائشة: أهدت أمّ سلمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. انتهى. قلت: والّذي رواه البخاريّ من جهة قبول الهديّة والإثابة عليها رواه كذلك أحمد، وأبو داود، والترمذيّ في «السنن» ؛ وفي «الشمائل» . ومعنى «يثيب عليها» - أي: يجازي عليها- فيسنّ التّأسّي به صلّى الله عليه وسلم، ولكن محلّ ندب القبول حيث لا شبهة قوية فيها، وندب الإثابة حيث لم يظنّ المهدى إليه: أنّ المهدي إنّما أهدى له حياء؛ لا في مقابل، فأمّا إذا ظنّ أنّ الباعث عليه إنّما هو الإثابة!! فلا يجوز له إلّا إن أثابه بقدر ما في ظنّه مما تدلّ عليه قرائن حاله؛ قاله في «شرح الإحياء» . (و) كان صلّى الله عليه وسلم (يأكلها) ؛ أي: الهدية، (ولا يأكل الصّدقة) . رواه الشّيخان؛ من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد والطّبراني؛ من حديث سلمان، ورواه ابن سعد؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا دعي لطعام وتبعه أحد؛ أعلم به ربّ المنزل) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 فيقول: «إنّ هذا تبعنا، فإن شئت.. رجع» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل وحده. كما في البخاريّ ومسلم وغيرهما؛ عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان من الأنصار رجل يقال له أبو شعيب، وكان له غلام لحّام، فقال: اجعل لي طعاما يكفي خمسة، فإنّي أريد أن أدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد عرفت في وجهه الجوع!! فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خامس خمسة؛ فتبعهم رجل، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنّك دعوتني خامس خمسة، وهذا رجل قد تبعنا!! فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته» . قال: بل أذنت له. وفي رواية: «اتّبعنا» ، بالتّشديد. وفي رواية: «لم يكن معنا حين دعوتنا، فإن أذنت له دخل» . وفي أخرى: «وإن شئت أن يرجع رجع» ، وفي رواية: «وإن شئت رجع» ، فقال: لا، بل أذنت له يا رسول الله. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم هذا الرّجل في شيء من طرق هذا الحديث، ولا اسم واحد من الأربعة، ولا اسم الغلام اللّحام!! (فيقول: «إنّ هذا تبعنا) - بفتح المثنّاة الفوقيّة، وكسر الموحّدة، كما ضبطه القسطلاني كغيره- أي: تبعنا من غير طلب له. (فإن شئت رجع» ) ؛ ففيه أنّ من تطفّل في الدّعوة كان لصاحبها الخيار في حرمانه، فإن دخل بلا إذن فله إخراجه، وحرمة التّطفّل ما لم يعلم رضا المالك به، لما بينهما من أنس وانبساط. وقيّد بالدّعوة الخاصّة. أمّا العامّة! كأن فتح الباب ليدخل من شاء فلا تطفّل. وفي «سنن أبي داود» بسند ضعيف؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رفعه: «من دخل بغير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا» . (و) أخرج الطّبراني، والخرائطي: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يأكل وحده) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كثرت عليه الأيدي. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكرّر على أضيافه، ويعرض عليهم الأكل مرارا. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها وعن والديها: لم يمتلىء جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ، (و) يؤيّده ما أخرجه أبو يعلى، والطّبراني في «الأوسط» ، وابن عدي في «الكامل» ، وابن حبّان، والبيهقي، والضّياء؛ من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، - بإسناد حسن؛ كما قال العراقي- قال: (كان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كثرت عليه الأيدي) ، لما فيه من السّخاء بالطّعام وقلّة الأكل وكثرة البركة (و) في «المواهب» : (كان صلّى الله عليه وسلم يكرّر على أضيافه، ويعرض عليهم الأكل مرارا) . وفي حديث أبي هريرة ما يؤيّد ذلك في قصّة شرب اللبن، وقوله مرارا «اشرب» ، فما زال يقول «اشرب» حتّى قال أبو هريرة: والّذي بعثك بالحقّ لا أجد له مسلكا. رواه البخاري مطوّلا في كتاب «الرّقاق» ؛ من «صحيحه» . (و) في «المواهب» و «الشّفاء» : (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن والديها: لم يمتلىء جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلم شبعا) - بكسر الشّين المعجمة، وفتح الباء، وهو تمييز، أو مفعول له- (قطّ) ، بل كان إذا تغدّى لم يتعشّ، وإذا تعشّى لم يتغدّ. رواه أبو نعيم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وقد تقدّم. وقول عائشة «لم يمتلىء جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلم شبعا قط» ! محمول على الشّبع الّذي يثقل المعدة، ويثبّط عن القيام بالعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر والنّوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التّحريم؛ بحسب ما يترتّب عليه من المفسدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وإنّه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهّاه، إن أطعموه.. أكل، وما أطعموه.. [قبله] ، وما سقوه.. شرب. وكان صلّى الله عليه وسلّم ربّما قام فأخذ ما يأكل بنفسه، أو يشرب. وليس المراد الشّبع النّسبيّ المعتاد في الجملة، ففي «صحيح مسلم» خروجه صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر من الجوع وذهابهم إلى بيت الأنصاري، وذبحه الشّاة، وفيه: فلما أن شبعوا ورووا!!. قال النّووي: فيه جواز الشّبع. وما جاء في كراهته! محمول على المداومة عليه، فلا ينافي هذا الحديث وغيره من الأحاديث الدّالّة على جوازه، وقد ترجم البخاري «باب من أكل حتّى شبع» ، وأورد حديث دخوله صلّى الله عليه وسلم منزل أبي طلحة، وقوله له: «اذن لعشرة ثمّ عشرة» ، فأكل القوم كلّهم وشبعوا، وهم ثمانون، وحديث أبي بكر: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة ... الحديث؛ وفيه: فأكلنا أجمعون، وشبعنا. (وأنّه) صلى الله عليه وسلم (كان في أهله لا يسألهم طعاما) ، أي: لا يكلّفهم شيئا ليس عندهم، أو ما لا يريدون إحضاره لغرض آخر يتعلّق بهم، فلا ينافيه قوله: «هل عندكم من غداء؟» . (ولا يتشهّاه) إذ التّشهّي آية الحبّ، وهو منزّه عنه! (إن أطعموه أكل، وما أطعموه) قدّموه له ليأكله ( [قبله] ) منهم، فيأكل منه. (وما سقوه) من الأشربة لبن أو غيره (شرب) ، وهذا كان غالب أحواله صلّى الله عليه وسلم. (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم ربّما قام فأخذ ما يأكل بنفسه! أو يشرب) . أخرج التّرمذي وصحّحه، وابن ماجه؛ عن كبشة: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلّقة قائما ... الحديث. وقد تقدّم حديث أبي داود والتّرمذي و «الشّمائل» ؛ عن أمّ المنذر بنت قيس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وعن سلمان ... دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه عليّ، وعليّ ناقه، ولنا دوال معلّقة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأكل منها ... الحديث، وإسناده حسن كما قال العراقي. (و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن) أبي عبد الله (سلمان) الفارسيّ «مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» سئل عن نسبه فقال: أنا سلمان ابن الإسلام؛ لأنّه كان لا ينتسب إلى أب. أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا انتسبوا لقيس أو تميم أصله من فارس، من جيّ- بفتح الجيم وتشديد الياء-: قرية من قرى أصبهان، وقيل: من «رام هرمز» . وسبب إسلامه مشهور، وأنّه هرب من أبيه؛ وكان مجوسيّا؛ فلحق براهب، ثمّ جماعة من الرّهبان.. واحد بعد واحد، يصحبهم إلى وفاتهم، إلى أن دلّه الأخير على الذّهاب إلى الحجاز، وأخبره بظهور النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقصده مع عرب، فغدروا به؛ وباعوه في وادي القرى ليهودي. ثم اشتراه منه يهودي من قريظة، فقدم به المدينة، فأقام بها مدّة حتى قدمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فأتاه بصدقة، فلم يأكل منها، ثمّ بعد مدّة أتاه بهديّة فأكل منها، ثمّ رأى خاتم النّبوّة، وكان الرّاهب الأخير وصف له هذه العلامات الثّلاث للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال سلمان: فرأيت الخاتم، فقبّلته وبكيت، فأجلسني رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين يديه، فحدّثني بشأني كله، وفاتني معه بدر وأحد بسبب الرّقّ، وأوّل مشاهده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخندق، ولم يتخلّف عن مشهد بعدها، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدّرداء. وكان من فضلاء الصّحابة وزهّادهم وعلمائهم وذوي القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو الّذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحفر الخندق يوم الأحزاب. وسكن العراق، وكان يعمل الخوص بيده؛ فيأكل منه، وكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج فرّقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 رضي الله تعالى عنه قال: قرأت في «التّوراة» : إنّ بركة الطّعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بما قرأت في التّوراة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بركة الطّعام الوضوء قبله والوضوء بعده» . ونقلوا اتّفاق العلماء على أنّ سلمان الفارسي عاش مائتين وخمسين سنة. وقيل: ثلثمائة وخمسين سنة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستّون حديثا؛ اتّفق البخاري ومسلم على ثلاثة، ولمسلم ثلاثة. روى عنه ابن عبّاس، وأنس، وعقبة بن عامر، وأبو سعيد، وكعب بن عجرة، وأبو الطّفيل رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه جماعات من التّابعين. توفّي سلمان بالمدائن في أوّل سنة: - 36- ستّ وثلاثين: وقيل غير ذلك. (رضي الله تعالى عنه؛ قال: قرأت في «التّوراة» ) : الكتاب المنزل على موسى صلّى الله عليه وسلم، وهو أعظم الكتب بعد القرآن: «إنّ بركة الطّعام الوضوء بعده» يصحّ قراءته بكسر همزة «إنّ» على أنّ المعنى أنّ هذه الجملة في «التّوراة» ، ويصح الفتح أيضا. (فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم وأخبرته بما قرأت) أي: بقراءتي (في «التّوراة» ) على أنّ «ما» مصدريّة، فلا يغني عنه ذكرت ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلم. (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) : مقرا لسلمان على ما أخبر أنّه قرأه في «التّوراة» ؛ وإن كان لم ينزل عليه، لأنّه إخبار عن شيء يحصل به البركة، والأخبار لا تنسخ. فقال: ( «بركة الطّعام الوضوء) ، يعني: غسل اليدين (قبله) أي: قبل الطّعام عند إرادته، بحيث ينسب إليه عرفا، (والوضوء) ، يعني: غسل اليدين (بعده» ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 والمراد بالوضوء هنا المعنى اللّغويّ؛ وهو: غسل الكفّين. أي: عقب الفراغ من الأكل، فيحصل بالوضوء الأوّل استمراؤه على الأكل وحصول نفعه، وزوال ضرره، وترتّب الأخلاق الكريمة والعزائم الجميلة عليه، ويحصل بالوضوء الثّاني زوال الدّسم ونحوه، المستلزم لبعد الشّيطان ودحضه. (والمراد بالوضوء هنا) : في هذا الحديث؛ (المعنى اللّغويّ؛ وهو غسل الكفّين) كما علمت مما قرّرناه، وقول بعض الشّافعية «أراد الوضوء الشّرعيّ» !! يدفعه تصريحهم بأنّ الوضوء الشّرعيّ ليس سنّة عند الأكل. قال التّرمذيّ في «جامعه» : لا يعرف هذا الحديث؛ أي: حديث سلمان إلّا من حديث قيس بن الربيع، وهو ضعيف. انتهى. وتمسّك به بعضهم على ندب غسل اليد قبله وبعده؛ وإن لم يكن بها لوث البتّة، ويعضده خبر الطّبراني في «الأوسط» : «الوضوء قبل الطّعام وبعده ينفي الفقر، وهو من سنن المرسلين» . وكان حجّة الإسلام يميل إلى ذلك، حيث قال: الأكل بقصد الاستعانة على الدّين عبادة، فهو جدير بأن يقدم عليه ما يجري منه مجرى الطّهارة من الصّلاة!! لكن ذهب النّوويّ رحمه الله تعالى إلى حمله في الغسل «بعده» ؛ على ما إذا علق بها منه شيء، وإلّا فلا يسنّ، وكذا قبله إن تحقّق نظافتها، أي: وكان يأكل وحده، وإلّا: فيظهر سنّ غسلها مطلقا، كما بحثه ابن حجر؛ تطييبا لخاطر جليسه. ويسنّ تقديم الصّبيان على المشايخ في الغسل قبل الطّعام؛ لأنّ أيدي الصّبيان أقرب إلى الوسخ، وقد يفقد الماء لو قدم المشايخ «1» . وأمّا بعد الطّعام! فبالعكس إكراما للشّيوخ، وهذا في غير صاحب الطّعام،   (1) قلت: وخير من هذا التعليل أن يقال: إن الصبيان أحق بالانتظار على المائدة من الشيوخ فيتهيأون قبلهم؛ فإذا غسل الشيوخ بدأوا دون انتظار أحد. «عبد الجليل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ......... وأمّا هو فيقدم بالغسل قبل الطّعام ويتأخّر بعده؛ لأنّه يدعو النّاس إلى كرمه، فيحقّ أن يتقدّم. ويسنّ تنشيف اليدين من الغسل بعد الطّعام، لا قبله؛ لأنّه ربّما كان بالمنديل وسخ يعلق باليد، ولأنّ بقاء أثر الماء يمنع شدّة التصاق الدّهنية باليدين، والله أعلم. انتهى. «مناوي على «الشّمائل» رحمه الله تعالى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 [الفصل الثّالث في ما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطّعام وبعده] الفصل الثّالث في ما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطّعام وبعده كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا وضعت المائدة ... (الفصل الثّالث من الباب الرّابع (فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلم) أي: في بيان الأخبار الواردة في الذّكر الّذي كان يقوله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (قبل الطّعام) ، وهو التّسمية، (وبعده) أي: بعد الفراغ من الطّعام؛ وهو الحمدلة. قال الباجوري: وينبغي أنّ مثل الطّعام الشّراب، بل هو منه، كما يؤخذ من قوله تعالى- فيما حكاه القرآن- وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [249/ البقرة] . انتهى. قال حجّة الإسلام في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا وضعت المائدة) - هي خوان عليه طعام، وإلّا فهو خوان؛ لا مائدة. كذا في «الصّحاح» . وفي «فتح الباري» : وقد تطلق المائدة ويراد بها ما عليه الطّعام؛ وإن لم يكن خوان، وقد تطلق على الطّعام نفسه. ونقل عن البخاري أنّه قال: إذا أكل الطّعام على شيء ثم رفع قيل: رفعت مائدته. وسمّيت «مائدة» !! قيل: لأنّها تميد بما عليها، أي: تتحرّك من قوله تعالى وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [31/ الأنبياء] . وقيل: من ماد أعطى، فكأنّها تميد، أي: تعطي من حواليها ممّا أحضر عليها، وأجاز بعضهم أن يقال فيها: ميدة، كقول الرّاجز: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 قال: «باسم الله، اللهمّ؛ اجعلها نعمة مشكورة تصل بها نعمة الجنّة» . وميدة كثيرة الألوان ... تصنع للجيران والإخوان (قال: «باسم الله) ، قال النّووي في «الأذكار» : أجمع العلماء على استحباب التّسمية على الطّعام في أوّله، فإن ترك في أوّله عامدا أو ناسيا أو مكرها أو عاجزا لعارض آخر، ثم تمكّن في أثناء أكله! استحبّ أن يسمّي ويقول: «باسم الله أوّله وآخره» . والتّسمية في شرب الماء واللّبن والعسل والمرق وسائر المشروبات كالتّسمية في الطّعام في جميع ما ذكرناه، ويستحبّ أن يجهر بالتّسمية ليكون فيه تنبيه لغيره على التّسمية، وليقتدى به في ذلك، والأفضل أن يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فإن قال: «باسم الله» ! كفاه، وحصلت السّنّة، وسواء في ذلك الجنب والحائض وغيرهما. وينبغي أن يسمّي كلّ واحد من الآكلين، فلو سمّى واحد منهم؟ أجزأ عن الباقين. انتهى. قال ابن علّان في «شرحه» : قوله: أجزأ عن الباقين، وكذا يجزيء عمّن لحقهم؛ أو لحق من لحقهم تبعا لهم، فإن جاء واحد أو جمع بعد فراغ الجميع؟ فلا تكفي التّسمية السّابقة بالنّسبة إليه؛ أو إليهم. ووقع التّردّد فيما لو كثر الآكلون كثرة مفرطة، واتّسعت خطّتهم بحيث لا ينسب عرفا أوّلهم لآخرهم؛ وسمّى واحد حال اجتماع الجميع، هل يكفي عنهم حينئذ؟ والّذي يتّجه أنّه لا يكفي، لأنّ انتفاء النّسبة العرفية يقتضي انتفاءها حقيقة، والمدار هنا ليس إلّا عليها. انتهى. (اللهمّ) ؛ أي: يا الله، (اجعلها نعمة مشكورة) أي: نشكرك عليها، ونتقوّى بها على طاعتك، وما يقرب إليك، (تصل بها نعمة الجنّة» ) . قال العراقي: أمّا التّسمية فرواها النّسائي من رواية من خدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قرّب إليه طعام.. يقول: «باسم الله» ، فإذا فرغ.. قال: «اللهمّ؛ أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت واجتبيت، فلك الحمد على ما أعطيت» . سنين أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قرّب إليه طعاما قال: «باسم الله» ... الحديث، وإسناده صالح، وأمّا بقيّة الحديث، لم أجده. نقله عنه في «شرح الإحياء» . (و) أخرج النّسائي، وابن السنّي- بإسناد صحيح؛ كما في «فتح الباري» - عن عبد الرحمن بن جبير التّابعي، أنّه حدّثه رجل خدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ثماني سنين أنّه (كان) يسمع النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا قرّب إليه طعاما) ليأكل (يقول: «باسم الله» ) فقط في ابتدائه. وفي رواية أبي الحسن بن الضحاك، من طريق ميسرة، عن أنس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يأكل طعامه يسمّي عند ثلاث لقم، عند كل لقمة مرّة، فلعله فعل ذلك- إن صحّ- مرّة!. (فإذا فرغ) من الأكل؛ (قال: «اللهمّ؛ أطعمت وسقيت وأغنيت) من شئت بالكفاية في الأموال، (وأقنيت) ؛ أي: أعطيت المال المتّخذ قنية، وهي ما يماثل من الأموال، وفي هذا الذّكر اقتباس من قوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) [النجم] . (وهديت) ؛ أي: أوصلت من شئت من العباد إلى طرق الرّشاد (واجتبيت) . كذا في نسخ من «المواهب» ؛ من الاجتباء، وفيه تلميح لقوله تعالى وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ [87/ الأنعام] وفي نسخ: وأحييت؛ من الإحياء، والأولى أنسب. (فلك الحمد على ما أعطيت» ) ؛ أي: جميع الّذي أعطيته، أو على جميع عطائك ممّا ذكر؛ وممّا لم يذكر، ف «ما» موصولة أو مصدريّة. وفي رواية لأحمد: «فلك الحمد غير كفور» أي: مجحود فضله ونعمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفعت مائدته.. قال: «الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، الحمد لله الّذي كفانا وآوانا، غير مكفيّ ونبّه بهذا الحديث ونحوه على أنّ الحمد كما يشرع عند ابتداء الأمور يشرع عند اختتامها، ويشهد له قوله تعالى وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) [يونس] ، وقوله وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) [الزمر] . (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا رفعت مائدته؛ قال) يحتمل أن يكون قال ذلك جهرا، وهو ظاهر سياق حديث أبي أمامة الآتي، ويحتمل أنّه أسرّ به، ولما رآه أبو أمامة يحرّك شفتيه سأله فعلّمه؛ ثمّ السّنّة للآكل ألايجهر بالحمد إذا فرغ من الطّعام قبل جلسائه؛ كيلا يكون منعا لهم. ( «الحمد لله) لذاته وصفاته وأفعاله الّتي من جملتها الإنعام بالإطعام؛ (حمدا) - مفعول مطلق للحمد- (كثيرا) - صفة المفعول المطلق- والكثرة، المراد منها: عدم النّهاية، إذ لا نهاية لحمده تعالى كما لا نهاية لنعمه-. (طيّبا) خالصا من الرّياء والسّمعة والأوصاف الّتي لا تليق بجنابه، تقدّس؛ لأنّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، أو خالصا عن أن يرى الحامد أنّه قضى حقّ نعمته. (مباركا) بفتح الرّاء (فيه) ؛ أي في الحمد، وهو مفعول أقيم مقام فاعل «مبارك» أي: ما وقع فيه البركة واليمن والزّيادة والثّبات. والمعنى: حمدا ذا بركة دائما لا ينقطع؛ لأنّ نعمه تعالى لا تنقطع، فينبغي أن يكون حمدنا غير منقطع أيضا، ولو نيّة وقصدا. (الحمد لله الّذي كفانا وآوانا غير) - بالنّصب- حال من الاسم الكريم، والرّفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو غير (مكفيّ) - بفتح الميم وسكون الكاف وشدّ التّحتيّة- أي: غير مردود ولا مقلوب. والضّمير راجع للطّعام الدّال عليه السّياق، أو هو من الكفاية، فيكون من المعتلّ، يعني: أنّه تعالى هو المطعم لعباده، والكافي لهم، أي: أنّه تعالى غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ولا مكفور ولا مودّع ولا مستغنى عنه ... مكفيّ رزق عباده. أي: غير محتاج إلى أحد في كفايتهم، إذ لا يكفيهم أحد غيره سبحانه وتعالى، فالضّمير راجع إلى الله تعالى. ودليل هذا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فانطلقنا معه، فلمّا طعم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وغسل يده قال: «الحمد لله الّذي يطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وكلّ بلاء حسن أبلانا، الحمد لله؛ غير مكفور ولا مودّع ولا مكافا ولا مستغنى عنه، الحمد لله الّذي أطعم من الطّعام، وسقى من الشّراب، وكسا من العري، وهدى من الضّلالة، وبصّر من العماية، وفضّل على كثير ممّن خلق تفضيلا، الحمد لله ربّ العالمين» . رواه النسائي واللفظ له، والحاكم، وابن حبّان في «صحيحيهما» ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقيل: إنّ الضّمير راجع إلى الحمد، أي: إنّ الحمد غير مكفيّ. (ولا مكفور) أي: غير مجحود نعم الله سبحانه وتعالى فيه، بل مشكورة؛ غير مستور الاعتراف بها، والحمد عليها. (ولا مودّع) - بضمّ الميم وفتح الواو والدّال المهملة المشدّدة- أي: غير متروك. وبكسر الدّال، أي: حال كوني غير تارك له، فمؤدّى الروايتين واحد؛ وهو دوام الحمد، واستمراره للكريم سبحانه. (ولا مستغنى عنه) - بفتح النّون والتّنوين-؛ أي حمدا لا يكتفى به، بل يعود إليه كرّة بعد كرة، ولا يتركه، ولا يستغني عنه أحد، بل حمدا يحتاج إليه كلّ منهم لبقاء نعمه واستمرارها. ولم يصب من جعله عطف تفسير؛ محتجّا بأنّ المتروك هو المستغنى عنه، لظهور أنّ فيه فائدة «لم يفدها ما قبله» هي أنّه لا استغناء لأحد عن الحمد، إذ لا فيض إلّا منه سبحانه، فيجب على كلّ مكلّف؛ إذ لا يخلو أحد عن نعمة، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 ربّنا» . وكان إذا فرغ من طعامه.. قال: «اللهمّ؛ لك الحمد،.. نعم لا تحصى، وهو في مقابلة النّعم واجب، فالآتي به في مقابلتها يثاب عليه ثواب الواجب، ومن أتى به؛ لا في مقابلة شيء! أثيب ثواب المستحب، أمّا شكر المنعم بمعنى امتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ فواجب على كل مكلّف شرعا، ويأثم بتركه إجماعا. (ربّنا» ) بالرّفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ربّنا. وبالنّصب على المدح أو الاختصاص، أو إضمار: أعني. أخرج البخاري من حديث أبي أمامة: كان إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله الّذي كفانا، وأوانا، وأروانا، غير مكفيّ ولا مكفور» . وقال مرّة «لك الحمد ربّنا غير مكفيّ ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربّنا» . وروى الجماعة إلّا مسلما من حديث أبي أمامة: كان إذا رفع مائدته؛ قال: «الحمد لله كثيرا طيّبا مباركا فيه غير مكفيّ، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربّنا» . وفي رواية الترمذيّ وابن ماجه، وإحدى روايات النّسائي «الحمد لله حمدا» ، وفي لفظ للنّسائي «اللهمّ لك الحمد حمدا» . ذكره في «شرح الإحياء» . ورواه الترمذي في «الشمائل» عن أبي أمامة بلفظ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول: الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، غير مودّع ولا مستغنى عنه ربّنا» . (و) أخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات إلّا عبد الله بن عامر الأسلميّ ففيه ضعف من قبل حفظه؛ كما قال الحافظ ابن حجر عن رجل من بني سليم له صحبة، ولفظه: (كان) رسول الله صلّى الله عليه وسلم (إذا فرغ من) أكل (طعامه قال: «اللهمّ؛ لك الحمد) ، لأنّ الطّعام نعمة، والحمد عقيب النّعم يقيّدها ويؤذن باستمرارها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 أطعمت وسقيت، وأشبعت وأرويت، فلك الحمد غير مكفور ولا مودّع ولا مستغنى عنك» . وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: ... وزيادتها، كما قيل: الحمد قيد للموجود صيد للمفقود. فلذلك أتى صلّى الله عليه وسلم بتلك الصّفات البليغة، تحريضا لأمّته على التّأسّي به في ذلك؛ فقال: ( «أطعمت وسقيت، وأشبعت وأرويت) - كلها بفتح التاء خطاب لله عز وجل- (فلك الحمد) - أي: على ما أعطيت- (غير مكفور) - أي: غير مجحود فضله ونعمته (ولا مودّع) - بتشديد الدال- (ولا مستغنى عنك» ) . قال العراقي: رواه الطّبراني من حديث الحارث بن الحارث بسند ضعيف. قلت: وهو صحابي أزدي. انتهى «شرح الإحياء» . (و) أخرج الإمام أحمد والأربعة والترمذي، في «الشمائل» وصححه الضياء في «المختارة» ؛ (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر- بالباء الموحدة وبالجيم- وهو؛ خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي (الخدريّ) - بضمّ الخاء المعجمة وإسكان الدّال المهملة- نسبة إلى خدرة؛ جدّه الّذي هو الأبجر- مرّ في نسبه-. استصغر يوم أحد؛ فردّ، وغزا بعد ذلك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وكان أبوه مالك صحابيّا، استشهد يوم أحد، وهو من المكثرين في الرّواية. روي له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف حديث ومائة وسبعون حديثا؛ اتّفق البخاريّ ومسلم على ستّة وأربعين منها، وانفرد البخاريّ بستّة عشر، ومسلم باثنين وخمسين. قالوا: ولم يكن من أحداث الصّحابة أفقه من أبي سعيد الخدري. - وفي رواية: أعلم-! ومناقبه كثيرة. وتوفي بالمدينة المنوّرة يوم الجمعة سنة: - 64- أربع وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين. ودفن بالبقيع (رضي الله تعالى عنه؛ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من طعامه.. قال: «الحمد لله الّذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل أو شرب.. قال: «الحمد لله الّذي أطعم وسقى، وسوّغه وجعل له مخرجا» . كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا فرغ من) أكل (طعامه) - سواء كان في بيته مع أهله؛ أو مع أضيافه؛ أو في منزل الضّيف. ولفظ التّرمذي في «جامعه» : كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب- (قال: «الحمد لله) - فائدة إيراد الحمد بعد الطّعام أداء شكر المنعم وطلب المزيد، قال تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [7/ إبراهيم] . ولمّا كان الباعث على الحمد هو الطّعام ذكره أوّلا لزيادة الاهتمام؛ فقال (الّذي أطعمنا) ، ولمّا كان السّقي من تتمّته أردفه به؛ فقال: (وسقانا) ، فإنّه يقارنه في الأغلب، إذ الأكل لا يخلو غالبا عن الشّرب في أثنائه. وختم ذلك بقوله: (وجعلنا مسلمين» ) ؛ أي: منقادين لجميع أمور الدّين؛ للجمع بين الحمد على النّعم الدّنيويّة، والنّعم الآخرويّة. وإشارة إلى أنّ الأولى بالحامد ألايجرّد حمده إلى دقائق النّعم، بل ينظر إلى جلائلها، فيحمد عليها، لأنّها بذلك أحقّ، ولأنّ الإتيان بالحمد من نتائج الإسلام. (و) أخرج أبو داود، والنّسائي، وابن حبّان، وغيرهم، بإسناد صحيح؛ عن أبي أيّوب الأنصاري؛ رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال) عقبه (: «الحمد لله الّذي أطعم وسقى، وسوّغه) - بتشديد الواو-: سهل كلّا من دخول اللّقمة ونزول الشّربة في الحلق، ومنه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [17/ إبراهيم] . أي: يبتلعه، فالإفراد باعتبار المذكور. (وجعل له) أي: لما ذكر، (مخرجا) ؛ أي: السّبيلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وعن أبي أيّوب الأنصاريّ ... قال الطيبي: ذكر نعما أربعا: الإطعام، والسّقي؛ والتّسويغ، ومكان الخروج؛ فإنّه خلق الأسنان للمضغ، والرّيق للبلع؛ وجعل المعدة مقسما للطّعام، ولها مخارج، فالصّالح منه ينبعث إلى الكبد، وغيره يندفع في الأمعاء، كلّ ذلك فضل ونعمة يجب القيام بواجبها؛ من الشّكر بالجنان، والبثّ باللّسان، والعمل بالأركان. (و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» (عن أبي أيّوب) ؛ خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاريّ) ، الخزرجي النّجاري، المدني الصّحابي الجليل: شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وبيعة الرّضوان وجميع المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ونزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قدم المدينة مهاجرا، وأقام عنده شهرا حتى بنيت مساكنه ومسجده. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة وخمسون حديثا؛ اتّفق البخاري ومسلم على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. وروى عنه خلق كثير من الصّحابة والتابعين؛ منهم البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وأبو أمامة الباهلي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر. وعروة بن الزّبير. وخرّج له السّتّة، وكان مع علي في حروبه كلّها. ومات بأرض الروم غازيا سنة: إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية. لما أعطاه أبوه القسطنطينية؛ خرج معه فمرض، فلما ثقل عليه المرض؛ قال لأصحابه: إذا أنا متّ فاحملوني، فإذا صاففتم العدوّ فادفنوني تحت أقدامكم، ففعلوا ودفنوه قريبا من سورها. وقبره بالقسطنطينيّة معروف إلى اليوم، والنّاس يعظّمونه ويستشفون به؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 رضي الله تعالى عنه قال: كنّا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوما فقرّب طعام، فلم أر طعاما أعظم بركة منه أوّل ما أكلنا، ولا أقلّ بركة في آخره. فقلنا: يا رسول الله؛ كيف هذا؟ قال: «إنّا ذكرنا اسم الله تعالى حين أكلنا، ثمّ قعد من أكل؛ ولم يسمّ الله تعالى، فأكل معه الشّيطان» . فيشفون، وهذا مصداق حديث: «من تواضع لله رفعه الله» . فلمّا قصد التواضع بدفنه تحت الأقدام رفعه الله بتعظيمهم له. (رضي الله تعالى عنه؛ قال: كنّا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوما فقرّب) ؛ أي: إليه (طعام، فلم أر طعاما) كان (أعظم بركة منه أوّل ما أكلنا) ؛ أي: أوّل أكلنا ف «ما» مصدريّة، وهو منصوب على الظّرفيّة مع تقدير مضاف؛ أي: في أوّل وقت أكلنا. ويدلّ عليه قوله: (ولا أقلّ بركة) - منه- (في آخره) ؛ أي: في آخر وقت أكلنا إيّاه، (فقلنا: يا رسول الله، كيف هذا؟!) أي: بيّن لنا الحكمة والسّبب في حصول عظمة البركة وكثرتها في أوّل أكلنا هذا الطعام، وفي قلّتها في آخره؟. (قال: «إنّا ذكرنا اسم الله تعالى حين أكلنا) ، فبسبب ذلك كثرت البركة في أوّل أكلنا، وفيه إشارة إلى حصول سنّيّة التّسمية ب «بسم الله» وأمّا زيادة «الرّحمن الرّحيم» !! فهي أكمل؛ كما قاله الغزالي والنّووي وغيرهما، وإن اعتراضه الحافظ ابن حجر بأنّه لم ير لأفضليّة ذلك دليلا خاصّا فتندب التّسمية على الطّعام حتى للجنب والحائض والنّفساء، ولكن لا يقصدون بها قرآنا، وإلّا حرمت. ولا تندب في مكروه؛ ولا حرام لذاتهما، بخلاف المحرّم والمكروه لعارض. (ثمّ قعد من أكل؛ ولم يسمّ الله تعالى، فأكل معه الشّيطان» ) . أي: فبسبب ذلك قلّت البركة في آخره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 ......... وأكل الشّيطان محمول على حقيقته عند جمهور العلماء سلفا وخلفا، لإمكانه شرعا وعقلا، والشارع إذا أثبت شيئا لا يخرج عن دائرة الإمكان وجب اعتقاد حقيقته، وهذا من هذا القبيل. قال الإمام النّوويّ: الصواب الّذي عليه جماهير العلماء من السّلف والخلف؛ من المحدثين والفقهاء والمتكلمين: أنّ هذا الحديث وشبهه من الأحاديث الواردة في أكل الشّيطان محمولة على ظواهرها، وأنّ الشّيطان يأكل حقيقة، إذ العقل لا يحيله والشّرع لا ينكره؛ فوجب قبوله واعتقاده. انتهى. وقال النّوويّ أيضا في «شرح مسلم» وغيره: وينبغي أن يسمّي كلّ واحد من الآكلين، فإن سمّى واحد منهم! حصل أصل السّنّة؛ نصّ عليه الشّافعي. ويستدلّ له بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أخبر بأنّ الشّيطان إنّما يتمكّن من الطّعام إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليه! وهذا قد ذكر اسم الله عليه. ولأنّ المقصود يحصل بواحد؛ فهو شبيه بردّ السّلام، وتشميت العاطس، فإنّه يجزىء فيه قول أحد الجماعة. انتهى. ولا يشكل هذا الحديث على ما قاله الإمام الشافعي!! لأنّا نقول: الحديث محمول على أنّ هذا الرّجل حضر بعد التّسمية؛ فلم تكن تلك التسمية مؤثّرة في عدم تمكّن الشّيطان من الأكل معه.. وأمّا حمله على أنّ هذا الرّجل حضر بعد فراغهم من الطّعام!. ففيه بعد؛ لأنّه خلاف ظاهر الحديث، وكلمة «ثمّ» لا تدلّ إلّا على تراخي قعود الرّجل عن أوّل اشتغالهم بالأكل؛ لا عن فراغهم منه، كما ادّعاه من حمله على هذا. وكلام الشّافعي مخصوص بما إذا اشتغل جماعة بالأكل معا؛ وسمّى واحد منهم، فتسمية هذا الواحد تجزىء عن الحاضرين معه وقت التّسمية، لا عن شخص لم يكن حاضرا معهم وقت التّسمية، إذ المقصود من التّسمية عدم تمكّن الشّيطان من أكل الطّعام مع الإنسان، فإذا لم يحضر إنسان وقت التّسمية عند الجماعة؛ لم تؤثّر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأكل الطّعام في ستّة من أصحابه، فجاء أعرابيّ فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو سمّى.. لكفاكم» . تلك التّسمية في عدم تمكّن شيطان ذلك الإنسان من الأكل معه فتأمّل. انتهى. «شرح الأذكار» . (و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» - واللّفظ له-، والنّسائيّ، وابن ماجه، وابن حبّان في «صحيحه» وغيرهم- وقال التّرمذي: حديث حسن صحيح- (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يأكل الطّعام في ستّة) ؛ أي: مع ستّة (من أصحابه، فجاء أعرابيّ) - بفتح الهمزة- نسبة إلى الأعراب، وهم سكّان البادية. وفي «المصباح» : الأعرابي الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلأ. زاد الأزهري: سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن نزل البادية أو جاور البادين، وظعن بظعنهم فهو أعرابي. وإخبارها بذلك! إمّا 1- عن رؤيتها قبل الحجاب أو بعده، واقتصرت في الرّواية على رؤية الإناء، ولا يلزم منه رؤية الأعرابي! أو 2- عن إخباره صلّى الله عليه وسلم أو من غيره، فإن كان الأخير! فالحديث مرسل صحابي، وهو حجّة، خلافا للإسفرايني. (فأكله) ؛ أي: جاء ولم يذكر التّسمية، وشرع في الأكل فأكل الطّعام المذكور، (بلقمتين) ؛ أي: في لقمتين. وهذا يدلّ على أنّ الطّعام كان قليلا في حدّ ذاته، وكفاية ستّة نفر بذلك الطّعام مع قلّته من جملة معجزاته صلّى الله عليه وسلم. (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو سمّى) - وفي لفظ «أما إنّه لو سمّى» وفي لفظ «لو سمى الله» - (لكفاكم» ) وإياه، ببركة التّسمية، والمعنى: أنّ هذا الطّعام؛ وإن كان قليلا، لكن لو سمّى الأعرابي لبارك الله في الطّعام وكفاكم، لكن لمّا ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر الله تعالى على طعامه.. فليقل: باسم الله أوّله وآخره» . ذلك الأعرابيّ التّسمية انتفت البركة؛ لأنّ الشّيطان ينتهز الفرصة وقت الغافلة عن ذكر الله تعالى، وهذا تصريح بعظيم بركة التّسمية وفائدتها. وفي هذا كمال المبالغة في زجر تارك التّسمية على الطّعام؛ لأنّ تركها يمحقه. وفي الحديث: ما كان عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من التّواضع بالجلوس مع أصحابه والأكل معهم؛ بحيث يقدم الغريب فيأكل معه؛ (و) أخرج الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ؛ واللّفظ له، وابن ماجه، والحاكم، ورجاله ثقات، وهو من تتمة الحديث السابق. (عنها) ؛ أي: عن عائشة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم فنسي) - بفتح النّون وكسر السّين المخفّفة، أي: ترك نسيانا- (أن يذكر الله تعالى) ؛ أي: التّسمية، (على طعامه) - حين الشّروع في الأكل، ثمّ تذكّر في أثنائه أنّه ترك التّسمية- (فليقل:) ندبا (باسم الله) ؛ أي: آكل (أوّله) - بفتح اللّام- (وآخره» ) - بفتح الرّاء، أي: عند أوّله وعند آخره، ويجوز الجرّ، أي: في أوّله وفي آخره. ولا يقال: ذكر الأوّل والآخر يخرج الوسط!! لأنّا نقول: المراد بذلك التّعميم، فالمعنى: باسم الله على جميع أجزائه، فهو كقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) [مريم] فإنّ المراد به التّعميم، بدليل قوله تعالى أُكُلُها دائِمٌ [35/ الرعد] . على أنّه يمكن أن يقال: المراد بأوله: النّصف الأوّل، وباخره: النّصف الثّاني؛ فلا واسطة. وألحق أصحابنا الشّافعية بالنّسيان ما إذا تعمّد أو جهل، ومثل الأكل فيما ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل عند قوم.. لم يخرج حتّى يدعو لهم، فكان يقول: «اللهمّ؛ بارك لهم وارحمهم» ، في ندب الذّكر المذكور كلّ ما يشتمل على أفعال متعدّدة؛ من نحو اكتحال، وتأليف، وشرب، ما لم يكره الكلام أثناءه كجماع. انتهى «شرح الأذكار» . واعلم أنّ هذا الحديث، والّذي قبله، كلاهما حديث واحد، ذكره ابن علّان في «شرح الأذكار» عن ابن حجر، ولفظه: عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستّة نفر من أصحابه، فجاء أعرابيّ فأكله بلقمتين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أما إنّه لو ذكر الله تعالى لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى؛ فليقل باسم الله أوّله وآخره» حديث حسن، أخرجه أحمد وابن ماجه ورجاله ثقات. انتهى. ثمّ ذكر أنّ ابن حجر ذكره من طريق أخرى عن عائشة؛ وقال: أخرجه أحمد وأبو داود والتّرمذي والنّسائي والحاكم، وقال التّرمذي: حديث حسن صحيح، ثمّ ذكر أنّ بعض المحدّثين ذكر الحديث مقتصرا على القطعة الأولى، وبعضهم مقتصرا على القطعة الأخيرة؛ كما فعل المصنف النّبهاني. ثمّ قال: قال الحافظ: لحديث عائشة شاهد من حديث ابن مسعود أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من نسي أن يذكر الله تعالى في أوّل طعامه؛ فليقل حين يذكر «باسم الله أوّله وآخره» ؛ فإنّه يستقبل طعاما جديدا، ويمنع من كان يصيب منه» . أخرجه الحافظ ابن حجر من طريق الطّبراني في «الأوسط» قال: وأخرجه ابن حبّان، قال الحافظ: ورجاله ثقات. انتهى. (و) في «المواهب» و «الباجوري» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أكل عند قوم لم يخرج) من دارهم (حتّى يدعو لهم، فكان يقول) - حين دعا في منزل عبد الله بن بسر المازني- (: «اللهمّ بارك لهم) فيما رزقتهم، واغفر لهم (وارحمهم» ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وكان يقول: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . رواه مسلم، قال: نزل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على أبي، فقرّبنا له طعاما ... الحديث. وفيه: فقال أبي: ادع لنا ... فذكره. وللنّسائي: قال أبي لأخي: لو صنعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم طعاما. الحديث. وفي أبي داود وابن ماجه؛ عنه: دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقدّمنا له زبدا وتمرا، وكان يحب زبدا وتمرا. (وكان يقول) - حين دعا في منزل سعد لمّا أفطر عنده في رمضان- (: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم) ؛ أي: وشرب شرابكم (الأبرار) ؛ صائمين ومفطرين، فمفاد هذه الجملة أعمّ مما قبلها. (وصلّت عليكم الملائكة» ) ؛ أي: استغفرت لكم الملائكة الموكّلون بخصوص ذلك إن ثبت، وإلّا! فالحفظة، أو المعقّبات، أو رافعو الأعمال، أو الكلّ، أو بعض غير ذلك. وفيه ندب الدّعاء بذلك بناء على أنّ الجملة دعائيّة، وهو أقرب من جعلها خبريّة، وذلك مكافأة له على ضيافته إيّاه. رواه أبو داود؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه، فجاء بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفطر عندكم الصّائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلّت عليكم الملائكة» . ورواه ابن ماجه وابن حبّان؛ عن عبد الله بن الزّبير رضي الله تعالى عنهما قال: أفطر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال: «أفطر عندكم الصّائمون» ... الحديث. قال النّووي: قلت: هما قضيّتان جرتا لسعد بن عبادة؛ وسعد بن معاذ. وهو متّجه؛ لاختلاف المخرّجين!! وقد كثرت الأحاديث بدعائه صلّى الله عليه وسلم بذلك في عدّة مواضع، فمنها ما وقع في قصّة أبي الهيثم، وفي آخرها: فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بعضادتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل مع قوم.. كان آخرهم أكلا. وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذا وضعت المائدة.. فلا يقوم «1» الرّجل ... الباب، وقال: «أكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة، وذكركم الله فيمن عنده» وقد سبقت قصّة أبي الهيثم، مع بيان من خرّجها. روى أبو داود في «سننه» عن رجل، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: صنع أبو الهيثم بن التّيّهان للنّبي صلّى الله عليه وسلم طعاما، فدعا النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فلمّا فرغوا قال: «أثيبوا أخاكم» . قالوا: يا رسول الله؛ وما إثابته؟ قال: «إنّ الرّجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه؛ فدعوا له، فذلك إثابته» . وروى ابن السّنّي وغيره بإسناد فيه ضعف؛ عن عمرو بن الحمق رضي الله تعالى عنه أنّه سقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبنا؛ فقال: «اللهمّ أمتعه بشبابه» . فمرّت عليه ثمانون سنة، لم ير شعرة بيضاء. (و) روى البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن جعفر الصّادق، عن أبيه محمد الباقر مرسلا: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أكل مع قوم) - في منزله أو غيره- (كان آخرهم أكلا) لئلّا يخجلهم فيقوموا قبل استيفاء حاجتهم. (وروي عنه صلّى الله عليه وسلم) ؛ في حديث ابن عمرو مرفوعا، عند ابن ماجه والبيهقي، وضعّفه بقوله: أنا أبرأ من عهدته؛ (أنّه) صلى الله عليه وسلم (قال: «إذا وضعت المائدة فلا [يقوم] الرّجل) ، أي: أحد الآكلين؛ لا صاحب الطّعام فقط، أي: يندب أن لا يقوم والمصنّف اختصر الحديث تبعا للباجوري؛ التّابع لما في «جمع الوسائل» للقاري ك «المواهب» . ولفظه عند ابن ماجه والبيهقي: «إذا وضعت المائدة فليأكل الرّجل ممّا يليه، ولا يأكل ممّا بين يدي جليسه، ولا من ذروة القصعة،   (1) في «وسائل الوصول» : يقم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وإن شبع حتّى يفرغ [القوم] ؛ فإنّ ذلك يخجل جليسه، وعسى أن يكون له في الطّعام حاجة» . وعن عمر بن أبي سلمة- ربيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فإنّما تأتيه البركة من أعلاها، ولا يقوم رجل حتّى ترفع المائدة، ولا يرفع يده» ؛ (وإن شبع) . فالقيام مكروه، أو خلاف الأولى قبل رفع المائدة، بل رفع اليد؛ وإن شبع كذلك، ولو لم يقم، كما هو صريح الحديث، خلاف ما يوهمه اختصار المصنّف له (حتّى يفرغ [القوم] ) - لفظه: حتّى يرفع القوم، وليقعد (فإنّ ذلك) القيام (يخجل جليسه) فيقوم؛ لما جبلت عليه النّفوس من كراهة نسبتها إلى الشّره، وزيادة الأكل على غيرها، (وعسى أن يكون له) ؛ أي: الجليس (في الطّعام حاجة» ) ، فيقوم قبل تمامها؛ خجلا، وذلك قد يؤذيه. (و) أخرج الأئمّة السّتّة- كما قاله المناوي والزّرقاني، زاد الزرقاني ومالك في «الموطأ» : أي: بألفاظ مختلفة، بالزّيادة والنّقص. وكذا أخرجه التّرمذي في «الشّمائل» وهذا لفظه-: (عن) أبي جعفر: (عمر بن أبي سلمة) ؛ عبد الله بن عبد الأسد القرشي، المخزومي (ربيب) - بالرّاء المفتوحة والباء الموحّدة بعدها ياء مثنّاة، وآخرها باء موحدة، بوزن حبيب- أي: ابن أمّ سلمة، زوج (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) الصّحابي بن الصّحابيّين، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ولد بالحبشة حين هاجر بها أبوه في السّنة الثالثة من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتزوّج صلّى الله عليه وسلم أمّه بعد موت أبيه عنها، فنشأ في حجر المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وكان يوم الخندق هو وابن الزّبير في أطم حسّان بن ثابت، وكان عمره يوم قبض النّبيّ صلّى الله عليه وسلم تسع سنين. شهد وقعة الجمل مع عليّ رضي الله تعالى عنه، واستعمله على البحرين. روي له- فيما قيل- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنا عشر حديثا؛ روى له البخاري منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 أنّه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده طعام؛ فقال: «ادن يا بنيّ.، فسمّ الله تعالى، [وكل بيمينك] ، ... حديثين، وخرّج عنه الأربعة، وروى عنه عطاء وثابت. ومات سنة: - 83- ثلاث وثمانين، في خلافة عبد الملك. (أنّه) أي: عمر بن أبي سلمة (دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده طعام) ؛ أي: والحال أنّ عنده صلّى الله عليه وسلم طعاما. (فقال: «ادن) بضمّ همزة الوصل عند الابتداء بها وبضمّ النّون أيضا؛ أمر من الدّنو، أي: اقرب إلى الطّعام، يقال: دنا منه وإليه: قرب (يا بنيّ) - بصيغة التّصغير- شفقة منه صلّى الله عليه وسلم. وفيه أنّه ينبغي للكبير ملاطفة الصّغير، لا سيّما على الطّعام؛ لشدّة الاستحياء حينئذ (فسمّ الله تعالى) ؛ طردا للشّيطان ومنعا له من الأكل، والخطاب وإن خصّ الغلام لكن الحكم عامّ، والأمر فيه للنّدب، وهي سنّة كفاية، ولا خلاف في أنّ التّسمية بدء كل أمر محبوب سنّة مؤكّدة. ويسنّ للمبسمل الجهر ليسمع غيره فيقتدي به، وفيه حصول السّنّة بلفظ «باسم الله» ، لكن الأكمل إكمالها؛ كما صرّح به في «الأذكار» ، فقال ما حاصله: الأفضل إكمالها، وتحصل السّنّة ب (باسم الله) . قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر رحمه الله تعالى: ولم أر لما ادّعاه من الأفضليّة دليلا خاصّا!!. قال حجّة الإسلام الغزالي: يقول مع اللّقمة الأولى باسم الله، ومع الثّانية باسم الله الرحمن، ومع الثّالثة بسم الله الرحمن الرحيم. فإن سمّى مع كلّ لقمة فهو أحسن حتى لا يشغله الشّره عن ذكر الله، ويزيد بعد التّسمية: «اللهمّ بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النّار» . قال الحافظ ابن حجر: ولا أصل لذلك كله، واستحب العبّادي الشّافعي أن يقول «بسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء» . ( [وكل بيمينك] ) حمله أكثر الشّافعيّة وغيرهم على النّدب، وبه جزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ......... الغزالي؛ ثمّ النّووي، فيجوز مع الكراهة الأكل بالشّمال. لكن نصّ الشافعي في «الرّسالة» وفي مواضع من «الأم» على الوجوب!! وكذا نقله عنه الصّيرفي في «شرح الرّسالة» ، وانتصر له الإمام تقي الدّين السّبكي. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : ويدلّ على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشّمال؛ ففي «صحيح مسلم» من حديث سلمة بن الأكوع أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال له: «كل بيمينك» فقال: لا أستطيع، فقال: «لا استطعت» . فما رفعها إلى فيه بعد. وورد التّصريح باسم الرجل فيما رواه عبد بن حميد، والدّارمي وابن حبّان والطّبراني؛ عن سلمة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أبصر بسر- بضمّ الموحّدة وإسكان السّين المهملة- ابن راعي العير- بفتح العين وإسكان التحتيّة- الأشجعي، يأكل بشماله، فقال: «كل بيمينك» ، قال: «لا أستطيع» ، فما رفعها إلى فيه بعد. أي فما استطاع رفعها إلى فيه بعد. زاد في رواية ل «مسلم» : لم يمنعه إلا الكبر. وبه استدلّ القاضي عياض في «شرح مسلم» على أنّه كان منافقا. وزيّفه النّووي بأنّ ابن منده وأبا نعيم وابن ماكولا وغيرهم ذكروه في الصّحابة!! قال في «الإصابة» : وفيه نظر، لأنّ جميع من ذكره لم يذكر له سندا إلّا هذا الحديث، فالاحتمال قائم!؟ ويمكن الجمع بأنّه لم يكن في تلك الحالة أسلم، ثمّ أسلم بعد. انتهى. وفي «الفتح» : إنّ النّووي ردّه أيضا بأنّ الكبر والمخالفة لا يقتضي النّفاق، لكنّه معصية إن كان الأمر للوجوب؟!. وقد أجيب عن الاستدلال لوجوب الأكل باليمين بهذا الحديث بأنّ الدّعاء ليس لترك مستحبّ، بل لقصد المخالفة كبرا بلا عذر، فدعا عليه، فشلّت يمينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وكل ممّا يليك» . وبهذا لا يرد أنّ دعاءه عليه الصلاة والسلام المقصود به الزّجر؛ لا الحقيقي. وقد زاد الحافظ تقوية للوجوب قوله: وأخرج الطّبراني ومحمد بن الرّبيع الجيزي بسند حسن؛ عن عقبة بن عامر أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى سبيعة الأسلميّة تأكل بشمالها؛ فقال صلّى الله عليه وسلم: «أخذها داء غزّة» ! فقيل: إنّ بها قرحة، فقال: «وإن» ! فمرّت بغزّة فأصابها الطّاعون فماتت. وثبت النهي عن الأكل بالشّمال، وأنّه من عمل الشّيطان، من حديث ابن عمر وجابر عند مسلم. ولأحمد بسند حسن؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها رفعته: «من أكل بشماله أكل معه الشّيطان» . وهو على ظاهره. وورد: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه، فإنّ الشّيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله» رواه الحسن بن سفيان في «مسنده» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. والظّاهر أنّه نهي عن التّشبّه، فيفيد الاستحباب، وحديث سبيعة حمله الجمهور على الزّجر والسّياسة؛ قاله ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» . قال المناوي: واليمين: مشتقّة من اليمن، كما ذمّ أهل النّار بنسبتهم إلى الشّمال، فقال وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) [الواقعة] . فاليمين وما نسب إليها محمود ممدوح؛ لسانا وشرعا ودنيا وآخرة، وإذا كان كذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق اختصاص اليمين بالأعمال الشّريفة، وإن احتيج في شيء منها إلى الاستعانة بالشّمال! يكون بحكم التّبعيّة؛ وأمّا إزالة الأقذار ومباشرة الأعمال الخسيسة فبالشّمال. (وكل ممّا يليك» ) ؛ لأنّ الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مودّة؛ لنفور النّفس منه، لا سيّما في الأمراق، ولما فيه من إظهار الحرص والنّهم وسوء الأدب وأشباهها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 ......... والأمر فيه للنّدب على الأصحّ، وقيل: للوجوب؛ لما فيه من إلحاق الضّرر بالغير، ومزيد الشّره. ونصّ عليه الشّافعي في «الرّسالة» ومواضع من «الأمّ» . وانتصر له السّبكي- رحمه الله تعالى-! قال ولده العلّامة تاج الدّين السّبكيّ: جمع والدي نظائر هذه المسألة في كتاب له سماه: «كشف اللّبس عن المسائل الخمس» : 1- الأكل مما يلي، و 2- من رأس الثّريد، و 3- التعريس على قارعة الطّريق؛ و 4- اشتمال الصّمّاء؛ و 5- القران بين تمرتين أكلا؛ ونصر القول بأنّ الأمر فيها للوجوب. انتهى. لكنه اختيار له، والمعتمد خلافه. وفي «مختصر البويطي» : يحرم الأكل من رأس الثّريد، والقران في التّمر؛ والأصحّ أنّهما مكروهان، ومحلّ الخلاف إن لم يعلم رضا صاحبه، وإلّا! فلا حرمة ولا كراهة، فقد ورد أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يتتبّع الدّباء من حوالي القصعة!! والجواب بأنّه أكل وحده مردود بأنّ أنسا كان يأكل معه، على أنّه لو سلّم لا يجدي، لأنّ الأكل مما يلي الآكل سنّة؛ وإن كان وحده، كما اقتضاه إطلاق الشّافعيّة. وقيل: الأولى حمل التتبّع المذكور على أنّه من يمينه وشماله بعد فراغ ما بين يديه، ولم يكن أحد في جانبيه صلّى الله عليه وسلم. والأوّل أولى، والله أعلم على أنّ محلّ النّهي حيث كان الطّعام نوعا واحدا؛ وإلّا! كالثّريد والدّباء واللّحم، فيتعدى الأكل إلى غير ما يليه، ومحلّه أيضا في غير نحو الفاكهة، أمّا هي! فله أن يجيل يده فيها؛ كما في «الإحياء» . ويشهد له ما جاء عند ابن ماجه رحمه الله تعالى؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّه صلّى الله عليه وسلم كان إذا أتي بطعام أكل ممّا يليه، وإذا أتي بالتّمر جالت يده فيه) . وأورد في «الإحياء» أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «كل ممّا يليك» وكان يدور على الفاكهة. فقيل له في ذلك! فقال: «ليس هو نوعا واحدا» . انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت] : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بطعام.. أكل ممّا يليه، وإذا أتي بالتّمر.. جالت يده [فيه] . وتوقّف فيه النّووي رحمه الله، لكنّ خبر ابن ماجه يشهد له. وقضيّة ما رواه الغزالي أنّ محل الإجالة إذا كانت الفاكهة الحاضرة ذات أنواع، فإن كانت نوعا واحدا؟! فهي كغيرها في ندب الأكل مما يلي الآكل، وكراهته مما يلي غيره، وليس كذلك؛ بل كل ما يختلف أفراده فلا بأس بالإجالة فيه؛ نوعا كان أو أنواعا، وإن كان الأولى عدم الإجالة حينئذ لما فيه؛ مع وجود ذلك من الشّره، والتّطلّع إلى ما عند غيره، وترك الإيثار الّذي هو من شأن الأخيار. والله أعلم. انتهى من «شرح الأذكار» . ويؤخذ من هذا الحديث: أنّه يندب على الطّعام تعليم من أخل بشيء من آدابه، خلاف ما عليه النّاس في زعمهم أنّ فيه كسر نفس الآكل، فلا يعبأ بعادة النّاس المصادمة لما ثبت عن الصّادق المصدوق صلّى الله عليه وسلم من التّعليم لآداب الطّعام على الطّعام. والله أعلم. ( [و) أخرج ابن ماجه والخطيب، وهو حديث ضعيف: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت] : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أتي) - بالبناء للمجهول-، أي: جيء له- (بطعام أكل ممّا يليه) ؛ تعليما لأمّته آداب الأكل، فإنّ الأكل مما يلي الغير مكروه؛ لما فيه من مزيد الشّره والنّهمة، وإلحاق الأذى بمن أكل معه؛ وسببه: أنّ كلّ آكل كالحائز لما يليه من الطّعام، فأخذ الغير له تعدّ عليه؛ مع ما فيه من تقذّر النّفوس ممّا خاضت فيه الأيدي. ثمّ هو سوء أدب من غير فائدة؛ إذا كان الطّعام لونا واحدا، أمّا إذا اختلفت أنواعه فيرخّص فيه، كما أشار إليه بقوله: (وإذا أتي بالتّمر جالت) - بالجيم- (يده [فيه] ) ؛ أي: دارت في جهاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة.. فيحمده عليها، وجوانبه، فيتناول منه ما شاء. ومنه أخذ الغزاليّ أنّ محلّ ندب الأكل مما يلي إذا كان الطّعام لونا واحدا، وما إذا كان غير فاكهة، أمّا هي! فله أن يجيل يده فيها؛ لأنّها في معنى التّمر. قال ابن العربي: إذا كان الطّعام صنفا واحدا؛ لم يكن للجولان فيه معنى إلّا الشّره والمجاعة. وإذا كان ذا ألوان؛ كان جولانها له معنى، وهو اختيار ما استطاب منه. انتهى «مناوي» . قال الحفني: فيطلب الأكل ممّا يلي الآكل حيث لم يتنوّع الطّعام، وإلّا! فلا بأس بمدّ اليد إلى الآنية الّتي فيها الطّعام الّذي يشتهيه؛ وإن لم تكن تليه، كما لا بأس بمدّ اليد إلى التّمرة البعيدة عنه التي تشتهيها نفسه، ولذا كانت تجول يده صلّى الله عليه وسلم في التّمر، ويقاس عليه نحوه من مشمش وخوخ ... إلخ. نعم؛ إن قامت قرينة على تخصيص قوم بنوع فلا يجوز لغيرهم الأكل من غير علمهم برضا صاحبه، والله أعلم. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ، والنّسائي- واللّفظ ل «الشّمائل» - كلهم (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله ليرضى عن العبد) المؤمن، أي يرحمه ويثيبه؛ كما جاء في بعض الرّوايات: «يدخله الجنّة» - (أن) علّة ل «يرضى» ، أي: لأجل أن (يأكل) - بفتح همزة- «أن» - أي: بسبب أن يأكل، أو وقت أكله (الأكلة) - بفتح الهمزة: المرّة الواحدة- من الأكل، أي: الغدوة أو العشوة، كذا اقتصر عليه جمع منهم النّووي في «رياضه» ، لكن ضبطه بعضهم بالضّمّ؛ وقال: هي اللقمة. (فيحمده) بالنّصب؛ كما هو الظّاهر وفاقا لابن حجر، لكن رواية «الشّمائل» بالرّفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو يحمده (عليها) ؛ أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 أو يشرب الشّربة.. فيحمده عليها» . يرضى أكله المتعقّب بالحمد، مع أنّ نفعه لنفسه، فكيف بالحمد على ما لا نفع له فيه؟!. (أو) - للتّنويع، وليست للشّك- (يشرب الشّربة) - بفتح الشّين المعجمة، لا غير- وهذا يرجّح الوجه الأوّل في ضبط الأكلة، وكلّ من الأكلة والشّربة مفعول مطلق- (فيحمده عليها» ) ؛ يعني: يرضى عنه؛ لأجل أحد هذين الفعلين أيّا كان، وفيه أنّ أصل سنّيّة الحمد بعد كلّ من الطّعام والشّراب يحصل بأيّ لفظ اشتقّ من مادّة «ح م د» ، بل بما يدلّ على الثّناء على الله تعالى. وما سبق من حمده صلّى الله عليه وسلم المشتمل على تلك الصّفات البليغة البديعة! إنّما هو لبيان الأكمل؛ وفي هذا تنويه عظيم بمقام الشّكر، حيث رتّب هذا الجزاء العظيم- الذي هو أكبر أنواع الجزاء، كما قال سبحانه وتعالى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [72/ التوبة]- في مقابلة شكره بالحمد. وعبّر بالمرّة! إشعارا بأنّ الأكل والشّرب يستحقّ الحمد عليه؛ وإن قلّ جدا، أو أنّه يتعيّن علينا ألانحتقر من الله شيئا؛ وإن قلّ. ويسنّ خفض صوته به إذا فرغ؛ ولم يفرغ رفقته، لئلّا يكون منعا لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 [الفصل الرّابع في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الرّابع في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم (الفصل الرّابع) من الباب الرّابع (في) بيان الأخبار الواردة في (صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلم) والفاكهة: ما يتفكّه، أي: يتنعّم ويتلذّذ بأكله رطبا كان؛ أو يابسا كتين وبطيخ وزبيب ورطب ورمان، ومنه الفكاهة- بالضّمّ- للمزاح؛ لانبساط النّفس، وتفكّه بالشّيء: تمتّع به. وتفكّه: أكل الفاكهة، وقوله تعالى فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) [الرحمن] . قال أهل اللّغة: إنّما خصّ ذلك بالذّكر!! لأنّ العرب تذكر الأشياء مجملة، ثمّ تخص منها شيئا بالتّسمية؛ تنبيها على فضل فيه، ومنه قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [7/ الأحزاب] وكذلك مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [98/ البقرة] . فكما أنّ إخراج محمّد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى من النّبيين، وإخراج جبريل وميكائيل من الملائكة ممتنع؛ كذلك إخراج النّخل والرّمّان من الفاكهة ممتنع. قال الأزهري: ولا أعلم أحدا من العرب قال: النّخل والرّمّان ليسا من الفاكهة» ، ومن قال ذلك من الفقهاء!! فلجهله بلغة العرب وبتأويل القرآن «1» . وكما يجوز ذكر الخاص بعد العام للتّفضيل؛ كذلك يجوز ذكر الخاصّ قبل   (1) وحجّة من قال من الفقهاء أنّ الرّمان والتمر ليسا من الفاكهة؛ هو العطف، ولأن التمر فاكهة وغذاء، والرّمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا لتفكّه، وعلى هذا القول بعض الفقهاء، وأما عامة المفسرين وأهل اللّغة فعلى أنّ التمر والرّمان من جملة الفواكه، وإنما فصلهما بالذكر: للتخصيص والتفضيل. كقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [98/ البقرة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ الرّطب بيمينه، والبطّيخ بيساره؛ ويأكل الرّطب بالبطّيخ، وكان أحبّ الفاكهة إليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل الرّطب، ويلقي النّوى على الطّبق. العامّ للتفضيل، قال تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) [الحجر] . انتهى «مصباح» . أخرج الطّبراني في «الأوسط» ، وأبو نعيم في «الطب» ، وأبو الشيخ في «الأخلاق» ، والحاكم في «الأطعمة» ؛ من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، بسند ضعيف قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) إذا أكل رطبا وبطّيخا معا (يأخذ الرّطب بيمينه) ؛ أي: بيده اليمين، (والبطّيخ بيساره؛ ويأكل الرّطب بالبطّيخ) للتّعديل. (وكان) أي: البطّيخ (أحبّ الفاكهة إليه) ، وفيه: جواز الأكل باليدين جميعا. ويشهد له ما رواه الإمام أحمد؛ عن عبد الله بن جعفر قال: آخر ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إحدى يديه رطبات، وفي الآخرى قثّاء؛ فيأكل بعضا من هذه وبعضا من هذه. لكن لا يلزم منه لو ثبت أكله بشماله، فلعلّه كان يأخذ بيده اليمنى من الشّمال فيأكلها مع ما في يمينه، إذ لا مانع من ذلك!!. وأمّا أكله البطّيخ بالسّكّر!! فلم أر له أصلا إلّا في خبر معضل ضعيف. رواه النّوقاتي: وأكله بالخبز، لا أصل له، إنّما ورد في أكل العنب بالخبز حديث رواه ابن عدي بسند ضعيف؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قاله جميعه الحافظ زين الدّين العراقي رحمه الله تعالى. (و) أخرج الحاكم في «مستدركه» ؛ «باب الأطعمة» ، وقال: على شرطهما، وأقره الذّهبي؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأكل الرّطب؛ ويلقي النّوى على الطّبق) ، يعارضه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل البطّيخ بالرّطب، ويقول: «يكسر حرّ هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحرّ هذا» . حديث: نهى أن تلقى النّواة على الطّبق الّذي هو يؤكل منه الرّطب والتّمر. ولعلّ المراد هنا الطّبق الموضوع تحت إناء الرّطب؛ لا الطّبق الّذي فيه الرّطب، فإن وضعه مع الرطب في إناء واحد ربما تعافه النّفوس؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى. (و) أخرج أبو داود في «الأطعمة» ، والبيهقيّ كلاهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأكل البطّيخ) - بتقديم الباء على الطّاء، وبتقديم الطّاء على الباء الطّبّيخ؛ لغة في البطيخ بوزنه، وكلاهما روايتان ثابتتان في الحديث- والمراد به: الأصفر، بدليل ثبوت لفظ الخربز بدل البطّيخ في الرّواية الآتية، وكان يكثر وجوده بالحجاز، بخلاف الأخضر. وقال ابن القيّم: المراد الأخضر. قال زين الحفّاظ العراقي، وفيه نظر. والحديث دالّ على أنّ كلّ واحد منهما فيه حرارة وبرودة، لأنّ الحرارة في أحدهما والبرودة في الآخر. قال بعض الأطبّاء: البطّيخ بارد رطب، فيه جلاء، وهو أسرع انحدارا إلى المعدة من القثّاء والخيار، وهو سريع الاستحالة إلى أي خلط صادفه في المعدة، وإذا أكله محرور نفعه جدا، وإذا كان مبرودا عدّله بقليل زنجبيل. أو يفعل كما كان صلّى الله عليه وسلم يعدّله (بالرّطب) : ثمر النّخل إذا أدرك قبل أن يتتمّر؛ (ويقول: «يكسر حرّ هذا) أي: الرّطب (ببرد هذا) ، أي: البطّيخ، (وبرد هذا بحرّ هذا» ) . قال الزرقاني: كذا وقع للمصنّف- يعني القسطلّانيّ-: ببرد ... بحرّ- بالباء فيهما- تبعا لشيخه في «المقاصد» ؛ تبعا لشيخه في «الفتح» !! فيحتمل أن أوّله [نكسر] بنون مبنيّ للفاعل، وأنّه [يكسر] بتحتيّة مبنيّ للمجهول. وساقه «الجامع» بدون موحّدة فيها، وكل عزاه لأبي داود. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل البطّيخ بالخبز وبالسّكّر، ... قال ابن القيّم: وهذا من تدبير الغذاء الحافظ للصّحّة، لأنّه إذا كان في أحد المأكولين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل كسرها وعدّلها بضدّها. انتهى. قيل: وأراد البطّيخ قبل النّضج، فإنّه بعده حارّ رطب. قال ابن القيّم: في البطّيخ عدّة أحاديث لا يصحّ منها شيء غير هذا الحديث. انتهى. نقله المناوي. وقال في «المواهب» : وأمّا فضائل البطّيخ فأحاديثه باطلة، وإن أفرده النّوقاتي في جزء؛ كما قاله الحفّاظ، والله أعلم. وقد كان محمد بن أسلم الطوسي، العالم الرّباني، الزّاهد الورع، المقتدي بالآثار، الذي وصفه ابن المبارك بأنّه ركن من أركان الإسلام، كان لا يأكل البطّيخ تورّعا؛ لأنّه لم ينقل كيفيّة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم له، أي: هل بقشره ولبه؛ أو بدونهما. فلعلّ هذا مراده!! وإلّا! فقد ورد كيفيّة جمعه بين الرّطب والقثّاء أو البطّيخ؛ فيما رواه الطّبراني في «الأوسط» من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: رأيت في يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم قثّاء وفي شماله رطبا، وهو يأكل من ذا مرّة، ومن ذا مرّة!!. وفي سنده ضعف. وقد تقدّم حديث أنس في أول هذا الفصل، وأنّه صلّى الله عليه وسلم كان يأخذ الرّطب بيمينه والبطّيخ بيساره، فيأكل الرّطب بالبطّيخ، وكان البطّيخ أحبّ الفاكهة إليه. (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يأكل البطّيخ بالخبز) . قال العراقي: لم أره! وإنّما وجدت أكله العنب بالخبز، في حديث عائشة عند ابن عدي بسند ضعيف. (و) يأكل تارة (بالسّكّر) ، قال العراقيّ: إن أريد بالسّكّر نوع من التّمر والرّطب مشهور! فهو الحديث الآتي بعده. وإن أريد بالسّكّر الذي هو بطبرزد!! فلم أر له أصلا إلّا في حديث منكر معضل، رواه أبو عمر النّوقاتي في كتاب «البطيخ» ، من رواية محمد بن علي بن الحسين: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أكل بطّيخا بسكّر، وفيه موسى بن إبراهيم المروزي؛ كذبه يحيى بن معين. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وربّما أكله بالرّطب، ويستعين باليدين جميعا. قلت: قال في «المصباح» : السّكّر نوع من الرّطب شديد الحلاوة؛ قال أبو حاتم في كتاب «النخلة» : نخل السّكر، الواحدة سكّرة. وقال الأزهري: التّمر نخل السّكّر وهو معروف عند أهل البحرين، فإن كان المراد بالسّكّر هنا هو الطّبرزدي؛ فيتعيّن أن يكون المراد بالبطّيخ هو الأصفر، فإنّه الذي يؤكل به؛ مع احتمال إرادة الأخضر، إلّا أنّ ابن حجر ذكر في «شرح الشّمائل» أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لم ير السّكّر، وما ورد بأنّه حضر ملاك بعض الأنصار فنثر على العروس بالسّكّر واللّوز!! فلا أصل له. انتهى؛ جميعه من «شرح الإحياء» . (وربّما أكله بالرّطب) . قال الحافظ العراقي: رواه التّرمذي والنّسائي من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وحسنه الترمذي ولابن ماجه من حديث سهل بن سعد: كان يأكل الرّطب بالبطيخ وهو عند الدّارمي بلفظ: البطيخ بالرّطب وروى ابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها: كان أحبّ الفاكهة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرّطب والبطّيخ. وهو ضعيف. انتهى. قلت: ورواه الطّبراني في «الكبير» ؛ من حديث عبد الله بن جعفر بلفظ: كان يأكل البطّيخ بالرّطب. وروى الطّيالسي؛ من حديث جابر بسند حسن: كان يأكل الخربز بالرّطب، ويقول: «هما الأطيبان» . وهذا يؤيّد قول من قال: إنّ المراد بالبطّيخ هو الأصفر. انتهى من «شرح الإحياء» . (ويستعين باليدين جميعا) ، قال العراقي: رواه الإمام أحمد، من حديث عبد الله بن جعفر قال: آخر ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إحدى يديه رطبات، وفي الآخرى قثّاء يأكل من هذه، ويعض من هذه. وتقدم حديث أنس السّابق أوّل الفصل، في أكله بيديه. وروى الطّبراني في «الأوسط» ؛ من حديث عبد الله بن جعفر: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في يمينه قثّاء وفي شماله رطب، وهو يأكل من ذا مرّة ومن ذا مرّة. وسنده ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وأكل يوما الرّطب في يمينه، وكان يحفظ النّوى في يساره، فمرّت شاة، فأشار إليها بالنّوى، فجعلت تأكل من كفّه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتّى فرغ، وانصرفت الشّاة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين الخربز والرّطب. و (الخربز) : البطّيخ الأصفر. (وأكل) صلى الله عليه وسلم (يوما الرّطب في يمينه؛ وكان يحفظ النّوى في يساره، فمرّت) به (شاة فأشار إليها بالنّوى؛ فجعلت تأكل من كفّه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتّى فرغ، وانصرفت الشّاة) ، قال العراقي: هذه القصّة رويناها في «فوائد أبي بكر الشّافعي» من حديث أنس بإسناد ضعيف. انتهى. (و) أخرج النّسائيّ والتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجمع بين الخربز والرّطب) . وأخرج الطّيالسي بسند حسن؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل الخربز بالرّطب؛ ويقول: «هما الأطيبان» . وأخرجه أبو الشّيخ أيضا. (والخربز) - بكسر الخاء المعجمة وسكون الرّاء وكسر الموحّدة، بعدها زاي- (: البطّيخ) بالفارسيّة، والمراد به: (الأصفر) ؛ لا الأخضر كما وهم؛ لأنّه المعروف بأرض الحجاز. واستشكل بأنّ الغرض التّعديل بين برودة البطّيخ وحرارة الرّطب- كما علمت- والأصفر حارّ، والبارد إنّما هو الأخضر، فالأصفر ليس بمناسب هنا!!. وأجيب بأنّ المراد الأصفر غير النّضيج، فإنّه غير حارّ، والحارّ ما تناهى نضجه، وليس بمراد؛ كما ذكره بعض شرّاح «المصابيح» . انتهى «باجوري» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل القثّاء بالرّطب. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أرادت أمّي معالجتي للسّمنة لتدخلني على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فما استقام لها ذلك حتّى أكلت الرّطب بالقثّاء، فسمنت عليه كأحسن سمنة. أخرجه ابن ماجه، ... (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والتّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل القثّاء) - بكسر القاف وتشديد المثلّثة ممدودا-: نوع من الخيار، وقيل: هو اسم جنس لما يشمل الخيار والعجّور والفقّوس؛ واحدته قثّاءة. (بالرّطب) ، أي: مصحوبا معه دفعا لضرر كلّ منهما، وإصلاحا له بالآخر. وفي «الصّحيحين» : عن عبد الله بن جعفر: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل الرّطب بالقثّاء. والفرق بينهما: أنّ المقدّم أصل في المأكول كالخبز، والمؤخّر كالإدام. ومن فوائد أكل هذا المركّب المعتدل تعديل المزاج وتسمين البدن؛ فقد (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أرادت أمّي معالجتي للسّمنة لتدخلني على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك) . وفي رواية: فلم أقبل عليها بشيء ممّا تريد (حتّى أكلت) . وفي رواية: حتّى أطعمتني (الرّطب بالقثّاء، فسمنت عليه كأحسن سمنة. أخرجه) أبو داود، و (ابن ماجه) - بسكون الهاء وصلا ووقفا؛ لأنّه اسم أعجمي- وهو لقب ليزيد «والد الإمام أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، صاحب «السّنن» ، وتقدمت ترجمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 ورواه النّسائيّ: بإبدال (التّمر) مكان (الرّطب) . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل القثّاء بالرّطب وبالملح. وكان أحبّ الفواكه الرّطبة إليه [صلّى الله عليه وسلّم] : الرّطب والعنب. (ورواه) الحافظ أبو عبد الرحمن؛ أحمد بن شعيب (النّسائيّ) نسبة إلى «نسأ» مدينة مثل سبأ، كما قال: والنّسئيّ نسبة لنسإ ... مدينة في الوزن مثل سبإ عنها رضي الله تعالى عنها قالت: لما تزوجني النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عالجوني بكلّ شيء؛ فأطعموني القثّاء بالتّمر، فسمنت عليه كأحسن الشّحم. (بإبدال التّمر مكان الرّطب) ، وإبدال الشّحم مكان السّمنة، وهو من اختلاف الرّواة لاتّحاد المخرج، وعند أبي نعيم في «الطب» عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أمر أبويها بذلك. (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل القثّاء بالرّطب) ، وقد مرّ تخريجه قريبا؛ من حديث عبد الله بن جعفر. ورواه الطّبراني في «الأوسط» بلفظ: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في يمينه قثّاء وفي شماله رطب، وهو يأكل من ذا مرّة ومن ذا مرّة، وسنده ضعيف، وقد تقدّم. (و) كان صلّى الله عليه وسلم يأكل القثّاء (بالملح) ؛ لكونه يدفع ضرره. قال العراقي: رواه أبو الشّيخ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وفيه يحيى بن هاشم! كذّبه ابن معين وغيره، ورواه ابن عدي وفيه عباد بن كثير، متروك. انتهى. (وكان) صلى الله عليه وسلم (أحبّ الفواكه الرّطبة إليه: الرّطب) كذا في «كشف الغمّة» . وفي «الإحياء» بدل الرّطب البطّيخ، (والعنب) . قال العراقي: روى أبو نعيم في «الطب النّبوي» من رواية أمية بن زيد العبسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل العنب خرطا؛ يرى رؤاله على لحيته كخرز اللّؤلؤ. أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يحبّ من الفاكهة العنب والبطّيخ. وروى ابن عدي من حديث عائشة: «فإنّ خير الفاكهة العنب» ، وسنده ضعيف. انتهى. (و) أخرج الطّبراني في «الكبير» ، والعقيلي في «الضعفاء» ، وأبو بكر الشّافعي في «الغيلانيات» : كلهم؛ من حديث داود بن عبد الجبّار عن أبي الجارود؛ عن حبيب بن يسار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأكل العنب خرطا) ، يقال: خرط العنقود واخترطه: إذا وضعه في فيه فأخذ حبّه، وأخرج عرجونه عاريا. وفي رواية- ذكرها ابن الأثير-: خرصا- بالصّاد بدل الطّاء- أي: من غير عدد. لكن قال أبو جعفر العقيلي- بعد ما روى هذا الحديث في «كتاب الضعفاء والمتروكين» -: لا أصل لهذا الحديث، وداود ليس بثقة، ولا يتابع عليه. وقال البخاري: داود منكر الحديث. وفي «الميزان» للذّهبي؛ عن النّسائي: إنّه متروك. وأخرجه البيهقي في «الشّعب» من طريقين؛ ثمّ قال: ليس فيه إسناد قويّ، ورواه ابن عدي من طريق آخر؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. وقال العراقي: طرقه كلّها ضعيفة. وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» . وأقرّه السّيوطي في «مختصرها» ؛ فلم يتعقّبه، إلّا بأنّ الزّين العراقي اقتصر على تضعيفه، لكن قال في «شرح الإحياء» : لم يصب ابن الجوزي في كونه موضوعا، بل هو ضعيف، وقال الزرقاني على «المواهب» : ونوزع بأنّه ضعيف جدّا؛ لا موضوع. والله أعلم. (يرى رؤاله على لحيته كخرز اللّؤلؤ) ، هذه الزّيادة موجودة في «الإحياء» ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 ورؤاله «1» : ماؤه الّذي يتقطّر منه. وعن الرّبيّع بنت معوّذ ابن عفراء رضي الله تعالى عنها قالت: بعثني معاذ ... ولم يتكلّم عليها شارحه!! ( [والرّؤال] ) - بالضمّ- (: ماؤه الّذي يتقطّر منه) كما فسّره في «الإحياء» . (و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» ؛ (عن الرّبيّع) - براء مضمومة فموحّدة مفتوحة فتحتيّة مكسورة مشدّدة، وآخره عين مهملة على صيغة التصغير- (بنت معوّذ) - بضمّ الميم وفتح العين المهملة، وكسر الواو وبعدها ذال معجمة؛ على صيغة الفاعل، هذا هو المشهور. (ابن عفراء) - بعين مهملة مفتوحة، ثمّ فاء ساكنة ثمّ راء ثمّ ألف ممدودة؛ كحمراء- اسم أمه هي عفراء بنت عبيد بن ثعلبة النجاريّة، من صغار الصّحب، وأبوها من أكابرهم قتل يوم بدر، روى له السّتّة. وعفراء هذه لها خصيصة لا توجد لغيرها، وهي أنّها تزوّجت بعد الحارث البكير بن ياليل اللّيثي، فولدت له أربعة: إياسا وعاقلا وخالدا وعامرا، وكلّهم شهدوا بدرا، وكذلك إخوتهم لأمّهم بنو الحارث، فانتظم من هذا أنّها امرأة صحابيّة لها سبعة أولاد؛ شهدوا كلّهم بدرا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. انتهى؛ ذكره في «الإصابة» . واشتهر معوّذ باسم أمّه. واسم أبيه: الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد، ومعوّذ لم يرو له شيء، وهو أحد الّذين قتلوا أبا جهل بن هشام عدو الله يوم بدر. وأمّا الرّبيّع؛ فهي ممّن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة بيعة الرّضوان، روى عنها أهل المدينة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: بعثني معاذ) بن عفراء، «وهو عمّها» ، اشترك هو وأخوه معوّذ بن عفراء في   (1) في «وسائل الوصول» : ورؤاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 بقناع من رطب، وعليه أجر من قثّاء زغب. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ القثّاء، فأتيته به وعنده حلية قد قدمت عليه من البحرين، ... قتل أبي جهل ببدر، وتمّ أمر قتله على يد ابن مسعود بأن حزّ رقبته وهو مجروح مطروح يتكلّم، حتّى قال له: لقد ارتقيت مرتقى صعبا؛ يا رويعي الغنم. (بقناع) - بكسر القاف وتخفيف النّون- أي: بطبق يهدى عليه، وسمّي الطبق قناعا!! لأنّه أقنعت أطرافه إلى داخل أي: عطفت. انتهى «مناوي» . (من رطب) بيان لجنس ما فيه؛ (وعليه) أي: على ذلك القناع (أجر) - بفتح الهمزة وسكون الجيم وكسر الرّاء منوّنة-؛ جمع جر وبتثليث أوّله- وهو الصّغير من كلّ شيء؛ حيوانا كان أو غيره-. (من قثّاء) - بمثلّثة مشدّدة- (زغب) - بضمّ الزّاي وسكون المعجمة-: جمع أزغب، كأحمر وحمر، من الزّغب- بالفتح-: صغار الرّيش أوّل ما يطلع نبته، وصف به القثّاء تشبيها لزبره الّذي هو عليه بالرّيش الصّغير، روي مرفوعا على أنّه صفة لأجر، ومجرورا على أنّه صفة لقثّاء، قال شارح « ... » «1» : والأوّل أظهر. قال الزّمخشري عن بعضهم: كنت أمرّ في بعض طرقات المدينة فإذا أنا بحمّال على رأسه طن، فقال: أعطني ذلك الجرو، فتبصّرت فلم أر كلبا؛ ولا جروا!! فقلت: ما هنا جرو، فقال: أنت عراقيّ، أعطني تلك القثّاءة. (وكان صلّى الله عليه وسلم يحبّ القثّاء) ، أي: مع الرّطب، كما يؤيّده ما سبق من جمعه صلّى الله عليه وسلم بينهما، (فأتيته به) ، أي: بالقثّاء، (وعنده حلية) ، أي: والحال أنّ عنده حلية- بكسر أو فتح فسكون-: اسم لما يتزيّن به من نقد وغيره. (قد قدمت عليه) - بكسر الدّال؛ كعلمت، أي: وصلت إليه تلك الحلية- (من) خراج (البحرين) على لفظ التّثنية: إقليم بين البصرة وعمان، وهو من بلاد   (1) هكذا في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فملأ يده منها، فأعطانيه. قوله (أجر) - جمع جرو- وهو: الصّغير من كلّ شيء. وهنا: الصّغير من القثّاء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بباكورة الثّمرة ... نجد، ويعرب إعراب المثنّى، ويجوز أن تجعل النّون محل الإعراب مع لزوم الياء مطلقا؛ وهي لغة مشهورة، واقتصر عليها الأزهري؛ لأّنه صار علما مفرد الدّلالة؛ فأشبه المفردات، والنّسبة إليه بحرانيّ. (فملأ يده) ، أي: إحدى يديه؛ لا كلتا يديه، ولو أريد ذلك لقيل يديه، فالحمل على اليدين معا بعيد. (منها) ؛ أي: من تلك الحلية، (فأعطانيه) ، أي: لعظيم سخائه صلّى الله عليه وسلم وفيه كمال المناسبة، فإنّ الأنثى يليق بها الحلية. (قوله: أجر) - بفتح الهمزة فسكون الجيم فراء منوّن مكسورة: (جمع جرو) مثلّث الجيم- (وهو الصّغير من كلّ شيء) حتى الحنظل والبطّيخ ونحوه. (و) المراد (هنا الصّغير من القثّاء) ، وقيل: الرّمّان، وقيل: المراد هنا القثّاء مطلقا. (و) أخرج ابن السّنّي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والحكيم التّرمذي في «نوادر الأصول» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، والطّبراني في «الكبير» و «الصغير» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ورجال «الصغير» رجال الصّحيح؛ كما قاله الهيثمي-: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أتي) - بالبناء للمجهول- أي: جيء له (بباكورة الثّمرة) - بالثّاء المثلّثة- أي: أوّل ما يدرك من الفاكهة بحيث يصلح للأكل منها، قال أبو حاتم: الباكورة، هي أوّل كلّ فاكهة، ما عجل الإخراج. وابتكرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وضعها على عينيه، ثمّ على شفتيه، وقال: «اللهمّ؛ كما أريتنا أوّله.. فأرنا آخره» ، ثمّ يعطيه من يكون عنده من الصّبيان. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النّاس إذا رأوا أوّل الثّمر ... الفاكهة: أكلت باكورتها، ونخلة باكورة، وباكور، وبكور: أثمرات قبل غيرها؛ قاله المناوي. (وضعها على عينيه ثمّ على شفتيه) ؛ جبرا لخاطر من أتى بها، وسرورا بها لقرب عهدها بتكوين الله تعالى، كما كان يخرج يغتسل من ماء المطر، ويقول: «إنّه قريب عهد بربّه» ، أي: بتكوينه. (وقال) في دعائه: ( «اللهمّ؛ كما أريتنا أوّله فأرنا آخره» ) ، أي: فأبقنا حتّى نرى آخره، وكان القياس أوّلها وآخرها، لكنه ذكره على إرادة النّوع، فيسنّ لنا قول ذلك الذّكر. (ثمّ يعطيه من يكون عنده من الصّبيان) ؛ إيثارا على نفسه، وهو سيّد من يؤثر على نفسه!! وخصّ الصّبيان بالإعطاء! لكونهم أرغب فيه، ولكثرة تطلّعهم إلى ذلك، ولما بينهما من المناسبة في حداثة الانفصال عن الغيب. فإن لم يكن عنده صبيان حينئذ احتمل أنّه يعطيه نحو الرّجال، وأن يدّخره للصّبيان إلى أن يأتوا، واحتمل أن يأكله؛ والله أعلم. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ، والنّسائي، وابن ماجه، وابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» بألفاظ مختلفة بالزّيادة والنّقص- وهذا لفظ «الشّمائل» - كلّهم يروونه؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان النّاس إذا رأوا أوّل الثّمر) - بالثّاء المثلّثة والميم المفتوحتين- ويسمّى الباكورة، أي: باكورة كلّ فاكهة. قال ابن علّان: وظاهر أنّ المراد منه ثمر النّخل؛ لأنّه الّذي كان حينئذ بالمدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 جاؤوا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في ثمارنا، [وبارك لنا في مدينتنا] ، وبارك لنا في صاعنا، وفي مدّنا ... (جاؤوا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ إيثارا له على أنفسهم حبّا له وتعظيما لجنابه، ونظرا إلى أنه أولى النّاس بما سيق إليهم من الرّزق. قال العلماء: كانوا يفعلون ذلك رغبة في دعائه صلّى الله عليه وسلم بالبركة في الثّمر والمدينة والصاع والمدّ، وطلبا لمزيد استدرار بركته فيما تجدّد عليهم من النّعم؛ وفي الحديث: أنّه يستحبّ الإتيان بالباكورة لأكبر القوم علما وعملا. (فإذا أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال) مستقبلا للنّعمة المجددة بالتضرّع والمسألة والتوجّه والإقبال التّام إلى المنعم الحقيقي؛ طلبا لمزيد الإنعام، على وجه يعمّ الخاصّ والعامّ (: «اللهمّ؛ بارك لنا في ثمارنا) أي: زد فيها الخير بالنّموّ والحفظ من الآفات. ( [وبارك لنا في مدينتنا] ) بكثرة الأرزاق وبقائها على أصلها وإقامة شعائر الإسلام، وإظهاره على غاية لا توجد في غيرها، (وبارك لنا في صاعنا، و) بارك لنا (في مدّنا) - بضمّ الميم وتشديد الدّال المهملة- بحيث يكفي صاعنا ومدّنا من لا يكفيه صاع غيرنا ومدّه. فالمراد به الطّعام الّذي يكال بالصّيعان والأمداد، فيكون دعاء لهم بالبركة في أقواتهم. قال القاضي عياض: البركة تكون: 1- بمعنى النّماء والزّيادة، وتكون بمعنى الثّبات واللّزوم. و2- يحتمل أن تكون البركة المذكورة في الحديث دينيّة؛ وهي ما يتعلّق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في الزّكاة والكفّارات. فتكون بمعنى الثّبات والبقاء لها؛ كبقاء الحكم ببقاء الشّريعة وثباتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ......... و3- يحتمل أن تكون دنيويّة من تكثير الكيل والقدر بها، حتى يكفي منه في المدينة ما لا يكفي منه في غيرها. أو 1- ترجع البركة إلى التصرّف بها في التجارات وأرباحها. أو 2- إلى كثرة ما يكال بها من غلّاتها وثمارها، أو ترجع إلى الزّيادة فيما يكال بها؛ لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه، لما فتح الله عليهم ووسّع من فضله لهم، وملّكهم من بلاد الخصب والرّيف بالشّام والعراق ومصر وغيرها، حتّى كثر الحمل إلى المدينة واتّسع عيشهم، وصارت هذه البركة في الكيل نفسه، فزاد مدّهم مثل مدّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم مرّتين أو مرّة ونصفا. ولا مانع من إرادة إحاطة البركة بالكلّ، وفي هذا كلّه ظهور إجابة دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وقبوله. واختار النّووي من تلك التوجيهات: البركة في نفس مكيل المدينة، بحيث يكفي المدّ فيها لمن لا يكفيه في غيرها كما تقدّم. وقال القرطبي: إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدّعوة، ولا يلزم دوامها في كلّ حين ولكلّ شخص. انتهى. ذكره في «جمع الوسائل» . وقدّم الثّمار في الدّعاء!! قضاء لحق المقام، إذ هو مستدع لذلك، ثمّ ذكر الصّاع والمدّ؛ اهتماما بشأنهما؛ ففي كلامه إجمال بعد تفصيل، وتفصيل بعد إجمال، وهو من اللّطائف. والصّاع: مكيال معروف، وصاع المصطفى صلّى الله عليه وسلم الّذي بالمدينة المشار إليه هنا: أربعة أمداد، وذلك خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. وأمّا قول أبي حنيفة بأنّه ثمانية أرطال! فهو ممنوع بأنّ الزيادة عرف طارىء على عرف الشّرع، ولذلك لما اجتمع أبو يوسف بمالك رضي الله تعالى عنه بالمدينة المنورة حين حجّ مع الرّشيد، فقال أبو يوسف: الصّاع ثمانية أرطال. فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 اللهمّ؛ إنّ إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيّك، وإنّي عبدك، ونبيّك، وإنّه دعاك لمكّة، وإنّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكّة ومثله معه» . قال: ثمّ يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثّمر. مالك: صاع المصطفى صلّى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث، فأحضر مالك جماعة شهدوا بقوله، فرجع أبو يوسف عن قوله. والمدّ: رطل وثلث، فهو ربع صاع؛ قاله المناوي. (اللهمّ؛ إنّ إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيّك) ، والغرض من ذلك التوسّل في قبول دعائه بعبوديّة أبيه إبراهيم وخلّته ونبوّته؛ (وإنّي عبدك، ونبيّك) ، الغرض من ذلك التوسّل في قبول دعائه بعبوديّته ونبوّته. وقدّم الأولى! لأّنّه لا شرف أعلى منها ولم يقل «وخليلك» وإن كان خليلا؛ كما ورد في عدّة أخبار!! لأنّه خصّ بمقام المحبّة الأرفع من مقام الخلّة، أو أدبا مع أبيه الخليل، مع كونه أشار إلى تميّزه عليه بقوله: «ومثله معه» ! على أنّ إبراهيم لم يبتد حرمة مكة بل أظهرها، وأمّا نبيّنا؛ فأوجد حرمة المدينة، إذ لم يكن بها قبل دعائه وحلوله بها ذلك الاحترام، وشتّان بين من كان سببا لإظهار موجود لكنّه كامن خفي، ومن كان سببا لإنشاء تعظيم وتحريم!! (وإنّه دعاك لمكّة) بقوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [37/ إبراهيم] فاكتفى صلّى الله عليه وسلم بدعاء إبراهيم لها ولم يدع لها مع كونها وطنه. (وإنّي أدعوك للمدينة) المنوّرة (بمثل ما دعاك به لمكّة ومثله معه) ، أي: مثل ذلك المثل، أي: أدعوك ضعف ما دعاك به إبراهيم لمكّة. (قال) أي أبو هريرة (: ثمّ يدعو) ، أي: ينادي (أصغر وليد يراه) ، أي: أصغر مولود يراه من أهل بيته؛ إن صادفه، وإلّا فمن غيرهم، (فيعطيه) ، أي: فيعطي ذلك الوليد (ذلك الثّمر) الذي هو الباكورة لكثرة رغبة الولدان وشدّة تطلّعهم لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 قال العلماء: وقد استجيبت دعوة الخليل لمكّة، والحبيب للمدينة، فصار يجبى إليهما من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كلّ شيء. وإنّما لم يأكل صلّى الله عليه وسلم منه!! إشارة إلى أنّ النّفوس الزكية والأخلاق المرضيّة لا تتشوّف إلى شيء من أنواع الباكورة؛ إلّا بعد عموم الوجود، فيقدر كلّ أحد على تحصيله. وفيه 1- أن الآخذ للباكورة يسنّ أن يدعو بهذا الدّعاء. و2- أنّ وقت رؤية الباكورة مظنّة إجابة الدّعاء. (قال العلماء: وقد استجيبت دعوة الخليل لمكّة) المكرمة في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) [إبراهيم] يعني: وارزقهم من الثّمرات بأن تجلب إليهم من البلاد الشّاسعة لعلّهم يشكرون النّعمة؛ في أن يرزقوا أنواع الثّمرات حاضرة في واد ليس لهم فيه نجم «1» ولا شجر؛ ولا ماء. ولا جرم أنّ الله أجاب دعوته وجعله كما أخبر عنه بقوله أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) [القصص] : (و) استجيبت دعوة (الحبيب) الأعظم صلّى الله عليه وسلم (للمدينة) المنورة بأنواره صلّى الله عليه وسلم، وضوعف خيرها؛ (فصار يجبى إليهما) ، أي: إلى مكّة والمدينة من زمن الخلفاء الراشدين (من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كلّ شيء) . وزاد عليها- استجابة لقوله: «ومثله معه» - شيئان: أحدهما: في ابتداء الأمر؛ وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما؛ وإنفاقهما في سبيل الله على أهلها. وثانيهما: في آخر الأمر؛ وهو أنّ الإيمان يأرز إليها من الأقطار.   (1) ما يقابل الشجر من النبات. وهو كل ما كان صغيرا منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وكان عليه الصّلاة والسّلام يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يحتمي عنها. فائدة: قال القسطلّانيّ: وهذا من أكبر أسباب الصّحّة، فإنّ الله سبحانه وتعالى بحكمته جعل في كلّ بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته، فيكون تناوله من أسباب صحّتهم وعافيتهم، ويغني عن كثير من الأدوية، وقلّ من احتمى عن فاكهة بلده خشية السّقم؛ إلّا وهو من أسقم النّاس جسما، وأبعدهم عن الصّحّة والقوّة. فمن أكل منها ما ينبغي، في الوقت الّذي ينبغي، على الوجه الّذي ينبغي.. كان له دواء نافعا. (و) في «المواهب» : (كان عليه الصّلاة والسّلام يأكل من فاكهة بلده) ، أي: ما يتجدّد منها؛ كخوخ ورمّان في أوانهما، لا بمعناها اللّغوي؛ وهو: ما يتنعّم بأكله رطبا كان أو يابسا؛ كلوز وبندق يابسين، بدليل قوله (عند مجيئها) أي: وجودها وظهورها، (ولا يحتمي) : يمتنع (عنها) صلى الله عليه وسلم. (فائدة) تقدّم الكلام عليها: (قال) العلّامة (القسطلّانيّ) في «المواهب» : (وهذا) أي: الأكل من فاكهة بلده عند مجيئها (من أكبر أسباب الصّحّة، فإنّ الله سبحانه وتعالى بحكمته جعل في كلّ بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته، فيكون تناوله من أسباب صحّتهم وعافيتهم، ويغني عن كثير من الأدوية، وقلّ) - بمعنى النّفي الصّرف- أي: انتفت الصّحّة عن (من احتمى عن فاكهة بلده خشية السّقم) ، فلا يوجد أحد منهم (إلّا وهو من أسقم النّاس جسما، وأبعدهم عن الصّحّة والقوّة) . وليس المراد أن المحتمّين المصابين بالسّقم قليل. (فمن أكل منها ما ينبغي؛ في الوقت الّذي ينبغي؛ على الوجه الّذي ينبغي؛ كان له دواء نافعا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ......... يؤخذ منه أنّ ما يجلب من الفاكهة؛ كتفّاح من الشّام إلى مصر، لا ينبغي تناوله إلّا بعد معرفة أنّه مما ينبغي تناوله ذلك الوقت، إذ ليس من فاكهة بلده، وجاز أنّ فيه خواصّ تليق بأكله في محلّه؛ دون ما جلب له. خاتمة: روى ابن السّنّي وأبو نعيم؛ عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أهدي له صلّى الله عليه وسلم طبق من تين، فقال: «كلوا، فلو قلت «إنّ فاكهة نزلت من الجنّة بلا عجم» ؛ لقلت: هي التّين» ، وأنّه يذهب بالبواسير وينفع من النّقرس. ولأحمد أنّه صلّى الله عليه وسلم دخل بيت سعد بن عبادة؛ فقرب إليه زبيبا فأكل. وللطّبراني: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بسفر جلة من الطّائف، فقال: «كلوه؛ فإنّه يذهب بطخاوة القلب، ويجلو الفؤاد، ويذهب طخاء الصّدر» . ولابن حبان: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم برمّان؛ يوم عرفة فأكل. وللخطيب؛ عن البراء: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل توتا في قصعة؛ ذكره الزرقانيّ في «شرح «المواهب اللّدنيّة» للقسطلّاني» رحمهم الله تعالى أجمعين. آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 [الفصل الخامس في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه] الفصل الخامس في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحلو البارد. (الفصل الخامس:) من الباب الرّابع (في) بيان ما ورد من الأخبار في (صفة شرابه) صلى الله عليه وسلم، والشّراب: ما يشرب من المائعات، يقال: شربت الماء وغيره؛ شربا- بتثليث الشّين لكنّه بالفتح مصدر قياسيّ، وبالضّمّ والكسر مصدران سماعيّان، خلافا لمن جعلهما اسمي مصدر-. وفي هذا الفصل بيان الأحاديث الّتي فيها كيفية شربه (صلى الله عليه وسلم) . قال في «المصباح» : الشّرب: مخصوص بالمصّ حقيقة، ويطلق على غيره مجازا. (و) في بيان الأخبار الواردة في (قدحه) صلى الله عليه وسلم. والقدح- بفتحتين-: ما يشرب فيه، وهو إناء لا صغير ولا كبير، وجمعه أقداح؛ كسبب وأسباب. وكان له صلّى الله عليه وسلم قدح يسمّى الرّيان، وآخر يسمّى مغيثا، وقدح مضبّب بسلسلة من فضّة في ثلاثة مواضع، وآخر من زجاج، وآخر من عيدان- بفتح العين المهملة- والعيدانة: النّخلة السّحوق، وهو الّذي كان يوضع تحت سريره ليبول فيه باللّيل. وقد تقدّم (عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحلو البارد) ؛ برفع «أحبّ» على أنّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 ......... اسم «كان» ، ونصب «الحلو البارد» على أنّه خبرها، وقيل: بالعكس. أخرجه الإمام أحمد والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» في «الأشربة» ؛ عن عائشة، والحاكم في «الأطعمة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا. وتعقّبه الذّهبيّ بأنّه من رواية عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. وعبد الله هالك! فالصّحيح إرساله. انتهى. ولذا قال التّرمذيّ في «جامعه» : والصحيح ما روي عن الزّهري عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم مرسلا؛ ثمّ يحتمل أن تريد عائشة ب «الحلو البارد» : الماء الحلو العذب؛ كالعيون والآبار الحلوة، فإنّه كان يستعذب له الماء، ويحتمل أن تريد به الماء الممزوج بالعسل، أو الذي ينقع فيه التّمر أو الزّبيب. قال ابن القيّم: والأظهر أنّه يعمّ الثّلاثة جميعا، لأنّه يصدق على الكلّ أنّه ماء حلو. وكان صلّى الله عليه وسلم ينبذ له أوّل اللّيل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك واللّيلة التي تجيء والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء سقاه الخادم؛ أو أمر به فصبّ. رواه مسلم. وهذا النّبيذ هو: ماء حلو يطرح فيه تمر يحلّيه، وله نفع عظيم في زيادة القوّة، ولم يكن يشربه بعد ثلاث؛ خوفا من تغيره إلى الإسكار. فإن لم يتغيّر سقاه الخادم، وإلّا صبّه. ولا يشكل بأنّ اللّبن كان أحبّ إليه!! لأنّ الكلام في شراب هو ماء؛ أو فيه ماء. وأمّا حديث عائشة: كان أحبّ الشّراب إليه العسل. رواه ابن السّنّي وأبو نعيم في «الطب» ؟! فالمراد: الممزوج بالماء، كما يأتي في الرواية الّتي بعد هذا. وروى الإمام أحمد: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيّ الشّراب أطيب؟ قال: «الحلو البارد» ، فإذا جمع الماء الوصفين المذكورين- وهما الحلاوة والبرودة- حفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشرب العسل الممزوج بالماء البارد. الصّحّة، ونفع الأرواح والقوى، والكبد والقلب، وقمع الحرارة وحفظ على البدن رطوباته الأصليّة، وردّ إليه ما تحلّل منها، ورقّق الغذاء ونفّذه إلى العروق. والماء الملح؛ أو السّاخن يفعل ضدّ هذه الأشياء، وتبريد الماء وتحليته لا ينافي كمال الزّهد!! لأنّ فيه مزيد الشّهود لنعم الله تعالى، وإخلاص الشّكر له، ولذلك كان سيّدي أبو الحسن الشّاذلي يقول: إذا شربت الماء الحلو أحمد ربّي من وسط قلبي. وليس في شرب الماء الملح فضيلة. ويكره تطييبه بنحو مسك كتطييب الماكل، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم يستعمل أنفس الشّراب؛ لا أنفس الطّعام غالبا، وكان صلّى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت صحبه، أي: يطلب له الماء العذب من بيوتهم. (و) في «المواهب» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشرب العسل) : النحل، إذ هو المراد لغة وطبّا. وفي «القاموس» العسل- محرّكة-: لعاب النّحل. (الممزوج بالماء البارد) . وقال ابن القيّم: وفي هذا من حفظ الصّحّة ما لا يهتدي إلى معرفته إلّا أفاضل الأطبّاء، لما فيه من التّعديل، فإنّ شرب العسل ولعقه على الريق يزيل البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها «1» ، ويدفع عنها الفضلات، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها «2» ، والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ البدن، فجمعه مع العسل غاية في التّعديل. وإنّما يضرّ بالعرض لصاحب الصّفراء!! لحدّته وحدّة الصّفراء، فربّما هيّجها، فدفع ضرره لصاحبها بالخلّ. قال في «العارضة» : كان يشرب الماء البارد ممزوجا بالعسل، فيكون حلوا باردا، وكان يشرب اللّبن، ويصبّ عليه الماء حتّى يبرد أسفله.   (1) شيء كالدهن يتربى على فم المعدة. (2) بضم السين المهملة جمع سدة؛ كغرفة وغرف، وهي الحاجز بين الشيئين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وعن جابر: أنّه صلّى الله عليه وسلّم دخل على رجل من الأنصار- ومعه صاحب له- فسلّم، فردّ الرّجل وهو يحوّل الماء في حائطه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن كان عندك ماء بات في شنّة، وإلّا.. كرعنا» ، وقال في «العارضة» أيضا: العسل واللّبن مشروبان عظيمان، سيّما لبن الإبل «1» ، فإنّها تأكل من كلّ الشّجر، وكذا النّحل لا تبقي نورا إلا أكلت منه، فهما مركبان من أشجار مختلفة، وأنواع من النّبات متباينة، فكأنّهما شرابان مطبوخان مصعدان، ولو اجتمع الأوّلون والآخرون على أن يركّبوا شيئين منهما لما أمكن، فسبحان جامعهما. انتهى نقله المناوي والزرقاني. (و) أخرج البخاري في موضعين في «الأشربة» ، وأبو داود وابن ماجه في «الأشربة» أيضا؛ (عن جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (أنّه صلّى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار) بستانه، وهو أبو الهيثم بن التّيّهان- جزم به الحافظ ابن حجر في «المقدمة» ، ومرّضه «2» في «الشرح» ، لأنّ راويه الواقديّ، وهو متروك-. (ومعه صاحب له) أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه (فسلّم) ، أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وصاحبه- كما في رواية، أي: وسلّم صاحبه- على الرّجل، (فردّ الرّجل) السّلام عليهما- زاد في رواية للبخاري: وقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي- وهي ساعة حارة. (وهو) - في رواية: والرجل- (يحوّل الماء في حائطه) ، أي: ينقله من عمق البئر إلى ظاهرها، أو يجري الماء من جانب إلى جانب من بستانه؛ ليعمّ أشجاره بالسّقي. (فقال صلّى الله عليه وسلم) للرجل (: «إن كان عندك ماء بات في شنّة) - بفتح الشّين المعجمة والنّون المشدّدة، وتاء تأنيث-: قربة خلق، وجواب الشّرط محذوف- صرّح به في رواية ابن ماجه، فقال-: فاسقنا منه، (وإلّا) يكن عندك (كرعنا» ) ، - بفتح   (1) لعلها: البقر والله أعلم. (2) ضعّفه أو شكك في صحته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فقال: عندي ماء بات في شنّ، فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء، ثمّ حلب عليه من داجن [له] ؛ فشرب عليه الصّلاة والسّلام. الكاف والرّاء؛ وتكسر- أي: شربنا من غير إناء ولا كفّ؛ بل بالفم. (فقال: عندي ماء بات في شنّ) ، قال الجوهري: الشّن والشّنة: القربة الخلق، وقال الدّاودي: هي الّتي زال شعرها من البلى. (فانطلق) - بفتحات- أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وصاحبه مع الرّجل بطلبه (إلى العريش) الموضع المسقف من البستان بالأغصان، وأكثر ما يكون في الكروم؛ وعليه عشب وثمام- وفي رواية للبخاري: فانطلق بكسر اللّام وإسكان القاف فانطلق بهما- (فسكب) أي: الرّجل (في قدح ماء، ثمّ حلب عليه) لبنا (من داجن [له] ) - بجيم ونون-: شاة تألف البيوت، كما سيأتي للمصنف. (فشرب عليه الصّلاة والسّلام) ، ثمّ شرب الرّجل الذي جاء معه. وفي رواية أحمد: وشرب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وسقى صاحبه، قال الحافظ ابن حجر: وظاهره أنّه شرب فضلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجه: ثمّ سقاه، ثمّ صنع لصاحبه مثل ذلك، أي: حلب له أيضا، وسكب عليه من الماء البائت؛ هذا هو الظّاهر، ويحتمل أنّ المثليّة في مطلق الشّراب. انتهى. وعورض هذا الحديث بما أخرجه ابن ماجه؛ عن ابن عمر: مررنا على بركة، فجعلنا نكرع فيها، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تكرعوا، ولكن اغسلوا أيديكم ثمّ اشربوا بها..» الحديث. وفي سنده ضعف، فإن كان محفوظا!! فالنّهي فيه للتّنزيه. وقوله: وإلّا كرعنا!! لبيان الجواز، أو كان قبل النّهي، أو النّهي في غير حال الضّرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الّذي ليس ببارد، فشرب بالكرع لضرورة العطش؛ لئلّا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الرّي. أشار إلى هذا الأخير ابن بطّال. وإنّما قيل للشّرب بالفم كرع!! لأنّه فعل البهائم لشربها بأفواهها، والغالب أنّها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 و (الشّنّ) : الجلد البالي. و (الدّاجن) : ما يألف البيوت من الشّياه ونحوها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استنّ.. أعطى السّواك الأكبر، ... تدخل أكارعها حينئذ. وعند ابن ماجه من وجه آخر؛ عن ابن عمر: نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا؛ وهو الكرع. وسنده ضعيف أيضا. فإن ثبت! احتمل أنّ النّهي خاصّ بهذه الصّورة، وهي أن يكون الشّارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشّرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح. انتهى «زرقاني» . (والشّنّ) : - جمعه شنان؛ مثل سهم وسهام- هو (الجلد البالي. (و) أمّا (الدّاجن) - بالدال المهملة والجيم المكسورة، وآخره نون؛ بوزن العاجن- فهي (: ما يألف البيوت من الشّياه) والدّجاج والحمام، (ونحوها) - والجمع دواجن. (و) أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ؛ عن عبد الله بن كعب بن مالك السّلمي- قال في «التقريب» : يقال له رؤية؛ ولا رواية له اتفاقا، فالحديث مرسل. قال في العزيزي: وهو حديث حسن-: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا استنّ) ؛ أي: تسوّك، أي: استعمل السّواك في أسنانه- من السّنّ؛ وهو إمرار شيء فيه خشونة على آخر، ومنه المسنّ- (أعطى السّواك الأكبر) ، الظّاهر أنّ المراد به: الأفضل، ويحتمل الأسنّ، أي: ناوله بعد تسوّكه به إلى أكبر القوم الحاضرين لأنّه توقير له، فيندب تقديم الأكبر في السّواك وغيره من سائر وجوه الإكرام والتّوقير، وفيه حلّ الاستياك بحضرة الغير؛ قاله المناوي. وفي العزيزي: قال الشّيخ: وهذا يشعر بجواز دفع السّواك للغير، لكن ينبغي حمله على جواز بكراهة في شأن غير الشّارع، على أنّه كان يفعل مثل ذلك لبيان الجواز فلا ينافي حينئذ كراهة الاستياك بسواك الغير. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وإذا شرب.. أعطى الّذي عن يمينه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يمصّ الماء مصّا، ولا يعبّ عبّا. وفي الحفني قوله: أعطى السّواك الأكبر، أي: أكبر الحاضرين؛ وإن لم يكن على يمينه، بخلاف الأكل والشّرب، فيسنّ البدء بمن على اليمين؛ ولو صغيرا ومفضولا. ويؤخذ من هذا الحديث عدم كراهة الاستياك بسواك الغير إذا كان بإذنه، وهو كذلك، ففي «شرح محمد رملي» : ولا يكره سواك غيره بإذنه، ويحرم بدونه؛ إن لم يعلم رضاه به. انتهى. قال علي الشّبراملسي: «قوله ولا يكره» ؛ أي: لكنّه خلاف الأولى إلّا للتّبرّك، كما فعلته عائشة رضي الله تعالى عنها. انتهى. (وإذا شرب) ماء؛ أو لبنا (أعطى الّذي عن يمينه) ؛ ولو مفضولا صغيرا- كما مرّ-. قال ابن حجر: وظاهر تخصيص الشّراب أنّ ذلك لا يجري في الأكل، لكن وقع في حديث أنس خلافه. انتهى «مناوي» . (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يمصّ الماء) - بضمّ الميم وفتحها، ومنهم من يقتصر عليه- (مصّا) - مصدر مؤكّد لما قبله- أي: يأخذه في مهلة ويشربه شربا رفيقا. (ولا يعبّ) - بضمّ العين- (عبّا) ، أي: لا يشرب بكثرة من غير تنفّس. روى البغوي، والطّبراني، وابن عدي، وابن قانع، وابن منده، وأبو نعيم في «الصحابة» ، وابن السّنّي، وأبو نعيم في «الطّب» ؛ من حديث بهز: كان يستاك عرضا، ويشرب مصّا. وأسانيده كلّها ضعيفة مضطربة. وروى الطّبراني؛ من حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان يبدأ بالشّراب إذا كان صائما، وكان لا يعبّ فيشرب مرّتين أو ثلاثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وكان يدفع فضل سؤره إلى من على يمينه، فإن كان من على يساره أجلّ رتبة.. قال للّذي على يمينه: «السّنّة أن تعطى، فإن أحببت.. آثرتهم» . ولأبي الشّيخ؛ من حديث ميمونة: لا يعبّ ولا يلهث. وكلّها ضعيفة. وروى سعيد بن منصور، وابن السّنّي، وأبو نعيم في «الطّب» ، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من مرسل ابن أبي حسين: «إذا شرب أحدكم فليمصّ مصّا، ولا يعبّ عبّا، فإنّ الكباد من العبّ» . وروى أبو داود في «مراسيله» ؛ عن عطاء ابن أبي رباح: «إذا شربتم فاشربوا مصّا، وإذا استكتم فاستاكوا عرضا» . وروى الدّيلمي من حديث علي: «إذا شربتم الماء فاشربوه مصّا، ولا تشربوه عبّا، فإنّ العبّ يورث الكباد» . والكباد- بضمّ الكاف وتخفيف الباء-: وجع الكبد، لأنّ مجمع العروق عند الكبد، ومنه ينقسم إلى العروق ويتولّد منه السّدد فيقوى البلغم؛ فيورث كسلا عن القيام والعبادة، وهذا من محاسن حكمته عليه الصلاة والسّلام. قال ابن القيّم: وقد علم بالتجربة أنّ هجوم الماء دفعة واحدة يؤلم الكبد ويضعف حرارتها، بخلاف وروده بالتدريج، ألا ترى أنّ صبّ الماء البارد على القدر وهي تفور يضرّ، وبالتدريج لا. انتهى. (وكان) صلى الله عليه وسلم (يدفع فضل سؤره) ؛ أي: ما بقي من الشراب (إلى من على يمينه) . قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. ومن ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «الأيمن فالأيمن» ... أو «الأيمنون فالأيمنون» . واستفيد منه تقديم الأيمن ندبا؛ ولو صغيرا مفضولا. (فإن كان من على يساره أجلّ رتبة! قال) النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (للّذي على يمينه: «السّنّة أن تعطى) - بفتح الطّاء المهملة؛ مبنيا للمجهول- (فإن أحببت آثرتهم» ) - بفتح التّاء- قال العراقي: متّفق عليه؛ من حديث سهل بن سعد. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وخالد بن الوليد ... (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» - وقال التّرمذيّ: هذا حديث حسن- وابن ماجه، وفي ألفاظهم اختلاف بالزّيادة والنّقص- وهذا لفظ «الشّمائل» -؛ كلهم (عن) عبد الله (ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا) - ضمير منفصل مؤكّد، أتى به لأجل العطف، كما قال ابن مالك في «الخلاصة» : وإن على ضمير رفع متّصل ... عطفت فافصل بالضّمير المنفصل (وخالد بن الوليد) بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي المخزومي. أبو سليمان- وقيل: أبو الوليد- سيف الله. أمّه لبابة الصّغرى بنت الحارث «أخت ميمونة: أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» ؛ ولبابة الكبرى امرأة العبّاس. أسلم بعد الحديبية، وكانت الحديبية في ذي القعدة سنة: ستّ من الهجرة. وشهد غزوة مؤتة، وسمّاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يومئذ «سيف الله» ، وشهد خيبر وفتح مكّة وحنينا. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا اتفق البخاري ومسلم على حديث. روى عنه ابن عبّاس، وجابر، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة بن سهل؛ الصّحابيّون رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه من التّابعين: قيس بن أبي حازم، وأبو وائل، وغيرهما. وكان من المشهورين بالشّجاعة والشّرف والرّياسة، وممّن يوزن بألف من الرّجال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 على ميمونة، ... ممّن بألف يوزن: المقداد ... خارجة، عبادة الآساد كذا زبير، وعليّ منهم ... وخالد في العدّ أيضا معهم وله الآثار العظيمة المشهورة في قتال المرتدّين باليمامة، وفي قتال الرّوم بالشّام، والفرس بالعراق، وافتتح دمشق. ولما حضرته الوفاة؛ قال: لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع شبر؛ إلّا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء، وما لي من عمل أرجى من «لا إله إلّا الله» ؛ وأنا متترّس بها. وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما سنة: إحدى وعشرين هجرية بحمص، وقبره مشهور على نحو ميل من حمص «1» ، وحزن عليه عمر والمسلمون حزنا شديدا رضي الله تعالى عنه وعنهم، وعن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجمعين. (على) أمّ المؤمنين (ميمونة) بنت الحارث بن حزن الهلالية العامريّة، تزوّجها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بمكّة سنة ستّ، وقيل: سنة سبع، وبنى بها «2» في سرف- بسين مهملة مفتوحة، ثمّ راء مكسورة، ثم فاء-: موضع بين التّنعيم والوادي في طريق المدينة المنوّرة على عشرة أميال من مكّة، وقدّر الله أنّها ماتت عند قفولها من الحجّ ب «سرف» وهو المكان الّذي بنى بها فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم سنة: - 51- إحدى وخمسين هجرية، ودفنت فيه، فاجتمع في ذلك المكان الهناء والعزاء. وبني على قبرها مسجد يزار ويتبرّك به، ...   (1) هو الآن وسطها. (2) الصواب أن يقال بنى عليها. وإنما يقال دخل بها؛ خلاف المشهور. لأن المراد: بنى عليها قبة، ودخل عليها هذه القبة. والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا على يمينه، وخالد عن شماله. فقال لي: «الشّربة لك، ... وكان الّذي صلّى إماما بالنّاس على جنازتها ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. وهي أخت أم الفضل: امرأة العبّاس، وأخت لبابة الصغرى: أمّ خالد، وأخت أسماء بنت عميس، فهي خالة خالد بن الوليد وخالة ابن عبّاس، وهي آخر أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. روى عنها جماعة؛ منهم عبد الله بن عبّاس. روي لها عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ستّة وأربعون حديثا رضي الله تعالى عنها. (فجاءتنا بإناء) مملوء (من لبن، فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: منه (وأنا على يمينه، وخالد عن شماله) ، أي: والحال أنّي على يمينه وخالد عن شماله، وتعبيره ب «على» في الأوّل، وب «عن» في الثّاني!! للتّفنّن الّذي هو ارتكاب فنّين من التعبير مع اتّحاد المعنى، فهما هنا بمعنى واحد وهو مجرّد الحضور. (فقال) أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (لي) - بفتح الياء وتسكّن- (: «الشّربة لك) أي: هذه المرّة من الشّرب حقّ لك لأنّك على اليمين، ومن على اليمين مقدّم على من على اليسار، فقد ورد: «الأيمن فالأيمن» . رواه مالك، وأحمد، وأصحاب الكتب السّتّة؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. والسّرّ في تقديم من على اليمين على من على اليسار!! أنّ من على اليمين مجاور لملك اليمين الّذي هو حاكم على ملك الشّمال، وتجرى هذه السّنّة- وهي تقديم من على اليمين- في غير الشّراب كالمأكول والملبوس وغيرهما؛ كما قاله المهلّب وغيره، خلافا لمالك حيث قال في الشراب خاصة. وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عنه. وأوّله القاضي عياض بأنّ مراده أنّه إنّما جاءت السّنّة بتقديم الأيمن في الشّرب خاصّة، وغيره إنّما هو بطريق القياس، فالسّنّة البداءة في الشّرب ونحوه بعد الكبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فإن شئت آثرت بها خالدا» . بمن على يمينه؛ ولو صغيرا مفضولا، وتأخير من على اليسار؛ ولو كبيرا فاضلا!! بل ذهب ابن حزم إلى وجوب ذلك، فقال: لا تجوز البداءة بغير الأيمن إلّا بإذنه. فإن قيل: يعارض ما تقدّم ما رواه أبو يعلى؛ عن الحبر ابن عبّاس بإسناد صحيح: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سقى قال: «ابدأوا بالأكبر» أو قال: بالأكابر» . أجيب: بأنّ ذلك محمول على ما إذا لم يكن عن يمينه أحد، بل كان الجميع أمامه؛ أو وراءه. (فإن شئت آثرت بها خالدا» ) - بفتح التّاء فيها ومدّ الهمزة-؛ من آثرت. يقال: آثرته- بالمدّ-: فضّلته وقدّمته، لأنّ الإيثار معناه: التّفضيل والتّقديم، وأما استأثر بالشّيء! فمعناه: استبدّ به؛ كما في «المصباح» وغيره. وفي تفويض الإيثار إلى مشيئته تطييب لخاطره، وتنبيه على أنّه ينبغي له إيثار خالد؛ لكونه أكبر منه. وهذا ليس من الإيثار في القرب المكروه، على أنّ الكراهة محلّها حيث آثر من ليس أحقّ منه؛ بأن كان مساويا له وأقلّ منه، أمّا إذا آثر من هو أحقّ منه!! كأن آثر من هو أحقّ منه بالإمامة!! فليس مكروها. فإن قيل: قد استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأيمن في هذا الخبر، ولم يستأذن أعرابيّا عن يمينه؛ والصّدّيق عن يساره في قصة نحو هذه!؟. أجيب: بأنّه إنّما استأذن هنا ثقة بطيب نفس ابن عباس بأصل الاستئذان، لا سيّما وخالد قريبه، مع رياسته في قومه، وشرف نسبه بينهم، وقرب عهده بالإسلام، فأراد صلّى الله عليه وسلم تطييب خاطره، وتألّفه بذلك. وأمّا الصّدّيق- رضي الله تعالى عنه- فإنّه مطمئنّ الخاطر؛ راض بكل ما يفعله المصطفى صلّى الله عليه وسلم، لا يتغيّر ولا يتأثّر، ولا ينقص ذلك بمقام الصّدّيق، ولا يخرجه عن فضيلته الّتي أولاه الله إيّاها، لأنّ الفضيلة إنّما هي فيما بين العبد وربّه، لا فيما بينه وبين الخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 فقلت: ما كنت لأؤثر على سؤرك أحدا. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطعمه الله طعاما.. فليقل: ... (فقلت: ما كنت لأؤثر) - بكسر اللّام ونصب الفعل، كما في قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال]-. (على سؤرك أحدا) السؤر- بضمّ السّين وسكون الهمزة، وقد تبدل واوا-: ما بقي من الشّراب. والمعنى: لا ينبغي أن أقدّم على ما بقي من شرابك أحدا غيري يفوز به؛ لما فيه من البركة، ولا يضرّ عدم إيثاره لذلك، ولهذا أقرّه المصطفى صلّى الله عليه وسلم. وكذا نقل عن بعض الصّحابة أنّه لما أقرع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بين رجل وولده في الخروج للجهاد فخرجت القرعة للولد؛ فقال له أبوه: آثرني، فقال: يا أبت لا يؤثر بالجنّة أحد أحدا أبدا!! فأقرّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على ذلك، مع أنّ برّ الوالدين متأكّد، لكن على ما أحكمته السّنة؛ دون غيره. ويؤخذ من هذا الحديث: أنّ من سبق إلى مجلس عالم أو كبير وجلس بمجلس عال لا ينقل منه لمجيء من هو أفضل منه، فيجلس ذلك الجائي حيث ينتهي به المجلس؛ ولو دون مجلس من هو دونه. (ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أطعمه الله طعاما؛ فليقل) ندبا مؤكّدا حال الشروع في الأكل، فإن لم يقل ذلك حال الشّروع في الأكل؛ فليأت به بعده، ويقدم عليه حينئذ صيغة الحمد، نحو قوله «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» ، كذا قاله الباجوري، تبعا للمناوي التّابع لابن حجر الهيتمي. وقال ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» : ليقل ندبا بعد أكله والحمد عليه. وأما قول ابن حجر «فليقل حال الأكل، فإن أخّره إلى ما بعده! فالأولى أن يكون بعد الحمد كما هو ظاهر» !! فليس بظاهر، لأنّ حال الأكل لا يقال «أطعمنا خيرا منه، أو زدنا منه» ؛ كما هو ظاهر. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 (اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه) ، ومن سقاه الله لبنا.. فليقل: (اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وزدنا منه) . ثمّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس شيء يجزىء مكان الطّعام والشّراب غير اللّبن» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب قاعدا، وكان ذلك عادته ... (: اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه) ، الظّاهر أنّه يأتي بهذا اللّفظ المذكور؛ وإن كان وحده، بل وإن كان امرأة؛ رعاية للّفظ الوارد، وملاحظة لعموم الإخوان من المسلمين. (ومن سقاه الله لبنا؛ فليقل) حال الشّروع في الشّرب؛ كما تقدم (: اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وزدنا منه» ) أي: من جنس اللّبن الّذي شربنا منه، ولم يقل- على قياس ما سبق- «واسقنا خيرا منه» !! لأنّه لا خير من اللّبن، بخلاف بقيّة الأطعمة؛ لأنّ اللّبن يجزي مكان الطّعام والشّراب؛ ولا كذلك غيره، فهو خير من سائر الأطعمة وليس فيها خير منه. وأشار المصنّف إلى دليله بقوله: (ثمّ قال) أي: ابن عبّاس: (قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس شيء يجزىء) - بضمّ أوّله وهمزة في آخره؛ من الإجزاء- أي: لا يقوم، ولا يغني شيء (مكان الطّعام والشّراب؛ غير اللّبن» ) - بنصب «غير» على الاستثناء، أو بالرّفع على البدل- يعني: لا يكفي في دفع الجوع والعطش معا شيء واحد؛ إلا اللّبن، فإنّه يقوم مقام الطّعام والشّراب، لكونه يغذّي ويسكّن العطش. وبذلك يعلم أنّ سائر الأشربة لا تلحق باللّبن في ذلك، بل بالطّعام. وحكمة الدّعاء حين الطّعام والشّراب: إسناد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ورفع مدخليّة غيره في ذلك. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يشرب قاعدا، وكان ذلك عادته) المستمرّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 رواه مسلم. وفي رواية له أيضا: أنّه نهى عن الشّرب قائما. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شرب من زمزم وهو قائم. (رواه) الإمام (مسلم) في «صحيحه» . (وفي رواية له أيضا) من حديث قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه (أنّه) صلى الله عليه وسلم (نهى) - ولمسلم أيضا: زجر- (عن الشّرب قائما) . قال قتادة: فقلنا: فالأكل!؟ قال: «ذلك أشرّ وأخبث» ؛ هذا بقيّته في «مسلم» . وكذا رواه أبو داود والتّرمذي- وفي رواية لمسلم أيضا- عن عمر بن حمزة: أخبرني أبو غطفان المرّي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا يشربنّ أحدكم قائما، فمن نسي فليستقىء» . (و) في «الصحيحين» وغيرهما: (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم شرب من) ماء (زمزم) - ولفظه: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم في حجّة الوداع؛ فشرب- (وهو قائم) . وفي حديث علي بن أبي طالب عند البخاريّ: أنّ عليّا شرب وهو قائم فضل وضوئه، وكان في رحبة الكوفة، ثمّ قال: إنّ أناسا يكرهون الشّرب قائما، وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت. ولأحمد عن علي أنّه شرب قائما فرأى النّاس كأنّهم أنكروه؛ فقال: ما تنظرون أن أشرب قائما!! فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا؛ فقد رأيته يشرب قاعدا!! وكلّ هذه الأحاديث صحيحة؛ خلافا لمن أشار إلى تضعيف أحاديث النّهي، ولا إشكال فيها، ولا تعارض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ......... وغلط من زعم أنّ فيها نسخا، وكيف يصار للنّسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، والنّسخ إنّما يكون لو ثبت التّاريخ. وأنّى له بذلك!! والصّواب أنّ النّهي محمول على كراهة التّنزيه. وأمّا شربه صلّى الله عليه وسلم قائما! فلبيان الجواز، أو لأنّه لم يجد محلّا للقعود،؛ لازدحام النّاس على زمزم، أو ليرى النّاس أنّه غير صائم، أو لابتلال المحلّ. فإن قلت: كيف يكون الشّرب قائما مكروها؛ وقد فعله صلّى الله عليه وسلم؟!. فالجواب: أنّ فعله صلّى الله عليه وسلم إذا كان بيانا للجواز لم يكن مكروها في حقّه؛ بل البيان واجب عليه، فيثاب عليه صلّى الله عليه وسلم ثواب الواجب. قال النّوويّ: وقد ثبت أنّه توضّأ مرة مرّة، وطاف على بعيره؛ مع أنّ الإجماع على أنّ الوضوء ثلاثا والطواف ماشيا أكمل!! ونظائر هذا لا تنحصر. وكان ينبّه على جواز الشّيء مرّة أو مرّات، ويواظب على الأفضل، ولذا كان أكثر وضوئه ثلاثا، وأكثر طوافه ماشيا، وأكثر شربه جالسا؛ وهذا واضح، فلا يتشكّك فيه من له نسبة إلى علم. وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام «فمن نسي فليستقىء» !! محمول على الاستحباب والنّدب، فيستحبّ لمن شرب قائما أن يتقيّأ، لهذا الحديث الصّحيح؛ سواء كان ناسيا؛ أو لا. قاله النّووي. وقالت: المالكيّة: يجوز الشّراب قائما؛ وبالجواز صرّح ابن رشد من أئمّتهم، لصحّة الأدلّة [ولأنها] أقوى من أحاديث النّهي!! فإنّهم استدلوا لذلك بحديث جبير بن مطعم الصّحابي؛ قال: رأيت أبا بكر الصّديق يشرب قائما وهو من أشد النّاس بعدا عن المكروه. واستدلّوا بقول مالك: إنّه بلغه عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم أنّهم كانوا يشربون قياما؛ وبلاغات مالك ليست من الضّعيف؛ لأنّها تتبعت كلّها فوجدت موصولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 ......... وهذا يؤيّد الجواز بلا كراهة، وقد صحّ: «عليكم بسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنّواجذ» ، و «واقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» !!. قال صاحب «المفهم» : لم يذهب أحد إلى أنّ النّهي في الحديث للتّحريم، ولا التفات لابن حزم! وإنّما حمل على الكراهة؛ والجمهور على عدمها، فمن السّلف الخلفاء الأربعة، ثمّ مالك؛ تمسّكا بشربه [صلى الله عليه وسلم] من زمزم قائما، وكأنّهم رأوه متأخّرا عن النّهي، فإنّه في حجّة الوداع؛ فهو ناسخ، وحقّق ذلك فعل خلفائه بخلاف النّهي، ويبعد خفاؤه عليهم مع شدّة ملازمتهم له وتشدّدهم في الدّين. وهذا؛ وإن لم يصلح دليلا للنّسخ يصلح لترجيح أحد الحديثين!! انتهى. وأجاب المالكية عن حديث أبي هريرة: «لا يشربنّ أحدكم قائما، فمن نسي فليستقىء» بأجوبة منها: قول المازري: قال بعض شيوخنا: «لعلّ النّهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء، فبادر لشربه قائما» !! قال: وأيضا فالأمر بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم أنّه ليس على أحد أن يستقيء، قال: والأظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدلّ على الجواز، وأحاديث النّهي تحمل على الاستحباب، والحثّ على ما هو أولى وأكمل؛ لأنّ في الشّرب قائما ضررا ما، فكره من أجله. وفعله صلّى الله عليه وسلم!! لأمنه من الضّرر الحاصل لغيره، قال: وعلى هذا الثّاني يحمل قوله: «فمن نسي فليستقىء» على أنّ ذلك يحرّك خلطا يكون القيء دواءه، وعليه فالنّهي طبّي إرشاديّ. ويؤيّده قول إبراهيم النّخعي: «إنّما نهى عن ذلك لداء البطن» !. انتهى كلام المازري. قال ابن القيّم: وللشّرب قائما آفات عديدة؛ منها: أنّه ينزل بسرعة إلى المعدة؛ فيخشى منه أن يبرّد حرارتها. ومنها: أنّه يسرع النّفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج؛ لعدم استقراره في المعدة، وكلّ هذا يضرّ بالشّارب قائما، فإذا فعله نادرا لم يضرّه، وكذا لحاجة! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتحف الرّجل بتحفة.. سقاه من ماء زمزم. قال- أعني ابن القيّم-: ولا يعترض على هذا بالعوائد، فإنّها لها طبائع ثوان وأحكام أخرى، وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء. انتهى. قال ابن العربي: وللمرء ثمانية أحوال: قائم، وماش، مستند، راكع، ساجد، متكىء، قاعد، مضطجع، كلّها يمكن الشّرب فيها. وأهنؤها وأكثرها استعمالا القعود، وأمّا القيام! فنهي عنه لأذيّته للبدن. انتهى. وللحافظ ابن حجر- وقيل: للحافظ السيوطي- «1» : إذا رمت تشرب فاقعد تفز ... بسنّة صفوة أهل الحجاز وقد صحّحوا شربه قائما ... ولكنّه لبيان الجواز (و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- قال «العزيزي» : قال الشّيخ حديث حسن. انتهى. قال المناويّ: وخرّجه الفاكهي في «تاريخ مكّة» : موقوفا بسند على شرط الشّيخين-: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتحف) - بضمّ أوّله، من أتحف- (الرّجل بتحفة) - بسكون الحاء؛ وقد تفتح، قال العلقمي: التّحفة: طرفة الفاكهة، وتستعمل في غيرها. وقال في «المصباح» : التّحفة: ما أتحفت به غيرك- (سقاه من ماء زمزم) لجموم فضائله وعموم فوائده، ومدحه في الكتب الإلهيّة. قال وهب: إنّكم لا تدرون ماء زمزم!! والله؛ إنّها لفي كتاب الله. - أي: «التّوراة» -: «المضنونة، وبرة، وشراب الأبرار؛ لا تنزف ولا تذمّ، طعام من طعم، وشفاء من سقم، لا يعمد إليها امرؤ فيتضلّع منها إلّا نفت ما به من داء، وأحدثت له شفاء، والنّظر إلى زمزم عبادة، تحطّ الخطايا حطّا» «2» . رواه عبد الرزّاق وابن منصور بسند فيه انقطاع.   (1) بل هي للحافظ ابن حجر قطعا؛ لأنه أنشدها لنفسه وعزاها إليه الإمام ابن علان في «شرح الأذكار» . (2) انظر بداية الجزء الرابع عند قوله صلّى الله عليه وسلم «ماء زمزم لما شرب له» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وكان صلّى الله عليه وسلّم يحمل ماء زمزم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... (و) أخرج التّرمذي، والحاكم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم) من مكّة إلى المدينة، ويهديه لأصحابه، وكان يستهديه من أهل مكّة، فيسنّ فعل ذلك. (و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» ؛ (عن) أبي عبد الرحمن- وقيل: أبي نصير؛ بضمّ النون- (عبد الله بن عمرو بن العاص) بن وائل بن هاشم بن سعيد- بضم السّين وفتح العين- ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السّهمي، الزّاهد العابد، الصّحابي بن الصّحابي (رضي الله تعالى عنهما) . كان بينه وبين أبيه في السّن اثنتا عشرة سنة، - وقيل: إحدى عشرة سنة-. وأمّه ريطة بنت منبّه، بن الحجّاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم. أسلمت. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول في حقه: «نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأمّ عبد الله» أخرجه أحمد، وأبو يعلى؛ عن طلحة رضي الله تعالى عنه؛ أسلم عبد الله قبل أبيه، وكان كثير العلم، مجتهدا في العبادة؛ تلّاء للقرآن. وكان أكثر النّاس أخذا للحديث والعلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعمائة حديث؛ اتّفق البخاريّ ومسلم على سبعة عشر منها، وانفرد البخاري بثمانية، وانفرد مسلم بعشرين، وشهد مع أبيه فتح الشّام، وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك، وتوفّي سنة: - 63- ثلاث وستين. وقيل غير ذلك، وكان عمره اثنتين وسبعين سنة. (قال: رأيت) أي: أبصرت (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) مفعول «رأيت» ، وجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 يشرب قائما وقاعدا. وعن النّزّال بن سبرة قال: أتي عليّ بكوز من ماء وهو في الرّحبة، فأخذ منه كفّا فغسل يديه، ومضمض، ... (يشرب) حال، و (قائما وقاعدا) حالان من فاعل «يشرب» . والمراد أنّه رآه مرّة يشرب قائما ورآه مرّة يشرب قاعدا، لا أنّه رآه مرّة واحدة يشرب قائما وقاعدا، كما يوهمه ظاهر العبارة؛ فيكون قد جمع في مرّة واحدة بين القيام والقعود، وهو خلاف المراد. وحيث كان الغالب من فعله صلّى الله عليه وسلم الشّرب قاعدا، وشربه قائما إنّما كان نادرا؛ لبيان الجواز!! كان تقديم القيام في نحو هذا الحديث للاهتمام بالردّ على المنكر لذلك؛ لا لكثرته كما وهم. (و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» (عن النّزّال) - بفتح النّون وتشديد الزّاي- (بن سبرة) - بفتح السّين وسكون الباء الموحّدة وفتح الراء؛ آخره تاء تأنيث- الهلاليّ العامريّ الكوفي. قيل: له صحبة، خرّج له الجماعة غير مسلم، روى عن أبي بكر وعثمان وعلي، وعنه الشّعبي والضّحّاك. وثّقه العجلي. (قال: أتي عليّ) رضي الله تعالى عنه (بكوز من ماء؛ وهو في الرّحبة) أي: والحال أنّه في الرّحبة- أي: رحبة الكوفة- كان يقعد فيها للحكم أو للوعظ، أو في رحبة المسجد؛- وهي بفتح الرّاء والحاء المهملة، وقد تسكن-: المكان المتّسع، ورحبة المسجد منه؛ فلها حكمه ما لم يعلم حدوثها، وهي المحوط عليه لأجله؛ وإن لم يعلم دخولها في وقفه. بخلاف حريمه؛ فليس له حكمه، والحريم ما تلقى فيه قمامات المسجد؛ وليس منه. (فأخذ منه) ، أي: من الماء الذي في الكوز (كفّا) ، أي: ملء كفّ من الماء (فغسل يديه) إلى رسغيه، (ومضمض) . قال العصام: الظّاهر أنّه عطف على «غسل» ، فتكون المضمضة والاستنشاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه، ثمّ شرب وهو قائم، ثمّ قال: هذا ... وغسل اليدين ومسح الوجه والذّراعين والرّأس، وكذا مسح الرّجلين- كما وقع في رواية- من كفّ واحدة. قال: ولا صارف عنه. وتعقّب؛ بأنّه لا صارف أقوى من استبعاد ذلك من كفّ واحد من طريق النّقل الشّرعي والفعل العرفي، إذ ملء الكفّ لا يحصل منه ما ذكر؛ خصوصا مع قوله «فغسل يديه» ! لأنّه إذا غسلهما بما في كفّه لم يبق شيء يتمضمض به، ويفعل منه ما ذكر بعد المضمضة، فالصّواب أنّه عطف على «أخذ» . وكذا قوله (واستنشق؛ ومسح وجهه وذراعيه) : يحتمل أنّ المراد بالمسح حقيقته، وهو: إمرار الماء من غير سيلان له على العضو، وعليه فالمراد بالوضوء: الوضوء اللّغوي، وهو مطلق التّنظيف. ويؤيّده عدم ذكر الرّجلين في هذه الرّواية. ويحتمل أنّ المراد به: الغسل الخفيف، وعليه، فالمراد بالوضوء: الوضوء الشّرعي. ويؤيّده ما في بعض الرّوايات الصّحيحة أنّه غسل الوجه والذّراعين مع ذكر الرّجلين. ويمكن الجمع بين الرّوايات على الاحتمال الأوّل بأنّ الواقعة تعدّدت منه رضي الله تعالى عنه. (ورأسه) أي: مسح رأسه كلّه؛ أو بعضه، وفي رواية: ورجليه، أي: ومسح رجليه. على الاحتمالين السّابقين- أعني: احتمال إرادة حقيقة المسح وإرادة الغسل الخفيف- وفي رواية: وغسل رجليه. (ثمّ شرب) أي: منه، أي: من فضل ماء وضوئه. وتعبيره ب «ثم» !! لإفادة التّراخي الرّتبي؛ لأنّ ما سبق وضوء، وهذا شرب ماء لدفع عطش. (وهو قائم) حال. (ثمّ قال: هذا) - أي: ما ذكر، والإشارة لما عدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل. وعن كبشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فشرب من في قربة ... الشّرب- (وضوء من لم يحدث) . أي: بل أراد التّنظيف على احتمال إرادة حقيقة المسح، أو التّجديد على احتمال إرادة الغسل، وأما وضوء المحدث! فمعلوم بشرائط معلومة. (هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل) ، أي: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل مثل هذا، ومن بعض المشار إليه الشّرب قائما، وهذا هو السّبب في إيراد الحديث في هذا الباب. ويؤخذ من الحديث أنّ الشّرب من فضل وضوئه مستحبّ؛ أخذا من فعله صلّى الله عليه وسلم، كما يدلّ له فعل عليّ رضي الله تعالى عنه، وإن كان الشّرب قائما لبيان الجواز؛ فليس سنّة، بل تركه أفضل، خلافا لمن زعم أنّه سنة. (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» - وقال: حديث حسن غريب صحيح- وابن ماجه، واللفظ ل «الشّمائل» (عن كبشة) - بفتح الكاف وسكون الموحدة فشين معجمة- بنت ثابت بن المنذر بن حرام، أخت حسّان لأبيه، من بني مالك بن النجار، لها صحبة وحديث، ويقال فيها: كبيشة- بالتصغير- (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: دخل عليّ) - بتشديد الياء- أي: في بيتي (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فشرب من في) ، أي: من فم (قربة) - بكسر القاف- معروفة. ولا ينافي ذلك 1- ما ورد من نهيه صلّى الله عليه وسلم عن الشّرب من فم السّقاء- على ما رواه البخاري وغيره؛ عن أنس- و 2- ما ورد من نهيه عن اختناث الأسقية- على ما رواه الشيخان وغيرهما؛ عن أبي سعيد- وهو أن يقلب رأسها ثمّ يشرب منه؛ لأنّ فعله صلّى الله عليه وسلم للشّرب من فم القربة لبيان الجواز أو للضّرورة، ونهيه عنه لبيان الأفضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 معلّقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته- أي: قطعت فم القربة للتّبرّك والاستشفاء. ووقع مثل ذلك لأمّ سليم رضي الله تعالى عنها. والأكمل، فهو للتّنزيه (معلّقة قائما) ، لبيان الجواز، أو لعدم إمكان الشّرب منها قاعدا. (فقمت) قاصدة (إلى فيها) أي: إلى فمها، (فقطعته) . قال المصنف: (أي: قطعت فم القربة للتّبرّك والاستشفاء) ، أو لعدم الابتذال، ولا مانع من الجمع. قال النّووي في «شرح مسلم» في تفسير هذا الحديث؛ ناقلا عن التّرمذي: وقطعها فم القربة لوجهين، أحدهما: أن تصون موضعا أصابه فم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أن يبتذل، ويمسّه كلّ أحد. والثاني: أن تحفظه للتّبرك به والاستشفاء. وهذا الحديث يدلّ على أنّ النّهي ليس للتّحريم. انتهى. (ووقع مثل ذلك) القطع للتبرّك والاستشفاء (لأمّ سليم) سهلة، وقيل: رملة، وقيل: مليكة، وقيل: أنيسة، وقيل: رميثة، وقيل: الرّميصاء بنت ملحان- بكسر الميم- ابن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصاريّة؛ أم أنس بن مالك، «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ؛ وكانت أم سليم هذه هي وأختها خالتين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من جهة الرضاع. وكانت من فاضلات الصّحابيّات، وكانت تحت أبي طلحة. روت عن النّبي صلّى الله عليه وسلم عدّة أحاديث، روى عنها: ابنها أنس، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وآخرون. (رضي الله تعالى عنها) ، وذلك فيما أخرجه التّرمذي في «الشّمائل» ، وأبو الشّيخ في «الأخلاق» واللفظ له؛ عن أنس رضي الله عنه، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينفخ في طعام ولا شراب، ولا يتنفّس في الإناء. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب.. تنفّس ثلاثا، ويقول: «هو أهنأ، ... دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على أمّ سليم؛ فرأى قربة معلّقة فيها ماء، فشرب منها- ولفظ «الشّمائل» : فشرب من فم القربة- وهو قائم، فقامت أمّ سليم إليها- ولفظ «الشّمائل» إلى رأس القربة- فقطعتها بعد شرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها، وقالت: لا يشرب منها أحد بعد شرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج ابن ماجه والطّبراني بإسناد حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينفخ في طعام ولا شراب) . بل إذا كان الطّعام حارا صبر حتّى يبرد، وإذا كان فيه نحو ذبابة أخرجها بنحو أصبعه أو عود، ولا ينفخ في الطّعام لإخراجها أو لتبريده؛ لأنّ ذلك مما تعافه الأنفس، ولربّما خرج من ريقه شيء في الطعام. وذلك تعليم للأمّة، وإلّا! فنفسه الشّريف وريقه ممّا يستشفى به. (و) كان (لا يتنفّس في الإناء) ، أي: لا يتنفّس في جوف الإناء؛ لأنّه يغير الماء: إمّا لتغيّر الفم بالمأكول، وإمّا لترك السّواك، وإمّا لأنّ النّفس يصعد ببخار المعدة. (و) أخرج الشيخان والأربعة، وأحمد، بألفاظ مختلفة بالزيادة والنّقص، وهذا لفظ أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفّس) خارج الإناء (ثلاثا) من المرّات، كان يسمّي الله في أوّل كلّ مرّة ويحمده في آخرها؛ كما جاء مصرّحا به في رواية. (ويقول: «هو) - أي: الشّرب بثلاث دفعات- (أهنأ) - بالهمز؛ من الهناء- وهو: خلوص الشّيء عن النّصب والنّكد، وفي رواية بدله: أروى من الرّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وأمرأ، وأبرأ» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب.. تنفّس مرّتين، وربّما كان يشرب بنفس واحد حتّى يفرغ. - بكسر الرّاء-؛ أي: أكثر ريّا. (وأمرأ) - بالهمز-: أقمع للظّمأ، وأقوى على الهضم، (وأبرأ» ) - بالهمز- من البراءة، أو البراء، أي: أكثر صحّة للبدن. (و) أخرج التّرمذي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفّس مرّتين) . وإسناده ضعيف- كما في «الفتح» - لكن له شواهد، وفعله في بعض الأحيان! لجواز النّقص عن ثلاث. وللتّرمذيّ بسند ضعيف أيضا- كما قال الحافظ- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: لا تشربوا واحدة كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسمّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم. قال التّرمذي: فيه أنّه لا بأس بالشّرب في نفسين؛ وإن كان الأولى كونه ثلاثا. وقال العراقيّ: فيه الاقتصار على مرّتين إذا حصل الاكتفاء بهما، لكن ينبغي أن يزيد ثالثة؛ وإن اكتفى بمرّتين. وأجاب الحافظ ابن حجر عن الحديثين بأنّهما ليسا نصّا في الاقتصار على مرّتين، بل يحتمل أنّه أراد مرّتي التّنفّس الواقعتين أثناء الشّرب، وأسقط الثّالثة! لأنّها بعد الشّرب، فهي من ضرورة الواقع. (و) في «الإحياء» : (ربّما كان يشرب بنفس واحد حتّى يفرغ) . رواه أبو الشّيخ بسند ضعيف؛ عن زيد بن أرقم أنّه صلّى الله عليه وسلم كان شربه بنفس واحد. وللحاكم، وصحّحه؛ عن أبي قتادة مرفوعا: «إذا شرب أحدكم فليشرب بنفس واحد» . لكن قال الزّين العراقي: هذان الحديثان محمولان على ترك التّنفّس في الإناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب في ثلاثة أنفاس، وإذا أدنى الإناء إلى فيه.. سمّى الله تعالى، وإذا أخّره.. حمد الله تعالى. (يفعل ذلك ثلاثا) . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يتنفّس في الإناء، بل ينحرف عنه. (و) أخرج الطّبراني في «الكبير» و «الأوسط» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يشرب في ثلاثة أنفاس، وإذا أدنى) ؛ أي قرّب (الإناء إلى فيه سمّى الله تعالى، وإذا أخّره) عن فيه (حمد الله تعالى. يفعل ذلك ثلاثا) . أي: ثلاث مرّات. وروى عبد بن حميد؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشرب في ثلاثة أنفاس، فقلت: تشرب الماء في ثلاثة أنفاس؟! فقال: «هو الشّفاء، وأبرأ وأمرأ» . وروى البزّار والطّبراني؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا شرب تنفّس في الإناء ثلاثا؛ يحمد الله على كلّ نفس، ويشكره عند آخرهنّ. قوله: «تنفّس في الإناء ثلاثا» ؛ معناه: أنّه يشرب ثمّ يزيله عن فمه ويتنفّس، ثمّ يشرب؛ ثمّ يفعل كذلك، ثمّ يشرب، ثمّ يفعل كذلك. وروى الطّبراني، وابن السّنّي؛ عن نوفل بن معاوية أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس؛ يسمّي الله في أوّله، ويحمد الله في آخره. قال الإمام ابن القيّم: للتّسمية في الأوّل والحمد في الآخر تأثير عجيب في نفع الطّعام والشّراب، ودفع مضرّته. قال الإمام أحمد: إذا جمع الطّعام أربعا فقد كمل: 1- إذا ذكر الله في أوّله، و 2- حمد في آخره، و 3- كثرت عليه الأيدي، و 4- كان من حل. (و) في «الإحياء» و «كشف الغمة» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يتنفّس في الإناء) أي: في جوفه، (بل ينحرف عنه) ؛ لأنّه يغيّر الماء، إمّا لتغيّر الفم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وأتوه مرّة بإناء فيه عسل ولبن، فأبى أن يشربه، وقال: «شربتان في شربة، وإدامان في إناء واحد؟!» ، ثمّ قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحرّمه، ولكنّي أكره الفخر والحساب بفضول الدّنيا [غدا] ، وأحبّ التّواضع [لربّي عزّ وجلّ] ؛ فإنّ من تواضع لله.. رفعه [الله] » . بالمأكول، وإمّا لترك السّواك، وإمّا لأنّ النّفس يصعد ببخار المعدة. قال العراقي: روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: لا يتنفّس أحدكم في الإناء إذا شرب منه، ولكن إذا أراد أن يتنفّس فليؤخّره عنه، ثم يتنفّس. قال: حديث صحيح الإسناد. (وأتوه مرّة بإناء فيه عسل ولبن، فأبى أن يشربه، وقال: شربتان في شربة، وإدامان في إناء واحد، ثمّ قال صلّى الله عليه وسلم: «لا أحرّمه، ولكنّي أكره الفخر والحساب بفضول الدّنيا [غدا] ، وأحبّ التّواضع [لربّي عزّ وجلّ] ؛ فإنّ من تواضع لله رفعه [الله] [1] » .) قال العراقي: رواه البزّار من حديث طلحة بن عبيد الله، دون قوله: «شربتان في شربة» ... إلى آخره، وسنده ضعيف. ورواه الطّبراني في «الأوسط» ، والحاكم في «المستدرك» في «الأطعمة» من حديث أنس؛ قال: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بقعب فيه لبن وعسل؛ فأبى أن يشربه، وقال: «إدامان في إناء!! لا آكله ولا أحرّمه» . وقال الحاكم: صحيح. وردّه الذّهبيّ في «التّلخيص» ، وقال: بل منكر واه. وقال الهيثميّ عقب عزوه للحاكم: فيه عبد الكبير بن شعيب! لم أعرفه، وبقيّة رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: في طريق الطّبراني راو مجهول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وكان يستعذب له صلّى الله عليه وسلّم الماء من بيوت السّقيا. وأمّا قوله: «من تواضع لله رفعه» !! فرواه أبو نعيم في «الحلية» من حديث أبي هريرة. ورواه ابن النجّار بزيادة: «ومن اقتصد أغناه الله» . وروى ابن منده وأبو عبيد من حديث أوس بن خولي بزيادة: «ومن تكبّر وضعه الله» . وروى أبو الشّيخ من حديث معاذ بلفظ: «من تواضع تخشّعا لله رفعه الله» . وروى تمّام، وابن عساكر: من حديث ابن عمر في أثناء حديث: «إنّي قد أوحي إليّ أن تواضعوا، ولا يبغي أحد على أحد، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضع نفسه رفعه الله» الحديث. انتهى من شرح «الإحياء» . (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم- وقال: على شرط مسلم؛ وأقرّه الذّهبي- وبه ختم أبو داود «كتاب الأشربة» ساكتا عليه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان يستعذب له الماء) ؛ أي: يطلب له الماء العذب ويحضر إليه لكون أكثر مياه المدينة مالحا، وهو كان يحبّ الماء الحلو البارد (من بيوت السّقيا) - بضمّ السّين المهملة وسكون القاف وتحتيّة؛ مقصورة-: عين بينها وبين المدينة يومان؛ كذا قاله المناوي كصاحب «المواهب» ؛ تبعا لما نقله أبو داود في «سننه» عقب روايته الحديث المذكور؛ عن شيخه: فيه قتيبة بن سعيد. قال السّمهودي: وهو صحيح لكنّها ليست المراد هنا، وكأنّه لم يطّلع على أنّ بالمدينة بئرا تسمّى بذلك!! وقد اغترّ به المجد «1» ؛ فقال: السّقيا: قرية جامعة من عمل الفرع. ثم أورد حديث أبي داود. وأورد قول «النّهاية» : السّقيا منزل بين مكّة والمدينة، قيل: على يومين منها، ومنه حديث: كان يستعذب له الماء من بيوت السّقيا.   (1) الفيروز آبادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وفي لفظ: يستسقى له الماء العذب من بئر السّقيا. وقول أبي بكر بن موسى: «السّقيا: بئر بالمدينة، أي: على بابها، وكان يستسقى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم منها» !! محمول على هذا. ثم لو سلّم أنّ المراد الاستعذاب من العين التي ذكرها قتيبة! فمحمول على أنّه كان يستعذب له منها إذا نزل قربها في سفر حجّ أو غزو، وأمّا استعذابه منها إلى المدينة! فلا أراه وقع أصلا. انتهى. ويؤيّده زيادة ابن حبّان، وأبي الشّيخ: من بيوت السّقيا من أطراف الحرّة عند أرض بني فلان، فإنّ الحرة بظاهر المدينة؛ وليس بينهما يومان!. وروى أيضا أنّه كان يستعذب له الماء من بئر غرس، ومنها غسّل، ولمّا نزل عند أبي أيوب؛ كان يستعذب له من بئر مالك «والد أنس» ، ثمّ كان أنس وهند وجارية «أبناء أسماء» ، يحملون الماء إلى بيوت نسائه من السّقيا، وكان رباح الأسود يستقي له من بئر غرس مرّة؛ ومن بيوت السّقيا مرّة. رواه ابن سعد، والواقديّ، عن سلمى أمّ رافع. وغرس- بفتح الغين المعجمة وإسكان الرّاء- كما قيّده أبو عبيد وياقوت وغيرهما. وبه تعقّب الحافظ ضبط الذّهبي للغين بالضمّ قائلا: ذكره لي المطرّزي؛ وقد قال المجد: الصّواب الّذي لا محيد عنه الفتح ثمّ السّكون. وقطع به ابن الأثير، انتهى «زرقاني» . (وفي لفظ) للحاكم وغيره: كان (يستسقى له الماء العذب من بئر السّقيا) ؛ لأنّ الشّراب كلّما كان أحلى وأبرد؛ كان أنفع للبدن وينعش الرّوح والقوى والكبد، وينفذ الطّعام إلى الأعضاء أتمّ تنفيذ، لا سيّما إذا كان بائتا، فإنّ الماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والّذي يشرب لوقته كالفطير. وسمّيت سقيا!! لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم استنبطها، وقال: «هذه سقيا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشرب على طعامه؛ لئلّا يفسده، ولا سيّما إن كان الماء حارّا، أو باردا، فإنّه رديء جدّا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب الماء.. قال: «الحمد لله الّذي سقانا عذبا ... أخرج الطّبراني، وابن شاهين؛ عن بريح بن سدرة بن علي السّلمي، عن أبيه، عن جدّه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى نزلنا القاح، فنزل بصدر الوادي، فبحث بيده في البطحاء؛ فنديت، فانبعث الماء، فسقى وأسقى كلّ من كان معه؛ وقال: «هذه سقيا سقاكم الله» ؛ فسمّيت «السّقياء» . قال ابن عبد البر: علي السّلمي صحابيّ من أهل قباء. قال ابن بطّال: واستعذاب الماء لا ينافي الزّهد، ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السّرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه! فمباح كلّ منهما. وقد فعله الصّالحون، وسيّدهم صلّى الله عليه وسلم، وليس في شرب الماء المالح فضيلة حتّى يكون اختياره والإعراض عن العذب مطلوبا؛ بل قد يترتب على استعماله ضرر؛ فيكره، أو يحرم. (قال) العلامة: محمد بن أبي بكر (ابن القيّم رحمه الله تعالى: ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشرب على طعامه لئلّا يفسده، ولا سيّما إن كان الماء حارّا أو باردا، فإنّه رديء جدّا) ، وهو حسن إن صحّ. (و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» من حديث الفضل، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب مرسلا. ورواه أيضا كذلك الطّبراني في «الدعاء» !! قال ابن حجر: وهذا الحديث- مع إرساله- ضعيف. من أجل جابر الجعفي. (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا شرب الماء؛ قال: «الحمد لله الّذي سقانا عذبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» . وأمّا قدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد روي عن ثابت ... فراتا) ، قال المناوي: الفرات: العذب، فالجمع بينهما للإطناب، وهو لائق في مقام السّؤال والابتهال. وقال المحلي؛ في تفسير قوله تعالى هذا عَذْبٌ فُراتٌ [53/ الفرقان] : شديد العذوبة. وقال البيضاوي: قامع للعطش؛ من فرط عذوبته. وقال البغوي: الفرات: عذب المياه. انتهى «نقله العزيزي» . (برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا) - بضمّ الهمزة-: مرّا شديد الملوحة (بذنوبنا» ) ، أي: بسبب ما ارتكبناه من الذّنوب. (وأمّا قدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ... - القدح؛ بفتحتين-: ما يشرب فيه؛ كما في «المغرب» وغيره. وقال ابن الأثير: هو إناء بين إناءين؛ لا صغير ولا كبير، وربّما وصف بأحدهما. وقال المجد: آنية تروي الرّجلين، أو اسم يجمع الكبار والصّغار؛ جمعه: أقداح. قال في «المصباح» : كسبب وأسباب. (فقد) جاء فيه ما ذكره بقوله: (روي) ، أي: روى التّرمذي بسنده في «الشّمائل» (عن ثابت) البناني بن أسلم أبو محمّد البصري؛ الإمام الحجّة القدوة، كان محدّثا من الثّقات المأمونين، صحيح الحديث. قال أبو حاتم: أتيت أصحاب أنس بن مالك: الزّهريّ، ثم ثابت البناني، ثمّ قتادة. روى عن أنس، وعبد الله بن الزبير، وابن عمر، وعبد الله بن مغفّل المزني، وأبي برزة الأسلمي، وعمر بن أبي سلمة، وجماعة. وروى عنه حمّاد بن زيد، وحماد بن سلمة، وحميد الطّويل، وشعبة بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 قال: أخرج إلينا أنس بن مالك قدح خشب غليظا مضبّبا ... بسطام، وهمام بن يحيى، وجعفر بن سليمان، وخلق. مات سنة: - 127- سبع وعشرين ومائة من الهجرة، وعمره: ست وثمانون سنة- 86-. قال بكر بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه؛ فلينظر إلى ثابت البناني. فما أدركنا الّذي هو أعبد منه. وكان يقرأ القرآن في كلّ يوم وليلة، ويصوم الدّهر، وبكى حتى كادت عينه تذهب، وكان يصلّي كلّ ليلة ثلثمائة ركعة. كان يقول له أنس بن مالك: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلّى الله عليه وسلم!! فما زال يبكي حتى عمشت عيناه، وكان يقوم اللّيل ويصوم النّهار. وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام اللّيل! وكان يقول: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعّمت بها عشرين سنة. وكان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السّحر؛ قال في دعائه «اللهمّ؛ إن كنت أعطيت أحدا من خلقك الصّلاة في قبره فأعطنيها» ، فلما مات وسوي عليه اللبن في قبره سقطت لبنة؛ فإذا به قائم يصلّي في قبره، رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه. آمين. (قال: أخرج إلينا أنس بن مالك) ، خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم (قدح خشب) أي: قدحا من خشب، فالإضافة بمعنى «من» ، وهو من جملة أقداح خمسة ذكرت في أوّل الفصل الخامس. واقتصر هنا على الخشب! لأنّه الذي كان عند أنس رضي الله تعالى عنه. (غليظا مضبّبا) - بالنّصب، على أنّه صفة قدح- والضبّة: ما تشعّب به الإناء، وجمعها ضبّات؛ كجنّة وجنّات، وضبّبته- بالتّشديد-: جعلت له ضبّة، فمعنى مضبّبا: مشعّبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 بحديد، فقال: يا ثابت؛ هذا قدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا القدح الشّراب كلّه: الماء والنّبيذ، والعسل واللّبن. (بحديد) كما في رواية التّرمذي؛ ورواية «الصحيح» : بفضة. وهي أصحّ، اللهمّ إلا أن يكون تجوّز بضبّة الحديد عن الحلقة الّتي كانت فيه، ونهى أبو طلحة أنسا عن تغييرها، أو كانت ضبّة الحديد فيه أوّلا، ثمّ لمّا صدع سلسل بفضّة، فصار فيه الضبّتان؛ قاله الزرقاني. (فقال) ، أي: أنس (يا ثابت، هذا قدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم) المشار إليه هو القدح بحالته الّتي هو عليها، فالمتبادر من ذلك أنّ التّضبيب كان في زمانه صلّى الله عليه وسلم. وتجويز كون التّضبيب من فعل أنس حفظا للقدح غير مرضيّ؛ قاله الباجوري. ويؤخذ من الحديث: أنّ حفظ ما ينفع وإصلاحه مستحبّ وإضاعته مكروهة؛ واشتري هذا القدح من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف درهم. وعن البخاري أنّه رآه بالبصرة، وشرب منه، هكذا في «شرح المناوي» . والذي في «شرح القاري» : أنّ الذي اشتري من ميراث النّضر وشرب منه البخاريّ كان مضبّبا بفضّة، ويمكن الجمع بأنّه كان مضبّبا بكلّ من الفضّة والحديد. انتهى باجوري على «الشّمائل» . وأخرج مسلم والتّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهذا القدح) المذكور، أي: فيه؛ وهو الخشب الغليظ المضبّب بحديد، فالتّضبيب من فعله صلّى الله عليه وسلم، لما تقرّر أنّ الإشارة ترجع للمذكور بجميع خصوصيّاته. (الشّراب) وهو: ما يشرب من المائعات. (كلّه) أي: أنواعه كلّها: (الماء والنّبيذ) : ماء حلو يجعل فيه تمرات ليحلو، (والعسل) النّحل، (واللّبن) الحليب. والأربعة بدل مفصّل من مجمل، أو بدل بعض من كلّ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 قال الباجوريّ: (قوله: (النّبيذ) - أي: المنبوذ فيه- وهو: ماء حلو يجعل فيه تمرات ليحلو. وكان ينبذ له صلّى الله عليه وسلّم أوّل اللّيل، ويشرب منه إذا أصبح يومه ذلك وليلته الّتي يجيء، والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء.. سقاه الخادم إن لم يخف منه إسكارا، وإلّا.. أمر بصبّه، وهو له نفع عظيم في زيادة القوّة) انتهى. اهتماما بها؛ لكونها أفضل المشروبات، أو لأنّه إنّما سقاه الأربعة. وسمّاها كلّ الشراب!! لأنّها أشهر أنواعه، أو لكثرة تناولها. (قال) العلّامة شيخ الإسلام: إبراهيم (الباجوريّ) في حاشية «الشّمائل» كالمناوي، والقاري، و «المواهب» : (قوله: النّبيذ، أي: المنبوذ فيه. وهو) : كلّ ما ينبذ من غير العنب؛ من تمر أو زبيب أو قمح، والمراد هنا: (ماء حلو يجعل) أي: يطرح (فيه تمرات ليحلو) ، أي: لتزيد حلاوته. (و) قد روى مسلم أنّه (كان ينبذ له صلّى الله عليه وسلم أوّل اللّيل) التمر في الماء، (ويشرب منه إذا أصبح يومه ذلك، وليلته الّتي يجيء) بعد اليوم، (والغد إلى العصر. فإن بقي منه شيء؛ سقاه الخادم) لاستغنائه عنه، ورفقا بالخادم على عادته صلّى الله عليه وسلم؛ (إن لم يخف منه إسكارا) بأن كان لم يتغيّر، (وإلّا! أمر بصبّه) ، أي: إذا ظهر له أنّه وصل إلى حالة لا يشرب معها بعد ذلك الوقت؛ خوف الإسكار أمر بصبّه، لأنّه صار في حكم العدم، فلا يقال: «صبّه إضاعة مال» ؛ وقد نهى عنه!! ولم يكن يشربه صلّى الله عليه وسلم بعد ثلاث خوفا من تغيّره إلى الإسكار. (وهو) أي: هذا النبيذ الّذي كان يشربه صلّى الله عليه وسلم (له نفع عظيم في زيادة القّوّة) . لملاءمته للمزاج. (انتهى) أي: كلام الباجوري رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وعند البخاريّ: من حديث عاصم الأحول قال: رأيت قدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند أنس بن مالك- وكان قد انصدع- فسلسله بفضّة؛ ... (وعند) الإمام الحافظ أبي عبد الله؛ محمد بن إسماعيل (البخاريّ) في «صحيحه» في «كتاب الأشربة» ، (من حديث عاصم) بن سليمان (الأحول) أبي عبد الرحمن البصري، الحافظ الثّقة، من رجال الجميع، مات سنة: أربعين ومائة. (قال: رأيت قدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع) أي: انشق (فسلسله) أي: وصل بعضه ببعض (بفضّة) ، وظاهره أنّ الذي وصله أنس، ويحتمل أنّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهو ظاهر رواية أبي حمزة عند البخاري في الخمس بلفظ: إنّ قدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلم انكسر فاتّخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة. لكن رواه البيهقي من هذا الوجه بلفظ: انصدع فجعلت مكان الشعب سلسلة من فضّة. قال- يعني أنسا-: هو الذي فعل ذلك. قال البيهقي: كذا في سياق الحديث فلا أدري من قاله من رواته! هل هو موسى بن هارون، أو غيره؟! وتعقّبه الحافظ بأنّه لم يتعيّن من هذه الرّواية ما قاله، وهو «جعلت» - بضمّ التّاء؛ على أنّه ضمير القائل، وهو أنس-، بل يجوز أن يكون «جعلت» - بضمّ أوّله؛ على البناء للمجهول- فيساوي رواية «الصّحيح» . ووقع عند أحمد من رواية شريك؛ عن عاصم: رأيت عند أنس قدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فيه ضبّة من فضّة، وهذا يحتمل أيضا. والشّعب- بفتح المعجمة وسكون العين-: هو الصدع، وكأنّه سدّ الشّقوق بخيوط من فضّة، فصارت مثل السلسلة. انتهى. وحاصله تساوي احتمال أنّ المضبّب له النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، لأنّه ظاهر رواية «الصّحيح» في فرض الخمس، واحتمال أنّه أنس؛ لأنّه ظاهر روايته في «الأشربة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 قال: وهو قدح جيّد عريض من نضار. قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن سيرين: إنّه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة.. فقال أبو طلحة: ... ففيه ردّ على ترجيح ابن الصّلاح أنّه أنس، وقوله ما يوهمه بعض الرّوايات أنّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ليس كذلك، وتبعه النّووي، وقال: قد أشار إليه البيهقي وغيره. انتهى «زرقاني» . (قال) عاصم؛ راويه (: وهو قدح جيّد عريض) ، أي: ليس بمتطاول؛ بل يكون طوله أقصر من عمقه؛ كما في «الفتح» وغيره (من نضار) ، سيأتي معناه أنّه الخالص من العود. (قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا) . ولمسلم من طريق ثابت عن أنس: لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشّراب كلّه: العسل والنّبيذ والماء واللّبن. (قال) أي: عاصم (: وقال) محمد (ابن سيرين) العالم، العامل، الزّاهد، العابد- تقدّمت ترجمته- رحمه الله تعالى: (إنّه كان فيه حلقة) - بسكون اللّام، والفتح لغة فيه؛ حكاها أبو عمرو-. (من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة) بالشكّ من الرّاوي، أو هو تردّد من أنس عند إرادة ذلك؛ قاله القسطلاني. (فقال) له (أبو طلحة) ؛ زيد بن سهل بن الأسود بن حزام- بالزّاي- ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجّار، الأنصاري، المدني؛ شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 لا تغيّرنّ شيئا صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتركه. وهو أحد النّقباء رضي الله تعالى عنهم. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا، اتّفق البخاريّ ومسلم منها على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم باخر. روى عنه جماعات من الصّحابة؛ منهم: ابن عباس، وأنس وآخرون، وجماعات من التّابعين. توفّي بالمدينة سنة: ثنتين وثلاثين. وقيل: أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة، وصلّى عليه عثمان بن عفان، وهو زوج أمّ سليم «والدة أنس بن مالك» ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (: لا تغيّرنّ) - بفتح الرّاء ونون التأكيد الثّقيلة، وفي رواية: لا تغيّر؛ بالنّهي بلا تأكيد- (شيئا صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فتركه) بلا تغيير. وفي الحديث جواز اتّخاذ ضبّة الفضّة والسلسلة والحلقة!! واختلف فيه! فمنع ذلك مطلقا جمع من الصّحابة والتّابعين، وبه قال مالك واللّيث. وعن مالك أيضا: يجوز من الفضّة إذا كان يسيرا، وكرّهه الشّافعي لئلّا يكون شاربا على فضّة. وخصّ أحمد والحنفية الكراهة بما إذا كانت الفضّة موضع الشّرب. والمقرّر عند الشّافعيّة تحريم ضبّة الفضّة؛ إذا كانت كبيرة للزينة، وجوازها إذا صغرت لحاجة أو زينة، أو كبيرة لحاجة، وتحريم ضبّة الذّهب مطلقا. والمراد بالحاجة غرض الإصلاح؛ دون التّزيين، لا العجز عن غير الذّهب والفضّة، إذ العجز عن غيرهما يبيح استعمال الإناء الّذي كلّه ذهب أو فضّة؛ فضلا عن المضبّب. قاله القسطلّانيّ في «شرح البخاري» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ومعنى (النّضار) : الخالص من العود، ومن كلّ شيء، ويقال: أصل ذلك القدح من شجر النّبع، وقيل: من الأثل. ولونه يميل إلى الصّفرة. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح قوارير يشرب فيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يتوضّأ من ... (ومعنى النّضار) - بضمّ النّون أشهر من كسرها، وبالضّاد المعجمة- (: الخالص من العود، ومن كلّ شيء) ؛ تبر أو خشب أو أثل أو غيرهما. (ويقال: أصل ذلك القدح من شجر النّبع) ، - بنون فمهملة-: الشّجر للقسيّ وللسّهام؛ ينبت في الجبال، كما في «القاموس» . وفي «النهاية» : قيل: إنّه شجر كان يطول ويدلو، فدعا عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: «لا أطالك الله من عود» فلم يطل بعد. (وقيل: من الأثل) - بمثلّثة- (ولونه يميل إلى الصّفرة) . وفي «شرح البخاري» للعلّامة القسطلّانيّ: قيل: إنّه عود أصفر يشبه لون الذّهب. وفي «القاموس» : النّضار- بالضمّ-: الجوهر الخالص من التّبر والخشب والأثل، أو: ما كان عذيا، أي: شجرا على غير ماء أو: الطّويل منه المستقيم الغصون، أو: ما نبت منه في الجبل، وخشب للأواني، ويكسر، ومنه كان منبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج ابن ماجه- وقال في العزيزي: حديث حسن- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قدح) ، قال بعضهم بالتّنوين. انتهى. ويحتمل أنّه [قدح] مضاف إلى (قوارير) ؛ أي: زجاج (يشرب فيه) ؛ أهداه إليه النّجاشي. (و) أخرج ابن سعد في «الطّبقات» ؛ عن زينب بنت جحش، «أم المؤمنين» ، رضي الله تعالى عنها؛ أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم يعجبه أن يتوضّأ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 مخضب من صفر. و (المخضب) : إناء. و (الصّفر) : النّحاس الأصفر. وكان له صلّى الله عليه وسلّم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه باللّيل. (0 مخضب) - بكسر الميم وسكون المعجمة- أي: إجّانة (من صفر) . وفيه ردّ على من كره الوضوء من إناء النّحاس. (والمخضب) - بكسر الميم، وسكون الخاء، وفتح الضّاد المعجمتين، بعدها موحّدة- (: إناء) . قال ابن حجر: المشهور أنّه الإناء الّذي يغسل فيه الثياب من أيّ جنس كان، وقد يطلق على الإناء؛ صغر أو كبر، والقدح أكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فيه. (والصّفر) - بضمّ المهملة وسكون الفاء- (: النّحاس) - مثلّث النّون- (الأصفر) . وفي «المناوي» : إن الصّفر صنف من جيد النّحاس. انتهى. (و) أخرج أبو داود، والنّسائي في «الطهارة» ، والحاكم وصحّحه، وكذا ابن حبّان في «صحيحه» بإسناد حسن؛ عن أميمة بنت رقيقة- بضمّ أوّلهما وفتح ثانيهما وتخفيفهما، ورقيقة: بقافين- بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، «أخت خديجة؛ أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» ، قالت: (كان له صلّى الله عليه وسلم قدح من عيدان) - بفتح العين المهملة، وسكون المثنّاة التّحتيّة، ودال مهملة، قال في «الصّحاح» : العيدان الطّوال من النخل؛ الواحدة عيدانة. وكان يجعل (تحت سريره) السّرير: مأخوذ من السّرور؛ لأنّه في الغالب لأولي النّعمة، وسرير الميت تشبيه به في الصّورة، وللتّفاؤل بالسرور. (يبول فيه باللّيل) ، تمامه كما عند الطّبراني- بسند؛ قال الهيثمي: رجاله رجال «الصحيح» - فقام وطلبه فلم يجده! فسأل، فقالوا: شربته برة «خادم أمّ سلمة الّتي قدمت معها من أرض الحبشة» !! فقال: «لقد احتظرت من النّار بحظار» انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ......... قال الشّيخ وليّ الدّين: وهذا الخبر يعارضه ما رواه الطّبراني في «الأوسط» بسند جيّد؛ عن عبد الله بن مرثد؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ينقع بول في طست في البيت، فإنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع» . وروى ابن أبي شيبة؛ عن ابن عمر قال: لا تدخل الملائكة بيتا فيه بول!! قال: ويجاب بأنّ المراد بانتقاعه: طول مكثه، وما يجعل في الإناء لا يطول مكثه، بل تريقه الخدم عن قرب، ثمّ يعاد تحت السّرير لما يحدث. والظّاهر أنّ هذا كان قبل اتّخاذ الكنف وبيوت الأخلية، فإنّه لا يمكنه التّباعد باللّيل للمشقّة، أمّا بعد اتخاذها! فكان يقضي حاجته فيها ليلا ونهارا. وأخذ من تخصيص البول أنّه كان لا يفعل الغائط فيه؛ لغلظه بالنّسبة للبول، ولكثافته وكراهة ريحه. وأخذ من تخصيص اللّيل أنّه كان لا يبول فيه نهارا. وفيه حلّ اتّخاذ السّرير، وأنّه لا ينافي التّواضع؛ لمسيس الحاجة إليها، سيّما الحجاز؛ لحرارته. وحلّ القدح من خشب النّخل، ولا ينافيه حديث: «أكرموا عمّاتكم النّخلة» !! لأنّ المراد بإكرامها سقيها وتلقيحها، فإذا انفصل منها شيء وعمل إناء؛ أو غيره؟ زال عنه اسم النّخلة، فلم يؤمر بإكرامه. وفيه حلّ البول في إناء في البيت الّذي هو فيه ليلا بلا كراهة، حيث لم يطل مكثه فيه، كما تقرّر، وأما نهارا! فهو خلاف الأولى حيث لا عذر، لأنّ اللّيل محلّ الأعذار، بخلاف النّهار. وفيه حلّ بول الرّجل بقرب أهل بيته للحاجة. انتهى «مناوي» و «عزيزي» . فائدة: قال ابن قتيبة: كان سريره خشبات مشدودة باللّيف، بيعت في زمن بني أميّة؛ فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم. انتهى «مناوي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطهرة من فخّار يتوضّأ ويشرب منها، وكان النّاس يرسلون أولادهم الصّغار الّذين عقلوا فيدخلون عليه صلّى الله عليه وسلّم فلا يدفعون، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه، ومسحوا على وجوههم، وأجسامهم، يبتغون بذلك البركة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى الغداة.. [جاءه] خدم أهل المدينة بانيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء.. إلّا غمس يده فيه. (و) في «كشف الغمة» للشّعراني: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مطهرة) - بكسر الميم وفتحها-: إناء يتطهّر به ويتوضّأ به، كالإبريق ونحوه. (من فخّار) : الطين المشوي، وقبل الطبخ هو خزف وصلصال؛ (يتوضّأ) منها صلّى الله عليه وسلم (ويشرب منها) أي: المطهرة. (وكان النّاس) أي: أهل المدينة (يرسلون أولادهم الصّغار الّذين عقلوا) ؛ ولم يبلغوا الحلم، (فيدخلون عليه صلّى الله عليه وسلم) بلا استئذان، (فلا يدفعون) - بضمّ أوّله- أي: لا يردّون عن الدخول عليه صلّى الله عليه وسلم، (فإذا وجدوا) ؛ أي: الصّبيان (في المطهرة ماء شربوا منه، ومسحوا على وجوههم، وأجسامهم) من فضل وضوئه؛ (يبتغون بذلك) الشّرب ومسح أجسامهم (البركة) ، أي: حصول البركة. وفيه التبرّك باثاره صلّى الله عليه وسلم! (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الغداة) أي: الصبح ( [جاءه] خدم أهل المدينة بانيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيه) ؛ للتبرّك بيده الشّريفة. وفيه: بروزه للنّاس، وقربه منهم ليصل كلّ ذي حقّ لحقّه، وليعلّم الجاهل ويقتدي بأفعاله، وكذا ينبغي للأئمة بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وكان صلّى الله عليه وسلّم يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه، يرجو بركة أيدي المسلمين. (و) أخرج الطّبراني في «الأوسط» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يبعث إلى المطاهر) جمع مطهرة: كل إناء يتطهّر به، والمراد هنا نحو الحياض والفساقي والبرك المعدّة للوضوء. (فيؤتى) إليه (بالماء) منها، (فيشربه) ، وكان يفعل ذلك (يرجو بركة أيدي المسلمين) أي: يؤمل حصول بركة أيدي الّذين تطهّروا من ذلك الماء. وهذا فضل عظيم، وفخر جسيم للمتطهّرين، فياله من شرف ما أعظمه!!، كيف وقد نصّ الله في التّنزيل على محبتهم صريحا حيث قال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) [البقرة] !!. وهذا يحمل من له أدنى عقل على المحافظة على إدامة الوضوء، ومن ثمّ صرّح بعض أجلّاء الشّافعيّة بتأكّد ندبه، وأمّا الصوفية فعندهم إدامة الوضوء واجبة، لأنّه يرى نور على أعضائه، والله أعلم؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 [الفصل السّادس في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم] الفصل السّادس في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم قال في «المواهب» : (كان عليه الصّلاة والسّلام ينام أوّل اللّيل، (الفصل السّادس) من الباب الرّابع (في) بيان ما ورد في (صفة نومه) ؛ من كونه على اليمين أو غيره، وقدره، ووقته، وما يرقد عليه، وما كان يفعله (صلى الله عليه وسلم) قبل النّوم وبعده، وغير ذلك. والنّوم: غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، فهو آفة، ومن ثمّ قيل «إنّ النّوم أخو الموت» . وأمّا السّنة! ففي الرّأس، والنّعاس! في العين، وقيل: السّنة هي النّعاس، وقيل: السّنة: ريح النوم يبدو في الوجه؛ ثمّ ينبعث إلى القلب، فيحصل النّعاس ثمّ النّوم، والله أعلم. ثمّ اعلم أنّ تعريف النّوم بما ذكر بالنّسبة إلينا دونه صلّى الله عليه وسلم؛ فإنّه تنام عينه ولا ينام قلبه! كما في «الصّحيح» وسيأتي. (قال) العلّامة القسطلّانيّ في ( «المواهب» ) ؛ في النوع الرّابع من المقصد الثّالث: (كان عليه الصّلاة والسّلام ينام أوّل اللّيل) بعد صلاة العشاء وما يتّصل بها، فالأولية نسبيّة. وفي «الصحيح» ؛ عن أبي برزة: كان صلّى الله عليه وسلم يكره النّوم قبل العشاء، والحديث بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 ويستيقظ في أوّل النّصف الثّاني، فيقوم فيستاك، فيتوضّأ، ولم يكن يأخذ من النّوم فوق القدر المحتاج إليه منه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج منه، ... وروى الشّيخان، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره. وسيأتي. (ويستيقظ في أوّل النّصف الثّاني) غالبا، وفي «الصّحيحين» وغيرهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يقوم إذا سمع الصّارخ. قال الحافظ ابن حجر: أي: الدّيك. ووقع في «مسند الطّيالسي» في هذا الحديث: والصّارخ: الدّيك، والصّرخة: الصّيحة الشّديدة. وجرت العادة أنّ الدّيك يصيح عند نصف اللّيل غالبا، قاله محمد بن نصر، قال ابن التين: وهو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده. وقال ابن بطّال: الصّارخ يصرخ عند ثلث اللّيل، فكان يتحرّى الوقت الّذي ينادى فيه: هل من سائل كذا!؟ وفي «البخاري» ؛ عن أنس: كان لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته، ولا نائما إلا رأيته. قال الحافظ: أي: أنّ صلاته ونومه كان يختلف باللّيل، ولا يرتّب وقتا معيّنا، بل بحسب ما تيسّر له القيام، ولا يعارضه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها؛ لأنّها أخبرت عمّا اطّلعت عليه، فإنّ صلاة اللّيل كانت تقع منه غالبا في البيت. وخبر أنس محمول على ما وراء ذلك. انتهى. وحاصله أنّ كلا من عائشة وأنس أخبر بما اطّلع عليه. (فيقوم فيستاك) ؛ كما روى أحمد؛ عن ابن عمر: كان لا ينام إلّا والسّواك عند رأسه، فإذا استيقظ بدأ بالسّواك. ولابن عساكر؛ عن أبي هريرة: كان لا ينام حتى يستنّ؛ (فيتوضّأ) ، كما في حديث ابن عباس وغيره. (ولم يكن يأخذ من النّوم فوق القدر المحتاج إليه ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج منه) ؛ فتنازع فيه الأمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وكان ينام على جنبه الأيمن؛ ذاكرا الله تعالى حتّى تغلبه عيناه، غير ممتلىء البطن من الطّعام والشّراب. قال: وكان عليه الصّلاة والسّلام ينام على الفراش تارة، وعلى النّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة. وكان فراشه أدما؛ حشوه ليف، وكان له مسح ينام عليه) انتهى. (وكان ينام على جنبه الأيمن) ؛ لأنّه كان يحبّ التّيامن في شأنه كلّه، ومن جملته النّوم، وليرشد أمّته إلى النّوم على الجانب الأيمن؛ (ذاكرا الله تعالى حتّى تغلبه عيناه) بأن يأخذه النّوم، (غير ممتلىء البطن من الطّعام والشّراب) لضرره بالبدن وتثقيله النّوم. (قال) ؛ أي: القسطلّانيّ بعد ذلك بأسطر: (وكان عليه الصّلاة والسّلام) - كما علم من مجموع الأحاديث- (ينام على الفراش تارة، وعلى النطع) - بفتح النّون وكسرها مع فتح الطّاء وسكونها-: ما اتّخذ من جلد، والجمع: أنطاع ونطوع (تارة، وعلى الحصير تارة) ؛ كما في حديث عمر، (وعلى الأرض تارة) أخرى. (وكان فراشه) ؛ كما في «الصحيحين» والتّرمذيّ؛ عن عائشة قالت: إنّما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم الّذي ينام عليه (أدما) - بفتحتين-: جلدا مدبوغا؛ أو أحمر، أو مطلق الجلد؛ جمع أديم، وصف به المفرد!! لأنّه أجزاء من الجلد مجتمعة، فهو نظير قوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [76/ الإنسان] ، فوصف المفرد بالجمع؛ إذ «أمشاج» : أخلاط؛ جمع «مشيج» (حشوه ليف) من النّخل. (وكان) ؛ كما رواه التّرمذيّ؛ عن حفصة- (له مسح) - بكسر فسكون-: فراش خشن غليظ (ينام عليه) ؛ من شعر أو صوف. وتقدّم هذا في فراشه. (انتهى) المقصود نقله من كلام «المواهب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وكان صلّى الله عليه وسلّم ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتّى يستنّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ.. إلّا تسوّك. (و) أخرج الشّيخان في «كتاب الصلاة» وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم ينام أوّل اللّيل) بعد صلاة العشاء إلى تمام نصفه الأوّل؛ لأنّه كره النّوم قبلها. (ويحيي آخره) ؛ لأنّ ذلك أعدل النّوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوّة، فإنّه ينام أوّله ليعطي القوّة حظّها من الرّاحة، ويستيقظ آخره ليعطيها حظّها من الرّياضة والعبادة، وذلك غاية صلاح القلب والبدن والدّين. (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» - قال العزيزي: وهو حديث حسن لغيره-؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا ينام حتّى يستنّ) من الاستنان؛ وهو تنظيف الأسنان بدلكها بالسواك. ورواه أيضا أبو نعيم في «المعرفة» بلفظ: ما نام ليلة حتى يستنّ. (و) أخرج أبو داود، وابن أبي شيبة، والطّبراني في «الأوسط» - قال العزيزي: وهو حديث حسن لغيره-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يرقد) ؛ أي: لا ينام (من ليل ولا نهار) «من» بمعنى «في» كما في قوله إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [9/ الجمعة] ، (فيستيقظ) - بالرفع- عطف على «يرقد» ، وليس جوابا للنّفي!! وإنّما جوابه قوله (إلّا تسوّك) . وتمام الحديث: قبل أن يتوضّأ. انتهى. وهذا السّواك غير سنّة الاستياك للوضوء!! قاله الحفني على «الجامع» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينام.. إلّا والسّواك عند رأسه، فإذا استيقظ.. بدأ بالسّواك. وكان صلّى الله عليه وسلّم يستاك في اللّيل مرارا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يرقد.. وضع يده اليمنى تحت خدّه، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ قني عذابك يوم تبعث عبادك» (ثلاث مرّات) . (و) أخرج الإمام أحمد، ومحمد بن نصر في «كتاب الصلاة» - قال العزيزي: وهو حسن لغيره-؛ عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا ينام إلّا والسّواك عند رأسه) ؛ ليسهل تناوله، (فإذا استيقظ بدأ بالسّواك) ؛ أي: عقب استيقاظه، لشدّة حرصه عليه؛ فيندب ذلك، وهذا غير الاستياك عند إرادة الوضوء!! (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يستاك في اللّيل مرارا) . لم أقف على تخريجه. (و) أخرج أبو داود، والنّسائي في «اليوم واللّيلة» كلاهما؛ عن حفصة أمّ المؤمنين، ورواه الترمذي؛ عن حذيفة؛ لكن بدون التّثليث؛ وحسّنه: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يرقد) - في رواية بدل: ينام- (وضع يده اليمنى تحت خدّه) الأيمن- وفي رواية: رأسه- (ثمّ يقول: «اللهمّ؛ قني عذابك) ؛ أي: أجرني منه (يوم تبعث) ؛ أي: تحيي- وفي رواية: تجمع- (عبادك» ) من القبور إلى النّشور للحساب يوم القيامة، فلا تبعثني كريه المنظر؛ على وجهي غبرة، ترهقها قترة. يقول ذلك الدّعاء (ثلاث مرّات) ؛ أي: يكرّره ثلاثا. والظّاهر حصول أصل السّنّة بمرّة، وكمالها باستكمال الثّلاث، وإنّما قال ذلك مع عصمته صلّى الله عليه وسلم!! تواضعا لله وإجلالا له، وتعليما لأمّته أن يقولوا ذلك عند النّوم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من اللّيل.. وضع يده تحت خدّه، ثمّ يقول: «باسمك اللهمّ أحيا، وباسمك أموت» . وإذا استيقظ.. قال: «الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . لاحتمال أنّه آخر العمر؛ فيكون خاتمة عملهم ذكر الله، مع الاعتراف بالتّقصير الموجب للفوز والرّضا. (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، والنّسائي؛ عن البراء بن عازب. وأحمد، والبخاري، والأربعة؛ عن حذيفة بن اليمان. وأحمد، والشّيخان؛ عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه) - بفتح الميم والجيم، وحكي كسرها- أي: استقرّ فيه لينام (من اللّيل) «من» : للتبعيض، أو بمعنى «في» ، وقيّد باللّيل؛ لأنّه الأغلب، وإلّا! فمثله النّهار!! (وضع يده) ؛ يعني: اليمنى (تحت خدّه) الأيمن، (ثمّ يقول: «باسمك) ؛ أي: بذكر اسمك (اللهمّ أحيا) ، قال الشّيخ: بالبناء للفاعل، (وباسمك أموت» ) ؛ أي: وعليه أموت. وقال الحفني: باسمك، لفظ «اسم» مقحم؛ أي: بك، أي: بقدرتك أحيا، أي: أتيقظ، وبك أموت. أي: أنام. انتهى. (وإذا استيقظ) من نومه؛ (قال: «الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا) ؛ أي: أيقظنا بعد ما أنامنا، أطلق الموت على النّوم!! لأنّه يزول معه العقل والحركة، ومن ثمّ قالوا: النّوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل: وقالوا: النّوم أخو الموت. والمعنى: الحمد لله الّذي ردّ أنفسنا بعد قبضها عن التّصرّف بالنّوم؛ شكرا لنيل نعمة التصرّف في الطّاعات بالانتباه من النّوم الّذي هو أخو الموت، وزوال المانع عن التّقرّب بالعبادات. (وإليه النّشور» ) : الإحياء للبعث، أو المرجع في نيل الثّواب ممّا نكسب في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من اللّيل.. قال: «باسم الله وضعت جنبي، اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني، وفكّ رهاني، وثقّل ميزاني، ... حياتنا هذه، وفيه إشارة بإعادة اليقظة بعد النّوم إلى البعث بعد الموت. وحكمة الدّعاء عند النّوم: أن يكون خاتمة عمله العبادة، فالدّعاء هو العبادة وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] . وحكمة الدّعاء عند الانتباه: أن يكون أوّل ما يستيقظ يعبد الله بدعائه وذكره وتوحيده؛ قاله المناوي. (و) أخرج أبو داود في «الأدب» ، والحاكم بإسناد حسن؛ عن أبي الأزهر- ويقال: أبو زهير- الأنماري الشّامي قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من اللّيل؛ قال: «باسم الله) - وفي رواية: «باسمك اللهمّ» - (وضعت جنبي) ؛ أي: بإقدارك إيّاي وضعت جنبي؛ ففيه الإيمان بالقدر، وفي رواية أنّه قال: «باسمك اللهمّ وضعت جنبي وبك أرفعه» . (اللهمّ، اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني) ؛ أي: اجعله خاسئا، أي: مطرودا، وهو بوصل الهمزة، يقال: خسأت الكلب؛ أي: طردته، و «خسىء» يتعدّى، ولا يتعدى. (وفكّ رهاني) ؛ أي: نفسي المرهونة في سجن المخالفة، أي: خلّصني من عقال ما اقترفت نفسي من الأعمال الّتي لا ترتضيها بالعفو عنها. و «الرّهان» ك «سهام» . الرّهن: وهو ما يجعل وثيقة بالدّين، والمراد هنا: نفس الإنسان، لأنّها مرهونة بعملها كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور] . (وثقّل ميزاني) يوم توزن الأعمال؛ وهذا تشريع للأمّة، وإلّا! فالأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 واجعلني في النّديّ الأعلى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه.. قرأ (قل يا أيها الكافرون) حتّى يختمها. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة.. جمع كفّيه فنفث فيهما ... لا سيّئات لهم، ولا توزن لهم أعمال! (واجعلني في النّديّ) - بفتح النّون وكسر الدّال وتشديد الياء؛ كما في «الأذكار» -: هم القوم المجتمعون في مجلس، ومنه: النّادي؛ لمكان الاجتماع؛ أي: الملأ (الأعلى» ) من الملائكة. وهذا دعاء يجمع خير الدنيا والآخرة، فتتأكّد المواظبة عليه كلّما أريد النّوم، وهو من أجلّ الأدعية المشروعة عنده؛ على كثرتها! (و) أخرج الطّبراني في «الكبير» ؛ عن عبّاد بن عبّاد- بتشديد الباء مع فتح العين المهملة فيهما- ابن أخضر المازني المصري، قال العلقمي: بجانبه علامة الحسن. قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه) من اللّيل؛ (قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)) ؛ أي: سورتها (حتى يختمها) ، ثمّ ينام على خاتمتها؛ لأنّها براءة من الشّرك، كما جاء به معلّلا في خبر آخر. (و) أخرج الإمام مالك، والإمام أحمد، والشّيخان، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أوى) - بالقصر، وقد يمدّ- أي: وصل (إلى فراشه) وأراد النّوم فيه (كلّ ليلة؛ جمع كفّيه) ، أي: ضمّ إحداهما للآخرى، (فنفث) ؛ أي: نفخ (فيهما) نفخا لطيفا بلا ريق؛ على ما يلوح من ظواهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وقرأ فيهما (قل هو الله أحد) ، و: (قل أعوذ برب الفلق) ، و: (قل أعوذ برب الناس) ، ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده؛ يصنع ذلك ... الأحاديث، وإن اختلف أهل اللّغة في أنّ النّفث بريق أو بدونه!! فيكون النّفث أقلّ من التّفل؛ لأنّ التّفل لا يكون إلّا ومعه شيء من الرّيق، وكان صلّى الله عليه وسلم ينفث مخالفة لليهود لأنّهم يقرؤون ولا ينفثون. (وقرأ فيهما) وفي رواية «فقرأ» - بالفاء-. مقتضى الرّواية الأولى: أنّ تقديم النّفث على القراءة وعكسه سيّان؛ حيث كانا بعد جمع الكفّين. ومقتضى الرّواية الثّانية: أنّ النّفث يكون قبل القراءة، وبه جزم بعضهم، وعلّل ذلك بمخالفة السّحرة؛ فإنّهم ينفثون بعد القراءة. (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) ، (وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)) (وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)) ؛ أي: قرأ السّور الثّلاث بكمالها، (ثمّ مسح بهما) ؛ أي: بكفّيه (ما استطاع) مسحه- فالعائد محذوف- (من جسده) ؛ وهو ما تصل إليه يده من بدنه. وظاهره أنّ المسح فوق الثّوب (يبدأ بهما) ؛ أي: بكفّيه (رأسه) . فصله!! لأنّه بيان لجملة «مسح» ، أو بدل منه، أو استئناف (ووجهه وما أقبل من جسده) ؛ الجسد أخص من الجسم؛ لأنّه لا يقال إلّا لبدن الإنسان والملائكة والجن، كما ذكره في «البارع» وغيره. ولا يرد قوله تعالى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [88/ طه] ؛ لأنّ إطلاق الجسد فيه على سبيل المجاز لتشبيهه بالعاقل!! وأمّا الجسم؛ فيشمل سائر الحيوانات والجمادات. انتهى «باجوري» . وكان (يصنع ذلك) ؛ أي: المذكور؛ من جمع الكفّين والنّفث فيهما والقراءة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ثلاث مرّات. وكان لا ينام حتّى يقرأ: (بني إسرائيل) و: (الزمر) . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتّى يقرأ: (ألم تنزيل) السّجدة، و: (تبارك الذي بيده الملك) . والمسح (ثلاث مرّات) ، كما هو كمال السّنّة، وأمّا أصلها؛ فيحصل بمرّة، كما يفيده رواية أخرى. (و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي، والحاكم، وقال التّرمذي: حسن غريب؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان لا ينام حتّى يقرأ) سورة (بني إسرائيل) ، ويقال لها سورة «الإسراء» . (و) يقرأ سورة (الزّمر) ، قال الطيبي: «حتّى» غاية لقوله: «لا ينام» ، ويحتمل كون المعنى: إذا دخل وقت النّوم لا ينام حتّى يقرأ، وكونه لا ينام مطلقا حتّى يقرأ؛ يعني: لم يكن عادته النّوم قبل قراءتهما، فتقع القراءة قبل دخول وقت النوم؛ أيّ وقت كان!! ولو قيل: كان يقرؤهما باللّيل! لم يفد ذلك. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «فضائل القرآن» ، والنّسائي في «اليوم والليلة» ، والحاكم في «التفسير» ؛ وقال: على شرطهما؛ كلهم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا ينام حتّى يقرأ الم (1) تَنْزِيلُ السّجدة، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [1/ الملك] فيه التّقرير المذكور فيما قبله. وعن العرباض بن سارية: كان صلّى الله عليه وسلم يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، وقال: «إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذي؛ وحسّنه، والنّسائي، ورواه ابن الضّريس؛ عن يحيى بن أبي كثير مرسلا، وزاد: قال يحيى: فنراها الآية الّتي في آخر «الحشر» . وقال ابن كثير: الآية هي قوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) [الحديد] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر نساءه إذا أرادت إحداهنّ أن تنام.. أن تحمد ثلاثا وثلاثين، وتسبّح ثلاثا وثلاثين، وتكبّر ثلاثا وثلاثين. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه ... والمسبّحات ست: الحديد، والحشر، والصفّ، والجمعة، والتغابن، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) [الأعلى] . (و) في «الجامع الصّغير» وقال: أخرجه ابن منده؛ عن حابس قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأمر نساءه إذا أرادت إحداهنّ أن تنام) ؛ ظاهره شمول نوم اللّيل والنّهار، (أن تحمد) - بفتح الميم-؛ أي: تحمد الله تعالى (ثلاثا وثلاثين) ؛ أي: تقول «الحمد لله» ، وتكرّرها ثلاثا وثلاثين مرّة. (وتسبّح ثلاثا وثلاثين) ؛ أي: تقول «سبحان الله» ؛ وتكرّرها ثلاثا وثلاثين مرّة. (وتكبّر ثلاثا وثلاثين) ؛ أي: تقول «الله أكبر» ، وتكرّره كذلك، وهي «الباقيات الصّالحات» في قول ترجمان القرآن الحبر: عبد الله بن عباس. فيندب ذلك عند إرادة النّوم ندبا مؤكّدا للنّساء، ومثلهن الرّجال، فتخصيصهنّ بالذّكر ليس لإخراج غيرهن! (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ، والنّسائي: كلهم؛ (عن أنس) أي: ابن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه) أي: دخل فيه. قال الإمام النّوويّ في آخر «باب الحج» من «شرح مسلم» ؛ نقلا عن القاضي عياض: يقال: آوى وأوى- بالمدّ والقصر في الفعل الّلازم والمتعدّي جميعا- لكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 قال: «الحمد لله الّذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممّن لا كافي له ولا مؤوي له» . القصر في الّلازم أشهر وأفصح، والمدّ في المتعدّي أشهر وأفصح. انتهى. قلت: وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين، قال تعالى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [63/ الكهف] . وقال تعالى في المتعدّي وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ [50/ المؤمنون] . انتهى. (قال: «الحمد لله الّذي أطعمنا وسقانا) ، إنّما ذكرهما هنا!! لأنّ الحياة لا تتمّ إلّا بهما؛ كالنّوم، فالثّلاثة من واد واحد، وأيضا النّوم فرع الشّبع والرّيّ، وفراغ الخاطر من المهمّات، والأمن من الشرور والآفات؛ فلذلك ذكر ما بعده أيضا بقوله: (وكفانا) ؛ أي: دفع عنّا شرّ خلقه، (وآوانا) ؛ في كنّ نسكن فيه يقينا الحرّ والبرد، ونحرس فيه متاعنا، ونحجب به عيالنا، وهو بالمدّ، ويجوز القصر، وعلّل الحمد مبيّنا لسببه الحامل عليه؛ إذ لا يعرف قدر النّعمة إلّا بضدّها؛ بقوله: (فكم ممّن لا كافي له) - بدون همز- (ولا مؤوي له!!) - بميم مضمومة، فهمزة ساكنة، فواو مكسورة؛ اسم فاعل من «آوى» بالمدّ- أي: كثير من خلق الله لا يكفيهم الله شرّ الأشرار، ولا يجعل لهم مسكنا؛ بل تركهم يتأذّون في الصّحاري بالبرد والحرّ؛ قاله المناوي على «الجامع» . وقال الباجوري: والمعنى: فكم من الخلق؛ أي: كثير منهم لا كافي لهم ولا مؤوي لهم على الوجه الأكمل عادة، فالله تعالى كاف لجميع خلقه ومؤو لهم؛ ولو من بعض الوجوه، وإن كان لا يكفيهم ولا يؤويهم من بعض آخر! فلا يكفيهم شرّ أعدائهم؛ بل يسلّطهم عليهم، ولا يؤويهم إلى مأوى، بل يتركهم يتأذّون ببرد الصّحاري وحرّها. وفي الحديث إشارة إلى عموم الأكل والشّرب لشمول الرّزق، كما يقتضيه قوله تعالى. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [6/ الأنعام] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تضوّر من اللّيل ... وأمّا الكفاية من شرّ الأعداء- مثلا- والمأوى!! فالله تعالى يخصّ بهما من شاء من عباده؛ فإنّ كثيرا منهم من يتسلّط عليه أعداؤه، وكثير منهم ليس له مأوى! إمّا مطلقا، أو مأوى صالحا. انتهى. وروى البخاريّ وغيره؛ عن حذيفة؛ ومسلم؛ عن البراء: كان صلّى الله عليه وسلم إذا استيقظ؛ قال: «الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . وروى أبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان إذا استيقظ من اللّيل؛ قال: «لا إله إلّا أنت، سبحانك اللهمّ وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهمّ زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب» . وروى الإمام أحمد، وابن ماجه؛ عن ربيعة بن كعب؛ أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من اللّيل يصلّي يقول: «الحمد لله ربّ العالمين القويّ» ، ثمّ يقول: «سبحان الله وبحمده القويّ» . وأمّا ما كان يقوله إذا أصبح وإذا أمسى!! فكثير ألّفت فيه تاليف كثيرة، يقال لها «عمل اليوم واللّيلة» والله أعلم. (و) أخرج النّسائي في «عمل اليوم والليلة» ، والحاكم في «باب الدعاء» ، وقال: على شرطهما، وأقرّه الذّهبيّ، وقال الحافظ العراقي في «أماليه» : حديث صحيح، وأخرجه ابن حبّان أيضا: كلهم؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تضوّر) - بالتّشديد-؛ أي: تلوّى وتقلّب ظهرا لبطن؛ وقال الحفني: أي: استيقظ (من اللّيل) . «من» تبعيضيّة، أو بمعنى «في» ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 قال: «لا إله إلّا الله الواحد القهّار، ربّ السّماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفّار» . ومعنى (تضوّر) : تلوّى وتقلّب في فراشه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تعارّ من اللّيل.. قال: «ربّ اغفر وارحم، واهد للسّبيل الأقوم» . (قال: «لا إله إلّا الله الواحد القهّار، ربّ السّماوات والأرض، وما بينهما العزيز الغفّار» ) ، هذا التسجيع في الدّعاء ليس مقصودا له صلّى الله عليه وسلم، فلا بأس به حيث لم يكن متكلّفا. (ومعنى تضوّر) - بفتح المثنّاة الفوقيّة والضّاد المعجمة، وشدّة الواو؛ فراء- (: تلوّى وتقلّب في فراشه) ؛ قاله العزيزي على «الجامع الصغير» . (و) أخرج محمد بن نصر في كتاب «فضل الصلاة» ؛ وقال في «العزيزي» : حديث حسن لغيره؛ عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها، زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تعارّ) - بفتح المثنّاة، الفوقيّة، والعين المهملة، وشدّة الرّاء- أي: انتبه (من اللّيل) . والتّعارّ: الانتباه في اللّيل مع صوت؛ من نحو تسبيح أو استغفار، وهذا حكمة العدول إليه عن التعبير بالانتباه، فإنّ من هبّ من نومه ذاكرا لله وسأله خيرا أعطاه، وإنّما يكون ذلك لمن تعوّد الذّكر واستأنس به؛ وغلب عليه حتّى صار حديث نفسه في نومه ويقظته!! قالوا: وأصل التّعارّ: السّهر والتّقلّب على الفراش، ثمّ استعمل فيما ذكر، وقد ورد عند الانتباه أذكار؛ منها: أنّه كان إذا انتبه (قال: «ربّ اغفر وارحم واهد للسّبيل الأقوم» ) ؛ أي: دلّني على الطّريق الواضح الّذي هو أقوم الطّرق وأعظمها استقامة. وحذف المعمول! ليؤذن بالعموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ومعنى (تعارّ) : هبّ من نومه واستيقظ. وعن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا عرّس بليل.. اضطجع على شقّه الأيمن، ... وفيه جواز تسجيع الدّعاء إذا خلا عن تكلّف وقصد؛ كهذا. فينبغي المحافظة على قول الذّكر عند الانتباه من النّوم، ولا يتعيّن له لفظ؛ لكنّه بالمأثور أفضل، ومنه ما ذكر في هذا الخبر. قاله المناوي. (ومعنى تعارّ) - بتشديد الرّاء-: (هبّ من نومه واستيقظ) ، والتّاء زائدة؛ قاله في «النّهاية» . (و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» ، والإمام أحمد، وابن حبّان، والحاكم؛ بأسانيد صحيحة، واللفظ ل «الشّمائل» ؛ (عن أبي قتادة) من أكابر الصّحب الكرام. اسمه: الحارث بن ربعيّ- بكسر أوّله-، أو: النّعمان بن ربعيّ. أو النّعمان ابن عمرو، الأنصاري، الخزرجي، السّلمي، المدني. فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ حضر المشاهد كلّها إلّا بدرا؛ ففيها خلف، وليس في الصّحب من يكنّى بكنيته. مات بالمدينة المنوّرة سنة: ثمان وثلاثين، أو: أربع وخمسين؛ عن سبعين سنة (رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا عرّس) - بشدّ الرّاء وعين وسين مهملات- أي: نزل وهو مسافر آخر الليل للنّوم والاستراحة (بليل) ؛ أي: في زمن ممتدّ منه، لقوله بعد: «قبيل الصبح» ، (اضطجع على شقّه الأيمن) ؛ أي: نام على جنبه الأيمن، ووضع رأسه على لبنة، والشّقّ- بالكسر-: نصف الشّيء والجانب. وهذه الحالة؛ وإن كانت تفضي إلى الاستغراق في النّوم؛ لكنّه لمّا كان الوقت متّسعا وثق من نفسه بالتّيقّظ وعدم فوات الصّبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وإذا عرّس قبيل الصّبح.. نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفّه. ومعنى (التّعريس) : نزول القوم في السّفر آخر اللّيل. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن ينام وهو جنب.. توضّأ وضوءه للصّلاة، ... (وإذا عرّس قبيل الصّبح) ؛ أي: قبل دخول وقته بقليل (نصب ذراعه) ؛ أي: اليمين، (ووضع رأسه على كفّه) ، وفي رواية أحمد وغيره: ووضع رأسه على كفّه اليمنى، وأقام ساعده. وذلك لأنّه أعون على الانتباه؛ لئلّا ينام طويلا؛ فيفوته الصّبح، فهو تشريع وتعليم لأمّته لئلّا يثقل نومهم فيفوتهم أوّل الوقت، فينبغي لمن قارب وقت الصّلاة أن يتجنب الاستغراق في النّوم، فينام على هيئة تقتضي سرعة يقظته؛ محافظة على تحصيل فضيلة أوّل الوقت؛ اقتداء به صلّى الله عليه وسلم. (ومعنى التّعريس: نزول القوم في السّفر آخر اللّيل) للنّوم والاستراحة، هذا قول الأكثر؛ كما في الزّرقاني. وقال المناوي: ظنّ بعضهم أنّ اللّيل قيد في مسمّاه، والأمر بخلافه!! فقد أطلقوا أن يقال: «عرّس» ؛ إذا نزل المسافر ليستريح نزلة ثمّ يرتحل. بل قال أبو زيد وغيره: قالوا: عرّس القوم في المنزل تعريسا؛ إذا نزلوا أيّ وقت كان من ليل أو نهار، هكذا حكاه عنه بلفظ: «قالوا» . انتهى كلام المناوي على «الشّمائل» . (و) أخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه بإسناد صحيح؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام؛ وهو جنب توضّأ) ؛ أي: غسل أعضاءه الأربعة بالنّية، ولمّا كان الوضوء لغويّا وشرعيّا؛ دفع توهّم إرادة اللّغوي الّذي هو مطلق النّظافة بقوله: (وضوءه للصّلاة) ؛ احترازا عن الوضوء اللّغوي، فيسنّ وضوء الجنب للنّوم، ويكره تركه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وإذا أراد أن يأكل أو يشرب وهو جنب.. غسل يديه ثمّ يأكل ويشرب. وحكمة الوضوء: تخفيف الحدث، لا سيّما إذا قلنا بجواز تفريق الغسل؛ فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء. ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة بسند قال فيه ابن حجر: رجاله ثقات؛ عن شدّاد رفعه: «إذا أجنب أحدكم من اللّيل؛ ثمّ أراد أن ينام فليتوضّأ؛ فإنّه نصف غسل الجنابة» . وقيل: حكمته أنّه أحد الطّهارتين. وعليه؛ فيقوم التّيمم مقامه!! وقد روى البيهقي- بإسناد قال ابن حجر: هو حسن- عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضّأ أو تيمّم. أي: عند فقد الماء. وقيل: حكمته أن ينشط إلى العود أو الغسل. ونقل ابن دقيق العيد عن نصّ الشّافعي أنّه مثل الجنب: الحائض بعد الانقطاع، ومثلها النّفساء؛ وفيه ندب التّنظيف عند النّوم. قال ابن الجوزي: وحكمته أنّ الملائكة تبعد عن الوسخ والرّيح الكريه؛ بخلاف الشّياطين!. (وإذا أراد أن يأكل أو يشرب؛ وهو جنب؛ غسل يديه) ؛ أي: الأقلّ ذلك، والأكمل أن يتوضّأ؛ كما صرّح به الفقهاء، وغسل اليدين مطلوب عند الأكل؛ وإن لم يكن جنبا. وإنما قيّد بالجنب! لتأكّد ذلك فيه أكثر من غيره. وقد ورد أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يتوضّأ أيضا عند إرادة الأكل إذا كان جنبا، وقيس بالأكل الشّرب. وكالجنب في ذلك الحائض والنّفساء إذا انقطع دمهما؛ قاله العزيزي والحفني. (ثمّ يأكل ويشرب) ؛ لأنّ أكل الجنب بدون ذلك يورث الفقر؛ كما جاء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن ينام وهو جنب.. غسل فرجه وتوضّأ. وكان صلّى الله عليه وسلّم تنام عيناه ولا ينام قلبه. خبر الديلمي؛ عن شدّاد بن أوس يرفعه: «ثلاث تورث الفقر: أكل الرّجل وهو جنب قبل أن يغسل يديه، وقيامه عريا بلا مئزر وسترة، والمرأة تشتم زوجها في وجهه» . (و) أخرج الشّيخان، وأبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ غسل فرجه) ، أي: ذكره (وتوضّأ) - تمامه- للصّلاة. أي: وضوءه للصّلاة؛ أي: توضّأ كما يتوضّأ للصّلاة، وليس معناه أنّه توضّأ لأداء الصّلاة! وإنّما المراد أنّه توضّأ وضوآ شرعيّا؛ لا لغويا. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الحاكم في «التفسير» - قال العزيزي: وهو حديث صحيح-؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم تنام عيناه) بالتّثنية، وبالإفراد، على أنّه مفرد مضاف يعمّ، روايتان في البخاري. (ولا ينام قلبه) ليعي الوحي الذي يأتيه، بل هو دائم اليقظة، لا يعتريه غفلة؛ ولا يتطرّق إليه شائبة نوم؛ لمنعه من إشراق الأنوار الإلهيّة الموجبة لفيض المطالب السّنيّة، ولذا كانت رؤياه وحيا، ولا تنتقض طهارته بالنّوم، وكذا الأنبياء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء تنام أعيننا؛ ولا تنام قلوبنا» . رواه ابن سعد؛ عن عطاء مرسلا، ورواه البخاري وغيره بمعناه؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ولفظها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلي أربعا؛ فلا تسأل عن حسنهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ......... وطولهنّ، ثمّ يصلي ثلاثا، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر؟! فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» . رواه الشّيخان، وأبو داود، والتّرمذي، والنّسائي. وإنّما كان لا ينام قلبه! لأنّ القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن، وكمال هذه الحالة كان لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم، ولباقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو من خصائصه على الأمم؛ لا على الأنبياء؛ بنصّ حديثه المارّ! والفرق بيننا وبينهم: أنّ النّوم يتضمّن أمرين: راحة البدن، وهو الّذي شاركونا فيه. والثّاني: غفلة القلب، وقلوبهم مستيقظة إذا ناموا؛ سليمة من أضغاث الأحلام، مشتغلة في تلقّف الوحي والتّفكر في المصالح؛ على مثل حال غيرهم إذا كان يقظانا، ولذا كانت رؤياهم وحيا، ولا ينقض النّوم وضوءهم. ويحصل لمن أحيا الله قلبه بمحبّته واتباع رسوله من ذلك الحال الّذي كماله للمصطفى جزء بحسب نصيبه من محبّته عليه الصلاة والسّلام، ولكنّهم؛ ولو شاركوا الأنبياء في جزء ما من ذلك؛ ليسوا كهم! لانتقاض وضوئهم، ورؤياهم ليست وحيا بإجماع. وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين حديث نومه عليه الصّلاة والسلام في الوادي؛ حيث كانوا قافلين من سفر عن صلاة الصّبح حتّى طلعت الشّمس وحميت حتّى أيقظه عمر رضي الله تعالى عنه بالتّكبير!! كما أخرجه البخاري ومسلم؛ عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما؛ فقال النّووي: له جوابان: أحدهما: أنّ القلب إنّما يدرك الحسّيّات المتعلّقة به؛ كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلّق بالعين؛ لأنّها نائمة والقلب يقظان. الثاني: أنّه كان له حالان؛ حال كان قلبه لا ينام؛ وهو الأغلب، وحال ينام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ......... فيه قلبه؛ وهو نادر، فصادف هذا- أي: قصّة النّوم عن الصلاة- قال: والصّحيح المعتمد هو الأوّل، والثاني ضعيف، بل شاذّ؛ لمخالفته لصريح «ولا ينام قلبي» الشّامل لسائر الأحوال؛ إذ الفعل المنفي يفيد العموم. قال في «فتح الباري» : وهو كما قال. ولا يقال: القلب؛ وإن كان لا يدرك ما يتعلّق بالعين من رؤية الفجر مثلا؛ لكنّه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطّويل، فإنّ من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشّمس مدّة طويلة لا تخفى على من لم يكن مستغرقا!! لأنّا نقول: يحتمل أن يقال: كان قلبه صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك مستغرقا بالوحي، ولا يلزم من ذلك وصفه بالنّوم، كما كان يستغرق صلّى الله عليه وسلم حالة إلقاء الوحي؛ فكان يستغرق بحيث يؤخذ عن النّاس إذا نزل عليه في اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك الاستغراق: بيان التشريع بالفعل؛ لأنّه أوقع في النّفس، كما في قصّة سهوه في الصّلاة حين سلّم من ركعتين ... وغير ذلك. وقريب من هذا جواب ابن المنير: أنّ القلب قد يحصل له السّهو في اليقظة لمصلحة التّشريع، ففي النّوم بطريق الأولى، أو على السّواء؛ حيث فرضنا أنّ نومه ويقظته سيّان. وقال ابن العربي في «القبس» : النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كيفما اختلفت حاله من نوم أو يقظة في حقّ وتحقيق، ومع الملائكة في كل طريق، إن نسي؛ فباكد من المنسيّ اشتغل، وإن نام؛ فبقلبه ونفسه على الله أقبل، ولهذا قالت الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم: كان صلّى الله عليه وسلم إذا نام لا نوقظه حتّى يستيقظ، لأنّا لا ندري ما يحدث له!! أي: من الوحي؛ كانوا يخافون من إيقاظه قطع الوحي، فلا يوقظونه لاحتمال ذلك. قال ابن العربي: فنومه عن الصّلاة أو نسيانه شيئا منها لم يكن عن آفة، وإنّما كان بالتّصرّف من حالة إلى حالة مثلها؛ لتكون لنا سنّة. انتهى. أي: كما قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 ولذلك كان صلّى الله عليه وسلّم ينام حتّى ينفخ، ثمّ يقوم فيصلّي. صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ الله أراد ألّا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم؛ فهكذا لمن نام أو نسي» . رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. (ولذلك) المذكور من كونه تنام عيناه ولا ينام قلبه (كان صلّى الله عليه وسلم ينام حتّى ينفخ) ؛ من النّفخ: وهو إرسال الهواء من الفم بقوّة، والمراد هنا ما يخرج من النائم حين استغراقه في نومه، وبيّن به أنّ النّفخ يعتري بعض النائمين؛ دون بعض، وأنّه ليس بمذموم ولا مستهجن. (ثمّ يقوم فيصلّي) ، لفظ التّرمذي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى الله عليه وسلم نام حتّى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فاذنه بالصّلاة، فقام وصلّى؛ ولم يتوضّأ!! أي: لأنّ نومه لا ينقض وضوءه مطلقا؛ ليقظة قلبه، فلو خرج منه حدث لأحسّ به!! وأمّا رواية: أنّه توضّأ! فإمّا للتجديد، أو وجود ناقض غير النّوم. وفي البخاري؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: نام صلّى الله عليه وسلم حتّى نفخ، وكنا نعرفه إذا نام بنفخه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نام صلّى الله عليه وسلم حتّى استثقل، ورأيته ينفخ. ولأحمد عنها: ما نام قبل العشاء، ولا سمر بعدها. انتهى «زرقاني» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 [الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته] الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته وفيه ستّة فصول (الباب الخامس) من الكتاب المشتمل على ثمانية أبواب، ومقدّمة، وخاتمة (في) بيان ما ورد في (صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم) . الخلق- بضم الخاء واللّام، - وقد تسكّن-: الطبع والسجيّة، وهو اسم للأوصاف الباطنة؛ بخلاف الخلق- بفتح الخاء وسكون اللام-!! فإنّه اسم للصفات الظّاهرة؛ وتعلّق الكمال بالصّفات الباطنة أكثر من تعلّقه بالصّفات الظّاهرة. وعرّف الإمام حجّة الإسلام الغزاليّ الخلق- بضمتين- بأنّه: هيئة للنّفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، فإن كانت تلك الأفعال جميلة؛ سمّيت الهيئة خلقا حسنا، وإلّا! سمّيت خلقا سيئا. (وحلمه) - بكسر الحاء- قال في «الشّفاء» للقاضي عياض: هو حالة توقّر وثبات عند الأسباب المحركات، (وعشرته) - بكسر العين المهملة-: اسم من المعاشرة والتعاشر، وهي المخالطة (مع نسائه) ، وغيرهنّ، (وأمانته) في كلّ شيء يحفظه؛ قولا أو فعلا أو غير ذلك ممّا يجعل عنده، وكونه موثوقا به في أموال النّاس وأحوالهم، (وصدقه) ؛ وهو مطابقة خبره للواقع. (وحيائه) قال القاضي عياض في «الشفاء» : الحياء رقّة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقع كراهته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 ......... (ومزاحه) - بكسر أوّله- مصدر «مازحه» ؛ وهو الانبساط مع الغير من غير إيذاء له؛ فيتولّد منه الضّحك. (وتواضعه) - بضمّ الضّاد المعجمة-؛ هضم النّفس، قال الخفاجي: التّواضع إظهار أنّه وضيع وهو أشرف النّاس؛ فالصيغة للتّكلف في الأصل. قال ملا علي قاري: وهو من الملكات المورّثة للمحبّة الرّبّانيّة والمودّة الإنسانيّة؛ ولا يبلغ أحد حقيقة التّواضع إلّا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النّفس؛ وفي ذوبانها صفاؤها من غشّ الكبر والعجب؛ فتلين وتنطبع للحقّ والخلق؛ بمحو آثارها وسكون وهجها وغليانها، فالتواضع الحقيقيّ هو: ما كان ناشئا عن شهود عظمته تعالى، وتجلّي صفته عزّ وجلّ. ما المتواضع الّذي إذا اتّضع ... رأى بأنّ القدر فوق ما صنع لكنّه الّذي إذا ما اتّضعا ... تكون نفسه لديه أوضعا وما الحقيقيّ من التّواضع ... ما كان عن تصنّع من واضع بل عن شهود هيبة العظيم ... وعن تجلّي وصفه القديم (وجلوسه) ؛ من كونه على شبه الحبوة، وإلى القبلة، وجلوسه مع أصحابه، ونحو ذلك، (وكرمه) ؛ الكرم- بفتح أوّليه- قال القاضي عياض: هو الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه. انتهى. فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقلّ نفعه. (وشجاعته) - مثلّث الشين-: مصدر «شجع» - بالضم- شجاعة؛ وهي- كما قال الشامي-: انقياد النفس مع قوّة غضبيّة وملكة يصدر عنها انقيادها في إقدامها، متدرّبة على ما ينبغي، في زمن ينبغي، وحال ينبغي. انتهى. والشّجاع- بالضم-: الشديد القلب عند البأس، المستهين بالحروب. (وفيه) ؛ أي: هذا الباب فيه (ستّة فصول) سيأتي بيانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 [الفصل الأوّل في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه] الفصل الأوّل في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه (الفصل الأوّل) من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة خلقه صلّى الله عليه وسلم) . في «النهاية» : الخلق- بالضّم والسكون، وبضمّتين-: السجيّة والطبيعة، والمروءة والدين. وحقيقته: أنّه صورة الإنسان الباطنة؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع. انتهى. واختلف: هل حسن الخلق غريزة طبيعية، أو مكتسبة اختيارية!؟. فقيل بالأوّل؛ لخبر البخاري: «إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم» . وقيل: بعضه مكتسب؛ لما صحّ في خبر الأشجّ: «إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله: الحلم، والأناة» قال: يا رسول الله؛ قديما كان فيّ أو حديثا؟! قال: «قديما» . قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبّهما. قال ابن حجر الهيتمي- رحمه الله تعالى-: فترديد السؤال عليه وتقريره يشعر بأنّ منه ما هو جبلّيّ، ومنه ما هو مكتسب؛ وهذا هو الحق. ومن ثمّ قال القرطبيّ: هو جبلّة في نوع الإنسان؛ وهم متفاوتون فيه، فمن غلبه حسنه؛ فهو المحمود، وإلّا! أمر بالمجاهدة حتى يصير حسنا، وبالرياضة حتى يزيد حسنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 ......... قلت: الأظهر أنّ الأخلاق كلّها باعتبار أصلها جبلّيّة؛ قابلة للزيادة والنقصان في الكميّة والكيفيّة والرياضات الناشئة عن الأمور العلمية والعملية، كما تدلّ عليه الأخبار النبوية. منها حديث: «إنّما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق» . رواه البخاري في «تاريخه» ، والحاكم، والبيهقي، وأحمد؛ عن أبي هريرة. وأخرجه البزّار بلفظ: «مكارم الأخلاق» . ومنها ما في «مسلم» ؛ عن علي كرّم الله وجهه في «دعاء الافتتاح» : «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلّا أنت» . ومنها ما صحّ عنه صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي» . فالمراد: زيادة تحسين الخلق على ما هو الظاهر؛ على طبق رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) [طه] . ومنها حديث: «حسن الخلق نصف الدّين» رواه الديلمي؛ عن أنس. ومنها حديث: «إنّ من أحبّكم إليّ أحسنكم أخلاقا» . رواه البخاري؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. انتهى. ذكره العلامة ملا علي القاري في «جمع الوسائل» . (وحلمه) صلى الله عليه وسلم وهو: ضبط النّفس والطبع عند هيجان الغضب وعدم إظهاره؛ قاله الخفاجي على «الشفاء» . وفي «الابتهاج» للبلغيثي: واعلم أنّ الحلم من أصحّ السّمات على محمود الصفات، وهو يدرك بالتخلّق وحمل النفس عليه؛ فهو مكتسب، كما يدلّ عليه الحديث: «إنّما العلم بالتّعلّم، وإنّما الحلم بالتّحلّم» . وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد. وللحلم عشرة أسباب: 1- رحمة الجهّال، و 2- القدرة على المعفوّ عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ......... و3- الترفّع شرفا وعلوّ همّة، و 4- الاستهانة أنفة وعجبا، و 5- الحياء، و 6- الفضل، و 7- الاستكفاف؛ أي: جعل السكوت والصبر سببا لكفّ الجاهل، و 8- خوف العقوبة؛ إمّا لضعف نفس، أو لرأي وحزم، و 9- رعاية نعمة أو حرمة، و 10- توقّع الفرصة؛ دهاء ومكرا. فإن خلا الحلم عن هذه الأسباب كلّها؛ كان ذلّا. وكلّ واحد منها يحمل على عدم الانتقام في الحال أو دواما. فمن رحمة الجهّال: قول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه لرجل شتمه: يا هذا؛ لا تغرق في سبّنا، ودع للصّلح موضعا، فإنّا لا نكافىء من عصى الله تعالى فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. وقول الشافعي رضي الله تعالى عنه وقد شتمه رجل: إن كنت كما قلت غفر الله لي، وإلّا!! غفر الله لك. وفي القدرة على المعفو عنه: ما جاء عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا على القدرة عليه» . وقيل: أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر. ومن الترفّع: قول ابن هبيرة وقد أعرض عن رجل سبّه وقال له «إيّاك أعني» : وأنا عنك أعرض. ولبعضهم: أو كلّما طنّ الذّباب زجرته ... إنّ الذّباب إذن عليّ كريم ولعمرو بن علي: إذا نطق السّفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السّكوت سكتّ عن السّفيه فظنّ أنّي ... عييت عن الجواب وما عييت وفي الصفح لأجل الحياء قيل: احتمال أذى السفيه أيسر من التحلّي بحليته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 ......... ومن الفضل قول الإسكندر لما قيل له: فلان وفلان يتنقّصانك؛ فلو عاقبتهما! قال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقّصي. ومن الاستكفاف قول ضرار بن القعقاع- وقد قال له رجل: والله لئن قلت لي كلمة لتسمعنّ عشرا-؛ فقال ضرار: والله لو قلت لي عشرا ما سمعت كلمة واحدة. وفي خوف العقوبة: قيل: الحلم حجاب الآفات. وفي رعاية النعمة قيل: أكرم الشّيم أرعاها للذّمم. وفي توقّع الفرصة قيل: غضب الأحمق في قوله، وغضب العاقل في فعله. وقيل: تعاقب أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم ومن المشهورين بالحلم: الأحنف بن قيس، ويضرب به المثل في الحلم، واسمه: «الضّحّاك» وقيل: «صخر» . وهو من الموصوفين ببشاعة الصورة. وهو من كبار التابعين، وكان يقول: إنّي تعلّمت الحلم من خالي قيس بن عاصم المنقري. وقيس هذا صحابي رضي الله تعالى عنه. ومن حلمه: ما حدّث به الأحنف قال: كنّا عند خالي قيس بن عاصم، فأتي بولد له قتيل؛ فقال: ادفنوه؛ وعظّم الله أجر أمّه فيه. وما رأيناه تغيّر ولا حلّ حبوته لذلك، فقالوا له: إنّ أخاك قد قتله. فقال متمثّلا: أقول للنّفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي ومن حلم الأحنف: ما روي أنّ عمرو بن الأهتم جعل لرجل ألف درهم على أن يسفّه الأحنف؛ فأقبل الرجل عليه فسبّه سبّا ذريعا؛ والأحنف ساكت. فرجع الرجل يعضّ أنامله، ويقول: واسوأتاه؛ ما منعه من جوابي إلّا هواني عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قال القاضي عياض في «الشّفا» : (قال وهب بن منبّه: ... وفعل به آخر مثل ذلك وأطال في شتمه، إلى أن أراد الأحنف القيام إلى غدائه. فقال للرجل: يا هذا؛ إنّ غداءنا قد حضر فقم بنا إليه. وكان الأحنف يقول: ما عاداني أحد إلّا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى منّي؛ عرفت له قدره، أو دوني؛ رفعت عنه قدري، أو نظيري؛ تفضّلت عليه. انتهى. وهذا كلام في غاية الحكمة، وقد نظمه الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: سألزم نفسي الصّفح عن كلّ مذنب ... وإن عظمت منه عليّ الجرائم فما النّاس إلّا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم فأمّا الّذي فوقي فأعرف قدره ... وأتبع فيه الحقّ والحقّ لازم وأمّا الّذي دوني فحلمي تكرّما ... أصون به عرضي وإن لام لائم وأمّا الّذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إنّ الفضل بالفخر حاكم انتهى كلام «الابتهاج» . (قال القاضي) التقيّ النقيّ الورع (عياض) بن موسى اليحصبي الأندلسي السبتي- وقد تقدّمت ترجمته تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته آمين- (في) كتاب ( «الشفا) بتعريف حقوق المصطفى» صلى الله عليه وسلم؛ في الباب الثاني منه؛ في الفصل الثالث: (قال) أبو عبد الله (وهب بن منبّه) - بضمّ الميم وفتح النون وكسر الموحدة المشدّدة؛ بزنة اسم الفاعل- ابن كامل اليماني الصنعاني التابعي المشهور بمعرفة الكتب القديمة. اتّفقوا على توثيقه وعبادته، روى له أصحاب الكتب الستة. توفي سنة: - 116- ست عشرة ومائة هجرية، وعمره ثمانون سنة، وقد تقدّمت ترجمته، وله ترجمة طويلة في كتاب «الميزان» رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرجح النّاس عقلا، وأفضلهم رأيا. (قرأت في أحد وسبعين كتابا) من الكتب القديمة؛ إذ كان خبرها- وفي «معارف» ابن قتيبة: قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتابا- (فوجدت في جميعها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أرجح النّاس) - أي: الخلق- (عقلا) يعني: أنّ عقله أزيد من عقول الناس جميعا. وقد اختلف في ماهيّة العقل اختلافا طويلا يطول استقصاؤه، والحقّ أنّه نور روحانيّ به تدرك النّفوس العلوم الضرورية والنظرية. وابتداء وجوده؛ عند اجتنان الولد في بطن أمّه، ثم لا زال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. ومحلّه: القلب عند جمهور أهل الشرع؛ كالأئمة الثلاثة؛ لقوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [179/ الأعراف] ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [37/ ق] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت؛ فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب» والدّماغ تابع له؛ إذ هو من جملة الجسد. وقال عليّ: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنّفس في الرئة. رواه البخاري في «الأدب المفرد» ، والبيهقي بسند جيد. وذهب الحنفية وابن الماجشون وأكثر الفلاسفة: إلى أنّه في الدّماغ؛ لأنه إذا فسد فسد العقل. وأجيب: بأنّ الله أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ؛ مع أنّه ليس فيه! ولا امتناع في هذا. انتهى من شرح الزرقاني على «المواهب» . (وأفضلهم رأيا) ؛ أي: تدبيرا ناشئا من العقل الكامل الذي ينظر في بدء الأمر ودبره، وأوّله وآخره. وقد كان صلّى الله عليه وسلم من كمال العقل في الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها: أنّ الله تعالى لم يعط جميع النّاس من بدء الدّنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلّى الله عليه وسلّم إلّا كحبّة رمل من بين رمال الدّنيا) . كانت معارفه عظيمة، وخصائصه جسيمة؛ حارت العقول في بعض فيض ما أفاضه من غيبه لديه، وكلّت الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك؛ وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرّم ما وهبه الله من أسرار إلهيته، ومعرفة ربوبيّته، وتحقّق عبوديته!!. قاله الزرقاني على «المواهب» . وهذا الذي قاله وهب «من أنّه صلّى الله عليه وسلم منوّه بذكره في الكتب القديمة» يعضده قوله تعالى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [157/ الأعراف] . (وفي رواية أخرى) ؛ عن وهب أيضا: (فوجدت في جميعها) ؛ أي: في جميع الكتب التي قرأها (أنّ الله تعالى لم يعط جميع النّاس من بدء الدّنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلّى الله عليه وسلم إلّا كحبّة رمل من بين رمال الدّنيا) . رواه أبو نعيم في «الحلية» ، وابن عساكر. يعني: أنّ عقله صلّى الله عليه وسلم كجميع رمال الدنيا، وعقل جميع الناس كحبّة منها. وهذا على طريق التمثيل؛ لأن عقولهم لا تقاس بعقله صلّى الله عليه وسلم، كما ضرب الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام مثلا بماء في منقار عصفور من ماء البحر بالنسبة لسائره؛ فشبّه به علم الله تعالى وعلم ما عداه. وقد أورد على كونه أفضل الناس رأيا: أنّه ورد ما يخالفه في كثير من الوقائع الثابتة في الحديث، ورجوعه عن رأيه إلى رأي غيره؛ كما في قصة بدر ورجوعه إلى رأي الحباب بن المنذر؛ حيث نزل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بأدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب: أهذا منزل أنزلكه الله؛ فلا تتقدّم ولا تتأخّر عنه، أو هو الرأي والمكيدة؟! فقال: «بل هو الرّأي والمكيدة» ، فقال: ليس هذا بمنزل؛ بل الرأي أن نسير حتى نأتي أدنى ماء من مياه بدر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 ......... فننزل، ثمّ نغوّر ما وراءه، ونبني عليه حوضا ونملؤه، ثم نقاتل؛ ونشرب ولا يشربون. فقال: «أشرت بالرّأي» ورجع صلّى الله عليه وسلم لما قاله؛ وكذا في قصة أسارى بدر والفداء، وكذا في قصة تأبير النخل، ونحوه مما لا حاجة للتطويل بذكره هنا! وأجاب التجاني: بأنّ رجحان رأيه على من سواه مخصوص بما أمضاه من سنن الشرع؛ واجتهاداته في أمور الدين، فلا ينافي رجوعه في آراء الدنيا لغيره؛ كما صرّح به في قصة التأبير، إذ قال: «إنّما أنا بشر مثلكم؛ فإذا أمرتكم بشيء من دينكم؛ فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر أخطىء وأصيب» وهذا نصّ فيما ذكر. وردّ بأنّ مختار أهل الأصول: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان متعبّدا فيما لا وحي فيه بانتظار الوحي، ثم بالاجتهاد بعد وقت الانتظار. وقيل: له الاجتهاد مطلقا في الأمور الشرعية والدنيوية. وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي، وهو المنقول عن أبي يوسف وغيره. واختلف في جواز خطئه في اجتهاده؛ فذهب الإمام الرازيّ وغيره إلى أنّه لا يجوز. وفي «التوضيح» : يجوز؛ لكن لا يقرّر عليه. وعدم الإقرار بالإجماع؛ لوجوب اتّباعه المقتضي لعصمته، وجواز الخطأ عقلا لا مانع منه؛ بمقتضى البشرية. وقوّة عقله صلّى الله عليه وسلم وكمال حدسه وسداد رأيه لا ينافيه؛ لأنه من لوازم الطبيعة البشرية، وإذا جاز سهوه في صلاته ومناجاته؛ ففي غيرها بالأولى! فقول التجاني «إنّ جميع أموره الدينية صواب» خلاف المختار عند علماء الأصول. وحينئذ فمعنى كونه أفضل الناس رأيا واجتهادا مع جواز الخطأ أحيانا: أنّ رأيه لو خلّي ونفسه؛ أصاب، مع رجحان رأيه بعدم التقرير عليه إذا خالف الأولى. وآراؤه صلّى الله عليه وسلم كلّها صواب بعد التقرير عليها، وقبله لا. إلا على قول من يقول: «كل مجتهد مصيب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وذكر القسطلّانيّ في «المواهب» ، عن «عوارف المعارف» : (اللّبّ والعقل مئة جزء؛ تسعة وتسعون في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وجزء في سائر المؤمنين. قال: ومن تأمّل حسن تدبيره للعرب الّذين ... والحاصل: أنّ كون رأيه أفضل الآراء لا ينافي رجوعه لغيره ومشاورته له، فإنّ العبرة بما وقع عليه القرار؛ لا ببادىء الرأي! فافهم! انتهى. قاله جميعه الشهاب الخفاجيّ في كتابه «نسيم الرياض» شرح «الشفاء» للقاضي عياض رحمهم الله تعالى أجمعين. آمين. (وذكر) الشهاب (القسطلّانيّ) رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «المواهب) اللّدنّيّة» ؛ نقلا (عن) كتاب ( «عوارف المعارف» ) للعلّامة العارف بالله تعالى عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السّهرورديّ- بضمّ السين المهملة، وسكون الهاء، وضمّ الراء، وفتح الواو، وسكون الراء الثانية، ودال مهملة- نسبة إلى «سهرورد» : بلد عند «زنجان» ، الإمام الورع الزاهد الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى. ولد سنة: - 539- تسع وثلاثين وخمسمائة، وأخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف، ثم لازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلّم على الناس لمّا أسنّ، ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثير من العصاة، وكفّ وأقعد؛ وما أخلّ بذكر ولا حضور جمع! ولازم الحج؛ فكانت محفّته تحمل على الأعناق من العراق إلى البيت الحرام. ومات ببغداد مستهلّ محرّم الحرام سنة: - 632- اثنتين وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى: (اللّبّ والعقل مائة جزء؛ تسعة وتسعون في النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين) من أمّته وغيرهم. (قال) - أي: صاحب «العوارف» - (: ومن تأمّل حسن تدبيره للعرب الّذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 هم كالوحش الشّارد، مع الطّبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحبّاءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلّم منها سير الماضين.. تحقّق له أنّه أعقل العالمين. ولمّا كان عقله عليه الصّلاة والسّلام أوسع العقول.. لا جرم اتّسعت أخلاق نفسه الكريمة اتّساعا، لا يضيق عن شيء) . هم كالوحش الشّارد) النافر النادّ (مع الطّبع المتنافر المتباعد، و) تأمّل (كيف ساسهم) : ملكهم بحسن تصرّفه فيهم واستجلاب قلوبهم، (واحتمل جفاهم) : غلظتهم وفظاظتهم، (وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم) - جمع وطن: مكانهم ومقرّهم- (وأحبّاءهم؛ من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب؛ يتعلّم منها سير الماضين: تحقّق له أنّه أعقل العالمين) ؛ جواب قوله: «ومن تأمّل ... الخ» . (ولمّا كان عقله عليه [الصّلاة] والسّلام أوسع العقول؛ لا جرم) - أي: حقّا، و «لا جرم» في الأصل بمعنى: لا بدّ ولا محالة، ثم كثرت فحوّلت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقّا؛ ولذا تجاب باللام، نحو: لا جرم لأفعلنّ كذا؛ قاله الفرّاء. كما في «المصباح» -. (اتّسعت أخلاق نفسه الكريمة اتّساعا لا يضيق عن شيء) ؛ إذ كان مجبولا على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكيّة النقيّة، ولم يحصل له ذلك برياضة؛ بل بجود إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية القصوى، والمقام الأسنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلقه القرآن. قال الإمام الغزاليّ ... وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمال العقل، لأنّ به تقتبس الفضائل، وتجتنب الرذائل، فإنّ العقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. قال بعضهم: لكلّ شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر على المكاره. وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» ، ومسلم في «صحيحه» ، وأبو داود في «سننه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلقه القرآن) ؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه. قال ابن الأثير: أي كان متمسّكا بادابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن. وقال البيضاوي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن، فإنّ كلّ ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه قد تحلّى به، وكلّ ما استهجنه ونهى عنه تجنّبه وتخلّى عنه، فكان القرآن بيان خلقه. وفي «الديباج» : معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدّب بادابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبّره وحسن تلاوته. انتهى. وهي متقاربة. انتهى «مناوي» . (قال) حجّة الإسلام (الإمام) أبو حامد: محمد بن محمد بن محمد (الغزاليّ) - بتخفيف اللام في المشهور- ولد سنة: - 450- خمسين وأربعمائة. واشتغل في مبدأ أمره ب «طوس» ، ثمّ قدم «نيسابور» ، واختلف إلى دروس إمام الحرمين، وجدّ في الاشتغال حتى تخرّج في مدة قريبة، وصار من الأعيان في زمن أستاذه، وكان أستاذه يتبجّح به، ولم يزل ملازما له إلى أن توفي، فخرج من «نيسابور» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 في «الإحياء» : (قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، فسألتها عن أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما تقرأ القرآن؟! قلت: بلى. قالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن. ولقي الوزير نظام الملك، فأكرمه وعظّمه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل؛ فجرى بينه وبينهم الجدال والمناظرة فظهر عليهم، واشتهر اسمه، وفوّض إليه تدريس النظامية، وأعجب به أهل العراق، وارتفعت عندهم منزلته. ثم ترك جميع ما كان عليه، وتصوّف وسلك طريق الزهد والانقطاع، واجتهد في العبادة، وزيارة المشاهد المعظّمة، ووزّع أوقاته على وظائف الخير؛ من ختم القرآن، ومجالسة أهل القلوب، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى، فتوفي سنة: - 505- خمس وخمسائة هجرية رحمه الله تعالى. (في) كتابه ( «الإحياء» ) ؛ أي: «إحياء علوم الدين» : (قال سعد بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني؛ ابن عمّ أنس بن مالك. روى عن أبيه، وعائشة، وعنه: زرارة بن أوفى، والحسن، وجميل بن همال. قال النسائي: ثقة. وذكر البخاري أنّه قتل بأرض «بكران» على أحسن أحواله. روى له البخاريّ حديثا واحدا: (دخلت على عائشة) ؛ الصّدّيقة بنت الصّدّيق (رضي الله تعالى عنها وعن أبيها) أبي بكر، (فسألتها عن أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقالت: أما تقرأ القرآن؟! قلت: بلى) أقرأ القرآن، (قالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن) ؛ أي: ما دلّ عليه القرآن؛ من أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده. قال العارف السّهروردي في «عوارف المعارف» : ولا يبعد أنّ قول عائشة «كان خلقه القرآن» فيه رمز غامض، وإيماء إلى الأخلاق الرّبّانيّة؛ فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول «كان متخلّقا بأخلاق الله» ؛ فعبّرت عن هذا المعنى بقولها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وإنّما أدّبه القرآن بمثل قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] . «كان خلقه القرآن» ؛ استحياء من سبحات الجلال، وسترا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها. انتهى. فكما أنّ معاني القرآن لا تتناهى؛ فكذلك أوصافه الجميلة الدّالّة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كلّ حالة من أحواله يتجدّد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى!! فإذن: التعرّض لحصر جزئيّات أخلاقه الحميدة تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته. انتهى؛ من «المواهب» . وقال في «الإحياء» : (وإنّما أدّبه القرآن بمثل قوله تعالى) في سورة الأعراف (خُذِ الْعَفْوَ) من أخلاق الناس وأعمالهم؛ من غير تجسّس، وذلك مثل قبول الاعتذار منهم، وترك البحث عن الأشياء. والعفو: المساهلة في كلّ شيء (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف؛ يعني: وأمر بكلّ ما أمرك الله به، وهو كلّ ما عرفته بالوحي من الله عزّ وجلّ، وكل ما يعرف في الشرع حسنه، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)) . وقد نظم هذا المعنى من قال: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لكلّ الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين والجاهلون في الآية!! إن فسّروا بضعفاء الإسلام وجفاة الأعراب؛ كانت الآية محكمة، لأنّ المراد بالإعراض عنهم ألايعنّفهم، ولا يقابلهم بمقتضى غلظتهم في القول والفعل. وإن فسّروا بالكفار؟ كانت الآية منسوخة باية السيف، ويكون المراد بالإعراض عنهم تركهم على ما هم عليه. وقد أشار القرطبي للقولين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ... ويؤيد القول الأول: ما رواه البخاري من أنّ عيينة بن حصن استأذن له الحرّ بن قيس على عمر بن الخطاب في الدخول، فدخل عليه، وقال له: يا ابن الخطاب؛ ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله عز وجل قال لنبيه ص خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف] وإنّ هذا من الجاهلين. فما جاوزها عمر رضي الله تعالى عنه؛ وكان وقّافا عند كتاب الله تعالى. فهذا يدلّ على أنّها غير منسوخة، وهو الذي يتبادر إليه كلام صاحب «الجلالين» . قال جعفر الصادق: ليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية؛ روي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها؟! فقال له: حتى أسأل العالم بها، ثم ذهب وأتاه، فقال: يا محمد؛ إنّ الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك. قال السيوطي: رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ؛ في «تفاسيرهم» ، وابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» ، ووصله ابن مردويه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وعزاه الشيخ قاسم الحنفي للبخاري؛ عن عبد الله بن الزبير في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) أنّه قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وله في رواية أخرى تعليقا؛ عن عبد الله قال: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس، أو من أخلاق الناس. انتهى؛ قاله الخفاجي. (و) أدّبه القرآن بمثل (قوله) تعالى في سورة النحل (. إِنَّ اللَّهَ) - أي: فيما أنزله تبيانا لكل شيء وهدى وبشرى- (يَأْمُرُ) - آثر صيغة الاستقبال فيه وفي ما بعده لإفادة التجدّد والاستمرار- (بِالْعَدْلِ) ؛ أي: التوحيد، أو الإنصاف. وفي «البيضاوي» : أي بالتوسّط في الأمور؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] . اعتقادا؛ كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملا؛ كالتعبّد بأداء الواجبات المتوسّط بين البطالة والترهّب، وخلقا؛ كالجود المتوسّط بين البخل والتبذير. انتهى. (وَالْإِحْسانِ) قال ابن عباس: العدل: شهادة ألاإله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض. وفي رواية عنه؛ قال: العدل: خلع الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنّك تراه، وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك؛ إن كان مؤمنا تحبّ أن يزداد إيمانا، وإن كان كافرا تحبّ أن يكون أخاك في الإسلام. انتهى. (وَإِيتاءِ) : إعطاء (ذِي الْقُرْبى) القرابة، خصّه بالذكر! اهتماما به؛ فإن إيتاءه صدقة وصلة، وفي الحديث: «إنّ أعجل الطّاعة ثوابا صلة الرّحم» . قال في «الخازن» : يعني ويأمر بصلة الرحم؛ وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك، فيستحبّ أن تصلهم من فضل ما رزقك الله تعالى، فإن لم يكن لك فضل! فدعاء حسن، وتودّد. انتهى. (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) : الزنا (وَالْمُنْكَرِ) ؛ شرعا من الكفر والمعاصي، (وَالْبَغْيِ) : الظلم، خصّه بالذكر للناس!! اهتماما، كما بدأ بالفحشاء كذلك، ولم يذكر متعلّقات العدل والإحسان والبغي!! ليعمّ جميع ما يعدل فيه ويحسن به وإليه، ويبغى فيه؛ قاله الجمل. قال بعضهم: إنّ أعجل المعاصي البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدكّ الباغي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وقوله: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] . وقال بعضهم: إنّ الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء؛ فذكر العدل؛ وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء؛ وهي ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان؛ وهو أن تعفو عمّن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك، وذكر في مقابلته المنكر؛ وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وذكر إيتاء ذي القربى؛ والمراد به: صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم، وذكر في مقابلته البغي؛ وهو أن يتكبّر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. انتهى من «الخازن» . قال النسفي: وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون؛ فإنّه قال: ما كنت أسلمت إلا حياء منه عليه الصلاة والسلام لكثرة ما يعرض عليّ الإسلام، ولم يستقرّ الإيمان في قلبي حتى نزلت هذه الآية؛ وأنا عنده، فاستقرّ الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة، فقال: والله؛ إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. وقال أبو جهل: إنّ إلهه ليأمر بمكارم الأخلاق. وقال ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر. ولهذا يقرؤها كلّ خطيب على المنبر في آخر كل خطبة؛ لتكون عظة جامعة لكلّ مأمور؛ ولكل منهيّ. انتهى. (و) أدّبه القرآن بمثل (قوله) تعالى في سورة لقمان (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) ؛ أي على الذي أصابك أي: في عبادتك وغيرها؛ من الأمر بالمعروف وغيره، سواء كان بواسطة العباد؛ كأذيّتهم، أو لا؛ كالمرض. انتهى «خطيب» . (إِنَّ ذلِكَ) المذكور (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ؛ أي: مما عزمه الله من الأمور، أي قطعه قطع إيجاب؛ مصدر أطلق للمفعول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] . وقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ... قال الخازن: يعني: إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى؛ من الأمور الواجبة التي أمر الله بها. وهذه الآية من وصية لقمان لابنه؛ إذ قال له: يا بني؛ أقم الصلاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر. كما قصّه الله تعالى في كتابه الكريم. وكلّ ما قصّه الله تعالى من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو إرشاد لنبينا صلّى الله عليه وسلم ولأمّته، فكأنّه مما أمر به ابتداء؛ فلا تتوهّم أنها ليست في حقّه. (و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة الشورى (وَلَمَنْ صَبَرَ) فلم ينتصر، (وَغَفَرَ) : تجاوز (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والغفران منه (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ؛ أي: معزوماتها؛ بمعنى: المطلوبات شرعا، أي: من الأمور التي ندب إليها، أو مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وفي القرطبي: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ أي: صبر على الأذى، وغفر: ترك الانتصار لوجه الله؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم. ويحكى أنّ رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن رحمه الله تعالى، فكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله وفهمها؛ إذ ضيّعها الجاهلون!! وبالجملة فالعفو مندوب إليه، ثمّ قد ينعكس في بعض الأحوال؛ فيرجع ترك العفو مندوبا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كفّ زيادة البغي وقطع مادّة الأذى. وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ما يدلّ عليه؛ وهو أنّ زينب أسمعت عائشة رضي الله تعالى عنها بحضرته، فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة: «دونك فانتصري» . خرّجه مسلم في «صحيحه» بمعناه، انتهى. (و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة المائدة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] . [وقوله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) [النور] . أي: فاعف عن زلّاتهم يا محمد، واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم. وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ باية السيف؛ وهي قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [29/ التوبة] . قاله قتادة. وقيل: إنها غير منسوخة؛ بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عهد؛ فغدروا ونقضوا ذلك العهد، فأظهر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلم على ذلك، وأنزل هذه الآية؛ ولم تنسخ! وذلك أنّه يجوز أن يعفو عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا؛ وما لم يمتنعوا من أداء الجزية والصّغار. وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الآية: فاعف عن مؤمنيهم، أو عمّن تاب منهم، ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ؛ يعني: إذا عفوت عنهم فإنّك تحسن إليهم؛ والله يحب المحسنين. (و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة النور (وَلْيَعْفُوا) ؛ أي: أولو الفضل، (وَلْيَصْفَحُوا) عن الخائضين في الإفك؛ أي: ليعرضوا عن لومهم، فإنّ العفو أن يتجاوز عن الجاني، والصفح أن يتناسى جرمه. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم!! (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ مع كمال قدرته، فتخلّقوا بأخلاقه. نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين حلف ألاينفق على مسطح ابن خالته؛ لخوضه في الإفك على عائشة رضي الله تعالى عنها، وكان مسكينا بدريا مهاجرا، ولما قرأها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على أبي بكر؛ قال: بلى أحبّ أن يغفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وقوله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) [فصلت] . الله لي، وردّ إلى مسطح ما كان ينفقه عليه. وفي الآية أدلّة على فضل أبي بكر الصّدّيق، لأنّ الفضل المذكور في الآية ذكره تعالى في معرض المدح، وذكره بلفظ الجمع في قوله أُولُوا الْفَضْلِ، وقوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ. وهذا يدلّ على علوّ شأنه ومرتبته؛ منها: أنّه احتمل الأذى من ذوي القربى، ورجّع عليه ما كان ينفقه عليه، وهذا من أشدّ الجهاد؛ لأنّه جهاد النّفس. ومنها: أنّه تعالى قال في حقّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، وقال في حقّ أبي بكر: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فدلّ أنّ أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في جميع الأخلاق؛ قاله الخازن. وهذه الآية وإن نزلت في أبي بكر؛ فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم داخل في عمومها؛ كما في سائر الخطابات، فلا يرد على المصنّف أنّ هذه الآية ليست في حقه صلّى الله عليه وسلم! (و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة فصّلت: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ) السيئة (بِالَّتِي) أي: بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) ؛ كالغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإساءة بالعفو؛ قاله في «الجلالين» . وقال النسفي: يعني أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما؛ فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان، فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك؛ كما لو أساء إليك رجل إساءة؛ فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، ومثل أن يذمّك؛ فتمدحه، أو يقتل ولدك؛ فتفتدي ولده من يد عدوّه. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ؛ أي: فيصير عدوّك كالصديق القريب في محبّته إذا فعلت ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وقوله وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ... (و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة آل عمران (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) ؛ كظم الغيظ: هو أن يمتلىء غيظا فيردّه في جوفه؛ ولا يظهره بقول ولا فعل، ويصبر عليه ويسكت عنه. ومعنى الآية: أنّهم يكفّون غيظهم عن الإمضاء مع القدرة، ويردّون غيظهم في أجوافهم. وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم. عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني؛ عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا؛ وهو يستطيع أن ينفذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتّى يخيّره في أيّ الحور شاء» . أخرجه الترمذيّ، وأبو داود. وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما: «من كظم غيظا؛ وهو يقدر على إنفاذه؛ ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» . وأخرج الشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس الشّديد بالصّرعة؛ إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» . وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ خادما لها غاظها، فقالت: لله درّ التقوى؛ ما تركت لذي غيظ شفاء!!. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ممّن ظلمهم؛ أي: التاركين عقوبتهم. يعني: إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه، فتكون الآية على العموم. روي أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الّذين كانت أجورهم على الله؟! فلا يقوم إلّا من عفا» . وعن ابن عيينة أنّه رواه للرّشيد وقد غضب على رجل؛ فخلّاه. وروي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ هؤلاء في أمّتي قليل؛ إلّا من عصم الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» . وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون منقطعا؛ وهو ظاهر، وأن يكون متّصلا؛ لما في القلّة من معنى العدم؛ كأنّه قيل: إنّ هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلّا من عصم الله؛ فإنه يوجد في أمّتي. قاله الجمل على «الجلالين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ] «1» [آل عمران] . وقوله: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) بهذه الأفعال؛ أي: يثيبهم. (و) أدّبه القرآن بمثل (قوله) تعالى في سورة الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) . قيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين؛ يخدمهما ويتقدّمهما إلى المنزل؛ فيهيّىء لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب، فضمّ سلمان إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان إلى المنزل؛ فغلبته عيناه، فنام؛ ولم يهيّىء لهما شيئا، فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئا؟! قال: لا؛ غلبتني عيناي، قالا له: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاما؛ فجاء سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسأل طعاما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: انطلق إلى أسامة بن زيد؛ وقل له: «إن كان عنده فضل طعام وإدام فليعطك» . وكان أسامة خازن طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى رحله، فأتاه، فقال: ما عندي شيء. فرجع سلمان إليهما فأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة؛ ولكن بخل! فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة؛ فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع؛ قالوا: لو بعثناك إلى بئر سمحة لغار ماؤها!! ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما جاآ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما!؟» . قالا: والله يا رسول الله؛ ما تناولنا يومنا هذا لحما! قال: «ظلمتما بأكل لحم سلمان وأسامة!!» فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يعني: أن يظن بأهل الخير سوآ؛ فنهى الله المؤمن أن يظنّ بأخيه المؤمن شرّا. وقيل: هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاما لا يريد به سوآ، أو يدخل مدخلا لا يريد به سوآ؛   (1) الشواهد الثلاث التي مضت من إضافة الشارح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 ......... فيراه أخوه المسلم؛ فيظنّ به سوآ، لأنّ بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحا؛ وفي نفس الأمر لا يكون كذلك!! لجواز أن يكون فاعله ساهيا؛ ويكون الرّائي مخطئا!!. فأمّا أهل السوء والفسق المتجاهرون بذلك! فلنا أن نظنّ فيهم مثل الذي يظهر منهم. انتهى «خازن» . وفي القرطبي: قال علماؤنا: الظنّ في الآية هو التّهمة، ومحلّ التحذير والنهي إنّما هو تهمة لا سبب لها يوجبها؛ كمن يتّهم بالفاحشة، أو بشرب الخمر؛ ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظنّ هنا بمعنى التهمة: قوله بعد هذا وَلا تَجَسَّسُوا؛ وذلك أنّه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء؛ فيريد أن يتجسّس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصّر ويتسمّع، ليتحقّق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. وإن شئت قلت: والذي يميّز الظّنون التي يجب اجتنابها عمّا سواها: أنّ كلّ ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر؛ كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممّن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد به والخيانة محرّم، بخلاف من أشهره الناس بتعاطي الريبة والتجاهر بالخبائث!! وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «حرم من المسلم دمه، وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السّوء» . وعن الحسن: كنّا في زمن: الظنّ فيه بالنّاس حرام، وأنت اليوم: اعمل، واسكت، وظنّ بالناس ما شئت. انتهى. وإبهام «الكثير» لإيجاب الاحتياط والتأمّل في كلّ ظنّ؛ حتى يعلم أنّه من أيّ قبيل!؟ فإنّ من الظّنّ ما يجب اتّباعه؛ كالظنّ فيما لا قاطع فيه من العمليّات، وحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 إنّ بعض الظّنّ إثم ولا تجسّسوا ... الظنّ بالله تعالى. ومنه ما يحرم؛ كالظنّ في الإلهيّات والنبوّات، وحيث يخالفه قاطع، وظنّ السوء بالمؤمنين. ومنه ما يباح؛ كالظن في الأمور المعاشية. انتهى «أبو السعود» . (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ؛ أي: مؤثم، وهو كثير، كظنّ السوء بأهل الخير من المؤمنين؛ وهم كثير، بخلافه بالفسّاق منهم! فلا إثم فيه في نحو ما يظهر منهم، كما تقدّم. قال سفيان الثّوريّ: الظنّ ظنّان: أحدهما: إثم؛ وهو أن يظنّ ويتكلّم به، والآخر: ليس بإثم؛ وهو أن يظنّ ولا يتكلم به. وقيل: الظنّ أنواع؛ فمنه واجب، ومأمور به؛ وهو الظنّ الحسن بالله عزّ وجلّ، ومنه مندوب إليه؛ وهو الظنّ الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة، ومنه حرام محظور؛ وهو سوء الظنّ بالله عزّ وجل، وسوء الظن بالأخ المسلم. انتهى «خازن» . (وَلا تَجَسَّسُوا) - حذف منه إحدى التائين-: لا تتبّعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها. وفي «القرطبي» : معنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبّعوا عورات المسلمين؛ أي: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه؛ حتى يطّلع عليه؛ بعد أن ستره الله. وفي «كتاب أبي داود» عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّك إن اتّبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» . فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنفعه الله بها. وعن المقدام بن معد يكرب؛ عن أبي أمامة؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم» . انتهى. وفي «الخازن» : أخرج الشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات: 12] ) . رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والظّنّ!! فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا؛ كما أمركم، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التّقوى ها هنا! التّقوى ها هنا! التّقوى ها هنا! - ويشير إلى صدره-. بحسب امرىء من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وعرضه، وماله. إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر؛ فنادى بصوت رفيع: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيّروهم، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبّع عورة أخيه المسلم تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه؛ ولو في جوف رحله» . قال نافع: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة؛ فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك!! أخرجه الترمذي؛ وقال: حديث حسن غريب. وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا!!. فقال عبد الله: إنّا قد نهينا عن التجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. أخرجه أبو داود. وله؛ عن عقبة بن عامر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة» . وأخرج مسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستره الله يوم القيامة» . انتهى. (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ؛ لا يذكره بشيء يكرهه؛ وإن كان فيه!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ......... وعن ابن عبّاس: الغيبة إدام كلام الناس. وفي «القرطبي» : نهى عزّ وجلّ عن الغيبة؛ وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه! فهو البهتان، ثبت معناه في «صحيح مسلم» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟!» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» ، قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول!؟ فقال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته! وإن لم يكن فيه!! فقد بهتّه» . يقال: اغتابه اغتيابا: إذا وقع فيه. والاسم: «الغيبة» ؛ وهي: ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلّها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان؛ فأمّا الغيبة! فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأمّا الإفك! فهو أن تقول فيه ما بلغك عنه. وأمّا البهتان! فهو أن تقول فيه ما ليس فيه. ولا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأنّ على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله عزّ وجلّ. وهل يستحلّ المغتاب!؟ فيه خلاف؛ فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجّت بأنّه لم يأخذ من ماله، ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك مظلمة يستحلّها منه، وإنّما المظلمة: ما يكون في المال والبدن. وقالت فرقة: هي مظلمة؛ وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وأمثال هذه التّأديبات في القرآن لا تنحصر. وهو صلّى الله عليه وسلّم المقصود الأوّل بالتّأديب والتّهذيب، ثمّ منه يشرق النّور على كافّة الخلق؛ فإنّه أدّب بالقرآن فتأدّب به، واحتجّت بحديث يروى عن الحسن قال: «كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته» . وقالت فرقة: هي مظلمة؛ وعليه الاستحلال منها. واحتجّت بقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال؛ فليتحلّله منها من قبل أن يأتي يوم ليس فيه هناك دينار ولا درهم، يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات! أخذ من سيّئات صاحبه فزيد على سيّئاته» . أخرجه البخاري؛ من حديث أبي هريرة. وغير ذلك من الأحاديث. وليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المتجاهر!! فإنّ في الخبر: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره النّاس» . فالغيبة إذن في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنّه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة؛ 1- صاحب الهوى، و 2- الفاسق المعلن، و 3- والإمام الجائر. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى. (وأمثال هذه التّأديبات في القرآن) - وهي كثيرة- (لا تنحصر، وهو صلّى الله عليه وسلم المقصود الأوّل بالتّأديب والتّهذيب) في هذه الآيات وأمثالها، (ثمّ منه يشرق النّور) ؛ أي: نور العلم والأخلاق والهداية والإيمان (على كافّة الخلق) ؛ إذ جميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه صلّى الله عليه وسلم، واقتبس الناس منها كلّ على قدر حظّه ونصيبه الذي قسم له من الوهّاب، (فإنّه) صلى الله عليه وسلم (أدّب بالقرآن) - بالبناء للمفعول-، أي: أدّبه الله بالقرآن أي: بما دلّ عليه القرآن (فتأدّب به) . في «أدب الإملاء» لابن السمعاني من حديث ابن مسعود رفعه: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، ثمّ أمرني بمكارم الأخلاق؛ فقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وأدّب الخلق به؛ ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» . ثمّ لمّا أكمل الله تعالى خلقه.. أثنى عليه فقال ... وأخرج القشيري نحوه في «التحبير» ؛ قاله في شرح «الإحياء» . (وأدّب الخلق به. ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» ) . قال ابن عبد البرّ: يدخل فيه الصلاح والخير كلّه والدين والفضل، والمروءة والإحسان والعدل، فبعث ليتمّمه. وقال الباجيّ: كانت العرب أحسن الناس أخلاقا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلّوا بالكفر عن كثير منها؛ فبعث صلّى الله عليه وسلم ليتمّم محاسن الأخلاق؛ ببيان ما ضلّوا عنه، وبما قضى به في شرعه. انتهى. والحديث المذكور! قال العراقي: رواه الإمام أحمد، والحاكم، والبيهقيّ؛ من حديث أبي هريرة. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ورواه مالك في «الموطأ» ؛ بلاغا عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بلفظ: «إنّما بعثت» . وقال ابن عبد البرّ: هو متصل من وجوه صحاح؛ عن أبي هريرة مرفوعا؛ منها ما أخرجه أحمد في «مسنده» ، والخرائطي في أوّل «مكارم الأخلاق» ؛ من طريق محمد بن عجلان؛ عن القعقاع بن حكيم؛ عن أبي صالح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ: «صالح الأخلاق» ورجاله رجال الصحيح. وللطبراني في «الأوسط» بسند ضعيف؛ عن جابر مرفوعا بلفظ: «إنّ الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال» . (ثمّ لمّا أكمل الله تعالى خلقه) - بضمّ أوّليه-؛ أي: بما جمع فيه من صفات الكمال مما لا يحيط به حدّ، ولا يحصره عدّ (أثنى عليه) في كتابه الكريم؛ (فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . تعالى) مقسما ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ؛ لاجتماع مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال فيك. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته؛ إلا قال: «لبّيك» . فلذلك أنزل الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. رواه ابن مردويه، وأبو نعيم بسند واه. وكلمة «على» للاستعلاء؛ فدلّ اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق، ومستول عليها؛ بمعنى أنّه متمكّن من الجري على مقتضاها؛ ببذل المعروف، واحتمال الأذى، وعدم الانتقام، فأشبه في تمكّنه من ذلك: المستعلي على الشيء المستقرّ عليه؛ فهو استعارة تبعيّة لجريانها في الحرف. قال الحليمي: إنّما وصف خلقه بالعظم؛ مع أنّ الغالب وصف الخلق بالكرم! لأنّ كرم الخلق يراد به السماحة والدّماثة؛ ولم يكن خلقه صلّى الله عليه وسلم مقصورا على ذلك؛ بل كان رحيما بالمؤمنين؛ رفيقا بهم، شديدا على الكفّار؛ غليظا عليهم، مهيبا في صدور الأعداء؛ منصورا بالرّعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصفه بالعظم أولى؛ ليشمل الإنعام والانتقام. وقال الجنيد: وإنّما كان خلقه صلّى الله عليه وسلم عظيما!! لأنّه لم يكن له همّة سوى الله تعالى، وقد وصف الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلم بكمال عظيم يرجع إلى قوّته العلمية فقال وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) [النساء] ، ووصفه بكمال عظيم يرجع إلى قوّته العمليّة؛ فقال وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فدلّ مجموع هاتين الآيتين على أنّ روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة؛ كأنّها لقوّتها وشدّة كمالها من جنس أرواح الملائكة؛ إذ أعطاهم الله تعالى قوّة في العمل لا تصل إليها البشر، وفي العلم ما يصلون به إلى معرفة حقائق الأمور من اللوح المحفوظ، أو الإلهام والعلم الضروري بمعرفة الأمور على ما هي به في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ثمّ قال الغزاليّ: (وعن معاذ بن جبل، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال» . ومن ذلك: حسن المعاشرة، ذلك: حسن المعاشرة، ... الواقع، وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم. (ثمّ قال) الإمام أبو حامد (الغزاليّ) في كتاب «إحياء علوم الدين» : (وعن) أبي عبد الرحمن (معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس بن عائذ- بالمعجمة- ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي الجشمي المدني، الفقيه الفاضل الصالح. أسلم معاذ المذكور؛ وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، ثم شهد بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة حديث وسبعة وخمسون حديثا؛ اتّفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث. روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاصي، وأبو قتادة، وجابر، وأنس، وأبو أمامة، وأبو ثعلبة، وعبد الرحمن بن سمرة، وآخرون من الصحابة والتابعين. وتوفي شهيدا في طاعون عمواس سنة: ثماني عشرة؛ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقيل: أربع وثلاثين. وقيل: ثمان وثلاثين. رضي الله تعالى عنه (عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ قال: «إنّ الله حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال» ومن ذلك) ؛ أي: محاسن الأعمال: (حسن المعاشرة) مع الناس إذا خالطهم؛ ولم يكن بدّ من مخالطتهم. وكلّ مخالط ففي مخالطته أدب، والأدب على قدر حقّه، وحقّه على قدر رابطته التي بها وقعت المخالطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وكرم الصّنيعة، ... والرابطة: 1- إما القرابة؛ وهي أخصّها. أو 2- أخوّة الإسلام؛ وهي أعمّها. وينطوي في معنى الأخوّة الصداقة، والصحبة. وإمّا 3- الجوار. وإمّا 4- صحبة السفر والمكتب والدرس. ولكلّ واحد من هذه الروابط درجات؛ فالقرابة لها حقّ؛ ولكن حقّ الرّحم المحرم آكد، وللمحرم حقّ؛ ولكن حقّ الوالدين آكد. وكذلك حقّ الجار؛ ولكن يختلف بحسب قربه من الدار وبعده، ويظهر التفاوت عند النسبة، حتى أنّ البلديّ في بلاد الغربة يجري مجرى القريب في الوطن؛ لاختصاصه بحق الجوار في البلد. وكذلك حقّ المسلم يتأكّد بتأكّد المعرفة. وللمعارف درجات، فليس حقّ الذي عرف بالمشاهدة كحق الذي عرف بالسماع، بل آكد منه! والمعرفة بعد وقوعها تتأكّد بالاختلاط. وكذلك الصحبة تتفاوت درجاتها؛ فحقّ الصحبة في الدرس والمكتب آكد من حقّ صحبة السفر. وكذلك الصداقة تتفاوت، فإنّها إذا قويت! صارت أخوّة؛ فإن ازدادت! صارت محبّة. وتفاوت درجات الصداقة لا تخفى بحكم المشاهدة والتجربة. وكلّ ذلك مفصّل في كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي شكر الله مسعاه، وجعل الجنّة متقلّبه ومثواه. آمين. فينبغي أن يخالق الجميع بخلق حسن، ويعامل كلّا منهم بحسب طريقته؛ فإنّه إن أراد لقاء الجاهل بالعلم، والأميّ بالفقه، والعييّ بالبيان؛ آذى غيره وتأذّى بنفسه. (و) من محاسن الأعمال: (كرم الصّنيعة) ؛ أي: حسنها. قال في «المصباح» : الصنيعة: ما اصطنعته من خير. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ولين الجانب، وبذل المعروف، وإطعام الطّعام، وإفشاء السّلام، ... وفي «القاموس مع الشرح» : والصنيع: الإحسان والمعروف، واليد يرمي بها إلى كل إنسان. وقيل: هو كلّ ما اصطنع من خير؛ كالصنيعة. انتهى. (ولين الجانب) ؛ هو كناية عن التواضع. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا؛ حتّى لا يفخر أحد على أحد» . قال العراقيّ: رواه أبو داود، وابن ماجه؛ واللفظ له؛ من حديث عياض بن حمار، ورجاله رجال الصحيح. (وبذل المعروف) ؛ هو اسم عامّ جامع للخير كلّه، وبذله: إعطاؤه. وقيل: المراد به القرض. عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اصنع المعروف إلى من هو أهله؛ وإلى غير أهله، فإن أصبت أهله! أصبت أهله، وإن لم تصب أهله!؟ كنت أنت أهله» . ذكره الدارقطني في «العلل» ؛ وهو ضعيف. ورواه ابن النجار في «تاريخه» ، ورواه الخطيب؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. وأخرج البيهقيّ من طريق علي بن موسى الرضا؛ عن آبائه؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «رأس العقل بعد الدّين: التّودّد إلى النّاس، واصطناع المعروف إلى كلّ برّ وفاجر» . (و) من محاسن الأعمال: (إطعام الطّعام) ؛ وهو من شعب الإيمان؛ ففي «الصحيحين» أنّ رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيّ الإسلام خير؟! قال: «تطعم الطّعام، وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف» . (وإفشاء السّلام) ؛ أي: إشاعته وإكثاره، وبذله لكلّ مسلم؛ من عرفت ومن لم تعرف. ويكون قبل الكلام؛ ففي الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه؛ حتّى يبدأ بالسّلام» . ذكره في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وعيادة المريض المسلم؛ برّا كان أو فاجرا، ... «الإحياء» . قال العراقي: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وأبو نعيم في «اليوم والليلة» واللفظ له؛ من حديث ابن عمر بسند فيه لين. وأخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا مرّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو في مجلس؛ فقال: السلام عليكم، فقال: «عشر حسنات» . قال: ثمّ مرّ رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: «عشرون حسنة» . قال: فمرّ رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: «ثلاثون حسنة» . وأخرج أبو داود؛ عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا أتى إلى مجلس فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: السلام عليكم، فردّ عليه وقال: «عشر حسنات» . ثمّ جاء رجل آخر؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه وقال: «عشرون حسنة» . ثم جاء آخر؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: «ثلاثون» وجاءه آخر فقال: ومغفرته، فقال: «أربعون» ، ثمّ قال: «هكذا تكون الفضائل» !. (و) من محاسن الأعمال: (عيادة المريض المسلم؛ برّا كان أو فاجرا) . قال ابن علان في «شرح «الأذكار» » : أصلها: «عوادة» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كما في «صيام» ، و «قيام» . وعيادة المريض سنّة بالإجماع؛ سواء فيه من تعرفه وغيره، والقريب والأجنبي. وما ورد عند مسلم بلفظ: «يجب للمسلم على المسلم سبع» وذكر منها العيادة وغيرها مما ظاهره الوجوب!! محمول على الندب المتأكّد؛ كحديث: «غسل الجمعة واجب على كلّ محتلم» . وهي من حقّ المسلم على المسلم. انتهى. وقال في «الإحياء» : والمعرفة والإسلام كاف في إثبات هذا الحقّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 ......... قال في «شرحه» : والظاهر أنّ كلا منهما شرط؛ فإذا عدم أحدهما! سقط حقّ العيادة. انتهى: ومن أدب العائد: تخفيف الجلوس عنده؛ لئلّا يملّ المريض منه؛ فقد روى الدّيلمي؛ من حديث أبي هريرة: «من تمام العيادة: خفّة القيام عند المريض» . انتهى. ومن أدب العائد: قلّة السؤال عن أحواله؛ فإنّ كثرته ربّما تضجره. ومنها: إظهار الرّقّة والدعاء له بالعافية. قال في «الإحياء» : وآدابه عند الاستئذان: ألايقابل الباب في وقوفه؛ فإنّه ربّما يقع بصره عند فتحه على ما لا يحلّ له النظر إليه، بل يقف في طرف منه. وإذا دقّ الباب يدقّ برفق ولين؛ لا بإزعاج! ولا يقول: «أنا» ؛ إذا قيل: «من بالباب» !! فقد ورد النهي عن ذلك؛ بل يقول: «فلان» باسمه المعروف. ففي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «من تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته- أو قال: على يده- ويسأله كيف هو؟!، وتمام تحيّاتكم المصافحة» . وفي لفظ: «وتمام تحيّتكم بينكم المصافحة» . رواه الإمام أحمد، والترمذي وضعّفه. ورواه ابن أبي الدنيا، والبيهقيّ؛ من حديث أبي أمامة بلفظ: «من تمام» . ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقيّ بلفظ: «من تمام عيادة أحدكم أخاه: أن يضع يده عليه؛ فيسأله كيف أصبح، كيف أمسى!؟» . وعند الطبراني في «الكبير» ؛ من حديث أبي رهم: «وإنّ من الحسنات: عيادة المريض، وإنّ من تمام عيادته أن تضع يدك عليه؛ وتسأله كيف هو؟!» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وتشييع جنازة المسلم، ... وروى أصحاب «السنن» ، والحاكم؛ من حديث علي: «من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة الجنّة حتّى يجلس، فإذا جلس! غمرته الرّحمة، فإن كان غدوة! صلّى عليه سبعون ألف ملك حتّى يمسي، وإن كان مساء! صلّى عليه سبعون ألف ملك حتّى يصبح» . وهذا لفظ ابن ماجه، وصحّحه الحاكم، وحسّنه الترمذي. ولمسلم؛ من حديث ثوبان: «من عاد مريضا لم يزل في خرافة الجنّة» . وللبيهقي؛ من حديث علي: «من عاد مريضا قعد في خراف الجنّة، فإذا قام من عنده! وكّل به سبعون ألف ملك يصلّون عليه حتّى اللّيل» . وفي لفظ عنده من حديثه أيضا: «من عاد مريضا مشى في خراف الجنّة، فإذا جلس عنده! استنقع في الرّحمة، فإذا خرج من عنده! وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويحفظونه ذلك اليوم» . (و) من محاسن الأعمال: (تشييع جنازة المسلم) ؛ أي: الذهاب مع الجنازة حتى تدفن. أخرج الشيخان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «من تبع جنازة فله قيراط من الأجر، فإن وقف حتّى تدفن؛ فله قيراطان» ، وأخرج الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه وأبو عوانة وأبو داود الطيالسي من حديث ثوبان: «من تبع جنازة حتى يصلي عليها، كان له من الأجر قيراط، ومن مشى مع الجنازة حتى تدفن كان له من الأجر قيراطان، والقيراط مثل أحد» . وأخرج البخاريّ، والنسائي، وابن حبّان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معها حتّى يصلّى عليها ويفرغ من دفنها؛ فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين؛ كلّ قيراط مثل أحد!! ومن صلّى عليها ثمّ رجع قبل أن تدفن؛ فإنّه يرجع بقيراط من الأجر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وحسن الجوار لمن جاورت؛ مسلما كان أو كافرا، ... والمشي أمامها بقربها أفضل؛ فإنّه شفيع لها، والشفيع يتقدّم. هذا مذهب الشافعي. ويدلّ له حديث ابن عمر: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشي بين يديها، وأبو بكر، وعمر. وقال أبو حنيفة: المشي خلفها أفضل؛ لما رواه البراء بن عازب؛ قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باتّباع الجنازة. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «حقّ المسلم على المسلم خمس ... » وذكر منها اتّباع الجنازة؛ والاتّباع لا يقع إلّا على التوالي. وآداب تشييع الجنازة: دوام الخشوع، وترك الحديث، وملاحظة الميت والاعتبار به، والتفكّر في الموت والاستعداد له. (و) من محاسن الأعمال: (حسن الجوار) ؛ أي: المجاورة (لمن جاورت؛ مسلما كان) الجار؛ (أو كافرا) ؛ لأنّك مأمور بالإحسان إلى جارك مطلقا، إلّا أنّ للمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض؛ على الترتيب المذكور في قوله صلّى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة؛ فجار له حقّ واحد؛ وهو أدنى الجيران حقّا، وجار له حقّان، وجار له ثلاثة حقوق. فأمّا الّذي له حقّ واحد؛ فجار مشرك لا رحم! له حقّ الجوار. وأمّا الّذي له حقّان! فجار مسلم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار. وأمّا الّذي له ثلاثة حقوق! فجار مسلم وذو رحم؛ له حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ الرّحم» . رواه الحسن بن يوسف، والبزّار في «مسنديهما» ، وأبو الشيخ في «كتاب الثواب» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث جابر. ورواه ابن عديّ؛ من حديث عبد الله بن عمرو وكلاهما ضعيف، وكذلك رواه الديلميّ والطبراني؛ من حديث جابر. وله طرق متّصلة ومرسلة، وفي الكلّ مقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 ......... فانظر كيف أثبت للمشرك حقّا بمجرّد الجوار! وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا» ... الحديث بطوله الذي رواه الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وهذا أعمّ من أن يجاور مسلما أو مشركا. وقال صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . متّفق عليه؛ من حديث أبي شريح. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما؛ من حديث عائشة، وابن عمر: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه» . وأخرج الطبرانيّ؛ عن معاوية بن حيدة: قلت يا رسول الله؛ ما حقّ الجار على جاره؟! قال: «إن مرض عدته، وإن مات شيّعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعور سترته» . وفي رواية لأبي الشيخ: «وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، هل تفقهون ما أقول لكم!؟ لن يؤدّي حقّ الجار إلّا قليل ممّن رحم الله» . وفي رواية للخرائطي: «وإن أصابه خير هنّأته، وإن أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات اتّبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء؛ فتحجب عنه الرّيح إلّا بإذنه، ولا تؤذه بفائح قدرك؛ إلّا أن تفرغ له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل! فأدخلها سرّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» . قال في «الإحياء» : واعلم أنّه ليس حقّ الجوار كفّ الأذى فقط! بل احتمال الأذى، فإنّ الجار أيضا قد كفّ أذاه، فليس في ذلك قضاء حقّ، ولا يكفي احتمال الأذى؛ بل لا بدّ من الرّفق وإسداء الخير والمعروف إليه؛ إذ يقال: إنّ الجار الفقير يتعلّق بجاره الغنيّ يوم القيامة؛ فيقول: يا ربّ؛ سل هذا لم منعني معروفه وسدّ بابه دوني!؟. وبلغ ابن المقفّع أنّ جارا له يبيع داره في دين ركبه- وكان يجلس في ظلّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وتوقير ذي الشّيبة المسلم، ... داره- فقال: ما قمت إذا بحرمة ظلّ داره إن باعها معدما! فدفع إليه ثمن الدار؛ وقال: لا تبعها. وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره! فقيل له: لو اقتنيت هرّا! فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهرّ؛ فيهرب إلى دور الجيران؛ فأكون قد أحببت لهم ما لا أحبّ لنفسي!!. وبالجملة: فالذي يشمل جميع حقوق الجار هو: إرادته الخير لجاره، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الأذى وترك الإضرار على اختلاف أنواعه؛ إلّا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول؛ أو الفعل. فإن كان كافرا! يعظه بعرض الإسلام عليه، وإظهار محاسنه برفق، والترغيب فيه، فيعظ الفاسق بما يناسبه أيضا، ويستر عليه زلله عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد، وإلّا! هجره؛ قاصدا تأديبه مع إعلامه بالسبب ليكفّ. قاله ابن أبي جمرة. ذكره في شرح «الإحياء» . (و) من محاسن الأعمال: (توقير) - أي: تعظيم- (ذي الشّيبة المسلم) بما يستحقّه من التبجيل والتعظيم؛ ففي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «من إجلال الله: إكرام ذي الشّيبة المسلم» ... الحديث؛ أي: تعظيم الشيخ الكبير صاحب الشيبة البيضاء الذي عمّر في الإسلام، وتوقيره في المجالس، والرّفق به، والشفقة عليه. وهذا الحديث قال العراقي: رواه أبو داود؛ من حديث أبي موسى الأشعري بإسناد حسن. وقد سكت عليه أبو داود. أي: فهو عنده حسن! وهكذا قال ابن القطّان، والحافظ ابن حجر. وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» بهذا اللفظ؛ من حديث أنس، ونقل عن ابن حبّان أنه لا أصل له! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ......... ولم يصب ابن الجوزي؛ ولا ابن حبّان!! بل له أصل من حديث أبي موسى. وأما حديث أنس الذي قال ابن حبّان «لا أصل له!» فلفظه: «إنّ من إجلال الله توقير الشّيخ من أمّتي» ؛ قاله في شرح «الإحياء» . أخرج الطبراني في «الأوسط» بسند ضعيف؛ عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا، ولم يرحم صغيرنا» . وهو عند أبي داود، والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ من حديث عبد الله ابن عمر بسند حسن؛ قاله العراقي. فيتعيّن أن يعامل كلّا منهما بما يليق؛ فيعطي الصغير حقّه من الرّفق به والرحمة والشفقة عليه، ويعطي الكبير حقّه من الشرف والتوقير. ومن تمام توقير المشايخ وتعظيمهم: ألايتكلّم بين أيديهم إلا بإذن منهم. روى أبو الشيخ في «التوبيخ» من حديث جابر: «ثلاثة لا يستخفّ بحقّهم إلّا منافق بيّن النّفاق: 1- ذو الشّيبة في الإسلام، و 2- الإمام المقسط، و 3- معلّم الخير» . ورواه الطبراني في «الكبير» ؛ من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه نحوه. وفي الخبر عنه صلّى الله عليه وسلم: «ما أكرم شابّ شيخا لسنّه! إلّا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه!!» . رواه الترمذي؛ من حديث أنس، وقال: حديث غريب، وفيه أبو الرجال وهو ضعيف. قال الغزالي: وهذه بشارة بدوام الحياة فليتنبّه لها! فلا يوفّق لتوقير المشايخ إلّا من قضى الله له بطول العمر. وهكذا ذكره ابن العربي في «شرح الترمذي» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وإجابة دعوة الطّعام، والدّعاء عليه، والعفو، والإصلاح بين النّاس، ... عن العلماء أنّ فيه دليلا على طول العمر لمن أكرم المشيخة. انتهى. من «الإحياء» و «شرحه» . (و) من محاسن الأعمال: (إجابة) داعي (دعوة الطّعام) ؛ وجوبا في وليمة العرس، وندبا في غيرها من الولائم؛ بشرطه! (والدّعاء عليه) ؛ أي: على الطعام وبعده، فقد كان صلّى الله عليه وسلم إذا أكل عند قوم لم يخرج حتّى يدعو لهم؛ فكان يقول: «اللهمّ؛ بارك لهم وارحمهم» . وكان يقول: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . كما تقدّم. (والعفو) عمّن اجترأ عليه. قال صلّى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا، وما تواضع أحد لله إلّا رفعه» . رواه مسلم؛ من حديث أبي هريرة. ورواه كذلك الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبّان. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما انتقم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنفسه قطّ إلّا أن تنتهك حرمة الله! فينتقم لله. رواه البخاري ومسلم. وقال ابن عباس: ما عفا رجل عن مظلمة إلّا زاده الله بها عزّا. أي: في الدنيا؛ فإنّ من عرف بالعفو والصفح عظم في القلوب، أو في الآخرة؛ بأن يعظم ثوابه. وهو معنى حديث أبي هريرة السابق آنفا. (و) من محاسن الأعمال: (الإصلاح بين النّاس) ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصّدقة: إصلاح ذات البين» رواه الطبراني في «الكبير» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» ؛ من حديث عبد الله بن عمرو. وفيه راو ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 والجود، والكرم، والسّماحة، ... وعنه صلّى الله عليه وسلم: «اتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ فإنّ الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة» . رواه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» ؛ عن أنس من حديث طويل، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وضعّفه البخاري وابن حبّان. وقال صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّلاة والصّيام والصّدقة؟!» قالوا: بلى! قال: «إصلاح ذات البين. وفساد ذات البين هي الحالقة» . رواه أبو داود، والترمذي وصحّحه؛ من حديث أبي الدرداء. ورواه كذلك الإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح. فينبغي للشخص الاعتناء بإصلاح ذات البين بين المسلمين ما وجد لذلك سبيلا. وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «ليس بكذّاب من أصلح بين اثنين؛ فقال خيرا أو نمى خيرا» . رواه الشيخان؛ من حديث أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكذلك رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن جرير؛ كلهم من حديث حميد بن عبد الرحمن؛ عن أمّه أمّ كلثوم بنت عقبة. ورواه الطبراني في «الكبير» من حديث شدّاد بن أوس. وليس المراد من الحديث نفي ذات الكذب! بل نفي إثمه. فالكذب كذب؛ لإصلاح أو غيره. وهذا الحديث يدلّ على وجوب الإصلاح، لأنّ ترك الكذب واجب، ولا يسقط الواجب إلّا بواجب آكد منه. انتهى جميعه من «الإحياء» و «شرحه» والله أعلم. (و) من محاسن الأعمال: (الجود، والكرم، والسّماحة) ومعانيها متقاربة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 والابتداء بالسّلام، ... وقد فرّق بعضهم بينها بفروق دقيقة؛ فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم قدره ونفعه. أي: فيما يكثر الانتفاع به؛ فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقلّ نفعه. وقال بعضهم: الأظهر أن يقال: الكرم إنما هو عطاء ابتداء؛ من غير ملاحظة عوض وغرض انتهاء. وأمّا السماحة! فهي التجافي عمّا يستحقّه المرء عند غيره؛ من أداء عين، أو قضاء دين؛ بطيب نفس. وقال العلّامة ملّا علي قاري: بعض الأحاديث يدلّ على أنّ المراد بالسماحة السخاوة الخاصة؛ وهي المساهلة في المعاملة؛ كما ورد: «رحم الله من سمح في البيع والشّراء، والقضاء والاقتضاء» . وفي حديث: «السّماح رباح» . انتهى. والسخاء: سهولة الإنفاق على الأقارب والأجانب، والفقير والغني، وسائر المراتب، وتجنبّ اكتساب ما لا يحمد. وهو مرادف للجود. وقيل: الجود إعطاء الموجود، وانتظار المفقود، والاعتماد على المعبود. وقيل: الجود هو بذل المجهود، ونفي الموجود. وقد يقال: من أعطى البعض؛ فهو سخي، ومن بذل الأكثر؛ فهو جواد، ومن أعطى الكلّ؛ فهو كريم. انتهى. (و) من محاسن الأعمال: (الابتداء بالسّلام) ؛ وهو سنّة عين من الواحد؛ ولو صبيا! ولو على من ظنّ أنّه لا يردّ، ومن الجماعة سنّة كفاية. وردّه فرض عين على الواحد عند إقباله وانصرافه، وكذا لو علمه واحد فقط من الجماعة، ولو كان المسلّم صبيا مميّزا. وفرض كفاية؛ إن كان على جماعة اثنين فأكثر، مسلمين مكلفين، أو سكارى؛ لهم نوع تمييز، عالمين به، ولو نساء. ولو أسقط المسلّم حقّه؛ لم يسقط، لأن الحقّ لله تعالى، ولو ردّوا كلّهم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 ......... ولو مرتّبا؟ أثيبوا ثواب الفرض، كالمصلّين على جنازة. وشرطه إسماع واتصال كاتصال الإيجاب بالقبول، فإن شكّ في سماعه؛ زاد في الرفع، فإن كان عنده نيام، خفض صوته ندبا. ولا يكفي ردّ صبي مع وجود مكلّف، ولا ردّ غير المسلّم عليهم. ولو سلّم على جماعة؛ فيهم امرأة فردّت؛ هل يكفي؟ قال الزركشي: ينبغي بناؤه على أنّه هل يشرع لها الابتداء بالسّلام؛ بأن كانت محرما له، أو غير مشتهاة مثلا؛ فحيث شرع لها؛ كفى جوابها، وإلّا فلا. قال الشّبراملّسي: ومحلّ ذلك ما لم يخصّ الرجال، وإلّا فلا يكفي ردّها. انتهى. ويجب الجمع بين اللفظ والإشارة على من ردّ على أصمّ، وسنّ لمن يسلّم عليه أن يجمع بينهما. نعم؛ لو علم أنّه فهم بقرينة الحال والنظر إلى فمه؟ لم تجب الإشارة. وتجزىء إشارة الآخرس ابتداء وردّا. وقال الشّبراملّسي: محلّ ذلك إن فهمها كلّ أحد، وإلّا كانت كناية، فتعتبر النيّة معها، لوجوب الردّ والكفاية في حصول السّنّة منه. انتهى. وصيغته: «السلام عليكم» ، أو «سلامي عليكم» ، ويجزىء مع الكراهة «عليكم السلام» . ويجب فيه الردّ. وك «عليكم السلام» ، «عليكم سلامي» ، ولو قال «وعليكم السلام» ؟ لم يكن سلاما، فلا يجب ردّه «1» .   (1) بقي مما لا يجب ردّه وهو الآن مستعمل كثيرا: سلام الله عليكم. أو: سلام من الله عليكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وكظم الغيظ، ... وندب صيغة الجمع في الواحد لأجل الملائكة، ويكفي الإفراد فيه، بخلافه في الجمع! فلا يكفي في أداء السّنة، ولا يجب الردّ حيث لم يعيّن واحدا. والإشارة بيد ونحوها من غير لفظ! خلاف الأولى، والجمع بينها وبين اللفظ أفضل، وصيغة ردّه «وعليكم السلام وعليك السلام» للواحد، لا لجمع سلّموا عليه؛ كما في الشبراملسي، ومع ترك الواو، وإن كان ذكرها أفضل، فإن عكس؛ بأن قال: «والسلام عليكم» ، أو «السلام عليكم» ؟ جاز وكفى، فإن قال «وعليكم» وسكت؟ لم يجز. والتعريف ابتداء وجوابا أفضل، وزيادة «ورحمة الله وبركاته» أكمل منهما. انتهى ملخصا من كتاب «فتح العلام» للسيّد العلامة علوي بن أحمد السّقّاف رحمه الله، ثم قال فيه: وهل لنا سنّة كفاية غير السلام من الجماعة؟! ذهب فخر الإسلام الشاشي إلى نفي ذلك. وردّ بأن منها تشميت العاطس، والتسمية للأكل، والأذان والإقامة، وما يفعل بالميّت؛ مما ندب إليه من جماعته، وتضحية الواحد من أهل البيت بالشاة الواحدة، لتأدّي شعار التضحية. وقد نظم بعضهم ذلك في قوله: أذان وتشميت وفعل بميّت ... إذا كان مندوبا وللأكل بسملا وأضحية من أهل بيت تعدّدوا ... وبدء سلام والإقامة فاعقلا فذي سبعة إن جا بها البعض يكتفى ... ويسقط لوم عن سواه تكمّلا زاد في «التحفة» و «النهاية» : إجابة تشميت العاطس. انتهى. (و) من محاسن الأعمال: (كظم الغيظ) الكظم: هو الكفّ؛ إمّا بكفّ النفس؛ أو بالصفح. والغيظ: هو الغضب الكامن في القلب. أخرج ابن أبي الدنيا في «ذمّ الغضب» ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 والعفو عن النّاس، ... رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا» . وفي رواية: «من كتم غيظا؛ وهو يقدر على إنفاذه؛ ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» . رواه ابن أبي الدنيا؛ من حديث أبي هريرة. وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما جرع عبد جرعة أعظم أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى» . رواه ابن ماجه بإسناد جيد، وقال المنذريّ: رواته محتجّ بهم في «الصحيح» . ورواه الإمام أحمد بلفظ: «ما تجرّع عبد أفضل منه عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى» . وقال ابن عبّاس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ لجهنّم بابا لا يدخله إلّا من شفى غيظه بمعصية الله» . رواه ابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا؛ وهو يقدر على أن ينفذه؛ دعاه الله على رؤوس الخلائق، ويخيّره من أيّ الحور العين شاء» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ؛ وقال: حسن غريب، وابن ماجه، والطبرانيّ، والبيهقيّ، وابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» ؛ وفي «الصمت» من حديث معاذ بن أنس. وذكر أنّه كان عند ميمون بن مهران الجزري «كاتب عمر بن عبد العزيز» ضيف، فاستعجل جاريته بالعشاء؛ فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة من الثريد، فعثرت في ذيلها وأراقتها على رأس سيّدها ميمون، فقال: يا جارية أحرقتيني! قالت: يا معلّم الخير ومؤدّب الناس؛ ارجع إلى ما قال الله تعالى، قال لها: وما قال الله تعالى؟! قالت: قال وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال: قد كظمت غيظي؛ أي كففته. قالت وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك. قالت: زد، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) [آل عمران] قال: أنت حرّة لوجه الله تعالى. (والعفو عن النّاس) تقدّم الكلام على العفو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 واجتناب ما حرّمه الإسلام من اللهو، والباطل، والغناء، والمعارف كلّها، ... (واجتناب) كلّ (ما حرّمه الإسلام؛ من اللهو والباطل والغناء) - بكسر الغين والمدّ-: الصوت. وغنّى- بالتشديد-: إذا ترنّم بالغناء، والغنى- بالكسر والقصر- بالمال، وأما الغناء- بفتح الغين والمدّ-!! فهو النفع، وعلى ذلك قول بعضهم: الغنا بالمدّ صوت ... والغنى بالمال مقصور والجميع الغين منه ... عند أهل العلم مكسور والغنا بالمدّ والفت ... ح اسمه للنّفع مشهور (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (المعازف كلّها) : آلات يضرب بها. الواحد عزف؛ مثل فلس. وقال الجوهريّ: المعازف الملاهي. قال ابن حجر الهيتميّ: صحّ من طرق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ليكوننّ في أمّتي أقوام يستحلّون الحر والحرير، والخمر والمعازف» . أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو نعيم بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها، وصحّحه جماعة آخرون من الأئمة؛ كما قاله بعض الحفّاظ؛ خلافا لما وهم فيه ابن حزم! فقد علّقه البخاريّ؛ ووصله الإسماعيلي. وهو صريح ظاهر في تحريم جميع آلات اللهو المطربة. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم وسماع المعازف والغناء، فإنّهما ينبتان النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» . رواه ابن صصري في «أماليه» . وأخرج الدّيلميّ أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «الغناء واللهو ينبتان النّفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، والذي نفسي بيده؛ إنّ القرآن والذّكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ......... وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يستمع إلى صوت الرّوحانيّين في الجنّة» . رواه الحكيم الترمذي. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ أنّه سئل عن قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان/ 6] ؛ قال: «الغناء، والذي لا إله إلّا هو؛ لا غيره» . رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وأخرجه الحاكم وصحّحه والبيهقيّ وغيره. ثمّ قال ابن حجر الهيتميّ: يحرم سماع الغناء من حرّة وأمة أجنبيّة؛ بناء على قول عندنا «أنّ صوت المرأة عورة» ، سواء أخاف فتنة بها؛ أم لا!! وكلام الشيخين في «الروضة» و «أصلها» في ثلاثة مواضع يقتضي أنّ هذا هو الراجح في المذهب، ونقل القاضي أبو الطيّب إمام أصحابنا عن الأصحاب: ولو من وراء حجاب. وصرّح بالتحريم القاضي الحسين أيضا. وادّعى أنّه لا خلاف فيه؛ مستدلا بالحديث الصحيح: «من استمع إلى قينة صبّ في أذنيه الآنك» . أي: الرصاص المذاب. قال الأذرعيّ: ولو لم يكن المغنّي والمغنّية محلّ الفتنة، ولكن استماع الغناء منه يبعث على الافتتان بغيره من الناس؛ فهو حرام، لما فيه من الخبث؛ وتحريك القلب الخرب إلى ما يهواه، لا سيّما أهل العشق والشغف، ومن يشتغل بصورة خاصّة! وهذا واضح ولا ينازع فيه منصف. انتهى. وأمّا على قول «أنّ صوت المرأة غير عورة» وهو الأصحّ!! فلا يحرم؛ إلّا إن خشي فتنة. قال الأذرعيّ: ومحلّه في غير الغناء الملحّن بالنغمات الموزونة مع التخنّث والتغنّج؛ كما هو شأن المغنّيات. أما هذا!! ففيه أمور زائدة على مطلق سماع الصوت؛ فيتّجه التحريم هنا؛ وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وكلّ ذي وتر، وكلّ ذي ذحل، والغيبة، ... قلنا «إنّ صوتها غير عورة» . ويجب أن يكون محلّ الخلاف في صوت غير مشتمل على ذلك؛ بخلاف المشتمل عليه، لأنّه يحثّ على الفسوق؛ كما هو مشاهد، ويظهر أنّ سماعه من الأمرد محرّم أيضا؛ إن خشي فتنة به، كسماعه من المرأة. ثم رأيت الرافعي صرّح بذلك. والأذرعيّ نقل عن القرطبي: أنّ جمهور من أباح سماع الغناء حكموا بتحريمه من الأجنبيّة على الرّجال والنساء، وأنّه لا فرق بين إسماع الشعر والقرآن، لما فيه من تهيّج الشهوة وخوف الفتنة؛ لا سيما إذا لحّنته، فسماعه كالاطلاع على محاسن جسدها، بل الحاصل بغنائها من المفسدة أسرع من ذلك!؛ لأنّ السماع يؤثّر في النفس قبل رؤية الشخص، وأمّا تهييجه للشهوة وإيقاعه في الفتنة!! فلا شكّ فيه. والحاصل: أنّ سماعهنّ مظنّة للشهوة قطعا. وأطال في تقريره وهو كما قال. انتهى كلام الأذرعي؛ نقله ابن حجر رحمه الله تعالى. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (كلّ ذي وتر) - بفتح الواو وسكون التاء المثنّاة فوق، آخره راء-: هو الذّحل- بالذال المعجمة والحاء المهملة- المذكور في قوله (وكلّ ذي ذحل) الحقد وهو بفتح الذال المعجمة. وتفتح الحاء المهملة، فيجمع على أذحال؛ مثل سبب وأسباب، وتسكّن الحاء المهملة، فيجمع على ذحول؛ مثل فلس وفلوس، وطلب بذحله أي بثأره. انتهى «مصباح» وسيأتي تفسيرهما في كلام المصنف، والمراد منهما اجتناب الحقد وإضمار الشرّ للمسلمين. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (الغيبة) - بكسر الغين المعجمة-: ذكرك أخاك بما يكره؛ ولو بما فيه؛ ولو بحضوره، لكن ظاهر المادّة تؤيّد ما قيل «من أن ما في الحضور لا يسمّى غيبة بل بهتان» . وإذا ذكره بما ليس فيه فقد زاد على ذلك إثم الكذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ......... ومن الضلال قول بعض العامّة «ليس هذا غيبة، إنّما هو إخبار بالواقع» ، فربّما جرّه ذلك لكفر الاستحلال- والعياذ بالله تعالى-. وليست الغيبة مختصّة بالذكر، بل ضابطها: كلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم، بلفظك؛ أو كتابتك؛ أو أشرت إليه بعينك؛ أو يدك؛ أو رأسك؛ أو نحو ذلك، سواء كان ذلك في بدنه؛ أو دينه؛ أو دنياه؛ أو ولده؛ أو والده؛ أو زوجته؛ أو خادمه؛ أو حرفته؛ أو لونه؛ أو مركوبه؛ أو عمامته؛ أو ثوبه؛ أو غير ذلك ممّا يتعلّق به. ومن ذلك قول المصنفين في كتبهم «قال فلان كذا وهو غلط؛ أو خطأ.. أو نحو ذلك» فهو حرام، إلّا إن أرادوا بيان غلطه؛ أو خطئه، لئلا يقلّد؛ لأنّ ذلك نصيحة؛ لا غيبة. وقولهم «قال مصنف، أو قال جماعة أو قوم كذا؛ وهو غلط أو خطأ» أو نحو ذلك؟! ليس غيبة، لأنّ الغيبة لا تكون إلّا في إنسان معين؛ أو جماعة معينين. وقولك «فعل كذا بعض الناس» ، أو: «بعض الفقهاء» ، أو: «من يدّعي العلم» ، أو: «بعض المفتين» أو نحو ذلك غيبة محرّمة إذا كان المخاطب يفهمه بعينه. وقضيّة ذلك: أنّك إذا ذكرت شخصا تعرفه أنت دون المخاطب؛ لا يكون غيبة. ويشكل عليه حرمة الغيبة في الخلوة؛ دون حضور أحد، وكذا بالقلب فقط، فإنّها بالقلب محرّمة كهي باللسان، ومحلّ ذلك في غير من شاهد، وأمّا من شاهد!! فيعذر في الاعتقاد حينئذ؛ نعم؛ ينبغي أن يحمله على أنّه تاب. وحكم الغيبة التحريم بالإجماع. وهل هي كبيرة؛ أو صغيرة؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ......... قال القرطبي من المالكية: إنها كبيرة بلا خلاف- يعني في مذهبه-، وإليه ذهب كثير من الشافعية، وذكر صاحب «العدة» منهم: أنها صغيرة. وأقرّه عليه الرافعيّ ومن تبعه، لعموم البلوى بها، فقلّ من يسلم منها!! وفي التعليل نظر لا يخفى، لأنّ ذلك لا يقتضي كونها من الصغائر، والذي جزم به ابن حجر الهيتمي في «شرح الشمائل» أنّ غيبة العالم وحامل القرآن كبيرة، وغيبة غيرهما صغيرة؛ وهو المعتمد. وكما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على كلّ من سمع إنسانا يذكر غيبة محرّمة أن ينهاه، إن لم يخف ضررا ظاهرا. وقد ورد: «من ردّ غيبة مسلم ردّ الله عن وجهه النّار يوم القيامة» . فإن لم يستطع باليد؛ ولا باللسان؟! فارق ذلك المجلس. فإن قال بلسانه «اسكت» وهو يشتهي بقلبه استمراره؟! فذلك نفاق؛ كما قاله الغزالي!! فلا بدّ من كراهته بقلبه. وربّما ألحق مجلس الغيبة بمظانّ الإجابة، فيقول «الله يلطف بنا، وبفلان؛ فعل كذا وكذا» !!. ومن ذلك غيبة المتفقّهين والمتعبّدين؛ فيقال لأحدهم «كيف حال فلان» فيقول «الله يصلحنا.. الله يغفر لنا.. الله يصلحه؛ نسأل الله العافية! الله يتوب علينا» ... وما أشبه ذلك مما يفهم منه تنقيصه. فكلّ ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال «فلان ماله حيلة؛ كلنا نفعل ذلك.» . واعلم أنّ العلماء ذكروا أنّ الغيبة تباح في أحوال للمصلحة؛ وهي ستّة نظمها العلامة ابن أبي شريف رحمه الله تعالى؛ فقال: القدح ليس بغيبة في ستّة ... متظلّم ومعرّف ومحذّر ولمظهر فسقا ومستفت ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 والكذب، ... فالأوّل: المتظلّم، كأن يقول المظلوم لمن له الولاية كالقاضي «فلان ظلمني» .. مثلا. والثاني: المعرّف، كأن يقول «فلان الأعمش.. أو الأعرج.. أو نحو ذلك» فيمن كان معروفا بذلك؟! بشرط أن يكون بنيّة التعريف، فإن كان بقصد التنقيص!! حرم. والثالث: المحذّر، كأن تذكر عيوب شخص لمن يريد الاجتماع عليه إذا لم ينكفّ بدون ذكرها، وإلّا!! حرم. والرابع: مظهر الفسق؛ أي: المجاهر بفسقه، كالمجاهر بشرب الخمر وأخذ المكس.. وغير ذلك، فيجوز ذكره بما فسق به؛ لا بغيره من العيوب، بشرط أن يقصد أن تبلّغه لينزجر. والخامس: المستفتي؛ كأن يقول للمفتي «ظلمني فلان» ؛ فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه. والسادس: الطالب للمعاونة على إزالة المنكر؛ كأن يقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر «فلان يعمل كذا فأعنّي على منعه» ، بشرط أن يكون قصده التوصّل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك؟ كان حراما. والتوبة تنفع في الغيبة من حيث الإقدام، وأمّا من حيث الوقوع في حرمة من هي له؟! فلا بدّ فيها- مع التوبة- من طلب العفو من صاحبها عنه؛ إذا بلغته. وإذا لم تبلغه؟ كفى الاستغفار له. وإن بلغته بعد ذلك؟ بلغته ممحوّة. انتهى جميع ذلك ملخصا من الباجوري رحمه الله تعالى. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (الكذب) لغير مصلحة شرعية، فإن كان لمصلحة شرعيّة؟ جاز، كالكذب للزوجة؛ تطييبا لنفسها، بل قد يجب كالكذب لإنقاذ مسلم، أو لإصلاح ذات البين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 والبخل، والشّحّ، ... قال في «الإحياء» : كلّ مقصود محمود يمكن التوصّل إليه بالصدق والكذب جميعا؛ فالكذب فيه حرام. وإن أمكن التوصّل إليه بالكذب؛ دون الصدق! فالكذب فيه مباح؛ إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا. كما أنّ عصمة دم المسلم واجبة؛ فمهما كان في الصدق سفك دم امرىء مسلم قد اختفى من ظالم؛ فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتمّ مقصود الحرب؛ أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجنيّ عليه إلّا بكذب؟! فالكذب مباح، إلّا أنّه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن. انتهى. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (البخل، والشّحّ) . قال في «الجمل» «1» : الشحّ: اللؤم؛ وهو غريزة، والبخل: المنع نفسه. فهو أعمّ، لأنّه قد يوجد البخل ولا شحّ له، ولا ينعكس. وفي النسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع الشّحّ والإيمان في قلب عبد أبدا» . فإذن الشحّ صفة راسخة يصعب معها على الرّجل تأتّي المعروف؛ وتعاطي مكارم الأخلاق، ويفتقر في التخلّص منه إلى معونة الله وتوفيقه. وفي «الجامع الصغير» : «الشّحيح لا يدخل الجنّة» . رواه الخطيب في كتاب «البخلاء» ؛ عن ابن عمر. وفي «الصحاح» : الشحّ: البخل مع حرص. انتهى. وفي «الإحياء» : قال عبد الله بن عمرو: الشحّ أشدّ من البخل، لأن الشحيح هو الذي يشحّ على ما في يد غيره حتى يأخذه، ويشحّ بما في يده فيحبسه، والبخيل هو: الذي يبخل بما في يده. انتهى.   (1) أي حاشية الجمل! لعلها على الجلالين!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ......... وقال في «الاحياء» أيضا: أما حدّ البخل الذي يوجب الهلاك؛! فقال قائلون: هو منع الواجب، فكلّ من أدّى ما وجب عليه؛ فليس ببخيل. وهذا غير كاف. ثم أطال في تقرير حدّ البخل، ... إلى أن قال: السخيّ هو: الذي لا يمنع واجب الشرع؛ ولا واجب المروءة، فإن منع واحدا منها؟! فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل، كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة، أو يؤدّيها؛ ولكنه يشقّ عليه، فإنّه بخيل بالطبع، وإنّما يتسخّى بالتكلّف، أو الذي يتيمّم الخبيث من ماله؛ ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه. فهذا كلّه بخل. وأمّا واجب المروءة!! فهو ترك المضايقة، والاستقصاء في المحقّرات، فإنّ ذلك مستقبح. واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص؛ 1- فمن كثر ماله استقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة. ويستقبح من الرّجل المضايقة مع أهله؛ وأقاربه؛ ومماليكه ما لا يستقبح مع الأجانب. ويستقبح مع الجار ما لا يستقبح مع البعيد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح أقلّ منه في المبايعة والمعاملة، فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة؛ أو معاملة. 2- أو بما فيه المضايقة؛ من طعام؛ أو ثوب، إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن مثلا؛ أو شراء الأضحية، أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة. 3- وكذلك بمن معه المضايقة؛ من صديق؛ أو أخ؛ أو قريب؛ أو زوجة؛ أو ولد؛ أو أجنبي. وبمن معه المضايقة؛ من صبي؛ أو امرأة، أو شيخ؛ أو شاب، أو عالم؛ أو جاهل، أو موسر؛ أو فقير. فالبخيل هو: الذي يمنع حيث ينبغي ألايمنع؛ إمّا بحكم الشرع، وإمّا بحكم المروءة، وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره. ولعل حدّ البخل هو: إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهمّ من حفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 والجفاء، والمكر، والخديعة، ... المال!! فإنّ صيانة الدين أهمّ من حفظ المال، فمانع الزكاة والنفقة بخيل، وصيانة المروءة أهمّ من حفظ المال، والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحبّ المال؛ فهو بخيل. انتهى كلام الإمام الغزاليّ رحمه الله تعالى. وهو الذي استقرّ رأيه عليه في تقرير البخيل وحدّ البخل؛ بعد أن أطال الكلام في ذلك رحمه الله تعالى. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (الجفاء) أي: الغلظة والفظاظة. قال الأزهريّ: الجفاء ممدود؛ عند النحويين، وما علمت أحدا أجاز فيه القصر. وفي الحديث: «البذاء من الجفاء، والجفاء في النّار» . وفي الحديث الآخر: «من بدا جفا» أي: غلظ طبعه، لقلّة مخالطة الناس. والجفاء يكون في الخلقة والخلق؛ يقال: رجل جافي الخلقة، وجافي الخلق أي: كزّ غليظ العشرة، خرق في المعاملة، متحامل عند الغضب والسورة على الجليس، وفي صفته صلّى الله عليه وسلم: «ليس بالجافي المهين» أي: ليس بالغليظ الخلقة والطبع، أي: ليس بالذي يجفو أصحابه. انتهى من شرح «القاموس» . (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (المكر، والخديعة) ؛ وهما من الكبائر. قال ابن حجر في «الزواجر» : المكر- لغة-: الستر، يقال مكر الليل؛ أي: ستر بظلمته ما هو فيه، ويطلق أيضا على الاحتيال والخداع والخبث، وبهذا الاعتبار عبّر عنه بعض اللغويين: بأنّه السعي بالفساد، وبعضهم: بأنّه صرف الغير عما يقصد بحيلة. وهذا الأخير؛ إمّا محمود بأن يتحيّن في أن يصرفه إلى خير، وعليه يحمل قوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) [الأنفال] . وإمّا مذموم بأن يتحيّل به في أن يصرفه إلى شرّ، ومنه وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 والنّميمة، ... بِأَهْلِهِ [43/ فاطر] انتهى. ثم قال ابن حجر أيضا: أخرج الطبرانيّ في «الكبير» و «الصغير» بإسناد جيد، وابن حبّان في «صحيحه» ؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النّار» . ورواه أبو داود؛ عن الحسن مرسلا مختصرا؛ قال: «المكر، والخديعة، والخيانة في النّار» . وفي حديث: «لا يدخل الجنّة خبّ- أي: مكّار- ولا بخيل، ولا منّان» . وفي آخر: «المؤمن غرّ كريم، والفاسق خبّ لئيم» . وقال تعالى عن المنافقين يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء/ 142] أي: مجازيهم بما يشبه الخداع على خداعهم له، وذلك أنّهم يعطون نورا؛ كما يعطى المؤمنون، فإذا مضوا على الصراط أطفىء نورهم؛ وبقوا في الظّلمة. وفي حديث: «أهل النّار خمسة ... ، وذكر منهم ... رجلا لا يصبح ولا يمسي؛ إلّا وهو مخادعك عن أهلك ومالك» . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (النّميمة) وهي: نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، كقوله «فلان يقول فيك كذا» .. لكن قال أبو حامد الغزاليّ: وليست النميمة مختصّة بذلك!!. بل حدّها كشف ما يكره كشفه، سواء كان الكشف بالقول؛ أو بالكتابة؛ أو الرمز، أو نحوها، وسواء كان المنقول من الأعمال؛ أو من الأحوال! وسواء كان عيبا؛ أو غيره!!. قال النّوويّ: فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه. قال: وكلّ من حملت إليه نميمة لزمه ستّة أمور: الأوّل: ألايصدّقه، لأن النمام فاسق. والفاسق مردود الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وسوء ذات البين، ... الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه. الثالث: أن يبغضه، فإنّه بغيض عند الله. ويجب بغض من أبغضه الله تعالى. الرابع: ألايظنّ بالمنقول عنه السوء، لقوله تعالى اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات/ 12] . الخامس: ألايحمله ما حكي له على التجسّس والبحث عن تحقيق ذلك، قال الله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات/ 12] . السادس: ألايحكى نميمة عنه، فيقول «فلان حكى لي كذا» فيصير بذلك نمّاما. والنميمة محرّمة بالإجماع، والمذاهب متفقة على أنّها كبيرة، لحديث «الصحيحين» : «لا يدخل الجنّة نمّام» . وفي رواية لمسلم: «قتّات» ؛ أي: نمّام. وكلّ ذلك ما لم تدع الحاجة إليها، وإلّا! جازت، لأنّها حينئذ ليست نميمة؛ بل نصيحة كما إذا أخبرك شخص: بأنّ فلانا يريد البطش بمالك؛ أو بأهلك؛ أو نحو ذلك! لتكون على حذر، فليس ذلك بحرام؛ لما فيه من دفع المفاسد. وقد يكون بعضه واجبا، كما إذا تيقّن وقوع ذلك لو لم يخبرك بهذا الخبر. وقد يكون بعضه مستحبّا، كما إذا شكّ في ذلك؛ ذكره النووي رحمه الله تعالى. نقله الباجوري عنه رحمهم الله تعالى. آمين. (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (سوء ذات البين) أخرج أبو داود، والترمذيّ وصحّحه، والإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» - قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة» ؟ قالوا: بلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وقطيعة الأرحام، ... قال: «إصلاح ذات البين. وفساد ذات البين هي الحالقة» أي: الخصلة التي شأنها أن تحلق: أي: تهلك، وتستأصل الدين كما يستأصل المزيّنون الشعر، أو المراد المزيلة لمن وقع فيها، لما يترتّب عليه من الفساد والضغائن. انتهى. «شرح «الإحياء» » . (و) من محاسن الأعمال: اجتناب (قطيعة الأرحام) ؛ وهم كلّ قريب: وارثا؛ أو غير وارث، محرما؛ أو غير محرم. قال العلّامة ابن حجر في «الفتاوى الفقهية» ؛ كتاب السير: المراد بالأرحام الذين يتأكّد برّهم، وتحرم قطيعتهم جميع الأقارب، من جهة الأب أو الأم؛ وإن بعدوا. وقال في «الزواجر» : وظاهر أن الأولاد والأعمام من الأرحام، وكذا الخالة؛ خلافا للزركشي في قوله «إنّ الخالة والعمّ مثل الأب والأم؛ حتى في العقوق» . انتهى. والمراد بقطع الرحم: قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان لغير عذر شرعي، لأن قطع ذلك يؤدّي إلى إيحاش القلوب ونفرتها وتأذّيها، ويصدق عليه حينئذ أنّه قطع وصلة رحمه، وما ينبغي لها من عظيم الرعاية، فلو فرض أنّ قريبه لم يصل إليه منه إحسان؛ ولا إساءة! قط، لم يفسق بذلك. ولا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه؛ منه القريب؛ مالا، أو مكاتبة، أو مراسلة، أو زيارة، أو غير ذلك. فقطع ذلك كلّه بعد فعله لغير عذر كبيرة. قاله ابن حجر في «الزواجر» . قال: وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به؛ أو تجدّد احتياجه إليه، أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه، لكون الأجنبي أحوج أو أصلح، فعدم الإحسان إليه، أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه الفسق؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وسوء الخلق ... وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب، لأنه إنّما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي على القريب. وواضح أن القريب لو ألف منه قدرا معيّنا من المال يعطيه إيّاه كل سنة مثلا فنقصه؛ لا يفسق بذلك، بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر. فإن قلت: يلزم على ذلك امتناع القريب من الإحسان إلى قريبه أصلا؛ خشية أنه إذا أحسن إليه يلزمه الاستمرار على ذلك؛ خوفا من أن يفسق لو قطعه، وهذا خلاف مراد الشارع من الحثّ على الإحسان إلى الأقارب؟!. قلت: لا يلزم ذلك، لما تقرّر أنه لا يلزمه أن يجري على تمام القدر الذي ألفه منه، بل اللازم له ألايقطع ذلك من أصله. وغالب الناس يحملهم شفقة القرابة ورعاية الرّحم على وصلتها، فليس في أمرهم بمداومتهم على أصل ما ألفوه منهم تنفير عن فعله، بل حثّ على دوام أصله، وإنما يلزم ذلك لو قلنا «إنه إذا ألف منه شيئا بخصوصه يلزمه الجريان على ذلك الشيء المخصوص دائما؛ ولو مع قيام العذر الشرعي» !!، ونحن لم نقل ذلك. وأما عذر الزيارة! فينبغي ضبطه بعذر الجمعة «1» ، بجامع أن كلّا فرض عين؛ وتركه كبيرة، وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة! فهو ألايجد من يثق به في أداء ما يرسله معه، والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت، فتأمّل جميع ما قررته واستفده، فإني لم أر من نبّه على شيء منه مع عموم البلوى به وكثرة الاحتياج إلى ضبطه. انتهى كلام ابن حجر؛ شكر الله مسعاه ورضي الله عنه وأرضاه. آمين. (و) اجتناب (سوء الخلق) وهو خلاف حسن الخلق. والخلق؛ بضمتين: هيئة راسخة تصدر عنها الأفعال بيسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا   (1) يعني أعذار ترك صلاة الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 والتّكبّر، ... بسهولة! سميت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة؛ سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فربّ شخص خلقه السخاء؛ ولا يبذل!! إما لفقد مال أو لمانع، ولا يسمى خلقا ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ واستقرار. (و) من محاسن الأعمال اجتناب (التّكبّر) اعلم أنّ الكبر اسم لحالة يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسه أعظم من غيره. وهو ينقسم إلى ظاهر وباطن، فالباطن: هو خلق في النفس. والظاهر: هو أعمال تصدر من الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحقّ، لأنه منشأ الإعجاب والرؤية، وأما الأعمال فإنّها ثمرة لذلك الخلق ونتائج له، وخلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر أثره على الجوارح يقال: تكبر واستكبر، وإذا لم يظهر يقال: فلان في نفسه كبر، فالأصل هو الخلق الذي في النفس، وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبّر عليه، ويسمّى الكبر أيضا «عزّة» و «تعظّما» ، ولذلك قال ابن عبّاس في قوله تعالى إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر/ 56] ؛ قال: عظمة لم يبلغوها، ففسر الكبر بتلك العظمة. والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة، وفيه يهلك الخواصّ من الخلق، وقلّما ينفكّ عنه العباد والزهّاد والعلماء؛ فضلا عن عوامّ الخلق، وهو من الكبائر وآفته عظيمة، وكيف لا تعظم آفته؛ وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر» ... الحديث!! رواه مسلم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وإنما صار حجابا دون الجنة!! لأنّه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلّها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة. والكبر وعزّة النفس يغلق تلك الأبواب كلّها؛ لأنه لا يقدر أن يحبّ للمؤمنين ما يحبّ لنفسه؛ وفيه شيء من العزّ!! ولا يقدر على التواضع- وهو رأس أخلاق المتقين- وفيه العزّ!! ولا يقدر على ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 والفخر، والاختيال، والاستطالة، ... الحقد؛ وفيه العزّ! ولا يقدر أن يدوم على الصّدق؛ وفيه العزّ! ولا يقدر على ترك الغضب؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على كظم الغيظ؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على ترك الحسد؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على النصح اللطيف؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على قبول النصح؛ وفيه العزّ، ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم؛ وفيه العزّ، ولا معنى للتطويل. فما من خلق ذميم إلّا وصاحب العزّ والكبر مضطرّ إليه، ليحفظ به عزّه!! وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه؛ خوفا من أن يفوته عزّه!! فمن هذا المعنى لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبّة منه. والأخلاق الذميمة متلازمة، والبعض منها داع إلى البعض لا محالة. وشرّ أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم؛ وقبول الحق، والانقياد إليه. وفيه وردت الآيات التي فيها ذمّ الكبر والمتكبرين. انتهى ملخصا من «الإحياء» وشرحه. (و) اجتناب (الفخر) : ادّعاء العظم والكبر والشرف. والتفاخر: التعاظم والتفخّر التكبّر. (و) اجتناب (الاختيال) - بالخاء المعجمة-، قال النووي: قال العلماء الخيلاء والمخيلة والبطر والزّهوّ والتبختر كلّها بمعنى واحد، وهو حرام، ويقال: خال الرجل خالا، واختال اختيالا: إذا تكبّر، وهو رجل خال؛ أي: متكبر، وصاحب خال، أي: صاحب كبر. انتهى. وقال العراقي في «شرح الترمذي» : كأنه مأخوذ من التخيّل إلى الظّنّ، وهو أن يخيّل له أنه بصفة عظيمة بلبسه لذلك اللباس أو لغير ذلك. انتهى نقله في «شرح الإحياء» . (و) اجتناب (الاستطالة) في عرض المسلم أي: وصفه بأوصاف قبيحة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 والبذخ، والفحش، والتّفحّش، ... واحتقاره والترفّع عليه، والوقيعة فيه؛ بنحو قذف أو سبّ، لأن العرض أعزّ على النّفس من المال. (و) اجتناب (البذخ) - بالموحدة المفتوحة والذال المعجمة المفتوحة، والخاء المعجمة آخره-؛ وهو تطاول الرجل بكلامه وافتخاره. (و) اجتناب (الفحش) اسم لكلّ ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة، كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع، فتتفق في حكمه آيات الله الثلاث؛ من الشرع، والعقل، والطبع. (و) اجتناب (التّفحّش) : تكلّف ذلك وتعمّده، وكلّ ذلك مذموم ومنهيّ عنه، ومصدره الخبث واللؤم في أصل الطبع، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إيّاك والفحش؛ فإنّ الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التّفحش» رواه النسائي في «سننه الكبرى» ، والحاكم وصحّحه؛ من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه ابن حبّان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم. وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء» . رواه الترمذي بإسناد صحيح؛ من حديث ابن مسعود، والحاكم وصحّحه، ورواه البخاري في «الأدب المفرد» ، وأحمد وأبو يعلى، وابن حبّان، والطبراني، والبيهقي: كلّهم؛ من حديث ابن مسعود مرفوعا. والطّعّان: هو الوقّاع في أعراض الناس بنحو ذمّ، أو غيبة. واللّعّان: الذي يكثر لعن الناس، والفاحش: ذو الفحش في كلامه وأفعاله، والبذيء الفاحش في منطقه؛ وإن كان الكلام صدقا. وعنه صلّى الله عليه وسلم: «الجنّة حرام على كلّ فاحش أن يدخلها» رواه ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد فيه لين. انتهى. شرح «الإحياء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 والحقد، ... (و) اجتناب (الحقد) وهو: الانطواء على العداوة والبغضاء وهو ثمرة الغضب ونتيجته، لأن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه؛ فصار حقدا، فيلزم قلبه حينئذ استثقاله والبغضة له والنّفار عنه. والحقد يثمر ثمانية أمور: الأول: الحسد؛ وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنّى زوال النعمة عنه، فتغتمّ بنعمة؛ إن أصابها، وتسرّ بمصيبة؛ إن نزلت به. الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فيشمت بما يصيبه من البلاء. الثالث: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه؛ وإن طلبك وأقبل عليك. الرابع: وهو دونه بأن تعرض عنه استصغارا له. الخامس: أن تتكلّم فيه بما لا يحلّ؛ من كذب، أو غيبة، وإفشاء سرّ، وهتك ستر وغيره. السادس: أن تحاكيه استهزاء وسخرية منه. السابع: إيذاؤه بالضرب؛ وما يؤلم بدنه. الثامن: أن تمنعه حقّه؛ من قضاء دين، أو صلة رحم، أو ردّ مظلمة! وكلّ ذلك حرام. وأقلّ درجات الحقد: أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة، ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن، ولا ينتهي قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تتطوّع به؛ من البشاشة والرفق والعناية، والقيام بحاجاته، والمجالسة معه على ذكر الله تعالى، والمعاونة على المنفعة له. أو بترك الدعاء له والثناء عليه، أو التحريض على برّه ومواساته، فهذا كلّه مما ينقص درجتك في الدين، ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل؛ وإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 والحسد، ... لا يعرّضك لعقاب الله تعالى. (و) اجتناب (الحسد) ؛ وهو: تمنّي زوال نعمة الغير، سواء تمنّاها لنفسه؛ أو لا، بأن تمنّى انتقالها عن غيره لغيره، وهذا أخسّ الأخسّاء، لأنه باع آخرته بدنيا غيره، بخلاف ما إذا تمنّى مثل نعمة الغير؛ فإنّه غبطة محمودة في الخير، كما ورد: «لا حسد إلّا في اثنتين» ... الحديث. ودليل تحريمه الكتاب والسنّة والإجماع. قال الله تعالى وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) [الفلق] ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب» رواه أبو داود؛ من حديث أبي هريرة، وابن ماجه؛ من حديث أنس. وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا» أخرجه الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم. وفي رواية لمسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم» ... الحديث بطوله. وقال صلّى الله عليه وسلم: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول «حالقة الشّعر» ، ولكن حالقة الدّين، والّذي نفس محمّد بيده؛ لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتّى تحابّوا، ألا أنبّئكم بما يثبّت ذلك لكم!! أفشوا السّلام بينكم» . رواه الطيالسي، وابن منيع، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذيّ، وابن أبي الدنيا، والشّاشيّ، وابن قانع، وابن عبد البرّ في «جامع العلم» ، والبيهقيّ، والضّياء المقدسي: كلّهم؛ من طريق مولى للزبير، عن الزّبير بن العوّام مرفوعا. والأحاديث الدالّة على تحريم الحسد كثيرة، وهو من «الكبائر» كما ذكره ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 والطّيرة، والبغي، ... حجر في «الزواجر» رحمه الله. (و) اجتناب (الطّيرة) - بالطاء المهملة؛ وزان عنبة- أي: التطيّر؛ وهو التّشاؤم، وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطّير وأثارتها لتستفيد: هل تمضي؛ أو ترجع؟! فنهى الشارع عن ذلك، وقال: «لا هام ولا طيرة» ، وقال: «أقرّوا الطّير في وكناتها» . أي: على مجاثمها. وقال صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث لا ينجو منهنّ أحد: الظّنّ والطّيرة والحسد، وسأحدّثكم بالمخرج من ذلك» . قالوا: أخبرنا يا رسول الله! قال: «إذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيّرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ» أخرجه ابن أبي الدنيا في «ذمّ الحسد» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفيه راويان ضعيفان. ورواه أبو الشيخ في «التوبيخ» ، والطبراني في «الكبير» ؛ من حديث حارثة بن النعمان: «ثلاث لازمات لأمّتي: سوء الظّنّ، والحسد، والطّيرة، فإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا حسدت فاستغفر الله، وإذا تطيّرت فامض» ذكره في شرح «الاحياء» . وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال: ثلاثة لم ينج منها أحد ... طيرة والظّنّ ثمّ الحسد لا تبغ لا ترجع ولا تحقّق ... وقد سلمت خذ كلام مشفق أعني كلام المصطفى الرّؤوف ... بالمؤمنين المجتبى العطوف (و) اجتناب (البغي) : التعدّي عن الحقّ، والاستطالة. قال الفرّاء في قوله تعالى وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف/ 33] : إن البغي الاستطالة على النّاس. وقال الأزهريّ: معناه الكبر، وقيل: هو الظلم والفساد. وقال الرّاغب: البغي على ضربين: أحدهما: محمود؛ وهو: تجاوز العدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 والعدوان، والظّلم. إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع. والثاني: مذموم؛ وهو: تجاوز الحقّ إلى الباطل، أو تجاوزه إلى الشّبهة، ولذلك قال الله تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [النور/ 24] . فخصّ العقوبة بمن يبغيه بغير الحق. قال: والبغي في أكثر المواضع مذموم. قال الأزهري: وأما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة/ 173] !! فغير باغ أكلها تلذّذا، وقيل: غير طالب مجاوزة قدر حاجته، وقيل: غير باغ على الإمام. وقال الرّاغب: أي غير طالب ما ليس له طلبه. قال الأزهري: ومعنى البغي قصد الفساد، وفلان يبغي على الناس؛ إذا ظلمهم وطلب أذاهم. وقال الجوهري: كلّ مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بغي. انتهى شرح «القاموس» . (و) اجتناب (العدوان) - بضمّ العين المهملة وكسرها- وهو: الظلم المجاوز للقدر، فكأنه تجاوز في الإخلال بالعدالة، ومنه قوله تعالى فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) [البقرة] ؛ أي: لا سبيل، وقيل: العدوان سوء الاعتداء؛ في قول، أو فعل، أو حال ومنه قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً [النساء] ، وقوله تعالى بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) [الشعراء] أي: معتدون. قال الراغب: الاعتداء مجاوزة الحقّ، وقد يكون على سبيل الابتداء؛ وهو المنهيّ عنه، ومنه قوله تعالى وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) [البقرة] ، وقد يكون على سبيل المجازاة. ويصحّ أن يتعاطى مع من ابتدأ، كقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 ......... مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة/ 194] أي: قابلوه بحقّ اعتدائه، سمّي بمثل اسمه!! لأن صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية. انتهى. شرح «القاموس» . (و) اجتناب (الظّلم) - بالضم-: التصرّف في ملك الغير، ومجاوزة الحدّ؛ قاله المناوي. وقال الراغب: هو- عند أكثر أهل اللغة-: وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به؛ إما بزيادة، أو نقصان، وإما بعدول عن وقته ومكانه، ويقال فيما يكثر وفيما يقلّ من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكبير، وفي الذّنب الصغير. قال بعض الحكماء: الظّلم ثلاثة: الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال عزّ وجلّ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان] . والثاني: ظلم بينه وبين الناس، وإيّاه قصد بقوله إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى/ 42] ، وبقوله وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الإسراء/ 33] . والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإيّاه قصد بقوله تعالى فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر/ 32] . وكلّ هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإنّ الإنسان أوّل ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذن الظّالم أبدا مبتدىء بنفسه في الظلم، ولهذا قال تعالى في غير موضع ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) [النحل] ، وقوله تعالى وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام/ 82] فقد قيل: هو الشرك انتهى. شرح «القاموس» . قال ابن حجر في «الزواجر» : أخرج الشيخان وغيرهما؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ......... وأخرج مسلم وغيره: «اتّقوا الظّلم، فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، اتّقوا الشّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم» . وأخرج مسلم وغيره؛ عن النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربّه عزّ وجلّ- أنّه قال: «يا عبادي؛ إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا» .. الحديث. وأخرج الطبراني: «لا تظلموا فتدعو فلا يستجاب لكم، وتستسقوا فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا» . وأخرج البخاريّ ومسلم وغيرهما أنّه صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ- لمّا بعثه إلى اليمن-: «اتّق دعوة المظلوم، فإنّها ليس بينها وبين الله حجاب» . وأخرج الشيخان وغيرهما: «إنّ الله ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» . ثمّ قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) [هود] » . وأخرج أبو الشيخ: «قال الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظّالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوما فقدر أن ينصره؛ ولم يفعل» . وأخرج البخاريّ، والترمذيّ: «انصر أخاك ظالما؛ أو مظلوما» . فقال رجل: يا رسول الله؛ أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره!؟ قال: «تحجزه- أو: تمنعه- عن الظّلم، فإنّ ذلك نصره» . وأخرج مسلم: «ولينصر الرّجل أخاه ظالما؛ أو مظلوما، فإن كان ظالما فلينهه، فإنّه له نصرة، فإن كان مظلوما فلينصره» . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى مقتطفا. وهذه الجمل التي جاءت في هذا الحديث الكلام عليها بالإسهاب يستدعي مجلّدا كاملا؛ فلنقتصر على هذا القدر من شرحها، ولنرجع إلى كلام المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 قوله وتر: (الوتر) : الثّأر. و (الذّحل) : الحقد والعداوة، والثّأر أيضا. قال أنس رضي الله عنه: فلم يدع نصيحة جميلة إلّا وقد دعانا إليها وأمرنا بها، ولم يدع غشّا- أو قال: عيبا، أو قال: شيئا- إلّا حذّرناه ونهانا عنه، ويكفي من ذلك كلّه هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] . (قوله) وكلّ ذي (وتر: الوتر) - بفتح الواو وسكون التاء المثناة-: (الثّأر. و) أما (الذّحل) - بفتح الذّال المعجمة وفتح الحاء المهملة- فهو (الحقد، والعداوة، والثّأر أيضا) يقال: طلب بذحله؛ أي: بثأره. والله أعلم. وهذا الحديث المتقدّم بطوله. قال الحافظ العراقيّ: لم أقف له على أصل!! ويغني عنه حديث معاذ الآتي بعده بحديث: (قال أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه: فلم يدع) صلى الله عليه وسلم (نصيحة جميلة؛ إلّا وقد دعانا إليها وأمرنا بها، ولم يدع غشّا- أو قال: عيبا؛ أو قال: شيئا- إلّا حذّرناه ونهانا عنه، ويكفي من ذلك كلّه هذه الآية. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [90/ النحل] الآية) . أي: اقرأ الآية. قال العراقي: لم أقف له على إسناد!! وهو صحيح من حيث الواقع. انتهى. قال في «شرح الإحياء» : والذي يظهر من سياق المصنّف أن الحديث المتقدّم هو من رواية أنس عن معاذ فتأمّل!!. وأخرج ابن النّجار في «تاريخه» ؛ من طريق الحارث العطلي؛ عن أبيه قال: مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدّثون، فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك في كتابه؛ إذ يقول. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [90/ النحل] فالعدل الإنصاف، والإحسان التفضل، فما بقي بعد هذا!؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وقال معاذ: أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معاذ؛ أوصيك باتّقاء الله، ... وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم؛ عن قتادة قال: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويعظمونه ويحبّونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وإنّما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. والله أعلم. انتهى. (وقال معاذ) أي: ابن جبل رضي الله تعالى عنه: (أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «يا معاذ؛ أوصيك باتّقاء الله) . أي: بتقوى الله التي هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيّات، فبذلك يصير العبد في وقاية من النار، ودرجة عالية مع المتقين في دار القرار. والتقوى ثلاث مراتب؛ الأولى: التوقّي من العذاب المخلّد صاحبه، وذلك بالتبرّي من الكفر، وعليه قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [26/ الفتح] فإن المراد بها «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . والثانية: التجنّب عن كلّ ما فيه لوم؛ حتّى الصغائر عند قوم، وهذا المعنى هو المعنيّ بقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) [المائدة] . والثالثة: أن يتنزّه العبد عن كلّ ما يشغل سرّه عن الحق، وهو المعنى المراد بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [102/ آل عمران] . وتقوى الله مطلوبة من العبد في كلّ حال؛ في جميع الأقوال والأفعال والحركات والسّكنات، وهي كلمة جامعة للخيرات مانعة للسيئات، وبها تنال السعادة الأبدية والكرامة الآخروية، وهي منتهى درجات السالكين ووصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ......... اتَّقُوا اللَّهَ [النساء/ 131] . وكم ترتّب عليها من كرامات ومواهب وعطيّات من ربّ البريّات!! فمن ذلك: المدحة والثناء قال تعالى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) [آل عمران] . ومن ذلك: الحفظ والوقاية من كيد الأعداء، قال تعالى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [120/ آل عمران] . ومن ذلك: النصر والتّأييد، قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [النحل] . ومن ذلك النجاة من الشدائد والرزق الحلال، قال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق] . ومن ذلك: إصلاح العمل وغفران الذنوب، قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) [الأحزاب] . ومنها محبة الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) [التوبة] . ومن ذلك: القبول، قال تعالى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) [المائدة] . ومن ذلك: الإكرام والإعزاز، قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13/ الحجرات] . فجعل الكرامة عنده بالتقوى، لا بالأنساب، ولا بالأموال، ولا بشيء آخر!!. ومن ذلك: التيسير في الأمور قال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) [الطلاق] . ومن ذلك: البشارة بكل خير في الدنيا والآخرة، قال تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وصدق الحديث، ... َ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [يونس] . ومنها: النجاة من النار، قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) [مريم] . ومنها: الخلود في الجنة، قال تعالى. وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) [آل عمران] وقال تعالى لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [15/ آل عمران] ... إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها ذكر التقوى ومدح المتقين في نحو مئة وخمسين آية، والأحاديث الواردة في وصف المتقين كثيرة. قال الإمام حجّة الإسلام الغزاليّ رحمه الله تعالى: اعلم أن التقوى كنز عزيز، فلئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وعلوّ، وعلم جسيم، وملك عظيم، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت في هذه الخصلة التي هي التقوى، وتأمّل ما في القرآن كم علّق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة!!. انتهى. وقال بعض العارفين: من أخرجه الله من ذلّ المعصية بعزّ التقوى؛ أغناه بلا مال، وأعزّه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. انتهى. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتّقين، وأن يدخلنا في عباده الصالحين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصالحين. آمين. (وصدق الحديث) ، أي: المقال. قال العلامة ابن أبي شريف في «حواشي شرح العقائد» : الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السّرّ والعلانية، والظّاهر والباطن؛ بأن لا تكذّب أحوال العبد أعماله، ولا أعماله أحواله، وجعلوا الإخلاص لازما أعمّ؛ فقالوا: كلّ صادق مخلص، وليس كلّ مخلص صادق. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ... أخرج البخاريّ، ومسلم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . ورواه بنحوه؛ من حديث ابن مسعود: أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» ، والترمذيّ، وفي أوّله عندهم: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإيّاكم والكذب ... » الحديث. (والوفاء بالعهد) ؛ أي: إذا عاهد على أمر، قال الله تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [91/ النحل] . وقال تعالى وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) [الإسراء] . وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [1/ المائدة] . أخرج البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد، والنّسائي؛ عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي رضي الله تعالى عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ؛ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . وأخرج الترمذي وغيره؛ عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «حسن العهد من الإيمان» . (وأداء الأمانة) قال الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [58/ النساء] ، وقال الله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) [الأحزاب] . وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له» رواه الإمام أحمد. وعنه صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «المؤمن من أمنه النّاس على دمائهم وأموالهم» أخرجه الحاكم وصحّحه. (وترك الخيانة) لحديث: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ... وفي الحديث: «يطبع المؤمن على الخلال كلّها إلّا الخيانة والكذب» رواه الإمام أحمد، وروى الطبراني حديث: «ناصحوا في العلم، فإنّ خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله» . (وحفظ الجار) ؛ أي: المجاور في السكن، والجمع جيران. والجار- شرعا-: ما ذكر في «باب الوصايا» بأنّه لو أوصى لجيرانه دفع لأربعين دارا من كلّ جانب من الجوانب الأربعة. وفي حفظ الجار حصول الألفة والتّوادّ الذي به نظام المعاش والمعاد. أخرج البخاريّ، ومسلم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذ جاره» . وروى الترمذيّ حديث: «أحسن إلى جارك تكن مؤمنا» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه» . رواه البخاريّ ومسلم. وقال صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» . رواه البخاريّ ومسلم. (ورحمة اليتيم) وهو: فاقد الأب ما دام صغيرا، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم. قال ابن السّكّيت: اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم. قال ابن خالويه: وفي الطير بفقدهما؛ أي: الأب والأم، لأنّهما يحضنانه ويرزقانه. انتهى. قال الله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) [الضحى] ، قال البيضاوي: أي لا تغلبه على ماله لضعفه، وقال تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) [الماعون] أي: يدفعه دفعا عنيفا، هو أبو جهل؛ أو غيره كان وصيّا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ولين الكلام، ... قال صلّى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له؛ أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنّة» . وأشار الرّاوي بالسبابة والوسطى. رواه مسلم. وقال صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ إنّي أحرّج حقّ الضّعيفين: اليتيم والمرأة» حديث حسن؛ رواه النسائي بإسناد جيّد. وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ» . رواه البخاريّ في «الأدب المفرد» وغيره، وقال صلّى الله عليه وسلم: «من لّا يرحم النّاس لا يرحمه الله» رواه البخاريّ، ومسلم. وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة إلّا رحيم» ، قيل: يا رسول الله؛ كلّنا يرحم! قال: «ليس أن يرحم أحدكم صاحبه، إنّما الرّحمة أن يرحم النّاس» . رواه البزّار. وقال صلّى الله عليه وسلم: «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. (ولين الكلام) روى الخرائطيّ، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «أتدرون على من حرّمت النّار» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: «على الهيّن اللّيّن السّهل القريب» . وفي رواية ابن مسعود: «حرّم على النّار كلّ هيّن ليّن سهل قريب من النّاس» . وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ السّهل الطّليق» رواه البيهقي في «شعب الإيمان» ، والشيرازيّ في «الألقاب» ، والدّيلميّ. وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: البرّ شيء هيّن.. وجه طليق وكلام ليّن. أخرجه ابن أبي الدنيا في «الصمت» . وقد نظم بعضهم هذا الحديث؛ فقال: بنيّ؛ إنّ البرّ شيء هيّن ... وجه طليق وكلام ليّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وبذل السّلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، ... (وبذل السّلام) أخرج البزار: «ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وبذل السّلام، والإنصاف من نفسك» . ورواه الطبراني بلفظ: «من جمعهنّ؛ فقد جمع الإيمان» . وروى مسلم: «حقّ المسلم على المسلم ستّ. إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا عطس فحمد الله فشمّته ... » الحديث. (وحسن العمل) بالإتيان بالطّاعات على الوجه الذي جاءت به السّنة المطهّرة، واجتناب المحرّمات. (وقصر الأمل) اعلم أنّ طول الأمل: استشعار طول البقاء في الدّنيا حتّى يغلب ذلك على القلب، فيأخذ في العمل بمقتضاه، وقد قال السّلف: من طال أمله ساء عمله، وذلك لأنّ طول الأمل يحمل على الحرص على الدّنيا والتشمير لعمارتها، حتى يقطع الإنسان ليله ونهاره بالتفكّر في إصلاحها وكيفية السّعي لها؛ تارة بقلبه، وتارة بالعمل في ذلك، والأخذ فيه بظاهره، فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في ذلك، وحينئذ ينسى الآخرة ويشتغل عنها، ويسوّف في العمل لها، فيكون في أمر دنياه مبادرا مشمّرا، وفي أمر آخرته مسوّفا ومقصّرا، وكان ينبغي له أن يعكس الأمر، فإنّ طول الأمل مذموم؛ وهو ينسي الآخرة، ولا بأس بقصر الأمل؛ أعني: القدر الذي لا يلهي عن الآخرة، ويتيسّر معه القيام بالمعايش التي لا غنى عنها. وفي وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» ، وفي ذلك غاية الحثّ على قصر الأمل وقلّة الرّغبة في الدنيا. فعلى العاقل أن يستشعر قرب الموت، فإنّه أقرب غائب ينتظر، لا يأتي في سنّ مخصوص، ولا في زمن مخصوص، وما يدري الإنسان لعلّه لم يبق من أجله إلا الشيء اليسير!! فلا يطيل الأمل، ويسوّف العمل، ويغافل عن الاستعداد للموت إلّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ولزوم الإيمان، والتّفقّه في القرآن، وحبّ الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح، وأنهاك أن تسبّ حكيما، أو تكذّب صادقا، أو تطيع آثما، ... أحمق مغرور. انتهى. من «الإحياء» . وقال ابن الجوزي: طول الأمل مذموم للنّاس؛ لا للعلماء، فلولا أملهم لما ألّفوا ولا صنّفوا. انتهى. (ولزوم الإيمان) بالله وصفاته، وحدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. (والتّفقّه في القرآن) بتعلم أحكام القرآن والعمل بما فيه. (وحبّ الآخرة) بالاستعداد لها بالعمل الصالح؛ قال الله تعالى وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) [الإسراء] . (والجزع) - بالجيم والزاي المفتوحتين آخره عين مهملة- أي: الحزن والخوف (من الحساب) يوم القيامة. (وخفض الجناح) - بفتح الجيم- أي: لين الجانب لعباد الله. (وأنهاك) يا معاذ (أن تسبّ حكيما) . قال ابن الأثير: الحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، فهو بمعنى مفعل، وقيل: الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم. وقال الجوهريّ: الحكم الحكمة من العلم والحكيم العالم، وصاحب الحكمة، وقد حكم ككرم؛ صار حكيما. انتهى. شرح «القاموس» . (أو تكذّب صادقا) بأن تنسب إليه الكذب؛ والحال أن الغالب عليه الصّدق. (أو تطيع آثما) ، أي: مرتكبا للإثم داعيا لك إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 أو تعصي إماما عادلا، أو تفسد أرضا. وأوصيك باتّقاء الله تعالى عند كلّ حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكلّ ذنب توبة؛ ... (أو تعصي إماما) للمسلمين (عادلا) بعدم امتثال أوامره التي هي غير معصية، أو بالخروج عليه ومحاربته، وكذا إذا كان جائرا فاسقا؛ فلا يجوز الخروج عليه إلّا إذا كفر كفرا صريحا. ولم يجز في غير محض الكفر ... خروجنا على وليّ الأمر (أو تفسد أرضا. وأوصيك باتّقاء الله تعالى عند كلّ حجر وشجر) والشجر: ماله ساق من النبات، والذي ليس له ساق يقال له: نجم. (ومدر) - بالميم والدال المهملة والمفتوحتين آخره راء- هو: الطين اليابس، أو التراب المتلبّد، والمراد من ذلك ملازمة التقوى في جميع الأحوال. وقد تقدّم الكلام على التقوى «1» . (وأن تحدث) - بضمّ أوّله- من: أحدث يحدث؛ أي تجدّد (لكلّ ذنب) أحدثته. (توبة) بالإقلاع عن الذّنب، والنّدم على ما فعل، والعزم على أن لا يعود، وردّ الظّلامة إلى صاحبها، أو التحلّل منها. قال في «منهل الوراد» : التوبة- لغة-: الرجوع؛ يقال: تاب إذا رجع. - وشرعا-: الرجوع عمّا كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه. ولها ثلاثة شروط: 1- الندم، و 2- الإقلاع، و 3- العزم على ألايعود. هذا إن لم يتعلّق بحق آدمي!! فإن تعلّق الذنب بحقّ آدمي فللتوبة إذن أربعة   (1) قبل صفحات فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ......... شروط: وهي الثلاثة المذكورة آنفا، و 4- وردّ الظّلامة إلى صاحبها، أو تحصيل البراءة منه تفصيلا عندنا- معاشر الشافعية-، وأما عند المالكية! فيكفي تحصيل البراءة إجمالا، وفيه فسحة، فإن لّم يقدر على ذلك؛ بأن كان مستغرق الذّمم؟! فالمطلوب منه الإخلاص وكثرة التضرّع إلى الله تعالى لعلّه يرضي عنه خصماءه يوم القيامة. ومن شروط التوبة: 5- صدورها قبل الغرغرة؛ وهي حالة النزع، و 6- قبل طلوع الشمس من مغربها، لأنه حينئذ يغلق باب التوبة، فتمتنع التوبة على من لم يكن تاب قبل، أي: لا تصحّ توبته. ولا تقبل حينئذ. ولا فرق في عدم صحّة التوبة في حال الغرغرة؛ عند الأشاعرة بين الكافر والمؤمن العاصي!! وأما عند الماتريدية! فلا تصحّ من الكافر في حال الغرغرة، وتصحّ من المؤمن حينئذ. والذّنوب قسمان: صغائر وكبائر، وتجب التوبة من الصّغائر كوجوبها من الكبائر. وليست الكبيرة منحصرة في عدد، وهي- كما قال ابن الصّلاح-: كلّ ذنب كبر كبرا يصحّ معه أن يطلق عليه اسم «الكبيرة» . ولها أمارات؛ منها: إيجاب الحدّ. ومنها: الإيعاد عليها بالعقاب. ومنها: وصف فاعلها بالفسق، ومنها: اللّعن؛ كلعن الله السّارق. وأكبرها: 1- الشّرك بالله، ثم 2- قتل النفس التي حرّم الله قتلها إلّا بالحقّ، وما سوى هذين منها: كالزّنا، واللّواط، وعقوق الوالدين، والسّحر، والقذف، والفرار يوم الزّحف، وأكل الربا وغير ذلك!! فمختلف أمره باختلاف الأحوال والمفاسد المترتّبة عليه، فيقال: لكلّ واحدة منه هي من أكبر الكبائر؛ كما قاله النووي رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 ......... وكلّ ما خرج عن حدّ الكبيرة وضابطها؛ فهو صغيرة. ومن الكبائر الأمر بالفساد، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، وضرب المسلم، وشتمه، وأخذ ماله بغير حق، وشهادة الزّور، وقذف المحصنات، واليمين الفاجرة، وشرب الخمر ... وغير ذلك مما بيّنه الشهاب ابن حجر رحمه الله تعالى في «الزواجر» انتهى. ملخصا. ومن الصغائر: النظر المحرّم، وكذب لا حدّ فيه، ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق الثلاث، وكثرة الخصومات؛ وإن كان محقّا إلّا أن يراعي حقّ الشرع فيها، والضّحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناسا لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن؛ أو ثوب لغير حاجة. قال الناظم رحمه الله تعالى: وتجب التّوبة من صغيرة ... في الحال كالوجوب من كبيرة ولو على ذنب سواه قد أصرّ ... لكن بها يصفو عن القلب الكدر تحقيقها إقلاعه في الحال ... وعزم ترك العود في استقبال وإن تعلّقت بحقّ آدمي ... لابّدّ من تبرئة للذّمم وواجب إعلامه إن جهلا ... فإن يغب فابعث إليه عجلا فإن يمت فهي لوارث يرى ... إن لم يكن فأعطها للفقرا مع نيّة العزم له إذا حضر ... ومعسر ينوي الأدا إذا قدر وإن تصحّ توبة وانتقضت ... بالعود لا تضرّ صحّة مضت فإن يمت من قبلها يرجى له ... مغفرة الله بأن تناله قال في «منهل الورّاد» : وعندنا- معاشر أهل السنة والجماعة- لا يكفّر مرتكب الذنب؛ صغيرة كانت أو كبيرة، عالما كان مرتكبها أو جاهلا، بشرط أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية» ) . لا يكون ذلك الذنب من المكفّرات؛ كإنكاره علم الله تعالى بالجزئيات، وإلّا كفر مرتكبه قطعا، وألايكون مستحلّا له وهو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالزنا، وإلّا! كفر مرتكبه باستحلاله لذلك، خلافا للخوارج، فالكبيرة عندهم موجبة للكفر. وعند المعتزلة موجبة للمنزلة بين المنزلتين؛ صاحبها لا مؤمن ولا كافر، وهذا في ارتكابها؛ لا عن اعتقادها، لأنّه لو اعتقد حلّ بعض المحرّمات المعلومة من الدين بالضرورة؛ كالخمر كفر بلا خلاف، فمرتكب الكبيرة مخلّد عند الفريقين، ويعذّب عند الخوارج عذاب الكفّار، وعند المعتزلة يعذّب عذاب الفسّاق. والحقّ ما عليه أهل السنّة من أن الكبيرة لا تخرج العبد من الإيمان، ولا تدخله في الكفر، ولا تخلّده في النار، ولا تحبط طاعته. ومما يردّ على المخالفين لأهل السنة في هذه المسألة: ما نطق به القرآن في مواضع؛ منها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء/ 48] ؛ أي: من جميع الذنوب الكبائر والصغائر غير الشرك، فلا ريب عند أهل الحقّ أنّ من مات موحّدا لا يخلّد في النّار؛ وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب، وقد جاءت به الأحاديث الصّحيحة؛ منها: قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن زنى وإن سرق» . وباجتناب الكبائر تغفر الصّغائر، وأما الكبائر! فلا يكفّرها إلّا التوبة الصحيحة المستحقّة للشروط المقدّم ذكرها، انتهى ملخصا. (السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية» ) . يعني: إذا أذنبت سرّا؛ فتوبتك تكون سرّا، وإذا أذنبت جهرا فتوبتك تكون جهرا، وهذا ليس بشرط، وإنّما ذلك للمناسبة بين الذنب والتوبة؛ لأنّ التوبة لا يشترط فيها الجهر والإعلان؛ كما لا يشترط فيها الإسرار، لأنها تحصل بمجرّد عقد القلب، وقد ورد في الحديث: «النّدم توبة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فهكذا أدّب عباد الله، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. وهذا الحديث الذي رواه معاذ أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «الزهد» . ذكره في شرح «الإحياء» . (فهكذا) صلى الله عليه وسلم (أدّب عباد الله؛ ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب) يعني: أنه لم يخصّ معاذا بهذه الآداب، وإنما ذاك أنموذج يدلّك على أنّه فعل مع غير معاذ كما فعل مع معاذ؛ من الدعاء إلى مكارم الأخلاق، والحثّ على محاسن الآداب، وذلك واضح بيّن في كتب السّنة المطهرة؛ من ذلك قوله لبلال: «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا» . وقوله لآخر أراد أن ينخلع من ماله كلّه: «أمسك عليك مالك، فإنّك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون النّاس» . وقال له رجل أوصني؟! فقال: «استحيي من الله كما تستحيي رجلا صالحا من قومك» . وقال له آخر: أوصني، فقال: «لا تغضب» ، فوصاياه صلّى الله عليه وسلم لأصحابه؛ وإن اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم؛ إلّا أنّها كلّها ترجع إلى مكارم الأخلاق والتأدبّ باداب الشريعة. ولم يترك صلّى الله عليه وسلم أدبا يحتاج إليه إلّا أرشد إليه أصحابه وأمّته، ولا خيرا إلّا دلّهم عليه، ولا شرّا إلّا حذّرهم منه؛ يؤيد ذلك حديث أبي هريرة «1» رضي الله عنه إذ قال له رجل: «لقد علّمكم نبيّكم كلّ شيء حتّى الخرأة ... الحديث.   (1) المشهور: سلمان!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وعن الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة- ... (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، وابن سعد، والبيهقيّ، والطبرانيّ، وذكره القاضي عياض في «الشفاء» بسنده؛ من طريق الترمذي وغيره- وهذا لفظ «الشمائل» -: (عن) أبي محمد (الحسن بن عليّ) بن أبي طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المدني. سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنة، وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، البضعة الطاهرة سيّدة نساء العالمين. ولد سنة: ثلاث من الهجرة في نصف رمضان، سمّاه النبي صلّى الله عليه وسلم الحسن، وكنّاه «أبا محمد» وعقّ عنه يوم سابعه، وهو خامس أهل الكساء «1» ، وكان شبيها برسول الله صلّى الله عليه وسلم. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث: قيل ثلاثة عشر، روت عنه عائشة رضي الله تعالى عنها، وروى عنه جماعات من التابعين؛ منهم: ابنه الحسن بن الحسن، والشعبيّ، وأبو وائل، وابن سيرين ... وآخرون. توفي بالمدينة مسموما سنة: تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، ودفن بالبقيع، وقبره فيه مشهور. (رضي الله تعالى عنه) : وعن أبويه وحشرنا في زمرتهم. آمين. (قال: سألت خالي هند بن أبي هالة) ، وإنّما كان خال الحسن!! لأنّه أخو   (1) جمعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت عباء واحد وبشّرهم فكانوا جميعا خمسة، وفيهم قيل: لي خمسة أطفي بهم ... حرّ لهيب الحاطمه المصطفى، والمرتضى ... وابناهما، والفاطمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وكان وصّافا- عن حلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا- فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخما، ... أمّه فاطمة الزّهراء من أمّها، فإنّه ابن خديجة الّتي هي أمّ السيّدة فاطمة، وذلك لأن خديجة تزوّجت أبا هالة في الجاهلية؛ فولدت له ذكرين: هندا وهالة، ثم مات، فتزوّجت عتيق بن خالد المخزوميّ، فولدت له عبد الله وبنتا. وقيل الّذي تزوّجها أوّلا عتيق، تزوّجها بعده أبو هالة، وتزوّجها بعدهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجميع أولاد النبي صلّى الله عليه وسلم منها إلّا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية- كما سيأتي-. (وكان) هند (وصّافا) ؛ أي: كثير الوصف لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ كذا قالوه. وقال الشهاب الخفاجي: وكان وصّافا؛ أي: كان فصيحا له خبرة بوصف النبي صلّى الله عليه وسلم لحذقه، أو كان معروفا بذكر صفات النبي صلّى الله عليه وسلم. قال الباجوري: وإنّما كان هند وصّافا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم!! لكونه قد أمعن النّظر في ذاته الشريفة؛ وهو صغير مثل عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، لأن كلّا منهما تربّى في حجر النبي صلّى الله عليه وسلم، والصغير يتمكّن من التأمّل وإمعان النظر، بخلاف الكبير، فإنه تمنعه المهابة والحياء من ذلك، ومن ثمّ قال بعضهم: عمدة أحاديث الشمائل تدور على هند بن أبي هالة، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما. انتهى. (عن حلية) - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام فتحتيّة-، أي: وصفه ونعته، وهو متعلّق ب «سألت» ، أي: سألته عن صفة (رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أشتهي) ؛ أي: أشتاق إلى (أن يصف لي منها) ؛ أي: من حلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم (شيئا) عظيما، فالتنوين للتّعظيم، والجملة معطوفة على جملة «وكان وصّافا ... الخ» ، والجملتان معترضتان بين السؤال والجواب، أو حاليّتان من الفاعل أو المفعول، أو الأولى من المفعول، والثانية من الفاعل. (فقال) ؛ أي: هند خال الحسن (: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخما) - بفتح الفاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ... فذكر الحديث بطوله. قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا، ثمّ حدّثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأله عمّا سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه ... وسكون الخاء المعجمة؛ أو كسرها، واقتصر بعضهم على السكون لكونه الأشهر- أي: عظيما في نفسه (مفخّما) - بتشديد الخاء المعجمة؛ بوزن مكرّما-، أي: معظّما عند الخلق لا يستطيع أحد ألايعظّمه؛ وإن حرص على ترك تعظيمه، وقيل: معنى كونه «فخما» : كونه عظيما عند الله، وكونه «مفخّما» كونه معظّما عند الناس. (يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر) ؛ أي: يشرق وجهه إشراقا مثل إشراق القمر ليلة كماله، وهي ليلة أربعة عشر، سمي «بدرا» !! لأنّه يبدر الشمس بالطلوع؛ أي: يسبق في طلوعه الشمس في غيرها. (فذكر) أي: الحسن (الحديث بطوله) - وقد تقدّم في «باب الخلق» من هذا الكتاب-. (قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا) أي: أخفيت هذه الصفات عن الحسين مدّة طويلة، وإنما كتمها عنه!! ليختبر اجتهاده في تحصيل العلم بحلية جدّه، أو لينتظر سؤاله عنها، فإنّ التعليم بعد الطّلب أثبت وأرسخ في الذهن. (ثمّ حدّثته) بما سمعته من خالي هند (فوجدته) أي: الحسين (قد سبقني إليه) أي: إلى السّؤال عنها من خاله هند (فسأله) أي: فسأل الحسين خاله (عمّا سألته عنه) من الأوصاف (ووجدته) أي: وجدت الحسين (قد) زاد عليّ في تحصيل العلم بصفة جدّه حيث (سأل أباه عن) كيفية (مدخله ومخرجه) ، كلّ منهما مصدر ميميّ؛ يصلح للزمان والمكان والحدث، والمراد هنا الزمان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وشكله، فلم يدع منه شيئا. قال الحسين: فسألت أبي عن دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: كان إذا أوى إلى منزله.. جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء؛ جزآ لله، وجزآ لأهله، ... والمعنى: أنه سأل أباه عن حاله، وصفته في زمن دخوله في البيت، وفي زمن خروجه منه. (و) عن (شكله) - بفتح أوله- أي: هيئته وطريقته، الشامل لمجلسه، فدخل في السؤال عن الشّكل السؤال عن مجلسه الآتي. (فلم يدع) ؛ أي لم يترك عليّ (منه) أي: مما سأله عنه (شيئا) ، أو لم يدع الحسين (منه) ؛ أي من السؤال عن أحواله شيئا إلّا سأل عنه. (قال الحسين) في تفصيل ما أجمله أوّلا بقوله «عن مدخله ومخرجه وشكله» . فقد روى الحسن عن أخيه الحسين ما رواه الحسين عن أبيه علي؛ فصار الحسن راويا ما تقدّم عن خاله هند بلا واسطة، وما سيأتي عن أبيه عليّ بواسطة أخيه الحسين. ففيه رواية الأقارب عن الأقارب، والصحابيّ عن الصحابي، والكبير عن الصغير. (فسألت أبي) عليّا (عن دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: عن سيرته وطريقته، وما يصنعه في زمن دخوله واستقراره في بيته. (فقال) أي: أبوه عليّ (: كان) أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم (إذا أوى) - بالمدّ والقصر؛ كما تقدّم- (إلى منزله) ؛ أي: وصل إليه واستقرّ فيه (جزّأ) أي: قسم (دخوله) ؛ أي: زمن دخوله (ثلاثة أجزاء) أي: ثلاثة أقسام. (جزآ لله) تعالى يستفرغ فيه وسعه لعبادة الله والتفكّر في مصنوعاته، (وجزآ لأهله) أي: لمؤانسة أهله ومعاشرتهم، فإنّه كان أحسن الناس عشرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وجزآ لنفسه. ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس، فيردّ بالخاصّة على العامّة، ولا يدّخر عنهم شيئا. وكان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدّين، ... (وجزآ لنفسه) أي: لنفع نفسه، فيفعل فيه ما يعود عليه بالتكميل الآخروي والدنيوي. (ثمّ جزّأ جزءه بينه وبين النّاس) ؛ أي: ثمّ قسم جزأه الذي جعله لنفسه بينه وبين جميع الناس؛ سواء من كان موجودا، ومن سيوجد بعدهم إلى يوم القيامة بواسطة التبليغ عنه. (فيردّ بالخاصّة على العامّة) ؛ أي: فيردّ ذلك الجزء الذي جعله للناس بسبب خاصّة الناس وهم أهله وأفاضل الصحابة الذين كانوا يدخلون عليه في بيته، فيأخذون عنه الأحاديث؛ ثم يبلّغونها للذين لم يدخلوا بعد خروجهم من عنده، فكان يوصل العلوم لعامّة الناس بواسطة خاصّتهم. (ولا يدّخر) - بتشديد الدال المهملة؛ كما هو الرواية- أي: لا يخفي (عنهم شيئا) من تعلّقات النصح والهداية. (وكان من سيرته) : من عادته وطريقته (في جزء الأمّة) ، أي: فيما يصنع في الجزء الذي جعله لأمّته (إيثار) أي: تفضيل (أهل الفضل) حسبا أو نسبا؛ أو سبقا أو صلاحا، أي يقدّمهم على غيرهم في الدخول عليه وإبلاغ أحواله للعامّة، أو في الحاجة كلّ ذلك إنما كان (بإذنه) لهم في ذلك. (و) كان من سيرته في ذلك الجزء أيضا (قسمه) - بالفتح؛ مصدر قسم- معطوف على «إيثار» ، أي: قسم ذلك الجزء (على قدر فضلهم) أي مراتبهم (في الدّين) من جهة الصلاح والتقوى، لا من جهة الأحساب والأنساب. قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13/ الحجرات] ، أو المراد على قدر حاجاتهم في الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج؛ فيتشاغل بهم ويشغلهم في ما يصلحهم والأمّة، من مسألتهم عنه، وإخبارهم بالّذي ينبغي لهم، ويقول: «ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ... ويلائمه قوله (فمنهم ذو الحاجة) الواحدة، (ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج) ، فإنّ هذا بيان للتفاوت في مراتب الاستحقاق، والفاء للتفصيل والمراد ب «الحوائج» المسائل المتعلّقة بالدّين. (فيتشاغل بهم) ؛ أي: فيشتغل بذوي الحاجات (ويشغلهم) - بفتح أوله مضارع؛ شغله كمنعه- (في ما) أي: الذي (يصلحهم، و) يصلح (الأمّة) ؛ من قبيل عطف العامّ على الخاصّ، سواء كان المراد أمّة الدعوة، أو أمّة الإجابة؛ والمعنى: لا يدعهم يشتغلون بما لا يعنيهم؛ بل يشغلهم بما يصلحهم ويصلح الأمة. (من) بيان ل «ما» (مسألتهم) أي: سؤالهم النبي صلّى الله عليه وسلم (عنه) أي: عما يصلحهم ويصلح الأمة، (وإخبارهم) أي: إخبار النبي إيّاهم (بالّذي ينبغي لهم) أي: بالأحكام التي تليق بهم، وبأحوالهم وزمانهم ومكانهم، والمعارف التي تسعها عقولهم. (ويقول) لهم بعد أن يفيدهم ما يصلحهم ويصلح الأمّة: ( «ليبلّغ الشّاهد) الحاضر (منكم) الآن (الغائب) عن المجلس من بقيّة الأمة حتى من سيوجد. (و) يقول لهم أيضا: ( «أبلغوني) أي: أوصلوا إليّ (حاجة من لا يستطيع إبلاغها) ، إيّاي لعذر كمرض، أو بعد، أو ضعف؛ كالنساء والعبيد والمرضى والغائبين. وهذا من كمال تواضعه صلّى الله عليه وسلم وشفقته على أمّته، واعتنائه بهدايتهم وإصلاحهم ما استطاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها.. ثبّت الله قدميه يوم القيامة» ؛ لا يذكر عنده إلّا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره. يدخلون روّادا- أي: طلّابا- ولا يفترقون إلّا عن ذواق، ... ويؤخذ من ذلك أنّه يسنّ المعاونة، والحثّ على قضاء حوائج المحتاجين. ثم رغّب في ذلك وحثّ عليه بقوله (فإنّه) أي: الحال والشأن (من أبلغ سلطانا) أي: قادرا على تنفيذ ما يبلغه؛ وإن لم يكن سلطانا حقيقة (حاجة من لا يستطيع إبلاغها) ؛ أي: من لا يقدر على إيصالها (ثبّت الله قدميه) على الصراط (يوم القيامة» ) يوم تزلّ الأقدام. دينية كانت الحاجة أو دنيوية، فإنّه لما حرّكهما في إبلاغ حاجة هذا الضعيف جوزي بثباتهما على الصراط. (لا يذكر عنده إلّا ذلك) أي: لا يحكى عنده إلّا ما ذكر مما ينفعهم في دينهم؛ أو دنياهم، دون ما لا ينفعهم في ذلك؛ كالأمور المباحة التي لا فائدة فيها، وهذا الحصر غالبي، ومنه يعرف حالة قوله (ولا يقبل) صلى الله عليه وسلم (من) كلام (أحد) شيئا (غيره) أي: غير المحتاج إليه، فهو توكيد للكلام الذي قبله (يدخلون روّادا) - بضم الراء وتشديد الواو- (أي: طلّابا) للمنافع في دينهم أو دنياهم، المكملة لعقولهم ونفوسهم، فهو جمع زائد من الرّود؛ وهو الطلب، وهو- في الأصل-: من يتقدّم القوم لينظر لهم الكلأ ومساقط الغيث، ثم استعير هنا لتقدّم أكابر الصّحب في الدخول عليه ليستفيدوا ما يصلح أمر الأمّة، ويكون سببا لوقايتهم من مهالك الجهل وغوائل الهوى. (ولا يفترقون إلّا عن ذواق) - بفتح أوله فعال؛ بمعنى مفعول؛ من الذوق- أي: مذوق طعام حسّيّ؛ على ما هو الأغلب، أو معنوي من الأدب، فإنّه يقوم لأرواحهم مقام الطعام لأجسادهم، و «عن» بمعنى «بعد» كقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) [الانشقاق] . وقال بعضهم: الأصل في الذواق الطعام، إلا أنّ العلماء كلّهم حملوه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ويخرجون أدلّة؛ يعني: على الخير. قال: فسألته عن مخرجه: كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ... العلم والخير، لأن الذوق قد يستعار؛ كما في القرآن فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [112/ النحل] أي: لا يقومون من عنده إلّا وقد استفادوا علما جزيلا وخيرا كثيرا. (ويخرجون) من عنده (أدلّة) قال القسطلّاني: الرواية المشهورة الصحيحة بدال مهملة، جمع دليل أي: علماء يدلّون الناس. (يعني على) ما علموه من (الخير) ، ولهذا قال: «أصحابي كالنّجوم» . وقال الكازروني: أذلّة- بالمعجمة؛ من الذل-: التواضع، ومعناه: متواضعون يخضع بعضهم لبعض لأجل الموعظة التي يسمعون، والقرآن الذي يتلون. وهو حسن لو ساعدته الرواية؛ لكنه لا يناسب قوله «يعني على الخير» . (قال) أي: الحسين: (فسألته) ؛ أي: أبي (عن مخرجه) أي: عن سيرته وطريقته في زمن خروجه من البيت (: كيف كان يصنع فيه؟! قال) أي: عليّ رضي الله عنه. (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخزن) - بضم الزاي وكسرها، أي: يحبس ويضبط- (لسانه إلّا فيما يعنيه) - بفتح المثناة التحتية- أي: يهمّه مما ينفع دينيا؛ أو دنيويا، فكان كثير الصمت إلّا فيما يعني، كيف وقد قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» ؟!. (ويؤلّفهم) - بفتح الهمزة وتشديد اللام؛ من الألفة- أي: يؤلّف بينهم حتّى يجعلهم كنفس واحدة؛ بحيث لا يبقى بينهم تباغض بوجه، أو يجعلهم آلفين له مقبلين عليه بحاسيّتهم بحسن الخلق معهم وملاطفتهم. (ولا ينفّرهم) - بتشديد الفاء- أي: لا يفعل بهم ما يكون سببا لنفرتهم، لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر النّاس ويحترس منهم؛ من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عمّا في النّاس، ... عنده من العفو والصفح والرأفة بهم. (ويكرم كريم كلّ قوم) أي: يعظّم أفضل كلّ قوم بما يناسبه من التعظيم. (ويولّيه) أي: يجعله واليا: أي حاكما (عليهم) وأميرا فيهم، لأن القوم أطوع لكبيرهم مع ما فيه من الكرم الموجب للرفق بهم. وهذا من تمام حسن نظره وعظيم تدبيره. (ويحذر النّاس) - بفتح الياء وخفة الذال؛ كيعلم، وعليه أكثر الرّواة- أي: يحترز من الناس، لأنه لم يكن مغفّلا. (ويحترس منهم) أي: يتحفّظ من كثرة مخالطتهم المؤدّية إلى سقوط هيبته وجلالته من قلوبهم، لكن لا يفرط في ذلك؛ بل يحترس (من غير أن يطوي) - بكسر الواو- (عن أحد منهم) من الناس (بشره) - بكسر الموحّدة وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة وجهه وبشاشة بشرته (ولا خلقه) - بضمتين- أي: من غير أن يمنع عن أحد من الناس طلاقة وجهه ولا حسن خلقه. (ويتفقّد أصحابه) أي: يسأل عنهم حال غيبتهم، فإن كان أحد منهم مريضا عاده، أو مسافرا دعا له، أو ميتا استغفر له، وذلك من مكارم الأخلاق كما قيل ... ومن عادة السّادات أن يتفقّدوا ... أصاغرهم والمكرمات عوائد (ويسأل النّاس) أي: يسأل خاصّة أصحابه (عمّا) وقع (في النّاس) ؛ ليدفع ظلم الظالم، وينتصر للمظلوم، ويقوّي جانب الضعيف. وليس المراد أنّه يتجسّس عن عيوبهم ويتفحّص عن ذنوبهم. ويؤخذ منه أنّه ينبغي للحكّام أن يسألوا عن أحوال الرعايا، وكذلك الفقهاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ويحسّن الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهّيه، معتدل الأمر غير مختلف، ... والصلحاء، والأكابر الذين لهم أتباع؛ فلا يغافلون عن السؤال عن أحوال أتباعهم، لئلا يترتّب على الإهمال مضارّ يعسر دفعها. (ويحسّن) - بتشديد السين المهملة؛ من التحسين- أي: يصف الشيء (الحسن) بمعنى أنّه يظهر حسنه بمدحه؛ أو مدح فاعله (ويقوّيه) ؛ من التقوية أي: يظهر قوّته بدليل معقول أو منقول. (ويقبّح) - بتشديد الموحّدة؛ من التقبيح- أي: يصف الشيء (القبيح) بالقبح، بمعنى أنّه يظهر قبحه بذمّه أو ذمّ فاعله، ولا يبالي به؛ وإن عظم قدره وتناهى جاهه. (ويوهّيه) - بتشديد الهاء- أي: يجعله واهيا ضعيفا بالمنع والزجر عنه. وبين «الحسن» و «القبيح» ، و «يقوّيه» و «يوهّيه» من أنواع البديع الطّباق. (معتدل الأمر) : مستويه، والأمر الشأن، أو هو ضدّ النهي، يعني: لا يأمر بما لا يطاق (غير مختلف) هو إلى الإطناب أقرب، إذ «معتدل الأمر» يغني عنه، لكن هذا مقام مدح؛ والإطناب يليق به. وحاصل المعنى: أنّ سائر أفعاله وأقواله على سنن الاستواء والاعتدال، وهي مع ذلك مصونة عن أن يصدر فيها منه أشياء متخالفة المحامل؛ متباينة الأواخر والأوائل. والرواية في كلّ من هاتين الكلمتين بالرفع؛ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ مع أن ظاهر السياق النصب على أنّه معطوف على خبر «كان» بحذف حرف العطف، أي: وكان معتدل الأمر غير مختلف. ولعل وجه الرفع: أن كونه معتدل الأمر غير مختلف من الأمور اللازمة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لكلّ حال عنده عتاد- أي: شيء معدّ ومهيّأ- لا يقصّر عن الحقّ ولا يجاوزه، الّذين يلونه من النّاس خيارهم، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، ... لا تنفكّ عنه أبدا!!. والرفع- على أنّ ذلك خبر مبتدأ محذوف- يقتضي أن يكون الكلام جملة اسمية، وهي تفيد الدوام والاستمرار. (لا يغافل) عن تذكيرهم وتعليمهم وإرشادهم ونصحهم (مخافة) ؛ مفعول من أجله (أن يغافلوا) عن استفادة أحواله وأفعاله، (أو يميلوا) إلى الدّعة والراحة، أو يميلوا عنه وينفروا منه كما هو شأن المسلّكين، فإنّهم لا يغافلون عن إرشاد تلامذتهم؛ مخافة أن يغافلوا عن الأخذ عنهم، أو يميلوا إلى الكسل والرفاهية. (لكلّ حال) من أحواله وأحوال غيره (عنده عتاد) - بفتح العين المهملة ومثنّاة فوقية؛ كسحاب- (أي شيء معدّ) له (ومهيّأ) ، فكان يعدّ للأمور أشكالها ونظائرها كالة الحرب وغيرها. (لا يقصّر) ؛ من التقصير، أو القصور (عن الحقّ) أي: عن استيفائه لصاحبه؛ أو عن بيانه، (ولا يجاوزه) ؛ أي: لا يأخذ أكثر منه. (الّذين يلونه من النّاس) ؛ أي: الذين يقربون منه في المجلس لاكتساب الفوائد ونشرها وتعليمها (خيارهم) ؛ لأنهم الذين يصلحون لاستفادة العلوم وتعلّمها، ومن ثمّ قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم» . وينبغي للعالم في درسه أن يجعل الذين يقربون منه خيار طلبته، لأنّهم هم الذين يوثق بهم علما وفهما. (أفضلهم عنده أعمّهم) ؛ أي: أفضل الناس عنده صلّى الله عليه وسلم أكثرهم (نصيحة) للمسلمين في الدين والدنيا، فإنّه ورد: «الدّين النّصيحة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. قال: فسألته عن مجلسه. فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقوم ولا يجلس إلّا على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم.. جلس حيث ينتهي به ... (وأعظمهم عنده منزلة) ؛ أي: مرتبة (أحسنهم مواساة) ؛ وإحسانا للمحتاجين بالنفس والمال؛ ولو مع احتياج أنفسهم، لقوله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [90/ الحشر] (ومؤازرة) أي: معاونة لإخوانهم في مهمات الأمور؛ من البر والتقوى، لقوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] . وإنما قسم مدخله دون مخرجه؛ مع أنه ينقسم أيضا ثلاثة أجزاء: 1- قسم لله؛ وهو وقت الصلاة والتعليم، و 2- قسم لنفسه؛ وهو: ما تدعو إليه ضرورته. و 3- قسم للناس؛ وهو: السعي في حوائجهم!! لأنهم يعلمون حاله في خروجه؛ فلم يحتج لتقسيمه. (قال) أي الحسين (: فسألته) أي عليا (عن مجلسه) ؛ أي عن أحواله صلّى الله عليه وسلم في وقت جلوسه: (فقال) أي عليّ: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يقوم) من مجلسه (ولا يجلس) فيه؛ (إلّا على ذكر) أي: إلّا في حال تلبّسه بالذكر لله تعالى، «فعلى» للملابسة، وهي مع مدخولها في محلّ نصب على الحال. ويؤخذ منه ندب الذكر عند القيام وعند القعود. والأصل في مشروعيّة ذلك قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [191/ آل عمران] والمقصود من ذلك تعميم الأحوال. وبالجملة فالذكر أعظم العبادات، لقوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [45/ العنكبوت] . (وإذا انتهى) أي: وصل (إلى قوم) جالسين (جلس حيث ينتهي به) صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كلّ جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه. (المجلس) أي: يجلس في أيّ مكان يلقاه خاليا، ولا يترفّع على أصحابه لمزيد تواضعه ومكارم أخلاقه، حيث لم يتكلّف خطوة زائدة على الحاجة لحظّ نفسه حتى يجلس في صدر المجلس. ولأن القصد من قطع الطريق وتعب المشي للبلوغ والوصول إلى القوم، فإذا وصل إلى أوّلهم كان المشي بعد ذلك عبثا وتكبّرا لا يليق بحال العاقل؛ فضلا عن الفاضل؛ فضلا عن أفضل الناس!! (ويأمر بذلك) أي: بالجلوس حيث ينتهي به المجلس؛ إعراضا عن رعونة النفس وأغراضها الفاسدة. وقد ورد أمره بذلك فيما رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ؛ عن شيبة بن عثمان مرفوعا: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس؛ فإن وسّع له فليجلس، وإلّا فلينظر إلى أوسع مكان يراه؛ فليجلس فيه» . وبالجملة فقد ثبت مشروعية ذلك فعلا وأمرا. (يعطي كلّ) واحد من (جلسائه بنصيبه) ، أي: شيئا بقدر نصيبه؛ أي: حظّه من البشر والطلاقة والكرامة والتعليم والتفهيم؛ بحسب ما يليق به، فالمفعول الثاني مقدّر. وقيل: إن الباء زائدة في «بنصيبه» الذي هو المفعول الثاني للتأكيد. (لا يحسب) - بفتح السين وكسره؛ أي: لا يظنّ- (جليسه) الإضافة للجنس؛ فيشمل كلّ واحد من مجالسيه (أنّ أحدا) من أمثاله وأقرانه (أكرم عليه) صلى الله عليه وسلم (منه) ؛ أي: من نفسه. وذلك لكمال خلقه وحسن معاشرته لأصحابه، فكان يظنّ كلّ واحد منهم أنّه أقرب من غيره إليه، وأحبّ الناس عنده، لما تبيّن له من عظيم بشره وتقريبه. وهذا هو الكمال الأعظم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 من جالسه أو فاوضه في حاجة.. صابره حتّى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة.. لم يردّه إلّا بها أو بميسور من القول. قد وسع النّاس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا ... (من جالسه) أي: جلس معه، (أو فاوضه) ؛ أي: شرع معه في الكلام في مشاورة أو مراجعة (في حاجة) له، و «أو» للتنويع؛ خلافا لمن جعلها للشكّ. (صابره) ؛ أي: غلبه في الصبر على المجالسة، أو المكالمة فلا يبادر بالقيام من المجلس، ولا يقطع الكلام، ولا يظهر الملل والسامة، بل يستمرّ معه (حتّى يكون) أي: المجالس؛ أو المفاوض (هو المنصرف عنه) صلى الله عليه وسلم، لمبالغته في الصبر معه. (ومن سأله) صلى الله عليه وسلم أيّ إنسان كان (حاجة) أيّة حاجة كانت؛ (لم يردّه) أي: السائل (إلّا بها) إن تيسّرت عنده، (أو بميسور من القول) ؛ إن لم تتيسر لفقد؛ أو مانع يقتضيه. وهذه قضية مانعة خلوّ؛ أي: لا يخلو حاله حين يسأل من إعطاء المسؤول، أو الرّد بسهولة ولين قوله، ليكون ذلك مسلاة له عن حاجته. وهذا من كمال سخائه ومروءته وحيائه. وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) [الإسراء] ومن ذلك الميسور أن يعد السائل بعطاء إذا جاءه شيء؛ كما وقع له مع كثيرين، ولذلك قال الصدّيق رضي الله تعالى عنه- بعد استخلافه؛ وقد جاءه مال-: من كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم عدة فليأتنا، فأتوه فوفّاهم. (قد وسع) - بكسر السين؛ أي: عمّ- (النّاس) أجمعين حتّى المنافقين (بسطه) أي: بشره وطلاقة وجهه (وخلقه) أي: حسن خلقه الكريم، لكونه صلّى الله عليه وسلم يلاطف كلّ واحد بما يناسبه، (فصار لهم) أي: للناس (أبا) في الشفقة والرحمة، وأعظم من أب، إذ غاية الأب أن يسعى في صلاح الظاهر؛ وهو صلّى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وصاروا عنده في الحقّ سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، يسعى في صلاح الظاهر والباطن. (وصاروا عنده في الحقّ سواء) أي: مستوين في الحقّ لسلامته من الأغراض النفسانية الحاملة للإنسان على اتباع هواه، فالبعيد عن الحقّ والطالب له عنده سواء فيوصل بكلّ إنسان منهم ما يستحقّه ويليق به، ولا يطمع أحد منهم أن يتميّز على أحد عنده لكمال عدله. (مجلسه مجلس حلم) - بكسر الحاء واللام؛ أي: منه عليهم. وفي نسخة من «الشمائل» : علم؛ بدل: حلم، أي: يفيدهم إيّاه، كما قال تعالى وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [129/ البقرة] . (وحياء) أي: منهم، فكانوا يجلسون معه على غاية من الأدب؛ كأنّما على رؤوسهم الطير. (وصبر) أي: منه صلّى الله عليه وسلم على جفوتهم، لقوله تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] . (وأمانة) أي: منهم على ما يقع في المجلس من الأسرار، والمراد أنّ مجلسه مجلس كمال هذه الأمور، لأنه مجلس تذكير بالله تعالى، وترغيب فيما عنده من الثواب، وترهيب مما عنده من العقاب فترقّ قلوبهم، فيزهدون في الدنيا ويرغبون في الآخرة. (لا ترفع) البناء للمفعول (فيه) أي: في مجلسه (الأصوات) ؛ أي: لا يرفع أحد من أصحابه صوته في مجلسه صلّى الله عليه وسلم إلّا لمجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ وما أشبه ذلك، لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [2/ الحجرات] صلى الله عليه وسلم، فكانوا رضي الله عنه [م] على غاية من الأدب في مجلسه، بخلاف كثير من طلبة العلم، فإنّهم يرفعون أصواتهم في الدروس؛ إما لرياء، أو بعد فهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ولا تؤبن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته. متعادلين، بل كانوا يتفاضلون فيه بالتّقوى، متواضعين، ... (ولا تؤبن) - بضم التاء وسكون الهمزة، ويجوز إبدالها واوا وفتح الموحدة المخففة وتشدّد أيضا، وآخره نون- من الأبن- بفتح الهمزة- وهو العيب؛ أي: لا تعاب (فيه) أي: في مجلسه صلّى الله عليه وسلم (الحرم) - بضم الحاء وفتح الراء، وبضمّها- جمع حرمة؛ وهي: ما يحترم ويحمى من أهل الرجل. والمعنى: لا تعاب فيه حرم الناس بقذف؛ ولا غيبة ونحوها، بل مجلسه مصون عن كلّ قول قبيح. (ولا تنثى) - بضمّ أوّله وسكون النون، وفتح المثلاثة- من «نثا الحديث» : حدّث به وأشاعه، أي: لا تشاع ولا تذاع (فلتاته) - بفتح الفاء واللام- أي: هفوات مجلسه، فالضمير للمجلس، والفلتات جمع فلتة؛ وهي: الهفوة، فإذا حصل من بعض حاضريه هفوة لا تشاع ولا تذاع، ولا تنقل عن المجلس، بل تستر على صاحبها إذا صدرت منه؛ على خلاف عادته وطبعه. هذا ما يعطيه ظاهر العبارة!! والأولى جعل النفي منصبّا على الفلتات نفسها، لا وصفها؛ من الإشاعة والإذاعة. فالمعنى: لا فلتات فيه أصلا، فلم يكن شيء منها في مجلسه صلّى الله عليه وسلم، وليس منها ما يصدر من أجلاف العرب؛ كقول بعضهم «أعطني من مال الله؛ لا من مال أبيك وجدّك» ، بل ذاك دأبهم وعاداتهم. (متعادلين) أي: كانوا متعادلين، فهو خبر «كان» مقدّرة. والمعنى أنّهم كانوا متساوين، فلا يتكبّر بعضهم على بعض، ولا يفتخر عليه بحسب أو نسب. (بل كانوا يتفاضلون) أي: يفضل بعضهم على بعض (فيه) أي: في مجلسه صلّى الله عليه وسلم (بالتّقوى) علما وعملا، (متواضعين) حال من الواو في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 يوقّرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصّغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يمضي له وقت في غير عمل لله عزّ وجلّ، أو فيما لا بدّ له من صلاح نفسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس خلقا. «يتفاضلون» أي: حال كونهم متواضعين (يوقّرون) أي: يعظّمون (فيه) أي: في مجلسه صلّى الله عليه وسلم (الكبير) - بفتح الكاف- (يرحمون فيه الصّغير) - بفتح الصّاد وكسرها- لما ورد: «ليس منّا من لّم يرحم صغيرنا، ولم يوقّر كبيرنا» رواه الترمذي في «جامعه» ؛ عن أنس. (ويؤثرون ذا الحاجة) أي: يقدّمونه على أنفسهم في تقريبه للنبي صلّى الله عليه وسلم ليقضي حاجته منه. (ويحفظون الغريب) . يحتمل أنّ المراد الغريب من الناس- كما هو المتبادر- فالمعنى يحفظون حقّه وإكرامه لغربته، ويحتمل أنّ المراد الغريب من المسائل، فالمعنى يحفظونه بالضبط والإتقان؛ خوفا من الضياع. (و) في كتاب «الإحياء» و «كشف الغمة» للشعراني: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يمضي له وقت في غير عمل لله عزّ وجلّ، أو فيما لا بدّ له من صلاح نفسه) . وهذا مستفاد مما سبق في الحديث أنّه جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزآ لله، وجزآ لأهله، وجزآ لنفسه، كما جزّأ خروجه ثلاثة أجزاء: لله؛ وهو وقت الصلاة والتعليم، وجزآ لنفسه؛ وهو ما تدعو إليه ضرورته، وجزآ للناس؛ وهو السعي في حوائجهم. (و) أخرج مسلم- واللفظ له؛ من حديث طويل- والترمذيّ؛ عن أنس بن مالك قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم أحسن) - ورواية الترمذي: من أحسن- (النّاس خلقا) - بضمتين- لحيازته جميع المحاسن والمكارم وتكاملها فيه. ولما اجتمع فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وكان صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق. وعرّفوا (حسن الخلق) بأنّه: مخالطة النّاس بالجميل، والبشر، واللّطافة، وتحمّل الأذى، والإشفاق عليهم، والحلم «1» ، والصّبر، وترك التّرفّع والاستطالة عليهم، وتجنّب الغلظة والغضب والمؤاخذة. من خصال الكمال وصفات الجلال والجمال ما لا يحصره حدّ، ولا يحيط به عدّ؛ أثنى الله عليه به في كتابه بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم] . (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم دائم البشر) - بكسر الموحّدة وسكون الشين- أي: طلاقة الوجه وبشاشته ظاهرا مع الناس، فلا ينافي أنّه كان متواصل الأحزان باطنا؛ اهتماما بأهوال الآخرة؛ خوفا على أمّته. (سهل الخلق) - بضمّتين- أي: ليّنه ليس بصعبه، ولا خشنه، فلا يصدر عنه ما يكون فيه إيذاء لغيره بغير حقّ. قال الباجوريّ في «حاشية الشمائل» : (وعرّفوا حسن الخلق بأنّه مخالطة النّاس بالجميل) ؛ قولا وفعلا، (والبشر) : طلاقة الوجه، (واللّطافة) : اللّين (وتحمّل الأذى) منهم؛ (والإشفاق) أي: الخوف (عليهم) ممّا قد يضرّهم، ( [والحلم] ) - بكسر الحاء- وهو: ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب. وفي معناه من قال: «هو احتمال الأعلى الأذى من الأدنى» . (والصّبر) عليهم، (وترك التّرفّع) عليهم، (و) ترك (الاستطالة عليهم) في إعراضهم، (وتجنّب الغلظة) ؛ أي: الخشونة في القول، (و) تجنّب (الغضب) أي: أسبابه المهيّجة له، (و) تجنّب (المؤاخذة) عن مستحقّها بجناية.   (1) في «وسائل الوصول» : التّحمّل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وعن عليّ كرّم الله وجهه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس كفّا، وأوسع النّاس صدرا، وأصدق النّاس لهجة، وأوفاهم ذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من رآه بديهة.. هابه، ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله. (و) في «الإحياء» ؛ (عن عليّ) رضي الله تعالى عنه و (كرّم الله وجهه) في الجنة قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجود النّاس كفّا) أي: بذلا للمعروف، (وأوسع النّاس صدرا) أي: قلبا قد وسع الناس بسطه وخلقه، (وأصدق النّاس لهجة) - بفتحتين أي: بفتح فسكون- أي: لسانا، أي كان لسانه صلّى الله عليه وسلم أصدق الألسنة، إذ هو أفصح الخلق، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا. كان حسن كلامه يأخذ بمجامع القلوب. (وأوفاهم ذمّة) أي: عهدا (وألينهم عريكة) أي: طبيعة، فهو مع الناس على غاية من السلامة والمطاوعة، وقلّة الخلاف والنفور، (وأكرمهم عشرة) - بكسر العين المهملة-: اختلاطا وصحبة. (من رآه بديهة) أي: فجأة من غير قصد (هابه) أي: أخذته الهيبة لما كان يظهر عليه من عظم الجلالة والمهابة والوقار. (ومن خالطه معرفة أحبّه) ، لكمال حسن عشرته وباهر عظيم تألّفه. (يقول ناعته) أي واصفه (: لم أر قبله ولا بعده مثله) صلى الله عليه وسلم، للزوم هذا الوصف له وظهوره عند من له أدنى بصيرة، فلما لم يخف كان كلّ واصف ملزوما بأن هذا القول يصدر عنه؛ وإن لم يصدر عنه التصريح به غفلة وذهولا. فالرؤية هنا علميّة، أي: لم أعلم به مماثلا في وصف من أوصاف الكمال. قال العراقي: رواه الترمذي وقال: ليس إسناده بمتّصل، أي: وفيه مخالفة يسيرة لما في الترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم النّاس، وأورع النّاس، ... (و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى: (عن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعلم النّاس وأورع النّاس) الورع: هو اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات، فتركه الريبة في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام إلى يقين الحلّ هو الورع المحمود، العميم النفع، العظيم الجدوى في الدنيا والآخرى. قال في «منهل الورّاد» : الورع عامّ وخاصّ، فالعامّ: هو التورّع عما يوجب الفسق، وذلك ما يحرّمه الفقهاء. وأما ورع الخاصّة! فهو على ثلاث درجات. الأولى: ورع الصالحين المشار إليه بقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وهو الحذر عما يطرق إليه احتمال التحريم، وإن أفتى المفتي بحلّه بناء على الظاهر، لأنّ مطمح الفقيه إلى ظاهر الأمر، كمن أساء معاشرة زوجته حتّى تبرئه من المهر، فيفتي المفتي الفقيه أن الإبراء صحيح، مع أنّه لا يحلّ للمبرىء المهر بينه وبين الله تعالى. الثانية: ورع المتقين المشار إليه بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به بأس» . قال المناوي: أن يترك فضول الحلال؛ حذرا من الوقوع في الحرام. ومن هذا القبيل ترك النظر إلى تجمّل أهل الدنيا، فإنّه يحرّك داعية الرغبة فيها. الثالثة: ورع الصديقين؛ وهو صحّة اليقين وكمال التعلّق بربّ العالمين، وعكوف الهمّة عليه، وهذه رتبة قوم عدّوا كلّ ما لم يكن لله عدّوه حراما، فاجتنبوا كلّ ما لا يراد بتناوله القوّة على طاعة الله تعالى. وهؤلاء قد ذهب معظمهم، لا يكاد يوجد أحد منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وأزهد النّاس، ... فالفالح في زماننا: من كان ورعه ورع العدول غير مشدّد على نفسه بقوله «أموال الدنيا كلها حرام لكثرة الأيدي الغاصبة والمعاملات الفاسدة» . أي: فهذا مشدّد على نفسه، بل يراجع القلب مسترشدا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «الإثم ما حاك في الصّدر وتردّد في القلب» . وقوله صلّى الله عليه وسلم: «استفت قلبك؛ وإن أفتاك النّاس وأفتوك» . إذ الإنسان غير متعبّد بما هو في نفس الأمر حلال، بل بما هو في اعتقاده أنّه حلال إلّا إن بان له شيء ظاهر في تحريمه. وهذا باب واسع. وقد أجاد بالتفصيل فيه الإمام الغزاليّ جزاه الله خيرا عن الإسلام، ورزقنا التوفيق وحسن الختام. (وأزهد النّاس) الزهد: هو ترك فضول الحلال. أو هو بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: هو ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة. وقال سيدنا الحبيب عبد الله بن علوي الحدّاد في «النصائح» : حقيقة الزهد خروج حبّ الدنيا والرغبة فيها من القلب، وهوان الدنيا على العبد؛ حتّى يكون إدبارها وقلّة الشيء منها أحبّ إليه من ضدّه! وهذا من حيث الباطن، وفي الظاهر يكون منزويا عنها ومتجافيا؛ اختيارا؛ مع القدرة عليها ويكون مقتصرا من سائر أمتعتها- مأكلا؛ وملبسا؛ ومسكنا وغير ذلك- على ما لا بدّ منه دون النعم والتمتع بشهواتها، انتهى. وقال في «منهل الورّاد» : الزهد خلاف الرغبة: لغة، يقال «زهد في الشيء وعنه» ؛ أي: لم يرغب فيه. وحقيقة: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وفضل الزهد شهير، قال الله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا الآية إلى قوله وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) [131- 132/ طه] . والزهد على قسمين: زهد في الدنيا: لأنها تلهي عن الله، وعن خدمته، وعن الأعمال الصالحة؛ مع أنها لا تصفو لصاحبها، بل لا يزال صاحبها في عناء ومحن وبلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وأكرم النّاس، وأعدل النّاس، وأحلم النّاس، وأعفّ النّاس، لم تمسّ يده يد امرأة لا يملك رقّها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه صلّى الله عليه وسلّم. وزهد فيما في أيدي الناس قال صلّى الله عليه وسلم: «ازهد في الدّنيا يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس يحبّك النّاس» . ثم إن للزهد درجات: فزهد في الحرام والشبهة؛ وهو في معنى التقوى، وزهد فيما زاد على الحاجة. ومن فوائد الزهد أنّ فيه فراغا للروح والبدن بالطاعة، والرغبة فيها، والتجنّب عن الشبهات. انتهى ملخصا من «منهل الوراد» . (وأكرم النّاس) روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: كان صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس، وأشجع الناس، وأجود النّاس. وسيأتي قريبا. (و) كان صلّى الله عليه وسلم (أعدل النّاس) قد تقدّم في حديث عليّ الطويل قوله «وصار ما عنده في الحقّ سواء ... الحديث» . ومعنى «أعدل الناس» أي: أكثرهم عدلا. (و) كان صلّى الله عليه وسلم (أحلم النّاس) . قال العراقي: رواه أبو الشيخ في «كتاب الأخلاق» ؛ من رواية عبد الرحمن بن أبزى: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحلم الناس ... الحديث. وهو مرسل. انتهى. وسيأتي حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة، من أحبار اليهود. قال الواسطي لما سئل: لأي شيء كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحلم النّاس؟! قال: لأنه خلق روحه أوّلا؛ فوقع له صحّة التمكين والاستقرار. (و) كان صلّى الله عليه وسلم (أعفّ النّاس) أي: أكثرهم عفّة، وهي- بالكسر- حصول حالة للنفس يمتنع بها عن غلبة الشهوة، ولذلك قال: (لم تمسّ يده يد امرأة لا يملك رقّها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه صلّى الله عليه وسلم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وعن أنس أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس، وأجود النّاس، وأشجع النّاس. قال العراقي: رواه الشيخان؛ من حديث عائشة: ما مسّت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يد امرأة إلّا امرأة يملكها. انتهى. وأخرجه الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود بألفاظ مختلفة؛ عن عائشة رضي الله عنها. والمفهوم من هذه الأحاديث أنّه صلّى الله عليه وسلم لم تمسّ يده قطّ يد امرأة غير زوجاته، وما ملكت يمينه؛ لا في مبايعة ولا في غيرها، وإذا هو لم يفعل ذلك مع عصمته وانتفاء الرّيبة في حقّه، فغيره أولى بذلك؛ قاله في «شرح الإحياء» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه من حديث طويل؛ (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس) صورة وسيرة. (وأجود النّاس) بكلّ ما ينفع، كما أنّه أكملهم في سائر الأوصاف، فكان جوده يجمع أنواع الجود؛ من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكلّ طريق؛ من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم. وكان جوده صلّى الله عليه وسلم كلّه لله تعالى، وفي ابتغاء مرضاته. (وأشجع النّاس) أي: أقواهم قلبا، وأجرأهم في حال البأس، فكان الشجاع منهم الّذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولّى قطّ منهزما، ولا تحدّث عنه بفرار، وقد ثبتت أشجعيّته بالتواتر النقلي. قال السيوطي: بل يؤخذ ذلك من النصّ القرآني كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ [73/ التوبة] فكلّفه وهو فرد جهاد الكلّ؛ ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وكان صلّى الله عليه وسلّم أرأف النّاس بالنّاس، وأنفع النّاس للنّاس، وخير النّاس للنّاس. وكان صلّى الله عليه وسلّم أصبر النّاس على أقذار النّاس. وعن خارجة بن زيد بن ثابت ... وُسْعَها [286/ البقرة] ولا ضير في كون المراد هو ومن معه، إذ غايته أنه قوبل بالجمع، وذلك مفيد للمقصود. انتهى «مناوي» . (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم أرأف النّاس بالنّاس، وأنفع النّاس للنّاس، وخير النّاس للنّاس) هذا من المعلوم. قال في «شرح الإحياء» : روينا في الجزء الأول من «فوائد أبي الدحداح» ؛ من حديث علي رضي الله تعالى عنه- في صفة النبي صلّى الله عليه وسلم-: كان أرحم النّاس بالناس. الحديث. بطوله. انتهى. (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن إسماعيل بن عيّاش بن سليم العنسي الشامي مرسلا؛ قال في العزيزي: وهو صحيح. قال: (كان صلّى الله عليه وسلم أصبر النّاس) أي: أكثرهم صبرا (على أقذار النّاس) ؛ أي: ما يكون من قبيح فعلهم وسيّء قولهم، لأنه لانشراح صدره يتّسع لما تضيق عنه صدور العامّة، فكانت مساوىء أخلاقهم ومدانىء أفعالهم وسوء مسيرهم وقبح سيرتهم في جنب سعة صدره؛ كقطرة دم في قاموس اليمّ، وفيه شرف الصبر. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» بسنده (عن) أبي زيد (خارجة بن زيد بن ثابت) بن الضّحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النّجّار الأنصاري النّجّاري المدني التابعي. كان إماما بارعا في العلم، اتفقوا على توثيقه وجلالته، أدرك عثمان، وسمع أباه زيدا وعمّه يزيد، وأمّ العلاء الأنصاريّة، وأسامة بن زيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 قال: دخل نفر على زيد بن ثابت ... روى عنه سالم بن عبد الله والزّهريّ ويزيد بن عبد الله بن قسيط، وأبو الزناد وآخرون. وهو أحد فقهاء المدينة السبعة الذين هم: 1- سعيد بن المسيب، و 2- عروة بن الزبير، و 3- القاسم بن محمد، و 4- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، و 5- خارجة بن زيد، و 6- سليمان بن يسار. وفي السابع ثلاثة أقوال؛ فقيل: 7- سالم بن عبد الله بن عمر، وقيل: 7- أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: 7- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وعلى هذا جمعهم الشاعر في قوله: ألا كلّ من لّا يقتدي بأئمّة ... فقسمته ضيزى عن الحقّ خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه توفي بالمدينة المنورة سنة: مائة، وقيل: سنة تسع وتسعين، وهو ابن سبعين سنة- بتقديم السين-. خرّج له الجماعة رحمه الله تعالى. (قال دخل نفر) - بفتحتين-: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ بل من معناه؛ وهو رجل. (على زيد بن ثابت) بن الضحاك الأنصاريّ. الصحابيّ المشهور المدني. الفرضي الكاتب «كاتب الوحي والمصحف والمراسلات» . أحد الأربعة الذين حافظوا القرآن على عهد المصطفى [صلى الله عليه وسلم] «1» ، وأحد الثلاثة   (1) المشهور أنّهم ثمانية. وفيهم يقول القائل: لقد حفظ القرآن عهد نبيّنا ... ثمانية عن جادة الحقّ ما مانوا أبيّ، أبو الدردا، معاذ، عبادة ... وزيد، أبو زيد، عليّ، وعثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 رضي الله تعالى عنه فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: ماذا أحدّثكم؟ ... الذين جمعوا المصحف. أعلم الصحابة بالفرائض، وكان عمره حين قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة إحدى عشرة سنة، وحفظ ستة عشر سورة قبل قدوم المصطفى صلّى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا. واستصغره النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم بدر فردّه، وشهد أحدا، وقيل: لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان يكتب لأبي بكر وعمر بن الخطاب في خلافتهما، وكان عمر يستخلفه إذا حجّ، وكان معه حين قدم الشام، وهو الذي تولّى قسمة غنائم اليرموك، وكان عثمان يستخلفه إذا حجّ، وكان من الراسخين في العلم، وكان على بيت المال لعثمان. وأحواله كثيرة مشهورة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا؛ اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بحديث. روى عنه جماعات من الصحابة؛ منهم: ابن عمر، وابن عبّاس، وأنس، وأبو هريرة. وخلائق من كبار التابعين، منهم ابن المسيب، وسليمان وعطاء: إبنا يسار. وتوفي بالمدينة المنورة سنة: أربع وخمسين. وقيل غير ذلك. ولما دفن قال الحبر ابن عباس: هذا ذهاب العلماء! دفن اليوم علم كثير. (رضي الله تعالى عنه. فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، كأنهم سألوه أن يحدّثهم أحاديث الشمائل فاستعظم التحديث فيها؛ فلذلك (قال: ماذا أحدّثكم) كأنّ شمائله لا يحاط بها، وإن انتهى بها المحدّث إلى أقصى الغاية، ولذلك لم يتعاط أكابر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي.. بعث إليّ فكتبته له، فكنّا إذا ذكرنا الدّنيا.. ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة.. ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطّعام ... الشعراء كأبي تمّام ونحوه مدحه وذكر شمائله، لعلمهم باستغنائه عن ذلك، واستشعارهم من أنفسهم العجز عن الوفاء بحقّه فيه، فهو الحقيق بقول القائل: تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه ... بأحسن ما يثنى عليه يعاب فكلّ علوّ في حقّه تقصير، فلا يمكن أحد الإحاطة بها، بل ولا ببعضها من حيث الحقيقة والكمال، فالاستفهام تعجّب أفادهم به ردّ ما وقع في خاطرهم من طلب الإحاطة بها، لكن لمّا كان من المقرّر أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه أفادهم بعضا منها على وجه يدلّ على غاية ضبطه وإتقانه لمرويّه؛ فقال: (كنت جاره) أي: فأنا أعرف بأحواله وأخبر بأسراره، (فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ) ؛ أي: لكتابة الوحي غالبا، كما يدلّ عليه قوله (فكتبته) أي: الوحي (له) ، فهو من جملة كتبة الوحي، بل هو أجلّهم «1» وهم تسعة؛ 1- زيد المذكور، 2- وعثمان، 3- وعلي، 4- وأبيّ، 5- ومعاوية، 6- وخالد بن سعيد، و 7- حنظلة بن الربيع، و 8- والعلاء بن الحضرمي، و 9- أبان بن سعيد. (فكنّا) معاشر الصحابة (إذا ذكرنا الدّنيا) ذما أو مدحا، لكونها مزرعة الآخرة ومحلّ الاعتبار لأرباب المعرفة؛ (ذكرها معنا) أي: ذكر الأمور المتعلّقة بالدنيا المعينة على أمور الآخرة، كالجهاد وما يتعلّق به؛ من المشاورة في أموره. (وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا) ، وبيّن لنا تفاصيل أحوالها، وما يترتّب عليها من الأمور المرغّبة والمرهّبة وغيرها. (وإذا ذكرنا الطّعام) ، أي: ضرره ونفعه، وآداب أكله، وبيان أنواعه من   (1) في مضمار الكتابة، وإلا فلا خلاف أن عثمان وعليا أفضل منه!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ذكره معنا، فكلّ هذا أحدّثكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟!. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتناشدون الشّعر بين يديه أحيانا، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون، فيتبسّم هو إذا ضحكوا، ولا يزجرهم إلّا عن حرام. المأكولات والمشروبات والفواكه وسائر المستلذّات (ذكره معنا) ، وأفاد ما في كلّ واحد من الحكم المتعلّقة به، وما يتعلق به من منفعته ومضرّته؛ كما يعرف من الطبّ النبوي، وإنما ذكر معهم الدنيا والطعام!! لأنه قد يقترن به فوائد علميّة وأدبية، على أن فيه بيان جواز تحدّث الكبير مع أصحابه في المباحات. (فكلّ) - الرواية بالرفع، لكنه لا يمتنع جواز النصب؛ على أنه مفعول مقدّم «أحدّثكم» ، بل هو أولى لاستغنائه عن الحذف-. (هذا أحدّثكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟!) لتتفقّهوا في الدين فترفعوا إلى درجات المقربين!! وإنما ذكر هذا ليؤكد به اهتمامه بالحديث. (و) في «الإحياء» : (كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتناشدون الشّعر) ؛ أي يرادّ بعضهم بعضا الأشعار الجائزة. والتّناشد والمناشدة مرادّة البعض على بعض شعرا (بين يديه أحيانا) فيسمعهم، (ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة) ، وهي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الإسلام. (ويضحكون؛ فيتبسّم هو إذا ضحكوا) ولا يزيد على ذلك، (ولا يزجرهم إلّا عن حرام) . ويؤخذ منه حلّ إنشاد الشعر، واستماعه؛ إذا كان لا فحش فيه، وإن اشتمل على ذكر أيّام الجاهلية، ووقائعهم في حروبهم، ومكارمهم ونحو ذلك. وهذا الحديث رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن جابر بن سمرة دون قوله «ولا يزجرهم إلا عن حرام» . وروى مسلم بعضا منه. ورواه البيهقيّ في «الدلائل» ؛ كلاهما عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر النّاس تبسّما وضحكا في وجوه أصحابه، وتعجّبا ممّا تحدّثوا به، وخلطا لنفسه بهم. ولربّما ضحك حتّى تبدو نواجذه. باختلاف في الألفاظ. (و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر النّاس تبسّما وضحكا في وجوه أصحابه وتعجّبا ممّا تحدّثوا به، وخلطا لنفسه بهم) . روى الترمذيّ؛ من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي «الصحيحين» ؛ من حديث جرير: ولا رآني إلّا تبسّم. وللترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث علي: يضحك مما يضحكون منه، ويتعجّب مما يتعجّبون منه. ولمسلم؛ من حديث جابر بن سمرة: كانوا يتحدّثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسّم. (ولربّما ضحك حتّى تبدو نواجذه) ؛ أي: أضراسه. وقيل: أربع آخر الأسنان، كلّ منهم يسمى «ضرس العقل» ، لأنه لا ينبت إلّا بعد البلوغ. وقيل: أنيابه. وقيل: ضواحكه. وفي «القاموس» : هي أقصى الأسنان، أو الأنياب، أو التي على الأنياب؛ أو الأضراس. قيل: ضحكه إلى أن يبدو آخر أسنانه بعيد من شيمته، فلذا قيل: المراد المبالغة في كون ضحكه هذا فوق ما كان يصدر. ويؤيده قول الجوهريّ «حتّى بدت نواجذه» إذا استغرب منه، وقد جاء ذلك في المتفق عليه؛ من حديث ابن مسعود في قصّة «آخر من يخرج من النار» . وفي قصّة الحبر الّذي قال «إنّ الله يضع السماوات على إصبع» . ومن حديث أبي هريرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم؛ اقتداء به، وتوقيرا له. قالوا: وقد جاءه أعرابيّ يوما؛ وهو صلّى الله عليه وسلّم متغيّر اللّون ينكره أصحابه، فأراد أن يسأله، فقالوا: لا تفعل يا أعرابيّ، فإنّا ننكر لونه. فقال: دعوني، فو الّذي بعثه بالحقّ نبيّا؛ لا أدعه حتّى يتبسّم. فقال: يا رسول الله؛ بلغنا أنّ المسيح- يعني: الدّجّال- يأتي النّاس بالثّريد وقد هلكوا جوعا.. أفترى لي- بأبي أنت وأمّي- أن أكفّ عن ثريده تعفّفا وتنزّها حتّى أهلك هزالا، أم أضرب في ثريده حتّى إذا تضلّعت شبعا.. آمنت بالله وكفرت به؟! قالوا: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه. قصة «المجامع في رمضان» وغير ذلك. وفي كلّ ذلك دليل على أنّ الضحك في مواطن التعجّب؛ سيما ما هو في مثل تعجّبه صلّى الله عليه وسلم لا يكره، ولا يخرم المروءة؛ إذا لم يجاوز به الحدّ المعتاد. (وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم؛ اقتداء به، وتوقيرا له) . رواه الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة في أثناء حديثه الطويل. (قالوا: وقد جاءه أعرابيّ) ؛ أي: من سكّان البادية (يوما وهو صلّى الله عليه وسلم متغيّر اللّون ينكره أصحابه، فأراد) ذلك الأعرابيّ (أن يسأله) في شيء، (فقالوا: لا تفعل يا أعرابيّ؛ فإنّا ننكر لونه. فقال: دعوني؛ فو الّذي بعثه بالحقّ نبيا؛ لا أدعه حتّى يتبسّم. فقال: يا رسول الله؛؛ بلغنا أنّ المسيح- يعني الدّجّال- يأتي النّاس بالثّريد؛ وقد هلكوا جوعا!! أفترى لي- بأبي أنت وأمّي- أن أكفّ عن ثريده تعفّفا وتنزّها حتّى أهلك هزالا، أم أضرب) بيدي (في ثريده حتّى إذا تضلّعت) أي: امتلأت (شبعا آمنت بالله) وحده، (وكفرت به؟!) - يعني الدجال-. (قالوا: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه. ثمّ قال: «لا، بل يغنيك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ثمّ قال: «لا، بل يغنيك الله بما أغنى به المؤمنين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يتلطّف بخواطر أصحابه، ويتفقّد من انقطع منهم عن مجلسه، وكثيرا ما يقول لأحدهم: «لعلّك يا أخي وجدت منّي، أو من إخواننا شيئا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيّام.. سأل عنه، فإن كان غائبا.. دعا له، وإن كان شاهدا.. زاره، وإن كان مريضا.. عاده. الله بما أغنى به المؤمنين» ) . قال العراقي: وهو حديث منكر، لم أقف له على أصل!. ويردّه قوله صلّى الله عليه وسلم في المتفق عليه؛ من حديث المغيرة بن شعبة؛ حين سأله: إنّهم يقولون: إنّه معه جبل خبز ونهر ماء!!: قال: «هو أهون على الله من ذلك» . وفي رواية لمسلم: يقولون معه جبال من خبز ولحم ... الحديث!! نعم، في حديث حذيفة وأبي مسعود المتفق عليهما: أنّ معه ماء ونارا ... الحديث. (و) في «كشف الغمّة» للشعراني رحمه الله: (كان صلّى الله عليه وسلم يتلطّف بخواطر أصحابه، ويتفقّد من انقطع منهم عن مجلسه) بالسّؤال عنه، فإن كان غائبا؛ دعا له، وإن كان مريضا؛ عاده- كما سيأتي-. (وكثيرا ما يقول لأحدهم: «لعلّك يا أخي وجدت منّي، أو من إخواننا شيئا» ) يغضبك؟!! (و) أخرج أبو يعلى- بإسناد ضعيف- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا فقد) - بالبناء للفاعل- (الرّجل من إخوانه) - أي: لم يره- (ثلاثة أيّام سأل عنه، فإن كان غائبا) ، أي: مسافرا (دعا له، وإن كان شاهدا) أي: حاضرا بالبلد (زاره، وإن كان مريضا عاده) ، لأن الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وكان صلّى الله عليه وسلّم يقبل على أصحابه بالمباسطة؛ حتّى يظنّ كلّ منهم أنّه أعزّ عليه من جميع أصحابه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من البشاشة؛ حتّى يظنّ أنّه أكرم النّاس عليه. وعن عمرو بن العاصي ... عليه النّظر في حال رعيّته، وإصلاح شأنهم وتدبير أمرهم. وأخذ منه أنّه ينبغي للعالم إذا غاب بعض الطلبة فوق المعتاد أن يسأل عنه، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل، فإن كان مريضا عاده، أو في غمّ خفّفه عليه، أو في أمر يحتاج لمعونة أعانه، أو مسافرا تفقّد أهله، وتعرّض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإلّا تودّد إليه ودعا له. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم يقبل على أصحابه بالمباسطة) بالكلام وطلاقة الوجه وإظهار التودّد لهم، (حتّى يظنّ كلّ منهم أنّه أعزّ عليه من جميع أصحابه) . وسيأتي ما يؤيّده ويشهد له؛ من حديث عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنه. (و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان صلّى الله عليه وسلم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه) ؛ أي: حظّه (من البشاشة) أي: طلاقة الوجه والإقبال عليه، (حتّى يظنّ) ؛ أي: جليسه (أنّه أكرم النّاس عليه) صلى الله عليه وسلم، لما يرى من ملاطفته له ومؤانسته، وذلك من كمال خلقه صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده؛ (عن) أبي عبد الله- ويقال: أبو محمد- (عمرو بن العاصي) - الجمهور على كتابته بالياء؛ وهو الفصيح عند أهل العربية. ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه؛ أو أكثرها بحذف الياء، وهي لغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل بوجهه وحديثه على أشرّ القوم يتألّفهم بذلك، ... أسلم عام خيبر أوّل سنة سبع، وقيل: أسلم في صفر سنة ثمان؛ قبل الفتح بستّة أشهر، وقيل غير ذلك. وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فأسلموا، ثمّ أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل على جيش هم ثلاثمائة، فلما دخل بلادهم استمدّه فأمدّه بجيش من المهاجرين الأوّلين؛ فيهم أبو بكر وعمر، وأميرهم أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنهم، وقال لأبي عبيدة: لا تختلفا. وكان عمرو من دهاة العرب وأبطالهم، وكان قصيرا وذا رأي. وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة: ثلاث وأربعين بمصر؛ وهو وال عليها ودفن بها؛ وعمره سبعون سنة. وصلّى عليه ابنه عبد الله. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة وثلاثون حديثا؛ اتفقا على ثلاثة، ولمسلم حديثان، وللبخاريّ بعض حديث. روى عنه أبو عثمان النّهدي، وقيس بن أبي حازم، وعروة بن الزّبير وغيرهم (رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل بوجهه) على حدّ «رأيته بعيني» . (وحديثه) . الإقبال بالحديث معناه: جعل الكلام مع المخاطب وقصده به؛ فهو معنويّ والأوّل حسي (على أشرّ القوم) الكثير حذف الهمزة من «أشر» ، واستعماله بها لغة رديئة؛ أو قليلة. قال في «الكافية» لابن مالك: وغالبا أغناهم خير وشرّ ... عن قولهم أخير منه وأشرّ (يتألّفهم) أي: الأشرّ، وإنّما أتى بضمير الجمع!! لأنّه جمع في المعنى، (بذلك) الإقبال المفهوم من الفعل، وإنّما كان يتألّفهم بذلك!! ليثبتوا على الإسلام، أو لاتقاء شرّهم، فاتقاء الشرّ بالإقبال على أهله والتبسّم في وجههم جائز، وأمّا الثناء عليهم!! فلا يجوز، لأنّه كذب صريح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتّى ظننت أنّي خير القوم. فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أو أبو بكر؟ فقال: «أبو بكر» . فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عمر؟! فقال: «عمر» . فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عثمان؟ فقال: «عثمان» . فلمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصدقني.. فلوددت أنّي لم أكن سألته. ولا ينافي هذا استواء صحبه في الإقبال عليهم- على ما سبق-!! لأن ذلك حيث لا ضرورة تحوج إلى التخصيص، وتخصيص الأشرّ بالإقبال عليه لضرورة تأليفه. ومن فوائده أيضا: حفظ من هو خير عن العجب والكبر. (فكان) ؛ لعظم تألّفه وحسن معاشرته وكريم أخلاقه (يقبل بوجهه وحديثه عليّ) - بتشديد الياء-، (حتّى ظننت) من كثرة إقباله (أنّي خير القوم) . وسبب ذلك أنه كان حديث عهد بالإسلام، ومن رؤساء قومه. قال الحافظ العراقيّ: يجالس الفقير والمسكينا ... ويكرم الكرام إذ يأتونا ليس مواجها بشيء يكرهه ... جليسه بل بالرّضا يشافهه (فقلت: يا رسول الله) أي: بناء على ظنّه وتردّده في بعض أكابر الصحب. (أنا خير، أو أبو بكر؟ فقال: «أبو بكر» . فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عمر؟ فقال: «عمر» ، فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عثمان؟ فقال: «عثمان» . فلمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فصدقني) - بتخفيف الدال- أي: أجابني بالصدق من غير مراعاة ومداراة؛ (فلوددت) - بكسر الدال واللام للقسم- أي: أحببت وتمنّيت (أنّي لم أكن سألته) ، وإنّما ودّ ذلك!! لأنه قبل السؤال كان يظنّ إقباله عليه لخيريّته، فلما سأله بان له أن إقباله عليه إنّما هو للتألّف، فندم لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وكان صلّى الله عليه وسلّم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه، حتّى كأنّ مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجّهه للجالس إليه. ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة. قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] . وفيه أنّه ينبغي للشخص ألايسأل عن شيء إلّا بعد تحقّق أمره والتثبت فيه، لأنّه ربّما ظهر خطؤه فيفتضح حاله. (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه) ؛ بالإقبال عليه، (حتّى كأنّ) - بالتشديد- (مجلسه وسمعه) بالإصغاء، (وحديثه ولطيف محاسنه وتوجّهه) ؛ كلّ ذلك (للجالس إليه، ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة) . قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذيّ في «الشمائل» ؛ في حديث عليّ الطويل. وفيه: ويعطي كلّ جلسائه نصيبه؛ لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، وفيه: ومجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة. (قال) الله (تعالى) ممتنّا عليه في كتابه العزيز (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ) [159/ آل عمران] «ما» زائدة للتأكيد، أي: فبرحمة. وقيل: نكرة موصوفة، و «رحمة» بدل من «ما» (لِنْتَ لَهُمْ) - أي: سهلت أخلاقك لهم- (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) - أي: سيّء الخلق- (غَلِيظَ الْقَلْبِ) - أي: قاسيه على الخلق- (لَانْفَضُّوا) - أي: تفرقوا- (مِنْ حَوْلِكَ) ولم ينتفعوا بقولك. والمعنى: أنّك لو كنت فظّا غليظ القلب انفضوا عنك، أي: تفرّقوا ولم يجتمعوا عليك، ولكن بلين جانبك لهم؛ وشفقتك عليهم تؤلّف قلوبهم، وتزيد محبّتهم. وهذا امتنان عليه بما جبله الله عليه من الأخلاق الحسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يواجه أحدا في وجهه بشيء يكرهه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّه كان عنده رجل به أثر صفرة ... (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» ، وأبو داود، والنسائي في «اليوم والليلة» بسند حسن؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا في وجهه) - يعني: لا يشافهه- (بشيء يكرهه) ، لئلا يشوّش عليه، ولأن مواجهته ربّما تفضي إلى الكفر، لأن من يكره أمره ويأبى امتثاله عنادا؛ أو رغبة عنه: يكفر. وفيه مخافة نزول العذاب. والبلاء إذا نزل قد يعمّ، ففي ترك المواجهة مصلحة، وقد كان واسع الصّدر جدّا غزير الحياء. ومنه أخذ بعض أكابر السلف أنّه ينبغي إذا أراد أن ينصح أخا له أن يكتب له في لوح ويناوله له؛ كما في «الشّعب» . فينبغي للرجل ألايذكر لصاحبه ما يثقل عليه، ويمسك عن ذكر أهله وأقاربه، ولا يسمعه قدح غيره فيه، وكثير من الناس يتقرّب لصاحبه بذلك، وهو خطأ ينشأ عن مفاسد، ولو فرض فيه مصالح؛ فلا توازي مفاسده، ودرؤها أولى. نعم؛ ينبّهه بلطف على ما يقال فيه، أو يراد به؛ ليحذر. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه) - وهو الحديث المتقدّم آنفا- ورواته رواته مع اختلاف في الألفاظ- وهذا لفظ «الشمائل» : (عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه) - أي الحال، والشأن- (كان عنده) أي: عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم (رجل به أثر) أي: عليه بقيّة (صفرة) من زعفران؛ أو ورس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلمّا قام.. قال للقوم: «لو قلتم له يدع هذه الصّفرة» . قال الباجوريّ: (والمراد أنّه لا يكاد يواجه أحدا بمكروه غالبا، فلا ينافي ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنّه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّ ثوبين معصفرين فقال: «إنّ هذين من ثياب الكفّار، فلا تلبسهما» . (قال) أي: أنس (: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) غالبا من عادته (لا يكاد يواجه) ؛ أي: لا يقرب من أن يقابل، والمواجهة بالكلام المقابلة به لمن حضر، وهذا لتضمّنه نفي القرب من المواجهة أبلغ من قوله «لا يواجه» ، فالمعنى: لا يقرب من أن يقابل (أحدا) من المسلمين؛ بخلاف الكفّار، فكان يغلظ عليهم باللّسان والسّنان؛ امتثالا لأمر الرحمن (بشيء) من أمر؛ أو نهي (يكرهه) ذلك الأحد، فالضمير المستتر في «يكره» للأحد، والبارز للشيء. (فلمّا قام) أي: الرجل من المجلس؛ (قال) ؛ أي المصطفى صلّى الله عليه وسلم (للقوم) ؛ أي: أصحابه الحاضرين في المجلس: ( «لو قلتم له يدع) - أي: يترك- (هذه الصّفرة» !!) لكان أحسن، لأن فيها نوع تشبّه بالنساء، ولعل ذلك كان مباحا، وإلّا لما أخّر أمره بتركه لمفارقة المجلس، وجواب «لو» محذوف كما قدّرناه؛ بناء على أنها شرطيّة، ويحتمل أن «لو» للتمنّي؛ فلا جواب لها. والله أعلم. (قال) العلّامة شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) رحمه الله تعالى في حاشيته على «الشمائل الترمذية» : (والمراد أنّه لا يكاد يواجه أحدا بمكروه غالبا، فلا ينافي) . قال ملا علي قاري في «جمع الوسائل» : وقيّدنا بغالب عادته!! لئلا ينافيه (ما ثبت) في «صحيح مسلم» وغيره (عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) رضي الله تعالى عنهما (أنّه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّ) - بتشديد المثناة التحتية- (ثوبين معصفرين؛ فقال: «إنّ هذين) - أي: الثوبين- (من ثياب الكفّار، فلا تلبسهما» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وفي رواية: قلت: أغسلهما؟ قال: «بل أحرقهما» . ولعلّ الأمر بالإحراق محمول على الزّجر. وهذا يدلّ على ما عليه بعض العلماء من تحريم المعصفر، والجمهور ... وفي رواية) لمسلم أيضا: رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين؛ فقال: «أمّك أمرتك بهذا» !! (قلت: أغسلهما؟! قال: «بل احرقهما» . ولعلّ الأمر بالإحراق محمول على) التغليظ و (الزّجر) له ولغيره؛ عن تعاطي مثل هذا الفعل نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بإرسالها، وأمر أصحاب بريرة ببيعها وأنكر عليهم اشتراط الولاء ونحو ذلك. (وهذا) أي: النهي عن لبس المعصفر (يدلّ على ما) جرى (عليه بعض العلماء) ؛ كالحليمي وصوّبه في «الروضة» ، وجزم به في «الأنوار» ، ومال إليه في «شرح مسلم» ، ومال إليه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري؛ واعتمده ابن حجر في «التحفة» ؛ وفي «شرح بافضل» ؛ (من تحريم) لبس (المعصفر) سواء صبغ قبل نسجه؛ أم بعده- كما في «التحفة» أخذا بإطلاقهم، كما صحّت به الأحاديث، واختاره البيهقيّ وغيره، ولم يبالوا بنصّ الشافعي على حلّه؛ تقديما للعمل بوصيته بالعمل بالأحاديث الصحيحة، كما لم يبالوا بكون جمهور العلماء على حلّه المذكور في قوله: (والجمهور) من علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ قالوا بإباحة المعصفر، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، كما في «شرح مسلم» ؛ لكنه قال: غيره أفضل منه. وجرى الرّملي في «النهاية» والخطيب في «المغني» «1» وغيرهما على حلّه   (1) مغني المحتاج شرح المنهاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 على كراهته) انتهى. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يواجه أحدا بمكروه،.. مطلقا، أي: سواء صبغ قبل النسج؛ أم بعده!! وجرى جماعة من العلماء (على كراهته) كراهة تنزيه، وعليه كثير من المتأخّرين أرباب الحواشي؛ كالشبراملسي، والجمل، والبجيرمي على «الإقناع» ، والباجوريّ، والشرقاوي. قال في «شرح مسلم» : وحملوا النهي على هذا، لأنه ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم لبس حلّة حمراء. وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. وقال الخطّابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأمّا ما صبغ غزله ثم نسج؛ فليس بداخل في النهي. انتهى. وفي «الإمداد» للعلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: ومحلّ الحرمة إذا صبغ بعد النسج لا قبله، وعليه حمل اختلاف الأحاديث في ذلك، ويحمل عليه اختلاف نصّ الشافعي ... إلخ، وعليه جرى في «فتح الجواد» . وأقرّ زكريا في «أسنى المطالب» أقرّ الزركشي على ذلك، لكن ردّه في «التحفة» بمخالفته لإطلاقهم الصريح في الحرمة مطلقا؛ نقله الكردي. قال في «شرح مسلم» : وحمل بعض العلماء النهي على المحرم بالحجّ؛ أو العمرة، ليكون موافقا لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: نهى المحرم أن يلبس ثوبا مسّه ورس؛ أو زعفران، والله أعلم (انتهى) أي: كلام الباجوري رحمه الله تعالى. (و) في «كشف الغمّة» للشعراني رحمه الله تعالى: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بمكروه) ؛ أي: لا يخاطبه شفاها، ويقول له في وجهه شيئا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ولا يتعرّض في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطابا عامّا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن الرّجل الشّيء.. لم يقل: «ما بال فلان يقول؟!» . ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون.. كذا وكذا؟!» . وكانت معاتبته صلّى الله عليه وسلّم تعريضا: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى..؟!» ... يكرهه. (ولا يتعرّض في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطابا عامّا) ، لحصول الفائدة فيه لكل سامع، مع ما فيه من حصول المواراة والستر عن الفاعل وتأليف القلوب. (و) أخرج أبو داود بإسناد صحيح؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرّجل) ، ذكر الرجل وصف طرديّ؛ والمراد الإنسان (الشّيء) الّذي يكرهه (لم يقل ما بال فلان) باسمه المعيّن (يقول) كذا، والظاهر أن المراد بالقول ما يشمل الفعل، (ولكن) استدراك أفاد أن من شأنه ألايشافه أحدا معيّنا حياء منه، بل (يقول) منكرا عليه ذلك (: «ما بال أقوام) - أي: ما شأنهم- (يقولون.. كذا وكذا» ) إشارة إلى ما أنكره؛ وهذا هو المعروف من خطبه صلّى الله عليه وسلم أنّه إذا كره شيئا فخطب له؛ ذكر كراهيته، ولا يعيّن فاعله. وهذا من عظيم خلقه صلّى الله عليه وسلم، فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك، ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ. انتهى «شرح مسلم» . (وكانت معاتبته صلّى الله عليه وسلم تعريضا) ، وهو أبلغ وأعمّ نفعا، كقوله في حقّ موالي بريرة حين اشترطوا الولاء لهم (: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى..!؟) - أي: ليس لها أصل في كتاب الله تعالى- ما كان من شرط ليس في كتاب الله عزّ وجلّ فهو باطل؛ وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحقّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ونحو ذلك. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى إنسانا يفعل ما لا يليق.. لم يدع أحدا يبادر إلى الإنكار عليه حتّى يتثبّت في أمره، ويعلّمه الأدب برفق. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأخذ بالقرف، ولا يقبل قول أحد على أحد. وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم «أعتق فلانا والولاء لي! إنّما الولاء لمن أعتق؟!» . ذكره في «الصحيحين» . وهذا لفظ مسلم. (ونحو ذلك) ؛ كقوله في حقّ النفر الذين سألوا أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوّج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا!!. لكنّي: «أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . ذكره مسلم. (و) في «كشف الغمة» للشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا رأى إنسانا يفعل ما لا يليق لم يدع أحدا) من الناس (يبادر إلى الإنكار عليه حتّى يتثبّت في أمره، ويعلّمه الأدب برفق) ، وهذا من عظيم خلقه صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج أبو داود في «مراسيله» ؛ عن الحسن بن علي، وأبو نعيم في «الحلية» بإسناد ضعيف: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يأخذ) أحدا (بالقرف) - بفتح القاف وسكون الراء وفاء- أي: بالتهمة، والأخذ مجاز عن العقوبة، من: أخذه السلطان: إذا حبسه وجازاه على ما صدر منه. (ولا يقبل قول أحد على أحد) ؛ أي: لا يقبل كلام أحد في حقّ أحد، سواء ترتّبت عليه المؤاخذة؛ أم لا، فهو تعميم بعد تخصيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 و (القرف) : التّهمة. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول: «لا تبلّغوني عن أصحابي إلّا خيرا، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره.. قال: «بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا» . وذلك وقوفا مع العدل، لأن ما يترتّب عليه موقوف على ثبوته عنده بطريقه المعتبر. (والقرف) - بفتح القاف وسكون الراء وآخره فاء- هو (: التّهمة) وإسناد الذنب لغيره. (و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: «لا تبلّغوني عن أصحابي إلّا خيرا) . هذا نهي عامّ عن الغيبة والنميمة، ونقل ما يكره نقله من قول؛ أو فعل؛ أو ترك. (فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم؛ وأنا سليم الصّدر» ) سلامة الصدر كناية عن كونه ليس في قلبه بغض لأحد، ولا غضبان على أحد. قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذيّ؛ من حديث ابن مسعود، وقال: غريب من هذا الوجه. ورواه كذلك أحمد، والبيهقيّ. انتهى «شرح الإحياء» . (و) أخرج مسلم في «صحيحه» في «المغازي» ، وأبو داود في «الأدب» ؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا بعث) أي: أرسل (أحدا من أصحابه في بعض أمره) أي: مصالحه كأن أمّره على جيش أمره بالتسهيل على الناس وعدم التشديد المقتضي لتنفيرهم، (قال: «بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا، ولا تعسّروا» ) «1» أي: سهّلوا الأمور، ولا تنفّروا الناس بالتعسير والتشديد.   (1) انظر ما عن هذا الحديث في المجلد الرابع من هذا الكتاب فصل: (حرف الباء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقي أصحابه.. لم يصافحهم حتّى يسلّم عليهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقي أحدا من أصحابه.. صافحه، ثمّ أخذ بيده فشابكه، ثمّ شدّ قبضته عليها. لأن من أخلاقه صلّى الله عليه وسلم أنّه ما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فينبغي لأمّته أن يتخلّقوا بأخلاقه، وفي مقدّمتهم أصحابه صلّى الله عليه وسلم. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتّى يسلّم عليهم) ؛ تعليما لمعالم الديانة ورسوم الشريعة، وحثّا لهم على لزوم ما خصّت به هذه الأمة من هذه التحية العظمى التي هي تحيّة أهل الجنة في الجنة؛ فيندب تقديم السلام على المصافحة. (و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم إذا لقي أحدا من أصحابه صافحه، ثمّ أخذ بيده فشابكه، ثمّ شدّ قبضته عليها) أي: على يده. قال بعض الشيوخ: أراد بذلك زيادة المحبّة، وتأكّدها؛ قاله في «شرح الإحياء» . قال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : صفة المصافحة وضع بطن الكفّ على بطن أخرى عند التلاقي مع ملازمة ذلك على قدر ما يقع من السلام، أو من السؤال والكلام إن عرض لها، وأما اختلاف اليد في أثر التلاقي؛ فهو مكروه. انتهى. وقال في «شرح الإحياء» : روى أبو داود؛ من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وسأله رجل من عنزة: هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قطّ إلّا صافحني ... الحديث. وروّينا في «علوم الحديث» للحاكم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: شبك بيدي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه.. قام معه، ولم ينصرف حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده.. ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول أذنه- أي: ليكلّمه سرّا-.. ناوله إيّاها؛ ثمّ لم ينزعها عنه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزعها عنه؛ أي: لا ينحّي أذنه عن فمه حتّى يفرغ الرّجل من حديثه. وهو عند مسلم بلفظ: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيدي. وقد وقع لنا مسلسلا بالمشابكة، كما وقع لنا في بعض طرق المصافحة؛ مسلسلا بقبض اليد. انتهى. (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا لقيه أحد من أصحابه فقام) أي: ذلك الصحابي؛ أي: وقف (معه) أي: مع النبي صلّى الله عليه وسلم (قام) أي: وقف النبي صلّى الله عليه وسلم (معه) ؛ أي: مع ذلك الصحابي (ولم ينصرف) صلى الله عليه وسلم، ويهمله، (حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينصرف عنه) صلى الله عليه وسلم، وذلك من كمال الرّفق بأصحابه. (وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول) ؛ أي: ذلك الصحابي (يده) صلى الله عليه وسلم ليصافحه (ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه) ؛ وإن طال الزمن، (حتّى يكون الرّجل هو الذي ينزع يده منه) صلى الله عليه وسلم. زاد ابن المبارك في رواية أنس: ولا يصرف وجهه عن وجهه حتّى يكون الرجل هو الذي يصرفه. (وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول) ؛ أي: ذلك الصحابي (أذنه) صلى الله عليه وسلم (أي) قرّب فمه منها (ليكلّمه سرّا) ؛ قاله العزيزي، (ناوله إيّاها؛ ثمّ لم ينزعها عنه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزعها عنه) . قال في العزيزي: (أي لا ينحّي أذنيه) صلى الله عليه وسلم (عن فمه) ؛ أي: الرجل (حتّى يفرغ) ذلك (الرّجل من حديثه) على الوجه الأكمل، وهذا من أعظم الأدلّة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيه الرّجل من أصحابه.. مسحه ودعا له. محاسن أخلاقه وكماله صلّى الله عليه وسلم؛ كيف وهو سيّد المتواضعين، وهو القائل «وخالق النّاس بخلق حسن» !!؟ فائدة: سئل العلّامة المحقّق برهان الدين إبراهيم بن حسن الكوراني المدني رحمه الله تعالى عمّا اعتاده المصلّون جماعة في المساجد وغيرها من المصافحة خلف الصّلوات المكتوبة؟ فأجاب بما ملخّصه: بأن الإمام النووي استفتي فيها ففصّل فيها وأجاد، فقال ما معناه: المتصافحان إن لم يلتقيا قبل الدخول في الصلاة؛ فالمصافحة مشروعة على أصلها، لأنّ أوّل اللقاء بعد السلام، وإن التقيا قبله!! فهي بدعة مباحة؛ كما قيل. انتهى. والله أعلم. (و) أخرج النسائي- بإسناد حسن؛ كما قال العزيزي- عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا لقيه الرّجل من أصحابه مسحه) ؛ أي: مسح يده بيده- يعني صافحه- (ودعا له) . قال المناوي: تمسّك مالك بهذا وما أشبهه على كراهة معانقة القادم وتقبيل يده. وقد ناظر ابن عيينة مالكا، واحتجّ عليه سفيان بأن المصطفى صلّى الله عليه وسلم لمّا قدم جعفر من الحبشة خرج إليه فعانقه. فقال مالك: ذاك خاصّ بالنبي صلّى الله عليه وسلم. فقال له سفيان: ما نخصّه بفهمنا!! انتهى. قال الخفاجي في «شرح الشفاء» : والمصافحة سنّة عند التلاقي، وفي الحديث: «تمام تحيّتكم بينكم المصافحة» . وكانت الصحابة رضوان الله عليهم تفعلها، وإذا قدموا من سفر تعانقوا. وكانت الصحابة رضي الله عنهم تقبّل يده أيضا، وهي مستحبّة للكبير، وكرّهها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدعوه أحد من أصحابه، أو غيرهم.. إلّا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لبّيك» . مالك. أمّا إذا كان على وجه التّكبّر؛ فتكره. وقال النووي: إنّه مستحبّ أيضا لأهل الشرف والصلاح، وأمّا لأهل الدنيا! فمكروه. وقال فقهاؤنا- أي: الحنفية-: لا بأس بالمصافحة، لأنها سنّة متوارثة، لما ورد في الحديث أيضا: «تصافحوا» . وأمّا بعد صلاة الجمعة والعيد!! فقالوا: إنّه بدعة، وهو من فعل المشايخ، كأنّهم كانوا في الصلاة غائبين عمّن حضرهم، ومن كان هذا حاله لا يكره منه. انتهى «كلام الشهاب الخفاجي رحمه الله تعالى» . (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» للشعراني: (كان صلّى الله عليه وسلم لا يدعوه أحد من أصحابه، أو غيرهم؛ إلّا قال صلّى الله عليه وسلم: «لبّيك» ) ، ظاهره أنه جوابه دائما، ويحتمل أنّه كناية عن سرعة الجواب مع التعظيم؛ قاله الزرقاني. و «لبّيك» كلمة يجاب بها المنادي، فالتلبية إجابة المنادي من دعاه؛ من «لبّ» و «ألب» : إذا أقام بمكان ولم يفارقه، فكأنّه يقول: أنا ثابت على إجابتك. ولا تستعمل إلّا بلفظ التثنية، كأنّه قال إجابة بعد إجابة! والمراد التكثير، لقوله تعالى ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [4/ الملك] ، وهو منصوب على المصدرية بعامل لا يظهر، وتغلب إضافته لضمير المخاطب، وقد يضاف لغيره؛ كما فصّله النّحاة. ولا يجاب به إلّا من يعتنى بإجابته وتعظيمه، ولذا يقوله الحاج. ففي إجابة المصطفى صلّى الله عليه وسلم أتباعه بذلك رعاية مقامهم وتعظيمهم، وهو من خلقه العظيم؛ كما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخاطب القادم ب «مرحبا» كقوله: «مرحبا بأمّ هانىء» . انتهى من الشهاب الخفاجي على «الشفاء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكنّي أصحابه ويدعوهم بالكنى، وبأحبّ أسمائهم؛ إكراما لهم، واستمالة لقلوبهم، ويكنّي من لم تكن له كنية، ... قال العراقيّ: رواه أبو نعيم في «دلائل النبوة» بسند واه؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. قال في «شرح الإحياء» : لفظ أبي نعيم في «الدلائل» : ما كان أحسن خلقا منه، ما دعاه أحد من أصحابه إلّا قال «لبّيك» !! انتهى. (و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني ك «الإحياء» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم يكنّي) - بتشديد النون- (أصحابه) أي: يجعل لهم كنى جمع كنية؛ ك «أبي تراب» و «أبي هريرة» و «أم سلمة» ، (ويدعوهم) أي: يناديهم (بالكنى، و) يدعوهم (بأحبّ أسمائهم) أي: تارة، أو المراد من الأسماء ما يعمّ الأعلام والألقاب والكنى، والمعنى: أنّه لا ينبزهم بما يكرهونه، بل يدعوهم بما يحبّونه؛ (إكراما لهم) أي: يفعل ذلك صلّى الله عليه وسلم لأجل إكرامهم وتعظيمهم؛ تلطّفا بهم. (واستمالة لقلوبهم) ، فإنّ نداء المرء بكنيته تعظيم. وفي «الصحيحين» ؛ في قصّة الغار؛ من حديث أبي بكر: «يا أبا بكر؛ ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» . ولأبي يعلى الموصلي؛ من حديث سعد بن أبي وقّاص؛ فقال «من هذا؛ أبو إسحاق» ؟! فقلت: نعم. (ويكنّي من لم تكن له كنية) بأكبر أولاده، وتارة؛ وإن لم يولد له، فكان يدعى بما كنّاه به؛ تبركا بكنيته الشريفة. روى الحاكم؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال لعمر: «يا أبا حفص؛ أيضرب وجه عمّ رسول الله» !! صلى الله عليه وسلم. قال عمر: إنّه لأوّل يوم كنّاني فيه ب «أبي حفص» . وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي «الصحيح» : أنّه قال لعلي: «يا أبا تراب» . وللحاكم؛ من حديث رفاعة بن مالك: «إنّ أبا حسن وجد مغصا في بطنه ... » الحديث. يريد عليّا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ويكنّي النّساء اللّاتي لهنّ الأولاد، واللّاتي لم يلدن؛ يبتدىء لهنّ الكنى، ويكنّي الصّبيان، فيستلين به قلوبهم. وله أيضا؛ من حديث ابن مسعود: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كنّاه «أبا عبد الرحمن» ؛ ولم يولد له. وأخرج الطبرانيّ؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّاني النبي صلّى الله عليه وسلم «أبا عبد الرحمن» قبل أن يولد لي. وسنده صحيح. وروى الترمذيّ؛ من حديث أنس قال: كنّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ب «بقلة» كنت أجتنيها- يعني «أبا حمزة» ، وقال: حديث غريب. ولابن ماجه: إنّ عمر قال لصهيب مالك! تكتني وليس لك ولد؟! قال: كنّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم ب «أبي يحيى» . وللطبراني؛ من حديث أبي بكرة: تدلّيت ب «بكرة» من حصن الطائف، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فأنت أبو بكرة» . (و) كان صلّى الله عليه وسلم (يكنّي النّساء اللّاتي لهنّ الأولاد، واللّاتي لم يلدن؛ يبتدىء لهنّ الكنى) . روى الحاكم؛ من حديث أمّ أيمن؛ في قصة شربها بول النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا أمّ أيمن» قومي إلى تلك الفخّارة ... الحديث. ولابن ماجه؛ من حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: كلّ أزواجك كنّيت غيري!! قال: «فأنت أمّ عبد الله» وفيه «مولى الزبير» ؛ لم يسمّ!! وروى أبو داود بإسناد صحيح نحوه. (ويكنّي الصّبيان، فيستلين به قلوبهم) ففي البخاريّ؛ من حديث أمّ خالد أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: «يا أمّ خالد؛ هذا سناه» ! وكانت صغيرة. وفي «الصحيحين» ؛ من حديث أنس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأخ له صغير: يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير» ؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ على الصّبيان.. سلّم عليهم، ثمّ باسطهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر.. تلقّي بصبيان أهل بيته. وفيه دليل على جواز تكنية من لا ولد له على عادة العرب؛ تفاؤلا بأن يعمّر ويرزق أولادا؛ خلافا لمن منع ذلك، وقال: إنّه خلاف الواقع؛ فهو كذب. وعن بعض السلف: بادروا أولادكم بالكنى قبل أن تغلب عليهم الألقاب، وكره بعضهم تكنية المرء نفسه إلا لقصد التّعريف. وقال النوويّ: يجوز تكنية الكافر بشرطين: الأول: ألايعرف إلا بكنيته. الثاني: أن يخاف من ذكر اسمه فتنة، فالأول ك «أبي طالب» ، والثاني ك «أبي حباب» لابن سلول! وفيه نظر. وقد تكون لأمر آخر ك «أبي لهب» ، فإنه إشارة إلى أنّه جهنّميّ. وقيل: كنّي بذلك!! لحسن وجهه. والله أعلم؛ ذكره الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» . (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم إذا مرّ على الصّبيان) وهم يلعبون (سلّم عليهم) فيردّون عليه، (ثمّ باسطهم) ؛ بنحو مسح رؤوسهم. قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذي، من حديث أنس بدون قوله «ثم باسطهم» . وروى البخاريّ بلفظ: إنّه صلّى الله عليه وسلم مرّ على صبيان؛ فسلّم عليهم. وروى النسائي؛ من حديثه: كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم في «الفضائل» ، وأبو داود في «الجهاد» ؛ عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقّي) - فعل ماض مجهول من التلقي- (بصبيان أهل بيته) ، وإنّه قدم مرّة من سفر فسبق بي إليه؛ فحملني بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وكان صلّى الله عليه وسلّم أرحم النّاس بالصّبيان والعيال. وكان صلّى الله عليه وسلّم يؤتى بالصّبيان فيبرّك عليهم، ... يديه «1» ، ثم جيء بأحد ابني فاطمة إمّا حسن؛ وإمّا حسين؛ فأردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثة على دابّة. وفي «الصحيحين» أنّ عبد الله بن جعفر؛ قال لابن الزبير: أتذكر حين تلقّينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا وأنت؟! قال: نعم، فحملنا وتركك!. هذا لفظ مسلم، وقال: أي: البخاريّ: إنّ ابن الزبير قال لابن جعفر. والله أعلم. قال الإمام النوويّ: هذه سنّة مستحبّة أن يتلقّى الصبيان المسافر، وأن يركبهم، وأن يردفهم ويلاطفهم أي: لا كما فعل أهل التكبّر من التباعد عن الأطفال وزجرهم، إذ المطلوب ملاطفتهم؛ وإن بلغ الشخص ما بلغ للتواضع. انتهى نقله الحفني على «الجامع الصغير» . (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن أنس رضي الله عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم أرحم النّاس بالصّبيان، والعيال) . قال النووي: وهذا هو المشهور. وروي: «بالعباد» !! وكلّ منهما صحيح واقع، والعيال أهل البيت ومن يمونه الإنسان. قال الزين العراقيّ: روّينا في «فوائد أبي الدحداح» ؛ عن علي رضي الله عنه: كان أرحم النّاس بالناس. انتهى «مناوي» . وقد تقدّم. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود؛ عن عائشة رضي الله عنها- إلّا التحنيك؛ فليس في البخاري- قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصّبيان فيبرّك عليهم) أي: يدعو لهم بالبركة؛ ويقرأ عليهم الدعاء بالبركة، ذكره القاضي. وقيل: يقول «بارك الله عليكم» .   (1) على الدابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 ويحنّكهم، ويدعو لهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يزور الأنصار، ويسلّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم. وقال الزمخشري: بارك الله فيه، وبارك له، وبارك عليه، وباركه، وبرّك على الطعام، وبرّك فيه؛ إذا دعا له بالبركة. قال الطّيبيّ: و «بارك عليه» أبلغ، فإنّ فيه تصويب البركات وإفاضتها من السماء. (ويحنّكهم) ؛ بنحو تمر من تمر المدينة المشهود له بالبركة ومزيد الفضل. قال النّووي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود يوم ولادته بتمر، فإن تعذّر فما في معناه، أو قريب منه من الحلو، فيمضغ المحنّك التمرة حتّى تصير مائعة بحيث تبتلع، ثم يفتح فم المولود ويضعها فيه؛ ليدخل منها شيء جوفه. ويستحبّ أن يكون المحنّك من الصالحين، وممّن يتبرّك به؛ رجلا كان، أو امرأة. فإن لم يكن حاضرا عند المولود؟ حمل إليه. (ويدعو لهم) بالإمداد والإسعاد، والهداية إلى طرق الرشاد. (و) أخرج الترمذي، والنسائي، وابن حبّان؛ عن أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح؛ كما قال العراقي في «أماليه» . قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلّم على صبيانهم) ، فيه ردّ على منع الحسن «1» التسليم على الصبيان (ويمسح رؤوسهم) ؛ أي: كان له اعتناء بفعل ذلك معهم أكثر منه مع غيرهم، وإلّا! فهو كان يفعل ذلك مع غيرهم أيضا. وكان يتعهّد أصحابه جميعا، ويزورهم. قال ابن حجر: هذا مشعر بوقوع ذلك منه غير مرّة. أي: فالاستدلال به على مشروعية السلام على الصبيان أولى من استدلال البعض بحديث «مرّ على صبيان فسلّم عليهم» فإنّها واقعة حال. قال ابن بطّال: وفي السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة، وطرح الأكابر رداء الكبر، وسلوك التواضع ولين الجانب. نعم؛ لا يشرع السلام على   (1) لعله البصري!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وعن يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنهما قال: سمّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يوسف» ، وأقعدني في حجره، ومسح على رأسي. الصبي الوضيء، سيّما إن راهق. انتهى؛ ذكره المناوي في «كبيره» . (و) أخرج الإمام أحمد، والترمذي في «الشمائل» : (عن يوسف بن عبد الله بن سلام) - بفتح السين وتخفيف اللام- الإسرائيلي المدني، أبو يعقوب صحابيّ صغير؛ وأبوه صحابيّ كبير- وقد تقدّمت ترجمتهما- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال) أي يوسف (: سمّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يوسف» ، وأقعدني في حجره) . قال الباجوري- بفتح الحاء وكسرها- والمراد به حجر الثوب؛ وهو طرفه المقدّم منه، لأن الصغير يوضع فيه عادة، ويطلق على المنع من التصرّف، وعلى الأنثى من الخيل، وعلى حجر ثمود، وعلى حجر إسماعيل ... وغير ذلك مما هو في قول بعضهم: ركبت حجرا وطفت البيت خلف الحجر ... وحزت حجرا عظيما ما دخلت الحجر لله حجر منعني من دخول الحجر ... ما قلت حجرا ولو أعطيت ملء الحجر «1» (ومسح على رأسي) . زاد الطبراني: ودعا لي بالبركة. وفي الحديث: بيان تواضعه، وكمال رحمته، ومحاسن أخلاقه. وفيه: أنّه يسنّ لمن يقتدى به؛ ويتبرّك به تسمية أولاد أصحابه، وتحسين الاسم، وأن أسماء الأنبياء من   (1) (ركبت حجرا) ؛ فرسا أنثى (وطفت البيت خلف الحجر) ؛ حجر سيّدنا إسماعيل، والطواف يكون خلفه؛ لأنّه من الكعبة، داخل في أصل بناءها، (وحزت حجرا عظيما) ؛ الحجر هنا: العقل؛ أي: أعطيت عقلا عظيما (ما دخلت الحجر) ؛ أي: حجر سيّدنا إسماعيل. (لله حجر) ؛ أي: منع، فالحجر أيضا: المنع (منعني من دخول الحجر) ؛ حجر سيّدنا إسماعيل؛ وسبب الحجر- أي: المنع- سبق، وهو كونه من الكعبة. (ما قلت حجرا) ؛ أي: حراما؛ فالحجر والحجر والحجر والمحجر، كلّ ذلك: الحرام- والكسر أفصح- (ولو أعطيت ملء الحجر) ؛ أي: ما قلت حراما ولو أعطيت خيرات كثيرة. والبيتان من البحر البسيط. وإنّما سكّنت الراء، وحرّكت الجيم بالكسر في كلمة (حجر) في رويّ وقافية البيتين؛ لأجل الوزن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وكان صلّى الله عليه وسلّم يلاعب زينب بنت أمّ سلمة، ويقول: «يا زوينب؛ يا زوينب» (مرارا) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب الحسن والحسين على ظهره، ويمشي على يديه ورجليه، ويقول: «نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما» ، وربّما فعل ذلك بينهما، وهما على الأرض. ودخل الحسن- وهو صلّى الله عليه وسلّم قد سجد- فركب على ظهره، فأبطأ في سجوده حتّى نزل الحسن، فلمّا فرغ.. قال له بعض أصحابه: ... الأسماء الحسنة، ووصفه بالحجر؛ قاله المناوي. (و) أخرج الضياء المقدسيّ في «المختارة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه- وهو حديث صحيح؛ كما في العزيزي- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أمّ سلمة) زوجته صلّى الله عليه وسلم، وزينب بنتها من أبي سلمة، فهي «ربيبته صلّى الله عليه وسلم» ؛ أي: بنت زوجته (ويقول: «يا زوينب.. يا زوينب) - بالتصغير- (مرارا) ، لأنّ الله جبله على التواضع والإيناس، وطهّر قلبه من الكبر والفحش؛ بشقّ الملائكة صدره المرّات العديدة عند تقلبه في الأطوار المختلفة، وإخراج ما في قلبه ممّا جبل عليه النوع الإنساني، وغسله وامتلائه من الحكم والعلوم. (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم يركب الحسن والحسين على ظهره، ويمشي على يديه ورجليه، ويقول: «نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما» . وربّما فعل ذلك بينهما، وهما على الأرض!) لم أقف على من خرّجه!! (و) في «المواهب اللّدنّية» للعلامة القسطلّاني: (دخل الحسن) بن عليّ رضي الله تعالى عنهما (وهو صلّى الله عليه وسلم) يصلّي (قد سجد، فركب على ظهره؛ فأبطأ في سجوده حتّى نزل الحسن، فلمّا فرغ؛ قال له بعض أصحابه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 يا رسول الله؛ قد أطلت سجودك؟ قال: «إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» ؛ أي: جعلني كالرّاحلة، فركب على ظهري. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي والحسن والحسين يلعبان ويقعدان على ظهره. يا رسول الله؛ قد أطلت سجودك؟! قال: «إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» «1» ؛ أي: جعلني كالرّاحلة؛ فركب على ظهري) . في «جمع الفوائد» للرداني رحمه الله تعالى ما نصّه: عبد الله بن شدّاد عن أبيه: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيّ؛ وهو حامل حسنا؛ أو حسينا. فتقدّم صلّى الله عليه وسلم فوضعه، ثمّ كبّر للصّلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها؛ فرفعت رأسي؛ فإذا الصبيّ على ظهر النبي صلّى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى الصلاة؛ قال النّاس: يا رسول الله؛ إنّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها؛ حتّى ظننّا أنّه قد حدث أمر!! وأنّه يوحى إليك!! قال: «كلّ ذلك لم يكن، ولكنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتّى يقضي حاجته» . للنسائي رحمه الله تعالى. وفي «الإصابة» لابن حجر رحمه الله تعالى في ترجمة الحسن؛ عن عبد الله بن الزبير قال: رأيت الحسن يجيء والنبي صلّى الله عليه وسلم ساجد؛ فيركب رقبته- أو قال: ظهره- فما ينزله حتّى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء؛ وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتّى يخرج من الجانب الآخر. (و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناد حسن؛ (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي والحسن والحسين يلعبان ويقعدان على ظهره) في   (1) أعجله: أستحثّه على العجلة- بفتح الهمزة والجيم-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ بيد الحسن بن عليّ، ووضع رجليه على ركبتيه وهو يقول: «ترقّ.. ترقّ، عين بقّه ... حزقّة حزقّه» . قال في «لسان العرب» : ... حال السجود، وكان يطيل السّجود لطفا بهما. ولا يقال «إن هذه الحالة تنافي كمال الخشوع المطلوب» !! لأنّه صلّى الله عليه وسلم أكمل النّاس خشوعا وحضورا بقلبه مع ربّه؛ وإن كان ظاهره مع الخلق، كما أنّ خلفاءه كذلك فلا حاجة للجواب: بأنّ ذلك للتشريع؛ قاله الحفني في «حاشية الجامع الصغير» . (و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى: (كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه؛ يقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد أخذ بيد الحسن) السّبط (بن عليّ) بن أبي طالب (ووضع رجليه) - أي: رجلي الحسن (على ركبتيه) صلى الله عليه وسلم (وهو يقول: «ترقّ.. ترقّ) - أي: اصعد- (عين بقّه) - بفتح الباء الموحّدة، وتشديد القاف- (حزقّة) - بضمّ الحاء المهملة والزاي، وتشديد القاف؛ مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت حزقّه-. و (حزقّه) الثاني كذلك، أو أنّه خبر مكرّر، ومن لم ينوّن «حزقة» أراد «يا حزقه» فحذف حرف النداء؛ وهو من الشذوذ، كقولهم «أطرق كرا» ؛ لأن حرف النداء إنما يحذف مع العلم المضموم، أو المضاف؛ قاله في «النهاية» . (قال) أي: الإمام العلّامة اللغوي الحجّة: أبو الفضل جمال الدين محمد ابن الإمام جلال الدين أبي العزّ مكرم ابن الشيخ نجيب الدين المعروف ب «ابن منظور» الأنصاري الخزرجي، الإفريقي المصري، المولود سنة: 630، والمتوفى سنة: 711، هجرية رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «لسان العرب» ) في مادة حزق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 (وفي الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يرقّص الحسن أو الحسين؛ ويقول: «حزقّة.. حزقّه، ترقّ عين بقّه» . (الحزقّة) : الضّعيف الّذي يقارب خطوه من ضعف، فكان يرقى حتّى يضع قدميه على صدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن الأثير: ذكرها له على سبيل المداعبة والتّأنيس له. و (ترقّ) بمعنى: اصعد. و (عين بقّة) : كناية عن صغر العين) انتهى. (وفي الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يرقّص) - بالتثقيل- (الحسن، أو الحسين) - بالشكّ- (ويقول) في حال ترقيصهما- (: «حزقّة) - بالتنوين والرفع- (حزقّة) - ينبغي أن يقرأ بالوقف على الهاء لأجل السّجع- (ترقّ) - بتشديد القاف؛ أي: اصعد- (عين بقّه» ) - بالوقف على الهاء. (الحزقّه) بوزن عتلّه (: الضّعيف الّذي يقارب خطوه من ضعف) في بدنه، وقيل: القصير العظيم البطن، (فكان) الغلام (يرقى حتّى يضع قدميه على صدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) . (قال) العلّامة الحافظ مجد الدين (ابن الأثير) أبو السعادات: مبارك بن أبي الكرم؛ محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، المولود سنة: 544، المتوفى سنة: 606 رحمه الله تعالى. قال في «كتاب النهاية» : (ذكرها) ، أي: هذه الكلمات (له) أي: للغلام (على سبيل المداعبة) : الملاعبة (والتّأنيس له. وترقّ) : فعل أمر (بمعنى اصعد) ؛ من الصعود، أي: العلوّ (وعين بقّة: كناية عن صغر العين. انتهى) أي: كلام «لسان العرب» ملخصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشّرف بالإحسان إليهم، وكان يكرم ذوي رحمه، ويصلهم من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكرم بني هاشم. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أشدّ النّاس لطفا بالعبّاس. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني ك «الإحياء» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشّرف بالإحسان إليهم) . روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث عليّ الطويل؛ في صفته صلّى الله عليه وسلم: وكان من سيرته إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، وفيه: ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم، ويولّيه عليهم ... الحديث المتقدّم. وللطبرانيّ؛ من حديث جرير في قصة إسلامه: فألقى إليّ كساء، ثم أقبل على أصحابه؛ ثم قال: «إذا أتاكم كريم قوم؛ فأكرموه» . ورواه الحاكم؛ من حديث معبد بن خالد الأنصاري نحوه؛ وقال: صحيح الإسناد. (وكان يكرم ذوي رحمه ويصلهم) ؛ أي: يحسن إليهم ويعطف عليهم، وإن بعدوا عنه، أو أساؤا إليه (من غير أن يؤثرهم) أي: يخصّهم ويقدّمهم (على من هو أفضل منهم) من الناس؛ عدلا منه، وإعطاء لكل ذي حقّ حقّه، وهذا أيضا من حسن العهد. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز برمز الخطيب: (كان صلّى الله عليه وسلم يكرم بني هاشم) . (و) في «كنوز الحقائق» أيضا؛ ورمز له ابن عساكر: (كان صلّى الله عليه وسلم من أشدّ النّاس لطفا بالعبّاس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وكان صلّى الله عليه وسلّم يجلّ العبّاس إجلال الولد للوالد. وكان صلّى الله عليه وسلّم يبدأ من لقيه بالسّلام، ... وروى الحاكم في «الفضائل» ، وكذا ابن حبّان في «صحيحه» ؛ عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يرى للعبّاس ما يرى الولد لوالده؛ يعظّمه ويفخّمه ويبرّ قسمه. قال المناوي: وأصل هذا أنّ عمر لما أراد أن يستسقي عام الرّمادة خطب؛ فقال: أيّها النّاس؛ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يرى للعبّاس ما يرى الولد لوالده، فاقتدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم! واتّخذوا العبّاس وسيلة إلى الله تعالى، فما برحوا حتّى سقاهم الله تعالى. (و) أخرج الحاكم في (المناقب) ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي- أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم يجلّ العبّاس) عمّه (إجلال الولد للوالد) ؛ لأنّه في مقام الأب، لكونهما من أصل واحد، ولذا كان صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّما عمّ الرّجل صنو أبيه» أي: فهو كصنو النخلة في كونها من أصل واحد، فهو بمنزلة الوالد في التعظيم والتوقير والإكرام. وتمام الحديث؛ كما في «المستدرك» : خاصّة خصّ الله بها العبّاس من بين النّاس» . (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسّلام) «من» تفيد العموم، أي: كلّ أحد لقيه؛ صغيرا أو كبيرا من المسلمين! إلّا في مواضع لا يستحبّ السّلام فيها، وأما الكفرة! فلا يسلّم عليهم، وجوّز بعضهم ابتداءهم بالسّلام أيضا؛ قاله الخفاجي. وهذه السّنّة أفضل من الفريضة، لما فيه من التواضع والتسبّب لأداء الواجب. وهذا رواه الترمذيّ؛ من حديث هند بن أبي هالة: يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسّلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وإذا أخذ بيده.. سايره حتّى يكون ذلك هو المنصرف. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ودّع رجلا.. أخذ بيده، فلا ينزعها حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده، ويقول: «أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجلس إليه أحد وهو يصلّي.. إلّا (وإذا أخذ بيده سايره حتّى يكون ذلك هو المنصرف) . روى ابن ماجه؛ من حديث أنس رضي الله عنه: كان إذا لقي الرّجل فكلّمه لم يصرف وجهه حتّى يكون هو المنصرف. وقد مرّت أحاديث نحو هذا. (و) أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ، في «الدعوات» ، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في «الحج» ، وأخرجه أيضا الضياء في «المختارة» ؛ من طريق الترمذيّ؛ كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا ودّع رجلا أخذ بيده فلا ينزعها) ؛ أي: يتركها (حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده، ويقول) مودّعا له: ( «أستودع الله دينك وأمانتك) قال الشرف المناوي رحمه الله تعالى في «أماليه» : الأمانة هنا: ما يخلّفه الإنسان في البلد التي سافر منها. انتهى؛ نقله عنه حفيده المناوي في «شرح الجامع الصغير» . (وخواتيم عملك» ) ، لأن العبرة في العمل بخواتيمه؛ أي: أكل كلّ ذلك منك إلى الله تعالى، وأتبرّأ من حفظه، وأتخلّى من حراسته، وأتوكّل عليه سبحانه، فإنّه وفيّ حفيظ؛ إذا استودع شيئا حفظه، ومن توكّل عليه كفاه ولا قوّة إلّا بالله. (و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» و «الشفاء» : (كان صلّى الله عليه وسلم لا يجلس إليه أحد) ؛ أي: لا يجلس متوجّها إليه، والمراد لا يجلس عنده صلّى الله عليه وسلم (وهو يصلّي إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 خفّف صلاته وأقبل عليه فقال: «ألك حاجة؟» ، فإذا فرغ.. عاد إلى صلاته. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكرم كلّ داخل عليه، حتّى ربّما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع، يجلسه عليه. خفّف صلاته) ، أي: أسرع فيها (وأقبل عليه؛ فقال: «ألك حاجة» ؟! فإذا فرغ) صلى الله عليه وسلم من كلامه وقضاء حاجته (عاد إلى صلاته) الّتي كان فيها. قال العراقيّ في «تخريج أحاديث الإحياء» : لم أجد له أصلا. انتهى. ولذا قيل «لو أورد حديث «الصحيحين» : «إنّي لأقوم إلى الصّلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصّبيّ؛ فأتجوّز في صلاتي؛ كراهة أن أشقّ على أمّه» ؛ كان أظهر، فإنّه متفق عليه، وهو في معنى حديث «الإحياء» ؛ قاله الخفاجي. قال في «شرح الإحياء» : قلت: لكن روى الإمام أحمد في «مسنده» ؛ عن رجل من الصحابة قال: كان ممّا يقول للخادم: «ألك حاجة؟!» . وهذا يدلّ إذا جاءه الخادم ووجده في الصلاة كان يخفّف؛ ويقبل عليه بالسؤال عن الحاجة، وهو من جملة مكارم الأخلاق، إذ لا يأتيه في ذلك الوقت إلّا لحاجة، فإذا طوّل في الصلاة فقد أوقعه في الانتظار. انتهى. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يكرم كلّ داخل عليه) بالقيام له، ويلاطفه؛ كقيامه صلّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه؛ قاله الخفاجي. (حتّى ربّما بسط) ؛ أي: فرش (ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع؛ يجلسه عليه) ؛ إكراما له، وتأليفا لقلبه. روى الحاكم وصحّح إسناده؛ من حديث أنس رضي الله عنه: دخل جرير بن عبد الله على النبي صلّى الله عليه وسلم.. وفيه: فأخذ بردته فألقاها إليه؛ فقال: «اجلس عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وكان صلّى الله عليه وسلّم يؤثر الدّاخل عليه بالوسادة التي تكون تحته يا جرير ... » الحديث. وفيه: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وللطبراني في «الكبير» من حديث جرير: فألقى إليّ كساءه. ولأبي نعيم في «الحلية» فبسط إليّ رداءه. وأمّا من بينه وبينه قرابة!!. فروى الخرائطيّ في «مكارم الأخلاق» عن محمد بن عمير بن وهب «خال النبي صلّى الله عليه وسلم» أنّ عميرا- يعني أباه- جاء والنبيّ صلّى الله عليه وسلم قاعد فبسط له رداءه، فقال: أجلس على ردائك؛ يا رسول الله!! قال: «نعم، فإنّما الخال والد» . وإسناده ضعيف. ويروى عن القاسم؛ عن عائشة رضي الله عنها أنّ الأسود بن وهب «خال النبي صلّى الله عليه وسلم» استأذن عليه؛ فقال: «يا خال؛ أدخل» فبسط له رداءه. وكذا وقع لأمّه وأخيه وأبيه من الرضاعة؛ كما هو مذكور في السير. انتهى. «شرح الإحياء» . (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يؤثر الدّاخل عليه) أي: يقدّمه على نفسه، ويفرده (بالوسادة الّتي تكون تحته) ؛ وهي فراش يجلس عليه، وكانت محشوّة بالليف؛ كما في البخاري. وقال عديّ بن حاتم: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «من الرّجل؟!» . فقلت: عديّ بن حاتم. فقام وانطلق بي إلى بيته، فو الله؛ إنّه لعامد بي إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، واستوقفته؛ فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك!! ثمّ مضى حتّى دخل بيته؛ فتناول وسادة كبيرة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ؛ وقال لي: «اجلس على هذه» . فقلت بل أنت فاجلس عليها؛ فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه. فانظر لمكارم الأخلاق!! فقلت «والله؛ ما هذا بملك» !! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 فإن أبى أن يقبلها.. عزم عليه حتّى يقبل. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي: «أفّ» ... وهذا يدلّ على أن الوسادة فراش لا مخدّة؛ قاله الشهاب الخفاجي على «الشفا» رحمه الله تعالى. (فإن أبى) - أي: امتنع- (أن يقبلها) أي: الوسادة حياء من رسول الله صلّى الله عليه وسلم (عزم عليه حتّى يقبل) ؛ أي: أقسم عليه أن يجلس على وسادته بأن يقول له «بالله اجلس أنت» . قال في «التهذيب» : يقال «عزمت عليك لتفعلن كذا» ؛ أي: أقسمت انتهى. وهو مأخوذ من العزم؛ وهو التصميم في الأمر. انتهى «خفاجي» . (و) أخرج البخاريّ؛ ومسلم، وأبو داود والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» . (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - زاد في رواية أحمد: في السفر والحضر- (عشر سنين) - بسكون الشين، ويجوز فتحها- وفي مسلم: تسع سنين- وحملت على التّحديد والأولى- وهي أكثر الروايات- على التقريب إلغاء للكسر، فخدمته إنّما كانت أثناء السّنة الأولى من الهجرة-. (فما قال لي أفّ) ؛ بضمّ الهمزة وتشديد الفاء مكسورة بلا تنوين، وبه، ومفتوحة بلا تنوين. فهذه ثلاث لغات قرىء بها في السّبع «1» ، وذكر فيها بعضهم عشر لغات.   (1) وهي؛ 1- أفّ: أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي. 2- أفّ: نافع وحفص. 3- أفّ: ابن كثير وابن عامر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 قطّ، وما قال لشيء صنعته: «لم صنعته؟» ، ولا لشيء تركته: «لم تركته؟» . وقذ ذكر أبو الحسن الكرمانيّ فيها تسعا وثلاثين لغة، وزاد ابن عطيّة واحدة؛ فأكملها أربعين. ونظمها السيوطيّ في أبيات فأجاد، وقد ذكر لغاتها مفصّلة في «التصريح شرح التوضيح» للشيخ خالد الأزهري. فراجعه. وهي كلمة تبرّم وملال، تقال لكلّ ما يتضجّر منه، ويستوي فيه الواحد والمثنّى والجمع، والمذكّر والمؤنث، قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [23/ الإسراء] . (قطّ) - بفتح القاف وتشديد الطاء- مضمومة في أشهر لغاتها، وهي ظرف بمعنى الزّمن الماضي، فالمعنى: فيما مضى من عمري، وربّما يستعمل بمعنى «دائما» ، لكنه قد يتّفق له فعل شيء ليس على الوجه الذي أراده منه المصطفى، ففي رواية أبي نعيم: فما سبّني قطّ، وما ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه؛ فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد قال: «دعوه، ولو قدّر شيء كان» . (وما قال لشيء صنعته) ؛ أي: مما لا ينبغي صنعه، أو على وجه لا يليق فعله: ( «لم صنعته» ) أي: لأي شيء صنعته، (ولا لشيء تركته: «لم تركته» ) ؛ أي لشدّة وثوقه ويقينه بالقضاء والقدر، ولذلك زاد في رواية: ولكن يقول: «قدّر الله، وما شاء فعل» و «لو قدّر الله كان» و «لو قضي لكان» . فكان يشهد أنّ الفعل من الله؛ ولا فعل لأنس في الحقيقة؛ فلا فاعل إلّا الله، والخلق الآن وسائط، فالغضب على المخلوق في شيء فعله أو تركه ينافي كمال التوحيد؛ كما هو مقرّر في علم التوحيد؛ من وحدة الأفعال. وفي ذلك بيان كمال خلقه وصبره، وحسن عشرته، وعظيم حلمه وصفحه، وترك العقاب على ما فات، وصون اللّسان عن الزجر والذمّ للمخلوقات، وتأليف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وعنه أيضا قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن ثمان سنين- خدمته عشر سنين- فما لامني على شيء قطّ، فإن لامني لائم من أهله.. قال: «دعوه، فإنّه لو قضي شيء.. كان» . وفي «المصابيح» : عن ... خاطر الخادم بترك معاتبته على كلا الحالات. وهذا كلّه في الأمور المتعلّقة بحظّ الإنسان. وأمّا ما يتعلّق بالله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! فلا يتسامح فيه، لأنه إذا انتهك شيء من محارم الله اشتدّ غضبه. وهذا يقتضي أنّ أنسا لم ينتهك شيئا من محارم الله، ولم يرتكب ما يوجب المؤاخذة شرعا في مدّة خدمته له صلّى الله عليه وسلم. ففي ذلك منقبة عظيمة لأنس؛ وفضيلة تامّة لحسن أدبه في خدمته؛ مع صغر سنّه، لكنها كلّها مستفادة من بركة ملازمته للحضرة النبويّة والطلعة البهيّة صلّى الله عليه وسلم. (و) في «المصابيح» للإمام البغوي- وقد تقدّمت ترجمته؛ في أوّل الكتاب رحمه الله تعالى-؛ (عنه) ؛ أي: عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (أيضا) مفعول مطلق؛ من «آض؛ إذا رجع» أي: ارجع إلى الرواية عن أنس رجوعا. (قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين؛ خدمته عشر سنين) . قال الحافظ ابن حجر: في معظم الروايات عشر سنين، وفي رواية لمسلم: والله؛ لقد خدمته تسع سنين، فقال النووي: لعل ابتداء خدمة أنس في أثناء السّنة!! ففي رواية التسع لم يجبر الكسر واعتبر السنين الكوامل، وفي رواية العشر جبرها واعتبرها سنة كاملة. انتهى؛ نقله في «جمع الوسائل» . (فما لامني على شيء قطّ) أتي فيه على يدي، (فإن لامني لائم من أهله؛ قال: «دعوه، فإنّه لو قضي شيء كان» ) . قال في «المشكاة» : رواه البيهقيّ في «شعب الإيمان» بتغيير يسير. (وفي «المصابيح» ) - وهو في «صحيح مسلم» ؛ و «سنن أبي داود» - (عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 أنس أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحسن النّاس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة؛ فقلت: والله لا أذهب- وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فخرجت حتّى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السّوق؛ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قبض بقفاي من ورائي. قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: «يا أنيس؛ أذهبت حيث أمرتك؟» ، قلت: نعم، أنا أذهب ... أنس أيضا) قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن النّاس خلقا) ينبغي إسقاط «من» لأنّه صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس خلقا إجماعا، فكان الأولى تركها لإيهامها خلاف ذلك؛ وإن قيل في الجواب عن ذلك: إنها لا تنافيه!!. لأن الأحسن المتعدّد بعضه أحسن من بعض، أو لأن «كان» للدوام والاستمرار، فإذا كان دائما من أحسن الناس خلقا كان أحسن النّاس خلقا. قال ملا علي القاري: وكأنّ مرادهم أنّ سائر الخلق؛ ولو حسن خلقهم أحيانا ساء خلقهم زمانا، بخلاف حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، فإنه كان على الدوام، ومع عموم النّاس؛ لا مع خصوص الناس، قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم (4) [القلم] وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] انتهى كلام القاري والباجوري أيضا. (فأرسلني يوما لحاجة؛ فقلت: والله؛ لا أذهب) بحسب الظاهر، (وفي نفسي) باطنا (أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرجت) من عنده (حتّى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السّوق؛ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من) جهة (ورائي) ؛ أي: خلفي. (قال) ؛ أي أنس (: فنظرت إليه) صلى الله عليه وسلم (وهو يضحك، فقال: «يا أنيس) تصغير أنس (؛ أذهبت) - بالاستفهام- (حيث أمرتك» ؟!) أي: المكان الذي أمرتك وأرسلتك إليه لقضاء الحاجة المذكورة. قال: (قلت: نعم، أنا أذهب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 يا رسول الله. وعن أنس أيضا قال: كنت أمشي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه «1» جبذة شديدة رجع نبيّ الله في نحر الأعرابيّ، حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أثّرت فيه حاشية البرد من شدّة جبذته. ثمّ قال: يا محمّد؛ ... الآن (يا رسول الله) لقضاء حاجتك التي أرسلتني لها. (و) أخرج البخاريّ في «الخمس» و «اللباس» و «الأدب» ، ومسلم كلاهما (عن أنس أيضا؛ قال: كنت أمشي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه برد) - بضمّ الموحّدة وسكون الراء-: نوع من الثياب. وفي رواية مسلم: رداء (نجرانيّ) - بنون مفتوحة فجيم ساكنة فراء مفتوحة؛ فألف فنون- نسبة إلى نجران: بلدة بين الحجاز واليمن، وهي إليه أقرب؛ فلذا يقال بلدة باليمن، (غليظ الحاشية) أي: الجانب (فأدركه أعرابيّ) . قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته. انتهى. وسياق الحديث- كما قيل- يقتضي أنّه من المسلمين المؤلّفة قلوبهم، (فجبذه) - بتقديم الباء على الذال المعجمة- ( [بردائه] جبذة شديدة رجع) بسببها (نبيّ الله) صلى الله عليه وسلم (في نحر الأعرابيّ، حتّى نظرت إلى صفحة) : جانب (عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلم) : ما بين العنق والكتف، أو موضع الرداء من المنكب (قد أثّرت فيه حاشية البرد من شدّة جبذته) . وفي رواية مسلم: وانشقّ البرد وذهبت حاشيته في عنقه. (ثمّ قال: يا محمّد) . قيل: [قبل] تحريم ندائه باسمه، أو لقرب عهد الأعرابي بالإسلام؛ فلم يتفقّه في الدين، وفي طبعه الغلظة والجفا، وإلّا فطلبه   (1) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من «وسائل الوصول» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء. وكان صلّى الله عليه وسلّم هينا لينا، ليس بفظّ ولا غليظ. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ... العطاء من مال الله يدلّ على أنّه مسلم. (مر لي) - ولمسلم: أعطني- (من مال الله الّذي عندك!! فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء) . وهو تحميل بعيريه؛ كما سيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وفي هذا بيان حلمه عليه الصلاة والسلام، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألّفه على الإسلام. (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم هينا) ؛ أي: سهلا (لينا) في أخلاقه، وكلاهما بالتّشديد والتخفيف. قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخفّف، وتذمّ بالهيّن الليّن مشدّد. وفي الحديث «المسلمون هينون لينون» جعله مدحا لهم. وقال غير ابن الأعرابي: هما بمعنى واحد؛ قاله في «شرح القاموس» . وقال في «المصباح» : وأكثر ما جاء المدح بالتخفيف. انتهى. (ليس بفظّ) أي: ليس بسيء الخلق، (ولا غليظ) قلبه بحيث يكون جافي الطبع قاسي القلب، قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] . رواه الترمذي في «الشمائل» في حديث الحسن الطويل، وفيه: سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ ... الحديث. (و) روى الترمذيّ في «جامعه» و «شمائله» برجال ثقات؛ (عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت) - وقد سئلت عن خلقه صلّى الله عليه وسلم قالت-: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا، ولا متفحّشا، ولا صخّابا في الأسواق، ... (لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاحشا) ؛ أي: ذا فحش طبعا؛ في أقواله وأفعاله وصفاته. والفحش: ما خرج عن مقداره حتّى يستقبح، واستعماله في القول أكثر. (ولا متفحّشا) أي: متكلّفا الفحش في أقواله وأفعاله وصفاته، فالمقصود نفي الفحش عنه صلّى الله عليه وسلم طبعا وتكلّفا، إذ لا يلزم من نفي الفحش من جهة الطبع نفيه من جهة التطبّع، وكذا عكسه فمن ثمّ تسلّط النفي على كلّ منهما. فهذا من بديع الكلام. وفي البخاري في «الصفة النبوية» و «الأدب» ، ومسلم في «الفضائل» ، والترمذيّ في «البر» من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحّشا ... الحديث. فتوارد عبد الله بن عمرو مع عائشة على نفي الصفتين دليل ظاهر على أنّ ذلك جبلّته مع الأهل والأجانب. (ولا صخّابا) - بالصاد المهملة المشدّدة- أي: لم يكن ذا صخب (في الأسواق) ، فصيغة «فعال» - بالتشديد- للنّسب؛ كتمّار ولبّان، فيفيد التركيب حينئذ نفي الصّخب من أصله؛ على حدّ قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد (46) [فصلت] أي: بذي ظلم. وليس صيغة «فعّال» للمبالغة!! لئلا يفيد التركيب حينئذ نفي كثرة الصخب فقط، فالمعنى: ولا صيّاحا في الأسواق، وإذا لم يكن في الأسواق كذلك فغيرها أولى. وقد جاء سخّابا- بالسين المهملة أيضا؛ على ما ذكره ميرك- من السّخب بفتحتين؛ كالصخب، و «في» ظرفية، والأسواق جمع سوق؛ سمّيت بذلك!! لسوق الأرزاق إليها، أو لقيام النّاس فيها على سوقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح. و (الصّخب) : شدّة الصّوت. وفي «الإحياء» : ... (ولا يجزي) - بفتح الياء التحتية من غير همزة في آخره؛ بزنة «يرمي» أي: لا يكافىء (بالسّيّئة) التي يفعلها الغير معه (السّيّئة) التي يفعلها هو مع الغير؛ مجازاة له، فالباء للمقابلة. وتسمية الّتي يفعلها هو مع الغير مجازاة له «سيئة» !! من باب المشاكلة؛ كما في قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [40/ الشورى] ، وإشارة إلى أنّ الأولى العفو والإصلاح، ولذلك قال تعالى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [40/ الشورى] . (ولكن) استدراك لدفع ما قد يتوهّم أنّه ترك الجزاء عجزا؛ أو مع بقاء الغضب!! فصرّحت عائشة رضي الله تعالى عنها بأنّه مع القدرة؛ فقالت: (يعفو) أي: يعامل الجاني معاملة العافي، بأن لا يظهر له شيئا مما تقتضيه الجناية، (ويصفح) : يظهر له أنّه لم يطلع على شيء من ذلك، أو المراد يعفو بباطنه؛ ويصفح يعرض بظاهره، وذلك منه طبعا وامتثالا، لقوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [13/ المائدة] وأصله من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء؛ كأنه لم يره. وحسبك من عفوه وصفحه عن أعدائه الّذين حاربوه، وبالغوا في إيذائه حتّى كسروا رباعيته وشجّوا وجهه!. وما من حليم؛ إلّا وقد عرفت له زلّة أو هفوة تخدش في كمال حلمه؛ إلّا المصطفى صلّى الله عليه وسلم، فلا يزيده الجهل عليه وشدّة إيذائه إلّا عفوا وصفحا انتهى «باجوري» . قال: (والصّخب) - محرّكا- (: شدّة الصوت) يقال: صخب كفرح؛ فهو صخّاب وهي صخّابة. انتهى (وفي «الإحياء» ) أي: كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 قد وصفه الله تعالى في «التّوراة» قبل أن يبعثه فقال: محمّد رسول الله عبدي المختار؛ لا فظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ... (قد وصفه الله تعالى في «التّوراة» ) الّذي أنزل على موسى- على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- (قبل أن يبعثه) بمدّة طويلة في السّفر الأوّل؛ (فقال محمّد رسول الله عبدي المختار) ؛ أي: اخترته من بين عبادي، (لا فظّ) - بفتح الفاء وتشديد الظاء المعجمة- وهو من الرجال: سيّء الخلق، (ولا غليظ) ؛ هو: الجافي الطبع القاسي القلب، ولا ينافيه قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [73/ التوبة] !! لأنّ النفي بالنسبة للمؤمنين؛ والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين، كما هو مصرّح به في الآية. أو النفي محمول على طبعه؛ والأمر محمول على المعالجة. قال العلّامة ملا علي قاري رحمه الله تعالى: وفيه نكتة لطيفة؛ وهي: أنّه كانت صفة الجمال من الرحمة واللّين غالبة عليه حتّى احتاج بمعالجة الأمر إليه. انتهى. (ولا صخّاب) ؛ من الصّخب- بالصاد والسين والخاء المعجمة- محرّكة؛ هو الضّجر واضطراب الأصوات للخصام. وقيل: غير ذلك. (في الأسواق) لأنّه ليس ممّن ينافس في الدنيا وجمعها؛ حتّى يحضر الأسواق لذلك؛ فذكرها إنّما هو لكونها محلّ ارتفاع الأصوات لذلك؛ لا لإثبات الصّخب في غيرها، أو لأنّه إذا انتفى فيها انتفى في غيرها بالأولى. والمراد بالمبالغة هنا أصل الفعل. وقد تقدّم قريبا الكلام على ذلك. (ولا يجزي) بوزن: يرمي (بالسّيّئة السّيّئة) - بالنصب-، ولما كان ذلك موهما أنّه ترك الجزاء عجزا؛ استدركه بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ولكن يعفو ويصفح، مولده بمكّة، وهجرته بطابة، وملكه بالشّام، يأتزر على وسطه، هو ومن معه دعاة للقرآن والعلم، يتوضّأ على أطرافه. (ولكن يعفو) بباطنه، (ويصفح) : يعرض بظاهره، امتثالا لقوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) [المائدة] . (مولده بمكّة) في سوق الليل؛ محلّ معروف هناك، وقد جعل الآن خزانة للكتب العلمية الدينية؛ تابع لوزارة الأوقاف (وهجرته بطابة) ، وهو من أسماء المدينة المنورة، (وملكه بالشّام) ، المراد به الإقليم المعروف، وقد صارت المملكة الإسلامية كلّها عاصمتها دمشق الشام في زمن سيّدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، ثم من بعده خلفاء بني أمية. (يأتزر على وسطه) أي: يستعمل الإزار؛ كما هو عادة العرب. (هو ومن معه) من أصحابه (دعاة) ؛ جمع داع- بالدال المهملة- أي: يدعون النّاس. وفي «الإحياء» - بالراء-: رعاة (للقرآن والعلم) أي: حملة لهما، وحفظة يرعونهما حقّ الرّعاية بالحفظ والفهم والعمل بما فيه. (يتوضّأ على أطرافه) أي: يغسل أطرافه عند الوضوء. قال في «شرح الإحياء» : أخرج البيهقيّ في «الدّلائل» عن عطاء بن يسار؛ قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي؛ فقلت له: أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في «التوراة» ، فقال: أجل والله؛ إنّه لموصوف في «التوراة» ببعض صفته في القرآن: «يا أيّها النّبيّ؛ إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا وحرزا للأمّيّين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخب بالأسواق، ولا يدفع السّيّئة بالسّيّئة، ولكن يعفو ويغفر ... الحديث، وفي لفظ له: ولا صخّاب في الأسواق، وفيه: ولكن يعفو ويصفح» . رواه البخاريّ عن محمّد بن سنان عن فليح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وكذلك نعته في «الإنجيل» . ورواه البيهقي نحو ذلك؛ من حديث عبد الله بن سلام وكعب الأحبار. وفيه: ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز. ومن طريق محمّد بن ثابت بن شرحبيل عن أمّ الدرداء أنّها سألت كعبا عن صفته صلّى الله عليه وسلم في «التوراة» ؛ فقال: نجده «محمّد رسول الله اسمه المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق» ... الحديث. ورواه من طريق المسيّب؛ عن نافع؛ عن كعب: قال الله عزّ وجلّ لمحمّد صلّى الله عليه وسلم «عبدي المتوكّل المختار؛ ليس بفظّ ولا غليظ، ولّا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح» . وأخرجه البيهقيّ؛ من طريق عمر بن الحكم بن رافع بن سنان عن بعض عمومته وآبائه: أنّه كانت عندهم ورقة يتوارثونها عن الجاهلية حتّى جاء الله بالإسلام، وفيها: «لأمّة تأتي في آخر الزّمان يبلّون أطرافهم، ويتّزرون على أوساطهم» ... الحديث. (وكذلك نعته في «الإنجيل» ) من جهة بعثته ومهاجرته وما خصّه الله من أوصافه. أخرج البيهقيّ في «الدلائل» ؛ من طريق العيزار بن حريث؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكتوب في «الإنجيل» : «لا فظّ ولا غليظ، ولا صخّاب بالأسواق؛ ولا يجزي بالسّيّئة مثلها، بل يعفو ويصفح» . وقد ذكر ذلك صاحب «الشفاء» وغيره، وأوسع شرّاحه الكلام فيه. وروى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يكن فاحشا ولا متفحّشا، ولا سخّابا في الأسواق، ولا يجزي السيّئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح! وقد تقدّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجفو على أحد، ولو فعل معه ما يوجب الجفاء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقبل معذرة المعتذر إليه، ولو فعل ما فعل. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا آذاه أحد.. يعرض عنه، ويقول: «رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . (و) في «كشف الغّمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم لا يجفو على أحد، ولو فعل معه ما يوجب الجفاء) . روى أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ؛ من حديث أنس رضي الله عنه: قلّما يواجه رجلا بشيء يكرهه. وفيه ضعف. وللشيخين؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا استأذن عليه صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «بئس أخو العشيرة» . فلمّا دخل ألان له القول ... الحديث.. وسيأتي. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يقبل معذرة المعتذر إليه؛ ولو فعل ما فعل) . متّفق عليه؛ من حديث كعب بن مالك في قصّة الثلاثة الذين خلّفوا، وفيه: طفق المخلّفون يعتذرون إليه؛ فقبل منهم علانيتهم ... الحديث. (و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا آذاه أحد يعرض عنه) ويصفح، ولا يقابله بالجفا، بل يشفق عليه؛ (ويقول: «رحم الله أخي موسى) - بن عمران عليه أفضل الصلاة والسلام- (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ) أي: آذاه قومه بأشدّ مما أوذيت به من تشديد فرعون وقومه، وإبائه عليه، وقصده إهلاكه، بل ومن تعنّت من آمن معه من بني إسرائيل حتّى رموه بالأدرة، واتهموه بقتل أخيه هارون عليه السلام لما مات معه في التّيه، ولما سلك بهم البحر؛ قالوا: إنّ صحبنا لا نراهم!! فقال: «سيروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى اللّعب المباح فلا ينكره، وترفع عليه الأصوات بالكلام الجافي، فيحتمله ولا يؤاخذ. فإنّهم على طريق كطريقكم» . قالوا: لا نرضى حتّى نراهم. قال: «اللهم أعنّي على أخلاقهم السيّئة» . ففتحت لهم كوّات في الماء فتراؤا وتسامعوا.. إلى غير ذلك من تعنّتاتهم معه عليه الصلاة والسلام. وكلامه صلّى الله عليه وسلم ذلك شفقة عليهم ونصحا في الدين؛ لا تهديدا وتثريبا. وسيأتي هذا الحديث مع بيان أنّه رواه الإمام أحمد، والشيخان؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يرى اللّعب المباح فلا ينكره) . وروى البخاريّ، ومسلم؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في لعب الحبشة بين يديه في المسجد، وقال لهم: «دونكم؛ يا بني أرفدة» . (وترفع عليه الأصوات بالكلام الجافي فيحتمله؛ ولا يؤاخذ) . قال الحافظ العراقي: روى البخاريّ؛ من حديث عبد الله بن الزبير: قدم ركب من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد! وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس! فقال أبو بكر: ما أردت إلّا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [1/ الحجرات] انتهى. وروى البخاريّ، وابن المنذر، والطبرانيّ عن ابن أبي مليكة؛ قال: كاد الخيّران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلّى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب من بني تميم ... فساقه. وأخرجه الترمذيّ من هذا الطريق. انتهى شرح «الإحياء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سئل أن يدعو على أحد.. عدل عن الدّعاء عليه ودعا له. وما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده امرأة ولا خادما قطّ ولا غيرهما؛ إلّا أن يكون في الجهاد. (و) في «الإحياء» و «كشف الغمة» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا سئل أن يدعو على أحد) مسلم أو كافر؛ عامّ أو خاصّ (عدل عن الدّعاء عليه ودعا له) . روى الشيخان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالوا: يا رسول الله؛ إنّ دوسا قد كفرت وأبت فادع عليها. فقيل: هلكت دوس. فقال: «اللهمّ؛ اهد دوسا وأت بهم» . ولما آذاه المشركون يوم أحد وكسروا رباعيته وشجّوا وجهه شقّ ذلك على أصحابه، فقالوا: لو دعيت عليهم؟! فقال: «إنّي لم أبعث لعّانا! ولكن بعثت داعيا ورحمة!! اللهمّ؛ اغفر لقومي- أو اهد قومي- فإنّهم لا يعلمون» . (و) روى مسلم، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده) - لتأكيد النوعيّة؛ نحو يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [38/ الأنعام] ، إذ الضرب عادة لا يكون إلا باليد- (امرأة) من نسائه، (ولا خادما) له (قطّ) وخصّهما!! لكثرة وجود سبب ضربهما، للابتلاء بمخاطبتهما ومخالفتهما غالبا، (ولا غيرهما) آدميّ وغيره؛ أي: ضربا مؤذيا. وضربه لمركوبه!؟ لم يكن مؤذيا، ووكز بعير جابر حتّى سبق القافلة بعد ما كان عنها بعيدا معجزة، وكذا ضربه لفرس طفيل الأشجعيّ لمّا رآه متخلّفا عن الناس؛ وقال: «اللهمّ؛ بارك فيها» ، وقد كان هزيلا ضعيفا!! قال طفيل: فلقد رأيتني ما أملك رأسها، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا. رواه النسائي «ذكره الزرقانيّ على «المواهب» . (إلّا أن يكون في الجهاد) فيضرب إن احتاج إليه، وقد قتل بأحد أبيّ بن خلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان الخادم إذا أغضبه.. يقول صلّى الله عليه وسلّم: «لولا خشية القصاص يوم القيامة.. لأوجعتك بهذا السّواك» . ولمّا كسرت رباعيته صلّى الله عليه وسلّم وشجّ وجهه ... الكافر، وما قتل بيده أحدا غيره!! بل قال ابن تيمية: لا نعلمه ضرب بيده أحدا غيره. انتهى. (قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان الخادم إذا أغضبه يقول صلّى الله عليه وسلم: «لولا خشية القصاص يوم القيامة لأوجعتك بهذا السّواك» ) . ذكره الشعراني في «كشف الغمّة» . (و) في «الشفاء» و «المواهب» : روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم (لمّا كسرت) - بصيغة المجهول؛ يعني: شطبت- (رباعيته صلّى الله عليه وسلم) اليمنى السفلى وذهبت منها فلقة، وهي- بفتح الراء وخفّة الموحّدة والمثناة التحتية المفتوحة؛ بوزن ثمانية-: السنّ التي بين الثنية والنّاب. وللإنسان ثنايا أربع، ورباعيات أربع، وأنياب أربعة، وأضراس عشرون. وكان الذي كسرها عتبة بن أبي وقّاص وجرح شفته السفلى. (وشجّ وجهه) - بصيغة المجهول- شجّه عبد الله بن شهاب الزّهري؛ قاله العلامة ملا علي القاري. وقال الزرقاني: إن الّذي شجّ وجهه عبد الله بن قمئة، ونقل الخفاجيّ؛ عن «سيرة ابن هشام» وغيره: أن عتبة بن أبي وقّاص رماه صلّى الله عليه وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السّفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجّ وجهه الشريف، وأنّ ابن قمئة ضربه بالسيف على شقّه الأيمن وجرح وجنته؛ فدخلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 يوم أحد.. شقّ ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنّي لم أبعث لعّانا؛ ولكن بعثت داعيا ورحمة، حلقتان من المغفر في وجنته الشريفة فنزعهما أبو عبيدة بن الجرّاح حتى سقطت ثنيّته. وقد اختلف في إسلام عتبة بن أبي وقّاص؟! والصحيح أنّه لم يسلم، وابن شهاب أسلم. وأمّا ابن قمئة! فنطحه كبش فقتله، أو فألقاه من شاهق فهلك، ولم يولد أحد من نسل عتبة إلّا أبخر أهتم. فسرى خزيه لعقبه. انتهى. ذكره الخفاجي والقاري في «شرحيهما» ؛ على «الشفا» رحمهم الله تعالى. آمين. (يوم أحد) حتّى صار الدم يسيل على وجهه الشّريف، فصار ينشّفه، ويقول: «لو وقع شيء منه على الأرض لنزل عليهم العذاب من السّماء» . (شقّ ذلك) المذكور؛ من الكسر والجرح والشجّ (على أصحابه) شقّا (شديدا، وقالوا) له صلّى الله عليه وسلم (: لو دعوت) ؛ أي: الله (عليهم) أي: على الكفّار بأن يهلكهم الله ويستأصلهم بأشدّ العذاب لأجيب دعاؤك، أو أنّ «لو» للتمنّي؛ فلا تحتاج لجواب. (فقال: «إنّي لم أبعث) - بالبناء للمجهول- أي: لم يبعثني الله (لعّانا) أي: صاحب لعن وطرد عن رحمة الله تعالى، فالمراد نفي أصل الفعل؛ نحو وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ [46/ فصلت] يعني: لو دعوت عليهم لبعدوا عن رحمة الله تعالى، ولصرت قاطعا عن الخير مع أنّي لم أبعث بهذا، (ولكن بعثت داعيا) للناس إلى الله تعالى، (ورحمة) للناس أجمعين بإخراجهم من الكفر إلى الإيمان، وبتأخير العذاب عمن كفر؛ لا لطردهم من رحمة الله، وإبعادهم عنه، فاللعن مناف لحالي فكيف ألعن؟!!. ثمّ لم يكتف بذلك حتّى سأل الله تعالى لهم الغفران أو الهداية، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها ... (اللهمّ) ؛ اغفر لقومي، كما في رواية، وفي أخرى: اللهمّ (اهد قومي) بإضافتهم إليه؛ إظهارا لسبب شفقته عليهم، فإنّ الطبع البشري يقتضي الحنوّ على القرابة بأيّ حال، ولأجل أن يبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان. ثمّ اعتذر عنهم بالجهل؛ بقوله: (فإنّهم لا يعلمون» ) طريق الحق؛ ولا معرفة قدر نبيه صلّى الله عليه وسلم، وما يريد بهم من الخير، ولو علموا ذلك لم يصدر عنهم ما صدر. ولم يقل «يجهلون» !! تحسينا للعبارة ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، مع أنّه إنّما هو جهل حكميّ، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البيّنات عذر، لكنه تضرّع إلى الله أن يمهلهم حتّى يكون منهم، أو من ذريّتهم مؤمنون، وقد حقّق الله رجاءه. انتهى «زرقاني، وخفاجي» . وقال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : والحديث رواه البيهقيّ في «شعب الإيمان» مرسلا، وآخره موصولا؛ وهو في «الصحيح» حكاية عن نبيّ ضربه قومه. انتهى (و) أخرج البخاريّ في «الأدب» و «الصفة النبوية» ، ومسلم في «الفضائل» ، والإمام أحمد، وأبو داود في «الأدب» ، والترمذيّ في «الشمائل» مع مخالفة يسيرة، وهذا لفظ «الشمائل» إلّا قوله فإن كان إثما ... إلخ: كلهم؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت) أي: ما علمت، إذ هو الأنسب بالمقام (رسول صلّى الله عليه وسلم منتصرا) ؛ أي منتقما وناصرا لنفسه على غيره (من) أجل (مظلمة) - بفتح الميم وكسر اللام، وتفتح- (ظلمها) - بصيغة المجهول- فلا ينتصر لنفسه ممّن ظلمه، بل كان يعفو عنه؛ فقد عفا عمّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 قطّ ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء.. كان من أشدّهم في ذلك غضبا. وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما؛ ... قال له «إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى» !! لأجل تأليفه في الإسلام، مع عذره؛ لاحتمال أنّها جرت على لسانه من غير أن يقصد بها الطعن في القسمة، وقد عفا أيضا عمّن رفع صوته عليه، لكونه طبعا وسجيّة له؛ كما هو عادة جفاة العرب. وعمّن جذبه بردائه حتّى أثّر في عنقه الشريف؛ وقال: إنّك لا تعطيني من مالك، ولا من مال أبيك!! فضحك وأمر له بعطاء!! لما كان عليه من مزيد الحلم والصبر، والاحتمال، فلو انتقم لنفسه لم يكن عنده صبر، ولا حلم، ولا احتمال، بل يكون عنده بطش وانتقام. (قطّ) أبدا (ما لم ينتهك) - مبني للمفعول- أي: يرتكب (من محارم الله شيء) حرّمه الله، وهذا كالاستثناء المنقطع، لأنه في هذه الحالة ينتصر لله، لا لنفسه، وإنّما ناسب ما قبله!! لأنّ فيه انتقاما ما في الجملة. (فإذا انتهك) أي: ارتكب (من محارم الله شيء) حرّمه الله؛ (كان من أشدّهم) أي: أشدّهم «من» زائدة (في ذلك) أي: لأجل ذلك (غضبا) ، فينتقم ممّن ارتكب ذلك لصلابته، فإن العفو عن ذلك ضعف ومهانة. ويؤخذ من ذلك: أنّه يسنّ لكل ذي ولاية التّخلّق بهذا الخلق، فلا ينتقم لنفسه، ولا يهمل حقّ الله عزّ وجلّ. (وما) - رواية الشيخين: ولا- (خيّر) بلفظ المبنيّ للمجهول (بين أمرين) أي: من أمور الدنيا، بدليل قوله: «ما لم يكن مأثما» لأنّ أمور الدين لا إثم فيها. (إلّا اختار أيسرهما) : أسهلهما وأخفّهما، فإذا خيّره الله في حقّ أمّته بين وجوب الشيء وندبه؛ أو حرمته؛ أو إباحته اختار الأيسر لهم، وكذلك إذا خيّره الله في حقّ أمّته بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد، فيختار الأسهل لهم؛ وهو الاقتصاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ما لم يكن إثما، فإن كان إثما.. كان أبعد النّاس منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وإنّما يغضب إذا انتهكت حرمات الله عزّ وجلّ؛ فحينئذ يغضب، ولا يقوم لغضبه شيء ... وإذا خيّره الكفّار بين المحاربة والموادعة؛ اختار الأخفّ عليهم؛ وهو الموادعة. وإذا خيّره الله بين قتال الكفار وأخذ الجزية منهم اختار الأخفّ عليهم؛ وهو أخذ الجزية. فينبغي الأخذ بالأيسر، والميل إليه دائما، وترك ما عسر من أمور الدنيا والآخرة. وفي معنى ذلك الأخذ برخص الله تعالى ورسوله ورخص العلماء؛ ما لم يتتبع ذلك بحيث تنحلّ ربقة التقليد من عنقه؛ قاله الباجوري رحمه الله تعالى. (ما لم يكن) أيسرها (إثما) ، وبعضهم جعل الاستثناء منقطعا؛ إن كان التخيير من الله، ومتّصلا؛ إن كان من غيره، إذ لا يتصوّر تخيير الله إلّا بين جائزين. (فإن كان) الأيسر (إثما؟ كان) صلى الله عليه وسلم (أبعد النّاس منه) ؛ فيختار الأشدّ حينئذ. (وكان صلّى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها) ؛ أي: لا ينتصر لها إذا آذاه أحد من الأعراب وغيرهم؛ بما يتعلّق بنفسه. (وإنّما يغضب إذا انتهكت) : ارتكبت (حرمات الله عزّ وجلّ، فحينئذ يغضب) لله تعالى؛ لا لحظّ نفسه. (ولا يقوم) ؛ من قام: إذا ثبت، أي لا يثبت (لغضبه شيء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 حتّى ينتصر للحقّ، وإذا غضب.. أعرض وأشاح. والقريب والبعيد والقويّ والضّعيف.. عنده في الحقّ سواء. قوله (أشاح) أي: أعرض بوجهه. والمعنى: لا يقوم أحد من الخلق لدفع غضبه إذا تعرّض أحد له في أمر ربّه (حتّى ينتصر للحقّ) ؛ أي: يقوم بنصرة الحقّ فيؤدّيه ويبطل خلافه. (وإذا غضب أعرض) عمّن غضب عليه من غير لوم له، لشدّة حلمه صلّى الله عليه وسلم (وأشاح) - بشين معجمة وحاء مهملة؛ بينهما ألف- قيل معناه: صرف وجهه، فهو تأكيد لما قبله، وقيل معناه: قبض وجهه وزواه من غير لوم وعقاب؛ قاله الخفاجي. (والقريب) أي: ذو القرابة (والبعيد) أي: الأجنبيّ، (والقويّ) ؛ أي: القادر على أخذ حقّه، (والضّعيف) أي: القاصر عن التوصّل إلى حقّه كلّهم (عنده في الحقّ سواء) ، فيأخذ الحقّ من القويّ للضعيف، ومن القريب للبعيد، وعكسه. (قوله: أشاح) - بشين معجمة وحاء مهملة في آخره- (أي: أعرض بوجهه) وصفح عنقه عنه، فهو على هذا تأكيد لما قبله- كما تقدّم-. روى الترمذيّ في «الشمائل» في حديث هند بن أبي هالة: «لا تغضبه الدنيا؛ وما كان منها، فإذا تعدّي الحقّ؛ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وقد تقدّم. ونحوه في «الشفاء» وفيه: وإذا غضب أعرض وأشاح. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود: ثلاثتهم في «الأدب» ، والترمذيّ في «البرّ» في «جامعه» وفي «شمائله» مع مخالفة في الألفاظ- وهذا لفظ- «الشمائل» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عنده، فقال: «بئس ابن العشيرة» ، أو «أخو العشيرة» . ثمّ أذن له، فلمّا دخل.. ألان له القول. فلمّا خرج.. قلت: يا رسول الله؛ قلت ما قلت، ثمّ ألنت له القول؟ (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: استأذن رجل) هو عيينة بن حصن الفزاريّ الّذي يقال له «الأحمق المطاع» ، وكان إذ ذاك مضمر النّفاق، فلذلك قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم ما قال ليتّقي شرّه، فهو ليس بغيبة، بل نصيحة للأمّة. ويدلّ على ذلك أنّه أظهر الردّة بعده صلّى الله عليه وسلم- كما سيأتي- (على رسول الله) أي: في الدخول على رسول الله (صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال) ؛ أي: النبي صلّى الله عليه وسلم في حقّ عيينة (: «بئس ابن العشيرة» ؛ أو «أخو العشيرة» .) هكذا وقع في هذه الرواية بالشكّ من الراوي، وفي البخاري: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» - بالواو- ومن غير شكّ، والشكّ من سفيان، فإنّ جميع أصحاب ابن المنكدر رووه عنه بدون الشك. والعشيرة: القبيلة، وإضافة الابن أو الأخ إليها كإضافة الأخ إلى العرب؛ في قوله: «يا أخا العرب» يريدون بذلك واحدا منهم؛ أي: بئس هذا الرجل من هذه القبيلة؛ فهو مذموم متميّز بالذمّ من بين آحادها. (ثمّ أذن له) أي: في الدخول، (فلمّا دخل ألان له القول) أي: لطّفه له ليتألّفه ليسلم قومه، لأنّه كان رئيسهم. وفيه جواز مداراة الكافر اتقاء شرّه، لا سيّما إن كان مطاعا في قومه ما لم يؤدّ للمداهنة في الدين. (فلمّا خرج قلت: يا رسول الله؛ قلت ما قلت) أي: قلت الّذي قلته في غيبته (ثمّ ألنت له القول) ؛ أي: لطّفت له القول عند معاينته، فهلا سوّيته بين حضوره وغيبته؟! وما السبب في عدم التسوية بين الحالين؛ كما هو المأمول منك فظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس، أو ودعه النّاس اتّقاء فحشه» . قال في «المواهب» : (هذا الرّجل هو عيينة بن حصن ... من هذا أنّ غرضها الاستفهام عن سبب عدم التسوية بين الحالين كما هو المأمول. (فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس- أو ودعه النّاس) شكّ من سفيان، والدّال مخففة؛ كما قرىء به قوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ شاذّا، فلا ينافي قول الصرفيين: «وأمات العرب ماضي: يدع، ويذر» !! لأنّ المراد بإماتته ندرته؛ فهو شاذّ استعمالا صحيح قياسا. قال صاحب «منظومة الصرف» . وقد أماتوا الماضي من يذر يدع ... لكنّ في الضّحى قري بما ودع (اتقاء فحشه» ) أي: لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله، أو لأجل اتقاء مجاوزته الحدّ الشرعي؛ قولا، أو فعلا. وحاصل ما أجابها به عليه الصلاة والسلام: أنّه ألان له الكلام في الحضور لاتقاء فحشه؛ كما هو شأن جفاة العرب، لأنّه لو لم يلن له الكلام لأفسد حال عشيرته، وزيّن لهم العصيان، وحثّهم على عدم الإيمان، فإلانة القول له من السياسة الدينية والمصلحة للأمّة المحمّدية. وبالجملة؛ فقد كمّل الله نبيّنا صلّى الله عليه وسلم في كلّ شيء. ومن جملة ذلك تأليفه لمن يخشى عليه؛ أو منه، فكان يتألّفهم ببذل الأموال وطلاقة الوجه، وشفقة على الخلق وتكثيرا للأمّة، كيف لا؛ وهو نبيّ الرّحمة؟! وقد جمع هذا الحديث علما وأدبا؛ فتنبّه لذلك. (قال) العلّامة شهاب الدّين أبو العبّاس القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنيّة» ؛ نقلا عن ابن بطّال (: هذا الرّجل) المبهم في الحديث (هو عيينة بن حصن) - بكسر الحاء المهملة وإسكان الصاد المهملة- ابن حذيفة بن بدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 الفزاريّ، وكان يقال له: (الأحمق المطاع) . وقد كانت منه في حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعده أمور تدلّ على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به عليه الصّلاة والسّلام من علامات النّبوّة. وأمّا إلانة القول بعد أن دخل ... (الفزاريّ) - نسبة إلى بني فزارة: قبيلة مشهورة- وكذا فسّره به القاضي عياض، والقرطبيّ، والنوويّ جازمين بذلك. (وكان يقال له «الأحمق) - فاسد العقل- (المطاع» ) !! لأنّه كان يتبعه من قومه عشرة آلاف قناة لا يسألونه «أين يريد» . ومن حمقه أنّه دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم وعائشة عنده قبل نزول الحجاب؛ فقال: من هذه؟ قال: «عائشة» . قال: ألا أنزل لك عن أمّ البنين؟! فغضبت عائشة؛ وقالت: من هذا؟! فقال صلّى الله عليه وسلم: «هذا الأحمق المطاع» يعني: في قومه. رواه سعيد بن منصور. وروى الحارث بن أبي أسامة هذا الحديث مرسلا؛ وفيه: «إنّه منافق أداريه عن نفاقه، وأخشى أن يفسد عليّ غيره» . (وقد كانت منه في حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وبعده أمور تدلّ على ضعف إيمانه) ؛ كدخوله على المصطفى بلا إذن، فقال له: «أخرج فاستأذن» !. فقال: إنّها يمين عليّ ألاأستأذن على مضريّ. وقوله لعمر في خلافته: ما تعطي الجزل، ولا تحكم بالعدل. فغضب؛ فقال له الحرّ بن قيس: إنّ الله يقول خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف] فتركه عمر رضي الله عنه. ودخل على عثمان فأغلظ له؛ فقال عثمان: لو كان عمر ما أقدمت عليه. (فيكون ما وصفه به عليه الصّلاة والسّلام من علامات النّبوّة) . (وأمّا إلانة القول بعد أن دخل) على المصطفى صلّى الله عليه وسلم في المحلّ الذي كان فيه!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 فعلى سبيل الائتلاف والمداراة. وهي مباحة، وربّما استحسنت بخلاف المداهنة. والفرق بينهما أنّ المداراة: بذل الدّنيا لصلاح الدّنيا أو الدّين، أو هما معا. (فعلى سبيل الائتلاف والمداراة، وهي مباحة، وربّما استحسنت) ؛ فكانت مستحبّة، أو واجبة. وللديلميّ في «الفردوس» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «إنّ الله أمرني بمداراة النّاس؛ كما أمرني بإقامة الفرائض» . ولابن عديّ، والطّبراني؛ عن جابر رفعه: «مداراة النّاس صدقة» . وفي حديث أبي هريرة: «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة النّاس» . أخرجه البيهقي بسند ضعيف، وعزاه في «فتح الباري» للبزّار! وتعقبه الحافظ السّخاويّ؛ بأن لفظ البزار «التّودّد إلى النّاس» بدل «مداراة النّاس» !!. انتهى. (بخلاف المداهنة) في الدين؛ فليست مباحة، بل محرّمة. وفي «شرح القاموس» : المداهنة المصانعة؛ كما في «الصحاح» ، وقيل: إظهار خلاف ما يضمر؛ كالادّهان. ومنه قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم] . وقال الفرّاء: يعني ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال- في قوله تعالى أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) [الواقعة]- أي: تكذّبون. ويقال: كافرون. وقيل: معناه ودّوا لو تلين في دينك فيلينون. وقال قوم: المداهنة المقاربة، والادّهان الغش؛ نقله الجوهري. انتهى ملخصا. (والفرق بينهما) أي: بين المداراة والمداهنة (: أنّ المداراة بذل الدّنيا لصلاح الدّنيا أو) لصلاح (الدّين، أو هما) أي: الدين والدنيا، أي لصلاحهما (معا) ، أو لسلامة عرضه من مذمّة أهل الشرّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 والمداهنة: بذل الدّين لصلاح الدّنيا. والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما بذل له من دنياه حسن عشرته والرّفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإنّ قوله فيه حقّ، وفعله معه حسن عشرة، وقد ارتدّ عيينة في زمن الصّدّيق وحارب، ... وفي الحديث: «ما وقى به المرء عرضه فهو له صدقة» ، فإذا استكفى الإنسان ما يخافه من شرّ الأشرار بما لا يضرّه في دينه؛ لم يكن عليه في ذلك جناح؛ إن شاء الله تعالى، وهذا إنّما يكون عند الابتلاء بالأشرار. ومن البذل لين الكلام، وترك الإغلاظ في القول، والرفق بالجاهل في التعليم؛ والفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لم يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف حتّى يرتدع عمّا هو مرتكبه، فكلّ هذا من أنواع المداراة. (و) أما (المداهنة) ! فهي (: بذل الدّين لصلاح الدّنيا) ، كأن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكون مرتكب ذلك يعطيه شيئا من الدنيا، وذلك واقع كثيرا، وقلّما فعل ذلك أحد؛ إلّا أذلّه الله وأهانه، وسلّط عليه النّاس وحرم ممّا يرجوه منهم. (والنّبيّ صلّى الله عليه وسلم إنّما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرّفق في مكالمته) ، وليس ذلك من بذل الدين في شيء!! (ومع ذلك فلم يمدحه بقول! فلم يناقض قوله فيه فعله، فإنّ قوله فيه) «بئس ابن العشيرة» (حقّ، وفعله معه حسن عشرة) ، فيزول مع هذا التقرير الإشكال الّذي هو: أن النصيحة فرض؛ وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك!؟ وحاصل جوابه: أنّ الفرض سقط لعارض. ولله الحمد على فهمه، ما ظاهره يشكل علينا ففهمه من النّعم. قال في «فتح الباري» : (وقد ارتدّ عيينة في زمن الصّدّيق وحارب) ، وبايع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 ثمّ رجع وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر رضي الله تعالى عنه) انتهى. وقال ابن الأثير ... طليحة. قال بعضهم: فجيء به إلى الصدّيق أسيرا؛ فكان الصبيان يصيحون عليه في أزقّة المدينة، ويقولون: هذا الّذي خرج من الدين؟! فيقول لهم: عمّكم لم يدخل حتّى خرج، فكان ذلك القول علما من أعلام نبوّته صلّى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته حيث أشار لمغيّب يقع؛ لكنه كما قال. (ثمّ رجع وأسلم) بعد ذلك وحسن إسلامه، (وحضر بعض الفتوح في عهد عمر) بن الخطاب (رضي الله تعالى عنه. انتهى) أي كلام «المواهب» ؛ مع «شرحه من الزرقاني» . (وقال) الإمام العلّامة المحدّث المؤرّخ النّسّابة أبو الحسن عليّ بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف ب « (ابن الأثير) » الجزري الملقّب «عز الدين» . ولد بالجزيرة؛ أي: جزيرة ابن عمر سنة: خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها وسكن الموصل، وتجوّل في البلدان، وعاد إلى الموصل ولزم بيته متوفّرا على النظر في العلم والتّصنيف، وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها. وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته، وما يتعلّق به، وحافظا للتواريخ المتقدّمة والمتأخرة، وخبيرا بأنساب العرب ووقائعهم وأخبارهم. قال ابن خلّكان: واجتمعت به فوجدته رجلا مكمّلا في الفضائل وكرم الأخلاق، وكثرة التواضع؛ فلازمت التّرداد عليه، وكان بينه وبين الوالد مؤانسة أكيدة، فكان بسببها يبالغ في الرعاية والإكرام لي. ومن مؤلّفاته كتاب «الكامل في التاريخ» ، وهو من خيار التواريخ مرتّب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 في كتابه «أسد الغابة» ، في آخر ترجمة مخرمة بن نوفل رضي الله تعالى عنه: (روى النّضر بن شميل قال: حدّثنا أبو عامر الخزّاز، ... السنين، بلغ فيه عام: تسع وعشرين وستمائة. وأكثر من جاء بعده من المؤرخين عيال على كتابه. ومنها كتاب «اللباب في مختصر «الأنساب» لابن السمعاني، و «أسد الغابة في معرفة الصحابة» ، و «تاريخ الدولة الأتابكيّة» ، وغيرها. وكانت وفاته سنة: ثلاثين وستمائة هجرية رحمه الله تعالى. والجزيرة التي ينسب إليها هي جزيرة عبد العزيز بن عمر رجل من أهل «برقعيد» ؛ من أعمال الموصل بناها فأضيفت إليه. وقيل غير ذلك. ذكره ابن خلّكان في «تاريخه» «1» رحمه الله تعالى. (في كتابه «أسد الغابة) في معرفة الصحابة» (في آخر ترجمة مخرمة بن نوفل) القرشيّ الزّهري. صحابي شهير من مسلمة الفتح، وكان له سنّ عالية وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه، وعلم بأنصاب الحرم، فبعثه عمر فيمن بعثه لتحديدها، ومات سنة: أربع- أو: خمس- وخمسين، عن مائة وخمس عشرة سنة. (رضي الله تعالى عنه: روى النّضر بن شميل) - بالتصغير- المازني، أبو الحسن البصري؛ ثم الكوفي النحوي شيخ مرو روى عن حميد، وبهز بن حكيم، وابن عون، وشعبة. وعنه يحيى بن يحيى، وإسحاق، والكوسج، وثّقه النّسائيّ، وأبو حاتم، وابن معين. قال محمد بن قهزاذ مات سنة: ثلاث ومائتين. (قال: حدّثنا أبو عامر الخزّاز) - بمعجمات-: صالح بن رستم المزني   (1) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 عن أبي يزيد المدنيّ، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل، فلمّا سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صوته.. قال: «بئس أخو العشيرة» . فلمّا جاء.. أدناه، فقلت: يا رسول الله؛ قلت له ما قلت، ثمّ ألنت له القول؟ «مولاهم» ، البصري صدوق كثير الخطأ. قال أحمد بن حنبل: صالح الحديث، وضعّفه ابن معين، وأبو حاتم. ووثقّه أبو داود الطيالسيّ، وأبو داود، وابن حبّان، وأبو أحمد ابن عدي وغيرهم. ومات سنة: اثنتين وخمسين ومائة. (عن أبي يزيد المدنيّ) ؛ ثم البصري، روى عن أبي هريرة، وأسماء بنت عميس، وعنه أيوب، وجرير بن حازم؛ وثّقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يسمّى ويكتب حديثه. وقال أبو زرعة: لا أعرف اسمه. (عن عائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ (قالت: جاء مخرمة بن نوفل) القرشيّ الزّهري يستأذن، (فلمّا سمع النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (صوته؛ قال: «بئس أخو العشيرة» ) ؛ أي: الواحد منها. يقال «هو أخو تميم» ؛ أي: واحد منهم، والمراد بالعشيرة: الجماعة من الناس؛ لا واحد لها من لفظها. أو القبيلة؛ قاله عياض. وقال غيره: العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجدّه. وللعشيرة ثلاثة إطلاقات. (فلمّا جاء أدناه) ؛ أي: قرّبه ولاطفه وألان له القول. (فقلت: يا رسول الله؛ قلت له) ؛ أي: لأجله؛ وفي شأنه، لا أنّه خاطبه!! لفساد المعنى (ما قلت) أي: الذي قلته في غيبته، (ثمّ) في حضوره (ألنت له القول) ؛ أي: لطّفت له القول؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس اتّقاء فحشه» . أخرجه الثّلاثة. قال: وكان مخرمة هذا من المؤلّفة قلوبهم، وكان في لسانه فظاظة، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتّقي لسانه) انتهى. (فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس اتّقاء فحشه» ) أي: لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله. (أخرجه الثّلاثة) لم أره فيها! وعزاه في «المواهب» إلى عبد الغني بن سعيد!! ولم يتعقّبه الزّرقاني!! فلو كان موجودا في الكتب الثلاثة لما سكت الزرقاني على عزوه لعبد الغني بن سعيد: كما هي عادته رحمه الله تعالى!! (قال) أي ابن الأثير (: وكان مخرمة هذا من المؤلّفة قلوبهم) ، أعطاه النبي صلّى الله عليه وسلم من غنائم حنين خمسين بعيرا؛ قاله الواقدي. (وكان في لسانه فظاظة) ؛ أي: خشونة في كلامه. وفي البخاريّ؛ عن المسور بن مخرمة أنّ أباه؛ قال له: يا بنيّ؛ بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلم قدمت عليه أقبية؛ وهو يقسمها فاذهب بنا إليه. فذهبنا فوجدنا النبي صلّى الله عليه وسلم في منزله؛ فقال: يا بنيّ؛ ادع لي النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأعظمت ذلك؛ وقلت: أدعو لك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟!! فقال: يا بنيّ إنّه ليس بجبّار! فدعوته، فخرج وعليه قباء من ديباج مزرّر بالذّهب. فقال: «يا مخرمة؛ هذا خبّأناه لك» . فأعطاه إيّاه. قال الحافظ ابن حجر: وللحديث طرق؛ عن ابن أبي مليكة. وفي بعضها أنّه قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما كنت أرى أن تقسم في قريش قسما فتخطئني. (و) عند البغوي وأبي يعلى؛ من طريق صالح بن حاتم بن وردان؛ عن أبيه؛ عن أيوب؛ عن ابن أبي مليكة نحو الأول. وزاد: قلت لحاتم: لم فعل ذلك؟! قال: (كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يتّقي لسانه) أي: خشونة لسانه. (انتهى) ؛ أي: كلام ابن الأثير رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 والظّاهر أنّ ماذكره ابن الأثير من أنّ صاحب هذه القصّة هو مخرمة بن نوفل هو الصّحيح، أو: تكّررت. وعن الحسن بن عليّ [رضي الله تعالى عنه] قال: قال الحسين: سألت أبي عن سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جلسائه.. فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، قال المصنف: (والظّاهر أنّ ما ذكره ابن الأثير) في «أسد الغابة» (من أنّ صاحب هذه القصّة) الأخيرة (هو مخرمة بن نوفل هو) القول (الصّحيح) ، لأن في هذه الرواية التصريح بتسميته! وإن كان في سنده راويان: أبو يزيد، وأبو عامر؛ وفيهما مقال- كما علمت- لكن قال الخطيب والقاضي عياض وغيرهما: الصحيح أنّه عيينة. قالوا: ويبعد أن يقول صلّى الله عليه وسلم في حقّ مخرمة ما قال، لأنّه كان من خيار الصحابة. (أو) يقال: إنّ القصة تعدّدت؛ أي (تكرّرت) !! قال الحافظ ابن حجر: يحمل ذلك على التعدّد. وقد حكى المنذريّ القولين؛ فقال: هو عيينة، وقيل: مخرمة. وهو الراجح. انتهى (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسند فيه راو لم يسمّ (عن الحسن) السّبط (بن عليّ) بن أبي طالب؛ (قال) أي الحسن (: قال الحسين) السّبط أخو الحسن (: سألت أبي) هو عليّ بن أبي طالب (عن سيرة) - بكسر السين- (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي: طريقته ودأبه (في جلسائه) ؛ أي: معهم (فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم دائم البشر) - بكسر الموحّدة وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة الوجه وبشاشته ظاهرا مع الناس، فلا ينافي أنّه كان متواصل الأحزان باطنا؛ اهتماما بأهوال الآخرة؛ خوفا على أمّته، فلم يكن حزنه لفوت مطلوب، أو حصول مكروه من أمور الدّنيا؛ كما هو عادة أبناء الدنيا. (سهل الخلق) - بضمّتين- أي: ليّنه ليس بصعبه؛ ولا خشنه، فلا يصدر عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مشاحّ، ... ما يكون فيه إيذاء لغيره بغير حقّ. (ليّن) - بتشديد التحتية المكسورة- (الجانب) ؛ أي: سريع العطف كثير اللّطف، جميل الصفح مع السكون والوقار والخشوع والخضوع وعدم الخلاف. (ليس بفظّ) - بفتح الفاء وتشديد الظاء المشالة- (ولا غليظ) أي: ليس بسيّء الخلق ولا غليظ القلب؛ بحيث يكون جافي الطبع قاسي القلب، قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] . وهذا قد علم من قوله سهل الخلق، لكن ذكر تأكيدا ومبالغة في المدح، والمراد أنّه كذلك في حقّ المؤمنين، فلا ينافي قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [73/ التوبة] ، لأنّه في الكفّار والمنافقين؛ كما هو مصرّح به في الآية. (ولا صخّاب) - بالصاد المهملة وتشديد الخاء المعجمة-، أي: ذي صخب- بالصاد أو بالسين- فهو صيغة نسب فيفيد نفي أصل الصخب كما مرّ (ولا فحّاش) أي: ليس بذي فحش، فهو صيغة نسب أيضا، فيفيد نفي أصل الفحش قليله؛ فضلا عن كثيره. (ولا عيّاب) - بالعين المهملة- أي: ليس بذي عيب، فهو صيغة نسب؛ كما في الّذي قبله. في «الصحيحين» : ما عاب طعاما قطّ. وهذا بالنسبة للمباح؛ فلا ينافي أنّه كان يعيب المحرّم وينهى عنه. ويؤخذ منه: أنّ من آداب الطعام ألايعاب؛ كمالح، حامض، قليل الملح، غير ناضج، ونحو ذلك كما صرّح به النووي- وقد تقدّم-. (ولا مشاحّ) - بضم الميم وتشديد الحاء المهملة- اسم فاعل من المشاحّة؛ وهي المضايقة في الأشياء، وعدم المساهلة فيها؛ شحّا بها وبخلا فيها، فالمراد أنّه لا يضايق في الأمور، ولا يجادل، ولا يناقش فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 يتغافل عمّا لا يشتهي؛ ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه، ... وفي بعض نسخ «الشمائل» المصحّحة، ولا مدّاح؛ أي: ليس مبالغا في مدح شيء، لأنّ ذلك يدلّ على شره النّفس؛ أي: شدّة تعلّقها بالطعام، فلذلك روي أنّه ما عاب طعاما ولا مدحه؛ أي: على وجه المبالغة لوقوع أصله منه أحيانا. وفي بعض النسخ: «ولا مزّاح» ؛ أي: ليس مبالغا في المزح. لوقوع أصله منه صلّى الله عليه وسلم أحيانا. (يتغافل عمّا لا يشتهي) ؛ أي: يظهر الغافلة والإعراض عمّا لا يستحسنه من الأقوال والأفعال؛ تلطفا بأصحابه ورفقا بهم. (ولا يؤيس منه) - بضمّ الياء وسكون الهمزة وكسر الياء الثانية-، وفي نسخة من «الشمائل» : ولا يوئس منه- بسكون الواو بعدها همزة مكسورة؛ أي: لا يجعل غيره آيسا مما لا يشتهيه، ولا يقطع رجاءه منه، فالضمير المجرور في «منه» عائد على ما لا يشتهيه، ويحتمل أنّه راجع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ أي: لا يجعل غيره الرّاجي له آيسا من كرمه وجوده. ويؤيّد الاحتمال الأوّل قوله: (ولا يجيب فيه) - بالجيم- فإنّ الضمير المجرور ب «في» عائد لما لا يشتهي، أي: إذا طلب منه غيره شيئا لا يشتهيه لا يؤيسه منه، ولا يجيبه فيه؛ بل يسكت عنه؛ عفوا وتكرّما. وقيل: المعنى لا يجيب من دعاه إلى ما لا يشتهيه من الطعام، بل يردّ الداعي بميسور من القول. ويؤيّد الاحتمال الثاني ما في بعض نسخ «الشمائل» من قوله «ولا يخيّب فيه» - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الياء التحتية-؛ من التخييب، فإنّ الضمير المجرور ب «في» راجع للنبي صلّى الله عليه وسلم. وفي نسخة من «الشمائل» : و «لا يخيب» - بكسر الخاء المعجمة وسكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك النّاس من ثلاث: ... الياء المثناة- وهي بمعنى التي قبلها. أي: لا يخيب الراجي فيه؛ أي: المترجّي منه شيئا من أمور الدّنيا والآخرة، بل يحصل له مطلوبه، وفي بعض الرّوايات: «يتغافل عمّا يشتهي. بحذف «لا» النّافية. ومعناه أنّه لا يتكلّف تحصيل ما يشتهيه من الطعام. ويؤيده خبر عائشة رضي الله تعالى عنها المارّ: كان لا يسأل أهله طعاما ولا يتشهاه، فإن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل. (قد ترك نفسه) ؛ أي: منعها (من ثلاث) خصال مذمومة، فضمّن «ترك» معنى «منع» ؛ فعدّاه ب «من» ؛ وأبدل من ثلاث قوله (: 1- المراء) وما بعده، وهو بكسر الميم وبالمدّ؛ أي: الجدال، ولو بحقّ لحديث: «من ترك المراء وهو محقّ بنى الله له بيتا في ربض الجنّة» . وفي نسخة من «الشمائل» بدله «الرياء» ؛ وهو: أن يعمل ليراه النّاس. (2- والإكثار) - بالمثلاثة- أي: الإكثار من الكلام، أو من المال. وفي نسخة من «الشمائل» : الإكبار- بالموحدة- أي: استعظام نفسه؛ من أكبره: إذا استعظمه. ومنه قوله تعالى فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [31/ يوسف] وقيل: جعل الشيء كبيرا بالباطل، فلا ينافي قوله صلّى الله عليه وسلم «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» ونحوه. (3- وما لا يعنيه) أي: ما لا يهمّه في دينه ودنياه كيفا، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وقال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) [المؤمنون] . (وترك النّاس) ؛ أي: ترك ذكرهم (من) خصال (ثلاث) مذمومة؛ فهذه الثلاث تتعلّق بأحوال النّاس، والثلاثة السابقة تتعلّق بحال نفسه؛ وإلّا! فهذه الثلاثة مما ترك نفسه منه أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 كان لا يذمّ أحدا، ولا يعيبه؛ ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم.. أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير، ... (1- كان لا يذمّ أحدا) ، أي: مواجهة، (ولا يعيبه) ؛ أي: في الغيبة، فيكون على هذا تأسيسا «1» ؛ وهو خير من التأكيد؛ فهذا أولى مما اختاره ابن حجر من جعله تأكيدا؛ نظرا لكون الذمّ والعيب بمعنى واحد. وفي بعض نسخ «الشمائل» : «ولا يعيّره» من التعيير؛ وهو التوبيخ. (ولا يطلب عورته) أي: لا يطلب الاطلاع على عورة أحد؛ وهي ما يستحيا منه؛ إذا ظهر، فلا يتجسّس عن أموره الباطنة التي يخفيها. ولا يعارضه ما سبق، يسأل النّاس عمّا في النّاس؟! لأنّ ذلك للأمور الظاهرة التي تناط بها الأحكام الشرعيّة والمصالح البشرية، وما قرّرناه هو المتبادر من العبارة كما فسّر به الشيخ ابن حجر، وإن قال بعض الشّرّاح: وقد أبعد ابن حجر حيث فسّره بعدم تجسّس عورة أحد. (ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه) ؛ أي: ولا ينطق إلّا في الشيء الذي يتوقّع ثوابه، لكونه مطلوبا شرعا، لا فيما لا ثواب فيه مما لا يعني. (وإذا تكلّم أطرق جلساؤه) أي: أرخوا رؤوسهم إلى الأرض؛ ونظروا إليها، وأصغوا إليه لاستماع كلامه. ولسرورهم وارتياح أرواحهم بحديثه (كأنّما على رؤوسهم الطّير) ، هذا كناية عن كونهم في نهاية من السكوت والسكون عند تكلّمه وتبليغه إليهم الأحكام الشرعية، لأن الطير لا يقع إلا على رأس ساكت ساكن. و «أل» في «الطير» للجنس، فالمراد جنس الطير مطلقا. وقيل: للعهد والمعهود الباز.   (1) أي حكما مستقلا عن ما قبله؛ لا تأكيدا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 فإذا سكت.. تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده.. أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ... وبالجملة فشبّه حال جلسائه عند تكلّمه بحال من ينزل على رأسهم الطير في السكوت والسكون؛ مهابة له وإجلالا، لا لكبر ولا لسوء خلق فيه. حاشاه الله من ذلك. (فإذا سكت تكلّموا) ، أي: فلا يبتدرونه بالكلام، ولا يتكلّمون مع كلامه، بل لا يتكلمون إلّا بعد سكوته. وفي بعض النسخ «فإذا سكت سكتوا» أي: لاقتدائهم به وتخلّقهم بأخلاقه. (لا يتنازعون عنده الحديث) ؛ أي: لا يختصمون عنده في الحديث. (ومن تكلّم عنده أنصتوا له) أي: استمعوا لكلام المتكلّم عنده (حتّى يفرغ) من كلامه، فلا يتكلّم عنده اثنان معا، ولا يقطع بعضهم على بعض كلامه، لأنّه خلاف الأدب. (حديثهم عنده حديث أوّلهم) ؛ أي: لا يتحدّث أوّلا إلّا من جاء أوّلا، ثم من بعده ... وهكذا على الترتيب. (يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه) ؛ أي: موافقة لهم وتأنيسا وجبرا لقلوبهم. (ويصبر للغريب على الجفوة) - بفتح الجيم- أي: الغلظة وسوء الأدب (في منطقه ومسألته) كما كان يصدر من جفاة الأعراب. فالصبر على أذى النّاس وجفوتهم من أعظم أنواع الصبر، فقد ورد: «إنّ المؤمن الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أفضل ممّن يعتزلهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 حتّى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: «إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها.. فارفدوه» . ولا يقبل الثّناء إلّا من مكافىء، ... وقد كان صلّى الله عليه وسلم أعلى النّاس في ذلك مقاما، فقد أتاه ذو الخويصرة التميمي؛ فقال: يا رسول الله؛- صلى الله عليه وسلم- اعدل. فقال: «ويحك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل!! فقد خبت وخسرت إن لم أعدل» . فقال عمر: يا رسول الله؛ ائذن لي أضرب عنقه. فقال: «دعه» . رواه البيهقيّ؛ عن أبي سعيد. والمعنى أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يصبر للغريب إذا جفاه في مقاله وسؤاله، (حتّى أن) أي: أنّه؛ أي: الحال والشأن، «أن» مخفّفة من الثقيلة ( [كان أصحابه] «1» ليستجلبونهم) أي: الغرباء إلى مجلسه صلّى الله عليه وسلم ليستفيدوا من مسألتهم ما لا يستفيدونه عند عدم وجودهم، لأنّهم يهابون سؤاله، والغرباء لا يهابون؛ فيسألونه عما بدا لهم، فيجيبهم ويصبر على مبالغتهم في السؤال. (ويقول) ؛ أي: النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه (: «إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه» ) - بوصل الهمزة وضمّ الفاء، و [أرفدوه] بقطع الهمزة وكسر الفاء؛ فإن كان من الرّفد؛ وهو العطاء؛ فالهمزة للوصل، وإن كان من الإرفاد؛ بمعنى: الإعانة!! فمعناه: أعينوه على حاجته وساعدوه حتّى يصل إليها. (ولا يقبل الثّناء) ؛ أي: المدح من أحد (إلّا) إذا كان (من مكافىء) - بالهمزة- أي: مجاز على إنعام وقع من النبي صلّى الله عليه وسلم إليه؛ فإذا قال شخص: إنّه صلّى الله عليه وسلم من أهل الكرم والجود؛ وليس مثله موجود! فإن كان ذلك واقعا منه مكافأة على إحسان صدر من النبي صلّى الله عليه وسلم إليه قبل ثناءه عليه، وإلّا لم يقبل منه، بل يعرض عنه؛ ولا يلتفت إليه، لأنّ الله ذمّ من يحبّ أن يحمد بما لم يفعل في قوله تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [188/ آل عمران] ... الآية.   (1) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من «وسائل الوصول» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز فيقطعه بنهي، أو قيام. وأمّا حلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أحلم النّاس، وأرغبهم في العفو مع القدرة، حتّى أتي بقلائد من ذهب أو فضّة، فقسمها بين أصحابه، (ولا يقطع) صلى الله عليه وسلم (على أحد حديثه) أي: حديث ذلك الأحد؛ لا حديث نفسه صلّى الله عليه وسلم، فالضمير المجرور في «حديثه» عائد على «الأحد» أي: لا يقطع كلام أحد يتكلّم عنده؛ بل يستمع له حتّى يفرغ منه. (حتّى يجوز) - بجيم وزاي-؛ من المجاوزة، أي: حتى يتجاوز الحدّ، أو الحقّ. وفي نسخة من «الشمائل» : حتّى يجور- بالجيم والراء-؛ من الجور. أي: حتّى يجور في الحق بأن يميل عنه (فيقطعه) حينئذ (بنهي أو قيام) فيقطع عليه الصلاة والسلام حديث ذلك الأحد؛ إذا جاوز الحدّ: إما 1- بنهي له عن الحديث إن أفاد؛ بأن لّم يكن معاندا، أو 2- قيام من المجلس؛ إن كان معاندا. ولذلك كان بعض الصالحين إذا اغتاب أحد في مجلسه ينهاه؛ إن أفاد النهي، وإلّا! قام من مجلسه. وفي هذا الحديث ما لا يخفى من نهاية كماله صلّى الله عليه وسلم ورفقه، ولطفه، وحلمه، وصبره، وصفحه، ورأفته، ورحمته، وعظيم أخلاقه.. (وأمّا حلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد) ذكره بقوله: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم أحلم النّاس) ؛ أي: أكثرهم حلما. (و) كان (أرغبهم في العفو مع القدرة) على الانتقام. (حتّى أتي) - بصيغة المجهول- (بقلائد) - جمع: قلادة- وهي: ما يجعل في العنق (من ذهب؛ أو فضّة) أي: القلائد مصوغة منهما؛ وهو الحليّ (فقسمها بين أصحابه) بما أراه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 فقال أعرابيّ: ما أراك تعدل، قال: «ويحك فمن يعدل عليك بعدي؟!» ، فلمّا ولّى.. قال: «ردّوه عليّ رويدا» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبض للنّاس يوم [حنين] «1» ، من فضّة في ثوب بلال، فقال له رجل: يا رسول الله؛ اعدل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك؛ فمن يعدل إذا لم أعدل؟! فقد خبت إذا وخسرت إن كنت لا أعدل» . (فقال أعرابيّ) من سكّان البادية الأعراب الجفاة (: ما أراك تعدل) ، حيث أعطى صلّى الله عليه وسلم بعضا وترك بعضا، أو أكثر لبعض وأقلّ لآخرين. (قال) أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (: «ويحك فمن يعدل عليك بعدي» ؟! فلمّا ولّى) أي: الأعرابي (قال: «ردّوه عليّ رويدا» ) - أي: من غير استعجال، فحلم عليه، وعفا عنه مع غلظة كلامه، وأمر بردّه على إمهال!! لئلا يرتاع. قال العراقيّ: رواه أبو الشيخ؛ من حديث ابن عمر بإسناد جيد. انتهى. ورواه أيضا الحاكم؛ من حديث ابن عمر، وفيه زيادة في آخره. انتهى «شرح الإحياء» . (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم، وغيرهم- كما قاله في «شرح الإحياء» - عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبض) - مبنيا للفاعل- أي: يعطي (للنّاس يوم [حنين] من فضّة) كانت (في ثوب بلال؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ اعدل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ويحك؛ فمن يعدل إذا لم أعدل!! فقد خبت إذا وخسرت) - روي بفتح التاء في «خبت» و «خسرت» ، وبضمّها فيهما- ومعنى الضمّ ظاهر، وتقدير الفتح: خبت أنت أيّها التابع؛ (إن كنت لا أعدل» ) . لكونك تابعا ومقتديا   (1) في «وسائل الوصول» : خيبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فقام عمر فقال: ألا أضرب عنقه؟ فإنّه منافق. فقال: «معاذ الله أن يتحدّث النّاس أنّي أقتل أصحابي» . وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسمة، فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى. بمن لا يعدل، والفتح أشهر؛ قاله في «شرح مسلم» . (فقام عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (فقال: ألا أضرب عنقه؛ فإنّه منافق!!) وفي روايات أخر أنّ المستأذن في قتله خالد بن الوليد. وليس فيهما تعارض!! بل كلّ واحد منهما استأذن فيه؛ قاله في «شرح مسلم» . (فقال) أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (: «معاذ الله؛ أن يتحدّث النّاس أنّي أقتل أصحابي» ) فحلم صلّى الله عليه وسلم على القائل وصبر؛ لما علم من جزيل ثواب الصابر، والله يأجر بغير حساب. (و) في «الإحياء» : (قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم) يوم حنين (قسمة) آثر ناسا فيها ليتألّفهم. (فقال رجل من الأنصار) ؛ سمّاه الواقديّ بأنه معتب بن قشير المنافق. (: هذه قسمة) ما عدل فيها، و (ما أريد بها وجه الله تعالى!!) . قال في «شرح مسلم» : قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: حكم الشرع أنّ من سبّ النبي صلّى الله عليه وسلم كفر، وقتل. ولم يذكر في هذا الحديث أنّ هذا الرجل قتل! قال المازري: يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة، وإنّما نسبه إلى ترك العدل في القسمة. والمعاصي ضربان: كبائر وصغائر؛ فهو صلّى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع. واختلفوا في إمكان وقوع الصغائر!! ومن جوّزها منع من إضافتها إلى الأنبياء؛ على طريق التنقيص. وحينئذ فلعلّه صلّى الله عليه وسلم لم يعاقب هذا القائل، لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنّما نقله عنه واحد، وشهادة الواحد لا يراق بها الدم! قال القاضي: هذا التأويل باطل يدفعه قوله «اعدل؛ يا محمد، واتق الله؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فذكر ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. فاحمرّ وجهه وقال: «رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وبال أعرابيّ في المسجد بحضرته، فهمّ به أصحابه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزرموه» ؛ أي: لا تقطعوا عليه البول. يا محمد» ، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ؛ حتّى استأذن عمر وخالد النبيّ صلّى الله عليه وسلم في قتله؛ فقال: «معاذ الله أن يتحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» ! فهذه هي العلّة. وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه، وسمع منهم في غير موطن ما كرهه؛ لكنّه صبر! استبقاء لانقيادهم وتأليفا لغيرهم؛ لئلا يتحدّث النّاس أنّه يقتل أصحابه؛ فينفروا، وقد رأى هذا الصنف في جماعتهم وعدّوه من جملتهم. (فذكر ذلك) القول (للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم فاحمرّ وجهه) ، وغضب غضبا شديدا؛ لنسبته إلى الجور، وقد جبل الله تعالى النفس على التألّم بما يفعل بها، والتألّم سبب للانتقام من المؤلم، ولهذا شقّ عليه هذا القول، لكنه لكمال حلمه صلّى الله عليه وسلم تحمّله من فاعله؛ فلم ينتقم منه. (وقال: «رحم الله أخي موسى) بن عمران الإسرائيليّ؛ (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ) أي: آذاه قومه بأشدّ مما أوذيت به فصبر على إيذائهم. قال العراقي: متفق عليه؛ من حديث ابن مسعود. ورواه الإمام أحمد أيضا عنه. انتهى «شرح الإحياء» . (و) في «الإحياء» : (بال أعرابيّ في المسجد) النّبوي (بحضرته) صلى الله عليه وسلم (فهمّ به أصحابه) أي: قصدوا منعه عن ذلك؛ (فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تزرموه» ) - بضم التاء الفوقية وسكون الزاي- (أي: لا تقطعوا عليه البول) فإنّه يضرّ البائل. قال ذلك شفقة عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ثمّ قال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء» . وفي رواية: «قرّبوا ولا تنفّروا» . وجاء أعرابيّ يطلب منه شيئا، فأعطاه صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال له: «آحسنت إليك؟» . قال الأعرابيّ: لا، ولا أجملت. فغضب المسلمون، وقاموا إليه. فأشار إليهم أن كفّوا. ثمّ قام ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابيّ وزاده شيئا، ... (ثمّ قال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء» ) ؛ أي: الغائط. (وفي رواية: «قرّبوا ولا تنفّروا» ) . قال العراقي: متّفق عليه؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. انتهى «شرح الإحياء» . (و) في «الإحياء» أيضا: (جاء أعرابيّ) لم يسمّ (يطلب منه شيئا) ؛ أي: من مطالب الدنيا (فأعطاه صلّى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «آحسنت إليك؟!» ) - بهمزة ممدودة وسكون حاء؛ لاجتماع همزة الأفعال وهمزة الاستفهام التقريري وهو حمل المخاطب على الإقرار بأنه أحسن إليه وأنعم عليه. (قال الأعرابيّ: لا) أي: لا أعطيتني كثيرا، ولا قليلا (ولا أجملت) أي: ولا أتيت بالجميل، أو ولا أوصلتني جميلا حيث لا أحسنت جزيلا. وقيل: ما أجملت ما أكثرت، وهو أوّل؛ قاله ملا علي قاري. (فغضب المسلمون) من كلامه وجرأته عليه صلّى الله عليه وسلم (وقاموا إليه) ليضربوه ويجازوه بما يستحقّه. (فأشار إليهم أن كفّوا) أي: امتنعوا عنه. وهذا من حلمه صلّى الله عليه وسلم وشفقته تألّفا له؛ ليحسن إسلامه. (ثمّ قام) من مجلسه، (ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابيّ وزاده شيئا) على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 ثمّ قال له: «آحسنت إليك؟» . قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتّى يذهب من صدورهم ما فيها عليك» . قال: نعم. فلمّا كان الغد أو العشيّ.. جاء فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما أعطاه أوّلا، (ثمّ قال له: «آحسنت إليك؟» قال: نعم) أحسنت إليّ (فجزاك الله) على إحسانك إليّ ولطفك بي (من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنّك قلت ما قلت) آنفا (وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت) - أي: أردت إزالة ذلك- (فقل بين أيديهم) أي: عندهم (ما قلت بين يديّ) أي: من المديح ليكون كفّارة لذلك القبيح، وعلّق قوله على محبّته وإرادته؛ لطفا منه صلّى الله عليه وسلم أيّ لطف، مع أنّه ذنب عظيم ينبغي التنصّل منه. وفيه من الشفقة بالأمّة ما لا يخفى (حتّى يذهب) ؛ أي: بقولك لهم ذلك (من صدورهم ما فيها) أي: الغضب والألم الذي في قلوبهم (عليك» ) بسبب ما قلته أوّلا. (قال: نعم) أي: أقول لهم ذلك. (فلمّا كان الغد) المراد بالغد صبيحة اليوم الذي بعد اليوم الذي كلّمه فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، والغداة من طلوع الفجر إلى الزوال. (أو) قال (العشيّ) - بفتح فكسر؛ فتشديد- وهو: ما بعد الزوال إلى الغروب، والشكّ هنا من الراوي. (جاء) أي: الأعرابي إلى مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) لأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 «إنّ هذا الأعرابيّ قال ما قال، فزدناه فزعم أنّه رضي ذلك، أكذلك؟» . قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابيّ كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتّبعها النّاس؛ فلم يزيدوها إلّا نفورا فناداهم صاحب النّاقة: خلّوا بيني وبين ناقتي، فإنّي أرفق بها وأعلم، فتوجّه لها صاحب النّاقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض ... الحاضرين عنده (: «إنّ هذا الأعرابيّ قال ما قال) لي أوّلا مما سمعتموه، (فزدناه) على عطائه الأوّل (فزعم أنّه رضي [ذلك] ) أي: بجملة ما أعطيناه له، (أكذلك» ؟!) استفهام تقرير متوجّه من النبي صلّى الله عليه وسلم للأعرابيّ، أي: الأمر كذلك من أنّك رضيت. (قال، نعم: فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابيّ كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه) أي: نفرت منه وذهبت في الأرض (فاتّبعها النّاس) ؛ من الاتّباع، أو من الإتباع، أي مضوا وجروا خلفها ليمسكوها (فلم يزيدوها إلّا نفورا) أي: لم يحصل باتباع النّاس لها إلّا زيادة هربها ونفورها لخوفها منهم. (فناداهم صاحب النّاقة) أن: (خلّوا بيني وبين ناقتي، فإنّي أرفق بها وأعلم) أي: أنا أشفق عليها وأعلم بحالها وطبعها وطريق أخذها منكم. (فتوجّه لها صاحب النّاقة بين يديها) ؛ أي: جاءها من أمامها. (فأخذ لها من قمام الأرض) القمام- بضمّ القاف وتخفيف الميم- جمع قمامة ككناسة؛ لفظا ومعنى. والمراد بها هنا: النبات الّذي ترعاه الدوابّ كحشيش وتبن، شبّهه بالقمام! لخسّته، ولأنّه مما يطرح؛ كالقمامة، فاستعير له اسمها لمشاركته صفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 فردّها هونا هونا حتّى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها واستوى عليها، وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل ما قال فقتلتموه دخل النّار» . (فردّها هونا هونا) هو اسم صوت لدعاء الناقة (حتّى جاءت) فيه مقدّر؛ أي: فدنت منه لتأكل ما بيده من الحشيش، فأمسكها وردّها حتّى أتى بها محلّه، (واستناخت) أي: بركت ومكثت عنده؛ من ناخ الجمل ونوّخه إذا برّكه. (وشدّ عليها رحلها) أي: ربط عليها قتبها، فالرّحل للإبل كالسّرج للفرس. (واستوى عليها) أي: على ظهرها، أي: ركبها. يقال: استوى على الدابّة إذا علا على ظهرها وركبها، (وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل ما قال) أي: لو لم أكفّكم وأمنعكم عنه حين قال لي الرّجل مقالته السيّئة (فقتلتموه دخل النّار» ؛) عقوبة له بإساءته على النبي صلّى الله عليه وسلم. وشبّه المال لخسّة الدّنيا عنده بالقمامة، وشبّه نفسه بالرّجل، وشبّه الأعرابيّ بدابّة شاردة عن ربّها، وشبّه الصحابة لما غضبوا وقاموا له بالناس التابعين لها الذين نفّروها عن ربّها، وشبّه قوله «كفّوا عنه» بقوله «خلّوا بيني وبينها» . وفي قوله «فإنّي أرفق بها منكم» بيان لأنّه أعظمهم رفقا وأقواهم شفقة على خلق الله تعالى، وهو تشبية في أعلى طبقات البلاغة لتضمّنه هذه المعاني اللطيفة. قيل: ويحتمل أنّ الرجل إنّما قال أوّلا ما قال ليطّلع على حلمه صلّى الله عليه وسلم، لأنه سمع صفاته من أهل الكتاب والنبي صلّى الله عليه وسلم علم بذلك. وقيل: إنّ جزمه بدخول النّار لكفره بما قاله للنبي صلّى الله عليه وسلم. والنبيّ تلطّف به حتّى آمن ونجا من النار. فتأمل!! وهذا الحديث رواه البزّار، وأبو الشيخ بسند ضعيف؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن حبّان في «صحيحه» ، وابن الجوزي في «الوفا» عنه. ومما يناسب المقام ويلائم المرام: ما روي عن خوّات بن جبير من الصحابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابيّ بردائه جبذة شديدة حتّى أثّرت حاشية البرد على صفحة عاتقه، ... الكرام أنّه قال: نزلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمرّ الظهران فإذا نسوة يتحدّثن، فأعجبنني، فأخرجت حلّة من عيبتي فلبستها؛ وجلست إليهنّ، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهبته. فقلت: يا رسول الله؛ جمل لي شرود وأنا أبتغي له قيدا!! فمضى وتبعته، فألقى عليّ رداءه ودخل الأراك؛ فقضى حاجته وتوضّأ، ثمّ جاء؛ فقال: «يا أبا عبد الله؛ ما فعل شراد جملك؟» . ثمّ ارتحلنا، فجعل كلّما لحقني؛ قال: «السّلام عليك يا أبا عبد الله؛ ما فعل شراد جملك» . فتعجّلت المدينة وتركت مجالسته والمسجد، فطال ذلك عليّ فتحيّنت خلوّ المسجد، ثمّ دخلت فطفقت أصلّي. فخرج من بعض حجره فصلّى ركعتين خفّفهما وطوّلت؛ رجاء أن يذهب عنّي. فقال: «طوّل يا أبا عبد الله ما شئت؛ فلست ببارح حتّى تنصرف» . فقلت: والله؛ لأعتذرنّ إليه. فانصرفت، فقال: «السّلام عليك يا أبا عبد الله؛ ما فعل شراد الجمل» . فقلت: والذي بعثك بالحقّ؛ ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت!! فقال: «رحمك الله» «مرّتين» ، أو «ثلاثا» ثم لم يعد. (و) أخرج أبو داود والبيهقيّ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) - وأخرجه الشيخان أيضا؛ عن أنس، وقد تقدّم- (قال: كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية) البرد والبردة: كساء أسود مربّع، أو شملة مخطّطة، والحاشية، جانب الثوب. (فجذبه) - بتقديم الذال المعجمة على الموحّدة- وفي رواية: فجبذه- بتقديم الموحّدة- وهما لغتان صحيحتان (أعرابيّ) لم يسمّ (بردائه) ، هذا يقتضي أنّه كان عليه برد ورداء فوقه؛ وإن الجذب وقع بهما (جبذة شديدة) أي: دفعة عنيفة (حتّى أثّرت) - بتشديد المثلاثة؛ مبنيّ للفاعل- أي: أظهرت أثرا وعلامة (حاشية البرد على صفحة عاتقه) الصفحة: الجانب؛ أو العرض. والعاتق: ما بين العنق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 ثمّ قال: يا محمّد؛ أحمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الّذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك. فسكت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «المال مال الله، وأنا عبده» ، ثمّ قال: «ويقاد منك يا أعرابيّ ما فعلت بي» . قال: لا. قال: «لم؟» ، قال: لأنّك لا تكافىء بالسّيّئة السّيّئة. فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ... والكتف، أو موضع الرداء من المنكب. وهو يؤنّث ويذكّر، وفي رواية أنّ البرد انشقّ، ولم يتأثّر صلّى الله عليه وسلم من سوء أدبه. (ثمّ قال) أي: الأعرابيّ على عادة أجلاف العرب (: يا محمّد؛ أحمل لي) - بفتح الهمزة- أي: أعطني ما أحمل (على بعيريّ) بالتثنية مضافا إلى ياء المتكلم (هذين) أي: حمّلهما لي طعاما (من مال الله الّذي عندك، فإنّك لا تحمل لي) أي: لا تعطيني (من مالك، ولا من مال أبيك!! فسكت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) حلما وكرما، (ثمّ قال: «المال مال الله؛ وأنا عبده» ) أي: أتصرف في ماله بإذنه، وأعطي من يأمرني بإعطائه، فردّ صلّى الله عليه وسلم بألطف ردّ. (ثمّ قال) أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم (: «ويقاد منك) ؛ من القود وهو القصاص، وهو هنا مجاز عن مطلق المجازاة، أي: أتجازى على ترك أدبك (يا أعرابيّ) ، يشير به إلى أنّه معذور لما فيه من غلظ الأعراب وهم أهل البادية (ما فعلت بي» ) من جذب بردي بأن يفعل به مثله، أو يعزّر بما يليق به. (قال) أي الأعرابي (: لا) أي: لا يقاد مني. (قال: «لم» ؟!) أي: لأي شيء لا يقاد منك؟ (قال: «لأنّك لا تكافىء) بهمزة أي: لا تجازي (بالسّيّئة السّيّئة) ، بل تجازي بالسيئة الحسنة، وفيه مشاكلة، لأنّ الجزاء ليس بسيئة. (فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) سرورا بما رآه من حسن ظنّه به، وأنّه لم يفعل ذلك بقصد التنقيص منه، وتطمينا لقلبه إذ أبدى المسرّة بمقالته، وهذا يقتضي أنّه كان مسلما غير أنّ فيه جفاء البادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 ثمّ أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر. وروى الطّبرانيّ وابن حبّان ... (ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر) . وفيه من حلمه صلّى الله عليه وسلم وتحمّله الأذى وعدم التضجّر ما لا يخفى، وهو إرشاد لأمّته لا سيّما من يتولّى منهم أمور المسلمين. (وروى الطّبرانيّ) ؛ كما في «المواهب» و «الشفاء» ، (وابن حبّان) الحافظ العلامة: أبو حاتم محمد بن حبّان بن أحمد بن حبان بن معاذ التميمي الدارمي البستي- بضم الباء الموحّدة وإسكان السين وفوقية- نسبة إلى «بست» : بلد كبير من بلاد الغور بطرف خراسان، الشافعي الإمام الكبير. صاحب التصانيف، كان على قضاء سمرقند زمانا، وكان من فقهاء الدّين وحفّاظ الآثار، عالما بالطبّ والنجوم وفنون العلم. قال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم؛ في الفقه، واللّغة، والحديث، والوعظ، ومن عقلاء الرجال. انتهى سمع أبا عبد الرحمن النّسائي، والحسن بن سفيان، وأبا يعلى الموصلي، وأبا بكر بن خزيمة، وأمما لا يحصون من مصر إلى خراسان. حدّث عنه الحاكم وغيره، وصنّف التصانيف؛ منها «المسند الصحيح» المسمّى ب «التقاسيم والأنواع» في خمس مجلدات كبار، وترتيبه مخترع ليس على الأبواب؛ ولا على المسانيد والكشف منه عسر جدّا، وهو موجود بتمامه؛ بخلاف «صحيح ابن خزيمة» فقد عدم أكثره؛ كما قاله السّخاويّ. ومن مؤلّفاته «التاريخ» ، و «كتاب الضعفاء» . وتوفي ب «بست» سنة: أربع وخمسين وثلاثمائة؛ وهو في عشر الثمانين. وقد قيل: إنّ أصحّ من صنّف في الصحيح بعد الشيخين ابن خزيمة؛ فابن حبّان رحمهم الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 والحاكم والبيهقيّ ... (و) أبو عبد الله (الحاكم) النّيسابوريّ، وأبو نعيم الأصفهاني، وأبو الشيخ ابن حيان؛ في كتاب «الأخلاق النبوية» . (و) الإمام الحافظ العلّامة؛ الكبير الشهير شيخ السّنّة: أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى؛ أبو بكر (البيهقيّ) نسبة إلى «بيهق» : قرى مجتمعة بنواحي نيسابور؛ على عشرين فرسخا منها. الخسروجردي الشافعي، الفقيه الحافظ الأصولي، الديّن الورع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، من كبار أصحاب الحاكم؛ ويزيد عليه بأنواع من العلوم. كتب الحديث وحفظه وضبطه من صباه، وتفقّه وبرع، وأخذ في الأصول، وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز. ثم صنّف. وتاليفه تقارب ألف جزء مما لم يسبقه إليه أحد. جمع بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث، ووجه الجمع بين الأحاديث، وكان على سيرة العلماء؛ قانعا باليسير، متجمّلا في زهده وورعه. وعن إمام الحرمين أبي المعالي؛ قال: ما من شافعي إلّا وللشافعي عليه منّة إلّا أبا بكر البيهقي، فإنّ له المنة على الشافعي؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه. ولد سنة: أربع وثمانين وثلثمائة في شعبان، وسمع أبا عبد الله الحاكم، وأبا طاهر بن محمش، وأبا بكر بن فورك، وأبا عليّ الرّوذباري، وأبا عبد الرحمن السّلمي، وخلقا بخراسان، وعدّة ببغداد، وطائفة بمكّة، وجماعة بالكوفة. وبورك له في علمه؛ لحسن قصده وقوّة فهمه وحفظه. وصنّف التصانيف المفيدة؛ منها «السنن الكبرى» في عشر مجلدات ضخام، «والسنن الصغرى» في مجلدين، و «دلائل النبوة» و «شعب الإيمان» و «مناقب الشافعي» و «الدعوات الكبير» وكتاب «الأسماء والصفات» ، وكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 عن زيد بن سعنة- وهو كما قال النّوويّ رحمه الله تعالى: أجلّ أحبار اليهود الّذين أسلموا- أنّه قال: لم يبق من علامات النّبوّة شيء ... «الخلافيات» وكتاب «معرفة السنن والآثار» أي: معرفة الشافعي بها، وكتاب «المدخل إلى السنن الكبرى» ، وكتاب «البعث والنشور» و «الأربعون الكبرى» و «الأربعون الصغرى» ، وجزء في الرؤية، وجزء في حياة «الأنبياء» ، ومناقب الإمام أحمد. وكانت وفاته في عاشر جمادى الأولى سنة: ثمان وخمسين وأربعمائة. وحمل تابوته إلى بيهق؛ ودفن بها بخسروجرد، وهي من قراها الصغرى رحمة الله تعالى عليه. آمين. (عن زيد بن سعنة) - بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة وفتح النون؛ كما قيّده بذلك الحافظ عبد الغني، والدارقطني. و [سعية]- بالمثناة التحتية بدل النون-؛ ثبت في «الشفاء» وهو الّذي ذكره ابن اسحاق، وحكى ابن عبد البر وغيره الوجهين قال ابن عبد البر: والنون أكثر، واقتصر الجمهور على النون. قال الذّهبيّ: وهو أصحّ. - (وهو- كما قال النّوويّ رحمه الله تعالى-: أجلّ) - بجيم ولام؛ كذا في النسخ!! والذي في «تهذيب النووي» : أحد- بحاء ودال مهملتين- (أحبار اليهود الّذين أسلموا) ، وأكثرهم علما ومالا، أسلم وحسن إسلامه، وشهد معه صلّى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك؛ مقبلا إلى المدينة. انتهى. والمصنّف تبع القسطلّاني في «المواهب» . قال الزرقاني: فكأنّه غيّر «أحد» ب «أجل» !! لأن قوله «أكثرهم علما ومالا» يفيد أنّه أجلّهم، ثم يرد على هذا ابن سلام، إذ ظاهر الأحاديث أنّه أجل المسلمين من اليهود، إلّا أن تكون الجلالة باعتبار مجموع العلم والمال. (أنّه قال: لم يبق من علامات النّبوّة شيء) ، وفي رواية- عند ابن سعد-: ما بقي شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 إلّا وقد عرفته في وجه محمّد صلّى الله عليه وسلّم حين نظرت إليه، إلّا اثنتين لم أخبرهما «1» منه: 1- يسبق حلمه جهله، 2- ولا تزيده شدّة الجهل عليه إلّا حلما. فكنت أتلطّف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل، ... من نعت محمّد في «التوراة» (إلّا وقد عرفته) أي: شاهدته، ويروى: عرفتها. باعتبار أنّ الشيء بمعنى العلامة. (في وجه محمّد صلّى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلّا اثنتين) في رواية: إلّا خصلتين (لم [أخبرهما] ) - بفتح الهمزة وإسكان الخاء المهملة وضمّ الباء الموحدة- أي: لم أعلمهما (منه) على حقيقتهما، إذ علمهما لا يكون بالمشاهدة؛ بل بالاختبار: [الأولى] : (يسبق حلمه جهله) مقابل الحلم من الغضب والانتقام ممّن آذاه. قال الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالمراد أنّ حلمه يغلب حدّته، كقوله: «سبقت رحمتي غضبي» . فليس الجهل هنا مقابل العلم، وهو: عدم إدراك الشيء، أو إدراكه على خلاف ما هو عليه!! كما توهّمه من لم يعرف لغة العرب. حيث قال لو كان له جهل؛ نحو فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون] «2» وهذه إحدى الخصلتين. (و) الثانية (لا تزيده شدّة الجهل) أي: جهل غيره- أي: سفاهته- (عليه) وأذيّته (إلّا حلما) ، فكلّما زادت واشتدّت زاد حلمه صلّى الله عليه وسلم (فكنت أتلطّف) : أتخشع وأترفّق (له) ؛ توصّلا (لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت) أي: اشتريت (منه تمرا إلى أجل) «3» . وفي رواية أبي نعيم: وأعطاه زيد بن سعنة قبل   (1) في «وسائل الوصول» : أجدهما. (2) يعني لو كان هناك خالق. فليس فيه التفاضل على بابه من أن شيئين اشتركا ... فتنبه. (3) أي: سلما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 فأعطيته الثّمن، فلمّا كان قبل محلّ الأجل بيومين أو ثلاثة.. أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه [على عنقه] ، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثمّ قلت: ألا تقضيني يا محمّد حقّي؟! [فو الله] إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل. فقال عمر: أي عدوّ الله؛ أتقول لرسول الله ما أسمع، فو الله لولا ما أحاذر [فوته] .. لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر إلى عمر بسكون وتؤدة، وتبسّم. إسلامه ثمانين مثقالا ذهبا، في تمر معلوم إلى أجل معلوم. (فأعطيته الثّمن، فلمّا كان قبل محلّ) - بكسر الحاء- أي: وقت (الأجل بيومين أو ثلاثة) - وفي رواية أبي نعيم: بيوم أو يومين- (أتيته فأخذت بمجامع) جمع مجمع؛ كمقعد ومنزل: موضع الاجتماع- كما في «القاموس» وغيره- أي: بما اجتمع من (قميصه وردائه [على عنقه] ، ونظرت إليه بوجه غليظ) أي: عابس مقطّب (ثمّ قلت: ألا تقضيني يا محمّد؛ حقّي!! [فو الله] إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل) - بضم الميم والطاء المهملة- جمع: ماطل؛ أي تمتنعون من أداء الحقّ، وتسوّفون بالوعد؛ مرّة بعد أخرى، (فقال عمر) - في رواية أبي نعيم: فنظر إليه عمر؛ وعيناه تدوران في وجهه؛ كالفلك المستدير؛ فقال- (: أي؛ عدوّ الله، أتقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أسمع) !! زاد أبو نعيم: وتفعل به ما أرى!! (فو الله؛ لولا ما أحاذر) - بمعنى أحذر، أي: شيء أخاف ( [فوته] ) من بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه، - وفي رواية أبي نعيم: لولا ما أحاذر قومك- (لضربت بسيفي رأسك!! ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر بسكون) ضدّ: الحركة (وتؤدة) ؛ التأنّي، فتغاير مفهوما؛ لا ما صدقا «1» ، (وتبسّم) من مقالهما، لشدّة حلمه، ولعله كوشف «2»   (1) مصطلح منطقي يقابل المفهوم، غير أن أحدهما للمفرد والآخر للمركب. (2) في هذا تأمّل!! إذ لو كشف ما في رغبة ابن سعنة لم تعد ثمّة فضيلة في هذا الحلم، ولبطل موضع الشاهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ثمّ قال: «أنا وهو كنّا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر؛ أن تأمرني بحسن [الأداء] ، وأن تأمره بحسن [التّباعة] ، اذهب به يا عمر؛ فاقضه حقّه وزده عشرين صاعا مكان ما روّعته» . ففعل. فقلت: يا عمر؛ كلّ علامات النّبوّة قد عرفتها في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما نظرت إليه، إلّا اثنتين لم أختبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدّة الجهل [عليه] إلّا حلما، فقد اختبرتهما، ... بمراد ابن سعنة!! وإنّ عمر لو كشف له لم يصعب عليه ذلك. (ثمّ قال: «أنا وهو) - أي: صاحب الحقّ- (كنّا أحوج إلى غير هذا) الذي قلته. (منك يا عمر؛) وأبدل منه قوله: (أن تأمرني بحسن [الأداء] ) أي: وفاء ما عليّ (وأن تأمره بحسن [التّباعة] » ) !! - بالكسر-: المطالبة بالحقّ. وفي «الشفاء» : تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي. ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» !! انتهى. فتكرّم صلّى الله عليه وسلم فعجّلها قبل الأجل وزيادة، فقال: ( «اذهب به يا عمر؛ فاقضه حقّه وزده عشرين صاعا مكان ما روّعته» ) : فزعته. و «ما» مصدرية أي: في مقابلة روعك له. (ففعل) ذلك عمر. قال زيد: (فقلت: يا عمر؛ كلّ علامات النّبوّة قد عرفتها في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما نظرت إليه؛ إلّا اثنتين لم أختبرهما) ؛ أي: لم أعلمهما. (1- يسبق حلمه) : ثباته وصفحه وصبره (جهله) : حدّته؛ فلا ينتقم. (2- ولا يزيده شدّة الجهل [عليه] إلّا حلما، فقد اختبرتهما) أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 فأشهدك أنّي قد رضيت بالله ربّا؛ وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم نبيّا. قال القاضي عياض في «الشّفا» : (وحسبك ما ذكرناه ممّا في «الصّحيح» والمصنّفات الثّابتة، ممّا بلغ متواترا مبلغ اليقين: من صبره على مقاساة قريش، ... صاحبهما، إذ الاختبار: الامتحان، وهو لم يختبر الخصلتين. والمذكور بخطّ الشاميّ: خبرتهما- بلا «ألف» - أي: علمتهما منه بما رأيت من فعله صلّى الله عليه وسلم (فأشهدك) يا عمر؛ (أنّي قد رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلّى الله عليه وسلم نبيّا) . وفي رواية: وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلّا أنّي كنت رأيت صفاته التي في «التوراة» كلّها إلّا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم فوجدته على ما وصف في «التوراة» ، وإنّي أشهدك أنّ هذا التمر وشطر مالي في فقراء المسلمين. وأسلم أهل بيته كلّهم إلّا شيخا غلبت عليه الشّقوة. انتهى «زرقاني» رحمه الله تعالى. (قال) العلّامة الإمام (القاضي) أبو الفضل: (عياض) بن موسى اليحصبيّ الأندلس السّبتي- سقى الله ثراه صبيب الرحمة والرضوان- (في) كتابه ( «الشّفاء» ) الذي هو كاسمه شفاء، أي: شفاء لما في الصدور. قال في «الباب الثّاني منه؛ في آخر: فصل الحلم والاحتمال» : (وحسبك) أي: مغنيك وكافيك (ما ذكرناه ممّا في الصّحيح) أي: في الكتب الصحيحة، (والمصنّفات الثّابتة) أي: ولو لم تكن من الصحاح الستة!! أو: ولو لم تكن صحيحة؛ بل ثابتة حسنة!! فإنّها حجّة بيّنة؛ أي: كافيك ذلك منضمّا (ممّا بلغ) أي: ممّا وصل عندك مجموعه (متواترا) ؛ تواترا معنويا (مبلغ اليقين) أي: مبلغا يحصل به اليقين للمؤمنين في أمر الدين، ولو قال «مبلغ الضروريّ» !! كان أولى. (من صبره) بيان ل «ما بلغ» ؛ أي: من تحمّله (على مقاساة قريش) أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وأذى الجاهليّة، ومصابرة الشّدائد الصّعبة معهم، إلى أن أظفره الله تعالى عليهم- يعني: بفتح مكّة- وحكّمه فيهم وهم لا يشكّون في استئصال شأفتهم، وإبادة خضرائهم- أي: إهلاك جماعتهم- فما زاد على أن عفا ... مكابدتهم ومعارضتهم ومخالفتهم (وأذى الجاهليّة) أي: وتأذّيه من أهل جاهليّتهم وسفاهتهم، (ومصابرة الشدائد) أي: مغالبة المحن (الصّعبة) أي: الشّاقّة (معهم) في الحروب الواقعة بينه وبينهم، وهي؛ وإن كانت سجالا؛ إلّا أنّه صبّ عليهم العذاب. فالمصابرة: مفاعلة؛ من الصبر عن شدائد الحروب، وهم صناديد وأبطال كان لهم صبر على اصطلاء نارها، لكنه صلّى الله عليه وسلم غلبهم وصابرهم وزاد عليهم. (إلى أن أظفره الله تعالى) بهم، وفي نسخة: أظهره الله (عليهم- يعني: بفتح مكّة- وحكّمه فيهم) - بتشديد الكاف-، أي: جعله الله تعالى قاهرا غالبا لهم، وهم في قبضة تصرّفه؛ يحكم فيهم بما يريد من قتل وأسر وعفو؛ إن شاء (وهم لا يشكّون) ؛ أي: لا يتردّدون، بناء على زعمهم وقياسا على أنفسهم (في استئصال) ؛ هو: قطع الشيء من أصله وإزالته بالكليّة (شأفتهم) - بفتح شين معجمة، فسكون همزة، ففاء؛ تليها هاء تاء تأنيث، وتبدل الهمزة ألفا- أي: جمعهم وقطع أثرهم. والشّأفة- في الأصل-: قرحة تخرج للإنسان في أسفل القدم؛ فتكوى فتذهب فهم يقولون في المثل «استأصل الله شأفته» أي: أذهبه كما أذهبها، (وإبادة) - بكسر الهمزة وبالدال المهملة- مصدر بمعنى: الإهلاك (خضرائهم) - بفتح الخاء المعجمة، وسكون الضّاد المعجمة؛ بعدهما راء، فألف ممدودة- (أي: إهلاك جماعتهم) وتفريق جمعهم. والمعنى: أنّه صلّى الله عليه وسلم ظفر بهم في حال تيقّنوا هلاكهم بأسرهم؛ وذهابهم عن آخرهم، بحيث لا يبقى منهم باقية (فما زاد) صلى الله عليه وسلم (على أن عفا) : تجاوز عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وصفح، وقال: «ما تقولون أنّي فاعل بكم؟» ، قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا؛ فأنتم الطّلقاء» . أفعالهم، (وصفح) أي: أعرض عن أقوالهم؛ أي: مع شدّة أذاهم ونصره عليهم بحيث صاروا في قبضة تصرّفه؛ قد أحاط بهم الهلاك من كلّ جانب، ما زاد على ما كان عليه من حاله إلا العفو والصفح، لاشفاء النفس بالانتقام؛ وفعل ما يستحقّون بحيث لو فعل لم يلم. (وقال) أي: لهم تلويحا بلطفه إليهم؛ وشفقته عليهم، واستخراجا لما في ضمائرهم؛ واستظهارا لما في سرائرهم. (: «ما تقولون) - «ما» استفهامية، «وتقولون» بمعنى تظنّون- (أنّي فاعل بكم؟!» ) ، بفتح همزة «أنّ» وهي وما معها سادّة مسدّ مفعوليه (قالوا: خيرا) منصوب بمقدّر يدلّ عليه فاعل قبله؛ أي تفعل خيرا، أو أنت فاعل خيرا؛ (أخ كريم) أي: أنت (وابن أخ كريم) أي: فلا يجيء من مثلك إلّا ما يوجب الكرم والعفو عمن ظلم. وهذا على عادة العرب في تسمية القريب «أخا» قال تعالى. وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [65/ الأعراف] . والكريم: الجامع للخير والفضائل؛ كما في الحديث: «الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف.. إلخ» . (فقال) : أقول؛ كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، (اذهبوا؛ فأنتم الطّلقاء» ) - بضمّ الطّاء المهملة؛ ففتح اللام ممدودا- جمع: طليق بمعنى مطلوق؛ وهو الأسير؛ يطلق ويخلّى سبيله؛ أي: أنتم الخلصاء من قيد الأسر، فإنّهم كانوا حينئذ أسرى. وقد قال ذلك يوم فتح مكة؛ وهو آخذ بعضادتي باب الكعبة؛ على ما رواه ابن سعد، والنّسائي، وابن زنجويه؛ قاله ملا علي قاري في «شرح الشفاء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وقال أنس رضي الله تعالى عنه: هبط ثمانون رجلا من التّنعيم صلاة الصّبح ليقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الفتح: 24] . وقال لأبي سفيان ... قال الخفاجي: وفيه بلاغة وطيّ بديع، لما فيه من الإيماء إلى شقّهم عصا القرابة بينهم، وحسدهم له، وكذبهم عليه، وقطع رحمه مع ماله صلّى الله عليه وسلم من الشرف الباذخ؛ فإنّه الكريم بن الكريم!! وإنّ حسدهم وبغيهم كان سببا لعلوّ مقامه وتملّكه لنواصيهم وذلّتهم له معترفين بقصورهم. انتهى (وقال أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه مسلم؛ وأبو داود، والترمذي، والنسائيّ؛ قاله القاري (: هبط ثمانون رجلا من التّنعيم) - بفتح التاء-: موضع على ثلاثة أميال من مكّة، وقيل: أربعة، وهو من جهة المدينة. والشام سمّي بذلك!! لأنّه عن يمينه جبل؛ يقال له «نعيم» ، وعن شماله جبل يقال «ناعم» ؛ والوادي «نعمان» . (صلاة الصّبح) - منصوب على الظرفية؛ أي: نزلوا وقت صلاة الصبح- (ليقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخذوا) - بصيغة المجهول- (فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى) في هذه القصّة (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) - أي: كفار مكة- (عَنْكُمْ ... الآية) أي: اقرأ الآية، ونزول الآية عام الحديبية، وضمير الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم ومن معه، وكان ذلك وهو في أصل الشجرة، فبينما هو كذلك إذ خرج ثمانون رجلا وأخذوا أسرى؛ والسّفراء يمشون في الصلح، فأطلقهم وخلّى سبيلهم، وعفا عنهم وهم «العتقاء» . (وقال) صلى الله عليه وسلم (لأبي سفيان) : صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية؛ وزنها له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 - وقد سيق إليه ... بلال، وكان شيخ مكّة ورئيس قريش بعد أبي جهل. أسلم يوم الفتح، ونزل المدينة سنة: إحدى وثلاثين، ودفن في البقيع؛ قاله القاري. (وقد سيق إليه) أي: جيء به إليه، والسائق له هو العبّاس عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لمّا سار النبيّ صلّى الله عليه وسلم لفتح مكّة، ونزل مرّ الظّهران عشاء، وأوقد عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأراد دخولها قهرا لقتل الكفّار؛ فرقّت نفس العبّاس رضي الله تعالى عنه لأهل مكّة، فخرج على بغلة النبي صلّى الله عليه وسلم حتّى أتى الأراك، فقال: لعلّي أجد ذا حاجة يأتي مكّة؛ فيخبرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى يخرجوا؛ ويستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. قال: فسمعت صوت أبي سفيان يقول لبديل: ما رأيت كالليلة سرابا؛ ولا عسكرا!! فقلت: أبا حنظلة؟!. فقال: أبو الفضل!! قلت: نعم. قال: ما لك؛ فداك أبي وأمّي. قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الناس!! واصباح قريش «1» . قال: ما الحيلة؟ قلت: والله؛ لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب عجز هذه البغلة، حتّى آتي بك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي؛ فكنت كلّما مررت بأحد؛ قال: بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها عمّه!! حتّى مررت بعمر رضي الله عنه؛ قال: أبو سفيان عدوّ الله!! الحمد لله الّذي أمكن منك بلا عقد؛ ولا عهد. وخرج يشتدّ نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فركضت البغلة ودخلت عليه وعمر رضي الله تعالى عنه معه. فقال: هذا أبو سفيان؛ دعني أضرب عنقه.   (1) ندبة أو استغاثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 بعد أن جلب عليه الأحزاب، وقتل عمّه وأصحابه ومثّل بهم، ... فقلت: إنّي قد أجرته. وجلست. فلما أكثر عمر رضي الله عنه في شأنه؛ قال صلّى الله عليه وسلم: «مهلا يا عمر، اذهب به يا عبّاس إلى رحلك، فإذا أصبح فائتني به» . فغدوت به صباحا، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم علم أنّه جاء ليسلم منقادا (بعد أن جلب عليه) أي: ساق إليه (الأحزاب) ؛ وهي جموع مجتمعة للحرب من قبائل شتّى، ويقال: تحزّبوا: تجمّعوا. وهذه غزوة الخندق التي كانت في سنة: خمس وكانوا ثلاثة عساكر، وعدّتهم عشرة آلاف، وكان الحصار للمسلمين أربعين يوما. وإسناد جلب الأحزاب إليه!! لأنّه كان قائد جيشهم، وصاحب رأيهم، وإلّا! فسبب التحزيب إنّما كان جماعة من اليهود؛ دعوا القبائل وحرّكوا قريشا لذلك. والمعنى بعد كثرة قبائحه وجملة فضائحه. منها: أنّه جمّع أحزاب كفّار مكة وغيرهم وأتى أهل المدينة على عزم قتلهم ونهبهم واستئصالهم. (و) منها: أنّه (قتل عمّه) حمزة سيّد الشهداء رضوان الله تعالى عنه في غزوة أحد، أي: تسبّب في قتله، إذ قاتله المباشر له هو وحشيّ، وهو من جملة عسكره؛ فهو الباعث والسبب في ذلك القتال والمهيّج له. (و) منها: أنّه قتل (أصحابه) صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ أي: تسبّب في قتلهم وهم سبعون. وقيل: سبعون من الأنصار خاصّة!! وقيل: مجموع القتلى سبعون؛ أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب بن عمير، وشمّاس بن عثمان المخزومي، وعبد الله بن جحش الأسدي، وباقيهم من الأنصار. (و) منها: أنّه (مثّل) - بتشديد المثلاثة- أي: تسبب في فعل المثلة- بضم الميم- (بهم) ؛ وهي العقوبة الشديدة بتشويه خلقتهم؛ بقطع أنف وأذن، ومذاكير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 فعفا عنه، ولاطفه في القول- وقال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلّا الله؟!» ، فقال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأوصلك، وأكرمك) . وشقّ بطن، وإخراج قلب وكبد، وسائر أطرافهم. والممثّلة بحمزة زوجته «هند بنت عتبة» ومن معها من النسوة؛ تشفّيا لقتل حمزة أباها في بدر. ونسب التمثيل لأبي سفيان؟! لأنّ فعل أهل الرجل كفعله، لا سيّما النساء. وقد مثّل بجماعة غير حمزة، فممّن مثّل به أنس بن النّضر، وعبد الله بن جحش بل قال البغوي في «تفسيره» : لم يبق أحد من قتلى أحد إلّا مثّل به؛ غير حنظلة بن راهب، فإنّ أباه عامرا الراهب كان مع أبي سفيان؛ فتركوا حنظلة لذلك. (فعفا) أي: مع هذا كلّه الذي صدر عنه عفا (عنه) ما سبق منه في حال كفره، لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله. (ولاطفه في القول) ؛ إذ خاطبه، (وقال: «ويحك) «ويح» كلمة ترحّم لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقيل: «ويح» باب رحمة، و «ويل» باب هلكة، و «ويس» استصغار (يا أبا سفيان) أي: أتعجّب لك مع عقلك ودهائك وظهور حقيقة الإسلام؛ ألاتسلم (ألم يأن) ؛ من «أنى يأني» ؛ أي: جاء أناه، أي: ألم يقرب الوقت (لك أن تعلم) علما يقينا (ألاإله إلّا الله» ؟!) أي: توحّد الله، وتصدّق به فتسلم إسلاما صحيحا. (فقال) أي أبو سفيان (: بأبي أنت وأمّي) أي: أفديك بهما (ما أحلمك!) صيغة تعجّب؛ من الحلم!! وكذا ما بعده صيغ تعجب (وأوصلك) لرحمك! (وأكرمك!!) أي: ما أكثر كرمك على من أساء إليك؛ وخالف عليك، إذ خاطبتني بلطف مع ما قاسيته منّي، ثم أجابه مصدّقا؛ فقال: لقد ظننت أن لّو كان مع الله إله غيره؛ لقد أغنى شيئا بعد!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وقال الإمام النّوويّ في «التّهذيب» : (قد جمع الله سبحانه وتعالى له صلّى الله عليه وسلّم كمال الأخلاق، ومحاسن الشّيم، وآتاه علم الأوّلين والآخرين، وما فيه النّجاة والفوز؛ وهو أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلّم له من البشر، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره على جميع ... فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ويحك يا أبا سفيان؛ ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟!» . فقال: بأبي أنت وأمّي؛ أمّا هذه ففي النّفس منها شيء!! فقال له العبّاس: ويحك؛ أسلم واشهد أن لّا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله قبل أن يضرب عنقك. فشهد شهادة الحق وأسلم. والحديث مذكور بتمامه في السير، وأمر أبي سفيان رضي الله عنه مشهور. (وقال) الحافظ الحجّة (الإمام) وليّ الله تعالى شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى بن شرف محيي الدين (النّوويّ) تغمّده الله برحمته ورضوانه. آمين (في) كتاب ( «التّهذيب» ) ؛ أي: «تهذيب الأسماء واللغات» الّذي لا يستغني عنه طالب علم (: قد جمع الله سبحانه وتعالى له صلّى الله عليه وسلم كمال الأخلاق) أي: الأخلاق الكاملة المتفرّقة في الناس، جمع الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم منها كمالها وأعلاها، (ومحاسن الشّيم) - بالشين المعجمة والمثناة التحتية؛ جمع شيمة، كسدرة وسدر- وهي: الغريزة والطبيعة والجبلّة التي خلق الإنسان عليها؛ أي علّمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة، وجمع له السيرة الفاضلة والسياسة التامّة. (وآتاه) أي: أعطاه (علم الأوّلين والآخرين، وما فيه النّجاة والفوز) في الآخرة، والغبطة والخلاص في الدنيا، (وهو أمّيّ) منسوب إلى بطن الأم؛ (لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلّم له من البشر!!) ؛ نشأ في بلاد الجهل والصحاري يتيما لا أب له ولا أمّ. (وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره) أي: اصطفاه (على جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 الأوّلين والآخرين، وأعطاه مفاتيح خزائن الأرض كلّها؛ فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها، وكان كما وصفه الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] انتهى. الأوّلين والآخرين، وأعطاه مفاتيح خزائن الأرض كلّها) حقيقة، (فأبى أن يأخذها) ، ولو أخذها لصرفها في مرضاة الله تعالى. (و) لكنه (اختار الآخرة عليها) لتأتسي به أمّته في الهرب من الدنيا والتقلّل منها. (وكان) في أخلاقه (كما وصفه الله تعالى) في كتابه في سورة التوبة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - بضم الفاء؛ أي: منكم، وقرىء مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» - بفتح الفاء؛ من النفاسة، أي من أشرفكم- (عَزِيزٌ) - أي: شديد- (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) - أي: عنتكم أي: مشقّتكم ولقاؤكم المكروه- (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) - أن تهتدوا- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) - شديد الرحمة (رَحِيمٌ) يريد لهم الخير (انتهى) أي كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى.   (1) هي قراءة شاذة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 [الفصل الثّاني في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ] الفصل الثّاني في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خلا بنسائه.. ألين النّاس، وأكرم النّاس، ضحّاكا بسّاما. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أفكه النّاس. (الفصل الثّاني) ، من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة عشرته صلّى الله عليه وسلم مع نسائه) أي: أزواجه (رضي الله تعالى عنهنّ) ، وقد كان حسن العشرة معهنّ. أخرج ابن سعد في «طبقاته» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وقال العزيزي: إنه حديث حسن لغيره؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين النّاس، وأكرم النّاس) في القول والخلق، (ضحّاكا بسّاما) أي: كثير التبسّم، وهو تفسير لضحّاك، فيستحبّ للزوج فعل ذلك مع زوجته؛ اقتداء به صلّى الله عليه وسلم، إذ كان يلاطفهنّ ويتنزل معهنّ، حتّى إنّه سابق عائشة رضي الله تعالى عنها يوما فسبقته؛ كما رواه الترمذي في «العلل» عنها. قال ابن القيّم: وكان من تلطّفه بهنّ أنّه إذا دخل عليهنّ بالليل سلّم تسليما لا يوقظ النائم، ويسمع اليقظان؛ ذكره مسلم. (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، والحسن بن سفيان في «مسنده» ، والطبرانيّ، والبزّار: كلّهم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم من أفكه النّاس) زاد الطبراني: مع صبي. وزاد البزّار: مع نسائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 قال المناويّ: (أي: من أمزحهم إذا خلا بنحو أهله) . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: حدّث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة نساءه حديثا، فقالت امرأة منهنّ: كأنّ الحديث حديث خرافة. (قال المناويّ) في «فيض القدير؛ شرح الجامع الصغير» : (أي: من أمزحهم إذا خلا بنحو أهله) . والفكاهة: المزاحة، ورجل فكه؛ ذكره الزمخشري. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّي لطّخت وجه سودة بخزيرة. ولطّخت سودة وجه عائشة؛ فجعل يضحك. رواه الزّبير بن بكّار في «كتاب الفكاهة» ، وأبو يعلى بإسناده. قال الحافظ العراقيّ: جيّد. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: حدّث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة) أي: في ساعات ذات ليلة، ف «ذات» صفة موصوف محذوف. أو لفظ «ذات» مقحم، فهو مزيد للتأكيد (نساءه) أي: أزواجه (حديثا) أي: كلاما عجيبا، أو تحديثا غريبا، فالمراد على الأوّل ما يتحدّث به، وعلى الثاني المصدر. (فقالت امرأة منهنّ؛ كأنّ) - بتشديد النون- هذا (الحديث حديث خرافة!!) - بضمّ الخاء المعجمة وفتح الراء- ولا تدخله «أل» لأنّه معرفة؛ لكونه علما على رجل، نعم إن أريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل عرّف. ولم ترد المرأة ما يراد من هذا اللفظ؛ وهو الكذب المستملح، لأنها عالمة بأنّه لا يجري على لسانه إلّا الصدق. وإنّما أرادت التشبيه في الاستملاح فقط، لأن حديث خرافة يراد به الموصوف بصفتين: الكذب، والاستملاح. فالتشبيه في إحداهما؛ لا في كلتيهما. انتهى «باجوري» . ولكنّه صلّى الله عليه وسلم لمّا علم أنّ كلا منهما موهم؛ وقالت تلك المرأة ما قالت بيّن المراد؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فقال: «أتدرون ما خرافة؟ إنّ خرافة كان رجلا من عذرة، أسرته الجنّ ... (فقال: «أتدرون ما خرافة؟!» ) خاطبهنّ خطاب الذكور تعظيما لشأنهنّ، فكأنّهنّ قلن: لا ندري، فقال: ( «إنّ خرافة كان رجلا من عذرة) - بضمّ العين المهملة وسكون الذال المعجمة-: قبيلة من اليمن (أسرته) أي: اختطفته (الجنّ) . قال العلّامة الشيخ ابن حجر الهيتمي في «التحفة شرح المنهاج» : الجنّ أجسام هوائيّة؛ أو نارية أي: يغلب عليها ذلك، فهم مركّبون من العناصر الأربعة كالملائكة؛ على قول، وقيل: أرواح مجرّدة. وقيل: نفوس بشريّة مفارقة عن أبدانها، وعلى كلّ فلهم عقول وفهم، ويقدرون على التشكّل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال الشاقّة في أسرع زمن. وصحّ خبر أنّهم ثلاثة أصناف: ذوو أجنحة يطيرون بها، وحيّات، وآخرون يحلّون ويظعنون. ونوزع في قدرتهم على التشكل باستلزامه رفع الثّقة بشيء!! فإنّ من رأى؛ ولو ولده؛ يحتمل أنّه جنّيّ تشكّل به. ويردّ: بأنّ الله تكفّل لهذه الأمّة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤذي لمثل ذلك المترتب عليه الرّيبة في الدين، ورفع الثقة بعالم وغيره، فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ومن زعم أنّه رآهم ردّت شهادته وعزّر، لمخالفته القرآن. وكأنّ المصنّف أخذ منه قوله «من منع التفضيل بين الأنبياء عزّر، لمخالفته القرآن» !! وحمل بعضهم كلام الشافعي على زاعم رؤية صورهم الّتي خلقوا عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ......... ولمّا عرّف البيضاويّ الجنّ في تفسير قُلْ أُوحِيَ [1/ الجن] بنحو ما مرّ؛ قال: وفيه دليل على أنّه صلّى الله عليه وسلم ما رآهم، ولم يقرأ عليهم!! وإنّما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته؛ فسمعوها، فأخبره الله تعالى بذلك. انتهى. وكأنّه لم يطلّع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة؛ المصرّحة برؤيته صلّى الله عليه وسلم لهم، وقراءته عليهم، وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابّهم على كيفيّات مختلفة!! ولا يسقط عنا ما كلّفنا به من نحو إقامة الجمعة؛ أو فروض الكفايات بفعلهم!؟ لما مرّ أنّهم- وإن أرسل إليهم صلّى الله عليه وسلم وكلّفوا بشرعه إجماعا ضروريا؛ فيكفر منكره- لهم تكاليف اختصّوا بها؛ لا نعلم تفاصيلها. ولا ينافي هذا إجراء غير واحد عليهم بعض الأحكام؛ كانعقاد الجمعة بهم معنا، وصحّة إمامتهم لنا. والجمهور على أنّ مؤمنيهم يثابون ويدخلون الجنة. وقول أبي حنيفة واللّيث «لا يدخلونها، وثوابهم النجاة من النار» !! بالغوا في ردّه، على أنّه نقل عن أبي حنيفة أنّه أخذ دخولهم من قوله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) [الرحمن] انتهى كلام «التحفة» . وفي كتاب «شفاء الأسقام فيما يتعلق بالجنّ من الأحكام» للشيخ العلّامة المحقّق الفهّامة: محمد بن عمر الحشيبري المتوفى سنة: إحدى وخمسين وألف هجرية رحمه الله تعالى: الجنّ والشياطين جنس واحد، أبوهم إبليس؛ وهم ذريته، فالجنّ المؤمنون والشياطين الكافرون. قال تعالى حكاية عنهم وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ- وهم الجن- وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الكافرون الجائرون؛ وهم الشياطين فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا- قصدوا- رَشَداً (14) . وأما القاسطون الجائرون بالكفر أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) [الجن] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 ......... وسمّوا جنّا!! لاستتارهم عن أعين الناس غالبا، وسمّوا «شياطينا» !! لبعدهم عن رحمة الله تعالى، ومنه بئر شطون؛ إذا كانت بعيدة العمق. وسمّي إبليس!! لأنّه أبلس من رحمة الله عزّ وجلّ، أي: يئس، والمبلس: الكئيب الحزين الآيس؛ كما في «التهذيب» للنووي. وفيهم أهل السّنّة، والمبتدعة؛ حتّى الشيعة والرافضة، والمرجئة والقدرية. وغير ذلك على مذاهب الإنس الذي يسكنون معهم في بلادهم، ولهم ملوك كبار، وأسماء ملوك يخضعون لها، ويطيعون للإقسام عليهم بها، وقد يخضعون لأسماء من أسماء الله تعالى القاهرة، ويستخدمون بها مسخّرين، ولذلك صفات وهيئات معروفة عند المعزّمين الذين يفتتنون بذلك، وقد يصيبهم منهم مصائب؛ نسأل الله العافية، ولهم سلطة على بعض المسلمين، ويتولّجون في باطن الحيوانات، وينفذون من منافذها الضيقة؛ نفوذ الهوى المستنشق. وفي الحديث الصحيح في البخاري «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم» . قال الشّرّاح أي: يدخل فيه. لما تقرّر أنّه جسم لطيف، وحمل الحديث على الحقيقة؛ أخذا بظاهره أولى من حمله على المجاز؛ وهو الوسوسة. انتهى. ومن لازم دخولهم في الإنس المرض والصّرع، وتشويه الخلقة لبعض المسلمين، ولغة الجنّ كلّ منهم على لغة من يسكنون بلده، ومذاهبهم على مذاهب الإنس الذين يسكنون بلدهم، ولهم الأعمار الطويلة؛ فلا يموتون إلّا بالصعقة، فإنهم كأبيهم إبليس من المنظرين. وقيل: إن المسلم منهم يموت قبل الصعقة؛ والكافر منهم لا يموت إلا بموت إبليس. قال العلّامة شيخ الإسلام محمد بن أبي بكر الأشخر رحمه الله تعالى: الجنّ مكلّفون، لا على حدّ تكليفنا وتفصيله، فمن ثمّ يجب الحجّ على من أمكنه الطيران منهم، بخلاف من أمكنه ذلك خرق عادة من الأنس، فعلى هذا يسجد لتلاوته، ويقتدى به، وتحصل فضيلة الصفّ، ويتمّ به عدد الجمعة، ويكفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 في الجاهليّة، ... تجهيز ميتنا، ويقبل خبره وشهادته؛ ولو في النكاح، على خلاف في جميع ذلك. نعم؛ الأصحّ من وجهين حرمة مناكحتهم. والرضاع مبنيّ على ذلك؛ فإن حرّمنا المناكحة لم يحرّم، وإن جوّزناها حرّم، وهو أحد احتمالين للبلقيني رحمه الله تعالى في «تدريبه» انتهى. ولو أولج جنيّ ذكره في إنسية؛ أو أنسيّ في جنّيّة أجنب المولج والمولج فيه. وفرض ذلك أن يتحقّق ما ذكر، إذ لا جنابة مع الشكّ. انتهى. والجنّ مكلّفون بالإيمان بالله تعالى، وترك الإشراك به؛ من ابتداء خلقهم، لا مثل الإنس بعد البلوغ. وأمّا التزام أحكام الشرائع!! فالذي أرسل إليهم عموما هو نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم، فهم مكلّفون بالتزام شريعته صلّى الله عليه وسلم. قال مقاتل رحمه الله تعالى: لم يبعث نبيّ قبل نبينا إلى الإنس والجنّ جميعا، فعلى هذا لا يلزمهم اتباع شريعة نبيّ قبله، وإنما يلزمهم التوحيد، وترك الإشراك بالله تعالى. والصحيح: أنّ الرسل من الإنس إلى الإنس، وفي زمن كلّ رسول كانت النّذر من الجن تسمع كلام الرّسل وتبلّغه قومها؛ منذرين لهم، فيعملون بما يسمعون. وليس للجنّ رسل منهم يوحى إليهم، وإنّما يعملون بما أنذرهم قومهم بما يسمعون من رسل الإنس. انتهى. ملخصا من «شفاء الأسقام فيما يتعلق بالجنّ من الأحكام» تأليف الشيخ العلامة المحقق محمد بن عمر الحشيبري رحمه الله تعالى. فائدة: الجنّ على مراتب، فالأصل «جنّيّ» ، فإن خالط الإنسان قيل «عامر» ومن تعرّض منهم للصبيان قيل «أرواح» ، ومن زاد في الخبث قيل «شيطان» ، فإن زاد على ذلك قيل «مارد» ، فإن زاد على ذلك قيل «عفريت» . انتهى كذا وجدت معزوّا لكتاب «توشيح» السيوطي رحمه الله. (في) أيّام (الجاهليّة) هي: الحالة الّتي كانت عليها العرب قبل بعثته صلّى الله عليه وسلم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 فمكث فيهم دهرا، ثمّ ردّوه إلى الإنس، فكان يحدّث النّاس بما رأى من الأعاجيب، فقال النّاس: (حديث خرافة) » . الجهل بالله تعالى ورسوله وشرائع الإسلام، وكان اختطاف الجنّ للإنس كثيرا إذ ذاك. (فمكث) - بضمّ الكاف وفتحها- أي: لبث (فيهم) أي: معهم (دهرا) أي: زمنا طويلا (ثمّ ردّوه إلى الإنس) - بكسر الهمزة وسكون النون- أي: البشر، الواحد إنسيّ، والجمع: أناسيّ وأناسية؛ كصيارفة. (فكان يحدّث النّاس بما رأى من الأعاجيب) ؛ جمع: أعجوبة، أي الأشياء التي يتعجّب منها. والتعجّب: انفعال النفس لزيادة وصف في المتعجّب منه. إمّا لاستحسانه والرّضا عنه، وإمّا لذمّه وإنكاره، فهو على وجهين: الأول: فيما يحمده الفاعل. والثاني: في ما يكرهه. انتهى «باجوري» . فكان خرافة يخبر الناس بما رأى؛ فيكذّبونه فيما أخبرهم به، مع أن الرجل كان صادقا؛ لا كاذبا. (فقال النّاس: حديث خرافة» ) أي: قالوا ذلك فيما سمعوه من الأحاديث العجيبة والحكايات الغريبة؛ الّتي يستملحونها ويكذّبونها؛ لبعدها عن الوقوع. وغرضه صلّى الله عليه وسلم من مسامرة نسائه تفريح قلوبهنّ، وحسن العشرة معهن، فيسنّ ذلك، لأنه من باب حسن المعاشرة، وفي الحثّ عليه أحاديث كثيرة مشهورة. والنهي الوارد عن الكلام بعد العشاء!! محمول على ما لا يعني من الكلام الدّنيويّ. قال في «المنهاج» : ويكره النوم قبلها والحديث بعدها؛ إلّا في خير. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقبّل عرف ابنته فاطمة الزّهراء، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقبّلها في فمها أيضا. و (العرف) : أعلى الرّأس، ويطلق على الرّقبة. وكان صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه وأزواجه كواحد منهم، وكان حسن المعاشرة. وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: كنت إذا هويت ... (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» - وهو حديث ضعيف؛ كما في العزيزي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يقبّل عرف) - بضم العين وإسكان الراء- (ابنته فاطمة الزّهراء) أي: أعلى رأسها؛ قاله المناوي (وكان صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يقبّلها في فمها أيضا) . زاد أبو داود بسند ضعيف: ويمصّ لسانها. (والعرف) - بالضمّ- (أعلى الرّأس) مأخوذ من عرف الدّيك؛ وهو: اللحمة المستطيلة في أعلى رأسه. انتهى. (ويطلق) أي: العرف (على الرّقبة) . قال في العزيزي: قال الشيخ: العرف- بالمهملة والفاء-: الرقبة؛ أخذا من معرفة الفرس؛ أي: منبت شعره من رقبته. انتهى. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه) كواحد منهم؛ لا يتميّز عنهم بشيء، لمزيد تواضعه وحسن عشرته. (و) كان مع (أزواجه) ؛ جمع: زوج، أي امرأة، لأن اللغة الفصحى: «زوج» - بلا هاء، وبها جاء القرآن في نحو وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [19/ الأعراف] حتّى بالغ الأصمعيّ؛ فقال: لا تكاد العرب تقول «زوجه» بالهاء. وقوله (كواحد منهم) فيه تغليب الذكور، (وكان حسن المعاشرة) مع أصحابه وأزواجه، وأهل بيته وسائر النّاس على اختلاف طبقاتهم. (وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ تقول: كنت إذا هويت) أي: أردت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 شيئا.. تابعني صلّى الله عليه وسلّم عليه. وكنت إذا شربت من الإناء.. أخذه فوضع فمه على موضع فمي وشرب، وكان ينهش فضلتي من اللّحم الّذي على العظم، وكان يتّكىء في حجري ويقرأ القرآن. وحدّثت عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحديث أمّ زرع؛ وهو: أنّ إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن ألايكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا، ... (شيئا تابعني) أي: وافقني (صلى الله عليه وسلم عليه) إشارة إلى مزيد حبّه لها. (وكنت إذا شربت من الإناء أخذه؛ فوضع فمه على موضع فمي وشرب) . رواه مسلم من حديثها. (وكان ينهش فضلتي من اللّحم الّذي على العظم) رواه مسلم أيضا من حديثها بلفظ: وإذا تعرّقت عرقا أخذه فوضع فمه على موضع فمي. (وكان يتّكىء في حجري ويقرأ القرآن) رواه الشيخان؛ من حديثها. (وحدّثت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحديث أمّ زرع) ؛ كما رواه الشيخان، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وأمّ زرع هي واحدة من النساء اللّاتي ذكرهن بقوله: (وهو: أنّ إحدى عشرة) - بسكون الشين- (امرأة) ؛ قيل: كلّهن من بعض قرى اليمن، أو قرى مكّة، ولم يعرف منهن سوى أسماء ثمانية سردها الخطيب البغدادي في كتاب «المبهمات» ؛ وقال: إنّه لا يعرف أحد أسماءهن إلّا من تلك الطريق، وإنّه غريب جدّا. (تعاهدن) ؛ أي ألزمن أنفسهنّ عهدا، (وتعاقدن) عطف تفسير (أن لا يكتمن) أي: لا يخفين (من أخبار أزواجهنّ شيئا) ؛ سواء كان مدحا، أو ذمّا، بل يظهرن ذلك ويصدقن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 فوصفت كلّ واحدة زوجها، ... (فوصفت كلّ واحدة زوجها) ؛ فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غثّ. على رأس جبل وعر؛ لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. قالت الثانية: زوجي لا أثير خبره، إنّي أخاف ألاأذره؛ إن أذكره أذكر عجره وبجره. قالت الثالثة: زوجي العشنّق؛ إن أنطق أطلّق، وإن أسكت أعلق. قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة؛ لا حرّ ولا قر، ولا مخافة ولا سامة. قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد. قالت السادسة: زوجي إن أكل لفّ، وإن شرب اشتفّ، وإن اضطجع التفّ، ولا يولج الكفّ ليعلم البثّ. قالت السابعة: زوجي عياياء، أو غياياء طلبقاء، كلّ داء له داء؛ شجّك، أو فلّك، أو جمع كلّا لك!!. قالت الثامنة: زوجي المسّ مسّ أرنب، والريح ريح زرنب. قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النّاد. قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك!! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك؛ قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر. أيقنّ أنهنّ هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع ... وما أبو زرع!! أناس من حليّ أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إليّ نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشقّ؛ فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبّح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 فكانت أحسنهنّ وصفا لزوجها وأكثرهنّ تعدادا لنعمه عليها: زوجة أبي زرع. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» . وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمّح: أمّ أبي زرع؛ فما أمّ أبي زرع!! عكومها رداح، وبيتها فساح. ابن أبي زرع؛ فما ابن أبي زرع!! مضجعه كمسلّ شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. بنت أبي زرع؛ فما بنت أبي زرع!! طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها وغيظ جارتها. جارية أبي زرع؛ فما جارية أبي زرع!! لا تبثّ حديثنا تبثيثا، ولا تنقث ميرتنا تنقيثا. ولا تملأ بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها؛ كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلّقني ونكحها. فنكحت بعده رجلا سريّا؛ ركب شريّا، وأخذ خطيا، وأراح علي نعما ثريا، وأعطاني من كلّ رائحة زوجا، وقال: كلي أمّ زرع وميري أهلك. فلو جمعت كلّ شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. (فكانت أحسنهنّ وصفا لزوجها، وأكثرهنّ تعدادا لنعمه عليها: زوجة أبي زرع) التي يضاف إليها الحديث؛ فيقال «حديث أم زرع» . وإنّما أضيف إليها!! لأنّ معظم الكلام وغاية المرام فيه إنّما هو بالنسبة إلى ما يتعلّق بها ويترتّب عليها، ولذلك (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فقال) - وفي بعض نسخ «الشمائل» : قال عروة: قالت عائشة: فلما فرغت من ذكر حديثهنّ؛ قال- (لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» ) في الألفة والوفاء؛ لا في الفرقة والجفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ......... فالتشبيه ليس من كلّ وجه؛ كما يفيد ذلك قوله «لك» ولم يقل «وعليك» !! فإنّه يفيد أنّه لها كأبي زرع لأمّ زرع في النفع؛ لا في الضرّ الّذي حصل بطلاقها. ويؤخذ من الحديث ندب حسن العشرة مع الأهل، وحلّ السّمر في خير؛ كملاطفة حليلته، وإيناس ضيفه وجواز ذكر المجهول عند المتكلّم والسّامع بما يكره، فإنّه ليس غيبة. غاية الأمر: أن عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت نساء مجهولات، وذكر بعضهن عيوب أزواجهن المجهولين الذين لا يعرفون بأعيانهم؛ ولا بأسمائهم، ومثل هذا لا يعدّ غيبة، على أنّهم كانوا من أهل الجاهليّة؛ وهم ملحقون بالحربيّين في عدم احترامهم. وفي الحديث فوائد كثيرة. وقد أفرده بالتصنيف أئمّة؛ منهم القاضي عياض، والإمام الرافعي في مؤلف جليل جامع، وساقه بتمامه في «تاريخ قزوين» !. قال الحافظ ابن حجر: المرفوع من حديث أبي زرع في «الصحيحين» «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» ، وباقيه من قول عائشة رضي الله تعالى عنها. وجاء خارج «الصحيحين» مرفوعا كلّه من رواية عبّاد بن منصور عند النسائي، وساقه بسياق لا يقبل التأويل؛ ولفظه: قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: بأبي أنت وأمّي، يا رسول الله من كان أبو زرع!؟ قال: «اجتمع ... » فساق الحديث كلّه. وكذا جاء مرفوعا عند الزّبير بن بكّار، وجاء في بعض طرقه الصحيحة: ثمّ أنشأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحدّث بحديث أمّ زرع، ويقوّي رفعه جميعه أنّ التشبيه المتّفق على رفعه يقتضي أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم سمع القصّة وعرفها فأقرّها، فيكون مرفوعا كلّه؛ من هذه الحيثية. انتهى؛ نقله في «جمع الوسائل» للعلّامة الملا علي قاري رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 وكان صلّى الله عليه وسلّم يسرّب إلى عائشة رضي الله تعالى عنها بنات الأنصار يلعبن معها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يريها الحبشة؛ وهم يلعبون في المسجد، وهي متّكئة على منكبه. وروي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم سابقها، فسبقته، ثمّ سابقها بعد ذلك، فسبقها وقال: «هذه بتلك» . (و) روى الشيخان: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يسرّب) ؛ من التسريب- بالمهملة- وهو: الإرسال، والتسريح أي: يرسل (إلى عائشة رضي الله تعالى عنها بنات الأنصار) واحدة بعد أخرى (يلعبن معها) ، لأنّها كانت صغيرة. (وكان صلّى الله عليه وسلم يريها الحبشة؛ وهم يلعبون) بحرابهم للتدريب على مواقع الحرب والاستعداد، ولذا جاز (في المسجد) لأنه من منافع الدين، (وهي متّكئة على منكبه) ، ولعله أراها لعبهم لتضبطه وتعلمه فتنقله للناس بعد. وهذا رواه البخاري؛ من حديثها، ورواه الترمذي بلفظ: قام صلّى الله عليه وسلم فإذا حبشة تزفن والصبيان حولها، فقال: «يا عائشة تعالي فانظري» . فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه؛ فقال لي: «أما شبعت.. أما شبعت!!» فجعلت أقول: لا.. لا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. ولعل رؤيتها للحبشة كان قبل الحجاب!! وقيل: إنّها كانت تنظر إلى لعبهم؛ لا إلى أجسامهم. وفيه ما فيه!!. (وروي أنّه صلّى الله عليه وسلم سابقها) في سفر (فسبقته) ؛ لخفّة جسمها بقلّة اللّحم. (ثمّ سابقها بعد ذلك) في سفر آخر؛ وقد سمنت (فسبقها، وقال) مطيّبا لخاطرها (: «هذه بتلك» ) السّبقة. رواه أبو داود بلفظ: سابقته في سفر فسبقته على رجلي، فلما حملت اللّحم سابقته فسبقني. قال: «هذه بتلك السّبقة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّهم كانوا يوما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، إذ أتي بصحفة خبز ولحم من بيت أمّ سلمة، فوضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ضعوا أيديكم» ، فوضع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم [يده] ، ووضعنا أيدينا، فأكلنا وعائشة تصنع طعاما عجّلته، وقد رأت الصّحفة الّتي أتي بها، فلمّا فرغت من طعامها.. جاءت به فوضعته، ورفعت صحفة أمّ سلمة فكسرتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلوا باسم الله؛ غارت أمّكم» . وهذا من مزيد لطفه؛ حتّى لا تتشوّش. وروى الإمام أحمد عنها: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أسفاره؛ وأنا جارية لم أحمل اللّحم؛ ولم أبدن، فقال للناس: «تقدّموا» . فتقدّموا، ثم قال: «تعالي حتّى أسابقك» . فسابقته فسبقته؛ فسكت عنّي، حتّى حملت اللّحم وبدنت وسمنت؛ خرجت معه في بعض أسفاره؛ فقال للناس: «تقدّموا» . ثمّ قال: «تعالي حتّى أسابقك» فسبقني، فجعل يضحك ويقول: «هذه بتلك» . (وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّهم كانوا يوما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ إذ أتي بصحفة) : إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها، جمعها صحاف (خبز ولحم من بيت أمّ سلمة؛ فوضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ضعوا أيديكم» ) للأكل. (فوضع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم [يده] ووضعنا أيدينا فأكلنا!! وعائشة تصنع طعاما عجّلته) أسرعت به. (و) الحال أنّها (قد رأت الصّحفة الّتي أتي) - على صيغة المبني للمجهول- أي: جيء (بها) من بيت أمّ سلمة. (فلمّا فرغت من طعامها جاءت به فوضعته، ورفعت صحفة أمّ سلمة فكسرتها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كلوا باسم الله) من صحفة عائشة (غارت أمّكم» ) هي كاسرة الصحفة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 ثمّ أعطى صحفتها أمّ سلمة؛ فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» . رواه الطّبرانيّ في «الصّغير» . وهو عند البخاريّ بلفظ: كان صلّى الله عليه وسلّم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، ... وأبعد الداودي؛ فقال: هي سارة زوج الخليل. وأنّه أراد لا تعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة؛ فقد غارت تلك التي قبلها!! وردّ- مع بعده- بأن المخاطبين ليسوا من أولاد سارة، إذ ليسوا من بني إسرائيل!!. (ثمّ أعطى صحفتها أمّ سلمة؛ فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» . رواه الطّبرانيّ في) «معجمه (الصّغير» ) . وعزاه في «الفتح» و «المقدمة» له في «الأوسط» ، (وهو) أي: حديث أنس (عند البخاريّ) في «المظالم» و «الأطعمة» (بلفظ: كان صلّى الله عليه وسلم عند بعض نسائه) هي عائشة؛ كما في الترمذي وغيره، ولا خلاف في ذلك! (فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين) هي: صفيّة؛ كما رواه أبو داود والنسائيّ من حديث عائشة. أو: حفصة؛ كما رواه الدارقطني؛ من حديث أنس وابن ماجه عن عائشة. أو: أمّ سلمة؛ كما رواه الطبراني في «الأوسط» عن أنس وإسناده أصحّ من إسناد الدارقطني. وساقه بسند صحيح؛ وهو أصحّ ما ورد في ذلك. ويحتمل التعدّد!!. وحكى ابن حزم في «المحلّى» أنّ المرسلة زينب بنت جحش؛ ذكره الحافظ، وتبعه القسطلّانيّ، ففي جزم السيوطي بالأخير شيء. (بصحفة) هذا لفظ البخاري في «الأطعمة» ، ولفظه في «المظالم» بقصعة- بفتح القاف- (فيها طعام) أي: حيس؛ كما في «المحلّى» لابن حزم. ويأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 فضربت الّتي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصّحفة فانفلقت، فجمع صلّى الله عليه وسلّم فلق الصّحفة، ثمّ جعل يجمع فيها الطّعام الّذي كان في الصّحفة ويقول: «غارت أمّكم» ، ثمّ حبس الخادم، حتّى أتي بصحفة من عند الّتي هو في بيتها، فدفع الصّحفة إلى الّتي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت الّتي كسرت. رواية «يلتقط اللحم» ، فيحتمل أن اتّحدت القصّة؛ أنّه كان فوق الحيس، قال الشاعر: التّمر والسّمن جميعا والأقط ... الحيس إلّا أنّه لم يختلط مع خادم (فضربت الّتي [النّبيّ] ) صلى الله عليه وسلم (في بيتها) هي عائشة على جميع الأقوال (يد الخادم) لم يسمّ؛ قاله الحافظ ابن حجر. (فسقطت الصّحفة؛ فانفلقت، فجمع صلّى الله عليه وسلم فلق الصّحفة) ؛ جمع فلقة؛ كقطعة وقطع: وزنا ومعنى. (ثمّ جعل يجمع فيها الطّعام الّذي كان في الصّحفة؛ ويقول) مبديا لعذرها (: «غارت أمّكم» ) عائشة. (ثمّ حبس الخادم) : منعه من العود إلى سيّدته التي أرسلته (حتّى أتي بصحفة من عند الّتي هو في بيتها، فدفع الصّحفة) الّتي لا كسر فيها (إلى) الخادم ليوصلها إلى (الّتي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت الّتي كسرت) ؛ عقابا لها. فإن قيل: القصعة متقوّمة فكيف ضمّنها بالمثل؛ لا بالقيمة؟! أجاب البيهقيّ بأنّ القصعتين كانتا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم في بيت زوجتيه، فعاقب الكاسرة- بجعل- المكسورة في بيتها، وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائيّ: قالت عائشة رضي الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيني وبينها؛ فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين، أو لألطّخنّ بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. عنها: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفيّة؛ أهدت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم إناء من طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته!! فقلت: يا رسول الله؛ ما كفّارته؟ قال: «إناء كإناء، وطعام كطعام» ففي هذه الرواية: المرسلة صفيّة، فيخالف رواية الطّبراني أنّها أم سلمة!! إن لم يحمل على التعدّد. وعند غير أحمد، وأبي داود، والنسائي: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلم يلتقط اللّحم والطعام؛ وهو يقول «غارت أمّكم» . فلم يثرّب عليها صلّى الله عليه وسلم، ووسع خلقه الشريف آثار طفحات غيرتها، ولم يتأثّر من فعلها ذلك بحضوره وحضور أصحابه؛ لمزيد حلمه وعلمه بما تؤدّي إليه الغيرة، وقضى عليها بحكم الله في التقاصّ بجعل المكسورة عندها ودفع الصحيحة لضرّتها. (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بخزيرة) - بخاء وزاي معجمتين؛ فياء مثناة، فراء فتاء تأنيث- (طبختها له، وقلت لسودة) أمّ المؤمنين (والنّبيّ صلّى الله عليه وسلم بيني وبينها؛ فقلت لها: كلي. فأبت، فقلت لها: كلي. فأبت. فقلت لها: لتأكلين؛ أو لألطّخنّ بها وجهك!! فأبت. فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها) - بالتخفيف [لطّخت] وتشدّد مبالغة. (فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، فوضع فخذه لها؛ وقال لسودة: «ألطخي وجهها قصاصا» . فلطخت به وجهي. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... الحديث رواه ابن غيلان؛ من حديث الهاشمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 و (الخزيرة) : لحم يقطع قطعا صغارا، ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدّقيق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضبت عائشة.. عرك بأنفها وقال: «يا عويش؛ قولي: اللهمّ ربّ محمّد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلّات الفتن» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بهديّة قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنّها كانت صديقة لخديجة ... وأخرجه الملّا في «سيرته» ؛ ذكره في «المواهب» قال: (والخزيرة: لحم يقطع قطعا صغارا، ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج) : استوى (ذرّ عليه الدّقيق) ، فإن لم يكن فيها لحم؛ فهي عصيدة؛ قاله الجوهري وغيره، وكذا ذكره ابن السّكّيت؛ وزاد: من لحم بات ليلة. وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم. وقيل: غير ذلك، كما ذكره القسطلّاني في «المواهب» . (و) أخرج ابن السّنّيّ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا غضبت عائشة عرك بأنفها) - بزيادة الموّحدة- (وقال) ؛ ملاطفا لها (: «يا عويش) - منادى مصغّر مرخّم، فيجوز ضمّه وفتحه على لغة «من ينتظر» وعلى التمام- (قولي: (اللهمّ؛ ربّ محمّد اغفر لي ذنبي، وأذهب) - بهمزة القطع- (غيظ قلبي، وأجرني من مضلّات الفتن.) ؛ أي: الفتن المضلّة، أي الموقعة في الضلال، فمن قال ذلك بصدق وإخلاص ذهب غضبه لوقته، وحفظ من الضلال والوبال. (و) أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا أتي) - مبنيّ للمجهول- أي: أتاه أحد (بهديّة؛ قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة) لم يسمّها الرواة، (فإنّها كانت صديقة لخديجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 - رضي الله تعالى عنها- إنّها كانت تحبّ خديجة» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة رضي الله تعالى عنها لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشّاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها.. - رضي الله تعالى عنها-) وفي رواية: (إنّها كانت تحبّ خديجة» ) . وفيه الحثّ على البرّ والصّلة وحسن العهد. (و) أخرج البخاريّ ومسلم وغيرهما (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما غرت) - بكسر العين المعجمة وسكون الراء- (على امرأة) أي: من نساء النبي صلّى الله عليه وسلم (ما غرت) ؛ أي: كغيرتي (على خديجة- رضي الله تعالى عنها- لما كنت) لعلة لغيرتها أي: لأجل كوني دائما (أسمعه) ؛ أي: أسمع النبي صلّى الله عليه وسلم (يذكرها) أي: ذكرا جميلا وثناء جزيلا. قال الطبريّ وغيره: الغيرة من النساء مسموح لهنّ ومفسوخ في أخلاقهن لما جبلن عليه، وإنّهن لا يملكن عندها أنفسهنّ. ولهذا لم يزجر النبي صلّى الله عليه وسلم عائشة، ولا ردّ عليها عذرها، لما علم من فطرتها وشدّة غيرتها. قال الزبيدي: والعامّة تكسرها والصواب فتحها. انتهى «ملا علي قاري رحمه الله تعالى» . (وإن) - بكسر الهمزة وسكون النون؛ على أنّ «إن» مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ أي: وإنّه عليه الصلاة والسلام (كان ليذبح الشّاة) - بفتح اللام- وهي المسماة ب «الفارقة» ، نحو قوله تعالى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [143/ البقرة] (فيهديها) - بضمّ الياء- أي: فيرسلها هديّة (إلى خلائلها) - بالخاء المعجمة- جمع: خليلة؛ أي صدائقها لكلّ واحدة منها قطعة. (واستأذنت عليه أختها) أي: طلبت الإذن في الدخول له صلّى الله عليه وسلم أخت خديجة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 فارتاح لها «1» ، ودخلت عليه امرأة فهشّ لها وأحسن السّؤال عنها، فلمّا خرجت قال: «إنّها كانت تأتينا أيّام خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان» . وهي هالة بنت خويلد بن أسد أمّ أبي العاصي بن الربيع «زوج زينب بنته صلّى الله عليه وسلم» ، واسمه: لقيط بن الربيع، وهالة ذكرها ابن منده، وأبو نعيم في «الصحابة» . (فارتاح [لها] ) ؛ أي: حصلت له صلّى الله عليه وسلم راحة، إذ دخلت عليه وأظهر البشر والسرور برؤيتها، (ودخلت عليه امرأة) أي: أخرى في وقت آخر (فهشّ لها) - بتشديد الشين المعجمة- أي: فرح بها واستبشر، (وأحسن السّؤال عنها) بقوله «كيف أنتم..؟ كيف حالكم ... ؟ كيف كنتم بعدنا» ؟ (فلمّا خرجت) من عنده (قال: «إنّها كانت تأتينا أيّام خديجة) أي: في زمانها فلنا بها معرفة قديمة، (وإنّ حسن العهد) قال السّخاوي: ينصرف لغة إلى وجوه؛ أحدها: الحفظ والرعاية، وهو المراد هنا. أي: الوفاء والحفظ، ورعاية العهود القديمة، ورعاية من يحبّك أو يحبّ من يحبّك (من الإيمان» ) أي: من أخلاق أهله وخصالهم، أو من شعب الإيمان ومقتضياته، لأن من كمال الإيمان مودّة عباد الله ومحبّتهم. وهذا الحديث رواه الحاكم في «مستدركه» في «كتاب الإيمان» ؛ عن عائشة مرفوعا، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين؛ وليس له علّة. وأقرّه الذّهبيّ. ومن طريق الحاكم رواه الدّيلميّ، من حديث الصّغاني؛ عن أبي عاصم؛ قال: حدّثنا رستم؛ عن ابن أبي مليكة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: جاءت عجوز إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها: «من أنت» ؟! فقالت جثّامة المزنيّة. قال: «أنت حسّانة، كيف أنتم ... ؟ كيف حالكم ... ؟ كيف كنتم بعدنا؟» . قالت: بخير، بأبي أنت وأمّي؛ يا رسول الله. فلما خرجت؛ قلت: يا رسول الله؛ تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال!! قال: «إنّها كانت تأتينا زمن   (1) في «وسائل الوصول» : إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 قال القسطلّانيّ: (وهكذا كانت أحواله عليه الصّلاة والسّلام مع أزواجه، لا يأخذ عليهنّ ويعذرهنّ، وإن أقام عليهنّ قسطاس عدل أقامه من غير قلق، ولا غضب. وبالجملة: فمن تأمّل سيرته عليه الصّلاة والسّلام مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء، والأيتام، والأرامل، والأضياف، والمساكين.. علم أنّه قد بلغ من رقّة القلب ولينه الغاية الّتي لا مرمى وراءها لمخلوق، وإنّه كان يشدّد في حدود الله وحقوقه ودينه؛ حتّى قطع يد السّارق ... إلى غير ذلك) . خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان» . (قال) العلّامة الشّهاب (القسطلّانيّ) في «المواهب» عقب الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها في كسر الصحفة السابق!! ولو ذكره المصنف هناك كان أولى؟! (وهكذا كانت أحواله عليه الصّلاة والسّلام مع أزواجه؛ لا يأخذ عليهنّ ويعذرهنّ) - بكسر الذال-: يرفع عنهن اللّوم. (وإن أقام عليهنّ قسطاس) : ميزان (عدل؛ أقامه من غير قلق ولا غضب) كما هو الواقع من غيره كثيرا. (وبالجملة؛ فمن تأمّل سيرته عليه الصّلاة والسّلام مع أهله وأصحابه وغيرهم؛ من الفقراء، والأيتام، والأرامل، والأضياف، والمساكين؛ علم أنّه قد بلغ من رقّة القلب ولينه الغاية الّتي لا مرمى وراءها لمخلوق) ، أي: لا يصل أحد بعده إليها (وإنّه كان يشدّد في حدود الله وحقوقه ودينه؛ حتّى قطع يد السّارق ... إلى غير ذلك) كحدّ الزاني. انتهى كلام «المواهب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 [الفصل الثّالث في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه] الفصل الثّالث في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمن النّاس، وأصدقهم لهجة منذ كان. قال تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21] . أكثر المفسّرين على أنّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم. (الفصل الثّالث) ؛ من الباب الخامس (في) ما ورد في (صفة أمانته صلّى الله عليه وسلم) في كلّ شيء يحفظه قولا كان؛ أو فعلا؛ أو غير ذلك مما يجعل عنده، وكونه موثوقا به في أموال الناس وأحوالهم. (و) في ما ورد في (صدقه) صلى الله عليه وسلم، وهو: مطابقة خبره للواقع. قال في «الشفاء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم آمن النّاس) - بهمزة ممدودة- أي: أكثرهم وأعظمهم أمانة وأمنا؛ من أن يقع منه خيانة، (وأصدقهم لهجة) أي: منطقا أي: أكثرهم صدقا (منذ كان) أي: من ابتداء ما وجد، لما جبل عليه من الأخلاق الحسنة، وقد اعترف له بذلك محادّوه وعداه. (قال) الله (تعالى) في حقه (مُطاعٍ) - أي: مكرّم- (ثَمَّ) - بفتح الثاء؛ أي: عند الملأ الأعلى والحضرة العليا- (أَمِينٍ) . موصوف بالأمانة في دعوى النبوة ووحي الرسالة. (أكثر المفسّرين على أنّه) أي: المراد ب «المطاع الأمين» (محمّد صلّى الله عليه وسلم) وكثير منهم على أنّه جبريل عليه الصلاة والسلام؛ كما يشهد به سياق النظم القرآني ولذا ارتضاه المحقّقون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وكانت تسمّيه قريش قبل نبوّته: (الأمين) . ولمّا اختلفوا عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر.. حكّموا أوّل داخل عليهم، فإذا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم داخل، وذلك قبل نبوّته، فقالوا: (هذا محمّد الأمين.. قد رضينا به) . (وكانت تسمّيه قريش قبل نبوّته) أي: ظهورها ودعوتها ( «الأمين» ) ، لأمانته وصدق قوله في جميع أحواله. قال ابن إسحاق: كان صلّى الله عليه وسلم يسمّى «الأمين» بما جمع الله له من الأخلاق الصالحة. قال الخفاجي: وهذا حديث صحيح، رواه أحمد في «مسنده» ، والحاكم، والطبرانيّ؛ عن علي كرم الله وجهه. (ولمّا اختلفوا) ؛ أي: قريش (عند بناء الكعبة) حين أجمرت فطارت شرارة؛ فاحترقت الكعبة فهدموها، وأرادوا تجديد بنائها فوقع خلافهم (فيمن يضع الحجر) الأسود في موضعه الأصليّ قبل هدمه، وكلّ يقول «أنا وأتباعي نضعه» ؛ افتخارا بوضعه، لأنه الركن الأعظم في ذلك المقام الأفخم، وكاد أن يقع بينهم القتال، لكثرة منازعة الرجال. (حكّموا) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الكاف- فعل ماض، وهو جواب «لمّا» أي: ارتضوا بأن يكون الحاكم في ذلك (أوّل داخل عليهم) لدفع النزاع عنهم. (فإذا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم داخل) «إذا» فجائية، أي: فاجأهم دخوله عليهم بغتة من غير طلب ولا ميعاد منهم، (وذلك قبل) دعوى (نبوّته) وظهور رسالته صلّى الله عليه وسلم؛ وهو ابن خمس وثلاثين سنة، (فقالوا) مقرّين له بوصف أمانته (: هذا محمّد الأمين.. قد رضينا به) حكما في هذه القضية، فلما انتهى إليهم ذكروا له ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وقال صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنّي لأمين في السّماء، أمين في الأرض» . وورد أنّ أبا جهل قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّا لا نكذّبك، وما أنت فينا بمكذّب، ولكن نكذّب بما جئت به. فأنزل الله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . ففرش صلّى الله عليه وسلم رداءه المبارك، ووضع الحجر عليه، وأمر كلّ رئيس أن يأخذ بطرف منه، وهو آخذ من تحته، فلما فعلوا ذلك وحملوه إلى قرب موضعه أخذه صلّى الله عليه وسلم بيده الشريفة فوضعه في ركن البيت، ثم بنى عليه، فكان شرف الوضع له. (وقال صلّى الله عليه وسلم) فيما رواه ابن أبي شيبة في «مصنّفه» عن أبي رافع (: «والله؛ إنّي لأمين في السّماء) ؛ أي: عند الله وملائكته المقرّبين (أمين في الأرض» ) عند المؤمنين وغيرهم من المجرمين، لكمال أمانته وظهور ديانته، وعدم خلفه في وعده، وتحقّق صدقه؛ يعني أنّه مشهور بذلك بين الملأ الأعلى وبين أهل الأرض. وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه، مؤكّدا بالقسم؛ إذا دعت الحاجة إلى إظهار ذلك. (وورد) فيما رواه الترمذيّ، والحاكم عن عليّ رضي الله تعالى عنه (أنّ أبا جهل) لعنه الله (قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم: إنّا لا نكذّبك) - بالتشديد، و [لا نكذبك] بالتخفيف- أي: لا ننسبك إلى الكذب، (وما أنت فينا بمكذّب) لثبوت صدقك، (ولكن نكذّب) بالتشديد لا غير (بما جئت به) ؛ من القرآن والإيمان بالتوحيد والبعث ونحو ذلك، فدلّت هذه المناقضة الظاهرة على أن كفر أكثرهم كان عنادا. ( [فأنزل الله) فيما قاله، وهو سبب نزول هذه الآية (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [33/ الأنعام] ) بالتشديد، وقرأ نافع والكسائي [لا يُكَذِّبُونَكَ] بالتخفيف (الآية] ) أي: اقرأ الآية، وتمامها وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) [الأنعام] أي: ينكرونه، فتكذيبهم في الحقيقة راجع إلى ربهم، ففيه وعيد أكيد وتهديد شديد لهم، وتسلية له صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وقيل: إنّ الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم؛ ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمّد: صادق، أم كاذب؟ ... وروى أبو ميسرة أنّه صلّى الله عليه وسلم مرّ بأبي جهل وأصحابه؛ فقالوا: والله يا محمد؛ ما نكذبك، وإنّك عندنا لصادق، ولكنّا نكذّب بما جئت به ... فنزلت هذه الآية انتهى خفاجي على «الشفاء» . وفي «المواهب» : روي أنّ أبا جهل لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكّة فصافحه. فقيل له: تصافحه!؟ فقال: والله؛ إنّي لأعلم أنّه نبي، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف!! فأنزل الله الآية فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ رواه ابن أبي حاتم. وقيل: أي روي؛ كما أخرجه ابن إسحاق، والبيهقيّ؛ عن الزّهريّ، وكذا ابن جرير؛ عن السّدّي، والطبرانيّ في «الأوسط» : (إنّ الأخنس) - بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح النون وآخره سين مهملة؛ بزنة «أفعل» التفضيل: صحابيّ كما صرح به الخفاجيّ؛ في «شرح الشّفاء» ، وقال الزرقاني على «المواهب» : إنّه أسلم بعد ذلك. وقال الخفاجيّ: اسمه أبيّ (بن شريق) - بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وقاف آخره؛ على وزن «فعيل» ابن ثعلبة الثقفي، قتل يوم بدر كافرا- يعني شريقا-؛ قاله الخفاجي. (لقي أبا جهل يوم بدر) ، وكان يوم جمعة السنة الثانية من الهجرة في سابع عشر رمضان؛ (فقال له: يا أبا الحكم) - بفتحتين- كنيته في الجاهلية، فغيّرها النبي صلّى الله عليه وسلم وكنّاه «أبا جهل» ؛ قاله العلّامة ملا علي قاري. (ليس هنا غيري وغيرك) أي: أحد (يسمع كلامنا) أي: فيما بيننا، (تخبرني) خبر معناه أمر، أي: أخبرني (عن محمّد) أي: عن وصفه؛ (: صادق أم كاذب؟) - يعني: أصادقا؛ فحذفت الهمزة تخفيفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 فقال أبو جهل: والله إنّ محمّدا لصادق، وما كذب محمّد قطّ. وسأل هرقل عنه صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان فقال: هل كنتم تتّهمونه ... (فقال أبو جهل: والله؛ إنّ محمّدا لصادق) أي: لموصوف بالصدق. (وما كذب محمّد قطّ) اعتراف بالحقّ. وهذا يدلّ على أنّهم لا يعتقدون كذبه. وروي أنّ أبا جهل قال؛ بعد قوله «وما كذب محمّد» : ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة؛ فماذا يكون لسائر قريش!!؟ وهذا يدلّ على أنّه ما منعه عن توحيد الله إلّا طلب الجاه!!. (وسأل هرقل) - بكسر الهاء وفتح الراء وإسكان القاف؛ على المشهور- لا ينصرف للعلمية والعجمة، وهذا اسمه العلم، وأمّا قيصر!! فهو لقب كلّ من ملك الروم «1» ؛ وقد هلك على كفره. وحكى الجوهري وغيره في ضبطه [هرقل] سكون الراء بين كسرتين، وضبط [هرقل] بضمّتين بينهما ساكن. (عنه) أي: عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم أبا سفيان) : صخر بن حرب بن أميّة القرشي الأموي. أسلم يوم الفتح؛ فكان من المؤلّفة قلوبهم، ثم حسن إسلامه، وكان رئيس قريش، وأكثرهم مالا، وتوفي سنة: أربع وثلاثين؛ وعمره ثمان وثمانون سنة في المدينة المنورة، وقصّة أبي سفيان مع هرقل مشهورة مرويّة في «الصحيحين» مفصّلة في أوّل باب في «البخاري» ؛ وفيها: (فقال) أي: هرقل مخاطبا لأبي سفيان ومن معه (: هل كنتم تتّهمونه)   (1) فيه نظر!! والمعروف أنه لقب ملك الروم أيضا كما «قيصر» ، ولكن «هرقل» خاصّ بملك الشام من قبلهم؛ أي فهو عامل الروم على الشام. فاعلمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وقال النّضر بن الحارث لقريش: قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا؛ ... - بتشديد التاء المثنّاة الثانية- (بالكذب) أي: هل كنتم تنسبونه إلى الكذب؛ ولو بالتهمة؛ بناء على المظنّة (قبل أن يقول ما قال) من دعوى النبوّة والرّسالة!؟ وإنّما سألهم عن توهّم الكذب؛ ولم يقل «هل علمتم وتحققتم» !! لأنّه يعلم من انتفاء التوهّم انتفاء غيره بالطريق الأولى. وهذا السؤال يدلّ على كمال عقل هرقل؛ ومعرفته بصفة الأنبياء، لكنه لم ينفعه علمه حيث لم يقترن بعمله، إذ هلك كافرا على نصرانيّته بالقسطنطينية سنة: عشرين بعد فتح عمر رضي الله عنه بلاده. (قال) أي أبو سفيان (: لا) أي: لا نتّهمه بالكذب قبل ذلك. فقال هرقل: قد عرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله!!. (وقال النّضر) - بنون مفتوحة فضاد معجمة ساكنة وراء مهملة آخره- (ابن الحارث) بن علقمة بن كلدة- بفتح الكاف- ابن عبد مناف القرشي. وكان شديد العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلم، أخذ أسيرا ببدر؛ فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه فقتله كافرا صبرا بالصّفراء عقب الواقعة. وأمّا النّضير- بالتصغير-! فهو أخوه، وكان من المؤلّفة، وأعطي يوم حنين مائة من الإبل!! فاحذر أن يتصحّف عليك؛ كما توهّم الحلبي!! قاله ملا علي قاري رحمه الله تعالى. (لقريش) في حديث رواه ابن إسحاق، والبيهقيّ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (: قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا) - بفتحتين-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتّى إذا رأيتم في صدغيه الشّيب وجاءكم بما جاءكم به.. قلتم ساحر؟! لا والله ما هو بساحر. قال الجوهري: حدث: شابّ، فإن ذكرت السنّ؛ قلت: حديث السنّ من الحدوث، لقرب عهده بالوجود (أرضاكم فيكم) أي: ترضون أفعاله وأحواله، (وأصدقكم حديثا) أي: قولا ووعدا. (وأعظمكم أمانة.) هذه شهادة العدوّ؛ فما بالك بغيره!!؟ ... والفضل ما شهدت به الأعداء. (حتّى إذا رأيتم في صدغيه) - بضم فسكون-: ما بين لحظ العين والأذن (الشّيب) أي: بياض الشعر، لأن الشعر الذي فيه من أعلى العذار وجانب الرأس كثيرا ما يبدو فيه الشيب قبل غيره، فكنّى بذلك عن تمام رجولته وكمال عقله صلّى الله عليه وسلم بمجاوزته سنّ الشباب، وهذا أشدّ في الإنكار عليهم. (وجاءكم بما جاءكم به) أي: بما أظهر لكم من الحقّ وكلام الصّدق؛ (قلتم) في حقّه: إنه (ساحر) في غيبته وحضوره؟! (لا والله؛ ما هو بساحر!!) وهذا منه غاية الإنصاف، ولكن غلب عليه الشقاء؛ فقتل صبرا بالصفراء كافرا منصرفه صلّى الله عليه وسلم من بدر، كما ذكره الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قاله الخفاجيّ على «الشفاء» . قال: والّذي قال «إنّه ساحر» الوليد بن المغيرة، وسبب قول النّضر المذكور أنّ أبا جهل لمّا أراد أن يرضخ رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحجر فتمثّل له جبريل عليه الصّلاة والسلام؛ في صورة فحل، ففرّ هاربا ويبست يده على الحجر. فلما سمع ذلك النّضر؛ قال: يا معشر قريش.. والله؛ قد نزل بكم أمر؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وفي حديث عليّ رضي الله عنه- في وصفه عليه الصّلاة والسّلام-: أصدق النّاس لهجة. ما أتيتم فيه بحيلة بعد!! قد كان فيكم محمّد ... إلى قوله.. ما هو بساحر؛ وقد رأينا السّحرة نفثهم وعقدهم!! وقلتم: إنّه كاهن، والله ما هو بكاهن؛ وقد رأينا الكهنة؛ وسمعنا سجعهم!! وقلتم شاعر؛ والله ما هو بشاعر!! وقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه: هزجه ورجزه!! وقلتم: مجنون!! لا والله ما هو بمجنون، فما هو بخنقه؛ ولا تخليط؛ ولا وسوسة فانظروا في شأنكم، فإنّه والله قد نزل بكم أمر عظيم!؟ (وفي حديث عليّ) بن أبي طالب كرّم الله وجهه و (رضي الله عنه؛ في وصفه عليه الصّلاة والسّلام: أصدق النّاس لهجة) أي: لسانا وبيانا. رواه الترمذيّ في «شمائله» . وقد تقدّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 [الفصل الرّابع في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلم ومزاحه] الفصل الرّابع في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلم ومزاحه (الفصل الرّابع) من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة حيائه صلّى الله عليه وسلم) والحياء- هنا- بالمدّ، وأمّا بالقصر!! فهو بمعنى المطر، وكلاهما مأخوذ من الحياة، لأنّ أحدهما فيه حياة الأرض، والآخر فيه حياة القلب. والممدود معناه- في اللغة-: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، أو يعاتب عليه. ومعناه- في الشرع-: خلق يبعث؛ أي: يحمل من قام به على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ؛ وهو الله تعالى في حقّ عباده، والصديق في حقّ صديقه، والسيّد في حقّ عبده ... إلى غير ذلك. ولذا جاء في الحديث: «الحياء من الإيمان» ، و: «الحياء خير كلّه» ، و: «الحياء لا يأتي إلّا بخير» . وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوّة خلق الحياء، وقلّة الحياء من موت القلب والروح، وكلّما كان القلب حيّا؛ كان الحياء أتمّ، ولذا كان تمام الحياء في المصطفى صلّى الله عليه وسلم، إذ لا قلب أحيا من قلبه؛ قاله الزرقاني على «المواهب» للعلّامة القسطلّاني. وقال في «المواهب» أيضا: وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها؛ منها: حياء الكرم؛ كحيائه صلّى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب؛ وطوّلوا عنده المقام، واستحيا أن يقول لهم «انصرفوا» . ومنها حياء المحبّ من محبوبه؛ حتّى إذا خطر على قلبه في حال غيبته هاج الحياء من قلبه وأحسّ به في وجهه، فلا يدري ما سببه!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ......... ومنها حياء العبوديّة؛ وهو حياء يمتزج بين محبّة وخوف ومشاهدة عدم صلاحيّة عبوديّته لمعبوده؛ وأنّ قدره أعلى وأجلّ منها، فعبوديّته له توجب استحياء منه لا محالة. ومنها حياء المرء نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقنعها بالدّون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه حتّى كأنّ له نفسين يستحي بإحداهما من الآخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء. فإنّ العبد إذا استحيا من نفسه؛ فهو بأن يستحي من غيره أجدر. انتهى. (ومزاحه) - بكسر أوله- مصدر «مازحه» ؛ فهو بمعنى الممازحة، يقال: مازحه ممازحة ومزاحا؛ كقاتله مقاتلة وقتالا. والمزاح- بالضمّ- مصدر سماعيّ، والقياس الكسر؛ لقول ابن مالك: لفاعل الفعال والمفاعله ............... ............. وهو الانبساط مع الغير؛ من غير إيذاء له، وبه فارق الاستهزاء والسّخرية. وإنّما كان صلّى الله عليه وسلم يمزح!! لأنّه كان له المهابة العظمى، فلو لم يمازح الناس لما أطاقوا الاجتماع به والتلقّي عنه. ولذا سئل بعض السلف عن مزاحه؛ فقال: كانت له مهابة، فلذا كان ينبسط مع الناس بالمداعبة والطلاقة والبشاشة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يمزح؛ ويقول: «إنّ الله لا يؤاخذ المزّاح الصّادق في مزاحه» . لكن لا ينبغي المداومة عليه، لأنّه يتولّد عنه الضّحك، ويتولّد عن الضّحك قسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى؛ وعن الفكر في مهمات الدّين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، لأنه يوجب الحقد ويسقط المهابة، فالإفراط فيه منهيّ عنه، والمباح: ما سلم من هذه الأمور، بل إن كان لتطييب نفس المخاطب ومؤانسته؛ كما كان صلّى الله عليه وسلم يفعله على ندور؛ فهو سنة. وما أحسن قول الإمام الشافعي رحمه الله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء في خدرها. أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة ... بجدّ وعلّله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطّعام من الملح!! انتهى؛ من الباجوري على «الشمائل» . (عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه) - فيما أخرجه البخاريّ في «الصفة النبوية» و «الأدب» ، ومسلم في «الفضائل» ، وابن ماجه في «الزهد» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ (قال) أي أبو سعيد (: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشدّ حياء) - نصب على التمييز- (من العذراء) - بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة والمد- هي البكر ذات العذرة. سمّيت بذلك!! لأنّ عذرتها؛ وهي جلدة البكارة باقية. وجمع العذراء: عذارى- بفتح الراء، و [عذاري] بكسرها-. والعذراء والبكر مترادفان لغة، وأمّا شرعا: فالعذراء أخصّ من البكر، لأنّها من لم تزل عذرتها بشيء، والبكر من لم تزل بكارتها بوطء؛ ولو أزيلت بسقطة وحدّة حيض ونحوهما. أي: كان حياؤه أبلغ من حياء البنت البكر حال كونها كائنة. (في خدرها) ، أو الكائنة في خدرها، فهو حال على الأوّل؛ صفة على الثاني. والخدر- بكسر الخاء المعجمة؛ وسكون الدال المهملة-: ستر يجعل لها إذا شبّت وترعرعت لتنفرد فيه، فمعنى قوله «في خدرها» ؛ أي: في سترها، وهو تتميم للفائدة، فإنّ العذراء إذا كانت متربّية في سترها تكون أشدّ حياء؛ لتستّرها حتّى عن كثير من النساء، بخلافها إذا كانت في غير بيتها، لاختلاطها مع غيرها، أو كانت داخلة خارجة، فإنّها حينئذ تكون قليلة الحياء؛ قاله في «جمع الوسائل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وكان إذا كره شيئا.. عرف في وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أشدّ النّاس حياء، لا يثبّت بصره في وجه أحد. ومحلّ وجود الحياء منه: في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزّنا: «أنكتها» ؟ لا يكنّي؛ كما في «الصحيح» في «كتاب الحدود» . ولشدّة حيائه صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قطّ. أخرجه البزّار بسند حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قاله الباجوريّ، والزرقاني. زاد البخاري من وجه آخر، و «الشمائل» : (وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه) لأنّ وجهه كالشمس والقمر، فإذا كره شيئا كسا وجهه ظلّ؛ كالغيم على النّيّرين، فكان لغاية حيائه لا يصرّح بكراهته، بل إنّما يعرف في وجهه، وكذا العذراء في خدرها لا تصرّح بكراهة الشيء، بل يعرف ذلك في وجهها غالبا، وبهذا ظهر وجه ارتباط هذه الجملة بالّتي قبلها. انتهى «مناوي، وملا علي قاري» رحمهما الله تعالى. (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم أشدّ النّاس حياء) . قال في «المواهب» : قال القرطبي؛ أي: في «شرح مسلم» : الحياء المكتسب: هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلّف به؛ دون الغريزي، غير أنّ من كان فيه غريزة منه؛ فإنّها تعينه على المكتسب حتّى يكاد يكون غريزة؛ قال: وكان صلّى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان؛ فكان في الغريزي أشدّ حياء من العذراء في خدرها. وقال القاضي عياض في «الشّفاء» : وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه كان من حيائه (لا يثبّت) - بضمّ أوّله رباعيّ؛ لا بفتحها ثلاثي، لإيهامه العجز- (بصره) أي: لا يديم نظره (في وجه أحد) ، ولا يتأمّله لاستيلاء الحياء عليه. فإثبات البصر بمعنى: إطالة النظر من غير تخلّل إغماض الجفن ونحوه؛ حتّى كأنّ بصره صار قارّا في المرئيّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكنّي عمّا اضطرّه الكلام إليه ممّا يكره. قال السّيوطي: وهذا الحديث ذكره صاحب «الإحياء» ؛ ولم يجده العراقيّ. انتهى كلام «المواهب» ؛ مع شيء من «الزرقاني» . (و) في «الإحياء» و «الشفاء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يكنّي) - بضمّ الياء وتشديد النون، أو [يكني] بفتح وتخفيف-؛ أي: يلوّح ولا يصرّح، ويعرّض (عمّا اضطرّه الكلام إليه) أي: عن شيء لا بدّ منه، ولا يسعه السكوت عنه (ممّا يكره) - بصيغة المفعول- أي: مما لا يستحسن التصريح به. يعني أنّه يورد المعنى القبيح عادة بطريق الكناية، لشدّة حيائه صلّى الله عليه وسلم، كقوله: «حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» رواه البخاري؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، لأنّ الجماع وذكره للمرأة يستحيا منه، وكقوله «خذي فرصة ممسّكة فتطهّري بها» رواه الشيخان؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وكقوله: «فإنّه لا يدري أين باتت يده» حيث لم يقل «فلعل يده وقعت على دبره، أو ذكره، أو نجاسة في بدنه ... » ونظائر ذلك كثيرة في الأحاديث الصحيحة. يفعل ذلك تخلّقا بأخلاق ربّه، واقتداء بادابه، إذ قال تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ [43/ النساء] ، وقال تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [223/ البقرة] . وهذا فيما إذا علم أنّ السامع يفهم المقصود بالكناية، وإلّا! لكان يصرّح لينتفي اللّبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرّحا به. والله أعلم. (و) أخرج ابن ماجه؛ عن بلال بن الحارث المزني، والإمام أحمد بن حنبل، والنّسائي، وابن ماجه- بسند حسن؛ كما في العزيزيّ-: كلّهم عن عبد الرحمن بن أبي فرّاد- بضمّ الفاء وشدّ الراء، بضبط المؤلف؛ يعني: السيوطي- السّلمي؛ كذا قاله العزيزي على «الجامع الصغير» ، وتعقّبه المناوي بأنّه ليس بصحيح! قال: ففي «التقريب» كأصله: بضمّ القاف وتخفيف الراء- يعني: أبا قراد السّليمي الأنصاريّ- ويقال له: الفاكه. قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. أبعد. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. لم يرفع ثوبه حتّى يدنو من الأرض. (كان صلّى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة) بالصحراء (أبعد) بحيث لا يسمع لخارجه صوت؛ ولا يشمّ له ريح؛ ذكره الفقهاء. وقال في «الروض» : لم يبيّن مقدار البعد، وهو مبيّن في حديث ابن السّكن في «سننه» ، أي: وفي «تهذيب الآثار» للطبري، و «الأوسط» و «الكبير» للطبراني؛ أي: بسند جيد؛ كما قاله الوليّ العراقيّ في «شرح أبي داود» بأنّه على ثلثي فرسخ من مكّة، أو نحو ميلين، أو ثلاثة. وفي معنى الإبعاد: اتخاذ الكنف في البيوت، وضرب الحجب، وإرخاء الستور، وإعماق الحفائر ... ونحو ذلك ممّا يستر العورة، ويمنع الرّيح. قال الولي العراقي: ويلحق بقضاء الحاجة كلّ ما يستحى منه؛ كالجماع، فيندب إخفاؤه، بتباعد أو تستّرّ. وكذا إزالة القاذورات؛ كنتف إبط، وحلق عانة؛ كما نقله والدي؛ يعني: الزين العراقي؛ عن بعضهم. انتهى كلام الوليّ العراقيّ؛ نقله المناوي على «الجامع الصغير» . (و) أخرج أبو داود، والتّرمذيّ؛ عن أنس بن مالك، وعن ابن عمر بن الخطاب، والطبرانيّ في «الأوسط» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم. قال في العزيزي: قال الشيخ: حديث صحيح. قال المناوي: وليس بمسلّم!! فقد قال العراقيّ: والحديث ضعيف من جميع طرقه، وقد أورد النّوويّ في «الخلاصة» الحديث في «فصل الضعيف» ، فدلّ على أنّه ضعيف عنده من جميع طرقه!. انتهى. (كان صلّى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة) أي: القعود للبول؛ أو الغائط (لم يرفع ثوبه) أي: لم يتمّ رفعه عن عورته، ولفظ رواية أبي داود: حال قيامه، بل يصبر (حتّى يدنو) ؛ أي: يقرب (من الأرض) ، فإذا دنا منها رفعه شيئا فشيئا؛ محافظة على الستر، وهذا الأدب مستحبّ؛ اتفاقا، ومحلّه ما لم يخف تنجّس ثوبه، وإلّا! رفع قدر حاجته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المرفق.. لبس حذاءه وغطّى رأسه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطّ. (و) أخرج البيهقيّ، وابن سعد في «الطبقات» ؛ من حديث أبي بكر بن عبد الله؛ عن أبي موسى حبيب بن صالح- ويقال: ابن أبي موسى- الطائي مرسلا. (كان إذا دخل المرفق) - بكسر الميم وفتح الفاء-: الكنيف (لبس حذاءه) - بكسر الحاء وبالذال المعجمة، وبالمدّ-: نعله صونا لرجله عما قد يصيبها (وغطّى رأسه) حياء من ربّه، لأن هذا المحلّ معدّ لكشف العورة، ولأن تغطية الرّأس حال قضاء الحاجة أجمع لمسامّ البدن، وأسرع لخروج الفضلات، ولاحتمال أن يصل إلى شعره ريح الخلاء ويعلق به، قال أهل الطريق: ويجب كون الإنسان فيما لا بدّ منه من حاجته حييّ خجل مستور. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» - بإسناد فيه مجهول-؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - وفي رواية: ما رأيته منه ولا رآه مني- (قطّ) ؛ أي: أبدا. والمراد أنّه كان من شدّة حيائه لا يمكّنها النظر إلى فرجه، مع احتياطه بفعل ما يوجب امتناعها من رؤيته، إذ المرأة لا تتجرّأ على رؤية عورة زوجها إلّا من استهتاره وعلمها رضاه، مع أنّه يجوز رؤية كلّ واحد من الزوجين فرج الآخر؛ وإن كان مكروها!! وفي حديث رواه ابن حبّان: «النّظر إلى الفرج يورث الطّمس» ؛ أي: العمى. فقيل: عمى الناظر. وقيل: عمى أولاده. وقيل: المراد عمى القلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 ......... فكان صلّى الله عليه وسلم لشدّة حيائه لا يكشف عورته عند أحد قطّ، كما ورد: «من كرامتي على الله أنّه لم يطلع لي على عورة أحد قطّ» ، فإنّ عائشة رضي الله تعالى عنها زوجته؛ وأقرب الناس وأحبّهم إليه، وكان يضاجعها وينام عندها، فإذا لم تر ذلك منه صلّى الله عليه وسلم لزم عدم كشفه عندها، فإذا لم يكشف عندها؛ فبالطريق الأولى عند غيرها. وقد أخرج البزّار؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قطّ. وإسناده حسن. وروى ابن الجوزيّ؛ عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان إذا أتى امرأة من نسائه غمّض عينيه وقنّع رأسه، وقال للّتي تحته: «عليك بالسّكينة والوقار» . وروى أبو صالح؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحدا من نسائه إلّا مقنّعا، يرخي الثوب على رأسه!! وما رأيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا رآه مني!! أورده ابن الجوزي في كتاب «الوفا» ؛ نقلا عن الخطيب. خاتمة: أخرج ابن جرير، وأبو نعيم، وغيرهما؛ عن العبّاس قال: لما بنت قريش البيت افترقت رجلين ... رجلين ... لنقل الحجارة، فكنت أنا وابن أخي نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا النّاس اتّزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمّد صلّى الله عليه وسلم قدّامي خرّ، فانبطح على وجهه! فجئت؛ فألفيته ينظر إلى السماء!! فقلت: ما شأنك!! فأخذ إزاره، وقال: «نهيت أن أمشي عريانا!!» فقال: اكتمها مخافة أن يقولوا مجنون. وأخرج أبو نعيم؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم؛ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام، فأخذ إزاره واتقى به. فقيل لأبي طالب الحق ابنك؛ فقد غشي عليه، فلما أفاق من غشيته سأله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وأمّا مزاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يمزح مع النّساء والصّبيان وغيرهم، أبو طالب؛ فقال: «أتاني آت عليه ثياب بيض» ؛ فقال لي استتر. قال ابن عبّاس: فكان أوّل شيء رآه من النبوة أن قيل له «استتر» . فما رؤيت عورته من يومئذ. انتهى؛ من «شرح الخفاجي على الشفا» وشروح «الشمائل» : المناوي؛ وعلي قاري؛ والباجوري رحمهم الله تعالى. آمين. (وأمّا مزاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فقد) ورد بيانه في الأحاديث الآتية، ففي «كشف الغمّة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلّى الله عليه وسلم يمزح) أحيانا (مع النّساء) ؛ تلطّفا بهنّ، (والصّبيان) ؛ تأنيسا لهم، (و) مع (غيرهم) من أصحابه بالقول والفعل؛ جبرا لقلوبهم وتأنيسا لهم، لأن الناس مأمورون بالتأسّي به والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة ولزم العبوس؛ لأخذ الناس أنفسهم بذلك! على ما في مخالفة الغريزة من المشقّة والعنا!! فمزح ليمزحوا؛ قاله ابن قتيبة. وقال الخطّابي: سئل بعض السلف عن مزاحه صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: كانت له مهابة، فلذا كان ينبسط للناس بالدّعابة، وهو مع ذلك سرّه في الملكوت يجول حيث أراد الله تعالى به. ولا يخالف هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: «لست من دد ولا الدّد منّي» أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» ، والبيهقيّ عن أنس رضي الله عنه، والطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن معاوية رضي الله عنه. ودد- بفتح الدال الأولى؛ وكسر الثانية- أي: لست من أهل اللهو واللّعب، ولا هما منّي. ومعنى تنكير الدّد في الأول: الشياع والاستغراق، وألايبقى شيء منه إلّا وهو منزّه عنه؛ أي: ما أنا في شيء من اللهو واللعب، وتعريفه في الجملة الثانية!! لأنّه صار معهودا بالذكر، كأنّه قال: ولا ذلك النوع، وإنما لم يقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 ولا يقول إلّا حقّا. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أفكه النّاس مع صبيّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مزح.. غضّ بصره. وكان صلّى الله عليه وسلّم فيه دعابة قليلة. «ولا هو مني» !! لأن الصريح آكد وأبلغ. وقد رواه الطبرانيّ أيضا والبزار، وابن عساكر؛ عن أنس بزيادة: «ولست من الباطل، ولا الباطل منّي» . انتهى. لأنّ المنفيّ ما كان بباطل ومجرّد لهو ولعب؛ وهو صلّى الله عليه وسلم في مزاحه صادق؛ كما قال: (ولا يقول إلّا حقّا) ، فلا ينافي الكمال حينئذ، بل هو من توابعه وتتمّاته لجريه على القانون الشرعي. فمن زعم تناقض الحديثين من الفرق الزايغة! فقد ضل؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . وحديث «المتن» رواه الإمام أحمد؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، مع تغيير يسير في اللفظ، وهو عند الترمذي بلفظ: قالوا: إنّك تداعبنا! قال: «إنّي لا أقول إلّا حقّا» . وسيأتي في المتن إن شاء الله تعالى. (و) أخرج الطبرانيّ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه: (كان صلّى الله عليه وسلم من أفكه النّاس) أي: من أمزحهم (مع صبيّ) - وقد تقدّم-. (وكان صلّى الله عليه وسلم إذا مزح غضّ بصره) . لم أقف عليه!. (و) أخرج الخطيب وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم فيه دعابة) - بضمّ الدال وتخفيف العين المهملتين، وبعد الألف موحّدة (قليلة) أي: مزاح يسير للتشريع. قال في «المواهب» : الدّعابة هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «يا ذا الأذنين» ؛ يعني: يمازحه. كالمداعبة الفعلية؛ كمجّه محمود بن الربيع، واحتضانه زاهرا. انتهى مع «شرح الزرقاني» . قال المناوي في «كبيره» : قال ابن عربي: وسبب مزاحه أنّه كان شديد الغيرة، فإنّه وصف نفسه بأنّه أغير من سعد؛ بعد ما وصف سعدا بأنه غيور، فأتى بصيغة المبالغة، والغيرة من نعت المحبّة؛ وهم لا يظهرونها، فستر محبّته وماله من الوجد فيه بالمزاح وملاعبته للصغير، وإظهار حبّه فيمن أحبّه؛ من أزواجه وأبنائه وأصحابه!! وقال: «إنّما أنا بشر» ، فلم يجعل نفسه أنّه من المحبّين، فجهلوا طبيعته وتخيّلت أنّه معها لمّا رأته أنّه يمشي في حقّها ويؤثرها، ولم تعلم أنّ ذلك عن أمر محبوبه إيّاه بذلك!. وقيل: إنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم يحبّ عائشة والحسنين. وترك الخطبة يوم العيد ونزل إليهما لما رآهما يعثران في أذيالهما. وهذا كلّه من باب الغيرة على المحبوب أن تنتهك حرمته، وهكذا ينبغي أن يكون تعظيما للجناب الأقدس أن يعشق. انتهى. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» قال: حدّثنا محمود بن غيلان؛ قال: حدّثنا أبو أسامة؛ عن شريك؛ عن عاصم الأحول. (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال له) أي لأنس (: «يا ذا الأذنين» ) - بضمّ الذال المعجمة، وتسكن- أي: يا صاحب الأذنين السميعتين الواعيتين الضابطتين لما سمعتاه، وصفه به مدحا له؛ لذكائه وفطنته وحسن استماعه، لأنّ من خلق الله له أذنين سميعتين كان أوعى لحفظه ووعيه جميع ما يسمعه، ولما كان ذلك لا يوجب كون الكلام ممازحة؛ قال محمود: (يعني) أي: يريد صلّى الله عليه وسلم بقوله: «يا ذا الأذنين» (يمازحه) أي: مزاحه من قبيل ذكر الفعل وإرادة المصدر، من قبيل «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، ومنه قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [24/ الروم] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وعن أنس أيضا قال: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخالطنا حتّى يقول لأخ لي: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير؟» . وإنّما كان ذلك مزاحا مع كونه معناه صحيحا يقصد بالإفادة!! لأن في التعبير عنه ب «ذا الأذنين» مباسطة وملاطفة؛ حيث سمّاه بغير اسمه، فهو من جملة مزحه ولطيف أخلاقه صلّى الله عليه وسلم، كما قال للمرأة عن زوجها: «ذاك الّذي في عينيه بياض» !!. (و) أخرج البخاريّ في «الأدب» ، ومسلم، والترمذي في «الجامع» في «الصلاة» ، وفي «الشمائل» أيضا، وهذا لفظها: (عن أنس أيضا؛ قال: «إن) - مخفّفة من الثقيلة، بدليل دخول اللام في خبرها، واسمها ضمير الشّأن محذوف، أي: أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليخالطنا) بالملاطفة وطلاقة الوجه والمزاح؛ قاله القسطلّانيّ في «المواهب» . وقال شرّاح «الشمائل» : ليخالطنا: يمازحنا، ففي «القاموس» : خالطه مازحه، والمراد أنس وأهل بيته (حتّى) للغاية، أي: انتهت مخالطته لنا إلى الصغير من أهلنا ومداعبته والسؤال عن طيره (يقول لأخ لي) من أمّي «أمّ سليم» ؛ يقال له «أبو عمير» بن أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري. وكان اسمه عبد الله؛ فيما جزم به أبو أحمد الحاكم، أو حفص؛ كما عند ابن الجوزي، وهو الذي حقّقه الحافظ ابن حجر في «الفتح» . وقال: هو وارد على من صنّف في «الصحابة» وفي «المبهمات» !! انتهى. وقيل: اسمه «كبشة» ؛ كما في «جامع الأصول» !! ومات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم. والمعروف أنّ عبد الله هو أخوه الذي حملت به أمه عند وفاته؛ وهو صاحب الليلة المباركة!! ففي مسلم؛ عن أنس: أنّ ابنا لأبي طلحة مات ... فذكر قصّة موته، وأنهّا قالت لأبي طلحة: هو أسكن ممّا كان. وبات معها، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فقال: «بارك الله لكما في ليلتكما» . فأتت بعبد الله بن أبي طلحة؛ فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله الفقيه، وإخوة إسحاق كانوا عشرة، كلّهم حمل عنه العلم. (: «يا أبا عمير) - بضم العين وفتح الميم؛ مصغّرا- (ما فعل النّغير؟!» ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 قال أبو عيسى التّرمذيّ: وفقه هذا الحديث: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يمازح. وفيه: أنّه كنّى غلاما صغيرا فقال له: «يا أبا عمير» . وفيه: أنّه لا بأس أن يعطى الصّبيّ الطّير ليلعب به- أي: لعبا لا عذاب فيه ... - بضمّ النون وفتح الغين المعجمة؛ تصغير النّغر، كالرّطب-: وهو طائر صغير كالعصفور أحمر المنقار؛ أي ما شأنه وحاله!! فباسطه بذلك ليسلّيه حزنه عليه؛ كما هو شأن الصغير إذا فقد لعبته، فيفرح بمكالمة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، ويرتاح لها ويفتخر؛ ويقول لأهله: كلّمني وسألني!! فيشتغل باغتباطه بذلك عن حزنه فيسلى ما كان. (قال) الإمام الحافظ (أبو عيسى) محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) في «الشمائل» (: وفقه هذا الحديث) أي: المسائل الفقهية المستنبطة من هذا الحديث: (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يمازح) ؛ أي: لمصلحة تطييب نفس المخاطب، ومؤانسته وملاطفته ومداعبته، وذلك من كمال خلقه ومكارم أخلاقه، وتواضعه ولين جانبه؛ حتّى مع الصبيان، وسعة صدره، وحسن معاشرته للناس. (وفيه) أي: وفي هذا الحديث من الفوائد: (أنّه كنّى غلاما صغيرا؛ فقال له: «يا أبا عمير» ) وهو لا بأس به، لأنّ الكنية قد تكون للتفاؤل بأنّه يعيش ويصير أبا، لكونه يولد له. فاندفع ما يقال «إنّ في ذلك جعل الصغير أبا لشخص؛ وهو ظاهر الكذب» !!. (وفيه) ؛ أي: وفي الحديث أيضا من الفوائد: (أنّه لا بأس) ؛ أي: لا حرج (أن يعطى الصّبيّ الطّير ليلعب به؛ أي: لعبا لا عذاب فيه) . هذا إشارة إلى جواب ما استشكل بأن إعطاء الصغير الطير ليلعب به تعذيب له، وقد صحّ النهي عنه؟!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 - وإلّا.. حرم تمكينه منه؛ للنّهي عن تعذيب الحيوان. وإنّما قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير» .. لأنّه كان له نغير يلعب به، فمات، فحزن الغلام عليه، فمازحه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير» . وحاصل الجواب: أن التعذيب غير محقّق، بل ربّما يراعيه فيبالغ في إكرامه وإطعامه لإلفه، وهذا إن قامت قرينة على أنّ الصبي لا يعذّبه، بل يلعب به لعبا لا عذاب فيه، ويقوم بمؤنته على الوجه اللائق، فيجوز تمكينه منه حينئذ. (وإلّا) بأن كان غير مميّز، أو قاسي القلب جافي الطّبع؛ دلّت القرينة على أنه يعذّبه؛ (حرم تمكينه منه) ، وذلك (للنّهي عن تعذيب الحيوان) ، فما في الحديث منزّل على القسم الأوّل. فائدة: قال ابن خلّكان في «تاريخه» : إن الإمام الزمخشريّ كانت إحدى رجليه ساقطة؛ أي أعرج، وكان يمشي في جارن خشب، وكان سبب سقوطها دعاء والدته عليه. قال الزمخشري: كنت في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط في رجله؛ فأفلت من يدي فأدركته؛ وقد دخل في خرق؛ فجذبته، فانقطعت رجله في الخيط. فقالت والدتي: قطع الله رجلك- الأبعد- كما قطعت رجله. قال: فلما وصلت إلى سنّ الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم فسقطت عن الدابّة فانكسرت رجلي، وعملت عليّ عملا أوجب قطعها. والله أعلم بالصّحة. انتهى كلام ابن خلّكان بتصرّف. (وإنّما قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي للغلام (: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير؟!» ؛ لأنّه كان له نغير يلعب) : يتلهّى (به، فمات، فحزن الغلام عليه) ؛ كما هو شأن الصغير إذا فقد لعبته، (فمازحه) ؛ أي: باسطه (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير» ) ليسلّيه، ويذهب حزنه عليه، لأنّه يفرح بمكالمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 و (النّغير) : طائر كالعصفور، أحمر المنقار. النبي صلّى الله عليه وسلم له؛ فيذهب حزنه بسبب فرحه. (والنّغير) تصغير نغر- بضمّ النون وفتح الغين-: (طائر) صغير (كالعصفور أحمر المنقار) ، وأهل المدينة يسمّونه «البلبل» ، وقيل: طائر له صوت. وقيل: هو العصفور. وقيل غير ذلك. والرّاجح الأوّل. قال شيخ مشايخنا العلّامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى في «زاد المسلم» في الجزء الرابع صفحة 165: وهذا الحديث فيه فوائد جمّة جمعها أبو العبّاس ابن القاصّ: أحمد بن أبي أحمد الطبري صاحب التصانيف من الشافعية في جزء مفرد، وسبقه إلى ذلك أبو حاتم الرّازيّ أحد أئمة الحديث، ثم التّرمذيّ في «الشمائل» ، أشار لبعض فوائده المأخوذة منه، ثمّ الخطّابيّ إلى غير هؤلاء ممّن جمع فوائده. قال الإمام النّوويّ في «شرح مسلم» عند ذكره ما نصّه: وفي هذا الحديث فوائد كثيرة جدّا؛ منها: 1- جواز تكنية من لم يولد له، و 2- تكنية الطفل، و 3- أنّه ليس كذبا، و 4- جواز المزاح فيما ليس إثما، و 5- جواز تصغير بعض المسمّيات، و 6- جواز لعب الصبي بالعصفور، و 7- تمكين الوليّ إيّاه من ذلك، و 8- جواز السجع بالكلام الحسن بلا كلفة، و 9- ملاطفة الصبيان وتأنيسهم، و 10- بيان ما كان عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم الشمائل والتواضع، وزيارة الأهل، لأن أمّ سليم والدة أبي عمير هي من محارمه صلّى الله عليه وسلم كما سبق بيانه. واستدلّ به بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة، وقد سبقت الأحاديث الصحيحة الكثيرة في كتاب الحج المصرّحة بتحريم صيد حرم المدينة، فلا يجوز تركها بمثل هذا، ولا معارضتها به. والله أعلم! انتهى بلفظه. وأخذ منه بعضهم جواز حبس الطيور في الأقفاص، وكان الشيخ أبو القاسم بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 ......... زيتون رضي الله عنه يحبسها في القفص، فإذا انقضى لها سنة أخرجها وسرّحها. ووجه الأخذ من الحديث أنّ حبسها في القفص أخفّ من اللّعب بها. انتهى. وأقول: قد استنبط العلماء من هذا الحديث فوائد كثيرة؛ وهو من الأحاديث التي كنت مصمّما على إشباع الكلام عليها، لأن كثرة معاني هذه الجملة الموجزة من أعلام نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد قال الشيخ جسّوس والمناوي والقاري وغيرهم في «شرح الشمائل» ؛ عند هذا الحديث: إنّ فوائده تزيد على المائة، وقد أفردها ابن القاصّ بجزء. وقد قال الإمام تاج الدين بن عطاء الله- نفعنا الله به- في كتاب «التنوير» ؛ لمّا تكلّم على حديث «اتّقوا الله؛ وأجملوا في الطّلب» : وذكر أنّ فيه عشرة أوجه ما حاصله أنّه ليس القصد الحصر، بل أوسع من ذلك، لأنه كلام صاحب الأنوار المحيطة، فلا يأخذ الآخذ منه إلّا على حسب نوره، ولا يحصّل من جواهر بحره إلّا على قدر غوصه، وكلّ يفهم على حسب المقام الذي أقيم فيه يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [4/ الرعد] وما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا» !!. فلو عبّر العلماء بالله أبد الآباد عن أسرار الكلمة الواحدة من كلامه؛ لم يحيطوا بها علما، ولم يقدروا لها فهما!! حتّى قال بعضهم: عملت بحديث واحد سبعين عاما؛ وما فرغت منه، وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وصدق رضي الله عنه لو مكث عمر الدنيا أجمع، وأبد الآباد لم يفرغ من حقوق هذا الحديث، وما أودع فيه من غرائب العلوم وأسرار الفهوم. انتهى. وناهيك أنّ الله تعالى آتاه علم الأولين والآخرين ومنحه من الحكمة ما لم يمنحه أحدا من العالمين!!، فما من عالم ضربت إليه أكباد الإبل في أشتات العلوم العقلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قالوا: يا رسول الله؛ إنّك تداعبنا، فقال: «نعم، غير أنّي لا أقول إلّا حقّا» . والنقلية؛ ممّن تقدّم أو تأخّر؛ إلّا وكلام المصطفى صلّى الله عليه وسلم له قدوة. وإشارته له حجّة؛ دون تعلّم منه صلّى الله عليه وسلم؛ ولا مدارسة ولا مطالعة كتب من تقدّم، ولا جلوس مع علمائها: كفاك بالعلم في الأمّيّ معجزة ... في الجاهليّة والتّأديب في اليتم انتهى. قال مقيّده رحمه الله تعالى: ومن أوسع ما وقفت عليه مجموعا من فوائد هذا الحديث المستنبطة منه في محلّ واحد ما جمعه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» عند شرحه في «باب الكنية للصبي» ؛ وقبل أن يولد للرجل في «كتاب الأدب» . انتهى. وساق في شرح «زاد المسلم» كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بطوله؛ فليراجعه من أراده. (و) أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ في «الجامع» وحسّنه وفي «الشمائل» - وهذا لفظها- (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال) أي: أبو هريرة (: قالوا) ؛ أي: الصحابة مستفهمين (: يا رسول الله؛ إنّك تداعبنا) - بدال وعين مهملتين- أي: تمازحنا بما يستملح، وقد نهيت عن المزاح، فهل المداعبة خاصّة بك!! (فقال: «نعم) ، أداعب (غير أنّي لا أقول إلّا حقّا» ) فمن حافظ على قول الحقّ وتجنّب الكذب وأبقى المهابة والوقار فله ذلك، بل هو سنّة كما مرّ!! ومن داوم عليها؛ أو أكثر منها، أو اشتمل مزاحه على كذب، أو أسقطت مهابته!! فلا. وقد كان مزاح المصطفى صلّى الله عليه وسلم على سبيل النّدور؛ لمصلحة من نحو مؤانسة، أو تألّف لما كانوا عليه من تهيّب الإقدام عليه، فكان يمازح تخفيفا عليهم، لما ألقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا ... عليه من المهابة والجلال؛ سيّما عقب التجلّيات السّبحانية، ومن ثمّ كان لا يخرج إليهم قبل الفجر إلّا بعد الاضطجاع بالأرض؛ أو مكالمة بعض نسائه، إذ لو خرج إليهم عقب المناجات الفردانية والفيوضات الرحمانية؛ لما استطاع أحد منهم لقيّه. وما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم من النهي عن المداعبة؛ كقوله: «لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدا فتخلفه» رواه الترمذي!. محمول على الإفراط، لما فيه من الشّغل عن ذكر الله تعالى، وعن التفكّر في مهمات الدين وغير ذلك؛ كقسوة القلب، وكثرة الضحك، وذهاب ماء الوجه، بل كثيرا ما يورث الإيذاء والحقد والعداوة، وجراءة الصغير على الكبير، وقد قال سيّدنا عمر بن الخطاب: من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخفّ به. أسنده العسكري، ولذا قيل: فإيّاك إيّاك المزاح فإنّه ... يجرّي عليك الطّفل والرّجل النّذلا ويذهب ماء الوجه من كلّ سيّد ... ويورثه من بعد عزّته ذلّا والذي يسلم من ذلك بأن لا يؤدّي إلى حرام؛ ولا مكروه: هو المباح المستوي الطرفين على الأصحّ، فإن صادف المباح مصلحة؛ مثل تطييب نفس المخاطب، كما كان هو فعله عليه الصلاة والسلام!! فهو مستحبّ. قاله القسطلّانيّ في «المواهب» مع الشرح. وقال المناوي في «شرح الشمائل» : ما سلم من المحذور، فهو بشرطه مندوب لا مباح؛ وفاقا للصدر المناوي، وخلافا للعصام. إذ الأصل في أفعاله صلّى الله عليه وسلم وأقواله وجوب أو ندب الاقتداء به فيها؛ إلّا لدليل يمنع؛ ولا مانع هنا!!. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ في «الجامع» وصحّحه، وفي «الشمائل» واللفظ لها، والبخاريّ في «الأدب المفرد» : كلهم؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا) كان به بله؛ أي: عدم اهتمام بأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 استحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إنّي حاملك على ولد ناقة» ، فقال: يا رسول الله؛ ما أصنع بولد النّاقة؟! فقال: «وهل تلد الإبل إلّا النّوق؟!» . الدنيا وتأمّل في معاني الألفاظ حتّى حمل الكلام على المتبادر، من أن المراد بالبنوّة الصغير فليس هو صفة ذمّ هنا، فهو كقوله في الحديث: «أكثر أهل الجنّة البله» . أي: في أمر الدنيا لقلّة اهتمامهم بها؛ وهم أكياس في أمر الآخرة، وللبله إطلاقات؛ منها هذا، وعدم التمييز وضعف العقل والحمق وسلامة الصدر، ولكلّ مقام مقال: (استحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: سأله أن يحمله، والمراد: طلب منه أن يركبه على دابّة، (فقال) أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم مباسطا له بما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك، والظنّ- بل الجزم- أنّه حصل له الشفاء بتلك المداعبة قائلا (: «إنّي حاملك) أي: مريد حملك (على ولد ناقة» ) فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوّة. (فقال: يا رسول الله؛ ما أصنع بولد النّاقة؟!) توهما أن المراد ب «ولد الناقة» الصغير، لكونه المتبادر من الإضافة؛ ومن التعبير ب «الولد» . (فقال) أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم (: «وهل تلد الإبل) - بالنصب مفعول مقدّم- والإبل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو بكسرتين، وسمع [الإبل] تسكين الباء للتخفيف، ولم يجيء من الأسماء على فعل- بكسرتين- إلّا الإبل والحبر (إلّا النّوق» ؟!) - بالرفع فاعل مؤخّر- فالإبل؛ ولو كبارا أولاد الناقة، فيصدق «ولد الناقة» بالكبير والصغير، فكأنّه يقول لو تدبّرت وتأمّلت اللفظ لم تقل ذلك!! ففيه مع المباسطة الإيماء إلى إرشاده وإرشاد غيره بأنّه ينبغي له إذا سمع قولا أن يتأمّله، ولا يبادر بردّه إلّا بعد أن يدرك غوره، ولا يسارع إلى ما تقتضيه الصورة. والنّوق- بضمّ النون- جمع ناقة؛ وهي أنثى الإبل. وقال أبو عبيدة: لا تسمّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا من أهل البادية- وكان اسمه زاهرا- وكان يهدي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هديّة من البادية، فيجهّزه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ زاهرا باديتنا؛ ... ناقة حتّى تجذع. انتهى «باجوري، ومناوي» رحمهما الله تعالى. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا من أهل البادية) خلاف الحاضرة، والنسبة إليها بدوي؛ على غير قياس. (وكان اسمه زاهرا) بالتنوين؛ وهو ابن حرام- ضدّ حلال- الأشجعي، شهد بدرا. (وكان يهدي) - بضمّ الياء بصيغة المعلوم، والإهداء؛ وهو: البعث بشيء إلى الغير إكراما، فهو هديّة- بالتشديد- لا غير (إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم هديّة) حاصلة (من البادية) أي: بما يوجد بها من ثمار ونبات وغيرهما، لأنّها تكون مرغوبة عزيزة عند أهل الحضر، وكان صلّى الله عليه وسلم يقبلها منه، لأنّ من عادته قبول الهديّة، بخلاف العمّال بعده!! فلا يجوز لهم قبولها إلّا ما استثني في محلّه. (فيجهّزه) - بضمّ المثنّاة التحتيّة وفتح الجيم وتشديد الهاء وآخره زاي- قال في «المصباح» : جهاز السّفر أهبته، وما يحتاج إليه في قطع المسافة- بالفتح، والكسر لغة قليلة- أي: يعطيه (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ما يتجّهز به إلى أهله مما يعينه على كفايتهم والقيام بكمال معيشتهم، (إذا أراد أن يخرج) ويذهب إلى أهله؛ مكافأة له على هديته. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنّ زاهرا باديتنا) ؛ أي: ساكن باديتنا؛ فهو على تقدير مضاف، لأنّ البادية خلاف الحاضرة- كما تقدّم- فلا يصحّ الإخبار إلّا بتقدير مضاف، أو هو من إطلاق اسم المحلّ على الحال؛ أي: نستفيد منه ما يستفيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 ونحن حاضرته» ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّه، وكان رجلا دميما، فأتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوما، وهو يبيع متاعه ... الرجل من باديته من أنواع الثمار وصنوف النبات، فصار كأنّه باديتنا. فالتاء على هذين الوجهين للتأنيث لأنّه الأصل، ويحتمل أن التاء للمبالغة، والأصل بادينا؛ أي: البادي المنسوب إلينا، لأنّا إذا احتجنا متاع البادية جاء به إلينا؛ فأغنانا عن السّفر إليها. قيل: وهو أظهر، والضمير لأهل بيت النبوة، أو أتي به للتعظيم. ويؤيّد الأوّل ما في «جامع الأصول» ؛ من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ حاضر بادية، وبادية آل محمّد زاهر بن حرام» . (ونحن) أي: أهل بيت النبوة، أو ضمير الجمع للتعظيم- كما مرّ في الذي قبله- (حاضرته» ) ؛ أي: يصل إليه منا ما يحتاج إليه مما في الحاضرة، أو لا يقصد بمجيئه إلى الحضر إلّا مخالطتنا. وتوقّف بعضهم في الأوّل ب «أن المنعم لا يليق به ذكر إنعامه» !! منع بأنّه ليس من ذكر المنّ بالإنعام في شيء، بل إرشاد للأمّة إلى مقابلة الهديّة بمثلها؛ أو أفضل منها، لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان يكافيء عليها كما هو عادته، على أنه صلّى الله عليه وسلم مستثنى ممّن يحرم عليه المنّ. انتهى. «باجوري» وزرقاني على «المواهب» . (وكان) النّبيّ (صلى الله عليه وسلم يحبّه) ، يؤخذ منه جواز حبّ أهل البادية، وجواز الإخبار بمحبّة من يحبّك، (وكان رجلا دميما) - بالدال المهملة- أي: قبيح الوجه، كريه المنظر؛ مع كونه مليح السريرة، فلا التفات إلى الصورة، كما في الحديث: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . (فأتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوما) ؛ أي: إلى السوق. وفيه جواز دخول السّوق وحسن المخالطة، (وهو) أي: والحال أنّه (يبيع متاعه) ؛ وهو: كلّ ما يتمتع به من نحو طعام وبرّ وأثاث بيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال من هذا؟ أرسلني، فالتفت فعرف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين عرفه، ... وأصله: ما يتبلّغ به من الزاد، ومتاع زاهر في ذلك الحين كان قربة لبن، وقربة سمن؛ كما في رواية. (فاحتضنه) أي: أدخله في حضنه؛ وهو: ما دون الإبط إلى الكشح- بزنة فلس-: ما بين الخاصرة إلى الضلع (من خلفه) أي: جاء من ورائه؛ وأدخل يديه تحت إبطيه. (وهو) أي: والحال أنّه (لا يبصره) أي: لا يراه ببصره. وذلك بعد أن جاء من أمامه وفتح إحدى القربتين، فأخذ منها على إصبعه، ثمّ قال له: «أمسك القربة» ، ثم فعل بالقربة الآخرى كذلك، ثم غافله وجاء من خلفه واعتنقه، وأخذ عينيه بيديه كي لا يعرفه. ويؤخذ من ذلك جواز اعتناق من تحبّه من خلفه؛ وهو لا يبصر. (فقال: من هذا؟!) أي: المحتضن؟ (أرسلني) - بصيغة الأمر- أي خلّني، وأطلقني، فالإرسالة: التخلية والاطلاق (فالتفت) أي: ببعض بصره ورأى بطرفه محبوبه. (فعرف النّبيّ) - القياس: فعرف أنّه النبيّ- (صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو) ، أي: لا يترك ولا يقصّر (ما) : مصدرية (ألصق ظهره) : أي شرع لا يقصر في إلصاق ظهره (بصدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) تبرّكا به، وتلذّذا، وتحصيلا لثمرات ذلك الإلصاق من الكمالات الناشئة عنه (حين عرفه) . ذكره مع علمه من قوله «فعرف النّبيّ صلّى الله عليه وسلم» !! اهتماما بشأنه، وإيماء إلى أن منشأ هذا الإلصاق ليس إلّا معرفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من يشتري هذا العبد؟» ، فقال: يا رسول الله؛ إذن والله تجدني كاسدا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لكن عند الله لست بكاسد» ، أو قال: «أنت عند الله غال» ... (فجعل) أي: شرع (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري هذا العبد!؟» ) أي: من يشتري مثل هذا العبد في الدّمامة، أو من يستبدله منّي بأن يأتي بمثله، فلما فعل ذلك معه ملاطفة نزّله منزلة العبد. ويؤخذ من ذلك جواز رفع الصوت بالعرض على البيع، وجواز تسمية الحرّ عبدا، ومداعبة الأعلى مع الأدنى. (فقال) أي زاهر (: يا رسول الله؛ إذن) ؛ واقعة في جواب شرط محذوف. أي: إن بعتني على فرض كوني عبدا إذن (والله تجدني كاسدا) رخيصا، لا يرغب فيّ أحد لدمامتي وقبح منظري. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: مدحا له. ويؤخذ جواز مدح الصّديق بما يناسبه (: «ولكن عند الله لست بكاسد» ) أي: لكونك حسن السريرة؛ وإن كنت دميما في الظاهر (أو) شكّ من الراوي (قال: «أنت عند الله غال» ) - بغين معجمة- وهو ضدّ الكاسد، وذلك ببركة محبّته صلّى الله عليه وسلم. وقد تضمّن هذا الحديث حكما عليّة وأسرارا جليّة، لأنّه لمّا أتاه المصطفى صلّى الله عليه وسلم وجده مشغوفا ببيع متاعه، فأشفق عليه أن يقع في بئر البعد عن الحقّ، ويشتغل عن الله تعالى؛ فاحتضنه احتضان المشفق على من أشفق عليه، فشقّ عليه الاشتغال بما يهواه، فقال: أرسلني لما أنا فيه!!. فلما شاهد جمال الحضرة العليّة اجتهد في تمكين ظهره من صدره ليزداد إمدادا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم تأديبا له: «من يشتري هذا العبد» !! إشارة إلى أنّ من اشتغل بغير الله فهو عبد هواه. فببركته صلّى الله عليه وسلم حصلت منه الإنابة وصادفته العناية، فلذلك بشّره النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بعلوّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 و (الدّميم) : قبيح الوجه. وعن زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا كان يهدي للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العكّة ... قدره وإعلاء رتبته. فتضمّن مزاحه صلّى الله عليه وسلم بشرى فاضلة وفائدة كاملة، فليس مزاحا إلّا بحسب الصورة، وهو في الحقيقة غاية الجدّ. انتهى لخّصه الباجوريّ من المناوي رحمه الله تعالى. آمين (والدّميم) - بالدال المهملة- (: قبيح الوجه) كريه المنظر. (و) أخرج أبو يعلى (عن) أبي أسامة؛ (زيد بن أسلم) القرشي العدوي «مولاهم؛ مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه» المدني التابعي، الصالح الفقيه، العالم الثقة، وهو من رجال الجميع، لكن كان يرسل. روى عن ابن عمر، وأنس، وجابر، وربيعة بن عباد، وسلمة بن الأكوع الصحابيين رضي الله تعالى عنهم، وروى عن أبيه، وعطاء بن يسار، وحمران، وعلي بن الحسين، وأبي صالح السّمّان، وآخرين من التابعين. روى عنه الزّهري، ويحيى الأنصاري، وأيّوب السّختياني، ومحمد بن إسحاق التابعيون. ومالك والثوري؛ ومعمر، وخلائق من الأئمة. وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ست وثلاثين ومائة، وقيل غير ذلك، ومناقبه كثيرة رحمه الله تعالى فقول المصنف (رضي الله تعالى عنه) كلام صحيح، إلّا أنّه يوهم أنّه صحابيّ كما هو العادة المعروفة في تخصيص الصحابيّ بالترضّي، مع أنّ الحديث مرسل، لكون زيد بن أسلم تابعيا؛ كما علمت من ترجمته. (أن رجلا) هو عبد الله الملّقب ب «حمار» بلفظ الحيوان المعروف؛ كما في «الإصابة» عن أبي يعلى نفسه ... (كان يهدي) بضمّ أوّله (للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم العكّة) - بضم العين المهملة-: آنية السّمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 من السّمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه.. جاء به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أعط هذا حقّ «1» متاعه، فما يزيد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن يتبسّم، ويأمر به فيعطى. وفي رواية: كان لا يدخل المدينة طرفة إلّا اشترى منها، ثمّ جاء فقال: يا رسول الله؛ هذا هديّة لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه.. جاء به، فيقول: أعط هذا الثّمن، فيقول: «ألم تهده لي؟!» ، فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. أصغر من القربة، جمعها: عكك، وعكاك (من السّمن) تارة (والعسل) أخرى، ويحتمل أنهما مخلوطان كما هو شأن العرب كثيرا!! (فإذا جاء صاحبه يتقاضاه) ؛ أي يطلبه (جاء به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: أعط هذا [حقّ] متاعه) ؛ أي: ثمنه كما في الرواية اللاحقة، (فما يزيد النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على أن يتبسّم) تعجبّا، (ويأمر به فيعطى) الثمن. (وفي رواية) لمحمّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، له رؤية وليس له سماع إلا من الصحابة: (كان لا يدخل المدينة طرفة) : ما يستطرف؛ أي يستملح ويعجب، والجمع طرف؛ مثل غرفة وغرف، (إلّا اشترى منها) ، أي: فليست هديّته قاصرة على السّمن والعسل. (ثمّ جاء؛ فقال: يا رسول الله؛ هذا هديّة لك) ؛ أي: حملته لك كما تحمل الهدية، فلا يرد: كيف يطلب ثمنه بعد قوله ذلك؟! (فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه؛ جاء به، فيقول: أعط هذا الثّمن، فيقول) ؛ أي صلّى الله عليه وسلم (: «ألم تهده لي؟!» ) استفهام تقريري. (فيقول: ليس عندي) ما أهديه! وإنّما أتيت به أريد ثمنه لمالكه!. (فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه) انتهى.   (1) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من «وسائل الوصول» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وعن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: أتت عجوز ... قال الزرقاني على «المواهب» : هكذا مشاه شيخنا؛ وهو خلاف الظاهر!! ولذا قال بعض المحقّقين من شرّاح «الشمائل» : كان هذا الصحابيّ رضي الله عنه من كمال محبّته للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم كلّما رأى طرفة أعجبته اشتراها وآثره بها، وأهداها إليه على نية أداء ثمنها إذا حصل لديه، فلما عجز صار كالمكاتب؛ فرجع إلى مولاه وأبدى إليه جميع ما أولاه، فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فرجع بالمطالبة إلى سيّده. ففعله هذا جدّ حقّ؛ ممزوج بمزاح صدق. انتهى. ووقع نحو ذلك للنّعيمان- بالتصغير- ابن عمرو بن رفاعة الأنصاري. ذكر الزّبير بن بكّار في كتاب «الفكاهة والمزاح» : كان لا يدخل المدينة طرفة إلّا اشترى منها، ثمّ جاء به إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمنه أحضره إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فيقول: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: «أولم تهده لي؟» . فيقول: إنّه والله؛ لم يكن عندي ثمنه! ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. (و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» (عن الحسن) ؛ أي البصري، لأنه المراد عند الإطلاق في اصطلاح المحدثين، فالحديث مرسل، وظنّ بعضهم أنّه الحسن بن علي (رضي الله تعالى عنه) !! وليس كما ظنّ. (قال) ؛ أي الحسن البصري ناقلا عن غيره (: أتت عجوز) قيل: إنّها صفيّة بنت عبد المطّلب أمّ الزّبير بن العوّام، وعمّة النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ ذكره ابن حجر الهيتمي وغيره، وتوقّف فيه بعضهم؛ فقال: الله أعلم بصحّته! ففي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند البيهقيّ: أتت خالتي وهي عجوز. وصفيّة ليست خالة عائشة؛ ذكره الزرقاني!! وقال: قلت: إن صحّ ما قالوه فسمّتها خالتها!! إكراما وتعظيما لسنّها، على العادة في تسمية المسنّة خالة، لا لكونها أخت أمّها حقيقة. انتهى كلام الزرقاني. وهو خلاف الظاهر المتبادر!! فلعل القصّة تعدّدت؛ إن ثبت تعيين صفية في رواية المتن؟! والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يدخلني الجنّة، فقال: «يا أمّ فلان؛ إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز» . قال: فولّت تبكي، فقال: «أخبروها أنّها لا تدخلها وهي عجوز؛ إنّ الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ ... (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فقالت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يدخلني الجنّة. فقال: «يا أمّ فلان؛) كأنّ الراوي نسي اسمها، وما أضيف إليه؛ فكنّى عنه ب «أم فلان» !! وفيه جواز التكنّي ب «أم فلان» ، ولا يشترط للجواز كونها ذات ولد، فقد كنّيت عائشة ب «أم عبد الله» ، ولم تلد، والكنية نوع تفخيم للمكنّى وإكرام. (إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز» ) كأنّه فهم من حالها أنّها تريد دخولها على صفتها حالة السؤال، فمازحها مريدا إرشادها إلى أنّها لا تدخل الجنّة على الهيئة التي هي عليها، بل ترجع في سنّ ثلاث وثلاثين، أو في سنّ ثلاثين سنة. واقتصاره صلّى الله عليه وسلم على العجوز!! لخصوص سبب الحديث، أو لأن غيرها يعلم بالمقايسة. وقد روى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنّة جردا مردا مكحّلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين سنة» أخرجه الترمذيّ في «الجامع» . (قال) ؛ أي: الحسن ناقلا عن غيره- كما مرّ- (: فولّت) - بتشديد اللام- أي: أدبرت وذهبت (تبكي) حال من فاعل «ولّت» ، أي: باكية، لأنّها فهمت أنّها تكون يوم القيامة على الهيئة التي هي عليها؛ ولا تدخل الجنة، فحزنت. (فقال) ؛ أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم (: «أخبروها) بقطع الهمزة، أي: أعلموها (أنّها) ؛ أي تلك المرأة (لا تدخلها) ؛ أي: الجنّة (وهي عجوز) بل يرجعها الله تعالى في سنّ ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين سنة، واستشهد على ذلك تطييبا لخاطرها، فقال: (إنّ الله تعالى يقول إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ) ؛ أي النسوة، أي أعدنا إنشاءهنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً» [الواقعة: 35- 37] . (إِنْشاءً) خاصّا، والمعنى إنّا خلقنا النسوة خلقا جديدا غير خلقهنّ بدون توسّط ولادة بحيث يناسب البقاء والدوام، فالضمير للنسوة، وجعله للحور العين يردّه هذا الحديث، وإن كان هو مقتضى سياق القرآن (فَجَعَلْناهُنَّ) بعد كونهنّ عجائز شمطا رمصا في الدنيا (أَبْكاراً) أي: عذارى، وإن وطئن كثيرا، فكلّما أتاها الرجل وجدها بكرا؛ كما ورد به الأثر، ولكن لا دلالة للّفظ عليه (عُرُباً) أي: عاشقات متحبّبات إلى أزواجهن، جمع عروب، (أَتْراباً) أي: متساويات في السنّ، وهو سنّ ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين سنة، وذلك أفضل أسنان النساء. وفي الحديث: «هنّ اللّاتي قبضن في دار الدّنيا عجائز، قد خلقهنّ الله بعد الكبر، فجعلهنّ عذارى متعشّقات؛ على ميلاد واحد أفضل من الحور العين كفضل الظّهارة على البطانة، ومن يكن لها أزواج؛ فتختار أحسنهم خلقا» ... الحديث في «جامع الترمذي» ، والطبراني مطولا. انتهى باجوري على «الشمائل» . وهذا الحديث الذي ذكره المصنّف في «المتن» قد ذكره رزين بن معاوية العبدريّ السّرقسطيّ، ورواه الترمذيّ أيضا في «الجامع» ، وابن الجوزيّ في «الوفا» بسنده موصولا؛ كلاهما عن أنس رضي الله تعالى عنه. أنّ عجوزا دخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فسألته عن شيء، فقال لها ومازحها: «إنّه لا تدخل الجنّة عجوز» ، وحضرت الصّلاة فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فبكت بكاء شديدا حتّى رجع النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ إنّ هذه المرأة تبكي لمّا قلت لها: «إنّه لا تدخل الجنّة عجوز» !! فضحك، وقال: «أجل؛ لا تدخل الجنّة عجوز، ولكن قال الله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) [الواقعة] وهنّ العجائز الرّمص» . أي: مريضات العيون. ولا تنافي بين روايتي وصله وإرساله، لأنّ الحسن حدّث به مرسلا تارة؛ بإسقاط أنس، وتارة وصله بذكر أنس! وقد رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ من وجه آخر من حديث عائشة. انتهى؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ......... قال في «جمع الوسائل» : وقد أخرج أبو الشيخ ابن حيّان في «كتاب الأخلاق» بسنده إلى مجاهد قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها عجوز؛ فقال: «من هذه» ؟ قالت: هي عجوز من أخوالي. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنّ العجز- بضمّتين؛ جمع عجوز- لا يدخلن الجنّة» . فشقّ ذلك على المرأة، فلما دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلم قالت له عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقّة شديدة! فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ ينشئهنّ خلقا غير خلقهنّ» !! انتهى. تتمة: وممّا ذكر من مزاحه صلّى الله عليه وسلم أيضا: ما رواه جمع عن خوّات بن جبير قال: نزلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمرّ الظهران، فخرجت من خبائي؛ فإذا نسوة يتحدّثن، فأعجبنني، فرجعت فأخرجت حلّة من عيبتي فلبستها، ثم جلست إليهنّ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبّته؛ فقال: «يا عبد الله؛ ما يجلسك إليهنّ» ؟ فقلت: يا رسول الله؛ جمل لي شرود، أبتغي له قيدا! فمضى وتبعته، فألقى رداءه ودخل فقضى حاجته وتوضّأ، ثمّ جاء؛ فقال: «ما فعل شراد جملك» ؟ ثمّ ارتحل، فجعل لا يلحقني في منزل إلّا قال: «يا عبد الله؛ ما فعل شراد جملك؟» إلى أن قال: فقلت: والله؛ لأعتذرنّ إليه، ولأبرّدنّ صدره. فقال لي يوما.. فقلت: والّذي بعثك بالحق؛ ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت. ومن ذلك ما رواه ابن أبي حاتم وغيره؛ من حديث عبد الله بن سهم الفهري؛ للمرأة التي سألت عن زوجها: «أهو الّذي بعينه بياض» ؟! وقد ذكره القاضي عياض في «الشفاء» من غير إسناد!. خاتمة: قد درج أكابر السلف وأعاظم الخلف؛ على ما كان عليه المصطفى صلّى الله عليه وسلم في الطلاقة والمزاح المجانب للكذب والفحش، فكان الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يكثر المداعبة، وكذا ابن سيرين. وقال رجل لصالح جزرة: ما تقول في سفيان الثوري؟ فقال: كذّاب. فأكبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 ......... الحاضرون ذلك ولاموه!! فقال: ما الّذي أقوله لمن سأل عن ذلك الإمام الأعظم؟! وسأل رجل رجلا آخر عن حسان بن هشام، فقال: توفّي البارحة. فجزع الرجل واسترجع، فقرأ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [42/ الزمر] الآية انتهى من المناوي، وملا علي قاري: كلاهما على «الشمائل الترمذية» والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 [الفصل الخامس في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه واتّكائه] الفصل الخامس في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه واتّكائه (الفصل الخامس) من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلم) . بضمّ الضاد؛ أي تذلّله وخشوعه؛ قاله الباجوري. وقال ابن القيّم: التواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلّ والرحمة للخلق؛ حتّى لا يرى له على أحد فضلا، ولا يرى له عند أحد حقا، بل، ويرى الحقّ لذلك الأحد؛ نقله الزرقاني على «المواهب» . وقال شيخنا العلّامة الشيخ حسن المشاط في «إسعاف أهل الإسلام» ؛ قبيل «باب ما جاء في ما يلبسه المحرم من الثياب» ما نصّه: واعلم أنّ التواضع خلق شريف؛ معناه عند المحققين: ألايرى العبد لنفسه قدرا، ولا قيمة، ولا مزيّة، ويرى الحال التي هو فيها أعظم من أن يستحقّها. قال سيّدي محمد بن قاسم الشهير ب «جسوس» ؛ عن أبي زيد رضي الله عنه: ما دام العبد يظنّ أنّ في الخلق من هو شرّ منه؛ فهو متكبّر. قيل له: فمتى يكون متواضعا؟! قال: إذا لم ير لنفسه مقالا؛ ولا حالا. قال في «الحكم» : ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنّه فوق ما صنع، ولكنّ المتواضع الّذي إذا تواضع رأى أنّه دون ما صنع. ثمّ التواضع تارة يكون لرؤية العبد نقص نفسه، وتارة يكون عن شهود عظمة ربّه، وهذا التواضع الحقيقيّ الّذي لا يمكن ارتفاعه، فإنّ شهود عظمته تعالى هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ النّاس تواضعا، ... الذي يخمد النّفس ويذيبها، ويبطل أنانيّتها، وبه تنقلع شجرة الرياسة والكبر من القلب. فإنّ من شاهد عظيما من الخلق ذا هيئة ومنصب؛ لم يمكنه إلّا الخضوع له، فكيف لمن تتجلّى له عظمة الله تعالى التي لا عظمة تكاد تدانيها؟!! فما تجلّى الله لشيء إلّا خضع له فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [143/ الأعراف] . ولمّا كان لسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحظّ الأوفر من تجلّي نور الشهود كان أعظم الخلق تواضعا، وقد رفع الله ذكره، وأعلى على كلّ قدر قدره. ولم يخلق جاها أعظم من جاهه صلّى الله عليه وسلم!!. وقد شرح الإمام العارف الشهير ب «زروق» في «قواعده» ما تقدّم من حقيقة خلق التواضع؛ بقوله: التواضع: ترك اعتقاد المزيّة على الغير، ولو كان في أعلى درجات الرفعة. والكبر: اعتقاد المزيّة، ولو كان في أدنى درجات الضعة. وبالجملة؛ فالتواضع والأدب، والوقوف عند الحدّ، والتأسّي برسول الله صلّى الله عليه وسلم هو ملاك كلّ خير، وسبب كلّ علو وشرف، ومن تواضع لله رفعه الله، سلك الله بنا طريق الخير بمنّه وفضله. آمين؛ انتهى. (و) صفة (جلوسه) لكونه محتبيّا ومتوقّرا، ومستقبل القبلة ونحو ذلك. (و) صفة (اتّكائه) على وسادة؛ أو غيرها. قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» ، والإمام الشعراني في «كشف الغمّة» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشدّ النّاس تواضعا) - بضمّ الضاد المعجمة- قال بعض العارفين: اعلم أنّ العبد لا يبلغ حقيقة التواضع؛ وهو التذلّل والتخشّع إلّا إذا دام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 وأسكنهم من غير كبر، ... تجلّي نور الشهود في قلبه، لأنه حينئذ يذيب النفس ويصفّيها عن غش الكبر والعجب، فتلين وتطمئنّ للحق والخلق؛ بمحو آثارها، وسكون وهجها، ونسيان حقّها، والذهول عن النظر إلى قدرها. ولمّا كان الحظّ الأوفر من ذلك لنبيّنا صلّى الله عليه وسلم كان أشدّ النّاس تواضعا. وحسبك شاهدا على ذلك أنّ الله خيّره بين أن يكون نبيّا ملكا؛ أو نبيّا عبدا؛ فاختار أن يكون نبيّا عبدا!! ومن ثمّ لم يأكل متّكئا بعد حتى فارق الدنيا. وقال: «أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد» ، ولم يقل لشيء فعله خادمه أنس «أفّ» قطّ، وما ضرب أحدا من عبيده وإمائه، وهذا أمر لا يتّسع له الطبع البشري؛ لولا التأييد الإلهي، وكذا الأخبار الآتية فكلّها دالّة على شدّة تواضعه صلّى الله عليه وسلم. (وأسكنهم) - بالنون- أي: أكثرهم سكونا (من غير كبر) . قال الحافظ العراقيّ: روى أبو داود وابن ماجه؛ من حديث البراء: فجلس وجلسنا كأنّ على رؤوسنا الطير. ولأصحاب «السنن» ؛ من حديث أسامة بن شريك: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كأنّما على رؤوسهم الطير. وفي «الشمائل» للترمذي: أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلّموا. وفي «الشمائل» لأبي الحسن بن الضحاك؛ من حديث أبي سعيد الخدري: دائب الإطراق. وسنده ضعيف. أي: دائم السكون. وقوله «كأنّما على رؤوسهم الطير» كناية عن كونهم عند كلامه صلّى الله عليه وسلم على غاية تامّة من السكوت والإطراق، وعدم الحركة، وعدم الالتفات، أو عن كونه مهابين مدهوشين في هيئته، لما أنّ كلامه عليه أبّهة الوحي وجلالة الرسالة. وأصل ذلك: أنّ سليمان عليه السلام كان إذا أمر الطير بأن تظلّل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشرا، لا يهوله شيء من أمر الدّنيا. أصحابه؛ غضّوا أبصارهم، ولم يتكلّموا حتّى يسألهم مهابة. أو عن كونهم متلذّذين بكلامه. وأصل ذلك: أنّ الغراب يقع على رأس البعير يلقط عنه صغار القردان؛ فيسكن سكون راحة ولذّة، ولا يحرّك رأسه؛ خوفا من طيرانه عنه. وهذه الحالة لهم إنّما هي من تخلّقهم بأخلاقه صلّى الله عليه وسلم إذ كان صلّى الله عليه وسلم لكمال استغراقه بالمشاهدة في سكون دائم وإطراق ملازم. (وأبلغهم) ؛ أي: أكثرهم بلاغة في الكلام (من غير تطويل) . قال الحافظ العراقي: روى الشيخان؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه. ولهما من حديثها: لم يكن يسرد الحديث كسردكم. علّقه البخاري، ووصله مسلم. زاد الترمذيّ: ولكنه كان يتكلّم بكلام يبيّنه؛ فصل، يحفظه من جلس إليه. وله في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة يتكلّم بجوامع الكلم، فصل؛ لا فضول ولا تقصير. (وأحسنهم بشرا) قال الحافظ العراقي: رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كان صلّى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق ... الحديث. وله في «الجامع» ؛ من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وقال غريب. قلت: وفيه ابن لهيعة. انتهى شرح «الإحياء» . (لا يهوله شيء من أمر الدّنيا) يقال: هاله الشيء؛ إذا راعه وأعجبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وكان صلّى الله عليه وسلّم متواضعا في غير مذلّة. وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، قال العراقيّ: روى أحمد من حديث عائشة: ما أعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيء من الدنيا، ولا أعجبه أحد قطّ؛ إلا ذو تقى. وفي لفظ له: ما أعجب النبيّ صلّى الله عليه وسلم ولا أعجبه شيء من الدنيا، إلا أن يكون منها ذو تقى. وفيه ابن لهيعة. انتهى شرح «الإحياء» . (و) في «شرح الإحياء» : قال الحافظ العراقيّ: روى أبو الحسن بن الضحاك في «الشمائل» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه؛ في صفته صلّى الله عليه وسلم: أنه (كان صلّى الله عليه وسلم متواضعا في غير مذلّة) . وسنده ضعيف. انتهى. (و) أخرج البخاريّ والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» (عن) أبي حفص الفاروق (عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - ووقع في رواية البخاريّ؛ عن ابن عبّاس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم يقول على المنبر: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول (: «لا تطروني) - بضمّ أوّله وسكون الطاء المهملة- والإطراء: المدح بالباطل، أي: لا تتجاوزوا الحدّ في مدحي؛ بأن تقولوا ما لا يليق بي؛ (كما أطرت النّصارى) المسيح (ابن مريم) . وفي رواية: عيسى ابن مريم حيث كذبوا وقالوا: إله، و: ابن الله، و: أحد ثلاثة!! وحرّفوا قوله تعالى في «التوراة» «عيسى نبيي؛ أنا ولّدته- بتشديد اللام- من مريم» ؛ فجعلوا الأول «بنيّ» بتقديم الباء، وخفّفوا اللام في الثاني «ولدته» إلى غير ذلك من إفكهم!!؟. فمنعهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يصفوه بالباطل. وفي العدول عن «المسيح» إلى «ابن مريم» تبعيد عن الإلهية. والمعنى: أنّهم بالغوا في المدح بالكذب حتى جعلوا من حصل من جنس النساء الطوامث إلها، وابن إله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 إنّما أنا عبد فقولوا: (عبد الله ورسوله) » . قال ابن الجوزيّ: ولا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه، لأنّا لا نعلم أن أحدا ادّعى في نبينا ما ادّعته النصارى في عيسى!!. وإنّما سبب النهي- فيما يظهر-: ما وقع في حديث معاذ بن جبل لمّا استأذن في السجود له على قصد التعظيم وإرادة التكريم، فامتنع ونهاه، وكأنّه خشي أن يبالغ غيره بأخوف من ذلك؛ فبادر إلى النهي تأكيدا للأمر، فالمعنى لا تتجاوزوا الحدّ في مدحي بغير الواقع؛ فيجرّكم ذلك إلى الكفر، كما جرّ النصارى إليه لمّا تعدّوا عن الحدّ في مدح عيسى عليه السلام بغير الواقع، واتخذوه إلها. وإلى ذلك أشار في «البردة» بقوله: دع ما ادّعته النّصارى في نبيّهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم ثم استأنف؛ وقال: (إنّما أنا عبد) ، أي: لست إلّا عبدا لا إلها، فلا تعتقدوا فيّ شيئا ينافي العبودية، (فقولوا عبد الله ورسوله» ) . ولا تقولوا ما قالته النصارى، فأثبت لنفسه ما هو ثابت له من العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له؛ لا لسواه. وقد روى الإمام أحمد عن أنس أنّ رجلا جاءه؛ فقال: يا سيّدنا وابن سيّدنا، وخيرنا وابن خيرنا! فقال: «يا أيّها النّاس قولوا بقولكم، ولا يستهوينّكم الشّيطان، أنا محمّد بن عبد الله؛ عبد الله ورسوله» . وأخرج عن ابن الشخّير أنّه جاءه رجل؛ فقال: أنت سيّد قريش! فقال: «السّيّد الله» . فقال: أنت أعظمها فيها طولا، وأعلاها قولا. قال: «يا أيّها النّاس قولوا بقولكم، ولا يستهوينّكم الشّيطان» . وأخرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: استبّ رجلان؛ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود. فقال المسلم: والّذي اصطفى محمّدا على العالمين. وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين! فلطم المسلم اليهوديّ، فأتى اليهوديّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبره، فدعاه فسأله؛ فاعترف. فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 و (الإطراء) : هو مجاوزة الحدّ في المدح. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدفع عنه النّاس، ولا يضربوا عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأتيه أحد من حرّ ولا عبد، ولا أمة ولا مسكين.. إلّا قام معه في حاجته. «لا تخيّروني على موسى، فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة، فأكون أوّل من يفيق فأجد موسى ممسكا بجانب العرش؛ ما أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممّن استثنى الله؟!» . وهذه الأحاديث الثلاثة في «الصحيحين» أيضا، وهذا من مزيد تواضعه صلّى الله عليه وسلم، وقد كان أعظم النّاس تواضعا- كما تقدّم-؛ ذكره المناوي على «الشمائل» . (والإطراء: هو مجاوزة الحدّ في المدح) بالكذب. (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: (كان صلّى الله عليه وسلم لا يدفع عنه النّاس، ولا يضربوا عنه) ببناء الفعلين للمفعول؛ وحذف النون للتخفيف، وذلك لعظم تواضعه؛ وبراءته من الكبر والتعاظم الذي هو من شأن الملوك وأتباعهم. وفيه أنّ أصحاب المقارع بين يدي الحكّام والأمراء محدثة مكروهة، كما ورد في خبر: رأيت المصطفى صلّى الله عليه وسلم على ناقته.. لا ضرب ولا طرد، ولا «إليك ... إليك» . وأخذ منه أن المفتي أو المدرّس ينبغي له ألايتخذ نقيبا جافيا غليظا، بل فطنا كيّسا دريّا يرتّب الحاضرين على قدر منازلهم، وينهى عن ترك ما ينبغي فعله؛ أو فعل ما ينبغي تركه، ويأمر بالإنصات للدرس، وعلى العالم سماع السؤال من مورده على وجهه؛ ولو صغيرا. انتهى مناوي؛ على «الجامع الصغير» . (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد) ؛ أي: يطلبه في حاجة (من حرّ ولا عبد، ولا أمة ولا مسكين؛ إلّا قام معه في حاجته) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين. روى البخاريّ تعليقا؛ من حديث أنس: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. ووصله ابن ماجه، وقال: وما ينزع يده من يدها حتّى تذهب حيث شاءت من المدينة في حاجتها. وسيأتي مع حديث ابن أبي أوفى: ولا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي لهما حاجتهما. انتهى شرح «الإحياء» . (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلّى الله عليه وسلم لا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين) - بكسر الميم؛ لغة جميع العرب، إلا بني أسد فبفتحها- من السكون؛ لسكونه إلى النّاس. قال السيّد محمّد مرتضى الزبيدي في شرح «الإحياء» : هكذا في النسخ!! وفي نسخة العراقي: لا يستكبر أن يمشي مع المسكين. وقال: رواه النسائي، والحاكم؛ من حديث عبد الله بن أبي أوفى بسند صحيح. ورواه الحاكم؛ من حديث أبي سعيد وقال: صحيح على شرط الشيخين. انتهى. قلت: ولفظ النسائيّ: كان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين. وبهذا يظهر أن الذي في سياق المصنف من ذكر الأمة تحريف من النسّاخ! والصواب: الأرملة. ثمّ وجدت في البخاري: إن كانت الأمة لتأخذ بيده صلّى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. وعند أحمد: فتنطلق به في حاجتها. وعنده أيضا: كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتّى تذهب حيث شاءت. انتهى كلام السيد محمد مرتضى في شرح «الإحياء» . وستأتي هذه الأحاديث التي ذكرها قريبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر الذّكر ويقلّ اللّغو، ويطيل الصّلاة ويقصر الخطبة، وكان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتّى يقضي له حاجته. (و) أخرج النسائي، والحاكم؛ عن عبد الله بن أبي أوفى، والحاكم عن أبي سعيد الخدري، قال الحاكم: على شرطهما. وأقرّه الذهبيّ. ورواه الترمذيّ في «العلل» عن ابن أبي أوفى، وذكر أنّه سأل عنه البخاريّ؛ فقال: هو حديث تفرّد به الحسين بن واقد؛ قاله المناوي. وقال العزيزي: هو حديث صحيح. (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يكثر الذّكر) أي: ذكر الله تعالى، (ويقلّ اللّغو) ؛ أي: لا يلغو أصلا. قال ابن الأثير: القلّة تستعمل في نفي الشيء أصلا، ويجوز أن يريد باللغو الهزل والدعابة، أي: أنّه كان منه قليلا. انتهى «مناوي» . وقال الحفني: «قوله اللغو» ؛ أي: المزاح. فالمراد باللغو غير الذكر من المزاح، فيقع منه قليلا. وهذا أظهر من حمل اللغو على حقيقته، فإنّه حينئذ يضيع قوله «يقل» إذ المعنى حينئذ: لا يلغو أصلا. انتهى. (ويطيل الصّلاة ويقصر الخطبة) ، ويقول: «إنّ ذلك من علامة فقه الرّجل» . (وكان لا يأنف ولا يستكبر) ، تفسير لقوله: لا يأنف. (أن يمشي مع الأرملة) ؛ أي: التي لا زوج لها، (والمسكين والعبد) ، لأنه سيّد المتواضعين (حتّى يقضي له حاجته) قرب محلّها أو بعد. وسيأتي حديث مسلم والترمذي؛ عن أنس: أنه جاءت امرأة إليه صلّى الله عليه وسلم، فقالت: إنّ لي إليك حاجة. فقال: «اجلسي في أيّ طرق المدينة شئت أجلس إليك حتّى أقضي حاجتك» . وفيه بروزه للناس، وقربه منهم ليصل ذو الحقّ إلى حقّه، ويسترشد بأقواله وأفعاله، وصبره على تخمّل المشاقّ لأجل غيره ... وغير ذلك. انتهى «مناوي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت. وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: أنّ امرأة ... وقد نظم الحافظ العراقي معنى هذا الخبر فأجاد؛ حيث قال: يمشي مع المسكين والأرملة ... في حاجة من غير ما أنفة (و) أخرج البخاريّ في «باب الكبر؛ من كتاب الأدب» تعليقا، ووصله ابن ماجه: كلاهما (عن أنس رضي الله تعالى عنه) : إن (كانت الأمة) أيّ أمة كانت (من إماء أهل المدينة) المنوّرة (لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت) من الأمكنة، ولو كانت حاجتها خارج المدينة. وفي رواية الإمام أحمد؛ عن أنس: فتنطلق به في حاجتها. وعند أحمد أيضا إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء؛ فتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتّى تذهب به حيث شاءت، ويجيب إذا دعي. انتهى. والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الانقياد. قال في «المواهب» : وقد اشتمل الحديث على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمّم بلفظ الإماء. أي أيّ أمة كانت، وبقوله «حيث شاءت» أي: من الأمكنة. والتعبير «باليد» إشارة إلى غاية التصرّف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة؛ والتمست مساعدته في تلك الحالة لساعدها على ذلك بالخروج معها، وهذا من مزيد تواضعه صلّى الله عليه وسلم وبراءته من جميع أنواع الكبر. ومن ثمّ أورده البخاريّ في «باب الكبر» إشارة إلى براءته منه. انتهى. (و) أخرج البخاريّ ومسلم، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ لها-: (عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة) . أي: كان في عقلها شيء؛ كما في رواية مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 جاءت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: إنّ لي إليك حاجة، فقال: «اجلسي في أيّ طرق المدينة شئت أجلس إليك» . وعند البخاريّ: امرأة من الأنصار. وفي رواية: ومعها صبيّ. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها! وفي بعض «الحواشي» أنّها أم زفر ماشطة خديجة أمّ المؤمنين. ونوزع فيه، وتردّد البرهان الحلبي في «المقتضى» في أنّها هي أو غيرها؟!! وجزم غيره بأنها هي، لكن نوزع!!. (جاءت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ فقالت له: إنّ لي إليك حاجة) ؛ أي: أريد أن أخفيها عن غيرك؛ قاله القاري. (فقال) رسول الله صلّى الله عليه وسلم (: «اجلسي» ) - بصيغة المخاطبة-؛ من أمر الحاضر (في أيّ) طريق من (طرق المدينة) المنوّرة (شئت) ، أي: في أيّ سكّة من سككها وقيل: المعنى في أيّ جزء من أجزاء طريق المدينة، وليس المراد أيّ طريق يوصل إلى المدينة؛ وإن كان طريق الشيء: ما يوصل إليه!! (أجلس) ؛ بالجزم جواب الأمر (إليك» ) أي: معك ف «إلى» بمعنى «عند» ، وزاد في رواية مسلم، «حتّى أقضي حاجتك» . قال أنس: فجلست، فجلس النبي صلّى الله عليه وسلم إليها حتّى فرغت من حاجتها؛ تواضعا منه صلّى الله عليه وسلم، وملاطفة لسعة حلمه، وبراءته من الكبر. قال بعضهم: وفيه إيماء وإرشاد إلى أنّه لا يخلو أجنبيّ مع أجنبية، بل إذا عرضت حاجة يكون معها بموضع لا يتطرّق فيه تهمة، ولا يظن به ريبة؛ ككونه بطريق المارّة، وأنّه ينبغي للحاكم المبادرة إلى تحصيل أغراض ذوي الحاجات، ولا يتساهل في ذلك. وفيه حلّ الجلوس في الطريق لحاجة. ومحلّ النهي عنه!! إذا لزم عليه الإيذاء للمارّة. وقد أخرج أبو نعيم في «الدلائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى بالنّاس الغداة أقبل عليهم بوجهه فقال: «هل فيكم مريض أعوده؟» ، فإن قالوا: لا.. قال: «فهل فيكم جنازة أتبعها؟» ، فإن قالوا: لا.. قال: «من رأى منكم رؤيا يقصّها علينا» . كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ النّاس لطفا، والله؛ ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد؛ ولا أمة أن يأتيه بالماء فيغسل صلّى الله عليه وسلم وجهه وذراعيه. وما سأله سائل قطّ إلّا أصغى إليه؛ فلا ينصرف حتّى يكون هو الّذي ينصرف، وما تناول أحد يده قطّ إلّا ناوله إيّاها، فلا ينزعها حتّى يكون هو الّذي ينزعها منه. قال في «المواهب» : إنّ هذا كلّه من كثرة تواضعه صلّى الله عليه وسلم، لبروزه للناس وقربه وصبره على المشاقّ لأجل غيره؛ خصوصا امرأة في عقلها شيء. انتهى مع شيء من الشرح. (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى بالنّاس الغداة) ؛ أي: الصبح (أقبل عليهم بوجهه؛ فقال: «هل فيكم مريض أعوده؟» ، فإن قالوا: لا؛ قال: «فهل فيكم جنازة أتبعها؟» ، فإن قالوا: لا؛ قال: «من رأى منكم رؤيا يقصّها علينا!» ) أي: لنعبّرها له، لأنّه محبّ لأصحابه؛ وسيّد العارفين بالتعبير، والمطلوب قصّ الرؤيا على حبيب عارف بالتعبير. قال الحكيم الترمذيّ: كان شأن الرؤيا عنده عظيما؛ فلذلك كان يسأل عنها كلّ يوم، وذلك من إخبار الملكوت من الغيب، ولهم في ذلك نفع في أمر دينهم؛ بشرى كانت؛ أو نذارة؛ أو معاتبة. انتهى. وقال القرطبيّ: إنّما كان يسألهم عن ذلك؟!! لما كانوا عليه من الصلاح والصدق، وعلم أنّ رؤياهم صحيحة؛ يستفاد منها الاطلاع على كثير من علم الغيب، وليسن لهم الاعتناء بالرؤيا والتشوّق لفوائدها، ويعلّمهم كيفية التعبير، وليستكثر من الاطلاع على الغيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وكان صلّى الله عليه وسلّم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، وقال ابن حجر: فيه أنّه يسنّ قصّ الرؤيا بعد الصبح، وبعد الانصراف من الصلاة. وأخرج الطبرانيّ والبيهقيّ في «الدلائل» : كان عليه الصلاة والسلام إذا صلى الصبح قال: «هل رأى أحد منكم شيئا» فإذا قال رجل: أنا؛ قال: «خيرا تلقاه وشرّا توقاه، وخيرا لنا وشرّا لأعدائنا. والحمد لله ربّ العالمين؛ اقصص رؤياك..» . الحديث وسنده ضعيف جدّا. قال ابن حجر: في الحديث 1- إشارة إلى ردّ ما أخرجه عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن سعيد بن عبد الرحمن، عن بعض علمائهم: ولا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتّى تطلع الشّمس. 2- وردّ على من قال من أهل التعبير: يستحبّ أن يكون تفسير الرّؤيا بعد طلوع الشمس! إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبيل المغرب. فإنّ الحديث دلّ على ندب تعبيرها قبل طلوع الشمس! ولا يصحّ قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة. قال المهلّب: تعبير الرؤيا بعد الصبح أولى من جميع الأوقات؛ لحفظ صاحبها لها، لقرب عهده بها، وقلّ ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر، وقلّة شغله فيما يفكره فيما يتعلّق بمعاشه؛ ليعرض الرائي ما يعرض له بسبب رؤيا. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض) أي: من غير حائل بل يباشر التراب، (ويأكل على الأرض) أي: من غير مائدة ولا خوان، إشارة إلى طلب التساهل في أمر الظاهر، وصرف الهمّ إلى عمارة الباطن وتطهير القلوب، وتأسّى به أكابر صحبه؛ فكانوا يصلّون على الأرض في المساجد، ويمشون حفاة في الطرقات، ولا يجعلون غالبا بينهم وبين التراب حاجزا في مضاجعهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 ويعتقل الشّاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشّعير. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعود مرضى المساكين ... قال الإمام الغزاليّ: وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمّون الرعونة «نظافة» ، ويقولون: هي مبنى الدين. فأكثر أوقاتهم في تزيين الظاهر؛ كفعل الماشطة لعروسها والباطن خراب، ولا يستنكرون ذلك، ولو مشى أحدهم على الأرض حافيا؛ أو صلّى عليها بغير سجادة مفروشة أقاموا عليه القيامة، وشدّدوا عليه النكير، ولقّبوه ب «القذر» وأخرجوه من زمرتهم، واستنكفوا عن مخالطته؛ فقد صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا. انتهى. ذكره المناوي. وهذا في زمان الغزاليّ؛ فكيف لو رأى زماننا، ورأى ما فيه من اعتناء الناس بإصلاح الظواهر؟! خصوصا الشباب، فإنّ الواحد منهم يحسّن نفسه ويمشط رأسه ويلبس الملابس الرقيقة الشفّافة؛ أو الملساء البرّاقة، حتّى يصير أشبه بالبنت في الميوعة والتكسّر، تكاد تكون ذهبت منه الرجولة؟! فلا حول ولا قوّة إلّا بالله العزيز الحكيم. (ويعتقل الشّاة) قال المناوي: أي: يجعل رجليه بين قوائمها ليحلبها؛ إرشادا إلى التواضع وترك الترفّع. (ويجيب دعوة المملوك) يحتمل أنّ المراد إذا أمره سيّده بذلك، لأن المملوك يمتنع عليه الإطعام من مال سيده بغير إذنه (على خبز الشّعير) زاد في رواية: والإهالة السنخة: أي الدّهن المتغيّر الريح. وعلمه ذلك؛ إمّا بإخبار الداعي، أو للعلم بفقره ورثاثة حاله، أو مشاهدة غالب مأكوله ... ونحو ذلك من القرائن الحاليّة، فكان لا يمنعه ذلك من إجابته؛ وإن كان حقيرا، وهذا من كمال تواضعه ومزيد براءته من سائر صنوف الكبر وأنواع الترفع. انتهى «مناوي» . (و) «في كشف الغمّة» : (كان صلّى الله عليه وسلم يعود مرضى المساكين) ؛ جمع مسكين بكسر الميم وفتحها؛ مأخوذ من السكون، ويكون بمعنى المتذلّل الخاضع، ومنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 الّذين لا يؤبه لهم، ويخدمهم بنفسه صلّى الله عليه وسلّم، وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب من دعاه؛ من غنيّ أو فقير أو شريف، ولا يحتقر أحدا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب إلى الوليمة، ويشهد الجنائز. قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا» ، ولا يجوز أن يطلق على النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه «فقير» أو «مسكين» ، وإن أطلقه على نفسه الشريفة. (الّذين لا يؤبه) أي: لا يفطن (لهم، ويخدمهم بنفسه) الشريفة، أي: يباشر خدمتهم بنفسه (صلى الله عليه وسلم) ؛ تواضعا منه. (وكان صلّى الله عليه وسلم يجيب من دعاه، من غنيّ أو فقير أو شريف) أو وضيع، جبرا لخاطره وتواضعا مع ربّه. (ولا يحتقر أحدا) ؛ امتثالا لأمره سبحانه بقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) [الشعراء] . (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلّى الله عليه وسلم يجيب إلى الوليمة) ؛ وهي طعام العرس، وسيأتي حديث «لو دعيت إلى كراع لأجبت» . وفي «الأوسط» للطبرانيّ؛ من حديث ابن عبّاس: كان الرّجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنصف الليل على خبز الشعير فيجيب، وإسناده ضعيف. (ويشهد الجنائز) ؛ أي: يحضرها للصلاة عليها، ودفنها؛ هبها لشريف أو وضيع. روى الترمذي، وابن ماجه وضعّفه، والحاكم وصحّحه؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان يعود المريض ويشهد الجنائز. ورواه الحاكم؛ من حديث سهل بن حنيف. وقال: صحيح الإسناد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعود المرضى، ... وفي «الصحيحين» وغيرهما عدّة أحاديث في عيادته صلّى الله عليه وسلم للمرضى وشهوده الجنائز؛ منها حديث جابر: مرضت فأتاني النبي صلّى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر رضي الله عنه؛ وهما ماشيان ... الحديث. وقد أخرجه أبو داود. فيتأكّد لأمّته التأسّي به. وآثر قوم العزلة ففاتهم بها خيرات كثيرة؛ وإن حصل لهم منها خير كثير. ولتشييع الجنازة آداب مبيّنة في كتب الفروع، وسيأتي ذلك في حديث «الشمائل» ، وغيرها. (و) أخرج أبو يعلى والطبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم، عن سهل بن حنيف- بالتصغير- قال في العزيزي: وهو حديث صحيح (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم) في مواطنهم؛ تلطّفا بهم وإيناسا لهم، (ويعود مرضاهم) ؛ أيّ مريض كان؛ حرا أو عبدا، شريفا أو وضيعا. وكان يدنو من المريض ويجلس عند رأسه، ويسأله كيف حاله. وجاء في فضيلة العيادة أحاديث كثيرة، ولها آداب مبيّنة في محلّها، وللعلامة ابن حجر الهيتمي كتاب «الإفادة في ما جاء في المرضى والعيادة» رسالة مفيدة جدّا، ولم تكن عندي حال الكتابة حتّى أنقل من فوائدها شيئا أتحف به القرّاء. (ويشهد جنائزهم) أي: للصلاة والدفن، وهو فرض كفاية، وكان إذا شيّع جنازة علا كربه، وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه. رواه الحاكم في «الكنى» ؛ عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما. (و) أخرج أبو داود، والبيهقيّ، والترمذيّ في «الشمائل» - واللفظ لها-؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعود المرضى) ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 ويشهد الجنائز ويركب الحمار، ... الشريف والوضيع، والحرّ والعبد؛ حتّى لقد عاد غلاما يهوديا كان يخدمه؛ فقعد عند رأسه؛ فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه. فقال له: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الّذي أنقذه من النّار» . رواه البخاريّ عن أنس رضي الله تعالى عنه. وعاد عمّه أبا طالب؛ وهو مشرك، وعرض عليه الإسلام. وقصّته في «الصحيحين» . وعدّت العيادة تواضعا؛ مع أنّ فيها رضا الله تعالى وحيازة الثواب؛ ففي الترمذيّ وحسّنه مرفوعا: «من عاد مريضا؛ ناداه مناد طبت وطاب ممشاك، وتبوّأت من الجنّة منزلا» . ولأبي داود: «من توضّأ فأحسن الوضوء؛ وعاد أخاه المسلم محتسبا بوعد من جهنّم سبعين خريفا..» إلى غير ذلك!!! لما فيها من خروج الإنسان عن مقتضى جاهه وتنزّهه عن مرتبته إلى ما دون ذلك. وكان صلّى الله عليه وسلم يدنو من المريض ويجلس عند رأسه ويسأل عن حاله؛ ويقول: «كيف تجدك!!» أو «كيف أصبحت» ، أو «كيف أمسيت» ، أو «كيف هو» ، ويقول: «لا بأس عليك، طهور إن شاء الله تعالى» ، أو «كفّارة وطهور» . وقد يضع يده على المكان الذي يألم؛ ثم يقول: «باسم الله أرقيك من كلّ داء يؤذيك، الله يشفيك» . انتهى ذكره العلامة ملا علي قاري في «جمع الوسائل» . ( [ويشهد الجنائز] ، ويركب الحمار) ؛ بل عريانا أحيانا؛ مع قدرته على غيره من الناقة والفرس والجمل، وربما كان يردف أحدا معه؛ كما سيأتي. وتأسّى به في ذلك أكابر السلف ... أخرج ابن عساكر أنّ سالم بن عبد الله بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 ويجيب دعوة العبد. وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف وعليه إكاف. عمر كان له حمار هرم، فنهاه بنوه عن ركوبه فأبى، فجدعوا أذنه، فأبى أن يدعه وركبه، فجدعوا الآخرى، فركبه فقطعوا ذنبه؛ فصار يركبه مجدوع الأذنين مقطوع الذنب. قال الباجوري: وقد كان أكابر العلماء قبل زماننا هذا يركبون الحمير، واطّردت عادتهم الآن بركوب البغال. انتهى. والآن مع ظهور هذه المخترعات الحديثة كالسيارات والطيارات؛ اكتفى النّاس بها وتركوا ركوب الدّواب إلّا قليلا. (ويجيب دعوة العبد) وفي رواية: المملوك، فيجيبه لأمر يدعوه له؛ من ضيافة وغيرها. وروى ابن سعد: كان يقعد على الأرض، ويأكل على الأرض، ويجيب دعوة المملوك. وهذا من مزيد تواضعه صلّى الله عليه وسلم وبراءته من جميع أنواع الكبر، ولله درّ الحافظ العراقي حيث يقول: يردف خلفه على الحمار ... على إكاف غير ذي استكبار يمشي بلا نعل ولا خفّ إلى ... عيادة المريض حوله الملا (وكان) راكبا (يوم بني قريظة) ، وفي رواية لأبي الشيخ: يوم خيبر ويوم قريظة والنضير، وبنو قريظة- بصيغة التصغير، والقاف والراء المهملة والظاء المشالة، ثمّ [تاء التأنيث]-: قوم من اليهود بقرب المدينة، أي: يوم الذهاب إليهم لحربهم، وكان ذلك عقب الخندق (على حمار مخطوم) في أنفه (بحبل) ؛ أي: مجعول له خطام- بكسر الخاء المعجمة- وهو: الزمام (من ليف) - بكسر اللام والفاء آخره- بشيء يتّخذ من النخل، ويفتل حبالا. (وعليه) أي: الحمار (إكاف) - بكسر الهمزة وكاف وألف وفاء آخره؛ بزنة كتاب، و [أكاف] بضمّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 و (الخطام) : الزّمام. و (الإكاف) : البرذعة. وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعى إلى خبز الشّعير ... كغراب، ويقال: وكاف- بالواو- وهو: رحل يوضع على ظهر الحمار للركوب عليه يسمّى في بعض البلدان ب «البرذعة» . وبعضهم يسمّيه «الشّدّ» ؛ وهو لذوات الحافر بمنزلة السّرج للفرس. وهذا نهاية التّواضع، وأيّ تواضع!! وقد ظهر له صلّى الله عليه وسلم من نصر الله عليهم، والظفر بهم، وبأموالهم ما هو معروف. وفيه أنّ ركوب الحمار ممّن له منصب شريف لا يخلّ بمروءته. وروى النسائيّ، وابن حبّان؛ عن ابن مسعود: أنّهم كانوا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعليّ زميلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان إذا جاءت عقبته؛ قالا: نحن نمشي عنك، فيقول: «ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الآخرة منكما» انتهى مناوي على «الشمائل» . (والخطام) - بخاء معجمة وطاء مهملة- وهو: (الزّمام) الذي تقاد به الدابّة، (والإكاف) - بكسر الهمزة وكاف؛ آخره فاء؛ بزنة كتاب- هو (البرذعة) - بالذال والدال- وهي: حلس تجعل تحت الرّحل، والجمع البراذع؛ هذا هو الأصل، وفي عرف زماننا: هي للحمار ما يركب عليه؛ بمنزلة السّرج للفرس، والرحل للبعير، وهذه البرذعة التي يركب عليها يسمّيها بعضهم بهذا الاسم؛ أعني برذعة، وبعضهم يسميّها: «الشدّ» - بالشين المعجمة والدال المهملة-، ويخصّ اسم البرذعة بما تحت الشدّ، فيجتمع على ظهر الحمار شيئين الشدّ؛ وهو ما يركب عليه والبرذعة: وهي ما تحت الشدّ على هذا القول الأخير. والله أعلم. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، وابن ماجه في «سننه» - واللفظ ل «الشمائل» -؛ (عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشّعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 والإهالة السّنخة، فيجيب، ولقد كان له درع عند يهوديّ فما وجد ما يفكّها حتّى مات. والإهالة: السّنخة) - بفتح السين وكسر النون؛ فالخاء المعجمة- أي: الدّهن المتغيّر الريح من طول المكث. ويقال الزّنخة- بالزاي بدل السين-. ويؤخذ من ذلك جواز أكل المنتن من لحم وغيره؛ حيث لا ضرر. (فيجيب) دعوة من دعاه، (ولقد كان له درع) - بكسر الدال المهملة- زاد البخاريّ: من حديد. وفي نسخة من «الشمائل» : كانت بالتأنيث وهي أولى، لأن درع الحديد مؤنّثة، لكن أجاز بعضهم فيه التّذكير. وهذه الدرع هي «ذات الفضول» التي أرسل بها إليه سعد بن عبادة- كما قاله ابن القيّم- رهنها صلّى الله عليه وسلم (عند يهوديّ) هو أبو الشحم؛ في ثلاثين صاعا من شعير؛ كما رواه البخاريّ، وأحمد، وابن ماجه، والطبرانيّ وغيرهم. وفي عشرين صاعا من طعام أخذه لأهله؛ كما قاله الترمذيّ في «الجامع» ، والنسائي في «سننه» . وجمع بينهما بأنّه أخذ أوّلا عشرين؛ ثم عشرة! أو لعلّها كانت دون ثلاثين وفوق العشرين، فمن قال «ثلاثين) جبر الكسر، ومن قال «عشرين) ألغاه. وهل هذه العشرون اشتراها منه، أو اقترضها منه!؟ قولان في ذلك، وكان الشراء إلى أجل سنة؛ كما في البخاري. وإنّما عامل صلّى الله عليه وسلم اليهوديّ ورهن عنده؛ دون الصحابة؟! لبيان جواز معاملة اليهود وجواز الرهن بالدّين؛ حتى في الحضر، وإن كان القرآن مقيّدا بالسّفر!! لكونه الغالب، ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا يأخذون منه رهنا، ولا يتقاضون منه ثمنا، فعدل إلى اليهودي لذلك. (فما وجد ما يفكّها) - بضم الفاء وتشديد الكاف- أي: يخلّصها (حتّى مات) وافتكّها بعده أبو بكر وسلّمها إلى عليّ. لكن روى ابن سعد؛ عن جابر أنّ أبا بكر قضى عداته، وأنّ عليّا قضى ديونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 و (الإهالة السّنخة) وفي رواية: الزّنخة؛ هي: الدّهن المتغيّر الرّيح من طول المكث. وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أهدي إليّ كراع.. لقبلت، ... وفي ذلك بيان ما كان عليه صلّى الله عليه وسلم من الزهد والتقلّل من الدنيا والكرم الذي ألجأه إلى رهن درعه. وحديث «نفس المؤمن مرهونة بدينه حتّى يقضى عنه» !! مقيّد بمن لم يخلّف وفاء، مع أنّه في غير الأنبياء. انتهى باجوري، و «جمع الوسائل» . (والإهالة) - بكسر الهمزة وتخفيف الهاء ولام- (: السّنخة) - بفتح السين المهملة وكسر النون وفتح الخاء المعجمة وهاء آخره-. (- وفي رواية: الزّنخة-) بزاي بدل السّين. قال الزمخشريّ: سنخ وزنخ إذا تغيّر وفسد، والأصل السين، والزّاي بدله. (هي) أي الإهالة السّنخة (: الدّهن المتغيّر الرّيح من طول المكث) يقال: سنخ الدهن وزنخ إذا تغيّر. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو أهدي) - بصيغة المجهول- أي: لو أرسل هديّة (إليّ كراع) - بضم الكاف؛ كغراب: ما دون الكعب من الدوابّ، وقيل: مستدقّ الساق من الغنم والبقر، يذكّر ويؤنّث، والجمع: أكرع؛ ثم أكارع. وفي المثل «أعطي العبد كراعا؛ فطلب ذراعا» ؛ لأنّ الذراع في اليد والكراع في الرجل، والذّراع خير من الكراع. (لقبلت) ، ولم أردّه على المهدي؛ وإن كان حقيرا، جبرا لخاطره ليحصل التحابب والتالف، فإنّ الردّ يحدث النّفور والعداوة، فيندب قبول الهديّة؛ ولو لشيء قليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ولو دعيت عليه.. لأجبت» . (ولو دعيت) بصيغة المجهول (عليه) أي: إليه- كما في نسخة من «الشمائل» - أي: لو دعاني إنسان إلى ضيافة كراع غنم (لأجبت» ) أي: الداعي ولم أتكبّر، لا على داع؛ ولو كان حقيرا، ولا على مدعوّ إليه؛ ولو كان صغيرا، لأن القصد من الإجابة تأليف الداعي؛ وزيادة المحبة. وعدم الإجابة يقتضي النّفرة؛ وعدم المحبّة، فيندب إجابة الدعوة؛ ولو لشيء قليل. وفيه حسن خلق المصطفى صلّى الله عليه وسلم وحسن تواضعه، وجبره للقلوب بإجابة الداعي، وإن قلّ الطعام المدعوّ إليه جدا، والحثّ على المواصلة والتّحابب. وفي «الجامع الصغير» إنّ هذا الحديث بهذا اللفظ رواه الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن حبان؛ عن أنس. قال المناوي في «شرح الجامع» : ورواه البخاريّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في مواضع من «النكاح» وغيره؛ بلفظ: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» . وقال المناوي في «شرح الشمائل» : قال الحافظ ابن حجر: زعم بعضهم 1- أنّ المراد بالكراع المكان المعروف ب «كراع الغميم» محلّ بين الحرمين، و 2- أنّه أطلق ذلك مبالغة في الإجابة؛ ولو بعد المكان، لكن الإجابة مع حقارة الشيء أبلغ في المراد. وذهب الجمهور إلى أنّ المراد كراع الشاة!! قال: وحديث «الشمائل» يؤيّده. انتهى. وقال في «شرح الجامع الصغير» : قال ابن حجر: وأغرب في «الإحياء» فذكر الحديث بلفظ «كراع الغنم» !! ولا أصل لهذه الزيادة. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 وعنه أيضا قال: حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رحل رثّ، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال: «اللهمّ؛ اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» . (و) أخرج ابن ماجه، والترمذيّ في «الشمائل» واللفظ له- بسند ضعيف، وله شاهد ضعيف؛ ذكره في «جمع الوسائل» - وكذا أخرجه البيهقيّ: كلهم؛ (عنه) أي: أنس بن مالك (أيضا) رضي الله [تعالى] عنه (قال: حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم) بعد الهجرة في حجّة الوداع (على رحل) أي: قتب (رثّ) - بفتح الراء المهملة وتشديد المثلاثة- أي: خلق بال، والرّحل للجمل كالسّرج للفرس، أي: حال كونه صلّى الله عليه وسلم راكبا على قتب بال، (وعليه) أي: الرّحل، كما هو أنسب بالسياق. ويؤيده قوله في رواية أخرى «على رحل وقطيفة» فأفادت أنّ ضمير «عليه» ليس للمصطفى [صلى الله عليه وسلم] . (قطيفة) أي: كساء من صوف له خمل، وهو: هدب القطيفة، أي: الخيوط التي بطرفه المرسلة من السّدى من غير لحمة عليها (لا تساوي) أي: لا يبلغ مقدار ثمنها (أربعة دراهم) ، لأنه في أعظم مواطن التواضع، لا سيّما والحجّ حالة تجرّد وإقلاع، وخروج عن المواطن سفرا إلى الله!! ألا ترى ما فيه من الإحرام!! ومعناه: إحرام النفس من الملابس؛ تشبيها بالفارّين إلى الله، ومن الوقوف الذي يتذكّر به الوقوف بين يدي الله تعالى، فكان التواضع في هذا المقام من أعظم المحاسن، لأن الحجّ من أعظم شعائره التواضع وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، ومنع النفس من التلذّذ والملابس؛ (فقال: «اللهمّ؛ اجعله) أي: اجعل حجّي هذا (حجّا) - بفتح الحاء وكسرها- (لا رياء فيه) الرياء: العمل لغرض مذموم؛ كأن يعمل ليراه الناس. (ولا سمعة» ) - بضمّ السين، فسكون الميم- وهي: أن يعمل العمل وحده، ثم يتحدّث بذلك ليسمع الناس ويصير مشهورا به؛ فيكرم ويعظم جاهه في قلوبهم. وفي الحديث: «من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به» ، فتضرّع صلّى الله عليه وسلم إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 و (القطيفة) : كساء له خمل. هذا.. وقد فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجّه ذلك مئة بدنة. ولمّا فتحت عليه مكّة ... الله وسأله عدم الرّياء والسمعة مع كمال بعده عنهما؛ تخشّعا، وتذلّلا، وعدّا لنفسه كواحد من الآحاد، وهذا من عظيم تواضعه، إذ لا تتطرّق السمعة إلّا لمن حجّ على المراكب النفيسة، والملابس الفاخرة، والأغشية المحبّرة، والأكواب المفضّضة ... إلى غير ذلك مما هو مكروه كما يفعله أهل زماننا؛ لا سيّما علماؤنا!!. هذا؛ مع أنّه صلّى الله عليه وسلم أهدى في هذه الحجة مائة بدنة، وأهدى أصحابه ما لا يسمح به أحد، ومنهم سيّدنا عمر بن الخطاب أهدى فيما أهدى بعيرا أعطي فيه ثلثمائة دينار فأبى قبولها. انتهى من المناوي على «الشمائل» . (والقطيفة) - بقاف مفتوحة فطاء مهملة؛ فمثنّاة تحتيّة ففاء فهاء آخره؛ بزنة: الصّحيفة- (: كساء) من صوف (له خمل) - بفتح الخاء المعجمة وإسكان الميم؛ بزنة فلس- وهو: هدب القطيفة، أي: الخيوط التي بطرفه المرسلة من السّدى من غير لحمة عليها. (هذا) أي: فعله صلّى الله عليه وسلم هذا واختياره رثّ الثياب والمركب؛ (و) الحال أنّه (قد فتحت عليه الأرض) ، وألقت أفلاذها من ذهب وغيره (وأهدى) كما روى مسلم عنه (في حجّه ذلك) عام حجة الوداع (مائة بدنة) أي: ناقة تقرّبا إلى الله تعالى، وإرشادا لمن يقتدي به، وإيماء إلى أن ترك تكلّفه في ثوبه ومركوبه لم يكن عن عجز وافتقار به، وقد نقل أنه صلّى الله عليه وسلم نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بقدر سنيّ عمره، وأمر عليّا كرّم الله وجهه بنحر البقية في يومه. (ولمّا فتحت عليه مكّة) في شهر رمضان الكريم لتسع عشرة ليلة خلت منه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 ودخلها بجيوش المسلمين.. طأطأ على رحله رأسه حتّى كاد يمسّ قادمته؛ تواضعا لله تعالى. وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب ما يمكنه، فمرّة فرسا، ... فيما رواه ابن إسحاق والبيهقيّ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والحاكم، والبيهقيّ، وأبو يعلي؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّه صلّى الله عليه وسلم لمّا فتحت عليه مكّة (ودخلها بجيوش المسلمين) وعددهم!! قيل: ثمانية آلاف، وقيل: عشرة آلاف، وقيل: اثنا عشر ألفا (طأطأ) - بهمزتين أولاهما ساكنة وثانيهما مفتوحة- أي: خفض وأرخى (على رحله رأسه) مفعول «طأطأ» (حتّى كاد) ؛ أي: قارب صلّى الله عليه وسلم (يمسّ) - بفتح الميم- كقوله تعالى لا يَمَسُّهُ [79/ الواقعة] أي: يصيب برأسه، أو قارب رأسه أن يمسّ (قادمته) ؛ أي: مقدّمة رحله، لأنّ الرحل له مقدّم ومؤخّر مرتفع عن محل الراكب، وفيها لغات: قادم، وقادمة، ومقدّم، ومقدمة؛ بكسر الدال مخففة، و [مقدّمة] فتحها مشدّدة- وكذا آخره الرّحل (تواضعا لله تعالى) ؛ مفعول لأجله، وفيه إيماء إلى ما يشير إليه قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) [البقرة] أي: متواضعين، لا متكبرين؛ كالجبارين. ومن تواضعه صلّى الله عليه وسلم أن ركب الجمل؛ دون الفرس وعلى رأسه مغفر فوقه عمامة سوداء، وأردف خلفه أسامة رضي الله تعالى عنه- كما سيأتي-. (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلّى الله عليه وسلم يركب ما يمكنه، فمرّة فرسا) . روى الشيخان؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ركوبه صلّى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة؛ وسيأتي. ولمسلم؛ من حديث سمرة ركوبه الفرس عريا حين انصرف من جنازة ابن الدّحداح، ولمسلم؛ من حديث سعد: كان للنبي صلّى الله عليه وسلم فرس يقال له «اللّحيف» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 ومرّة بعيرا، ومرّة بغلة، ومرّة حمارا، ومرّة يمشي راجلا حافيا، بلا رداء ولا قلنسوة، ليعود المرضى في أقصى المدينة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب الحمار عريا، ليس عليه شيء. وركب صلّى الله عليه وسلّم الفرس مسرجة تارة، وعريانة أخرى، (ومرّة) يركب (بعيرا) . روى الشيخان؛ من حديث البراء، ومن حديث ابن عبّاس: طاف النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير. (ومرّة) يركب (بغلة) . روى الشيخان؛ من حديث البراء: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يوم حنين. (ومرّة) يركب (حمارا) . روى الشيخان؛ من حديث أسامة أنّه صلّى الله عليه وسلم ركب على حمار إكاف ... الحديث. (ومرّة يمشي راجلا) ؛ أي: على قدميه (حافيا) : أي: بلا نعل (بلا رداء ولا قلنسوة، ليعود المرضى في أقصى المدينة) . روى الشيخان؛ من حديث ابن عمر كان يأتي قباء راكبا وماشيا. وروى مسلم؛ من حديث ابن عمر في عيادته صلّى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة، فقام وقمنا معه؛ ونحن بضعة عشر: ما علينا نعال؛ ولا خفاف؛ ولا قلانس؛ ولا قمص نمشي في السّباخ. (وكان صلّى الله عليه وسلم) فيما رواه ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن حمزة بن عبد الله بن عتبة مرسلا (يركب الحمار عريا) - بضمّ العين المهملة، وإسكان الراء- أي: (ليس عليه شيء) مما يشدّ على ظهره: من نحو إكاف وبرذعة؛ تواضعا، وهضما لنفسه وتعليما وإرشادا. قال ابن القيم: لكن كان أكثر مراكبه الخيل والإبل. انتهى «مناوي» . (وركب صلّى الله عليه وسلم الفرس مسرجة تارة) ؛ وهو الغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلم (وعريانة) أي: بلا إكاف تارة (أخرى) ؛ وهو قليل، واستعمال عريانة وصفا للفرس! غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 وكان يجري بها في بعض الأحيان. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخرج إلى العيد ماشيا، ويرجع ماشيا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتوكّأ إذا مشى. وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس براكب بغل ولا برذون. معروف، فإنّ الذي صرّح به أهل اللغة أنّه لا يقال فرس عريان؛ كما لا يقال رجل عري. (وكان يجري بها في بعض الأحيان) رواه الشيخان؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت فتلقّاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري، والسيف في عنقه؛ وهو يقول: «لن تراعوا» . وفي رواية: فلما رجع؛ قال: «ما رأينا من شيء؛ وإن وجدناه لبحرا» . أي: واسع الجري. (و) أخرج ابن ماجه؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلّى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد) أي: صلاته (ماشيا) ؛ لا راكبا، (ويرجع ماشيا) في طريق آخر ليسلّم على أهل الطريقين، وليتبرّكا به، وليقضي حاجتهما وليظهر الشّعار فيهما، وليغيظ منافقيها، فتخالف الطريق لذلك ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها، ولأنّ الطريقين يشهدان له، ففيه تكثير الشهود، وقد ندب المشي إلى الصلاة؛ تكثيرا للأجر. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي (كان صلّى الله عليه وسلم يتوكّأ إذا مشى) رمز له ابن عساكر. (و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛- واللفظ لها-. (عن جابر رضي الله تعالى عنه؛ قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم) يعودني؛ كما في رواية أبي داود (ليس براكب بغل ولا برذون) ، بل كان على رجليه ماشيا، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 وكان صلّى الله عليه وسلّم يردف خلفه عبده أو غيره، ... صرّحت به رواية البخاريّ وغيره؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه: أتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني، وأبو بكر وهما ماشيان، فكان صلّى الله عليه وسلّم لتواضعه يدور على أصحابه ماشيا. والمراد أنّ الركوب ليس عادة مستمرّة له، فلا ينافي أنّه ركب في بعض المرّات. والبرذون- بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح الذال المعجمة- هو: الفرس الأعجميّ، وهو أصبر من العربيّ، وفي «المغرب» : هو التركيّ من الخيل، والجمع البراذين وخلافها العراب، والأنثى برذونة. انتهى «باجوري، وجمع الوسائل» . (و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلّى الله عليه وسلم يردف) - بضمّ التحتية- (خلفه عبده أو غيره) ؛ ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا. قال الخفاجي في «نسيم الرياض؛ شرح شفاء القاضي عياض» : ذكروا أنّ جميع من أردفه النبي صلّى الله عليه وسلم على فرس؛ أو غيره في سفره وحضره بلغ أربعين: وهم 1- أبو بكر الصديق في الهجرة رضي الله عنه، و 2- عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ راجعا من بدر. و 3- علي كرّم الله وجهه؛ في حجة الوداع، و 4- أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما؛ مرجعه من عرفة. و 5- عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بين يديه، وأسباطه الثلاثة: 6- الحسين، و 7- الحسن، و 8- علي بن أبي العاص؛ مع: 9/ 10- غلامين من بني هاشم، وأولاد عبّاس الأربعة: 11- عبد الله، و 12- عبيد الله، و 13- الفضل، و 14- قثم، و 15- معاوية رضي الله عنه، و 16- معاذ بن جبل؛ على عفير. و17- أبو ذرّ، على حمار، و 18- زيد بن حارثة رضي الله عنه، و 19- ثابت بن الضحاك، و 20- الشريد بن سويد رضي الله عنه، و 21- سلمة بن الأكوع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 ......... و22- أبو طلحة الأنصاريّ؛ زوج أم سليم، و 23- سهيل بن بيضاء، و 24- عبد الله بن الزّبير، و 25- غلام مطلبيّ، و 26- أسامة بن عمير، و 27- صفية بنت حييّ؛ مقدمه من خيبر، و 28- أبو الدرداء، و 29- آمنة بنت أبي الصلت، و 30- أبو إياس، و 31- أبو هريرة، و 32- قيس بن سعد بن عبادة، و 33- خوات بن جبير، و 34- زيد بن أرقم، و 35- أم حبيبة الجهنية رضي الله عنها، و 36- جابر بن عبد الله، و 37- جبريل عليه السلام؛ على البراق في الإسراء انتهى. وفي «فتح الباري» للحافظ ابن حجر أنّ الحافظ يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن منده أفرد أسماء من أردفه النبي صلّى الله عليه وسلم في جزء؛ فبلغوا ثلاثين نفسا، وذكر غير الحافظ أنّه بلّغهم نحو الخمسين، وذكر كثيرا منهم العلّامة إبراهيم بن أحمد الخليل الزّبيدي اليمني في «المنهج الأعدل شرح مولد الأهدل» . قال الخفاجي في «نسيم الرياض» : وزاد ابن منده غير هؤلاء، ونظمهم أبو ذرّ بن موفّق الدين؛ فقال: وأردافه جمّ غفير فمنهم ... عليّ وعثمان شريد وجبريل وأولاد عبّاس ذوو الرّشد والهدى ... أسامة والدّوسيّ؛ وهو نبيل معاوية قيس بن سعد صفيّة ... وسبطاه ماذا عنهم سأقول!؟ معاذ أبو الدّردا صديّ وعقبة ... وآمنة إن قام ثمّ دليل كذلك خوّات الظّريف وسبطه ... عليّ ووجه النّقل فيه جميل أسامة والصّدّيق ثمّ ابن جعفر ... وزيد وعبد الله ثمّ سهيل كذا بنت قيس خولة وابن أكوع ... وقدرهم في العالمين جليل كذلك زيد جابر ثمّ ثابت ... فعن حبّهم والله لست أحول ثلاثة غلمان وزد معهم أبا ... إياس وحسبي الله وهو وكيل وقد شرح هذا النظم العلّامة شيخ الإسلام مفتي الديار اليمنية السيد: محمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 ......... أحمد عبد الباري الأهدل المراوعي؛ مؤلف «الكواكب الدريّة شرح متممة الآجرومية» المتوفى سنة: ثمان وتسعين ومائتين وألف هجرية رحمه الله تعالى في رسالة سماها «إتحاف النّجباء الظّراف بمن ثبت لهم من النبي صلّى الله عليه وسلم الإرداف» . والفقير مؤلّف هذا الكتاب سيعلّق على هذه الأبيات من الشرح المذكور آنفا: قوله وأردافه- بفتح الهمزة- جمع: رديف؛ أي الذين أردفهم النبي صلّى الله عليه وسلم. وقوله عليّ ذكر حديثه ابن القيّم في «الهدي النبوي» ، وذكر أبو داود والنسائي فيه حديثا آخر عن رافع بن عمر المزنيّ رضي الله عنه. وقوله شريد؛ أي: ابن سويد الثقفي أبو عمرو، ذكر حديثه البخاريّ في «الأدب المفرد» عنه. وقوله وجبريل قال في «الشرح» : صحّ أنّه حمله على البراق رديفا له، وذلك في ليلة الإسراء. ورواه الإمام أحمد بلفظ: على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. قال ابن حجر المكيّ: وأوّل ذلك بعضهم بما لا حاجة إليه، إذ ركوب جبريل معه لا ينافي كونه في خدمته. انتهى. وقوله وأولاد عبّاس، فأمّا عبد الله- بالتكبير-!! فروى حديثه الإمام أحمد، والترمذي؛ عنه رضي الله عنه. وأمّا عبيد الله- بالتصغير-!! فروى حديثه النسائيّ وغيره. وأمّا الفضل!! فحديثه في «الصحيح» ، وكذا قثم حديثه في «الصحيح» أيضا. قوله أسامة: أي ابن زيد بن حارثة حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم روى حديثه الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم. وقوله والدوسي؛ يريد أبا هريرة رضي الله تعالى عنه، وقصة إردافه ذكرها المحبّ الطبريّ في «سيرته» . وروى الإمام محمد بن جابر الفقيه في كتاب «الدلائل» له؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت رديف النبي صلّى الله عليه وسلم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 ......... فقال: «يا أبا هريرة؛ هلك الأكثرون، إنّ الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة ... » وذكر الحديث، وفيه قصّة الجمل الذي كلّمه في الحائط «1» . قوله معاوية قيس؛ ذكر في الشرح أحاديثهما بغير عزو. وقوله صفيّة روى حديثهما البخاريّ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. قوله وسبطاه: الحسن والحسين؛ ذكر حديثهما مسلم بن الحجّاج؛ عن سلمة بن الأكوع، وكذلك روى حديثهما مسلم، وأبو داود، والنسائيّ؛ من طريق مورق العجلي، عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما. قوله معاذ؛ أي: ابن جبل، روى حديثه الإمام أحمد والشيخان، والترمذيّ عنه؛ ورواه البزّار بسند رجاله ثقات؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قوله أبو الدرداء؛ ذكر في «الشرح» حديثه بدون عزو. قوله صدي أي: ابن عجلان أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ ذكر حديثه في «الشرح» غير معزوّ، ثم قال: وأصله في أبي داود والترمذي وغيرهما. وقوله عقبة؛ يعني ابن عامر. قال في «الشرح» : لم أقف على قصّة إردافه!! قال: ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسّير: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أردف عقبة بن عامر الجهني؛ قاله القسطلّانيّ. قوله وآمنة- بالنون- قيل: أمّه آمنة بنت وهب؛ وقيل غيرها؛ وهو أقرب لكنه لم يبيّنها في «الشرح» . قال: وبعضهم ضبطه أميّة- بضمّ الهمزة وبالياء التحتية المشدّدة- ويظهر لي أنّه وهم!! وقد جرى على ذلك إبراهيم بن أحمد الخليل في «شرح مولد الأهدل» فقال: وأميّة الغفاري. انتهى قوله كذلك خوّات؛ أي: ابن جبير الأنصاري رضي الله عنه؛ ذكره ابن منده، وقال: كان رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمّا خرج إلى بدر، فردّه من الرّوحاء، لأنّه اشتكى.   (1) تقدّم، وهو الذي شكا أصحابه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى منعهم عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ......... قوله: وسبطه علي أي: ابن أبي العاص بن الربيع؛ أمّه زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ذكر حديثه الزبير بن بكّار، وذكره في «مختصر الاستيعاب» لابن عبد البر. قوله أسامة؛ أي: ابن عمير الهذلي رضي الله عنه، روى حديثه الطبرانيّ برجال الصحيح عنه رضي الله عنه. قوله والصديق؛ أي: أبو بكر الصديق، روى حديثه الإمام أحمد، والبخاريّ وغيرهما؛ عن أنس رضي الله عنه. قوله ابن جعفر- يعني: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما- روى حديثه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود وغيرهم عنه. ورواه أيضا مسلم والنّسائي وغيرهما. قوله وزيد؛ أي: ابن حارثة حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، روى حديثه أبو يعلى عنه رضي الله عنه. قوله وعبد الله؛ يعني: ابن الزبير، روى حديثه البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد. قوله ثم سهيل؛ أي: ابن بيضاء رضي الله عنه ابن وهب بن ربيعة بن هلال، توفي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روى حديثه الإمام أحمد والطبرانيّ في «الكبير» ، وابن أبي شيبة وغيرهم عنه رضي الله عنه. قوله كذا بنت قيس خولة؛ وهي بنت قيس بن قهد- بالقاف- الأنصاري؛ تكنّى «أمّ محمد» وهي امرأة سيّدنا حمزة رضي الله عنه، روى لها البخاريّ والترمذي وغيرهما قال في «الشرح» ؛ ولم أقف على قصّة إردافه لها، ولعلّه في بعض مغازيه!. قوله وابن أكوع؛ هو سلمة بن عمرو بن وهب بن سنان، وهو الأكوع الأسلمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 ......... رضي الله عنه، روى حديث إردافه البخاريّ ومسلم عنه. ورواه أيضا الطبرانيّ بسند رجاله ثقات عنه. قوله كذلك زيد؛ يعني: ابن ثابت، أو زيد بن أرقم، أو زيد بن سهل؛ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنهم، إذ كلّ من هؤلاء الثلاثة قد عدّ فيمن أردفه النبيّ صلّى الله عليه وسلم!! ولم أقف على قصّة إردافه لكلّ منهم!! غير أنّ ذلك مصرّح به في كتب السّير. قوله جابر؛ يعني: ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، روى حديثه إبراهيم الحربيّ في «غريبه» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه. قوله ثم ثابت؛ يريد: ابن الضحّاك بن خليفة الأنصاري الأشهلي، قال أبو زرعة الرازي: هو من أهل الصّفّة، وممن بايع تحت الشجرة، وكان رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد. قوله ثلاثة غلمان روى حديثهم البخاريّ في «الصحيح» . قوله أبا إياس رضي الله عنه، روى حديثه ابن منده والحارث بن أبي أسامة عنه رضي الله عنه. انتهى. وهذا آخر التعليق من شرح الأبيات للسيد العلّامة محمد بن أحمد عبد الباري الأهدل رحمه الله تعالى. ثم رأيت في كتاب «دليل الفالحين شرح رياض الصالحين» للعلامة الشيخ محمد بن علي بن علّان المكّي رحمه الله تعالى ما نصّه: وقد تتبعت الذين أردفهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم معه على دابّته، فبلغت بهم فوق الأربعين، وجمعتهم في جزء سمّيته «تحفة الأشراف بمعرفة الأرداف» ، وقد نظمت اسم جماعة منهم، وأوردته في آخر ذلك الجزء؛ وها هو: لقد أردف المختار طه جماعة ... فسنّ لنا الإرداف إن طاق مركب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وتارة يردف خلفه وقدّامه، وهو في الوسط. ولمّا قدم صلّى الله عليه وسلّم مكّة استقبله أغيلمة بني عبد المطّلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه. أبو بكر عثمان عليّ أسامة ... سهيل سويد جبرائيل المقرّب صفيّة والسّبطان، ثمّ ابن جعفر ... معاذ وقيس والشّريد المهذّب وآمنة مع خولة وابن أكوع ... وزيد أبو ذرّ سما ذاك جندب معاوية زيد وخوّات ثابت ... كذاك أبو الدّرداء في العدّ يكتب وأبناء عبّاس وابن أسامة ... صديّ بن عجلان حذيفة صاحب كذلك جا فيهم أبو هريرة من روى ... ألوفا من الأخبار تروى وتكتب «1» وعدّ من الأرداف يا ذا أسامة ... هو ابن عمير ثمّ عقبة يحسب وأردف غلمانا ثلاثا كذا أبو ... إياس وأنثى من غفار تقرّب وأردف شخصا، ثمّ أردف ثانيا ... وما سمّيا فيما روي يا مهذّب أولئك أقوام بقرب نبيّهم ... لقد شرفوا طوبى لهم يا مقرّب (وتارة يردف) - بضمّ أوّله؛ من الإرداف- والرّدف والرّديف: الراكب خلف الراكب بإذنه؛ قاله في «المواهب» . (خلفه) أي: من ورائه (وقدّامه) أي: أمامه، (وهو) صلى الله عليه وسلم يكون (في الوسط) ، وقد بيّن ذلك في قوله: (ولمّا قدم صلّى الله عليه وسلم مكّة استقبله أغيلمة) - تصغير الغلمة: جمع الغلام- وهو شاذّ، والقياس غليمة؛ قاله الكرماني. انتهى «زرقاني» (بني عبد المطّلب، فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه) . رواه البخاريّ؛ عن عبد الله بن عبّاس، وقد بيّن في رواية أخرى هذين المبهمين، ففي البخاريّ: قال ابن عبّاس أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة وقد حمل قثم- بضم القاف وفتح المثلاثة الخفيفة- بين يديه، والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه؟! شكّ الراوي، ففي هذه الرواية الآخرى بيان المبهمين في الرواية الأولى.   (1) يستقيم الوزن بإبدال (هريرة) إلى (هرّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وعن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ... وفيه جواز الإرداف؛ وإن كانوا ثلاثة إذا لم تكن الدابّة ضعيفة لا تطيق ذلك. وقيل: يكره ما فوق الاثنين؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . (و) أخرج أبو داود؛ وغيره وفيه قصّة طويلة (عن) أبي الفضل (قيس بن سعد بن عبادة) بن دليم بن حارثة بن حرام بن حزيمة- بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي- ابن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي السّاعدي المدني. الصحابي بن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) الجواد بن الجواد، وهم أربعة مشهورون بالكرم؛ هو، وأبوه سعد، وجدّه عبادة، وجدّ أبيه دليم. وكان قيس من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب؛ وذوي الرأي الصائب؛ والمكيدة في الحرب والنّجدة، وكان شريف قومه غير مدافع، ومن بيت سيادتهم، وأحد السادات الطّلس- أي: لم يكن في وجهه لحية؛ ولا شعر- وكانت الأنصار تقول: وددنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا!! وكان جميلا، وكان بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمنزلة الشّرطيّ من الأمير- يعني: يلي أموره. ذكره النووي في «التهذيب» . قال الزهري وكان قيس يحمل راية الأنصار مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وله في جوده أخبار كثيرة مشهورة، ورووا أنّه كان في سريّة فيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فكان يستدين ويطعم النّاس!! فقالا: إن تركناه أهلك مال أبيه!! فهمّا بمنعه، فسمع سعد؛ فقال للنبي صلّى الله عليه وسلم: من يعذرني منهما؛ يبخّلان عليّ ابني!! وصحب قيس بعد ذلك عليّا في خلافته؛ وكان معه في حروبه، واستعمله على مصر. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم ستّة عشر حديثا؛ روى عنه الشعبيّ، وابن أبي ليلى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أراد الانصراف.. قرّب له سعد حمارا وطّأ عليه بقطيفة، فركب صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال سعد: يا قيس؛ اصحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال قيس: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اركب» ، فأبيت، فقال: «إمّا أن تركب، وإمّا أن تنصرف» ، فانصرفت. وفي رواية أخرى: «اركب أمامي؛ فصاحب الدّابّة أولى بمقدّمها» . وعمرو بن شرحبيل وغيرهم. وكانت وفاته سنة: ستين. وقيل: قبلها بسنة رحمة الله عليه ورضوانه. آمين. (قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم) على عادته في تفقّد أصحابه. قيل: كان سعد دعاه رجل ليلا فخرج له، فضربه بسيفه، فعاده صلّى الله عليه وسلم (فلمّا أراد الانصراف قرّب له سعد حمارا) ليركبه (وطّأ) - بشدّ المهملة وهمزة آخره- (عليه بقطيفة) ؛ بزنة صحيفة: كساء له خمل ووبر؛ وضعه على ظهر الحمار. (فركب صلّى الله عليه وسلم ثمّ قال سعد) لابنه (: يا قيس؛ اصحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: كن معه في خدمته. وفي ذا الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلم جاء على حمار مردفا أسامة خلفه؛ فسعد وهبه الحمار ليركبه وحده؛ ويبقى أسامة على الحمار الذي جاء به. (قال قيس: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اركب» ، فأبيت) أن أركب تأدّبا معه صلّى الله عليه وسلم؛ لا مخالفة لأمره. (فقال: «إمّا أن تركب، وإمّا أن تنصرف» ) ؛ أي: ترجع ولا تمشي معي، (فانصرفت. وفي رواية أخرى: «اركب أمامي، فصاحب الدّابّة أولى بمقدّمها» ) . إذ هو أدرى بسيرها، وسمّاه صاحبا باعتبار ما كان، لأنّه ابن مالكها سعد بن عبادة. وعند ابن منده: فأرسل ابنه معه ليردّ الحمار، فقال: «أحمله بين يديّ» . قال: سبحان الله؛ أتحمله بين يديك؟! قال: «نعم، هو أحقّ بصدر حماره» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 وفي «المواهب» : (عن المحبّ الطّبريّ: ... قال: هو لك؛ يا رسول الله. قال: «أحمله إذن خلفي» . وفي البخاريّ؛ من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خيبر وإنّي لرديف أبي طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة!! فقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّها أمّكم» . فشددت الرّحل وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما دنا ورأى المدينة؛ قال: «آيبون تائبون عائدون؛ لربّنا حامدون» . انتهى. والمرأة هي صفيّة بنت حييّ أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها. (و) ذكر العلّامة الشهاب القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنّيّة بالمنح المحمدية» ؛ نقلا (عن المحبّ الطّبريّ) في «مختصر السيرة» له؛ وهو الإمام الحافظ القدوة المحدّث الفقيه الشافعي، أبو العباس: أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر محبّ الدين الطّبري، ثم المكيّ شيخ الحرم، فرع دوحة كبيرة من دوحات الشّرف والرياسة؛ في العلم والحسب، ينتهي نسبهم إلى سيّدنا الحسين السّبط بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رسخت أصولهم في «طبرستان» ؛ من بلاد العجم في الشرق، وامتدت فروعهم إلى أمّ القرى في بلاد الحجاز، وتوارث هو وبنو أعمامه وأبناؤهم وأحفادهم مناصب التدريس والقضاء، والخطابة وإمامة الحرم المكي نحو ستة قرون. وكانوا أكثر أصحاب البيوتات بمكّة، حتّى كان الأشراف حكّام مكّة لا يعدلون بهم أحدا في الشرف والصهر والنّسب وكان نساء هذه الأسرة يبارين فحول الرجال في رفع منار العلم والاستباق إلى غايات المجد. قال المحبيّ في «الخلاصة» «1» : والطبريّون بيت علم وشرف؛ مشهورون في   (1) خلاصة الأثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ......... مشارق الأرض ومغاربها، وهم أقدم ذوي البيوتات بمكّة، وإنّ أوّل من قدم منهم مكّة الشيخ رضيّ الدين أبو بكر محمّد بن أبي بكر بن علي بن فارس الحسيني الطبري. قيل: سنة سبعين وخمسمائة، أو: في التي بعدها وانقطع بها، وزار النبي صلّى الله عليه وسلم، وسأل الله عنده أولادا علماء، هداة مرضيين؛ فولد له سبعة أولاد؛ وهم: محمّد، وأحمد، وعلي، وإبراهيم، وإسحاق وإسماعيل، ويعقوب. وكانوا كلّهم فقهاء علماء مدرّسين. انتهى، ذكره في مواضع متفرقة. وكان دخول القضاء وإمامة مقام إبراهيم في بيتهم سنة: ثلاث وسبعين وستمائة؛ كما ذكره النجم بن فهد في تاريخه «إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى» ، والفاسيّ في «العقد الثمين» . وكان منصب الخطابة قديما ينتقل بمكّة في ثلاثة بيوت: الطبريين، والظهريين، والنّويريين. وبيت الطبريّ أقدمهم في ذلك؛ كما يعلم من كتب التواريخ. ومن خطباء الطبريين: المحبّ الطّبريّ، والبهاء الطبريّ، ولبني الطبري مزيد التقوى والورع والصلاح، وتوفّر أسباب الخير والفلاح؛ وكان مولد صاحب الترجمة سنة: خمس عشرة وستمائة، أو: ستّ عشرة. سمع من أبي الحسن بن المقيّر، وابن الجمّيزي، وشعيب الزعفراني، وعبد الرحمن بن أبي حرمي، وجماعة. وتفقّه ودرّس وأفتى وصنّف. وكان شيخ الشافعية ومحدّث الحجاز، إماما صالحا، زاهدا كبير الشأن، روى عنه البرزالي، وأبو الحسن العطّار، وولده قاضي مكّة؛ وصنّف التصانيف الجيّدة؛ منها: كتاب «الأحكام» في الحديث، وله «مختصر في الحديث» رتّبه على أبواب الفقه، وكتاب «خلاصة سيرة سيّد البشر، صلى الله عليه وسلم» ، وكتاب «صفوة القرى في صفة حجة المصطفى صلّى الله عليه وسلم وطوفه بأمّ القرى» ، وكتاب «السّمط الثمين في مناقب أمّهات المؤمنين» ، و «القرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 أنّه صلّى الله عليه وسلّم ركب حمارا عريا إلى قباء، وأبو هريرة معه، قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، قال: ما شئت يا رسول الله، قال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقعا [جميعا] ، ثمّ ركب صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، قال: ما شئت لقاصد أمّ القرى» ، و «الرياض النّضرة في مناقب العشرة» ، و «ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى» . ومن طالع «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للفاسي علم ما لهم من المناقب، وما اشتملوا عليه من المناصب. وتوفي في جمادى الأولى سنة: أربع وسبعين وستمائة، أو: أربع وتسعين وستمائة. وقع تحريف في «سبعين» ؛ هل هي بتقديم السين!! رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار. آمين. (أنّه صلّى الله عليه وسلم ركب حمارا عريا) - بضمّ العين وإسكان الرّاء- أي: ليس عليه إكاف، ولا يقال ذلك في الآدمي، إنّما يقال عريان- كما تقدّم قريبا-. (إلى قبا) - بالضمّ-: موضع بالمدينة، وفيه لغات جمعها القائل: حرا وقبا أنّث وذكّرهما معا ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصّرفا وزدت عليها أخذا من «شرح مسلم» قولي: وأفصحها التّذكير والصّرف يا فتى ... مع المدّ فاعلم إنّ ذلك لا يخفى (وأبو هريرة معه، قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟!» . قال: ما شئت) افعله (يا رسول الله. قال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب؛ فلم يقدر، فاستمسك) أي: تمسّك وتعلّق (برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوقعا [جميعا] ، ثمّ ركب صلّى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟!» ، قال:) افعل (ما شئت؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 يا رسول الله، فقال: «اركب» ، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلّق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقعا جميعا، فقال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، فقال: لا، والّذي بعثك بالحقّ لا رميتك ثالثا. وذكر الطّبريّ أيضا: أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله؛ عليّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ سلخها، وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ طبخها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليّ جمع الحطب» ، فقالوا: يا رسول الله؛ نكفيك العمل، فقال: «قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميّز عليكم، ... يا رسول الله! فقال: «اركب» فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلّق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا، فقال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟!» فقال: لا، والّذي بعثك بالحقّ؛ لا رميتك) أي: لا أرميك (ثالثا) . واستعمل الماضي موضع المضارع، لأنّه قوي عنده أنّه إذا ركب وقعا جميعا أيضا. (وذكر) المحبّ (الطبريّ أيضا) في الكتاب المذكور (أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان في سفر وأمر أصحابه) أي: الجنس (بإصلاح شاة) أي: تهيئتها للأكل. (فقال رجل: يا رسول الله؛ عليّ ذبحها. وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ سلخها. وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ طبخها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «عليّ جمع الحطب» ) من الوادي. (فقالوا: يا رسول الله؛ نكفيك العمل!! فقال: «قد علمت أنّكم تكفوني) - بحذف إحدى النونين تخفيفا- والأصل: تكفونني (ولكن أكره أن أتميّز عليكم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 فإنّ الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه» ) . وقال في «الشّفا» : (عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: وفد وفد النّجاشيّ، ... فإنّ الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه» ) ؛ أي: لا يثني عليه إذا رآه متميّزا. والمكروه له تعالى في الحقيقة هو تميّز العبد؛ لا رؤيته تعالى لذلك. (وقال) القاضي عياض (في) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلم» : وأخرجه ابن إسحاق، والبيهقي في «الدلائل» (؛ عن أبي قتادة) الأنصاريّ السّلمي- بفتحتين-: الحارث؛ ويقال: عمرو- أو النعمان- بن ربعي- بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة-. شهد أحدا وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرا، وكان يقال له «فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . ومات سنة: أربع وخمسين. وقيل: ثمان وثلاثين، والأوّل أصحّ، وأشهر وعمره: سبعون سنة- بتقديم السين المهملة على الموحدة-. روى له أحمد، وأصحاب «السنن» (رضي الله تعالى عنه؛ [قال] : وفد) أي: قدم (وفد) - بسكون الفاء-: اسم جمع بمعنى: وافدين (النّجاشيّ) - بفتح النون وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها- واسمه: أصحمة، والنّجاشيّ اسم لكلّ من ملك الحبشة، وكان رضي الله عنه ممن أعان المسلمين لمّا هاجروا إليه، وكاتب النبي صلّى الله عليه وسلم، وأهدى له الهدايا، وزوّجه ب «أمّ حبيبة» رضي الله تعالى عنها. وكتب له النبيّ صلّى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فأسلم على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سنة: ستّ. وكان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلم محبّة عظيمة، فلما توفي في رجب سنة: تسع من الهجرة نعاه النبي صلّى الله عليه وسلم وصلّى على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 فقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، قال: «إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحبّ أن أكافئهم» . ولمّا جيء بأخته من الرّضاعة الشّيماء ... جنازته، وبه استدلّ الشافعي رضي الله عنه على جواز الصلاة على الغائب، ولما توفيّ خلفه نجاشيّ آخر دعاه النبي صلّى الله عليه وسلم للإسلام، فأبى ومات كافرا. انتهى «خفاجي؛ على «الشفاء» وأرسل النّجاشيّ المسلم جماعة من عنده رسلا إليه صلّى الله عليه وسلم. (فقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يخدمهم) بنفسه تواضعا منه وإرشادا لغيره. (فقال له أصحابه:) نحن (نكفيك) خدمتهم؛ أي: نقوم عنك بذلك. فأبى، و (قال: «إنّهم كانوا لأصحابنا) الذين هاجروا إلى أرضهم (مكرمين، وأنا أحبّ أن أكافئهم) - بكسر الفاء وبعدها همزة مفتوحة- أي: أجازيهم على إكرامهم لأصحابنا بإكرامهم، ولا إكرام أعظم من تعاطيه صلّى الله عليه وسلم أمورهم بنفسه. (ولمّا) ؛ أي وحين (جيء) - مبنيّ للمفعول- أي: جاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم (بأخته من الرّضاعة) - بفتح الراء وكسرها- بمعنى الرضاع (الشّيماء) - بفتح الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية والميم وهمزة ممدودة- ويقال لها «الشّمّاء» - بتشديد الميم- من غير ياء؛ كما قاله المحبّ الطبري. وهي بنت حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: أختها. وزوج حليمة هو الحارث بن عبد العزّى، وحليمة أسلمت وعدّت من الصحابة واسمها- يعني «الشّمّاء» - جدامة- بجيم مضمومة ودال مهملة- وقيل: حذافة- بحاء مهملة وذال معجمة وفاء-. وقيل: خذافة- بمعجمتين أولاهما مكسورة-. واختلف في زوجها أبو النبي صلّى الله عليه وسلم من الرضاع! فلم يذكر أحد من أهل السير إسلامه، ولكن ذكره يونس بن بكير في روايته؛ فقال حدّثنا ابن إسحاق؛ عن أبيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 في سبايا هوازن، وتعرّفت له.. بسط لها رداءه، وقال لها: «إن أحببت ... عن بعض بني سعد بن بكر: أن الحارث بن عبد العزّى أبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرضاع قدم عليه بمكّة بعد بعثته؛ فقالت له قريش: يا حارث؛ ما يقول ابنك هذا!! فقال: ما يقول؟. قالوا: يزعم أنّ الله يبعث الخلق بعد الموت، وأنّ لله دارين، يعذّب فيهما من عصاه، ويكرم من أطاعه. وقد شتّت أمرنا وفرّق جماعتنا!! فأتاه فقال: يا بنيّ؛ مالك ولقومك يشكونك، ويزعمون أنّك تقول لهم: «إنّ النّاس يبعثون بعد الموت، ثمّ يصيرون إلى جنّة، أو نار؟!!» . فقال: «نعم، ولو كان ذلك اليوم يا أبت أخذت بيدك حتّى أعرّفك حديثك اليوم» . فأسلم وحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرّفني ما قال؛ لم يرسلني- إن شاء الله- حتّى يدخلني الجنّة. انتهى ذكره الخفاجي. (في سبايا) جمع سبية بمعنى: مسبية، أي: مأسورة (هوازن) اسم قبيلة؛ من بني سعد بن بكر، سمّيت باسم الأب الأعلى كتميم. وهو هوازن بن نصر بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن نصر. والمراد بكونها فيهم: أنّها كانت مسبيّة معهم أيضا؛ أي: أسيرة من جملة أسارى قبيلة هوازن المذكورة. (وتعرّفت له) يقال: تعرّف له: إذا أعلمه باسمه وشأنه، فهي أعلمته صلّى الله عليه وسلم أنّها أخته رضاعا، فقال لها صلّى الله عليه وسلم: «ما علامة ذلك!؟» . فقالت: عضّة كنت عضّيتنيها في ظهري، فعرف ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصدّقها. وجواب «لمّا» قوله (بسط [لها] رداءه) أي: فرشه لها لتجلس عليه؛ إكراما لها ومكافأة لفعلها، لأنها كانت تربّيه مع أمّها حليمة. (وقال لها) أي: على وجه التّخيير (: «إن أحببت) - أي: الإقامة عندي- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 أقمت عندي مكرمة محبّة، أو متّعتك ورجعت إلى قومك» ، فاختارت قومها، فمتّعها. وقال أبو الطّفيل: ... (أقمت عندي مكرمة) - بضمّ أوله وسكون ثانية وتخفيف رائه؛ اسم مفعول من أكرمه: إذا فعل به ما يحسبه من الإحسان؛ قولا وفعلا- (محبّة) - بضمّ أوّله وفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- أي: محبوبة وهو اسم مفعول؛ من أحبّه، ويقال «حبّه وأحبّه» بمعنى، والأفصح الأكثر في اسم المفعول: أن يكون من الثلاثي؛ فيكثر فيه محبوب، ويقال محبّ، لكنه هنا أحسن لاقترانه ل «مكرمة» ! وعليه الاستعمال؛ كقول الشاعر: وإذا نزلت فلا تظنّي غيره ... منّي بمنزلة المحبّ المكرم (أو متّعتك) أي: إن كنت تريدين الرجوع أعطيتك متاعا حسنا، وزوّدتك، (ورجعت إلى قومك» ) رجوعا مستحسنا. (فاختارت قومها، فمتّعها) وزوّدها، ورجعت إلى قومها. وتفصيله؛ كما قال أصحاب السّير: أنّه لما قدمت أخته الشّماء بنت الحارث بن عبد العزّى، وعرّفته صلّى الله عليه وسلم بنفسها فعرفها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه وخيّرها؛ فاختارت الرجوع لقومها وأرضها، وأن يمتّعها بالإحسان إليها، فأعطاها عبدا له اسمه «مكحول» وجارية، فزوّجت أحدهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقيّة. وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: إنّها أسلمت فأعطاها ثلاثة أعبد وجارية، ونعما وشاء، وهذا منه صلّى الله عليه وسلم صلة لرحمه، لأنّ الرضاع له حكم النسب والقرابة. انتهى خفاجي، وعلي قاري: كلاهما على «الشفاء» للقاضي عياض. (وقال أبو الطّفيل) - بضمّ الطاء المهملة، وفتح الفاء- منقول من مصغّر الطّفل، جعل علما لعامر بن واثلة- بالتاء المثلاثة- الكناني الصحابي آخر من مات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه، فبسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمّه الّتي أرضعته. من الصّحابة على الإطلاق، كان مولده عام واحد من الهجرة، ووفاته سنة مائة من الهجرة، روى أربعة أحاديث. قال بعضهم: آخر من مات من الصّحاب له ... أبو الطّفيل عامر بن واثله وقد روى هذا الحديث أبو داود في «سننه» بسند حسن؛ كما قال الخفاجيّ، أو صحيح؛ كما قال ملا علي قاري؛ كلاهما في «شرح الشفاء» ؛ عن أبي الطّفيل المذكور قال: (رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي: وكان جالسا [ذات] يوم بالجعرانة يقسم لحما؛ (وأنا غلام) في «كفاية المتحفّظ» : الغلام- عند بعض أهل اللغة-: الصبيّ إذا فطم إلى سبع سنين، ثم يصير يافعا إلى عشر حجج. وقد يطلق الغلام على الشابّ التامّ الرجولية. والمراد هنا الأوّل. (إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه) أي: قربت من مكانه الجالس فيه، (فبسط لها رداءه) ؛ تكريما لها. (فجلست عليه) أي: بأمره. (فقلت [لمن عنده] : من هذه؟ قالوا: أمّه الّتي أرضعته) فقيل: هي حليمة. وقيل: ثويبة. قال الحافظ الدّمياطيّ: لا يعرف لحليمة صحبة؛ ولا إسلام، وزوجها لا نعرف له صحبة؛ ولا إسلاما، وما قاله ابن عبد البرّ من «أنّها أتته صلّى الله عليه وسلم يوم حنين، وبسط لها رداءه، وروت عنه، وروى عنها عبد الله بن جعفر!! لم يصحّ، وابن جعفر لم يدركها، وإنّما التي جاءته هي بنتها الشّماء. وأمّا حليمة!! فإنّها جاءته صلّى الله عليه وسلم بمكّة قبل النبوة في زمن خديجة رضي الله عنها؛ فأعطاها أربعين شاة وجملا، ثم انصرفت لأهلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 وعن عمرو بن السّائب: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا يوما، ... وما هنا يقتضي مجيئها له صلّى الله عليه وسلم بعد النبوة بالجعرانة بعد انقضاء حرب هوازن؛ ومجيء وفدهم!! وليس كذلك، إنّما هي ابنتها. وجوّز الذهبيّ رحمه الله تعالى أن تكون المرأة التي جاءته ثويبة مولاة أبي لهب الآتي ذكرها. ويردّه أنّها ماتت سنة: سبع؛ قبل هوازن، ولما فتح مكة سأل عنها ابنها مسروحا فأخبره بموتها. وصحّح بعضهم خلافه؛ ذكره ابن الجوزي في «الوفا» . وصنّف الحافظ مغلطاي جزآ في إسلامها سمّاه «النعمة الجسيمة في إثبات إسلام حليمة» . وأيّده وارتضاه علماء عصره، وممّن أنكره أبو حيّان النحوي. والله أعلم. وصحّح ابن حبّان وغيره ما يدلّ على إسلام حليمة. انتهى من «شرح الشفا» . قلت: وابن عبد البرّ وابن حبّان كلّ منهما أجلّ من الحافظ الدمياطي، فالراجح عندي ما قاله ابن عبد البرّ؛ من إثبات إسلامها، وهو الذي اعتمده الحافظ مغلطاي. وأيّده علماء عصره؛ لا سيما وقد ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الإصابة» في الصحابيات أهل القسم الأول. والله أعلم. (وعن عمرو بن السّائب) ؛ كذا في «الشفاء» : عمرو- بالواو- وهو ابن راشد المصري «مولى بني زهرة» تابعيّ. ذكره الحافظ عبد الغني في «إكماله» فيمن اسمه عمرو، ووهّمه الحافظ المزّيّ؛ وقال: اسمه عمر- بضم العين-. قال الحلبي: وهو غلط صريح صوابه عمر بن السائب- بضم العين؛ وحذف الواو- وهو يروي عن أسامة بن زيد وجماعة، وعنه الليث، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث وغيرهم؛ ذكره ابن حبّان في «الثقات» . والحديث رواه أبو داود مرسلا عنه أنّه بلغه (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان جالسا يوما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 فأقبل أبوه من الرّضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه. ثمّ أقبلت أمّه، فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر، فجلست عليه. ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجلسه بين يديه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يبعث إلى ثويبة- مولاة أبي لهب-.. فأقبل أبوه من الرّضاعة) ؛ هو: الحارث بن عبد العزّى- وقد تقدّم الكلام فيه وفي إسلامه- (فوضع له) صلى الله عليه وسلم (بعض ثوبه) وفرشه له في الأرض ليجلس عليه، (فقعد عليه، ثمّ أقبلت أمّه) ؛ أي: حليمة، (فوضع لها شقّ) - بكسر الشين المعجمة- أي: طرف (ثوبه من جانبه الآخر؛ فجلست عليه؛ ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة) وهو عبد الله بن الحارث المذكور، (فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه) يعني: أنّه أجلس أباه عن يمينه وفرش له جانبا من ثوبه، وأجلس أمّه حليمة عن يساره وفرش تحتها جانبا من ثوبه؛ إكراما لها، فلما قدم أخوه- وهو عبد الله بن الحارث بن عبد العزّى- لم يبق جانب من ثوبه يفرشه، فقام له صلّى الله عليه وسلم لئلا يقصّر في توقيره عن أبويه!! وفيه دليل على أنّه يجوز القيام تعظيما لمن يستحقّ التعظيم؛ خلافا لمن قال «إنّه مكروه مطلقا» !! وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلم عدّة مرضعات؛ منها حليمة هذه، وثويبة مولاة أبي لهب الآتية، وخولة بنت المنذر بن زيد بن لبيد، وأمّ أيمن، وثلاث نسوة من سليم؛ تسمّى كلّ واحدة منهنّ «عاتكة» ، وهو أحد القولين في قوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك» وقيل: إنّهنّ جدّات له. ومعنى عاتكة: متضمّخة بالطيب؛ قاله الخفاجي. (وكان صلّى الله عليه وسلم يبعث) أي: يرسل من المدينة إلى مكة (إلى ثويبة) - بضمّ مثلّثة وفتح واو، فسكون تحتيّة فموحّدة- (: مولاة أبي لهب) - بفتح الهاء- أي: جارية عتيقة لأبي لهب، وهذه كنيته، واسمه عبد العزّى، وكنّي «أبا لهب» ! لتوقّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 مرضعته بصلة وكسوة، فلمّا ماتت.. سأل: «من بقي من قرابتها؟» ، فقيل: لا أحد) . لونه، وذكر بهذه الكنية في القرآن!! للإشارة إلى أنّه جهنّميّ. (مرضعته) صلى الله عليه وسلم؛ وهو بالجرّ بدل، أو عطف بيان من ثويبة (بصلة) - بكسر الصاد المهملة- أي: نفقة (وكسوة) - بكسر الكاف- أي: ثياب تلبسها. (فلمّا ماتت) بمكّة بعد هجرته عليه الصلاة والسلام (سأل: «من بقي) أي: عمن بقي (من قرابتها؟» ) ؛ فهو منصوب بنزع الخافض، أو تقديره. وقال: من بقي من قرابتها!! فهي إمّا موصولة؛ أو استفهامية. (فقيل: لا أحد) أي: ما بقي منهم أحد، وما ذكر من حسن الوفاء وصلة الرحم. وفيه من مكارم أخلاقه وحسن عهده صلّى الله عليه وسلم ما لا يخفى. وهذا الحديث رواه ابن سعد؛ عن الواقدي؛ عن غير واحد من أهل العلم. وفي «الروض الأنف» كان يصلها من المدينة، فلما فتح مكّة؛ سأل عنها وعن ابنها «مسروح» ؟ فقيل: ماتا. وأما إرضاع ثويبة له صلّى الله عليه وسلم!! فثابت في «الصحيحين» ، وهي أوّل من أرضعته مع ابنها مسروح؛ المتقدّم ذكره قبل حليمة، وأرضعت قبله عمّه حمزة، وأبا سلمة. واختلف في إسلامها! فأثبته بعضهم، وعدّها في الصحابة، وأنكره أبو نعيم، وكان أبو لهب أعتقها لما بشّرته بولادة النبي صلّى الله عليه وسلم ورؤي في المنام؛ وهو يقول: خفّف عنّي العذاب بإعتاقي ثويبة لمّا بشرتني به. وفي السّير أنّه أعتقها قبل ولادته بدهر طويل. انتهى خفاجي، وملا علي قاري؛ على «الشفاء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 وكان صلّى الله عليه وسلّم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين. وكان له صلّى الله عليه وسلّم عبيد وإماء، وكان لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس. (و) أخرج ابن أبي شيبة في «مصنفه» ، والطبراني في «الكبير» - قال في العزيزي: إنّه حديث حسن- عن أميّة بن خالد بن عبد الله بن أسد الأموي يرفعه. وقال المنذري: رواته رواة الصحيح، وهو مرسل. انتهى. وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح. انتهى، لكن الحديث مرسل، وأميّة المذكور لم يخرّج له أحد من الستّة. ورواه عنه أيضا البغوي في «شرح السنة» . وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عندي والحديث مرسل. وفي «تاريخ ابن عساكر» أنّ أميّة هذا تابعيّ ثقة، ولّاه عبد الملك خراسان. قال الذهبيّ في «مختصره» : والحديث مرسل. وقال ابن حبان: أميّة هذا يروي المراسيل، ومن زعم أنّ له صحبة!! فقد وهم، وقال في «الاستيعاب» : لا يصحّ عندي صحبته. وفي «أسد الغابة» : الصحيح لا صحبة له، والحديث مرسل. وفي «الإصابة» : ليس له صحبة ولا رؤية. قاله المناوي على «الجامع الصغير» . (كان صلّى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر) أي: يطلب النصر والفتح (بصعاليك المسلمين) أي: بدعاء فقرائهم لقربه من الإجابة، بسبب انكسار قلوبهم لخلوّ أيديهم من الأموال. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان له صلّى الله عليه وسلم عبيد وإماء. وكان لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل مع خادمه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجلس مع الفقراء. روى: محمد بن سعد في «الطبقات» ؛ من حديث سلمى؛ قالت: كان خدم النبي صلّى الله عليه وسلم أنا، وخضرة، ورضوى، وميمونة بنت سعد؛ أعتقهنّ كلّهن. وإسناده ضعيف. وروى أيضا: أن أبا بكر بن حزم كتب إلى عمر بن عبد العزيز بأسماء خدم النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر بركة «أم أيمن» ، وزيد بن حارثة، وأبا كبشة، وآنسة، وشقران، وثوبان، وسفينة، ورباحا، ويسارا، وأبا رافع، وأبا مويهبة، ورافعا؛ أعتقهم كلّهم، وفضالة، ومدعما، وكركرة. ولمسلم من حديث أبي اليسر: «أطعموهم ممّا تطعمون، وألبسوهم ممّا تلبسون» ... الحديث. (و) أخرج أبو بكر بن الضّحاك في «الشمائل» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد ضعيف: (كان صلّى الله عليه وسلم يأكل مع خادمه) ؛ تواضعا لله وجبرا لخاطره. (و) في «كنوز الحقائق» - ورمز له برمز أبي داود-: (كان صلّى الله عليه وسلم يجلس مع الفقراء) ، ويجتنب مجالسة الأغنياء، ويقول: «اتّقوا مجالسة الموتى» . روى أبو داود؛ من حديث أبي سعيد: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري!! وفيه؛ فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ... الحديث. ولابن ماجه؛ من حديث خبّاب: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجلس معنا ... الحديث في نزول قوله تعالى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [52/ الأنعام] ... الآية وإسنادهما حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 وكان صلّى الله عليه وسلّم يواكل الفقراء والمساكين، ويفلي ثيابهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم. (و) في «كشف الغمّة» : (كان صلّى الله عليه وسلم يواكل الفقراء والمساكين) الفرق بين المسكين والفقير مشهور في مبحث الزكاة، إلّا أنّ كلّا منهما يطلق على الآخر من غير فرق في العرف، والمسكين- بكسر الميم وفتحها- مأخوذ من السكون، ويكون بمعنى المتذلّل الخاضع، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا» . ولا يجوز أن يطلق على النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه فقير أو مسكين، وإن أطلقه على نفسه الشريفة؛ قاله العلّامة الشهاب الخفاجي على «الشفا» . روى البخاريّ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد؛ إذا أتته صدقة بعث بها إليهم؛ ولم يتناول منها، فإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها. (ويفلي) - بفتح فسكون- مضارع فلى؛ ثلاثيّا. (ثيابهم) أي: يزيل منها القمل. وهذه الجملة لم أجدها في غير «كشف الغمّة» !!. (و) أخرج الإمام أحمد، وابن سعد، وأبو الشيخ وصحّحه، وابن حبّان؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يخيط) - بفتح المثناة التحتية وكسر الخاء المعجمة- (ثوبه) ، ورواية أبي الشيخ وابن سعد: ويرقع الثوب، (ويخصف) - بكسر الصاد المهملة- (نعله) ؛ أي: يخرز طاقا على طاق. قال في «مختصر النهاية» : وخصف النعل خرزها. (ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس؛ إرشادا للتواضع وترك التكبّر، لكنه مشرّف بالوحي والنبوة، مكرّم بالمعجزات والرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه قيل لها: ماذا كان يعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ... وفيه أنّ الإمام الأعظم يتولّى أموره بنفسه، وأنّه من دأب الصالحين. (و) أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ في «الشمائل» - واللفظ لها-، وأبو نعيم في «الحلية» : كلهم؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ أنّه قيل لها) ؛ أي: قال لها بعضهم (: ماذا كان يعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيته؟. قالت: كان بشرا من البشر) ، ذكرت ذلك تمهيدا لما تذكره بعد؛ الذي هو محطّ الجواب، ودفعت بذلك ما رأته من اعتقاد الكفّار أنّه لا يليق بمنصبه أن يفعل ما يفعله غيره من العامّة، وإنّما يليق أن يكون كالملوك الذين يترفّعون عن الأفعال العاديّة؛ تكبرا! وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [7/ الفرقان] فقالت: إنّه كان خلقا من خلق الله تعالى. أي: واحدا من بني آدم؛ يعتريه ما يعتريهم من الاحتياج إلى المأكل والمشرب، والمشي في السوق، والمحن والضرورات. (يفلي) - بفتح المثناة التحتية وسكون الفاء؛ بعدها لام مكسورة، وآخره ياء تحتية، مضارع «فلى» ثلاثيا؛ كما ضبطه غير واحد، بزنة: رمى يرمي. ويجوز [يفلي] ضمّ أوّله وسكون ثانيه مخفّفا، أو [يفلّي] فتحه مثقّلا- (ثوبه) أي: يفتّشه ليلتقط ما فيه مما علق فيه من نحو شوك، أو ليرقع ما فيه؛ من نحو خرق، لا نحو قمل، لأن أصل القمل من العفونة؛ ولا عفونة فيه! وأكثره من العرق، وعرقه طيب!! ولذلك ذكر ابن سبع- وتبعه بعض شرّاح «الشفاء» أنّه لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ومن قال «إنّ فيه قملا» ؟! فهو كمن نقصه، وقيل: إنه كان في ثوبه قمل ولا يؤذيه. وإنّما كان يلتقطه!! استقذارا له؛ كذا قرّره الباجوريّ على «الشمائل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وقال المناوي في شرح «الجامع الصغير» : ومن لازم التفلّي وجود شيء يؤذي في الجملة؛ كبرغوث وقمل، فدعوى أنّه لم يكن القمل يؤذيه؛ ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك، ومحاولة الجمع ب «أن ما علق بثوبه من غيره؛ لا منه» !! ردّت بأنّه نفي أذاه، وأذاه غذاؤه من البدن، وإذا لم يتغذّ لم يعش، انتهى. ومن ثمّ قال الزرقاني؛ كالمناوي: ظاهره أنّ القمل يؤذيه. لكن قال ابن سبع ... إلى آخر ما تقدّم عن الباجوري. (ويحلب) - بضمّ اللّام ويجوز كسرها- (شاته، ويخدم) - بضمّ الدال وتكسر- (نفسه) عطف عامّ على خاصّ. ونكتته الإشارة إلى أنّه كان يخدم نفسه عموما وخصوصا، وهذا يتعيّن حمله على أنّه كان يفعل ذلك في بعض الأوقات؛ لا دائما، فإنّه ثبت أنّه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه، وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة. وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه، وأنّه لا يخلّ بمنصبه؛ وإن جلّ. انتهى؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . وذكر مثله المناويّ على «الجامع الصغير» . وقال ملا علي قاري في «جمع الوسائل» - بعد قوله «يخدم نفسه» -: إنّه فسّر بصبّ الماء في الوضوء والغسل على الأعضاء. انتهى. قال المناوي في «شرح الشمائل» : وفيه الترغيب في التواضع، وترك التكبّر، وخدمة الرجل نفسه وأهله. ولذا قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لأمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: يا أمير المؤمنين؛ إن سرّك أن تلحق بصاحبيك؛ فارفع القميص، وأنكس الإزار، واخصف النعل، وأقصر الأمل، وكل دون الشبع؛ تلحق بهما. وقد نظم معنى ذلك الحافظ العراقيّ حيث قال: يخصف نعله يخيط ثوبه ... يحلب شاته، ولن يعيبه يخدم في مهنة أهله كما ... يقطع بالسّكّين لحما قدما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوسع النّاس خلقا، وكان إذا دخل بيته يكون أكثر عمله فيه الخياطة، وكان يصنع كما يصنع آحاد النّاس، يشيل هذا، ويحطّ هذا، ويقمّ البيت، ويقطّع اللّحم، ويعين الخادم. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوسع النّاس خلقا) - بضمّتين- أي: بشرا وطلاقة وجه وإبداء سرور. (وكان إذا دخل بيته يكون أكثر عمله فيه الخياطة) . روى ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان يرقع ثوبه ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، وفي رواية له عنها: يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة. انتهى. وفيه أنّ الخياطة صنعة لا دناءة فيها، وأنّها لا تخلّ بالمروءة؛ ولا بالمنصب. (وكان يصنع) في بيته (كما يصنع آحاد النّاس) في بيوتهم. ثم فصّل بعض ما يفعله في البيت؛ فقال: (يشيل هذا) المتاع المحتاج إليه، (ويحطّ هذا) المتاع الذي انتهت منه الحاجة. (ويقمّ) - بضمّ القاف وكسرها وتشديد الميم- (البيت) أي: يكنسه ويزيل قمامته. (ويقطع اللّحم) . قال الحافظ العراقي: رواه الإمام أحمد؛ من حديث عائشة رضي الله عنها: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلا، فأمسكت وقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. أو قالت: فأمسكه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقطعنا. وفي «الصحيحين» ؛ من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في أثناء حديث: وايم الله؛ ما من الثلاثين ومائة إلّا حزّ له رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سواد بطنها. انتهى «شرح الإحياء» . (ويعين الخادم) ؛ مملوكا أو غيره، وهو يشمل الذكر والأنثى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب الحمار، ويخصف النّعل، ويرقع القميص، ويلبس الصّوف، ويقول: «من رغب عن سنّتي.. فليس منّي» . (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو الشيخ في «كتاب الأخلاق» : كلاهما؛ عن أبي أيوب الأنصاري، وفي سنده راويان ضعيفان: (كان صلّى الله عليه وسلم يركب الحمار) ، زاد ابن سعد في رواية: عريا؛ ليس عليه شيء. وذلك- مع ما فيه من غاية التواضع- إرشاد للعباد، وبيان أنّ ركوبه لا يخلّ بمروءة ولا رفعة، بل فيه غاية التواضع وكسر النّفس. (ويخصف) - بفتح المثناة التحتية- (النّعل) أي: يصلحها بترقيع وخرز. (ويرقع) - بالقاف؛ من باب قطع- (القميص) أي: يجعل مكان القطع خرقة من نوعه؛ ومن غير نوعه. (ويلبس) - بفتح الموّحدة- يقال: لبس الثوب يلبس- بفتح الباء الموحّدة؛ في المضارع، وكسرها في الماضي-، ويقال لبس يلبس- بفتح الموحّدة في الماضي، وكسرها في المضارع؛ بمعنى خلط-. وقد نظم الفرق بينهما بعضهم؛ فقال: لعين مضارع في لبس ثوب ... أتى فتح، وفي الماضي بكسر وفي خلط الأمور أتى بعكس ... لعينهما فخذه بغير عسر (الصّوف) ؛ رداآ وإزارا وعمامة. (ويقول) منكرا على من ترفّع عن ذلك: «هذه سنّتي، و (من رغب عن سنّتي) - أي: طريقتي وهديي- (فليس منّي» ) ؛ أي: من العاملين بطريقتي السالكين منهجي، وهذه سنّة الأنبياء قبله أيضا. روى الحاكم، والبيهقيّ في «الشعب» ؛ عن ابن مسعود: كانت الأنبياء يستحبّون أن يلبسوا الصوف، ويحلبوا الغنم، ويركبوا الحمر. وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: بحقّ أقول: إنّه من طلب الفردوس فغذاء الشعير له، والنوم على المزابل مع الكلاب كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 وكان صلّى الله عليه وسلّم يعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السّوق. وفيه ندب خدمة الرجل نفسه، وأنّه لا دناءة في ذلك. (و) في «الشفاء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يعقل) - بكسر القاف؛ بوزن يضرب- (البعير) ؛ أي: يربطه في رجله بالعقال؛ وهو ما يعقل به من الحبال. (ويعلف) - بكسر اللام- (ناضحه) - بنون وضاد معجمة وحاء مهملة- أي: بعيره الذي يستقي عليه الماء. (ويأكل مع الخادم) الخادم: متعاطي الخدمة؛ ذكرا كان أو أنثى، حرّا أو عبدا، وأكل الإنسان مع خادمه سنّة. قال القاضي زكريا؛ في «شرح الروض» : السنّة أن يجلس خادمه للأكل معه، ويلبسه من لباسه، فإن أبى فلينا وله مما يأكله. ومن الغريب ما نقل عن الشافعي: أنّه واجب للأمر به في الحديث. وفيه نظر!! (ويعجن معها) الضمير للخادم، لأنّه يطلق على الأنثى- كما مرّ-، والعجين من عمل النساء غالبا، (ويحمل بضاعته) - بكسر الموحّدة-: ما يشتريه (من السّوق) إلى محلّه في بعض أوقاته، إذ ثبت أنّه عليه الصلاة والسلام كان له خدم يقومون بما له من المرام. وفي ذلك دلالة على أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يدخل السوق، قالوا: وهو عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [20/ الفرقان] وكذا كان دأب الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولا ينافيه: «أحبّ البقاع إلى الله تعالى المساجد، وأبغضها إلى الله الأسواق» !! لأن المراد بغض ما فيها، أو النهي عن الجلوس فيها من غير حاجة. انتهى «خفاجي، وقاري» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 و (النّاضح) : البعير يستقى عليه، ثمّ استعمل في كلّ بعير. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: دخلت السّوق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاشترى سراويل وأخذه، فذهبت لأحمله، فقال: «صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله» . (والنّاضح) - بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة آخره- هو (: البعير يستقى عليه) الماء، والأنثى ناضحة؛ بالهاء. سمّي ناضحا!! لأنّه ينضح العطش. أي: يبله بالماء الذي يحمله؛ هذا أصله، (ثمّ استعمل) الناضح (في كلّ بعير) ؛ وإن لم يحمل الماء، وجمعه: نواضح. (و) أخرج الطبرانيّ في «الأوسط» ، وأبو يعلى في «مسنده» - بسند ضعيف جدّا- (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال: (دخلت السّوق) يوما؛ (مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم) فجلس إلى البزازين؛ (فاشترى سراويل) بأربعة دراهم. وسراويل فارسي معرب، يذكّر ويؤنّث، ولم يعرف فيه الأصمعيّ إلّا التأنيث. وجمعه سراويلات. والأشهر عدم صرفه. وكان لأهل السوق وزّان، فقال له: «زن وأرجح» . (وأخذه) أي: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم السراويل. قال أبو هريرة: (فذهبت) أي: قصدت (لأحمله) عنه؛ (فقال) صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة (: «صاحب الشّيء أحقّ بشيئه) - أصله بالهمزة، قلبت ياء وأدغمت فيها الياء- أي: بمتاعه المختصّ به (أن يحمله» ) . أي: أحقّ بحمله، لأنّه أبقى على تواضعه، وأنفى لكبره وتمام الحديث- بعد قوله «أن يحمله» -: «إلّا أن يكون ضعيفا؛ فيعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» . فقلت: يا رسول الله؛ إنّك لتلبس السراويل. قال: أجل في السّفر والحضر، وبالليل والنهار، فإنّي أمرت بالستر، فلم أجد أستر منه. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 ......... وكذا أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ؛ عن أبي يعلى، والدارقطني في «الأفراد» ، والعقيلي في «الضعفاء» ، ومداره على يوسف بن زياد الواسطي؛ وهو وشيخه ضعيفان. بل بالغ ابن الجوزيّ فذكر الحديث هذا في «الموضوعات» !! وتعقّبه السيوطيّ، واقتصر الحافظ ابن حجر وغيره على أنّه ضعيف فقط. لكن صحّ شراء النبيّ صلّى الله عليه وسلم للسراويل من غير هذا الطريق، فقد روى الإمام أحمد، وأصحاب «السنن الأربعة» ، وصحّحه ابن حبّان؛ عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبد بزّا من هجر، فأتينا مكّة، فجاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن بمنى فتساومنا سراويل؛ فبعناه منه فوزن ثمنه، وقال للوزّان: «زن وأرجح» . وروى النّسائيّ، وأحمد؛ عن أبي صفوان: مالك بن عميرة الأسدي: أنّه باع من النبي صلّى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر رجل سراويل؛ فلما وزن له أرجح له، وهذه القصّة غير التي ساقها المصنف، لأنّها بعد الهجرة، إذ أبو هريرة إنما جاء في خيبر!!. واختلف العلماء: هل لبس النبي صلّى الله عليه وسلم السراويل؛ أم لا!! فجزم بعض العلماء بأنّه لم يلبسه، ولكن اشتراه، ويستأنس له بما جزم به النّوويّ في «ترجمة عثمان بن عفان» ؛ من كتاب «تهذيب الأسماء واللغات» : أنه رضي الله عنه لم يلبس السراويل في جاهلية ولا إسلام إلّا يوم قتله؛ مخافة أن تظهر عورته، فإنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص شيء على اتباعه صلّى الله عليه وسلم. وفي «الهدي النبوي» لابن القيّم: الظاهر أنّه إنما اشتراه ليلبسه. قال الحافظ ابن حجر: وما كان ليشتريه عبثا، وإن كان غالب لبسه الإزار!! ويحتمل أنّه اشتراه لغيره! وفيه بعد. وكانوا يلبسونه في زمانه، وبإذنه، بل قال الشاميّ: يؤيّد ابن القيّم أن البيهقي في «الشعب» ، وابن الجوزي في «الوفاء» وغيرهما من العلماء أوردوا الحديث في «باب ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبسه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكانوا إذا رأوه.. لم يقوموا؛ لما يعلمون ... وقد ترجم البخاري في «كتاب اللباس» ؛ من «صحيحه» باب السراويل، وأورد فيه حديث المحرم: «لا تلبسوا القمص ولا السّراويل ... » الحديث، لكونه لم يرد فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما دلّ عليه الحديث: أنّ الحلال يجوز له لبس السراويل. وروى أبو نعيم؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «أوّل من لبس السّراويل إبراهيم الخليل» . قيل: ولذا كان أوّل من يكسى يوم القيامة؛ كما في «الصحيحين» . وروى الترمذيّ؛ وقال غريب، عن ابن مسعود رفعه: «كان على موسى يوم كلّمه ربّه كساء صوف، وكمّة صوف، وجبّة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» . والكمّة- بالضمّ-: القلنسوة الصغيرة. صحّحه الحاكم وردّه المنذريّ. انتهى من «شرح المواهب» و «شرح الشفاء» . وقد تقدّم الكلام على السراويل في «اللباس» . (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ قال: لم يكن شخص أحبّ) أي: أكثر محبوبيّة (إليهم) أي: إلى الصحابة (من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، لأنّه أنقذهم من الضلالة، وهداهم إلى السعادة، حتى قال عمر: يا رسول الله؛ أنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلّا من نفسي. فقال صلّى الله عليه وسلم: لا يكمل إيمانك حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك» . فسكت ساعة، ثم قال: حتّى من نفسي. فقال: «ألآن تمّ إيمانك يا عمر» . وقاتلوا معه آباءهم وأبناءهم، فقتل أبو عبيدة أباه، لإيذائه للمصطفى صلّى الله عليه وسلم. وتعرّض أبو بكر لقتل ولده عبد الرحمن يوم بدر ... إلى غير ذلك مما هو مبيّن في كتب السّير. (قال) أي أنس (: وكانوا إذا رأوه) أي: مقبلا (لم يقوموا) له (لما يعلمون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 من كراهته لذلك. وأمّا جلوس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن خارجة بن زيد رضي الله [تعالى] عنه قال: ... من كراهته لذلك!) ، أي: لأجل المعلوم المستقرّ عندهم، وهو كراهته لذلك القيام؛ تواضعا وشفقة عليهم، وخوفا عليهم من الفتنة؛ إذا أفرطوا في تعظيمه، وإسقاطا لبعض حقوقه المعيّنة عليهم، فاختاروا إرادته على إرادتهم، لكن كان لا يكره قيام بعضهم لبعض، ولذلك قال: «قوموا لسيّدكم» يعني: سعد بن معاذ سيّد الأوس. فأمرهم بفعله؛ لأنه حقّ لغيره فوفّاه حقّه، وكره قيامهم له! لأنّه حقّه فتركه تواضعا. وهذا دليل لما عليه محرّر المذهب الإمام محيي الدين النوويّ؛ من ندب القيام لأهل الفضل. وقد قام صلّى الله عليه وسلم لعكرمة بن أبي جهل لمّا قدم عليه، وكان يقوم لعديّ بن حاتم كلما دخل عليه؛ كما جاء ذلك في خبرين، وهما؛ وإن كانا ضعيفين؛ يعمل بهما في الفضائل. فزعم سقوط الاستدلال بهما وهم. وقد ورد أنّهم قاموا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم!! فيناقض ما هنا. إلا أن يقال في التوفيق: إنّهم إذا رأوه من بعد غير قاصد لهم لم يقوموا له. أو أنه إذا تكرّر قيامه وعوده إليهم لم يقوموا؟! فلا ينافي أنّه إذا قدم عليهم أوّلا قاموا، وإذا انصرف عنهم قاموا. انتهى «باجوري» . (وأمّا جلوس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ف) قد ذكره في قوله: (عن خارجة بن زيد) بن ثابت الأنصاريّ المدني التابعي، أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد سبقت ترجمته (رضي الله [تعالى] عنه) ، فيكون حديثه مرسلا، وهو من «مراسيل أبي داود» ؛ كما قال الخفاجي في «شرح الشفاء» . وذكره القاضي عياض في «الشفاء» بسنده من طريق أبي داود صاحب «السنن» ؛ (قال) : حدّثنا عبد الرحمن بن سلّام؛ قال: حدّثنا حجاج بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوقر النّاس في مجلسه؛ لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه. وكان مجلسه صلّى الله عليه وسلّم مجلس حلم وحياء، وأمانة محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزّناد؛ عن عمر بن عبد العزيز بن وهيب؛ قال: سمعت خارجة بن زيد يقول: (كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أوقر النّاس في مجلسه) أي: أعظمهم وقارا إذا برز للناس وجلس معهم، بخلاف ما إذا خلا مع أهله، أو مع خاصّته، فإنّه ينبسط معهم ويلاطفهم؛ يعني: أنّ هذا كان عادته ودأبه صلّى الله عليه وسلم بحيث لا يصدر عنه خلافه. و «كان» ؛ وإن كانت بحسب الأصل فعلا ماضيا؛ لكنّها قد تستعمل 1- للاستمرار نحو وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) [النساء] ، و 2- للتكرار نحو: كان حاتم يقري الضيف، لقرينة؛ وهو استعمال شائع، ولكثرته عدّه بعض الأصوليين معنى لها، ولم يحقّقه أحد كابن جني في كتاب «الخصائص» ! فإن أردته؛ فانظره. انتهى «خفاجي» . (لا يكاد يخرج) - بضمّ أوّله مضارع: أخرج- و (شيئا) مفعول، (من أطرافه) أي: أطراف بدنه كرجليه، ولا يكاد يخرج فيه مبالغة، أي: لا يخرج ولا يقرب من الخروج، ولذا عدل عن «لا يخرج» وهو أخصر. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» من حديث عليّ الطويل: (كان مجلسه صلّى الله عليه وسلم مجلس حلم) - بكسر الحاء، وسكون اللام- وهو: ملكة تورث التّؤدة وعدم العجلة عند حركة الغضب وداعية العقوبة. (و) مجلس (حياء) - بالمدّ- أي: منهم، فكانوا يجلسون معه على غاية من الأدب، فكأنّما على رؤوسهم الطير! (و) مجلس (أمانة) ؛ أي: يأمن المتكلّمون فيه على أسرارهم، فلا ينقل منه ما لا يحبّون إفشاءه؛ كما في الحديث: «المجالس بالأمانة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 وصيانة، وصبر وسكينة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ... وورد: «لا إيمان لمن لا أمانة له» . رواه الإمام أحمد، وابن حبّان في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله عنه. (و) مجلس (صيانة) ؛ غير موجود في «الشمائل» ! (و) مجلس (صبر) منه على جفائهم (وسكينة) ؛ غير موجود في «الشمائل الترمذية» ! والمراد أنّه مجلس أعمال هذه الأمور، أو مجلس اكتسابها، وذلك لأنّ مجلسه مجلس تذكير بالله، وترغيب فيما عنده من الثواب، وترهيب مما عنده من العقاب، فترقّ قلوبهم فيزهدون في الدنيا، ويرغبون في الآخرة. (لا ترفع) - بالبناء للمفعول- (فيه) أي: في مجلسه (الأصوات) ؛ أي: لا يرفع أحد من أصحابه صوته في مجلسه صلّى الله عليه وسلم إلّا بمجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ.. وما أشبه ذلك، لكونه محرّما عليهم؛ لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [2/ الحجرات] . فكانوا رضي الله عنهم على غاية من الأدب في مجلسه صلّى الله عليه وسلم. وأمّا كونه وقع رفع الصوت بحضرته في قصة الإفك!! فنادر لا يعتدّ به. (ولا تؤبن) - بضمّ المثناة الفوقيّة، فهمزة ساكنة وتبدل واوا، ففتح الموحّدة المخفّفة، وقد تشدّد مع فتح الهمزة فنون آخره؛ من الأبن- بفتح الهمزة- وهو العيب، يقال أبنه يأبنه- بكسر الباء وضمّها- أبنا: إذا عابه. أي لا تعاب (فيه) أي: في مجلسه (الحرم) - بضمّ الحاء وفتح الراء- جمع حرمة؛ وهي: كلّ ما يحرم هتكه. وأما استعماله بمعنى المرأة!! فعاميّة، وإن كان لها وجه؛ قاله الخفاجي. والمعنى: لا تعاب فيه حرم الناس بقذف، ولا غيبة ونحوهما، بل مجلسه مصون عن كلّ قبيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 يتعاطفون فيه بالتّقوى، ويتواضعون، ويوقّر الكبار، ويرحم الصّغار، ويؤثرون المحتاج، ويحفظون الغريب، ويخرجون أدلّة على الخير. قوله: (لا تؤبن فيه الحرم) ... (يتعاطفون فيه) أي: يعطف بعضهم على بعض، ويشفق عليه ويرحمه (بالتّقوى) ؛ أي: بسبب تقوى الله لا رياء؛ ولا سمعة، ولا خوفا، واتقاء شرّ. فالباء سببيّة، كقوله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [29/ الفتح] . (ويتواضعون) أي: يتواضع بعضهم لبعض، ولا يتكبّر أحد على أحد؛ فيخدمه ويخفض جناحه له، كما قال تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [54/ المائدة] وكما قال تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [29/ الفتح] (ويوقّر) فيه (الكبار) عمرا؛ أو قدرا. (ويرحم) فيه (الصّغار) بمقتضى الشفقة، روى الترمذي في «جامعه» ؛ عن أنس: «ليس منّا من لّم يرحم صغيرنا ولم يوقّر كبيرنا» . (ويؤثرون المحتاج) أي: يقدّمونه على أنفسهم في تقريبه للنّبي صلّى الله عليه وسلم ليقضي حاجته منه. (ويحفظون الغريب) من الناس، أي: يراعونه ويكرمونه، ويحفظون حقّه؛ لبعده عن بلاده وأصحابه، ومفارقة أولاده وأحبابه. (ويخرجون) من عنده (أدلّة) - بالدال المهملة- أي: علماء هداة يدلون الناس (على الخير) . قال المصنّف: (قوله: لا تؤبن) - بضمّ المثناة الفوقية وهمزة ساكنة وتبدل واوا؛ من الأبن- بفتح الهمزة- يقال: أبنه يأبنه- بكسر الباء وضمّها- أبنا: إذا عابه ورماه بقبيح، وأصل الأبن: العقدة في القسيّ تفسدها وتعاب بها. (فيه الحرم) - بضمّ الحاء المهملة وفتح الراء المهملة- جمع الحرمة؛ وهي: ما لا يحلّ انتهاكه وروي بضمّتين بمعنى النساء من الأهل، وما يحميه الرّجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 أي: لا تذكر فيه النّساء بقبيح، ويصان مجلسه عن الرّفث، وما يقبح ذكره. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس بين أصحابه كأنّه أحدهم، فيأتي الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل عنه. فطلب أصحابه منه أن يجلس مجلسا رفيعا ليعرفه الغريب فقال: «افعلوا ما بدا لكم» ، فبنوا له دكّانا من طين، فكان يجلس عليها. (أي: لا تذكر فيه النّساء بقبيح) من القول. (و) منه حديث النّهي عن شعر تؤبن فيه النساء، وكذا حديث الإفك «أشيروا عليّ في أناس أبنوا أهلي» . بل كان (يصان مجلسه عن الرّفث) أي: القول الفاحش. (و) عن (ما يقبح) - بضمّ الموحّدة- (ذكره) من لغو القول، وما لا يليق بمقام الكرام. انتهى ملا علي قاري؛ في «شرح الشفاء» وغيره. (و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه) ؛ مختلطا بهم (كأنّه أحدهم، فيأتي الغريب) من الخارج (فلا يدري أيّهم هو) صلى الله عليه وسلم (حتّى يسأل عنه) الحاضرين؛ فيقول: أيّكم ابن عبد المطلب؟ أو: أيّكم رسول الله!؟ فكانوا يقولون: هذا الأبيض المتّكىء. (فطلب أصحابه منه أن يجلس مجلسا رفيعا) أي: مرتفعا (ليعرفه الغريب) حال دخوله لما يرى من تميّزه في المجلس؛ (فقال: «افعلوا ما بدا لكم» ) ممّا يجريه الحقّ على أيديكم. (فبنوا له دكّانا) - بضمّ الدال المهملة وتشديد الكاف- أي: دكة مرتفعة (من طين، فكان يجلس عليها) صلى الله عليه وسلم. قال العراقي: رواه أبو داود، والنّسائيّ، من حديث أبي هريرة؛ وأبي ذرّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 و (الدّكّان) - كالدّكّة-: المكان المرتفع يجلس عليه، وهو المسطبة «1» . رضي الله تعالى عنهما. انتهى شرح «الإحياء» . (والدّكّان) - بزنة رمّان- (: كالدّكّة) - بفتح الدّال المهملة؛ في المعنى- وكلاهما معناهما: (المكان المرتفع) عن الأرض (يجلس عليه) . وفي «المصباح» : الدّكّان يطلق على الحانوت، وعلى الدّكّة التي يقعد عليها. قال الأصمعي: إذا مالت النخلة بني تحتها من قبل الميل بناء كالدّكان فتمسكها بإذن الله تعالى أي دكّة مرتفعة. وقال الفارابي: الطّلل ما شخص من آثار الدار؛ كالدّكان ونحوه. وأما وزنه!! فقال السّرقسطي: النون زائدة؛ عند سيبويه، وكذلك قال الأخفش. وهي: مأخوذة من قولهم «أكمة دكّاء» أي: منبسطة. وقال ابن القطّاع وجماعة: هي أصليّة؛ مأخوذة من دكنت المتاع: إذا نضدته. ووزنه على الزيادة فعلان، وعلى الأصالة فعال؛ حكى القولين الأزهريّ وغيره. فإن جعلت الدّكّان بمعنى الحانوت؛ ففيه التذكير والتأنيث. انتهى (وهو) أي: المكان المرتفع ( [المسطبة] ) - بفتح الميم وتكسر- أي: يسمّى بذلك عرفا. (و) أخرج البزّار في «مسنده» ؛ عن قرّة بن إياس- وهو حديث ضعيف؛ كما في العزيزي-:   (1) في «وسائل الوصول» : المصطبة. وكلاهما جائز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس.. جلس إليه أصحابه حلقا حلقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يتنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل من أصحابه، فيدلك بها وجهه وجلده. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا توضّأ.. كادوا يقتتلون على وضوئه؛ أي: الماء الّذي يتوضّأ به. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّموا عنده.. يخفضون أصواتهم، وإذا ... (كان صلّى الله عليه وسلم إذا جلس) يتحدّث (جلس إليه أصحابه حلقا حلقا) قال العزيزي: بكسر الحاء وفتح اللام. وقال المناوي: [حلقا] بفتحتين؛ على غير قياس، واحدته: حلقة- بالسكون-. والحلقة: القوم الذين يجتمعون متدبّرين، وذلك لاستفادة ما يلقيه من العلوم وينشره من الأحكام الشرعية. (و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة في حديث صلح الحديبية الطويل؛ من كلام عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه: (كان صلّى الله عليه وسلم لا يتنخّم نخامة) - بضمّ النون-: ما يصعد من الصدر إلى الفم (إلّا وقعت في كفّ رجل) منهم، أي (من أصحابه فيدلك بها) أي: بالنّخامة (وجهه وجلده) ؛ تبرّكا بفضلاته. زاد ابن إسحاق: ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه. وفي البخاريّ: وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره. (وكان صلّى الله عليه وسلم إذا توضّأ) الأولى حذف «كان، وما بعدها» ، لأنّه من جملة كلام عروة بن مسعود؛ إذ قال: وإذا توضّأ (كادوا يقتتلون على وضوئه) - بفتح الواو- (أي) فضلة (الماء الّذي يتوضّأ به) ، أو على ما يجتمع من القطرات، وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء. (وكان صلّى الله عليه وسلم إذا تكلّموا عنده يخفضون أصواتهم) ، إجلالا له وتوقيرا. (وإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 نظروا إليه.. لا يحدّون النّظر؛ تعظيما له صلّى الله عليه وسلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتخوّل أصحابه بالموعظة. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: ... نظروا إليه) صلى الله عليه وسلم (لا يحدّون) - بضمّ الياء المثناة وكسر الحاء المهملة- من الإحداد؛ وهو: شدّة النظر انتهى؛ من «شرح العيني، وزكريا الأنصاري: كلاهما على البخاريّ» : أي: لا يتأمّلونه ولا يديمون (النّظر) إليه (تعظيما له صلّى الله عليه وسلم) . وهذا من جملة كلام عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه، ثم قال- أي عروة- بعده حين رجع إلى أصحابه؛ مخبرا لهم بما رأى من الصحابة؛ من محبّتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وإجلالهم وتعظيمهم؛ قال: أي قوم؛ والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنّجاشي، والله إن رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا، والله؛ إن تنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر؛ تعظيما له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد!! فاقبلوها ... الحديث. (وكان صلّى الله عليه وسلم يتخوّل) - بفتح المثناة التحتية وفتح التاء الفوقية، والخاء المعجمة والواو المشدّدة المفتوحة واللام- أي: يتعهّد (أصحابه بالموعظة) أي: بالنصائح المفيدة؛ مخافة السامة، أي: الملالة عليهم. رواه الشيخان؛ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ مخافة السامة علينا. (و) أخرج أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» - واللفظ لها-، والبزار، والبيهقيّ وإسناده ضعيف: كلهم؛ (عن أبي سعيد الخدريّ) : سعد بن مالك بن سنان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده؛ (قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس في المسجد.. احتبى بيديه. قوله: (احتبى) الاحتباء: أن يجلس على ألييه ويضمّ رجليه إلى بطنه بنحو عمامة يشدّها عليهما وعلى ظهره. و (اليدان) بدل عمّا يحتبي به؛ من نحو عمامة. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد احتبى بيديه) وفي رواية: بثوبه. زاد البزّار: ونصب ركبتيه. وأخرج البزار أيضا؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: جلس عند الكعبة فضمّ رجليه وأقامها، واحتبى بيديه. ذكره ملا علي قاري. قال الباجوري؛ كالمناوي: هذا مخصوص بما عدا ما بعد صلاة الفجر، لخبر أبي داود بسند صحيح؛ عن جابر بن سمرة أنّه صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الفجر تربّع في مجلسه حتّى تطلع الشمس حسناء. أي: بيضاء نقيّة. ومخصوص أيضا بما عدا يوم الجمعة والإمام يخطب، للنهي عنه في حديث جابر ابن سمرة: «الاحتباء مجلبة للنّوم» ، فيفوته سماع الخطيب. وربما ينتقض وضوءه. (قوله: احتبى) ؛ قال الباجوريّ: (الاحتباء) - بالحاء المهملة- (أن يجلس على ألييه) - بفتح الهمزة- تثنية: ألية؛ وهي: العجيزة، والجمع أليات مثل سجدة وسجدات، ولا تكسر الهمزة؛ كما قاله ابن السّكّيت وجماعة. (ويضمّ رجليه إلى بطنه بنحو عمامة يشدّها) أي: العمامة (عليهما) ، أي: على رجليه (وعلى ظهره) . هذا معنى الاحتباء، وهذه كيفيته بحسب الاستعمال الكثير المعروف المألوف؛ ويقال: الحبوة جدار العرب. (واليدان) أي: والاحتباء باليدين (بدل عمّا يحتبي به؛ من نحو عمامة) . قال الحافظ ابن حجر: والاحتباء جلسة الأعراب، ومنه: الاحتباء حيطان العرب. أي: كالحيطان لهم في الاستناد، فإذا أراد أحدهم الاستناد احتبى، لأنّه لا حيطان في البراري، فيكون الاحتباء بمنزلة الحيطان لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 وكان أكثر جلوسه: أن ينصب ساقيه جميعا، ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة. وكان لا يعرف مجلسه صلّى الله عليه وسلّم من مجالس أصحابه؛ لأنّه كان حيث انتهى به المجلس جلس. وما رئي صلّى الله عليه وسلّم قطّ مادّا رجليه يضيّق بهما على أصحابه؛ إلّا أن يكون المكان واسعا. وكان أكثر جلوسه صلّى الله عليه وسلّم إلى القبلة. (و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان أكثر جلوسه) أي: هيئات جلوسه وحالات قعوده (: أن ينصب ساقيه جميعا، ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة) - بضمّ الحاء وكسرها-، والعامة تقول «حبية» . روى البخاريّ؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفناء الكعبة محتبيا بيديه؛ قاله العراقيّ. (وكان لا يعرف مجلسه صلّى الله عليه وسلم من مجالس أصحابه) ؛ لكثرة تواضعه وعدم تميّزه عليهم. روى أبو داود، والنّسائيّ، من حديث أبي هريرة؛ وأبي ذر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه؛ فيجيء الغريب؛ فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل ... الحديث. (لأنّه كان حيث انتهى به المجلس جلس) . رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث عليّ الطّويل. (وما رئي صلّى الله عليه وسلم قطّ مادّا رجليه) بين أصحابه (يضيّق بهما على) أحد من (أصحابه؛ إلّا أن يكون المكان واسعا) لا ضيق فيه. قال العراقيّ: رواه الدّارقطني في «غرائب مالك» ؛ من حديث أنس وقال: باطل. وروى الترمذيّ، وابن ماجه: لم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له. زاد ابن ماجه: «قطّ» . وسنده ضعيف. (وكان أكثر جلوسه صلّى الله عليه وسلم إلى القبلة) ، وكان يحثّ أصحابه بذلك؛ ويقول: «أكرم المجالس ما استقبل به القبلة» كما رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ، وابن عديّ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى؛ جميعه من «شرح الإحياء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها: أنّها رأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلمّا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتخشّع ... (و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظها- والبخاريّ في «التاريخ» : كلهم؛ (عن قيلة) - بفتح القاف وسكون التحتيّة ولام- (بنت مخرمة) - بفتح الميم وإسكان المعجمة-. قال في «الإصابة» : قيلة بنت مخرمة التميمية، ثمّ من بني العنبر، ومنهم من نسبها غنوية؛ فصحّف. هاجرت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم مع حريث بن حسان «وافد بني بكر بن وائل» . روى حديثها عبد الله بن حسّان العنبري، عن جدّتيه: صفية ودحيية؛ ابنتي عليبة. وكانتا ربيبتي قيلة، وكانت قيلة جدّة أبيها. أنّها قالت: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... الحديث بطوله أخرجه الطبرانيّ مطوّلا. وأخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» طرفا منه، وأبو داود طرفا منه أيضا، والترمذيّ؛ من أول المرفوع إلى قوله «يتعاونان» . قال: فذكر الحديث بطوله وقال: لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن حسّان. قال أبو عمر: هو حديث طويل فصيح. وقد شرح حديثها أهل العلم بالحديث؛ فهو حديث حسن. انتهى. (رضي الله تعالى عنها؛ أنّها رأت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد) بعد صلاة الصبح. (وهو قاعد القرفصاء) - مثلاثة القاف، والفاء؛ مقصورة- والقرفصاء بالضمّ ممدودة، والقرفصاء- بضمّ القاف والراء على الإتباع؛ وهي منصوب مفعول مطلق؛ أي: قعودا مخصوصا. وسيأتي معنى القرفصاء في كلام المصنّف. (قالت) أي قيلة (: فلمّا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم المتخشّع) - بالتشديد- أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 في الجلسة «1» .. أرعدت من الفرق. قوله: (القرفصاء) ... الخاشع خشوعا تامّا (في الجلسة) أي: في هيئة جلسته تلك وكيفية قعدته المتضمّنة إظهار عبوديّته؛ فهو خافض الطرف والصوت، ساكن الجوارح؛ لا على هيئة جلوس الجبّارين المتكبّرين؛ من التربّع، والتمدّد، والاتكاء، ورفع الرأس، وشماخة الأنف؛ وعدم الالتفات إلى المساكين، والاحتجاب عن المحتاجين. والتفعّل ليس للتكلّف؛ بل لزيادة المبالغة في الخشوع. (أرعدت) - بضمّ تاء المتكلم؛ مبنيّا للمجهول- أي: حصلت لي رعدة (من الفرق) - بفاء وراء مفتوحتين، وقاف- أي: الخوف والفزع الناشىء مما علاه صلّى الله عليه وسلم من عظم المهابة والجلالة، أو للتّأسّي به، لأنّه إذا كان مع كمال قربه من ربّه غشيه من جلاله ما صيّره كذلك فغيره؛ يجب أن يرعد فرقا وهذا نهاية المهابة. ودليل على أنّ مهابته لأمر سماويّ ليس بالتصنّع. والظاهر من سياق قصّة قيلة أنّه أوّل ملاقاتها للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم، ولذلك هابته. ووقع في قصّتها- بعد قولها: أرعدت من الفرق-: فقال له جليسه: يا رسول الله؛ أرعدت المسكينة!! فقال صلّى الله عليه وسلم- ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره-: «يا مسكينة عليك السّكينة» . فلما قاله أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرّعب انتهى. وقد تقدّم في «اللباس» بعض من قصّتها. (قوله: القرفصاء) - بضمّ القاف وإسكان الراء وضمّ الفاء وصاد مهملة؛ مع المدّ- وهذه اللغة هي الفصحى، والقرفصى- مثلث القاف والفاء مع القصر- وزاد ابن جني: القرفصاء- بضمّ القاف والراء مع المدّ- وقال: هو على الإتباع ضرب من القعود. قال الجوهري: فإذا قلت قعد فلان القرفصاء. فكأنّك قلت: قعد قعودا مخصوصا.   (1) في «وسائل الوصول» : جلسته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 هي: أن يجلس على ألييه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويضع يديه على ساقيه، وهي: جلسة المحتبي. وقيل: أن يجلس على ركبتيه منكبّا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبّط كفّيه. و (الفرق) : الخوف. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: ... و (هي: أن يجلس على ألييه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويضع يديه على ساقيه) ؛ كما يحتبى بالثوب؛ فتكون يداه مكان الثوب، (وهي: «جلسة المحتبي» . وقيل) - كما نقله الجوهري؛ عن أبي المهدي- هي (: أن يجلس على ركبتيه منكبّا) - بالنون بعد الميم وباء آخره- (ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبّط كفّيه) ، وهي «جلسة الأعراب» . (والفرق) - بفاء وراء مفتوحتين- (: الخوف) والفزع. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) ؛ كذا في النسخ التي بأيدينا من هذا الكتاب «وسائل الوصول» . والحديث بتمامه مذكور في «المواهب» !! قال شارحها الزّرقاني: أخرجه ابن ماجه، والحاكم؛ من حديث أبي مسعود البدريّ، والحاكم أيضا؛ من حديث جرير. وذكر في «الإحياء» قطعة منه إلى قوله «تأكل القديد» . وعزاه الزّبيديّ شارح «الإحياء» إلى الحاكم؛ من حديث جرير. وقال: صحيح على شرط الشيخين. وكذا ذكر هذه القطعة في «الشفاء» للقاضي عياض، وعزاها شرّاحه إلى الحاكم؛ من حديث أبي مسعود البدري أيضا. وراجعت «مستدرك الحاكم» فوجدته ذكر القطعة الّتي في «الإحياء» في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 ......... موضعين: الموضع الأول في «التفسير» ؛ من حديث جرير بن عبد الله البجلي. والموضع الثاني: في «المغازي» ؛ من حديث أبي مسعود البدري. كما راجعت ابن ماجه؛ فوجدته ذاكرا القطعة الّتي في «الإحياء» ؛ من حديث أبي مسعود البدري. وذكر النّوويّ في «رياض الصالحين» القطعة الأخيرة من الحديث معزوّة إلى مسلم؛ من حديث عياض بن حمار. قال شارحه ابن علّان: ورواه أبو داود، وابن ماجه؛ من حديث عياض أيضا، وكذا ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ «رياض الصالحين» ، ورمز له برمز مسلم وأبي داود وابن ماجه؛ عن عياض بن حمار. وراجعت مسلما وأبا داود وابن ماجه؛ فوجدتهم ذكروا الحديث كما قال النووي، وجعلوه من مسند عياض بن حمار. ولم أر أحدا من هؤلاء ذكر الحديث من مسند أنس بن مالك؛ كما قال المصنف!! إلّا الإمام الشّعراني في «كشف الغمّة» !! فإنّه ذكر القطعة الّتي ذكرها في «الإحياء» ؛ فقال: قال أنس رضي الله عنه وأتي صلّى الله عليه وسلم برجل ... الخ فتبعه المصنّف. نعم؛ رأيت في «سنن ابن ماجه» في «كتاب الزهد» من مسند أنس بن مالك القطعة الأخيرة من الحديث، وهي قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا، ولا يبغي بعضكم على بعض» . والظاهر أنّ نسخة «كشف الغمّة» فيها تحريف، وأنّ قوله «قال أنس بن مالك» صوابه: «قاله أنس بن مالك» . والضمير في «قاله أنس» يعود على الكلام قبله، لأنّه المرويّ عن أنس بن مالك. ولفظه: كان صلّى الله عليه وسلم إذا مرّ على الصبيان سلّم عليهم، ثمّ باسطهم ... فهذا الحديث هو الّذي رواه أنس بن مالك. أخرجه الإمام الترمذيّ عنه؛ كما ذكره في شرح «الإحياء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 أتي صلّى الله عليه وسلّم برجل فأرعد من هيبته صلّى الله عليه وسلّم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «هوّن عليك، فلست بملك، إنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» ، فنطق الرّجل بحاجته، فقام صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيّها النّاس؛ إنّي أوحي إليّ ... وقد تقدّم ذلك في الباب الرابع. فراجعه. والله أعلم. (أتي صلّى الله عليه وسلم برجل) يوم الفتح، (فأرعد من هيبته) أي: انتفض جسمه من مهابته (صلى الله عليه وسلم) عند وقوع بصره عليه، إذ قد تقدّم من وصفه: أنّه من رآه بديهة هابه. وما ساقه المصنّف هو لفظ «كشف الغمّة» و «الإحياء» !! وفي «المواهب» : ولقد جاء إليه صلّى الله عليه وسلم رجل فقام بين يديه؛ فأخذته رعدة شديدة ومهابة، (فقال له صلّى الله عليه وسلم: «هوّن عليك) - أي: خفّف عن نفسك هذا الخوف وأزله منك، ولا تجزع منّي-، (ف) - إني- (لست بملك) أي: متصوّر بصورة ملوك الأرض يهاب منهم! (إنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» ) ؛ أي: اللحم اليابس، وكانت قريش تقدّد اللحم وترفعه لوقت الحاجة. (فنطق الرّجل بحاجته) التي جاء لها، فسكّن عليه الصلاة والسلام روعه؛ شفقة، لأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسلب عن نفسه الملوكية؛ بقوله «فإنّي لست بملك» لما يلزمها من الجبروتية، وقال «أنا ابن امرأة» فنسب نفسه إليها، ولم يقل «رجل» !! زيادة في شدّة التواضع؛ وتسكين الروع، لما علم من ضعف النسّاء، ووصفها بأنها تأكل القديد!! تواضعا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة، وكأنّه قال «أنا ابن امرأة مسكينة تأكل مفضول الأكل؛ فكيف تخاف مني!!» . (فقام صلّى الله عليه وسلم) ؛ إذ رأى تواضع نفسه مع الرجل سكّن روعه فتمكّن من عرض حاجته عليه؛ آمرا لهم بالتواضع وبيّن أنّه بالوحي؛ (فقال: «يا أيّها النّاس؛ إنّي أوحي إليّ) وحي إرسال، وزعم أنّه وحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتّى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، ... إلهام!! خلاف الأصل؛ وخلاف الظاهر بغير دليل، والوحي: إعلام في خفاء. (أن تواضعوا) أي: تواضعكم، أي: آمركم به (ألا فتواضعوا) بخفض الجناح ولين الجانب (حتّى لا يبغي) أي: لا يجور ولا يعتدي؛ (أحد) منكم (على أحد) ولو ذمّيّا؛ أو معاهدا؛ أو مؤمّنا. والبغي: مجاوزة الحدّ في الظلم. وذلك لأنّ من انكسر وتذلّل امتثالا لأمر الله عزّ وجلّ حال ذلك بينه وبين الفساد والوقوع في الظلم والاعتداء والعناد، ف «حتّى» هنا بمعنى «كي» ؛ كما قال الطيبي، فهو علّة للتواضع، فيكون طريقا لترك البغي والتعدّي. (ولا يفخر) - بفتح الخاء المعجمة- والفخر: هو المباهاة بالمكارم والمناقب؛ من حسب ونسب.. وغير ذلك، سواء كان فيه، أو في آبائه. أي: لا يباهي (أحد) بتعداد محاسنه؛ كبرا، ورفع قدره على الناس؛ تيها وعجبا مستعليا بفخره (على أحد) ليس كذلك، فالخلق من أصل واحد، والنظر إلى العرض الحاضر الزائل ليس من شأن العاقل. قال المجد ابن تيمية: نهى الله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهما: البغي والفخر، لأن المستطيل إن استطال بحقّ؛ فقد افتخر، أو بغير حق فقد بغى. فلا يحلّ هذا ولا هذا، فإن كان الإنسان من طائفة فاضلة؛ كبني هاشم!! فلا يكن حظّه استشعار فضل نفسه، والنظر إليها، فإنّه مخطىء، إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فربّ حبشيّ أفضل عند الله من جمهور قريش. ثم هذا النظر يوجب بغضه وخروجه عن الفضل؛ فضلا عن استعلائه بهذا. واستطالته به. وأخذ منه أنّه يتأكّد للشيخ التواضع مع طلبته، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) [الشعراء] وإذا طلب التواضع لمطلق النّاس؛ فكيف لمن له حقّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 وكونوا عباد الله إخوانا» . وعن عبد الله بن زيد ... الصحبة وحرمة التودّد وصدق المحبّة؟!! لكن لا يتواضع معهم مع اعتقاد أنّهم دونه! فقد قال ابن عطاء الله السّكندري رحمه الله تعالى: من أثبت لنفسه تواضعا؛ فهو المتكبّر حقّا، فالتواضع لا يكون إلّا عن رفعة مع عظمة واقتدار؛ ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنّه فوق ما صنع، بل الذي إذا تواضع رأى أنّه دون ما صنع. انتهى ذكره المناوي على «الجامع الصغير» . (وكونوا) يا (عباد الله) فهو منادى بحذف الأداة، والخبر قوله (إخوانا» ) ، لا قوله «عباد الله» إذ هم عباده، فالقصد كونهم إخوانا. انتهى «زرقاني» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، و «الموطأ» ، و «الشمائل» ؛ (عن) أبي محمد (عبد الله بن زيد) بن عاصم بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن غنم بن مازن بن النّجّار الأنصاري المازني؛ يعرف ب «ابن أمّ عمارة» واسمها نسيبة- بفتح النون وضمها- وهو راوي 1- حديث: صفة الوضوء، و 2- حديث: الرجل يشكّ في الحدث؛ فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، و 3- حديث: صلاة الاستسقاء. وهو غير صاحب الأذان. لأنّ هذا اسمه عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وليس له إلّا حديث الأذان فقط، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة: اثنتين وثلاثين هجرية. بخلاف عبد الله بن زيد بن عاصم صاحب الترجمة؛ فإنّ له عدّة أحاديث، وشهد أحدا؛ وما بعدها من المشاهد، واختلفوا في شهوده بدرا!! فقال ابن منده، وأبو نعيم الأصبهاني: شهدها. وقال ابن عبد البرّ؛ لم يشهدها. ويقال: هو قاتل مسيلمة الكذّاب. شارك وحشيا في قتله؛ رماه وحشي بالحربة، وقتله عبد الله بن زيد بسيفه. خرّج له الجماعة أهل الكتب الستة. وروى عنه ابن أخيه عبّاد بن تميم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 رضي الله تعالى عنهما: أنّه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الآخرى. ويحيى بن عمارة، وواسع بن حبان وغيرهم. واستشهد يوم الحرّة بالمدينة المنورة سنة: ثلاث وستين، وهو: ابن سبعين سنة، وكان أبوه زيد صحابيا (رضي الله تعالى عنهما) ؛ ذكره النووي في «التهذيب» . (أنّه) أي: عبد الله بن زيد (رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم مستلقيا) ؛ أي: مضطجعا على قفاه (في المسجد) ، ولا يلزم منه نوم، ولا يخفى أنّه إذا حلّ الاستلقاء في المسجد حلّ الجلوس فيه بالأولى، فلهذا ذكر هذا الحديث في فصل جلوس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاندفع ما يقال «الاستلقاء ليس من الجلوس، فلا وجه لذكر هذا الحديث في هذا الباب» . (واضعا) حال من النبي صلّى الله عليه وسلم، وكذا قوله «مستلقيا في المسجد» حال من النبي؛ فيكون حالا مترادفة، أو «واضعا» حال من ضمير «مستلقيا» ؛ فتكون حالا متداخلة، أي: حال كونه واضعا (إحدى رجليه على الآخرى) ، وهذا يدلّ على حلّ وضع الرّجل على الآخرى حال الاستلقاء، مع مدّ الآخرى؛ أو رفعها. لكن يعارض ذلك رواية مسلم؛ عن جابر: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يستلقينّ أحدكم ثمّ يضع إحدى رجليه على الآخرى» . وجمع بأن الجواز لمن لم يخف انكشاف عورته بذلك، كالمتسرول مثلا، والنهي خاصّ بمن خاف انكشاف عورته بذلك؛ كالمؤتزر. وإنما اطلق النهي!! لأن الغالب فيهم الاتزار. نعم؛ الأولى خلافه في مجامع الناس، وبحضرة من يحتشمه، وإن لم يخف الانكشاف؛ لا كخدمه وأصاغر جماعته، والظاهر من حال المصطفى صلّى الله عليه وسلم أنّه إنّما فعله عند خلوّه ممن يحتشم منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وروى أبو داود بسند صحيح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى الفجر.. تربّع في مجلسه حتّى تطلع الشّمس حسناء؛ أي: بيضاء نقيّة. وهذا الجمع- كما قال الحافظ ابن حجر- أولى من ادّعاء النسخ، لأنه لا يصار إليه بالاحتمال، وأولى من زعم أنّه من خصائصه، لأنه لا يثبت بالاحتمال أيضا، ولأن بعض الصّحب كانوا يفعلونه بعد المصطفى صلّى الله عليه وسلم بالمسجد؛ ولم ينكره!! انتهى مناوي، وباجوري على «الشمائل» . (وروى أبو داود) في «كتاب الأدب» (بسند صحيح) ، وكذا رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي بتغيير في الألفاظ؛ كلهم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الفجر تربّع في مجلسه) أي: يذكر الله تعالى- كما في رواية الطبراني- (حتّى تطلع الشّمس حسناء؛ أي: بيضاء نقيّة) ؛ أي: زائلة عنها الصفرة التي تتخيل فيها عند الطلوع بسبب ما يعترض دونها على الأفق من الأبخرة والأدخنة. والمعنى أنّه كان يجلس متربّعا في مجلسه مستقبل القبلة يذكر الله تعالى إلى ارتفاع الشمس. وفيه استحباب الجلوس في المصلّى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، مع الاشتغال بذكر الله تعالى في هذه الجلسة، فإنّ ثواب ذلك عظيم جدّا. فقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود، وأبو يعلى؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بإسناد حسن- أنّه قال: «لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتّى تطلع الشّمس أحبّ إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل؛ دية كلّ واحد منهم اثنا عشر ألفا، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة العصر إلى أن تغرب الشّمس أحبّ إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل؛ دية كلّ واحد منهم اثنا عشر ألفا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يقوم من مجلس إلّا قال: «سبحانك اللهمّ وبحمدك، لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، وقال: «لا يقولهنّ أحد حيث يقوم من مجلسه.. إلّا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس» . وأخرج الترمذيّ- وقال: حسن غريب-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «من صلّى الفجر في جماعة ثمّ قعد يذكر الله تعالى حتّى تطلع الشّمس، ثمّ صلّى ركعتين؛ كانت له كأجر حجّة وعمرة تامّة ... تامّة ... تامّة» . قال في «الحرز» : قوله «ثمّ قعد يذكر الله تعالى» أي: استمرّ على حال ذكره؛ سواء كان قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا. والجلوس أفضل إلّا إذا عارضه أمر؛ كالقيام لطواف، أو صلاة جنازة، أو لحضور درس ونحوها. انتهى. وما ذكره من القيام للطواف!! جرى على مثله المحقّق الشهاب الرّمليّ. وفي «التحفة» لابن حجر: وأفتى بعضهم بأن الطواف بعد الصبح أفضل من الجلوس ذاكرا إلى طلوع الشمس وصلاة ركعتين، وفيه نظر ظاهر!! بل الصواب أنّ الثاني أفضل، لأنّه صحّ في الأخبار الصحيحة ما يقارب ذلك، ولأن بعض الأئمة كره الطواف بعد الصبح؛ ولم يكره أحد تلك الجلسة، بل أجمعوا على ندبها وعظيم فضلها. انتهى «شرح الأذكار» . (و) أخرج الحاكم في «المستدرك» - قال العزيزي: وهو حديث صحيح- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مجلس) ؛ أي: لا يفارقه (إلّا قال) - أي: قبل قيامه أو عقبه- (: «سبحانك اللهمّ) - ربي، وفي رواية: ربّنا- (وبحمدك) أي: سبّحتك (لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، وقال: «لا يقولهنّ) ؛ أي: هذه الكلمات (أحد حيث يقوم من مجلسه إلّا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس» ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس مجلسا، فأراد أن يقوم.. استغفر عشرا إلى خمس عشرة، ... أي: الذنوب الواقعة فيه مطلقا، أو خصوص الصغائر عند الجمهور إلّا حقوق الخلق؛ من نحو غيبة، أو أخذ مال، فلا بدّ من ردّه، أو استحلاله؛ قاله الحفني. قال المناوي: في رواية «أنه كان يقول ذلك ثلاثا» . قال الحليمي: كان يكثر أن يقول ذلك بعد نزول سورة الفتح الصغرى «1» عليه، وذلك لأن نفسه نعيت إليه بها. فينبغي لكلّ من ظنّ أنّه لا يعيش مثل ما عاش؛ أو قام من مجلس فظنّ أنّه لا يعود إليه أن يستعمل هذا الذكر. إلى هنا كلامه!. وقال الطيّبيّ: فيه ندب الذكر المذكور عند القيام، وأنّه لا يقوم حتّى يقوله، إلّا لعذر. قال القاضي عياض: وكان السّلف يواظبون عليه، ويسمّى ذلك «كفّارة المجلس» . (و) أخرج ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» ؛ عن أبي أمامة الباهليّ؛- وهو حديث حسن لغيره؛ كما قال العزيزي-: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا) ؛ أي: قعد مع أصحابه يتحدّث، (فأراد أن يقوم) منه (استغفر) الله تعالى (عشرا) من المرّات، وزاد (إلى خمس عشرة) مرّة، بأن يقول «أستغفر الله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه» كما ورد تعيينه في خبر آخر، فتارة يكرّرها عشرا، وتارة يزيد إلى خمس عشرة مرّة.   (1) هي السورة التي ذكر فيها النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ .... وأما الكبرى فهو التي ذكر فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ .... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 وروى ابن السّنّيّ: عشرين مرّة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف.. انحرف بجانبه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قام ... وهذه تسمّى «كفارة المجلس» أي: أنّها ماحية لما يقع فيه من اللّغط، وكان عليه الصلاة والسلام يقولها تعليما للأمة، وتشريعا، وحاشا مجلسه من وقوع اللّغط!!. (و) قد (روى ابن السّنّيّ) أيضا؛ عن عبد الله الحضرمي أنّه صلّى الله عليه وسلم كان إذا قام من المجلس استغفر الله (عشرين مرّة) ؛ فأعلن بالاستغفار. أي: نطق به جهرا؛ لا سرّا، ليسمعه القوم فيقتدوا به. وأخرج النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا، ولا تلا قرآنا، ولا صلّى إلّا ختم ذلك بكلمات فقلت يا رسول الله أراك ما تجلس مجلسا، ولا تتلو قرآنا ولا تصلّي صلاة إلا ختمت بهؤلاء الكلمات؟! قال: «نعم؛ من قال خيرا كنّ طابعا له على ذلك الخير، ومن قال شرّا كانت كفّارة له: سبحانك اللهمّ [و] بحمدك، لا إله إلّا أنت أستغفرك، وأتوب إليك» . انتهى. ذكره المناوي في «الشرح الكبير على الجامع الصغير» . (و) أخرج أبو داود بسند حسن؛ عن يزيد بن الأسود العامري السوائي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا انصرف) ؛ أي: من صلاته بالسّلام (انحرف بجانبه) ، بأن يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس- على ما عليه الحنفية-، أو عكسه- على ما عليه الشافعية-؛ فيندب ذلك للإمام إلّا إذا كان في مسجد المدينة فالأفضل موافقة الحنفية، لئلا يصير مستدبرا لقبره صلّى الله عليه وسلم. انتهى «عزيزي» . (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن وائل بن حجر الحضرمي رضي الله تعالى عنه قال: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا قام) ؛ أي: من جلسة الاستراحة في الصلاة؛ كما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 اتّكأ على إحدى يديه. وأمّا اتّكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على وسادة على يساره. وعن أبي بكرة ... المناوي. قال العزيزي: وظاهر الحديث الإطلاق، وهو المنقول في كتب الفقه (اتّكأ) - بالهمزة-، (على إحدى يديه) كالعاجن- بالنون-، فيندب ذلك لكلّ مصلّ من إمام أو غيره؛ ولو ذكرا قويّا، لأنه أعون وأشبه بالتواضع. وقوله «إحدى يديه» هو ما وقع في هذا الخبر، وفي بعض الأخبار «يديه» بدون «إحدى» ، وعليه الشافعية؛ فقالوا لا تتأدّى السنّة بوضع إحداهما مع وجود الآخرى وسلامتها؛ قاله المناوي في «شرحه الكبير على الجامع الصغير» . (وأمّا اتّكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ وهو الاعتماد على الشيء من وسادة ونحوها. (ف) قد ورد فيما أخرجه أبو داود في «اللباس» ، والترمذي في «الجامع» في «الاستئذان» ، وقال: حديث حسن غريب. وفي «الشمائل» - واللفظ لها-؛ (عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: أبصرته حال كونه (متّكئا على وسادة) - بكسر الواو- بوزن: إفادة- بمهملات- متعلّق ب «متّكئا» . وهي المخدّة- بكسر الميم وفتح الخاء المعجمة- وقد يقال: «وساد» بلا تاء، و «أساد» بالهمزة بدل الواو (على يساره) ؛ أي: حال كونها موضوعة على يساره، أي: جانبه الأيسر، وهو لبيان الواقع، وإلّا! فيحلّ الاتكاء يمينا أيضا. وقد بيّن الراوي في هذا الخبر ما اتكأ عليه النبي صلّى الله عليه وسلم وكيفية اتكائه. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ لها؛ كلهم (عن أبي بكرة) - بالهاء في آخره- كنّي بذلك!! لأنه تدلّى من حصن بالطائف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أحدّثكم ... إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ببكرة، وكان أسلم وعجز عن الخروج من الطائف إلّا هكذا. وهو صحابي مشهور بكنيته، واسمه نفيع- بضم النون وفتح الفاء؛ بعدها مثناة تحتية؛ مصغّر- ابن الحارث بن كلدة- بكاف ولام مفتوحتين- ابن عمرو بن علاج بن أبي سلمة، وهو عبد العزّى بن غيرة- بكسر الغين المعجمة- ابن عوف بن قسي- بفتح القاف وكسر السين المهملة- وهو ثقيف بن منبه الثقفي البصري. وأمّه سميّة أمة للحارث بن كلال؛ وهي أيضا أمّ زياد بن أبيه، فهو أخوه من الأم. وكان أبو بكرة من الفضلاء الصالحين، ولم يزل على كثرة العبادة حتى توفّي، وكان أولاده أشرافا بالبصرة في كثرة العلم والمال والولايات. قال الحسن البصري: لم يكن بالبصرة من الصحابة أفضل من عمران بن حصين؛ وأبي بكرة. واعتزل أبو بكرة يوم الجمل فلم يقاتل مع أحد من الفريقين. وروي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاريّ بخمسة، وانفرد مسلم بحديث. روى عنه ابناه: عبد الرحمن ومسلم، وربعيّ بن حراش، والحسن البصري، والأحنف. وكانت وفاته بالبصرة سنة: إحدى وخمسين، وقيل سنة: اثنتين وخمسين هجرية (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه. (قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أحدّثكم) وفي رواية: ألا أخبركم» وفي أخرى: «ألا أنبّئكم» ومعنى الكلّ واحد. قال الزين العراقي: ويؤخذ من ذلك أنّه ينبغي للعالم أن يعرض على أصحابه ما يريد أن يخبرهم به، وكثيرا ما كان يقع ذلك من المصطفى صلّى الله عليه وسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 بأكبر الكبائر؟» ، ... ويحتمل ذلك أمورا؛ منها: ألايجد عندهم قابليّة لما يريد إخبارهم به، لاحتمال كونهم مشغولين بشيء آخر. ومنها: حثّهم على التفرّغ والاستماع لما يريد إخبارهم به. ومنها: أن يكون وجد هناك سببا يقتضي التحذير بما يحذّرهم، أو الحضّ على الإتيان بما فيه صلاحهم. (بأكبر الكبائر» ) - وفي رواية: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟!! «ثلاثا» . والمراد: أن المصطفى صلّى الله عليه وسلم أعاد هذه الكلمة ثلاث مرّات؛ على عادته في تكرير كلامه المفيد؛ تأكيدا لينبّه السامع على احضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره- كما يأتي في وصف كلامه-. والكبائر؛ جمع كبيرة، واختلف في تعريفها!! فقيل: ما توعّد عليه بخصوصه بنحو غضب، أو لعن في الكتاب أو السنة. واختاره في «شرح اللّبّ» للقاضي زكريا الأنصاري. وقيل: ما يوجب حدّا. واعترض على الأوّل: بالظهار، وأكل الخنزير، والإضرار في الوصية؛ ونحو ذلك مما عدّ كبيرة؛ ولم يتوعّد عليه بشيء من ذلك. واعترض على الثاني: بالفرار من الزحف، والعقوق، وشهادة الزور، ونحوها من كلّ ما لا يوجب حدّا؛ وهو كبيرة. وقيل: كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدّين ورقّة الدّيانة؛ وعليه إمام الحرمين. وهو أشمل التعاريف. لكن اعترض عليه بأنه يشمل صغائر الخسّة؛ كسرقة لقمة، وتطفيف حبّة. والإمام إنّما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي. قال بعض الشافعية: والتحقيق: أنّ كلّ واحد من الأوجه اقتصر على بعض أنواعها. وبمجموع الأوجه يحصل ضابطها. وقد عدّوا منها جملة مستكثرة، حتّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ، قال الأذرعي في «التوسّط» : رأيت للحافظ الذهبي جزآ جمع فيه من الكبائر أربعمائة. انتهى. أقول: قد وقفت على ذلك الجزء، فلم أجده عدّ فيه إلّا نحو ثمانين!! انتهى (مناوي) وقد استوعب المحقّق ابن حجر الهيتميّ في «الزواجر» كلّ ما قيل فيه «إنّه كبيرة» ، أو انطبق عليه تعاريف الكبيرة. وقد عدّ منها أربعمائة ونيّفا وستين؛ في مجلدين ضخمين وهو مطبوع متداول!! فلينظره من أراده (قالوا: بلى) ، أي: حدّثنا (يا رسول الله) فائدة النداء مع عدم الاحتياج إليه!! الإشارة إلى عظيم الإذعان لرسالته المصطفوية، وما ينشأ عنها من بيان الشريعة واستجلاب ما عنده من الكمالات والعلوم التي أوتيها بعد رسالته؛ كذا قيل. ذكره المناوي على «الشمائل» (قال: «الإشراك بالله) يعني الكفر به، وإنما عبّر بالإشراك!! لأنه أغلب أنواع الكفر؛ لا لإخراج غيره (وعقوق) - بضمّ العين المهملة- (الوالدين» ) ؛ أو أحدهما. وجمعهما!! لأن عقوق أحدهما يستلزم عقوق الآخر غالبا، أو يجرّ إليه، لأن من تجرّأ على أحدهما تجرّأ على الآخر، لأن المعصية عقوبة المعصية قبلها، والطاعة تعجيل لبعض ثواب الطاعة قبلها، فالطاعات تتسلسل، كما أن المعاصي والذنوب تتسلسل بعضها يلي بعض، فالمتأخّرة من بعض ثمرات المتقدّمة والمراد من العقوق: أن يصدر من الولد في حقّهما ما من شأنه أن يؤذيهما من قول؛ أو فعل مما لا يحتمل عادة. والمراد بالوالدين: الأصلان؛ وإن عليا. ومال الزركشيّ الشافعي إلى إلحاق العمّ والخال بهما، ولم يتابع عليه!. وقرن العقوق بالشرك!! لمشاركته له من حيث أنّ الأب سبب وجوده ظاهرا؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وكان متّكئا- قال: «وشهادة الزّور» ؛ أو: «قول الزّور» ... وهو يربّيه، ولذلك ذكرهما تعالى في سلك واحد، فقال. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [23/ الإسراء] . (قال) أي: أبو بكرة (وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ تنبيها على عظم إثم شهادة الزور وتأكيد تحريمها وعظيم قبحها. (وكان متّكئا) قبل جلوسه. وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة، لأن فيه الاتّكاء. (قال) ؛ أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم استئناف بيانيّ، فكأنّ سائلا قال: ما فعل بعد ما جلس!! فقال: قال (وشهادة الزّور) ؛ عطف على ما سبق، أي: وأكبر الكبائر شهادة الزور. وخصّها!! 1- لما يترتّب عليها من نحو قتل وزنا، و 2- لغلبة وقوع الناس فيها واستهانتهم بها، فإنّ الشّرك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يضرب عنه الطبع. وأما الزور!! فالحامل عليه كثير؛ من نحو عداوة، وحسد، فاحتيج للاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لكونه فوق الإشراك؛ أو مثله، بل لتعدّي مفسدته إلى الغير، فكانت أبلغ ضررا من هذا الوجه. قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل؛ من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام؛ أو تحريم حلال، فلا شيء أعظم ضررا منه، ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله. انتهى؛ ذكره العلامة ملا علي قاري. قال المطرّزيّ: وأصل الزّور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حتّى يخيّل لمن سمعه بخلاف ما هو. وقيل للكذب «زور» !! لأنه مائل عن جهته. (أو «قول الزّور» ) شكّ من الراوي، لا من الصحابي، إذ يبعد نسيانه مع المبالغة وكثرة التكرار. ورواية البخاري لا شكّ فيها؛ وهي «ألا وقول الزّور، وشهادة الزّور» فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ألا سكت!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 قال: فما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولها حتّى قلنا: ليته سكت. قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون عطف تفسير، فإنّا لو حملنا القول على الإطلاق؛ لزم أن الكذبة الواحدة كبيرة!! وليس كذلك. وجزم غيره بأنّه عطف خاصّ على عامّ، وأنّ كلّ شهادة زور قول زور، ولا ينعكس. وفيه أنّه ينبغي للواعظ والمفيد فعل ما يفيد كثرة توجّه الحاضرين من تغيير الوضع والتكرار والمبالغة وإجهاد النفس في الإفادة؛ حتّى يرحمه السامعون، كما يدلّ له قوله (قال) أي: أبو بكرة (: فما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولها) أي: هذه الكلمة؛ وهي «شهادة الزّور، أو قول الزّور» (حتّى قلنا: ليته سكت) تمنّوا سكوته!! شفقة عليه وكراهة لما يزعجه، أو خوفا أن يجري على لسانه ما يوجب نزول البلاء عليهم. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب والمحبّة والشفقة عليه صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 [الفصل السّادس في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم وشجاعته] الفصل السّادس في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم وشجاعته (الفصل السّادس) من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة كرمه) - بفتحتين- (صلى الله عليه وسلم) . اعلم أنّ الجود والكرم والسخاء معانيها متقاربة، وبعضهم جعل بينها فرقا؛ فقال: الكرم- بفتحتين-: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره. وفي «القاموس» : الكرم- محرّكة-: ضدّ اللؤم، كرم- بضمّ الراء- كرامة وكرما؛ فهو كريم. وفي «القاموس» أيضا: اللؤم: ضدّ الكرم. انتهى والسخاء: صفة غريزية؛ وهي سهولة الإنفاق وتجنّب اكتساب ما لا يحمد من الصنائع المذمومة؛ كالحجامة، وأكل ما لا يحلّ؛ مأخوذ من الأرض السّخاوية وهي الرّخوة اللينة، ولذا وصف الله تعالى ب «جواد» دون «سخي» ، لأنه أوسع في معنى العطاء، وأدخل في صفة العلا. فعلى هذا هو أخصّ، وفي مقابلة السخاء: الشحّ، وهو أشدّ البخل. والشحّ من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ- أي: حرصها على المال- فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) [الحشر] فحكم بالفلاح لمن وقي الشحّ، وحكم بالفلاح لمن أنفق وبذل؛ فقال وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [3- 5/ البقرة] والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، وليس الشحّ من الآدمي بعجيب، لأنّه جبلّي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة. والسخاء أتمّ وأكمل من الجود؛ بناء على تغايرهما. والأصحّ أن السخاء أدنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 ......... منه، ولذا لم يوصف الله به- كما مرّ- وفي مقابلة الجود البخل، وفي مقابلة السخاء الشحّ ... والجود: إعطاء ما ينبغي شرعا لمن ينبغي أن يعطى لاستحقاقه، لأجل الصفة القائمة به؛ كالفقر. وقيل: الجود تجنّب اكتساب ما لا يحمد، وهو ضدّ التقتير. والجواد الذي يتفضّل على من يستحقّ، ويعطي من لا يسأل، ويعطي الكثير؛ ولا يخاف الفقر. والسخيّ: الليّن عند الحاجة. قال الأستاذ القشيريّ: قال القوم: من أعطى البعض فهو سخي، ومن أعطى الأكثر؛ وأبقى لنفسه شيئا فهو جواد، ومن قاسى الضّرّ وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر. انتهى. والجود والبخل يتطرّق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشحّ والسّخاء، إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة؛ فلا يمكن اكتسابهما، وبناء على التفرقة يقال: كلّ سخيّ جواد، وليس كلّ جواد سخيّا. والجود يتطرّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلّعا إلى غرض من الخلق؛ أو الحقّ بمقابلة من الثناء، أو غيره من الخلق والثواب من الله تعالى. ولا يتطرّق الرياء إلى السخاء، لأنه غريزة لا صنع فيه، فلا يقصد به غرض، إذ هو ينبع من النفس الزكيّة المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه العارف السّهروردي في «عوارف المعارف» . انتهى؛ ذكره في «المواهب» وشرحها. (و) في بيان ما ورد في صفة (شجاعته) - مثلّث الشين المعجمة- قال الشامي: الشجاعة: انقياد النفس مع قوّة غضبيّة، وملكة يصدر عنها انقيادها في إقدامها متدرّبة على ما ينبغي؛ في زمن ينبغي؛ وحال ينبغي. انتهى وهي مصدر شجع- بالضمّ- شجاعة، فهو شجيع وشجاع- بضمّ الشين-، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنّه قال: ما سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قطّ فقال: (لا) . وبنو عقيل بفتحها؛ حملا على نقيضه وهو جبان، وبعضهم كسرها للتخفيف؛ فرارا من توالي حركات متوالية من جنس واحد، وهو: الشديد القلب عند البأس المستهين بالحروب. انتهى من «شرح المواهب» للزرقاني. (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام (رضي الله تعالى عنهما؛ أنّه قال) ؛ فيما رواه البخاريّ، ومسلم، والترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-: حدّثنا محمد بن بشّار؛ قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي؛ قال: حدّثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر؛ قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (ما سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: ما طلب منه أحد (شيئا) يقدر عليه من أمور الدنيا الخيرية (قطّ) أبدا، (فقال «لا) أعطيك» ردّا له، بل إمّا أن يعطيه؛ إن كان عنده المسئول، أو يقول له ميسورا من القول بأن يعده، أو يدعو له، فكان إن وجد جاد، وإلّا وعد؛ ولم يخلف الميعاد. ولذلك قال الفرزدق: ما قال «لا» قطّ إلّا في تشهّده ... لولا التّشهّد كانت لاءه «نعم» قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : ليس المراد بقول جابر «فقال: «لا» » : أنّه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنّه لا ينطق بالردّ، بل إن كان عنده شيء أعطاه؛ إن كان الإعطاء سائغا، وإلّا! سكت، أو اعتذر. قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية؛ عند ابن سعد- ولفظه-: كان إذا سئل فأراد أن يفعل؛ قال «نعم» . وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق: ما عاب طعاما قطّ إن اشتهاه أكله، وإلا تركه. وبهذا لا يخالف ما ورد «أنّ من سأله حاجة لا يردّه إلّا بها؛ أو بميسور من القول» ذكره في «المواهب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل شيئا إلّا أعطاه، ثمّ يعود على قوت عامه فيؤثر منه، حتّى لربّما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء. قال الباجوري: والمراد أنّه لم يقل «لا» ؛ منعا للإعطاء، فلا ينافي أنّه قاله 1- اعتذارا؛ إن لاق الاعتذار، كما في قوله «لا أجد ما أحملكم عليه» ، أو 2- تأديبا للسائل؛ إن لم يلق به الاعتذار، كما في قوله للأشعريين «والله لا أحملكم» ، فهو تأديب لهم لسؤالهم ما ليس عنده؛ مع تحقّقهم ذلك، ومن ثمّ حلف حسما لطمعهم في تكليفه التحصيل مع عدم الاضطرار إلى ذلك. انتهى. (و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلّا أعطاه) . قال العراقي: رواه الطيالسيّ، والدارميّ؛ من حديث سهل بن سعد. وللبخاريّ من حديثه: أنّ الرّجل الذي سأله الشملة؛ فقال له القوم: سألته إيّاها؛ وقد علمت أنّه لا يردّ سائلا!! الحديث. ولمسلم من حديث أنس: ما سئل على الإسلام شيئا إلّا أعطاه. وفي «الصحيحين» ؛ من حديث جابر: ما سئل شيئا قطّ؛ فقال «لا» . انتهى. قلت: ورواه الحاكم؛ من حديث أنس بلفظ: لا يسأل شيئا إلّا أعطاه. أو سكت. وروى الإمام أحمد؛ من حديث أبي أسيد السّاعدي: كان لا يمنع شيئا يسأله. وكان صلّى الله عليه وسلم يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطي عطاء تعجز عنه الملوك؛ كما سيأتي للمصنّف تفصيله. ومن ذلك مما لم يذكره: جاءته امرأة يوم حنين أنشدته شعرا تذكّره أيّام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما قيمته خمسمائة ألف ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله. انتهى «إتحاف» . (ثمّ يعود على قوت عامه) الّذي ادّخره لعياله، (فيؤثر منه) على نفسه وعياله (حتّى لربّما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يسأل شيئا إلّا فعله. قال العراقي: هذا معلوم. ويدلّ عليه ما رواه الترمذيّ، وابن ماجه، والنسائي؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: توفّي ودرعه مرهونة بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله. وقال ابن ماجه: بثلاثين صاعا من شعير. وإسناده جيد. وللبخاري؛ من حديث عائشة: توفي ودرعه مرهونة عند يهودي. انتهى قلت: اليهودي هو أبو الشحم. والجمع بين الروايتين أنّه أخذ منه أوّلا عشرين؛ ثم عشرة، ثم رهنه إيّاها على الجميع، فمن روى العشرين لم يحفظ العشرة الآخرى، ومن روى الثلاثين حفظها، على أنّ روايتها أصحّ وأشهر، فكانت أولى بالاعتبار. وهذا يدلّ على غاية تواضعه صلّى الله عليه وسلم، إذ لو سأل مياسير «1» أصحابه في رهن درعه لرهنوها على أكثر من ذلك، فإذا ترك سؤالهم وسأل يهوديا؛ ولم يبال بأنّ منصبه الشريف يأبى أن يسأل مثل يهودي في ذلك؛ فدلّ على غاية تواضعه وعدم نظره لحقوق مرتبته. وفيه دليل على ضيق عيشه صلّى الله عليه وسلم، لكن عن اختيار؛ لا عن اضطرار، لأن الله فتح عليه في أواخر عمره من الأموال ما لا يحصى، وأخرجها كلّها في سبيل الله، وصبر هو وأهل بيته على مرّ الفقر والضيق والحاجة التامّة. انتهى؛ ذكره في شرح «الإحياء» المسمّى «إتحاف السادة المتقين» . (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن طلحة رضي الله تعالى عنه: (كان صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يسأل) - بالبناء للمفعول- أي: لا يطلبه أحد (شيئا) من متاع الدنيا (إلّا فعله) . أي: جاد به على طالبه، لما طبع عليه من الجود، فإن لم   (1) جمع موسر، أو ميسور. أي أصحاب اليسار في النفقة أو السعة في الرزق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يقول لشيء: (لا) ، فإذا هو سئل فأراد أن يفعل.. قال: (نعم) . وإن لّم يرد أن يفعل.. سكت. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس بالخير، ... يكن عنده شيء؟! وعد، أو سكت. ولا يصرّح بالردّ- كما تقدّم-. (و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» عن محمد [ابن الحنفية] بن علي بن أبي طالب مرسلا: (كان صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يقول لشيء لا) أي: لا أعطيه، أو لا أفعل. (فإذا هو سئل فأراد أن يفعل) المسؤول فيه (قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت) ، ولا يصرّح بالردّ، لما مرّ. وفي «مسند الطيالسي والدارمي» ؛ من حديث سهل بن سعد: كان لا يسأل شيئا إلّا أعطاه انتهى «مناوي» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والنّسائيّ، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ لها-: (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - أي: في حدّ ذاته؛ بقطع النظر عن أوقاته وأحواله الكريمة- (أجود النّاس) أي: أشدّهم جودا (بالخير) ، أي بكلّ خير من خيري الدنيا والآخرة، لله وفي الله؛ من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لإظهار الدين وهداية العباد، وإيصال النّفع إليهم بكلّ طريق، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، فكان يسمح بالموجود، لكونه مطبوعا على الجود؛ مستغنيا عن الفانيات بالباقيات الصالحات، فكان إذا وجد جاد، وإذا أحسن أعاد، وإن لّم يجد وعد؛ ولم يخلف الميعاد، ويجود على كلّ أحد بما يسدّ خلّته. ف «أجود» : أفعل تفضيل؛ من الجود، وهو: إعطاء ما ينبغي؛ لمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حتّى ينسلخ فيأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن، ... ينبغي؛ على ما ينبغي. ولما كانت نفسه أشرف النّفوس؛ كانت أخلاقه أفضل أخلاق الخلائق؛ فيكون أجود النّاس. وبالجملة: فكان يعطي عطاء الملوك؛ ويعيش عيش الفقراء. فكان يربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان يمرّ عليه الشهر والشهران؛ لا يوقد في بيته نار (وكان أجود ما يكون) برفع «أجود» ؛ على أنه اسم «كان» ، و «ما» مصدرية، والخبر محذوف، والتقدير: كان أجود أكوانه حاصلا إذا كان مستقرّا (في شهر رمضان) ، وبنصب «أجود» ؛ على أنّه خبر «كان» ، واسمها ضمير يعود على النبي صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم مدّة كونه في شهر رمضان أجود من نفسه في غيره، لكن الرفع هو الذي في أكثر الروايات فهو الأشهر، والنصب أظهر. (حتّى ينسلخ) غاية في أجوديّته. والمعنى أنّ غاية جوده كانت تستمرّ في جميع رمضان إلى أن يفرغ، ثمّ يرجع إلى أصل جوده الذي جبل عليه الزائد عن جود الناس جميعا. وإنّما كان صلّى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، لأنّه موسم الخيرات، وتزايد البركات، فإنّ الله تعالى يتفضّل على عباده في هذا الشهر ما لا يتفضّل عليهم في غيره. وكان صلّى الله عليه وسلم متخلّقا بأخلاق ربّه؛ (فيأتيه جبريل) عند ملاقاته ومدارسته القرآن، كما يدلّ عليه قوله الآتي: «فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرّيح المرسلة» (فيعرض) - بفتح التحتية وكسر الرّاء- لأنّه من «باب ضرب» ، أي: فيعرض النبيّ صلّى الله عليه وسلم (عليه) أي: على جبريل (القرآن) ، كما يدلّ عليه رواية «الصحيحين» : كان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان يعرض عليه النبي صلّى الله عليه وسلم القرآن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 فإذا لقيه جبريل.. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود بالخير من الرّيح المرسلة. أي: يقرؤه عليه عن ظهر قلب. أي: يعرض عليه بعضه؛ أو معظمه، لأنّ أوّل رمضان من البعثة لم يكن نزل من القرآن إلّا بعضه، ثمّ كذلك كلّ رمضان بعده إلى الأخير، فكان نزل كلّه إلّا ما تأخّر نزوله بعد رمضان المذكور، وكانت في سنة عشر إلى أن توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وممّا نزل في تلك المدّة قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [3/ المائدة] .. الآية، فإنّها نزلت في يوم عرفة بالاتفاق، ففيه إطلاق القرآن على بعضه؛ وعلى معظمه!!. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والطبرانيّ أنّ الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة (فإذا لقيه جبريل) لا سيّما عند قراءة التنزيل (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجود بالخير) أي: أسخى ببذل الخير للخير (من الرّيح المرسلة) - بفتح السين- بالمطر، فإنّها ينشأ عنها جود كثير، لأنها تنشر السحاب وتملؤه ماء، ثم تبسطها لتعمّ الأرض فينصبّ ماؤها عليها، فيحيا به الموات، ويخرج به النبات. وتعبيره ب «أفعل» التفضيل نصّ في كونه أعظم جودا منها، لأن الغالب عليها أن تأتي بالمطر، وربّما خلت عنه؛ وهو لا ينفكّ عن العطاء والجود. وبالجملة؛ فقد فضل جوده على جود الناس، ثمّ فضل جوده في رمضان على جوده في غيره، ثم جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل على جوده في غيره، ثم شبّهه بالريح المرسلة في التعميم والسرعة. فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الليل المذكور في رواية «الصحيحين» بمعارضة القرآن؛ دون النهار!!؟ فالجواب: هو أن المقصود من التلاوة الحضور والفهم، ومظنّة ذلك الليل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ؛ ... بخلاف النهار؛ فإنّ فيه من الشواغل والعوارض ما لا يخفى، ولعلّه صلّى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كلّ سنة أجزاء على ليالي رمضان؛ فيقرأ كلّ ليلة جزآ منه في جزء من الليلة، ويترك بقيّة ليلته لما سوى ذلك من تهجّد وراحة وتعهّد أهله!!. ويحتمل أنّه كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدّد الحروف المنزّل بها القرآن. انتهى؛ ذكره في «زاد المسلم» . وهذا حديث عظيم لاشتماله على ذكر أفضل الملائكة، إلى أفضل الخلق، بأفضل كلام، من أفضل متكلّم، في أفضل وقت. ويؤخذ منه ندب إكثار الجود في رمضان، ومزيد الإنفاق على المحتاجين فيه، والتوسعة على عياله وأقاربه ومحبّيه، وخصوصا عند ملاقاة الصالحين، وعقب مفارقتهم؛ شكرا لنعمة الاجتماع بهم، وندب مدارسته القرآن. وفيه أنّ صحبة الصالحين مؤثّرة في دين الرجل وعلمه، ولذلك قالوا: لقاء أهل الخير عمارة القلوب. انتهى «مناوي، وباجوري، وغيرهما» . (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا) لم يسمّ؛ (جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه) أي: شيئا من الدنيا؛ (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ما عندي شيء) موجود أعطيه لك، (ولكن ابتع) - روي بموحّدة ساكنة بعد همزة الوصل، ففوقية مفتوحة وعين مهملة- أي: اشتر ما تحتاجه بدين يكون عليّ أداؤه، فالابتياع بمعنى الاشتراء. وروي «أتبع عليّ» - بتقديم التاء الفوقية على الموحّدة- أي: أحل (عليّ) - بتشديد المثناة-، قال الزمخشري: أتبعت فلانا على فلان: أحلته، ومنه خبر: «إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 فإذا جاءني شيء.. قضيته» . فقال عمر: يا رسول الله؛ [قد أعطيته] ، فما كلّفك الله ما لا تقدر عليه. فكره صلّى الله عليه وسلّم قول عمر. وفي رواية البزّار؛ عن عمر: فقال: «ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض حتّى يأتينا شيء فنعطيك» . فلا مانع من تفسير «ابتع» أو «اتبع» : ب «استقرض» تجوّزا؛ لرواية البزار، إذ الحديث واحد. وليس بضمان! بل وعد منه. ووعده ملتزم الوفاء، إذ وعد الكريم دين. ولذا صحّ أنّه لما توفّي نادى الصدّيق لما جاءه مال البحرين: من كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم عدة؛ أو دين فليأتنا. فجاء جابر؛ وقال: إنّه وعدني كذا. فأعطاه له ... الحديث في «الصحيح» . (فإذا جاءني شيء) من باب الله كفيء وغنيمة (قضيته» ) عنك. وهذا غاية الكرم ونهاية الجود. (فقال) الرّاوي (عمر) وكان الظاهر أن يقول: «فقلت» ، إلّا أن يقال «إنّه من قبيل الالتفات على مذهب بعضهم» ! (: يا رسول الله؛ قد أعطيته) أي: هذا السائل قبل هذا!! فلا حاجة إلى أن تعده بالإعطاء بعد ذلك؟! أو: قد أعطيته الميسور من القول؛ وهو قولك «ما عندي شيء» ؛ فلا حاجة إلى أن تلتزم له شيئا في ذمّتك. وقوله (فما كلّفك الله) الفاء للتعليل؛ لما يستفاد من قوله «قد أعطيته» ، فكأنّه قال: لا تفعل ذلك، لأنّ الله ما كلّفك (ما لا تقدر عليه) ؛ من أمره بالشّراء ووعده بالقضاء. (فكره صلّى الله عليه وسلم قول عمر) ، أي: بدا في وجهه الشريف أثر عدم رضاه به، لأنّ فيه كسر خاطر السائل، ولأنّ مثله لا يعدّ تكليفا لما لا يقدر عليه، لما عوّده الله من فيض نعمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله؛ أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا. فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاريّ، ثمّ قال: «بهذا أمرت» . (فقال رجل من الأنصار) كان حاضرا حين رأى كراهة المصطفى لذلك (: يا رسول الله؛ أنفق) - بفتح الهمزة-: أمر من الإنفاق، (ولا تخف من ذي العرش إقلالا) ؛ أي: افتقارا من «أقلّ» بمعنى: افتقر. وإن كان في الأصل بمعنى: صار ذا قلة. وما أحسن من «ذي العرش» في هذا المقام!! أي: لا تخف؛ أي: يضيّع مثلك من هو مدبّر الأمر من السماء إلى الأرض!!. قال البرهان في «المقتفي» : هذا الرّجل لا أعرفه. وفي حفظي أنّه بلال، لكنه مهاجري؛ لا أنصاري، فيكون قد قال ذلك بلال والأنصاريّ، أو الذي فيه ذكر بلال قصّة أخرى؛ المأمور فيها بالإنفاق بلال!! روى الطبرانيّ، والبزّار؛ عن ابن مسعود: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم على بلال وعنده صبرة من تمر؛ فقال: «ما هذا يا بلال» . قال: يا رسول الله؛ ذخرته لك ولضيفانك. قال: «أما تخشى أن يفور لها بخار من جهنّم؛ أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» . انتهى. فما في حفظه إنما هو في هذه القصة؛ فلا يصحّ تفسير المبهم ب «بلال» لوجهين. (فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم) فرحا بقول الأنصاري، (وعرف في وجهه البشر) - بكسر الباء- أي: الطلاقة والبشاشة (لقول الأنصاريّ) المارّ (ثمّ قال) أي: صلى الله عليه وسلم ( «بهذا) أي: الإنفاق من غير مخافة فقر (أمرت» ) بنحو وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [39/ سبأ] لا بقول عمر!! فقدّم الظرف! ليفيد قصر القلب ردّا لاعتماد عمر. وإنّما فعل ذلك!! للمصلحة الداعية لذلك كالاستئلاف ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 ......... وفيه أنّ الانفاق مأمور به في كلّ حال دعت المصلحة إليه، ولو بنحو استدانة، فإن عجز فبعدة. والعدة: إنفاق لأنها التزام النفقة؛ عند بعض الأئمّة. وقد استشكل هذا الحديث بأنّ الله تعالى قال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [29/ الإسراء] الآية. وأجاب القاضي أبو يعلى بأن المراد بهذا الخطاب غيره صلّى الله عليه وسلم؛ وغير خلّص المؤمنين الذين كانوا ينفقون جميع ما عندهم عن طيب قلب لتوكّلهم وثقتهم بما عند الله، أمّا من كان ليس كذلك يتحسّر على ما ذهب منه!! فالمحمود منهم التوسّط؛ وهم الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، لأنّهم لا صبر لهم على الفاقة، ولذا صعب عليه صلّى الله عليه وسلم كلام عمر لمّا راعى ظاهر الحال، وأمره بصيانة المال؛ شفقة على النبي صلّى الله عليه وسلم لعلمه بكثرة السائلين له وتهافتهم عليه. والأنصاريّ راعى حاله صلّى الله عليه وسلم، فلذا سرّه كلامه. فقوله «بهذا أمرت» إشارة إلى أنّه أمر خاصّ به وبمن يمشي على قدمه انتهى. من «شرح الشفاء» للخفاجي، ومن شرح الزرقاني على «المواهب» . قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: ومما ينبغي التنبّه له أنّ كلّ خصلة من خصال الفضل قد أحلّ الله نبيّه في أعلاها وخصّه بذروة سنامها، ثم تقاسمت الفرق فضائله، فكلّ احتجّ على مطلوبه بشيء منها؛ فإذا احتجّ الغزاة بهديه في الجهاد على أنّهم أفضل؛ احتجّ الفقهاء على مثل ما احتجّ به أولئك. وإذا احتجّ الزّهاد به على فضلهم؛ احتجّ به ولاة الأمور على طولهم. وإذا احتجّ به الفقير الصابر؛ احتجّ به الغني الشاكر. وإذا احتجّ به العبّاد على فضل نفلهم؛ احتجّ به العارفون على فضل المعرفة. وإذا احتجّ به المتواضعون وأهل الحلم؛ احتجّ به أرباب العزّ والقهر للمبطلين والغلظة عليهم والبطش بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءه مال.. لم يبيّته، ولم يقيّله؛ أي: إذا جاءه آخر النّهار.. لم يمسكه إلى اللّيل، أو أوّل النّهار.. لم يمسكه إلى وقت القيلولة، بل يعجّل قسمته. وكان صلّى الله عليه وسلّم أسخى النّاس، ... وإذا احتج به أرباب الوقار والهيبة؛ احتجّ به أرباب حسن الخلق والمزاح المباح ... وهكذا. وسرّ ذلك أنّه بعث لصلاح الدنيا والدين. انتهى. نقله المناوي على «الشمائل» وهو كلام نفيس. (و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ، والخطيب؛ عن أبي محمد الحسن بن محمد بن علي مرسلا، وهو حديث حسن- كما قال العزيزي- (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا جاءه مال) ؛ من نحو فيء أو غنيمة (لم يبيّته) عنده، (ولم يقيّله) - بالتشديد فيهما- قال العزيزي: (أي: إذا جاءه آخر النّهار لم يمسكه إلى اللّيل، أو) جاءه (أوّل النّهار لم يمسكه إلى وقت القيلولة) : نصف النهار (بل يعجّل قسمته) تعجيلا للخير، إذ كان هديه يدعو إلى تعجيل الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان أشرح الخلق صدرا، وأطيبهم نفسا، وأنعمهم قلبا، فإنّ للصدقة والبذل تأثيرا عجيبا في شرح الصدر. انتهى «مناوي» . (و) في «الإحياء» و «كشف الغمة» : (كان صلّى الله عليه وسلم أسخى النّاس) : أي أكثرهم سخاء. قال الحافظ العراقي: رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ من حديث أنس: «فضّلت على النّاس بأربع: بالسّخاء والشّجاعة ... الحديث. ورجاله ثقات. وقال صاحب «الميزان» : إنّه منكر. وفي «الصحيحين» ؛ من حديثه: كان صلّى الله عليه وسلم أجود الناس. واتفقا عليه؛ من حديث ابن عبّاس. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه له، وفجأه اللّيل.. لم يأو إلى منزله حتّى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه. قلت: وفي حديث آخر سنده ضعيف: «أنا أجود بني آدم» وهو بلا ريب أجودهم مطلقا، كما أنّه أكملهم في سائر الأوصاف، ولأن جوده لله تعالى في إظهار دينه، بل كان بجميع أنواع الجود؛ من بذل العلم، والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكلّ طريق؛ من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، وكان جوده صلّى الله عليه وسلم كلّه لله تعالى، وفي ابتغاء مرضاته. (لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل) أي: بقي (شيء ولم يجد من يعطيه له، وفجأه اللّيل) أي: أتاه فجأة (لم يأو إلى منزله حتّى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه) . قال الحافظ العراقيّ: رواه أبو داود؛ من حديث بلال في حديث طويل فيه: أهدى صاحب فدك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع قلائص، وكانت عليهنّ كسوة وطعام، وباع بلال ذلك ووفّى دينه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده، وفيه قال: «فضل شيء؟» . قلت: نعم، ديناران. قال: «انظر أن تريحني منهما، فلست بداخل على أحد من أهلي حتّى تريحني منهما» . فلم يأتنا أحد، فبات في المسجد حتّى أصبح، وظلّ في المسجد اليوم الثاني حتّى إذا كان في آخر النهار جاء راكبان؛ فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتّى إذا صلّى العتمة؛ دعاني، فقال: «ما فعل الّذي قبلك» ؟. فقلت: قد أراحك الله منه، فكبّر وحمد الله؛ شفقة من أن يدركه الموت؛ وعنده ذلك، ثم اتبعه حتّى جاء أزواجه ... الحديث. وللبخاريّ من حديث عقبة بن الحارث: «ذكرت؛ وأنا في الصّلاة تبرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 وأتاه صلّى الله عليه وسلّم رجل فسأله، فأعطاه غنما سدّت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: أسلموا، فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وأعطى غير واحد مئة من الإبل. فكرهت أن يمسي ويبيت عندنا فأمرت بقسمته» . ولأبي عبيد في «غريبه» ؛ من حديث الحسن بن محمد مرسلا: كان لا يقيّل مالا عنده؛ ولا يبيّته. انتهى شرح «الإحياء» . (وأتاه صلّى الله عليه وسلم رجل) ، هو: صفوان بن أمية- كما قال غير واحد- (فسأله) شيئا من العطاء، (فأعطاه غنما) كثيرة، ولكثرتها (سدّت ما بين جبلين) لسعة جوده وسماحة نفسه، (فرجع إلى قومه) ؛ وهم قريش، (وقال:) يا قوم (أسلموا، فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) . وذلك آية نبوّته. وفي رواية: من لا يخشى الفاقة. وهي: الفقر، أو: أشدّ الفقر. رواه مسلم؛ من حديث أنس رضي الله عنه. ويرحم الله أبا عبد الله محمد بن جابر حيث قال: هذا الّذي لا يتّقي فقرا إذا ... أعطى ولو كثر الأنام وداموا واد من الأنعام أعطى آملا ... فتحيّرت لعطائه الأوهام (وأعطى غير واحد) أي: كثيرا من المؤلّفة (مائة من الإبل) ؛ كأبي سفيان بن حرب، وابنيه: معاوية ويزيد، ومع كلّ واحد منهم أربعين أوقية، وكحكيم بن حزام، والحارث بن هشام وغيرهم ... والذين أعطاهم صلّى الله عليه وسلم مائة من الإبل ناس كثير؛ قد عدّهم البرهان الحلبي، وقال: إنّهم يبلغون ستّين من المؤلّفة قلوبهم، وكذا ذكر الشيخ قاسم في «تخريج أحاديث الشفا» ذكر ذلك الخفاجي في «نسيم الرياض» . قال شيخنا الشيخ حسن المشّاط عافاه الله تعالى في «إنارة الدجى» ما نصّه: أعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى؛ فأعطاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 ......... وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل. وأعطى أسيد بن جارية الثقفي مائة من الإبل. وأعطى العلاء بن جارية الثقفي خمسين بعيرا. وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا. وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل. وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل. وأعطى صفوان بن أميّة مائة من الإبل. وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل. وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل. وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل. وأعطى حويطب بن عبد العزّى مائة من الإبل. وأعطى هشام بن عمرو العامريّ خمسين من الإبل. وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل. وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل. وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل. وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل؛ فقال في ذلك شعرا؛ فأعطاه مائة من الإبل، ويقال: خمسين. انتهى. وقد أشار إلى ذلك العلامة أحمد بن محمد البدوي الشنقيطي، في «نظم المغازي» حيث قال: أعطى عطايا شهدت بالكرم ... يومئذ له ولم تجمجم وكيف لا ومستمدّ سيبه ... من سيب ربّ ذي عناية به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 وأعطى صفوان مئة ثمّ مئة ثمّ مئة. أعطى عطايا أخجلت دلح الدّيم ... إذ ملأت رحب الفضا من النّعم زهاء ألفي ناقة منها وما ... ملأ بين جبلين غنما (وأعطى صفوان) بن أميّة بن خلف بن وهب بن قدامة بن جمح القرشي الجمحي المكيّ، صحابيّ من المؤلّفة. أسلم يوم الفتح، وشهد حنينا والطائف؛ وهو مشرك، فلما أعطاه صلّى الله عليه وسلم ما ذكر قال: أشهد بالله؛ ما طابت بهذا إلّا نفس نبيّ، فأسلم وحسن إسلامه. روى له مسلم، وأصحاب «السنن» ، وعلّق له البخاريّ. ومات أيّام قتل عثمان، وقيل سنة: إحدى- أو اثنتين- وأربعين. (مائة) من الإبل (ثمّ مائة ثمّ مائة) . كذا قال ملا علي قاري. وقال في «شرح الإحياء» : أعطى صفوان بن أميّة يوم حنين مائة من الغنم؛ ثمّ مائة، ثمّ مائة حتى صار أحبّ الناس إليه بعد ما كان أبغضهم إليه، فكان ذلك سببا لحسن إسلامه. لكن في شرح الخفاجي على «الشفاء» ، وشرح الزرقاني على «المواهب» ترك هذه المئات الثلاث بدون تفسير؛ هل هي من الإبل، أو الغنم؟! فليحرر. قال الزرقاني: والحكمة في كونه صلّى الله عليه وسلم لم يعطها دفعة واحدة: أنّ هذا العطاء دواء لدائه، والحكيم لا يعطي الدواء دفعة واحدة، لأنه أقرب للشفاء. انتهى. قال في «شرح الإحياء» : روى مسلم، والترمذي؛ من طريق سعيد بن المسيّب؛ عن صفوان بن أمية قال: والله؛ لقد أعطاني النبي صلّى الله عليه وسلم وإنّه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتّى إنّه لأحبّ الناس إليّ!! انتهى. ولقد أحسن ابن جابر حيث قال: يروى حديث النّدى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهلّ ومنسجم من وجه أحمد لي بدر، ومن يده ... بحر، ومن فمه درّ لمنتظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وهذه كانت حاله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، وقد قال له ورقة بن نوفل: ... يمّم نبيّا يباري الرّيح أنمله ... والمزن من كلّ هامي الودق مرتكم لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم يحيط كفّاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كلّ طامي الموج ملتطم لو لم تحط كفّه بالبحر ما شملت ... كلّ الأنام وروّت قلب كلّ ظمي فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه. قال القاضي عياض في «الشفاء» : (وهذه) ، أي: الخصلة والسجيّة في الكرم والعطاء (كانت حاله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يبعث) نبيّا؛ أو يرسل. (وقد قال له ورقة) - بواو وراء مهملة مفتوحتين وقاف آخره تاء مربوطة- (بن نوفل) بن أسد بن عبد العزّى. وكان من أعقل أهل زمانه وأعلمهم، شاعر بليغ متألّه، وكان يقرأ ويكتب الكتب القديمة بالعربية والعبرانية، ويتألّه ويتعبّد؛ ولذا سمّي «القسّ» ، وتهوّد في أوّل أمره؛ ثم تنصّر، وهو ابن عمّ خديجة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها. وله أشعار كثيرة في التوحيد ولترهّبه لم يكن له عقب، وورد في الحديث: «لا تسبّوا ورقة، فإنّي رأيت له جبّة أو جبّتين» - يعني بذلك- ما ورد من طريق آخر أنّه صلّى الله عليه وسلم رآه في منامه في الجنّة وعليه حلّة خضراء؛ أو بيضاء، أو نحوه كثياب من حرير وحلّة من سندس. وكان حيّا في ابتداء الوحي إلى أن تنبّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم واجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلم وآمن به؛ كما في أوّل البخاري، وقال: لئن أدركت زمانك لأنصرنّك نصرا مؤزّرا وكان صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك نبيّا؛ ولم يؤمر بالدّعوة. ومات ورقة بعد نبوّته صلّى الله عليه وسلم وقبل رسالته، ولذا قالوا: إنّه أوّل من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم من الرجال، وهو ثان بالنسبة لخديجة رضي الله تعالى عنها وصحابي، ولذا عرّفوا الصحابي بأنّه: من اجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلم مؤمنا به. ولم يقولوا «بالرّسول» ، وهذا ممّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 إنّك تحمل الكلّ وتكسب المعدوم، ... ينبغي التنبّه له. وفي «نظم السيرة» للحافظ العراقي في ذكر ورقة: فهو الّذي آمن بعد ثانيا ... وكان برّا صادقا مواتيا والصّادق المصدوق قال: إنّه ... رأى له تخطّطا في الجنّه وهذا المذكور من أنّه صحابيّ هو الصحيح. وقيل: إنه ليس بصحابي، لأنه لم ير النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ولم يؤمن به بعد بعثته، وعليه جماعة محقّقون، والأكثر من أصحابنا على أنه صحابيّ. انتهى «خفاجي» . (إنّك تحمل الكلّ) - بفتح الكاف وتشديد اللام- أي: الثقيل؛ من العيال واليتيم ومن لا قدرة له من ضعيف الحال، أي: فيما بين قومه، وفي التنزيل وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ [76/ النحل] أي: ثقيل في المؤنة ضعيف في الصنعة؛ قاله ملا علي قاري. (وتكسب) - بفتح التاء وكسر السين المهملة- وهي أكثر الروايات وأصحّها. قال النّووي: فتح التاء هو الصحيح المشهور، وروي بضمّها. (المعدوم) - بالواو في النسخ المعتبرة- وهو: الشيء الذي لا وجود له. والمراد أنّك تعطي الناس الفقراء ما لا يجدونه عند غيرك، لما فيك من مكارم الأخلاق. وما ذكره المصنف؛ من أنّ هذا من كلام ورقة هو ما في «الشفاء» للقاضي عياض، واعترضه شرّاحه؛ فقال الخفاجي؛ نقلا عن السيوطي: إنّ القائل له صلّى الله عليه وسلم هذا إنّما هو خديجة رضي الله تعالى عنها؛ في قصة مكالمتها لورقة في شأن النبي صلّى الله عليه وسلم، لمّا رأى جبريل عليه الصلاة والسلام في أوّل أمره وخاف على نفسه منه، وكذا اعترض عليه الشيخ قاسم في «تخريجه» أيضا؛ فقال: لا أعلم هذا من قول ورقة رضي الله عنه. والذي في «صحيح البخاري» وغيره: أنّه من قول خديجة رضي الله تعالى عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها: أبشر؛ فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، ... وما قيل: من «أنّ القاضي «1» جليل القدر؛ لا يخفى عليه مثله، ولا يبعد صدوره من ورقة!!» لا يجدي نفعا مع نقل «الصحيحين» خلافه، وليس مثله محلّ بحث، ولكلّ صارم نبوة، ولكلّ جواد كبوة. انتهى. (و) المصنّف رحمه الله تعالى نقل ما في «الشفاء» وأردفه بما في «الصحيحين» ؛ وهو: (قالت له خديجة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) حين قال لها صلّى الله عليه وسلم لمّا رأى جبريل عليه الصلاة والسلام: «لقد خشيت على نفسي» أي: الهلاك من شدّة الرّعب!! أو تعييرهم إيّاه، فأرادت خديجة رضي الله عنها دفع ذلك الذي خشيه؛ فقالت له: (أبشر؛ فو الله لا يخزيك الله أبدا) يخزيك- بضمّ أوّله والخاء المعجمة والزاي المكسورة، ثم الياء السّاكنة- من الخزي؛ وهو: الفضيحة والهوان، وفي رواية: يحزنك- بالحاء المهملة والنون، ويجوز فتح الياء في أوّله وضمّها- وكلاهما صحيح. ثمّ استدلّت خديجة على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي، ووصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إمّا إلى الأقارب، أو إلى الأجانب، وإمّا بالبدن، أو بالمال، وإمّا على من يستقلّ بأمره، أو من لا يستقلّ. وذلك كلّه مجموع فيما وصفته به في قولها: (إنّك لتصل الرّحم) صلة الرحم: هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسّلام.. وغير ذلك. (وتحمل الكلّ) - بفتح الكاف وتشديد اللّام- مصدر بمعنى الكلال؛ وهو:   (1) أي: عياض رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ. الإعياء، وفسّر بالثّقل، فقيل: إنه لازم معناه، وهو المناسب للحمل، لأنّه لا يقال «حمل الإعياء» . وحمل الكلّ هو كقول العرب في المدح: هو حمّال أثقال. أي: يحمل ثقل غيره من الضعفاء والعيال، وإعانة الخلق بالإنفاق عليهم وإطعامهم وإعطائهم كلّ ما يحتاجون إليه، وكفالة الأيتام وغيره من وجوه البر. (وتكسب) - بفتح أوله ويضمّ، وبكسر السين المهملة- (المعدوم) - بالواو، والمعنى: تكسب غيرك المال المعدوم؛ أي تعطيه، واختاره النوويّ. وقيل: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق. انتهى «ملا علي قاري» . (وتقري) - بفتح التاء المثنّاة الفوقية- (الضّيف) أي: تحسن إليه، يقال قريت الضيف أقريه قرى- بكسر القاف- مقصور. وقراء بفتح القاف والمدّ، ويقال للطعام الذي يضيفه به قرى مقصور، ويقال لفاعله: قار مثل قضى؛ فهو قاض انتهى «نووي» . (وتعين على نوائب الحقّ) النوائب: جمع نائبة؛ وهي الحادثة، وإنّما قالت نوائب الحق!! لأن النائبة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشرّ، قال لبيد: نوائب من خير وشرّ كلاهما ... فلا الخير ممدود؛ ولا الشّرّ لازب قال العلماء رحمهم الله تعالى: معنى كلام خديجة رضي الله تعالى عنها: أنّك لا يصيبك مكروه، لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق؛ وكرم الشمائل. وذكرت ضروبا من ذلك. وفي هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء. وقد روى أبو نعيم ما يؤيّده وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «صنائع المعروف تقي مصارع السّوء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 و (الكلّ) هنا: الثّقل من كلّ ما يتكلّف؛ كما في «لسان العرب» . وأعطى العبّاس رضي الله تعالى عنه ما لم يطق حمله. وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة. وفيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر، وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له. وفيه أعظم دليل وأبلغ حجّة على كمال خديجة رضي الله تعالى عنها، وجزالة رأيها، وقوّة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها. والله أعلم. انتهى «شرح مسلم» مع زيادة. (والكلّ) - بفتح الكاف وتشديد اللام- له معان كثيرة، لكن المراد (هنا) في حديث خديجة: (الثّقل من كلّ ما يتكلّف) يعني: مما فيه كلفة (كما) ذكره ابن منظور (في «لسان العرب» ) ، وابن الأثير في «النهاية» ، والزّبيديّ في «شرح القاموس» ؛ وهو من الكلال وهو الإعياء. قال الإمام النّوويّ: ويدخل في حمل الكلّ الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك. انتهى. (وأعطى) عمّه (العبّاس) بن عبد المطلب (رضي الله تعالى عنه، ما) أي: شيئا (لم يطق حمله) من الإطاقة، أي: ما لم يقدر على حمله وحده مع قوّته. روى البخاريّ في مواضع؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: أنّه صلّى الله عليه وسلم أتي بمال من البحرين؛ فقال: «انثروه» يعني: صبّوه في المسجد، وكان أكثر مال أتي به صلّى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد؛ ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلّا أعطاه منه، إذ جاء العبّاس؛ فقال: يا رسول الله؛ أعطني، فإنّي فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له: «خذ» . فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقلّه؛ فلم يستطع. فقال يا رسول الله؛ مر بعضهم يرفعه عليّ؟ قال: «لا» . قال: فارفعه أنت عليّ. فقال: «لا» . فنثر منه، ثمّ ذهب يقلّه فلم يستطع؛ فقال: يا رسول الله؛ مر بعضهم يرفعه عليّ. قال: «لا» . قال: فارفعه أنت عليّ. قال: «لا» فنثر منه، ثمّ احتمله فألقاه على كاهله فانطلق، فما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وحمل إليه تسعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثمّ قام إليها يقسمها، فما ردّ سائلا حتّى فرغ منها. ولمّا قفل من حنين ... زال صلّى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا!! عجبا من حرصه، فما قام عليه الصلاة والسلام وثمّ منها درهم!! وفي رواية: ثم انطلق؛ وهو يقول: «إنّما أخذت ما وعد الله، فقد أنجز» ! يشير إلى قوله تعالى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [70/ الأنفال] . قال ابن كثير: كان العبّاس شديدا طويلا نبيلا، قلّما احتمل شيئا يقارب أربعين ألفا. (و) روى الترمذيّ أنّه صلّى الله عليه وسلم (حمل) - بصيغة المجهول- أي: أتي (إليه تسعون) - بمثناة فوقية قبل السين- وفي رواية أبي الحسن بن الضحاك في «شمائله» ؛ من حديث الحسن مرسلا: ثمانون (ألف درهم) . وأخرجه ابن الجوزي في «الوفاء» ؛ وقال: سبعون ألفا- بتقديم السين على الموحدة- ويوافقه قول الصرصري في مديحه؛ حيث قال: سبعون ألفا فضّها في مجلس ... لم يبق منها عنده فلسان (فوضعت) - بصيغة المجهول- أي: سكبت ونثرت (على حصير) أي: خصفة (ثمّ قام إليها) ، لعل المراد: شرع (يقسمها) ، أو أخذ يقسمها؛ بأن أمر به؛ وإن لم يقم بالفعل، ولا باشر القسم بيده. (فما ردّ سائلا) ، لا يؤخذ منه أنّه لم يعط إلّا من سأله! بل يصدق بذلك، وبإعطاء من علم حاجته فيدفع له إن كان عنده بلا سؤال، أو يبعث إليه (حتّى فرغ منها) غاية لقوله «يقسمها» . (و) في «الإحياء» : أنّه (لمّا قفل) صلى الله عليه وسلم؛ أي: رجع (من) غزوة (حنين) - بضم الحاء المهملة فنونين بينهما مثنّاة تحتية مصغّرا-: واد بين مكّة والطائف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 وجاءت الأعراب ... وهو مذكّر منصرف، وقد يؤنّث على معنى البقعة؛ قاله في «المصباح» . وقال ابن بليهد النّجدي في كتابه «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار» : حنين موضع قد أعيانا الوقوف على حقيقته. ومن كتّاب هذا العصر من قال: إنّه عين الشرائع؛ يعني الموضع المسمّى ب «الشرائع» أنّها هي عين حنين، وهذا قريب من الصواب، فإن لم تكن عين حنين؛ فهي قريبة منها في الوادي الذي يقع عن «الشرائع» جنوبا، لأنّه قريب من «ذي المجاز» الذي ذكر في آخر رواية السّهيلي «يعني الكلام الذي نقله ابن بليهد المذكور نفسه عنه حيث قال» : وحنين قريب من مكة. وقيل: هو واد بالطائف. وقيل: واد بجنب «ذي المجاز» . انتهى كلام ابن بليهد. قال في «المصباح» : وقصّة حنين أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثمّ خرج منها لقتال هوازن وثقيف، وقد بقيت أيّام من رمضان؛ فسار إلى حنين، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون، ثمّ أمدّهم الله بنصره فعطفوا، وقاتلوا المشركين فهزموهم، وغنموا أموالهم وعيالهم، ثم سار المشركون إلى أوطاس؛ فمنهم من سار على نخلة اليمانية، ومنهم من سلك الثنايا وتبعت خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سلك نخلة!. ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام أقام عليها يوما وليلة، ثمّ سار إلى أوطاس فقاتلهم بقيّة شوّال، فلما أهلّ ذو القعدة ترك القتال، لأنّه شهر حرام، ورحل راجعا فنزل الجعرانة وقسم بها غنائم أوطاس وحنين، ويقال: كانت ستّة آلاف سبي- كما سيأتي- انتهى. (وجاءت الأعراب) - بفتح الهمزة- هم: أهل البدو، الواحد أعرابيّ بالفتح أيضا، وهو: الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلأ. قال الأزهري: سواء كان من العرب أم من مواليهم. قال: فمن نزل البادية وجاور البادين وظعن بظعنهم؛ فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف؛ واستوطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 يسألونه حتّى اضطرّوه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أعطوني ردائي؛ لو كان لي عدد هذه العضاه نعما.. لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا، ولا كذّابا، ولا جبانا» . و (العضاه) : شجر له شوك، واحدها: عضاهة. المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عرب؛ وإن لم يكونوا فصحاء؛ كذا في «المصباح» . (يسألونه) أي: يطلبون منه أن يعطيهم الغنائم وكثروا حوله صلّى الله عليه وسلم وازدحموا (حتّى اضطرّوه إلى شجرة فخطفت) - بكسر الطاء المهملة- من باب فهم، وفيه لغة من باب ضرب. والخطف: الاستلاب بسرعة (رداءه. فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم) حينئذ. (وقال: «أعطوني ردائي؛ لو كان لي عدد هذه العضاه) - هي: من أشجار البادية- (نعما) أي: إبلا (لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا، ولا كذّابا؛ ولا جبانا» ) الجبان: ضعيف القلب. قال الحافظ العراقيّ: رواه البخاريّ؛ من حديث جبير بن مطعم. قلت: ولفظه: بينما أنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومعه الناس مقبلا من حنين علقت برسول الله صلّى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتّى اضطروه إلى سمرة ... فذكره. وفيه: «ولا كذوبا» بدل «كذّابا» . ورواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه؛ بلفظ المصنف. انتهى «شرح الإحياء» . (والعضاه) - بالعين المهملة والضاد المعجمة فألف فهاء آخره؛ بزنة كتاب، والهاء أصلية- وهو (شجر له شوك) كالطلح والعوسج. واستثنى بعضهم القتاد والسّدر، فلم يجعله من العضاه، (واحدها عضاهة) وعضهة وعضة بحذف الهاء الأصلية كما حذفت من الشفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 وردّ على هوازن سباياها، وكانوا ستّة آلاف. وفي «المواهب» : (ذكر ابن فارس (و) في «الشفاء» : أنه صلّى الله عليه وسلم (ردّ على هوازن) : اسم قبيلة منسوبة لهوازن بن أسلم، وكان يسكن حنينا؛ وهو موضع سمّي بحنين بن نابه بن مهلاييل، وغزوته تسمّى «غزوة حنين» ، و «غزوة هوازن» ، وكانت في شوال؛ أو في رمضان. وأمرها معروف مفصّل في السّير. ولما غزاهم وحاز غنائمهم قدم وفدهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهم أربعة عشر رجلا؛ رئيسهم زهير بن صرفة، وفيهم أبو برقان عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرّضاع، فسألوه أن يمنّ عليهم بما أخذه منهم؛ لما بينهم وبينه من مناسبة الرضاعة، فقال لهم: «أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟!» . قالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا!!. فردّ على هوازن (سباياها) بعد مفاوضة جرت، إذ قال صلّى الله عليه وسلم: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب؛ فهو لكم، وما للنّاس يسأل منهم» . فقال: المهاجرون والأنصار: ما كان لنا؛ فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال جماعة من المؤلّفة: أمّا ما لنا!! فلا، فأخذه صلّى الله عليه وسلم منهم قرضا على أن يعوّضهم عنه من أوّل مال يجيء، فسلّموهم جميعا (وكانوا ستّة آلاف) نفس من النّساء والذرّيّة غير الأموال التي من غنائمهم، وكانت أربعة وعشرين ألفا من الإبل، وأكثر من أربعين ألف شاة من الغنم، وأربعة آلاف أوقيّة من الفضّة. والأوقيّة: أربعون درهما. (و) قال العلّامة شهاب الدين القسطلّاني شكر الله مسعاه؛ (في) كتابه ( «المواهب) اللّدنّيّة بالمنح المحمدية» : (ذكر) العلّامة الإمام أبو الحسين: أحمد (بن فارس) بن زكريا بن محمّد بن حبيب الرازي اللّغويّ. كان إماما في علوم شتى؛ وخصوصا اللغة فإنّه أتقنها، وألّف كتابه «المجمل» ، وهو على اختصاره جمع شيئا كثيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 في كتابه في «أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم» : أنّه في يوم حنين جاءته امرأة؛ فأنشدت شعرا تذكّره أيّام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما أخذ وأعطاهم عطاء كثيرا حتّى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم، فكان خمس مئة ألف ألف. وأصله من قزوين وأقام مدّة في همذان، ثم انتقل إلى الرّي، وإليها نسبته، وأخذ عنه البديع الهمذاني، والصاحب ابن عبّاد وغيرهما من أعيان البيان. وله مؤلّفات عديدة؛ منها «مقاييس اللغة» طبع في ستّة أجزاء، و «الصاحبي في علم العربية» طبع، ألّف لخزانة الصاحب بن عباد، و «الفصيح» ، و «تمام الفصيح» ، و «فقه اللغة» ، و «النيروز» خطّ، و «الإتباع والمزاوجة» طبع، و «الحماسة المحدثة» ، و «متخيّر الألفاظ» ، و «ذمّ الخطأ في الشعر» خط، و «اللامات» خط، و «كتاب الثلاثة» خط؛ في الكلمات المكوّنة من ثلاث حروف متماثلة. وكتاب «أسماء النبي صلّى الله عليه وسلم» ، وكتاب «أوجز السّير لخير البشر» طبع في ثمان صفحات، و «جامع التأويل في تفسير القرآن» أربع مجلدات، وله كتاب «حلية الفقهاء» ، وله شعر حسن. وكانت ولادته سنة: تسع وعشرين وثلثمائة هجرية، ووفاته سنة: خمس وتسعين وثلثمائة. والله أعلم رحمه الله تعالى. (في كتابه) المؤلّف (في «أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم» ؛ أنّه في يوم حنين جاءته امرأة فأنشدت شعرا تذكّره أيّام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما أخذ) من النساء والبنين. ونسب إليه!! لأنه الأمير. (وأعطاهم) عطف تفسير؛ أي: كان المردود (عطاء كثيرا) ، لأنّه لم يكن معه مال غير المأخوذ من الغنيمة، وسمّي المردود عطاء!! لملك الغانمين له (حتّى قوّم) - بالبناء للمفعول- (ما) أي: الذي (أعطاهم ذلك اليوم؛ فكان خمسمائة ألف ألف) من السبايا بتكرير لفظ «ألف» «مرتين» ، وهو عبارة عن خمسمائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 قال ابن دحية: ... مليون؛ بالتعبير العصري. وأما أموالهم فلم يردّها عليهم، لأنّه كان قسم الجميع، فلما جاؤا مسلمين خيّرهم بين ردّ المال أو السبايا. فاختاروا السبايا فردّهم كما مرّ مفصّلا. (قال) العلّامة الإمام الحافظ أبو الخطّاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد الجميّل بن فرح بن خلف بن قومس بن مزلال بن ملّال بن بدر بن أحمد (بن دحية) - بكسر الدال المهملة وفتحها، وسكون الحاء المهملة، وبعدها ياء مثنّاة من تحت- وهو: دحية بن خليفة الكلبي «صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . وصاحب الترجمة ينسب إليه، ويعرف ب «ذي النسبين» : دحية؛ والحسين السّبط، لأنّه كان يذكر أنّ أمّه من ذرية الحسين رضي الله تعالى عنهما. كان أبو الخطّاب؛ من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقنا لعلم الحديث النبوي، وما يتعلّق به، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها. واشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقي بها علماءها ومشايخها، ثم رحل منها إلى بر العدوة، ودخل مراكش، واجتمع بفضلائها. ثم ارتحل إلى إفريقيا، ومنها إلى الديار المصريّة، ثمّ إلى الشام والشرق والعراق، ودخل إلى عراق العجم، وخراسان، وما والاها، وما زندران، كلّ ذلك في طلب الحديث والاجتماع بأئمّته والأخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه ويستفاد منه وولّي قضاء دانية. ومن تصانيفه «المطرب من أشعار أهل المغرب» خط «1» ، و «الآيات البينات» خطّ و «نهاية السول في خصائص الرسول» خط، و «النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس» طبع، و «التنوير في مولد السراج المنير» ، و «علم النّصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين» .   (1) بل طبع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 وهذا نهاية الجود الّذي لم يسمع بمثله في الوجود) . وعن عائشة رضي الله [تعالى] عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل الهديّة ويثيب عليها. وكانت ولادته سنة: أربع وأربعين وخمسمائة، ووفاته سنة: ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة؛ وعمره قارب التسعين، ودفن بسفح المقطّم رحمه الله تعالى. (وهذا نهاية الجود الّذي لم يسمع بمثله في الوجود. و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «الهبة» وأبو داود في «البيوع» ، والترمذيّ في «الجامع» في «البر» وفي «الشمائل» ؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهديّة) ؛ طلبا للتحابب والتواصل، وفرارا من التباغض والتقاطع، إلّا لعذر؛ كما ردّ على الصعب بن جثّامة الحمار الوحشيّ؛ وقال: «إنّا لم نردّه عليك إلّا أنّا حرم» . (ويثيب) أي: يجازي، والأصل في الإثابة: أن يكون في الخير والشرّ، لكن العرف خصّها بالخير (عليها) ؛ بأن يعطي المهدي بدلها، وأقلّه قيمة ما يساوي الهديّة، فيسنّ التأسّي به في ذلك، لكن محلّ ندب القبول حيث لا شبهة قويّة فيها، وحيث لم يظنّ المهدى إليه أنّ المهدي أهداه حياء، وإلّا! لم يجز القبول. قال الغزالي: مثال من يهدي حياء: من يقدم من سفر ويفرّق الهدايا؛ خوفا من العار، فلا يجوز قبول هديّته؛ إجماعا، لأنه: «لا يحلّ مال امرىء مسلم إلّا عن طيب نفس» . وكذا إذا ظنّ المهدى إليه أنّ المهدي إنّما أهدى له هديّته لطلب المقابل، فلا يجوز له قبولها؛ إلّا إذا أعطاه ما في ظنّه بالقرائن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وأتته صلّى الله عليه وسلّم امرأة ببردة، فقالت: يا رسول الله؛ أكسوك هذه؟ فأخذها صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها، فلبسها، قال المناوي: وأخذ بعض المالكية بظاهر الخبر، فأوجب الثواب عند الإطلاق؛ إذا كان ممن يطلب مثله الثواب، أي: كالهديّة من الأدنى للأعلى. قال: وإنّما قبل الهدية؛ دون الصدقة!! لأنّ المراد بها ثواب الدنيا، وبالإثابة تزول المنّة. والقصد بالصدقة ثواب الآخرة، فهي من الأوساخ. وظاهر الإطلاق: أنّه كان يقبلها من المؤمن والكافر. وفي السّير أنّه قبل هدية المقوقس وغيره من الملوك. انتهى. (وأتته صلّى الله عليه وسلم امرأة) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها (ببردة) منسوجة؛ فيها حاشيتها- كما في البخاريّ مرفوعا بمنسوجة، لأن اسم المفعول يعمل عمل فعله؛ كاسم الفاعل. وقال الداودي: يعني أنّها لم تقطع من ثوب، فتكون بلا حاشية. وقال غيره: حاشية الثوب هدبه. وكأنه أراد أنها جديدة لم يقطع هدبها ولم تلبس. وقال القزّاز: حاشيتا الثوب ماحيتاه اللّتان في طرفيهما الهدب. ولفظ البخاريّ في «الأدب» : جاءت امرأة ببردة؛ فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟! قالوا: الشّملة. قال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها. (فقالت: يا رسول الله: أكسوك هذه) ؟! وفي رواية «الجنائز» : قال: «نعم» . قالت: قد نسجتها بيدي؛ فجئت لأكسوكها. قال الحافظ: وتفسير البردة بالشّملة تجوّز، لأن البردة كساء، والشّملة: ما اشتمل به. فهي أعمّ، لكن لمّا كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها. (فأخذها) النبيّ (صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها) ، كأنّهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدّم قول صريح؛ (فلبسها) لفظ «الأدب» : وفي رواية «الجنائز» : فخرج إلينا، وإنّها إزاره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 فرآها عليه رجل من الصّحابة فقال: يا رسول الله؛ ما أحسن هذه! فاكسنيها، ... ولابن ماجه: فخرج إلينا فيها، وللطبرانيّ فاتّزر بها؛ ثمّ خرج (فرآها عليه رجل من الصّحابة) . أفاد المحبّ الطبريّ في «الأحكام» أنّه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبرانيّ، ولم أره في «المعجم الكبير» ، لا في مسند سهل؛ ولا في مسند عبد الرحمن!! وقد أخرج الطبرانيّ الحديث، وقال في آخره: قال قتيبة: هو سعد بن أبي وقّاص. وأخرجه البخاريّ في «اللباس» ، والنسائي في «الزينة» عن قتيبة؛ ولم يذكرا عنه ذلك!! ورواه ابن ماجه؛ وقال فيه: فجاء رجل سمّاه يومئذ، وهو دالّ على أنّ الراوي ربّما سمّاه. وفي رواية أخرى للطبراني؛ من طريق زمعة بن صالح؛ عن أبي حازم؛ عن سهل أنّ السائل المذكور أعرابيّ، فلو لم يكن زمعة ضعيفا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف، أو سعد بن أبي وقّاص!! أو يقال: تعدّدت القصّة على ما فيه من بعد. وقول شيخنا ابن الملقّن «إنّه سهل بن سعد» غلط، التبس عليه اسم القائل باسم الراوي؛ قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. (فقال: يا رسول الله؛ ما أحسن) - بنصبه؛ تعجبا- (هذه) البردة (فاكسنيها) . لفظ «الأدب» ؛ ولفظ الجنائز عقب أنّها إزاره: فحسّنها فلان؛ فقال: أكسنيها؛ ما أحسنها!! قال الحافظ: فحسّنها؛ كذا في جميع الروايات هنا؛ أي: في «الجنائز» - بمهملتين من التحسين-. وللبخاريّ في «اللباس» فجسّها- بجيم بلا نون-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 فقال: «نعم» ، فلمّا قام عليه الصّلاة والسّلام.. لامه أصحابه، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذها محتاجا إليها، ثمّ سألته إيّاها، وقد عرفت أنّه لا يسأل شيئا فيمنعه. رواه البخاريّ. وكذا للطبرانيّ والإسماعيليّ؛ من طريق آخر (فقال) ؛ أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (: «نعم» ) أكسوكها. وللبخاريّ في «اللباس» : فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، فأرسل بها إليه. (فلمّا قام عليه الصّلاة والسّلام لامه) أي: السائل (أصحابه، وقالوا: ما) - نافية- (أحسنت حين رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أخذها) ، وفي رواية: لبسها (محتاجا إليها، ثمّ سألته إيّاها؛ وقد عرفت أنّه لا يسأل شيئا فيمنعه!!) . وفي رواية: لا يردّ سائلا. بقيّته في البخاري: فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلّى الله عليه وسلم لعلّي أكفّن فيها. وفي رواية للبخاريّ أيضا: فقال الرّجل: والله؛ ما سألتها إلّا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه. وبيّن في رواية الطّبرانيّ المعاتب له من الصحابة؛ ولفظه: قال سهل: فقلت للرجل: لم سألته وقد رأيت حاجته إليها؟! فقال: رأيت ما رأيتم، ولكنّي أردت أن أخبّئها حتّى أكفّن فيها. وفي رواية البخاري في «الجنائز» : قال: والله؛ إنّي ما سألته لألبسها، إنّما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه. (رواه البخاريّ) في «الجنائز» و «البيوع» و «الأدب» و «اللباس» ؛ من حديث سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه. قال في «المواهب» : وفي هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه صلّى الله عليه وسلم، وسعة جوده، وقبوله الهدية، وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 ......... واستنبط منه السّادة الصوفيّة جواز استدعاء المريد خرقة التصوّف من المشايخ تبرّكا بهم، وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنّه صلّى الله عليه وسلم ألبس أمّ خالد خميصة سوداء ذات علم. رواه البخاري. لكن قال شيخنا- يعني السخاويّ- رحمه الله تعالى: ما يذكرونه- أي الصوفية- من أنّ الحسن البصريّ لبسها من علي بن أبي طالب رضي الله عنه!! فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنّه باطل. وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح؛ ولا حسن؛ ولا ضعيف أنّه صلّى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدا من أصحابه بفعلها، وكلّ ما يروى صريحا في ذلك!! فباطل. قال الحافظ ابن حجر: ثمّ إنّ من الكذب المفترى قول من قال «إنّ عليا ألبس الخرقة الحسن البصري» ، فإنّ أئمّة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعا؛ فضلا عن أن يلبسه الخرقة. قال السّخاوي: ولم ينفرد شيخنا- يعني: الحافظ ابن حجر- بذلك، بل سبقه إليه جماعة حتّى ممن لبسها وألبسها؛ كالدمياطي، والذهبي، والعلائي، ومغلطاي، والعراقي، والأبناسي، والحلبي، والهكاري، وابن الملقّن، وابن ناصر الدين؛ وتكلّم عليها في جزء مفرد. وللحافظ السيوطي مؤلّف سمّاه «إتحاف الفرقة برفو الخرقة» ذكر فيه أنّ جمعا من الحفاظ أثبتوا سماع الحسن من علي بن أبي طالب. والحافظ ضياء الدين في «المختارة» رجّحه، وتبعه الحافظ في «أطرافها» ، وهو الراجح عندي لقاعدة الأصول: أن المثبت مقدّم على النافي، لأن معه زيادة علم ولأن الحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وكانت أمّه خيرة مولاة أمّ سلمة، فكانت أمّ سلمة تخرجه إلى الصحابة فيباركون عليه، وأخرجته إلى عمر؛ فدعا له، فقال: «اللهمّ؛ فقّهه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 ......... الدين، وحبّبه إلى النّاس.» أخرجه العسكري بسنده. وذكر المزّيّ أنّه حضر يوم الدار؛ وله أربع عشرة سنة، ومعلوم أنّه من حين بلغ سبع سنين أمر بالصلاة، فكان يحضر الجماعة ويصلّي خلف عثمان حتّى قتل، ولم يخرج عليّ إلى الكوفة إلّا بعد قتله؛ فكيف ينكر سماع الحسن منه؛ وهو كل يوم يجتمع به خمس مرّات من حين ميّز إلى أن بلغ أربع عشرة سنة!؟! وقد كان عليّ يزور أمّهات المؤمنين، ومنهنّ أمّ سلمة؛ والحسن البصري في بيتها هو وأمّه!! وقد ورد عن الحسن ما يدلّ على سماعه منه! وروى المزّيّ؛ من طريق أبي نعيم أنّ يونس بن عبيد؛ قال للحسن: إنّك تقول «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ولم تدركه» ؟! قال: يا ابن أخي؛ لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك!! إنّي في زمان كما ترى! وكان في عمل الحجّاج! كلّ شيء سمعتني أقول «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ؛ فهو عن عليّ، غير أنّي لا أستطيع أن أذكر عليّا. ثم ذكر ما أخرجه الحفّاظ من رواية الحسن عن علي، فبلغ عشرة أحاديث ساقها وذكر خلالها قول ابن المديني «الحسن رأى عليا بالمدينة المنوّرة وهو غلام» . وقال أبو زرعة: كان الحسن البصري يوم بويع علي ابن أربع عشرة سنة. ورأى عليّا بالمدينة، وقال: رأيت الزّبير يبايع عليّا! ثم خرج إلى الكوفة والبصرة؛ ولم يلقه الحسن بعد ذلك، ففي هذا القدر كفاية. ويحمل قول النافي على ما بعد خروج عليّ من المدينة المنورة. وروى أبو يعلى: حدّثنا جويرية بن أشرس قال: أخبرنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عليّا يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فمثل أمّتي مثل المطر ... » . الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 وكان صلّى الله عليه وسلّم رحيما، ... قال الحافظ في «تهذيب التهذيب» : قال محمد بن الحسن الصيرفي «شيخ شيوخنا» : هذا نصّ في سماع الحسن من علي. ورجاله ثقات. انتهى ملخصا. وليس في ذا الرفع كلّه إثبات الدعوى أنّ عليّا ألبس الحسن الخرقة على متعارف الصوفية. وكذا قول المصنف- يعني القسطلّانيّ-: «نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة المتصلة إلى كهيل «1» بن زياد النخعي؛ وهو صحب عليا من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل» ! لا دلالة فيه على الدعوى؛ «وهو أنّ عليا ألبسها كهيلا» إنّما هو احتمال، ولا تقوم به حجّة. وفي بعض الطرق للخرقة اتصالها بأويس القرني، وهو اجتمع بعمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب، وهذه صحبة لا مطعن فيها. لكن لا تدلّ على الدعوى نصّا!! إنما هو احتمال، وكثير من السادة الصوفية يكتفي بمجرّد الصحبة؛ كالشاذلي إمام الطريقة، وشيخنا أبي إسحاق إبراهيم المتبولي، وكان يوسف العجمي يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهود واللبس، وله في ذلك رسالته «ريحان القلوب» . وللشيخ قطب الدين القسطلاني «ارتقاء الرتبة في اللباس والصحبة» انتهى كلام «المواهب» مع شرح الزرقاني، رحمهما الله تعالى. (و) أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» بسند حسن- كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم رحيما) ، حذف المعمول!! ليفيد العموم؛ فهو رحيم حتّى بأعدائه، لما دخل يوم الفتح مكّة على قريش؛ وقال: «اجلسوا بالمسجد الحرام» وصحبه ينتظرون أمره فيهم.. من قتل أو غيره! قال: «ما تظنّون أنّي فاعل بكم؟» . قال: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم.. فقال: «أقول كما قال أخي يوسف «لا تثريب عليكم اليوم» اذهبوا فأنتم الطّلقاء» .   (1) في نسخة: كميل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 وكان لا يأتيه أحد إلّا وعده وأنجز له؛ إن كان عنده. وأمّا شجاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أنجد النّاس ... قال ابن عربي: فلا ملك أوسع من ملك سيّدنا محمّد، فإنّ له الإحاطة بالمحاسن والمعارف، والتودّد والرحمة والرفق، وكان بالمؤمنين رحيما. وما أظهر في وقت غلظة على أحد إلّا عن أمر إلهيّ حين قال له جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [73/ التوبة] فأمر بما لم يقتض طبعه ذلك، وإن كان بشرا يغضب لنفسه ويرضى لها!!. (وكان لا يأتيه أحد) يسأله شيئا (إلّا وعده وأنجز له؛ إن كان عنده) ، وإلّا أمر بالاستدانة عليه. انتهى مناوي؛ على «الشمائل» . (وأمّا شجاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) : الشجاعة- بفتح الشين- قال القاضي عياض: هي فضيلة قوّة الغضب، وانقياد تلك القوّة للعقل؛ على وفق الشرع. أي: لتقع على ما ينبغي من النعوت الآدمية، ولتكون من الصفات البهيّة. والنّجدة- بفتح النون فسكون الجيم فدال مهملة- بمعنى الشجاعة؛ في قول، وقال بعضهم: هي شدّة البأس، يقال: هم أنجاد أمجاد؛ أي: أشدّاء شجعان، والواحد نجد؛ ككتف وأكتاف. وقال القاضي عياض: النّجدة: ثقة النفس؛ أي: وثوقها بربّها عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها؛ دون خوف. (فقد) كان صلّى الله عليه وسلم منها بالمحلّ الذي لا يجهل،! قد حضر المواقف الصعبة، وفرّ الكماة والأبطال عنه غير مرّة؛ وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح وما شجاع إلّا وقد أحصيت له فرّة وحفظت عنه جولة؛ سواه صلّى الله عليه وسلم. وفي «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم أنجد النّاس) أي: أكثرهم نجدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 وأشجعهم. قال عليّ رضي الله تعالى عنه: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ... (وأشجعهم) ؛ أي: أقواهم قلبا في حال البأس، فكان الشجاع منهم الذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولّى قطّ؛ ولا تحدّث أحد بفراره. وقد ثبتت أشجعيّته بالتواتر النقلي؛ بل أخذه بعضهم من النص القرآني، لقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [73/ التوبة] فكلّفه؛ وهو فرد؛ جهاد الكلّ، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [286/ البقرة] !! ولا ضير في كون المراد: هو ومن معه، إذ غايته أنّه قوبل بالجميع؛ وذلك مفيد للمقصود. قال العراقي: روى الدارميّ؛ من حديث ابن عمر بسند صحيح: ما رأيت أجلد، ولا أجود، ولا أشجع، ولا أرضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. انتهى وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ما رأيت أشجع، ولا أنجد، ولا أجود، ولا أرضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. رواه الإمام أحمد، والنّسائيّ، والطبرانيّ، والبيهقيّ. وعطف «أجود» على «أنجد» ؟! للمناسبة بينهما، إذ الجواد لا يخاف الفقر، والشجاع لا يخاف الموت، ولأن الأوّل بذل النفس، والثاني: بذل المال. والجود بالنفس أقصى غاية الجود! انتهى من «شرح الزرقاني» ، و «شرح الإحياء» و «شرح الشفاء» . (قال) الإمام (عليّ) بن أبي طالب أمير المؤمنين (رضي الله تعالى عنه) وكرّم الله وجهه في الجنّة (: لقد رأيتني) - بضمّ التّاء- وهذا من خصائص أفعال القلوب وما ألحق بها؛ من «رأى» البصريّة والحلميّة: أن يكون فاعلها ومفعولها ضميرين متّصلين لشيء واحد، و «رأى» هذه بصريّة؛ أي: والله لقد أبصرت نفسي (يوم بدر ونحن نلوذ) أي: نلتجىء ونستتر (بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ، وكان الظاهر أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 وهو أقرب إلى العدوّ. وكان من أشدّ النّاس يومئذ بأسا. وقال أيضا: كنّا إذا حمي «1» البأس ولقي القوم القوم ... يقول: ولقد رأيتنا. وكأنه عدل عنه إشارة إلى أنّ كلّ أحد مشغول بنفسه؛ لا يرى غيره. (وهو) أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم ( [أقرب] إلى العدوّ) منا لشدّة شجاعته صلّى الله عليه وسلم، والمراد بالعدوّ الكفّار (وكان من أشدّ النّاس يومئذ بأسا) أي: نكاية في العدو، كقوله تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) [النساء] كما قاله الرّاغب. وإذا كان حاله هذا في مثل هذا الوقت؛ ففي سائر الأوقات بالأولى، وما أحسن قول من قال من أرباب الحال: له وجه الهلال لنصف شهر ... وأجفان مكحّلة بسحر فعند الابتسام كليل بدر ... وعند الانتقام كيوم بدر وهذا الحديث أخرجهء الإمام أحمد، والنّسائي، والبيهقيّ في «الدّلائل» ؛ من طرق؛ عن علي رضي الله تعالى عنه، ورواه أبو الشيخ في «الأخلاق» بسند جيّد. انتهى «شرح الشفا» . و «شرح الإحياء» . (وقال أيضا) ؛ أي: عليّ رضي الله تعالى عنه كما في «الإحياء» و «الشفاء» قال في «شرحه» : رواه الإمام أحمد، والنسائيّ، والطبرانيّ، والبيهقيّ. (كنّا إذا [حمي] ) - بزنة: علم- (البأس) - بموحّدة، وبهمزة، أو ألف- وهو الشدّة. والمراد به الخوف؛ أو الحرب، أي: اشتدّ القتال، وهو معنى ما وقع في الرواية الآخرى «حمي الوطيس» ، فإنّ الوطيس التّنور، (ولقي القوم) - بالرفع فاعل- (القوم) - بالنصب مفعول-.   (1) في «وسائل الوصول» : احمرّ. وكلاهما جائز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه. وقيل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قليل الكلام، قليل الحديث، فإذا أمر النّاس بالقتال.. تشمّر. وكان من أشدّ النّاس بأسا، وكان الشّجاع هو الّذي يقرب منه في الحرب؛ لقربه من العدوّ. وفي «الشفاء» بدل قوله: «ولقي القوم القوم» «واحمرّت الحدق» - (اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلم) . أي: جعلناه وقاية من العدو، بأن يتقدمّ علينا؛ فيدفع العدوّ؛ ونحن خلفه، كما يشير إليه قوله (فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه) ، ولذا أمسوا بغلته صلّى الله عليه وسلم يوم حنين؛ كما مرّ، ولم ينكر عليهم!! (و) في «الإحياء» : (قيل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قليل الكلام، قليل الحديث، فإذا أمر النّاس بالقتال تشمّر) قال العراقي: رواه أبو الشيخ؛ من حديث سعد بن عياض الثّمالي مرسلا. قلت: وروى الإمام أحمد؛ من طريق سماك؛ قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلّى الله عليه وسلم؟! قال: نعم، وكان طويل الصّمت قليل الضّحك. رجاله رجال الصّحيح؛ غير شريك، وهو ثقة. وسعد بن عياض المذكور تابعيّ يروي عن ابن مسعود، وعنه أبو إسحاق السّبيعي وثّق. روى له أبو داود، والنسائي؛ كذا في «الكاشف» . انتهى شرح «الإحياء» . (وكان) صلى الله عليه وسلم (من أشدّ النّاس بأسا) . رواه الإمام أحمد، والنّسائيّ، وغيرهما؛ من حديث عليّ في قصّة بدر- وقد تقدم قريبا- (وكان الشّجاع) منّا (هو الّذي يقرب منه) صلى الله عليه وسلم (في الحرب؛ لقربه من العدوّ) . قال العراقي: رواه مسلم؛ من حديث البراء: كنّا والله؛ إذا حمي البأس نتّقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وقال عمران بن حصين ... به، وإنّ الشجاع الذي يحاذى به. انتهى شرح «الإحياء» . (و) أخرج أبو الشيخ في «الأخلاق» بسند فيه مجهول؛ (قال) أبو نجيد- بضم النون وفتح الجيم- (عمران) - بكسر العين المهملة وسكون الميم وراء مهملة- (ابن حصين) - بضمّ الحاء وفتح الصاد المهملتين؛ كتصغير حصن- ابن عبيد بن خلف بن عبد شهم بن سالم الخزاعيّ البصري؛ كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم. أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر سنة: سبع من الهجرة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة وثمانون حديثا؛ اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاريّ بأربعة ومسلم بتسعة. روى عنه أبو رجاء العطاردي؛ واسمه: تيم، ومطرّف بن عبد الله، وزرارة ابن أوفى، وزهدم، وعبد الله بن بريدة، وابن سيرين، والحسن، والشعبي، وأبو الأسود الدّؤلي، وآخرون. نزل البصرة؛ وكان قاضيها؛ استقضاه عبد الله بن عامر أيّاما، ثم استعفاه فأعفاه. توفي بها سنة: ثنتين وخمسين هجرية، وكان الحسن البصري يحلف بالله تعالى: ما قدم البصرة راكب خير لهم من عمران. وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم غزوات وبعثه عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه إلى البصرة ليفقه أهلها، وكان مجاب الدّعوة؛ ولم يشهد تلك الحروب وكان أبيض الرأس واللحية، وله عقب بالبصرة. وفي «صحيح مسلم» ؛ عن عمران قال: قد كان يسلّم عليّ حتّى اكتويت «1»   (1) من البواسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 رضي الله تعالى عنهما: ما لقي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتيبة إلّا كان أوّل من يضرب. وقالوا: وكان قويّ البطش. ولمّا غشيه المشركون.. نزل عن بغلته، فجعل يقول: ... فتركت. ثم تركت الكيّ فعاد. يعني كانت الملائكة تسلم عليه ويراهم عيانا كما جاء مصرّحا به في غير «صحيح مسلم» . ومات عمران سنة: اثنتين وخمسين. وقيل: سنة ثلاث وخمسين هجرية. واختلف العلماء في حصين «والد عمران» : هل أسلم، وله صحبة؛ أم لا؟! قال ابن الجوزي في «التلقيح» : الصحيح أنّه أسلم (رضي الله تعالى عنهما: ما لقي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كتيبة) - بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية، وبالمثناة التحتية، وباء موحّدة، أي: طائفة من الجيش مجتمعة- (إلّا كان أوّل من يضرب) بسيفه، ويقاتل. (و) في «الإحياء» : (قالوا: وكان) صلى الله عليه وسلم (قويّ البطش) . قال العراقي: رواه أبو الشيخ؛ من رواية أبي جعفر معضلا. انتهى قلت: ورواه ابن سعد؛ عن محمد بن علي مرسلا؛ بلفظ: كان شديد البطش. قال الشارح: فلم تكن الرّحمة منزوعة عن بطشه لتخلّقه بأخلاق الله تعالى، وهو سبحانه ليس له وعيد وبطش شديد؛ ليس فيه شيء من الرحمة واللّطف. وقال الحافظ العراقيّ: وللطبرانيّ من حديث عبد الله بن عمرو: «وأعطيت قوّة أربعين في البطش والجماع» . وسنده ضعيف. (ولمّا غشيه المشركون) يوم حنين (نزل عن بغلته، فجعل يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، فما رئي يومئذ أحد أشدّ منه. «أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب» قال الحافظ العراقيّ: متّفق عليه؛ من حديث البراء. انتهى. وسيأتي في الحديث بعده التفصيل. ومعنى قوله «أنا النّبيّ لا كذب» ؛ أي: حقا فلا أفرق ولا أزول، أي: صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنّه قال أنا النبيّ؛ والنبيّ لا يكذب. لست بكاذب فيما أقول حتّى أنهزم بل أنا متيقن أن ما وعدني الله من النصر حق فلا يجوز علي الفرار أنا ابن عبد المطلب. فيه دليل لجواز قول الإنسان في الحرب «أنا فلان بن فلان» . ومنه قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره. وقول سلمة: أنا ابن الأكوع. والمنهيّ عنه قول ذلك على وجه الافتخار؛ كما كانت الجاهلية تفعله. وانتسب لجدّه عبد المطلب؛ دون أبيه عبد الله!! لأنه توفّي شابّا في حياة أبيه عبد المطلب؛ فلم يشتهر كاشتهار أبيه. وكان عبد المطلب سيّد قريش وسيّد أهل مكّة، ومن ثمّ نسب إليه صلّى الله عليه وسلم في نحو قول ضمام: أيّكم ابن عبد المطلب. انتهى شرح «الإحياء» . (فما رئي يومئذ أحد أشدّ منه) صلى الله عليه وسلم، لأنّه لمّا استقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قطّ؛ من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح وخرجت الكتائب من مضيق الوادي؛ فحملوا حملة واحدة؛ فانكشفت خيل بني سليم مولّية؛ وتبعهم أهل مكّة والنّاس، ولم يثبت معه صلّى الله عليه وسلم إلّا عمّه العبّاس، وأبو سفيان بن الحارث، وأبو بكر، وأسامة في أناس من أهل بيته وأصحابه. قال العبّاس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفّها؛ مخافة أن تصل إلى العدو، لأنّه كان يتقدّم نحوهم، وأبو سفيان آخذ بركابه. انتهى شرح «الإحياء» ، وسيأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 وسأل رجل البراء ... مزيد الكلام على الحديث الذي بعد هذا. (و) أخرج البخاريّ في «الجهاد» ، ومسلم في «المغازي» ، والنسائي في «السّير» بإختلاف في بعض ألفاظه أنّه (سأل رجل) من قيس. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه!! (البراء) - بفتح الموحّدة وتخفيف الرّاء وبالمدّ- هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف العلماء. وهو: أبو عمارة، ويقال: أبو الطفيل البراء بن عازب- بالزاي- ابن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسيّ الحارثيّ المدني. أمّه أمّ حبيبة بنت أبي حبيبة. وقيل: أم خالد بنت ثابت. وأبوه عازب صحابي، ذكر محمد بن سعد في «الطبقات» أنّه أسلم. روي للبراء عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثلثمائة حديث وخمسة أحاديث؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستّة. روى عنه عبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو جحيفة الصحابيان، وجماعة من التابعين؛ منهم: الشعبي، وابن أبي ليلى، والسبيعي، ومعاوية بن سويد، وأبو المنهال سيّار بن سلامة، وغيرهم. نزل الكوفة وابتنى بها دارا، وتوفي بها زمن مصعب بن الزبير، وأرّخه ابن حبان سنة: اثنتين وسبعين. استصغره النبي صلّى الله عليه وسلم يوم بدر، وأوّل مشاهده أحد. وفي البخاري؛ عن البراء قال: غزوت مع النبي صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، وشهد البراء مع أبي موسى غزوة تستر، وشهد مع عليّ رضي الله عنه وقعة الجمل وصفّين والنهروان، هو وأخوه عبيد بن عازب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 رضي الله تعالى عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قال: نعم، لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفرّ، وكان للبراء ابنان: يزيد وسويد (رضي الله تعالى عنه: أفررتم) معاشر الصحابة (يوم حنين) معرضين (عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ قال: نعم، لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يفرّ) استدراك على ما قد يتوهّم من فراره صلى الله عليه وسلم حين فرّوا عنه، الواقع عند السائل؛ أخذا من عموم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) [التوبة] فبيّن له أنّه من العموم الذي أريد به الخصوص، والتقدير: نعم فررنا، ولكنه صلّى الله عليه وسلم ثبت وثبت معه عليّ، والعبّاس، وأبو سفيان بن الحارث، وابن مسعود. رواه ابن أبي شيبة مرسلا. وللترمذي بإسناد حسن؛ عن ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإنّ الناس لمولّون، وما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة رجل. ولأحمد، والحاكم؛ عن ابن مسعود: فولّى الناس عنه، وبقي معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار. وفي شعر العبّاس: أنّ الذين ثبتوا عشرة فقط. قال الحافظ ابن حجر: ولعلّه العدد الذي ثبت، ومن زاد عليهم عجّل الرجوع! فعدّ فيمن لم يفرّ. انتهى زرقاني؛ على «المواهب» . قال في «نظم المغازي» للعلّامة أحمد بن محمد البدوي الشنقيطي رحمه الله تعالى: وثبتت مع النّبيّ طائفه ... من أهل بيته وممّن ألفه حيدرة والعمران وأبو ... سفيان جعفر ابنه المنتخب وعمّه ربيعة، العبّاس ... وفضله أسامة الأكياس وأيمن ابن أمّه والعبدري ... شيبة رام غدر خير مضر فصدّه عمّا نوى فضربه ... نبيّنا في صدره فجذبه قال الخفاجي في «نسيم الرياض» ؛ شرح «شفاء» القاضي عياض رحمه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 كان هوازن رماة، وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا؛ فأكببنا على الغنائم، فاستقبلتنا بالسّهام. تعالى: ولم يجيء أنّه صلّى الله عليه وسلم انهزم قطّ ولم ينقله أحد، وقد نقل الإجماع على أنّه لا يجوز أن يعتقد أنّه صلّى الله عليه وسلم انهزم. ولا يجوز ذلك عليه. قال الزّرقاني على «المواهب» : وقد تقدّم للمصنّف في حنين، وقبله في أحد: أنّ من زعم أنّه صلّى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب؛ وإلّا! قتل عند الشافعية، ووافقهم ابن المرابط من المالكية. وأنّ مذهب مالك يقتل بلا استتابة، وفرّقوا بينه وبين من قال «جرح. أو: أوذي» : بأن الإخبار عن الأذى نقص في المؤذي؛ لا عليه، والإخبار بالانهزام نقص له صلّى الله عليه وسلم، لأنّه فعله؛ لو وقع، كما أن الأذى فعل المؤذي. قال ابن دحية: وأما تغيّبه في الغار!! فكان قبل الإذن في القتال. وأما مظاهرته بين درعين يوم أحد!! فهو من الاستعداد للإقدام، وليقتدي به أصحابه. والمنهزم خارج عن الإقدام جملة، بخلاف المستعدّ له. انتهى. ثمّ بيّن سبب التولّي؛ فقال (كان هوازن رماة، وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا) : انهزموا؛ كما هو لفظ رواية البخاري في «الجهاد» : (فأكببنا) - بفتح الموحّدة الأولى وإسكان الثانية ونون- أي: وقعنا (على الغنائم) ، وفي «الجهاد» ؛ فأقبل الناس على الغنائم (فاستقبلتنا) أي: هوازن. وفي «الجهاد» : فاستقبلونا (بالسّهام) ؛ أي: فولّينا. وفي مسلم: فرموهم برشق من نبل كأنّها رجل جراد. وفيه أيضا؛ عن أنس: جاء المشركون بأحسن صفوف رأيت؛ [فصفّت] الخيل، ثم المقاتلة، ثمّ النّساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم النّعم ونحن بشر كثير، وعلى خيلنا خالد بن الوليد؛ فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرّت الأعراب ومن تعلم من الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 ثمّ قال: ولقد رأيته على بغلته البيضاء- وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها ... (ثمّ قال) ؛ أي: البراء (: ولقد رأيته على بغلته البيضاء) التي أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي؛ كما في مسلم؛ عن العبّاس. وعند ابن سعد وأتباعه: على بغلته دلدل. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن دلدل أهداها له المقوقس. قال القطب الحلبي: فيحتمل أنّه ركب يومئذ كلّا من البغلتين؛ إن ثبت أنّ دلدل كانت معه، وإلّا! فما في «الصحيح» أصحّ (وأبو سفيان بن الحارث) بن عبد المطلب، هو ابن عمّ النبي صلّى الله عليه وسلم واسمه المغيرة، أو اسمه كنيته. وكان أخاه من الرّضاع، وآلف الناس به قبل النبوة، وكان يشبهه صلّى الله عليه وسلم أيضا. وكان شاعرا مطبوعا، فلما ظهر الإسلام أظهر العداوة، وهجا النبي صلّى الله عليه وسلم، وأجابه حسّان رضي الله تعالى عنه بما هو مذكور في السّير، ثم أسلم؛ وحسن إسلامه، وأبلى بلاء حسنا يوم حنين. وتوفي: سنة عشرين، وصلّى عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو أحد من ثبت يوم حنين رضي الله تعالى عنه. (آخذ بلجامها) أوّلا، فلما ركضها صلّى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خشي عليه العبّاس؛ فأخذ زمامها، وأخذ أبو سفيان بالرّكاب. فلا يخالف هذا ما في «مسلم» : أنّ العبّاس كان آخذا بزمامها. وللبخاري في «الجهاد» : فنزل؛ أي عن البغلة فاستنصر. وفي «مسلم» : فقال «اللهمّ؛ أنزل نصرك» . وإنّما أمسكا باللّجام!! لئلا يسرع للاتصال بالعدو!! لما رأيا من إقدامه صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 - وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، فما رئي يومئذ أحد كان أشدّ منه. ومسارعته، وأشفقا عليه بمقتضى المحبّة الإسلامية والرحم. (وهو يقول: «أنا النّبيّ) حقّا (لا كذب) في ذلك، أو والنبي لا يكذب، فلست بكاذب حتّى أنهزم، (أنا ابن عبد المطّلب» ) قال الخطّابي: خصّه بالذّكر!! تثبيتا لنبوّته وإزالة للشكّ، لما اشتهر من رؤيا عبد المطّلب المبشّرة به صلّى الله عليه وسلم، ولما أنبأت به الأحبار والكهان، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بدّ مما وعدت به؛ لئلا ينهزموا عنه، أو يظنّوا أنّه مغلوب، أو مقتول. فليس من الفخر بالآباء في شيء، وليس بشعر؛ وإن كان موزونا، لأنّه لم يقصده، ولا أراده، وهما من شرط كونه شعرا، وهذا أعدل الأجوبة. ولا يجوز فتح الباء الأولى [كذب] ، وكسر الثانية [المطّلب] ، ليخرج عن الوزن، لأنّه تغيير للرواية بمجرّد خيال يقوم في النفس، ولأنّه وقع في إشكال أصعب مما فرّ منه، لأن فيه نسبة اللّحن إلى أفصح الفصحاء، فالعرب لا تقف على متحرّك. انتهى «زرقاني» . وهذا يعدّ في غاية ما يكون من الشجاعة التامّة، لأنّه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة؛ ليست بسريعة، ولا تصلح لكرّ ولا فرّ ولا هرب، فركوبها وركضها إلى وجوههم مع التنويه باسمه ليعرفه من ليس يعرفه: كلّ ذلك دليل النهاية في الشجاعة والثبات وعدم المبالاة بالعدوّ، وأنّ الحرب عنده كالسّلم، صلوات الله وسلامه عليه، كما قال: (فما رئي يومئذ أحد كان أشدّ منه) ، أي: لم ير في حرب هوازن أقوى؛ وأشجع من النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد ركب بغلته؛ وقد ظاهر عليها درعا ومغفرا، وطاف على الصفوف يحضّهم على القتال ويبشّرهم بالفتح؛ إن صدقوا وصبروا، وكانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وعن العبّاس ... برزوا للقتال في كتائب لم ير المسلمون مثلها عدّة وعدّة، وحملوا حملة واحدة، وكانوا أرمى الناس بالسّهام، وأعرفهم بالقتال؛ فانهزم الناس، والنبيّ صلّى الله عليه وسلم ثابت يلتفت يمنة ويسرة لمن فرّ منهم وهو يقول: «يا أنصار الله؛ وأنصار رسوله صلّى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله» ثمّ تقدّم بحربته أمام الناس، فلم يمض قليل حتّى هزمهم الله تعالى. انتهى «خفاجي» . قال في «شرح الإحياء» : ومما يدلّ على شجاعته صلّى الله عليه وسلم، وكونه أشدّهم بأسا ركوبه يومئذ على بغلته البيضاء؛ وهي دلدل. كما في رواية مسلم مع عدم صلاحيّتها للحرب كرّا وفرّا، ومن ثمّ لم يسهم لها. ومع العادة إنّما هي من مراكب الطمأنينة، ومع أنّ الملائكة الذين قاتلوا معه في ذلك اليوم لم يكونوا إلّا على الخيل لا غير!! ومع أنّه كانت له أفراس متعدّدة في مواطن الحرب. وهذا هو النهاية القصوى في الشجاعة والثبات، وفيه إعلام بأن سبب نصرته مدده السّماوي والتأييد الإلهي الخارق للعادة، وبأنّه ظاهر المكانة والمكان؛ ليرجع إليه المسلمون وتطمئنّ قلوبهم بمشاهدة جميل ذاته، وجليل آياته؛ كركضه بها في نحر العدو مع فرار الناس عنه، ولم يبق معه إلا أكابر أصحابه. وكنزوله عنها إلى الأرض مبالغة في الثبات والشجاعة ومساواة في مثل هذا المقام للماشين من أصحابه. والله أعلم. انتهى. (و) ذكر مسلم في «صحيحه» رواية (عن) أبي الفضل (العبّاس) بن عبد المطّلب الهاشمي «عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ، وكان أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسنتين؛ أو ثلاث. وكان العبّاس رئيسا جليلا في قريش قبل الإسلام، وكان إليه عمارة المسجد الحرام والسقاية. وحضر ليلة العقبة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين بايعته الأنصار قبل أن يسلم الأنصار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 رضي الله تعالى عنه قال: لمّا التقى المسلمون والكفّار.. ولّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يركّض بغلته نحو الكفّار، ... فشدّد العقد مع الأنصار وأكّده. وخرج مع المشركين إلى بدر مكرها وأسر، وفدى نفسه وابني أخويه عقيلا ونوفل بن الحارث. وأسلم عقب ذلك. وقيل: أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه؛ مقيما بمكّة يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان عونا للمسلمين المستضعفين بمكّة. قالوا: وأراد القدوم إلى المدينة؛ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «مقامك بمكّة خير» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعظّمه ويكرمه ويبجّله، وكان وصولا لأرحام قريش؛ محسنا إليهم، ذا رأي وكمال وعقل، جوادا؛ أعتق سبعين عبدا. وكانت الصحابة تكرّمه وتعظّمه وتقدّمه، وتشاوره وتأخذ برأيه، وهو معتدل القامة. روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون حديثا؛ اتفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بحديث، وانفرد مسلم بثلاثة. روى عنه ابناه: عبد الله وكثير، وجابر، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وآخرون. وكانت وفاة العبّاس بالمدينة المنوّرة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب. وقيل: من رمضان سنة؛ اثنتين وثلاثين. وقيل: أربع وثلاثين؛ وهو ابن ثمان وثمانين سنة. تقريبا. وقبره مشهور بالبقيع (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه. (قال: لمّا التقى المسلمون والكفّار ولّى المسلمون) أي: رجعوا وانهزموا (مدبرين) حال مؤكّدة منهم، (فطفق) - بكسر الفاء- أي: جعل (رسول الله صلّى الله عليه وسلم يركّض بغلته) أي: يسوقها ويسرع بها (نحو الكفّار) . وأصل الرّكض: الضرب بالرّجل، فمتى نسب إلى الراكب فهو إعداء مركوبه، نحو ركضت الفرس، ومتى نسب إلى الماشي؛ فهو وطىء بالأرض، نحو قوله ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [42/ ص] انتهى «خفاجي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 وأنا آخذ بلجامها أكفّها إرادة ألاتسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه. وقد كان أبيّ بن خلف يقول للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين افتدى يوم بدر: عندي فرس أعلفها ... (وأنا آخذ بلجامها) أي: ممسكه، والجملة حالية. (أكفّها) أي: أمنعها من السرعة، والجملة حال أخرى. (إرادة ألاتسرع) - بنصب «الإرادة» على العلّة «1» للجملة السابقة، أي: أمنعها من أجل ألاتعجل إلى جهة العدوّ (وأبو سفيان) بن الحارث: ابن عمّه صلّى الله عليه وسلم (آخذ) أي: ممسك (بركابه) صلى الله عليه وسلم. هذه رواية، وفي أخرى: أنّ أبا سفيان كان يقود بغلته صلّى الله عليه وسلم آخذ بلجامها؛ من أحد جانبيها، فلعلّه تارة كان يفعل كذا، وتارة كان يفعل كذا، فلا تعارض بين الروايات. انتهى «خفاجي» . (وقد كان أبيّ بن خلف) بن وهب بن حذافة بن جمح الكافر المشهور؛ وذلك فيما رواه ابن سعد في «طبقاته» ، والبيهقيّ في «دلائل النبوة» ، وعبد الرزاق في «مصنّفه» مرسلا، والواقديّ في «مغازيه» موصولا، وهو حديث صحيح أنّه كان (يقول للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم حين افتدى) أسيرا له، وهو ابنه عبد الله، أي: أعطى الفدية لافتكاك الأسير (يوم بدر) ظرف لمحذوف يدلّ عليه «افتدى» أي: افتدى أسيره يوم بدر، فهو متعلّق بأسيره، أي من أسر يوم بدر؛ وهو ابنه، فالأسر وقع ببدر؛ والافتداء بالمدينة المنوّرة؛ كذا قال الخفاجي رحمه الله تعالى. ومقول القول قوله (: عندي فرس) عظيمة اسمها العود- بعين ودال مهملتين- بوزن الضرب، (أعلفها) - بفتح الهمزة وكسر اللام- أي: أطعمها من العلف،   (1) أي للتعليل، والمراد مفعول لأجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 كلّ يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» . فلمّا رآه يوم أحد شدّ أبيّ على فرسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا؛ أي: خلّوا طريقه، ... والفرس يقع على الذكر والأنثى. وأنّثها هنا!! لأنها كانت أنثى، وقد ورد في الحديث تذكيرها وتأنيثها بحسب المراد والقرائن (كلّ يوم فرقا) - بفتح الفاء والراء المهملة ويجوز تسكينها. وقيل: لا يجوز- وهو مكيال يسع ستة عشر رطلا، وتحريكه وتسكينه بمعنى، وقيل: المسكّن مائة وعشرون رطلا، والمحرّك ستة عشر رطلا. (من ذرة) بيان للفرق- بضمّ الذال المعجمة وفتح الراء المهملة المخففة- وهي: نوع من الحبوب معروف (أقتلك عليها) أي: أريد أن أقتلك عليها. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» ) ، فحقّق ما أوعده، وكأنه إنّما علف فرسه لتسوقه لهلاكه سريعا؛ كالباحث عن حتفه بظلفه، ولكلّ باغ مصرع. (فلمّا رآه) أي: رأى أبيّ بن خلف النبي صلّى الله عليه وسلم (يوم أحد شدّ أبيّ) بن خلف الشقي أي: عدا وأسرع (على فرسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم) الجارّان متعلّقان ب «شدّ» . أو الأوّل مستقرّ حال، أي: راكبا على فرسه، والثاني لغو، و «شدّ» جواب «لمّا» الثاني دالا على جواب «لمّا» الأول (فاعترضه رجال من المسلمين) أي: حالوا بين أبيّ وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليدفعوه ويصدّوه عنه. (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) لأصحابه (.. هكذا) ؛ أي: مشيرا إلى جانب أبيّ، (أي: خلّوا طريقه) . والمعنى تنحّوا عنه ولا تحولوا بيني وبينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وتناول الحربة من الحارث بن الصّمّة؛ فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشّعراء ... (وتناول) صلى الله عليه وسلم (الحربة) - بفتح الحاء وإسكان الراء المهملتين؛ بوزن الضّربة- وهي واحدة الحراب بوزن رجال، وهي: قناة صغيرة؛ أي: أخذها (من الحارث بن الصّمّة) - بكسر الصاد المهملة، وفتح الميم المشدّدة وهاء التأنيث-، وهو- أعني: الحارث- ابن الصّمّة بن عمرو بن عتيك الأنصاري الخزرجي الصحابي. شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وغيرها من المشاهد، وقتل ببئر معونة. وذكر ابن الأثير: أنّ الذي ناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربة كعب بن مالك. وبين الروايتين مخالفة! وجمع بينهما بأنّه تناولها من أحدهما؛ فسقطت منه، فناولها له الآخر. أو أنّ أحدهما وهو الذي معه الحربة كان بعيدا منه؛ فناولها آخر قريبا منه، فسلّمها له بيده. ولا بدّ من التوفيق، فإنّ الروايتين صحيحتان، والقصّة واحدة. انتهى من شرح الخفاجي على «الشفا» . (فانتفض بها) أي: الحربة (انتفاضة) أي: قام بها قومة مسرعة. والأبلغ الأحسن أن يقال: إنه استعارة تمثيلية؛ يلزمها تشبيههم بأنهم كالذباب المؤذي الواقع المتهافت، فيفيد هجومهم عليه وتشبيه نهوضه لهم بفحل اهتزّ ليزيل ذبابا وقع عليه، لقوله (تطايروا) ؛ أي: تفرّقوا فارّين بسرعة؛ كالطيور (عنه) صلى الله عليه وسلم. والمتفرّقون!! إمّا المسلمون، واقتصر عليه بعضهم!! وإمّا المشركون الذين هجموا مع أبيّ!! وهو أبلغ وأنسب بقوله: (تطاير الشّعراء) - بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة، وراء بعدها همزة ممدودة- أي: كتطاير ذباب أحمر- أو أزرق- يقع على الحيوان فيؤذيه أذى شديدا. وفي رواية: تطاير العشارير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 عن ظهر البعير إذا انتفض. ثمّ استقبله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا- وقيل: بل كسر ضلعا من أضلاعه- فرجع إلى قريش يقول: قتلني محمّدّ. وهم يقولون: لا بأس بك. (عن ظهر البعير إذا انتفض) أي: تحرّك البعير تحرّكا شديدا (ثمّ استقبله النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي: قام إليه ومشى إليه بالحربة. (فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ) - بمثنّاة فوقيّة ودالين مهملتين، وهمزتين- أي: تدحرج وسقط (منها) أي: الطعنة (عن فرسه مرارا) ، لما غشيه من مرارة الألم. (وقيل) : لم يطعنه صلّى الله عليه وسلم في عنقه (بل كسر) بقوّة ضربته (ضلعا) - بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام- أي: واحدا (من أضلاعه) : عظام أحد جوانبه. قال الأخفش: في الجنب الأيمن تسع أضلاع، وفي الأيسر ثمان، وما نقص منه تامّ في النساء «1» ؛ وهو الذي خلقت منه حواء. ولذا روي عن الإمام أبي حنيفة في الخنثى المشكل: أنّه يحكم فيه بأنّه أنثى بتمام أضلاعه وعكسه. وقال التلمساني: رواية طعنه أقوى، لأن المعروف الطعن بالرمح. وفيه نظر. وقيل: إنّه صلّى الله عليه وسلم طعنه فوقع عن فرسه؛ فكسر ضلعه. وفيه جمع بين الروايتين، وهو حسن. انتهى «خفاجي» . (فرجع) أي: أبيّ (إلى قريش) وهو (يقول: قتلني محمّد!!) ، جملة «يقول» حاليّة؛ أي: قائلا. وعبّر بالماضي! لتحقّقه الموت. (وهم يقولون: لا بأس بك) البأس- بهمزة ساكنة وتبدل ألفا- وهو اسم «لا» مبنيّ على الفتح، والبأس: الشدّة والموت والألم، وهذا هو المناسب.   (1) تحتاج لتأمّل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 فقال: لو كان ما بي بجميع النّاس لقتلهم، أليس قد قال: «أنا أقتلك» ؟! والله لو بصق عليّ.. لقتلني. فمات بسرف في قفولهم إلى مكّة. و (الفرق) : مكيال يسع [ستّة عشر] رطلا؛ كلّ رطل مئة وثلاثون درهما. يقال: لا بأس بك، ولا بأس عليك. للتسلية؛ أو الدعاء له بأن لا يصيبه شيء من البأس. (فقال) أي: أبيّ (: لو كان ما بي) من الألم والشدّة التي أجدها في نفسي موزّعا وحالّا (بجميع النّاس لقتلهم) ، فكيف أتحمّل أنا وحدي هذا وأسلم منه!؟ (أليس قد قال) أي: النبي صلّى الله عليه وسلم حين توعّده (: «أنا أقتلك» ) أي: لا أنت تقتلني، فهو قصر قلب (والله؛ لو بصق عليّ لقتلني!) ؛ إبرارا لكلامه. وإنّما قال ذلك!! لتحقّق صدقه صلّى الله عليه وسلم فيما قاله (فمات) الملعون من تلك الطعنة (بسرف) - بفتح السّين المهملة، وكسر الرّاء المهملة؛ وفاء آخره، ممنوعا من الصرف، ويجوز صرفه-. وهو: اسم موضع على ستّة أميال من مكّة، كان فيه زواج ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم في عمرة القضاء. واتفق أنّها ماتت فيه بعد النبي صلّى الله عليه وسلم وفيه قبرها، وبني مسجد عليها (في قفولهم) - بقاف ففاء- أي: رجوع الكفار من أحد (إلى مكّة) وهو معهم. (والفرق) - بالفاء والراء المفتوحتين- (: مكيال يسع) ثلاثة آصع؛ كلّ صاع أربعة أمداد، فهي اثنا عشر مدّا، والمدّ رطل وثلث، والصاع خمسة أرطال وثلث رطل بغدادي، فيكون مجموع الثلاثة الآصع بالأرطال ( [ستّة عشر] رطلا) بغداديا (كلّ رطل مائة وثلاثون درهما) فيما جزم به الرّافعي. قال ابن الرّفعة: وهو الذي يقوى في النفس صحّته بحسب التجربة، لكن الأصحّ عند الإمام النّوويّ: أنّ رطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 و (الشّعراء) : ذباب أحمر- وقيل: أزرق- يقع على الإبل فيؤذيها أذى شديدا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس، ... بغداد مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. هذا معنى الفرق- بالتّحريك-. وأما الفرق- بسكون الراء-! فمائة وعشرون رطلا. (والشّعراء) - بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة، وراء مهملة؛ بعدها همزة ممدودة- (: ذباب أحمر- وقيل: أزرق- يقع على الإبل) والحمر والكلاب، (فيؤذيها أذى شديدا) . وعبارة الصّحاح: «الشّعراء» ذبابة؛ يقال هي التي لها إبرة. انتهى. وقيل الشّعراء: ذباب يلسع الحمار؛ فيدور. وقال أبو حنيفة [الدينوري] : الشّعراء نوعان: للكلب شعراء معروفة، وللإبل شعراء. فأما شعراء الكلب! فإنّها إلى الدّقّة والحمرة، ولا تمسّ شيئا غير الكلب. وأمّا شعراء الإبل: فتضرب إلى الصّفرة؛ وهي أضخم من شعراء الكلب؛ ولها أجنحة، وهي زغباء تحت الأجنحة. قال: وربّما كثرت في النعم حتّى لا يقدر أهل الإبل على أن يحتلبوا بالنهار، ولا أن يركبوا منها شيئا معها؛ فيتركونها إلى الليل وهي تلسع الإبل في مراق الضروع وما حولها، وما تحت الذنب، والبطن والإبطين، وليس يتّقونها بشيء إذا كان ذلك إلّا بالقطران، وهي تطير على الإبل حتى تسمع لصوتها دويا. انتهى شرح «القاموس» . (و) في «المصابيح» - وهو حديث رواه الشيخان وغيرهما- (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس) صورة وسيرة، لأنّ الله تعالى أعطاه كلّ الحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 وأجود النّاس، وأشجع النّاس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق النّاس قبل الصّوت، ... (وأجود النّاس) لتخلّقه بصفات الله تعالى التي منها الجود والكرم. و «أجود» أفعل تفضيل؛ من الجود، وهو: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي أن يعطى. ومعناه: هو أسخى النّاس بكلّ ما ينفع، فحذف للتعميم، أو لفوات إحصائه كثرة، لأنّ من كان أعظمهم شرفا وأيقظهم قلبا، وألطفهم طبعا وأعدلهم مزاجا جدير بأن يكون أسمحهم صورة، وأنداهم يدا، ولأنّه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات. (وأشجع النّاس) أقواهم قلبا في حال البأس، فكان الشجاع منهم الّذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولّى قطّ، ولا تحدّث أحد بفراره. وقد ثبتت أشجعيّته بالتواتر النقلي. واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة!! من جوامع الكلم، فإنّها أمّهات «1» الأخلاق. فإنّ في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية؛ وكمالها الشجاعة. ثانيها: الشهوانيّة؛ وكمالها الجود. ثالثها: العقلية؛ وكمالها النطق بالحكمة. انتهى من «المواهب» . وفي «الفتح» : جمع أنس صفات القوى الثلاثة على العقلية، والغضبية، والشهوانية؛ فالشجاعة تدلّ على الغضبية، والجود يدلّ على الشهوة، والحسن تابع لاعتدال المزاج المستتبع لصفاء النفس الذي به جودة القريحة الدالّ على العقل، فوصف بالأحسنيّة في الجميع. انتهى (ولقد فزع) - بكسر الزاي-: خاف (أهل المدينة ذات ليلة) من صوت سمعوه في ناحية من نواحي المدينة؛ كما أفاده بقوله (فانطلق النّاس) أي: ذهبوا (قبل) - بكسر القاف وفتح الباء الموحّدة-: جهة (الصّوت) ليعرفوا خبره لظنّهم أنّه عدو.   (1) الصواب في غير العاقل: أمّات!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 فاستقبلهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد سبق النّاس إلى الصّوت، وهو يقول: «لن تراعوا.. لن تراعوا» ، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، والسّيف في عنقه، فقال: «لقد وجدته بحرا» . وهذا الفرس اسمه: (المندوب) . (فاستقبلهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) راجعا (قد سبق النّاس إلى الصّوت) أي: المكان الذي سمع الصوت من جهته؛ أي: منفردا قد استبرأ الخبر؛ (وهو يقول) للمقبلين: ( «لن تراعوا) - بضم التاء المثناة فوق، وبضمّ العين المهملة- (لن تراعوا» ) تكرير الجملتين، و «لن» هنا بمعنى «لم» بدليل الرواية الآخرى، والمراد نفي سبب الرّوع؛ أي: الخوف، أي: ليس هناك شيء تخافونه (وهو) أي صلّى الله عليه وسلم راكب (على فرس لأبي طلحة) المسمّى: زيد بن سهل «زوج أمّ سليم» والدة أنس بن مالك، استعاره منه (عري) - بضمّ العين المهملة، وسكون الراء- مجرور صفة فرس. (ما) أي: ليس (عليه سرج) للاستعجال في ركوبه، ولا يقال في الآدمي عري، وإنّما يقال عريان؛ كما تقدّم التنبيه عليه غير مرة. (والسّيف في عنقه) أي: حمائله معلّقة في عنقه الشريف؛ متقلّدا به. وهذا هو السنّة في حمل السيف؛ كما قاله ابن الجوزي، لا شدّه في وسطه؛ كما هو المعروف الآن!!. (فقال: «لقد وجدته) - أي: الفرس- (بحرا» ) . أي: واسع الجري، ومنه سمّي البحر «بحرا» لسعته، وتبحّر فلان في العلم: إذا اتّسع فيه. وقيل: شبّهه بالبحر..! لأن جريه لا ينفد؛ كما لا ينفد ماء البحر. (وهذا الفرس اسمه «المندوب» ) قيل: سمّي بذلك!! من النّدب، وهو الرّهن عند السباق. وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 وفي رواية للبخاريّ: إنّ أهل المدينة فزعوا مرّة، فركب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة كان يقطف، فلمّا رجع.. قال: «وجدنا فرسكم هذا بحرا» ، فكان بعد لا يجارى. قوله (بحرا) البحر: الفرس الجواد الواسع الجري. وقال عياض: يحتمل أنّه لقب، أو اسم لغير معنى كسائر الأسماء، وقد كان في أفراسه صلّى الله عليه وسلم فرس اسمه «المندوب» ، لكن صرّحت الرواية الآخرى في «الصحيحين» بأنّه لأبي طلحة. ولفظها: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبيّ صلّى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة؛ يقال له «المندوب» ، فركبه عليه الصلاة والسلام، فلما رجع قال: «ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا» أو إنّه لبحر. قال: وكان فرسا يبطىء. انتهى. فلعله صار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أبي طلحة بهبة؛ أو بيع منه له؟!. وقال النّوويّ: يحتمل أنّهما فرسان؛ اتفقا في الاسم!! وهذا أولى. (وفي رواية للبخاريّ) في «الجهاد» ؛ عن أنس: (إنّ أهل المدينة فزعوا مرّة) ليلا، (فركب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة) : زيد بن سهل- تقدّمت ترجمته-؛ (كان يقطف) - بكسر الطاء، وتضمّ- والمراد أنّه بطيء المشي. وعند البخاريّ في باب آخر: فركب فرسا لأبي طلحة بطيئا. (فلمّا رجع) بعد أن استبرأ الخبر؛ (قال: «وجدنا فرسكم هذا بحرا» ) لسرعة جريه. (فكان بعد) - بضمّ الدال- (لا يجارى) - بضمّ أوّله وفتح الرّاء؛ مبنيّ للمجهول- أي: لا يسابق في الجري، ولا يطيق فرس الجري معه ببركته صلّى الله عليه وسلم؛ قاله القسطلّاني وغيره. وقال بعضهم: أي: لا يسابق، لعلمهم بأنّه لا يسبقه فرس غيره. (قوله «بحرا» ) ؛ قال المصنف: (البحر) هو: (الفرس الجواد الواسع الجري) ، وهو مجاز. قال نفطويه: إنّما شبّه الفرس ب «البحر» !! لأنّه أراد أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 و (يقطف) : يقال قطف الفرس في مشيه: إذا تضايق خطوه. و (القطوف من الدّوابّ وغيرها) : البطيء. جريه كجري ماء البحر، أو لأنّه يسبح في جريه؛ كالبحر إذا ماج فعلا بعض مائه على بعض. وفي «الخصائص» لابن جني: الحقيقة: ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضدّ ذلك. وإنّما يقع المجاز، ويعدل إليه عن الحقيقة!! لمعان ثلاثة؛ وهي 1- الاتساع، و 2- التوكيد، و 3- التشبيه، فإن عدمت الثلاثة؟! تعيّنت الحقيقة، فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم «هو بحر» فالمعاني الثلاثة موجودة فيه؛ أمّا الاتساع!! فلأنّه زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد، ونحوها البحر، حتّى إنه إن احتيج إليه في شعر؛ أو سجع، أو اتساع؛ استعمل استعمال بقية تلك الأسماء، لكن لا يفضى إلى ذلك إلّا بقرينة تسقط الشبهة، وذلك كأن يقول الساجع: فرسك إن سما بغرّته كان فجرا، وإن جرى إلى غايته كان بحرا. فإن عري عن دليل؟! فلا، لئلا يكون إلباسا وإلغازا. وأمّا التشبيه!! فلأنّ جريه يجري في الكثرة مثل مائه. وأمّا التوكيد!! فلأنّه شبّه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه. انتهى شرح «القاموس» . (و «يقطف» ) - بكسر الطاء وضمّها؛ أي من بابي «قتل» و «ضرب» : أي يضيق خطوه عند المشي. ودليله أنّه (يقال: قطف الفرس في مشيه: إذا تضايق خطوه) وأسرع مشيه. (و) في «المصباح» : قال الفارابيّ: (القطوف) - بزنة رسول-: (من الدّوابّ وغيرها: البطيء) . وقال ابن القطّاع: قطف الدابّة: أعجل سيرها مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 ......... تقارب الخطو، وفي «التوشيح» : القطوف المتقارب الخطو، وقيل: الضيق المشي. انتهى زرقاني، و «مصباح» . وفي الحديث بيان شجاعته صلّى الله عليه وسلم من شدّة عجلته في الخروج إلى العدوّ قبل النّاس كلّهم، بحيث كشف الحال؛ ورجع قبل وصول الناس. وفيه بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا؛ بعد أن كان بطيئا، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام «وجدناه بحرا» أي: واسع الجري. وفيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدوّ ما لم يتحقّق الهلاك. وفيه جواز العارية، وجواز الغزو على الفرس المستعار لذلك. وفيه استحباب تقلّد السيف في العنق، واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب. انتهى؛ قاله الإمام النّوويّ في «شرح مسلم» رحمهما الله تعالى. آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 ......... وههنا انتهى الجزء الثاني من كتاب «منتهى السّول» ؛ شرح «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم» على يد مؤلّفه الفقير إلى عفو الله عزّ وجلّ: عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللّحجي الحضرمي الشحاري، المدرّس بالمدرسة الصولتية، وبالمسجد الحرام بمكّة المكرّمة، وكان ذلك في مجالس آخرها عصر يوم الثلاثاء الموافي 14/ 1/ 1397: أربع عشرة، شهر محرم الحرام سنة: سبع وتسعين وثلثمائة وألف هجرية. كتبه مؤلفه لنفسه، ولمن شاء الله من بعده؛ عبد الله سعيد اللّحجي المدرّس بالمسجد الحرام المكّي، وبالمدرسة الصولتية، عفا الله عنه ووفّقه لما يرضاه، وجعله ممن يخافه ويخشاه، وبلغه مراده وأحسن ختامه بفضله ومنّه، إنّه ذو الفضل العظيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، والحمد لله ربّ العالمين، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 [فهرسة الجزء الثاني من كتاب منتهى السّول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم] الباب الرابع: في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشربه ونومه، وفيه ستة فصول. 5 الفصل الأول: في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلم وخبزه. 7 الفصل الثاني: في صفة أكله صلّى الله عليه وسلم وإدامه. 88 الفصل الثالث: فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلم قبل الطعام وبعده. 198 الفصل الرابع: في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلم. 222 الفصل الخامس: في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلم وقدحه. 241 الفصل السادس: في صفة نومه صلّى الله عليه وسلم. 283 الباب الخامس: في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحلمه، وعشرته مع نسائه، 304 وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته. وفيه ستة فصول. الفصل الأول: في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلم وحلمه. 306 الفصل الثاني: في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ. 508 الفصل الثالث: في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلم وصدقه. 529 الفصل الرابع: في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلم ومزاحه. 537 الفصل الخامس: في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلم وجلوسه واتكائه. 567 الفصل السادس: في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلم وشجاعته. 654 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 الجزء الثالث [الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته، وصومه، وقراءته] الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته، وصومه، وقراءته وفيه ثلاثة فصول: (الباب السّادس) من الكتاب المشتمل على ثمانية أبواب ومقدمة وخاتمة. (في) بيان ما ورد في (صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم) قال الباجوري: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل. وتعورفت في الشّرع فيما جعل علامة على ذلك؛ من صلاة وصوم وجهاد وقراءة وغير ذلك. والتحقيق: أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعبّد قبل النبوة بشرع أحد، وتعبّده بحراء!! إنّما كان تفكّرا في مصنوعات الله وغيره من العبادات الباطنة، وإكرام من يمرّ عليه من الضّيفان، فإنّه كان يخرج إلى حراء في كلّ عام شهرا ويتعبّد فيه بذلك. انتهى. والمراد بالعبادة هنا ما هو أعمّ من العبادات الظاهرة أو الباطنة؛ كالتفكر والخوف والخشية، فلذا عطف عليها قول (و) في صفة (صلاته) ؛ من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام، لأنّها عمود الإسلام، وكذا قوله (وصومه وقراءته) صلى الله عليه وسلّم. (وفيه) ؛ أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) . يأتي بيانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 [الفصل الأوّل في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته] الفصل الأوّل في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدّكم له خشية» . (الفصل الأوّل) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة عبادته) بكسر العين المهملة وتخفيف الموحّدة- (صلى الله عليه وسلّم، و) في صفة (صلاته) النافلة كمّا وكيفا صلى الله عليه وسلّم. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم) - فيما رواه البخاري ومسلم، وأورده المصنف هنا بالمعنى- (: «أنا أتقاكم) - أي: أكثركم تقوى- (لله تعالى) التقوى- في اللغة- بمعنى الاتقاء، وهو: اتّخاذ الوقاية، وعند أهل الحقيقة-: هو الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو: صيانة النفس عما تستحقّ به العقوبة من فعل أو ترك. والتقوى في الطاعة يراد به الإخلاص، وفي المعصية يراد به الترك والحذر (وأشدّكم له خشية» ) ، لأن الخوف على قدر المعرفة، وهو أعرف خلق الله بالله تعالى. ولله درّ من قال: على قدر علم المرء يعظم خوفه ... فلا عالم إلّا من الله خائف فامن مكر الله: بالله جاهل ... وخائف مكر الله: بالله عارف قال بعضهم: الخشية تألّم القلب بسبب توقّع مكروه في المستقبل؛ يكون تارة بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته، وخشية الإنسان من هذا القبيل. انتهى. وقد ترجم البخاري في «صحيحه» بقوله صلى الله عليه وسلّم: «أنا أعلمكم بالله» ، وأورد فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وفي «صحيح البخاريّ» : «إنّي لأعلمكم بالله، وأشدّكم له خشية» . عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يطيقون؛ قالوا: إنّا لسنا كهيئتك؛ يا رسول الله، إنّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!! فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه. ثم يقول: «إنّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» . ولفظ ترجمة البخاري لأبي ذرّ: «أنا أعرفكم بالله» وكأنه مذكور بالمعنى؛ بناء على ترادفهما. (وفي «صحيح) الإمام (البخاريّ» ) في «كتاب الأدب» ، وفي «كتاب الاعتصام» ؛ عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: صنع النبي صلى الله عليه وسلّم شيئا ترخّص فيه، فتنزّه عنه قوم!! فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فحمد الله، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزّهون عن الشّيء أصنعه!! فو الله؛ (إنّي لأعلمكم) - أي: أكثركم علما- (بالله) هذا ظاهر في أنّ العلم بالله درجات، وأنّ بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته؛ وما بأحكامه، وما يتعلّق بذلك، فهذا هو الإيمان حقا. (وأشدّكم) - لفظ البخاري: «إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم- (له خشية) ، لأن الله سبحانه جمع له بين علم اليقين وعين اليقين؛ مع الخشية القلبيّة واستحضار العظمة الإلهية؛ على وجه لم يجتمع لغيره. وكلما ازداد علم العبد بربّه ازداد تقواه وخوفه منه، ومن عرف الله صفا له العيش، وهابه كلّ شيء. فمعناه: ما أنا عليه من العلم والخشية أوفر وأكثر من علمكم وخشيتكم؛ ذكره القاضي عياض. وقال القرطبي: إنّما كان كذلك!! لما خصّ به في أصل خلقته؛ من كمال الفطنة، وجودة القريحة، وسداد النظر، وسرعة الإدراك، ولما رفع عنه من موانع الإدراك، وقواطع النظر قبل تمامه. ومن اجتمعت هذه الأمور [فيه] سهّل الله عليه الوصول إلى العلوم النظرية، وصارت في حقّه كالضروريّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وفيه: عن أبي هريرة رضي الله [تعالى] عنه: «لو تعلمون ما أعلم.. لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . وفي «صحيح مسلم» : عن أنس رضي الله [تعالى] عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والّذي نفس محمّد بيده، لو رأيتم ما رأيت.. لضحكتم قليلا ولبكيتم ... ثمّ إنّه تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه وأحوال العالم ما لم يطلع عليه غيره، وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس؛ لزم أن يكون أخشاهم، لأن الخشية منبعثة عن العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] انتهى من «شرح المناوي» رحمه الله. (وفيه) ؛ أي «صحيح البخاري» ؛ في «كتاب الرّقاق» (عن أبي هريرة رضي الله) تعالى (عنه: «لو تعلمون ما أعلم) - من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وأهوال القيامة وأحوالها، أي: لو تعلمون ما علمته لما ضحكتم أصلا؛ المعبّر عنه بقوله: - (لضحكتم قليلا) إذ القليل بمعنى العديم على ما يقتضيه السياق، لأن «لو» حرف امتناع لامتناع. والمعنى: لو دام علمكم كما دام علمي. لأنّ علمه متواصل بخلاف غيره! لتركتم الضّحك (ولبكيتم كثيرا» ) لغلبة الحزن، واستيلاء الخوف، واستحكام الوجل. ورواه البخاري أيضا في «كتاب الرقاق» ؛ عن أنس، وفي «كتاب الكسوف» ؛ عن عائشة رضي الله عنها. (وفي «صحيح) الإمام (مسلم» ) ؛ في الصلاة «باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود» ؛ (عن أنس رضي الله عنه) قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه؛ فقال: «يا أيّها النّاس؛ إنّي إمامكم، فلا تسبقوني بالرّكوع ولا بالسّجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإنّي أراكم من أمامي ومن خلفي» . ثمّ قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والّذي نفس محمّد بيده؛ لو رأيتم ما رأيت) - وعلمتم ما علمت ممّا رأيته اليوم وقبل اليوم- (لضحكتم قليلا ولبكيتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 كثيرا» . قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنّة والنّار» . وعن المغيرة بن شعبة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى انتفخت قدماه، ... كثيرا» ) أي: لاشتدّ خوفكم وقلّ ضحككم وكثر بكاؤكم؛ وقدّم الضحك!! لكونه من المسرّة، وفيه من أنواع البديع مقابلة الضحك بالبكاء؛ والقلّة بالكثرة، ومطابقة كلّ منهما بالآخر. (قالوا) ؛ أي: الصحابة (: وما رأيت) - بفتح التاء- (يا رسول الله!؟ قال: «رأيت الجنّة والنّار» ) . فيه دليل على أنّ الجنة والنار مخلوقتان، وفيه نصح المصطفى صلى الله عليه وسلّم لأمّته، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرّهم، وتعذيب أهل الوعيد. وفيه دليل على أنه لا كراهة في استعمال لفظة «لو» في مثل هذا. والله أعلم. قال بعضهم: من الحكم والفوائد التي اشتمل عليها رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلّم الجنة والنّار الأنس بأهوال القيامة ليتفرّغ فيه لشفاعة أمته ويقول «أمّتي أمّتي» حيث يقول غيره من عظيم الهول «نفسي نفسي» . انتهى مناوي على «الجامع» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنّسائيّ، وابن ماجه باختلاف في الألفاظ: كلّهم؛ (عن المغيرة بن شعبة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما) ، وهذه رواية المغيرة اقتصر عليها المؤلّف، ولم يذكر رواية أبي هريرة!! لموافقتها لها في المعنى كرواية «الصحيحين» ، وسنذكر رواية أبي هريرة فيما بعد!! (قالا) ؛ أي: المغيرة وأبو هريرة، لكن الموجود في المتن هو رواية المغيرة؛ قال: (صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: اجتهد في الصلاة واستمرّ على الاجتهاد (حتّى انتفخت) - أي: تورّمت- (قدماه) الشريفتان من طول قيامه فيها واعتماده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فقيل له: أتتكلّف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!» . عليهما، فهو صلى الله عليه وسلّم أعظم المخلوقات طاعة لربّه، فيندب تشمير ساق الجدّ في العبادة؛ وإن أدّى لمشقّة؛ ما لم يلزم عليه ملل وسامة، وإلّا!! فالأولى ترك ما لزم منه الملل، لخبر: «عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا» أي: عليكم من الأعمال ما تطيقون الدوام عليه، فإنّ الله لا يقطع ثوابه عنكم حتى تملّوا من العبادة. فالمراد من الملل في حقّه تعالى قطع ثوابه. انتهى «باجوري» . (فقيل له) ؛ أي: قال بعض أكابر الصّحب له، وفي رواية أنّه عمر (: أتتكلّف) - وفي رواية: أتكلّف- (هذا) ، بحذف إحدى التاءين، والأصل «أتتكلّف» كما في الرواية الأولى، أي: أتتحمّل هذه الكلفة العظيمة؟! والتكلّف نوعان: 1- أن يفعل الإنسان فعلا بمشقّة، وهو ممدوح. وهو المراد هنا. و 2- أن يفعل فعلا تصنّعا، وهو مذموم. وهذا ليس مرادا هنا. (و) الحال أنّه (قد غفر الله لك) ، وفي رواية: وقد غفر لك- بالبناء للمجهول- وهي ترجع للرواية الأولى، أي: غفر الله لك (ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!؟) ، كما قال تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [2/ الفتح] . (قال) ؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا للسؤال المذكور، وكأنّ السائل ظنّ أنّه صلى الله عليه وسلّم بالغ في الاجتهاد في العبادة وتحمّل المشاقّ التي لا تطاق؛ خوفا من الذنوب، أو رجاء العفو، لأننا شأننا ذلك، فتعجب من ذلك مع كونه مغفورا له، فسأل هذا السؤال!. فبيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم بقوله: ( «أفلا أكون عبدا شكورا!؟» ) أنّه سبب آخر أتمّ وأكمل، وهو الشكر على التأهّل لها مع المغفرة، وإجزال النعمة، فهو إنما يبالغ في الاجتهاد لأداء شكر خالق العباد، أي: أأترك المبالغة في العبادة؛ فلا أكون عبدا شكورا!!؟ فالهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 قال الباجوريّ: (واستشكل هذا قديما وحديثا ... على ذلك المحذوف، أي: فإذا أكرمني مولاي بغفرانه؛ أأترك المبالغة في العبادة فلا أكون عبدا شكورا لإحسانه!! والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة. فمن أدام بذل الجهد في ذلك كان شكورا وَقَلِيلٌ ما هُمْ [24/ ص] . ولا يخفى أنّ ذكر «العبد» في هذا المقام أدعى على الشكر على الدوام، ولم يظفر أحد بعليّ هذا المنصب إلّا الأنبياء، وأعلاهم فيه رئيسهم الأعظم والملاذ الأفخم؛ سيّدنا محمّد الأكرم صلى الله عليه وسلّم. فائدة: نقل في «ربيع الأبرار» عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: إنّ قوما عبدوا رغبة؛ فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوما عبدوا رهبة؛ فتلك عبادة العبيد. وإنّ قوما عبدوا شكرا؛ فتلك عبادة الأحرار. انتهى. هذا؛ ولفظ رواية أبي هريرة رضي الله عنه في «الشمائل» من طريقين: الأوّل: عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي حتّى ترم قدماه!! فقيل له: أتفعل هذا؛ وقد جاء أنّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!!؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا!» . والثاني: عن أبي صالح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقوم يصلّي حتّى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا؛ وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» . انتهى. (قال) شيخ الإسلام العلّامة برهان الدين: إبراهيم بن محمّد (الباجوريّ) في «حاشية الشمائل» : (واستشكل) ؛ أي: عدّ مشكلا (هذا) الغفران لذنبه صلى الله عليه وسلّم المذكور في الحديث كالآية (قديما وحديثا) ؛ أي: في الزمن القديم والحديث، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 بأنّه صلّى الله عليه وسلّم لا ذنب عليه؛ لكونه معصوما. وأحسن ما قيل فيه: أنّه من باب (حسنات الأبرار.. سيّئات المقرّبين) ، ... استشكله العلماء المتقدّمون والمتأخّرون (بأنّه صلى الله عليه وسلّم لا ذنب عليه؛ لكونه معصوما) من الذّنوب، أي: يستحيل في حقّه ارتكاب الذّنوب صغيرها وكبيرها، قبل النبوة وبعدها، فكيف يقال له: غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! وأجيب بأجوبة؛ منها أنّ معنى الغفران: الإحالة بينه وبين الذنوب، فلا يصدر منه ذنب، لأنّ الغفر: هو الستر، والستر؛ إمّا: بين العبد والذنب، أو: بين الذنب وعقوبته، فاللائق به وبسائر الأنبياء الأوّل. واللائق بالأمم الثاني. أو هو مبالغة؛ ك «زيد يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه» ؛ مع أن من لا يلقاه لا يمكن ضربه. (وأحسن ما قيل فيه) من الأجوبة (: أنّه من باب) قولهم (حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين) . هو من كلام أبي سعيد الخرّاز. كما رواه ابن عساكر في ترجمته، وهو من كبار الصوفية، مات سنة: - 280- ثمانين ومائتين. وعدّه بعضهم حديثا! وليس كذلك، وقال النجم الغزّيّ: رواه ابن عساكر أيضا؛ عن أبي سعيد الخرّاز من قوله. وحكي عن ذي النون. انتهى. وعزاه الزركشي في «لقطة العجلان» للجنيد، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «شرحها» : الفرق بين الأبرار والمقرّبين: أنّ المقرّبين هم الذين أخذوا عن حظوظهم وإرادتهم، واستعملوا في القيام بحقوق مولاهم؛ عبودية وطلبا لرضاه. وإن الأبرار هم الّذين بقوا مع حظوظهم وإرادتهم، وأقيموا في الأعمال الصالحة ومقامات اليقين؛ ليجزوا على مجاهدتهم برفع الدرجات. انتهى. ومعناه: أنّ هؤلاء المقرّبين كلّما ترقّوا في المقامات رأوا ما كانوا فيه نقصا في مراتبهم؛ فيستغفرون الله من ذلك، لأنهم يعدّونه ذنبا بالنسبة لعليّ مراتبهم، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 إذ الإنسان لا يخلو عن تقصير، من حيث ضعف العبوديّة مع عظمة الرّبوبيّة، وإن كان صلّى الله عليه وسلّم في أعلى المقامات وأرفع الدّرجات في عباداته وطاعاته. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . كان هو ليس ذنبا في الواقع!! وهو صلى الله عليه وسلّم لا يزال يترّقى في الكمالات، ويمنح جزيل الفيوضات من ربّ البريّات، إذ ما من كمال إلّا وعند الله أكمل منه، وكلّما ترقّى شعر بالتقصير في حقّ مولاه؛ فيرى أنّ ما انتقل عنه ذنب بالنسبة إلى الذي انتقل إليه. أو المراد بالذنب في حقّه صلى الله عليه وسلّم ما عسى أن يكون وقع منه من سهو وتقصير، (إذ الإنسان لا يخلو عن تقصير) وتوان ونسيان؛ (من حيث ضعف العبوديّة مع عظمة الرّبوبيّة) ، كما قال تعالى كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) [عبس] فما كان من هذا القبيل؛ فهو مغفور له؛ فأعلمه الله عزّ وجلّ بذلك وأنّه مغفور له. قال ملا علي قاري: والظاهر أنّ المراد ب «ما تقدّم» : ما فعله مع نوع تقصير، وب «ما تأخر» : ما تركه سهوا؛ أو نسيانا في التأخير. (و) الحاصل أنّه و (إن كان صلى الله عليه وسلّم في أعلى المقامات وأرفع الدّرجات في عباداته وطاعاته) لكن لا يستغني أحد عن فضله سبحانه، لأنّ من شأن العبد الكامل أن يرى جميع ما يأتي إليه على سبيل العبودية والذّلّ والخضوع من الطاعات كلّه نقص وقلّة أدب، قال الله تعالى ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) [74/ الحج] فيرى جميع طاعاته ناقصة يستحقّ عليها العقوبة لولا عفو الله تعالى؛ ولو بلغ أعلى درجات الكمال، وذلك بالنظر لجلال الله تعالى. (وقد) أشار إلى ذلك معلّم الشريعة حيث (قال صلى الله عليه وسلّم: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك؛ لا أحصي ثناء عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك» ) ، مع أنه قام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 ولذلك قيل: المغفرة قسمان: مغفرة للعوامّ، وهي: مسامحتهم من الذّنوب. ومغفرة للخواصّ، وهي: مسامحتهم من التّقصير) اه وعن الأسود بن يزيد ... حتّى تورّمت قدماه، وكان لا يضيع له وقت في غير عبادة. (ولذلك قيل: المغفرة قسمان) ؛ أي ذات قسمين: (مغفرة للعوامّ؛ وهي: مسامحتهم من الذّنوب) ؛ أي: عدم مؤاخذتهم بها، (ومغفرة للخواصّ) ؛ وهم من اختصّهم الله بموالاته ومحبّته؛ (وهي: مسامحتهم من التّقصير) ، فما ورد من المغفرة في حقّ الأنبياء!! فهو من القبيل الثاني. قال الجرجاني في «التعريفات» : المغفرة هي: أن يستر القادر القبيح الصادر ممّن تحت قدرته، حتّى إنّ العبد إن ستر عيب سيّده مخافة عتابه؛ لا يقال «غفر له» . (انتهى) ؛ أي: كلام الباجوري رحمه الله تعالى ممزوجا بكلام غيره من العلماء رحمهم الله تعالى. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذي؛ في «الشمائل» - وهذا لفظها- (عن) أبي عمرو- أو أبي عبد الرحمن- (الأسود بن يزيد) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهيل النّخعي، الكوفي التابعي الجليل، الفقيه الإمام الصالح، أخي عبد الرحمن بن يزيد، وابن أخي علقمة بن قيس، وكان أسنّ من علقمة، وهو خال إبراهيم بن يزيد النّخعي الفقيه المشهور. رأى أبا بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وروى عن عليّ وابن مسعود ومعاذ وأبي موسى وعائشة. روى عنه ابنه عبد الرحمن بن الأسود، وأخوه عبد الرحمن بن يزيد، وإبراهيم النّخعي وآخرون. قال أحمد ابن حنبل: هو ثقة من أهل الخير، واتفقوا على توثيقه وجلالته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللّيل فقالت: كان ينام أوّل اللّيل، ثمّ يقوم، فإذا كان من السّحر.. أوتر، ثمّ أتى فراشه، ... قال النّووي: روّينا عن ميمون بن أبي حمزة؛ قال: سافر الأسود بن يزيد ثمانين حجة وعمرة؛ لم يجمع بينهما، وسافر ابنه عبد الرحمن ثمانين حجة وعمرة؛ لم يجمع بينهما. وروينا أنّ ابنه عبد الرحمن كان يصلي كل يوم سبعمائة ركعة، وكانوا يقولون: إنّه أقلّ أهل بيته اجتهادا، وإنّه صار عظاما وجلدا. رضي الله عنهم ونفعنا بهم، وأعاد علينا من بركاتهم. آمين. (قال: سألت عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم) المراد بها ما يشمل الوتر والتهجّد (باللّيل) ؛ أي: في أيّ وقت كان منه؟! (فقالت: كان ينام أوّل اللّيل) بعد صلاة العشاء إلى تمام نصفه الأول، لأنه كره النوم قبل العشاء (ثمّ يقوم) يصلّي، فيستمر يصلّي السّدس الرابع والخامس. (فإذا كان من السّحر) - بفتحتين-؛ وهو آخر الليل- أي: إذا كان في السّحر (أوتر) ؛ أي: صلّى الوتر، وكان يوتر بثلاث يقرأ فيهن تسع سور من المفصّل؛ يقرأ في كلّ ركعة بثلاث سور آخرهنّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) . رواه الترمذي؛ عن علي رضي الله عنه مرفوعا. وفي رواية: أنّه كان يقرأ في الأولى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ، وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) ، وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) ، والمعوذتين. رواه أبو داود، والترمذيّ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. (ثمّ أتى فراشه) لينام السدس السادس؛ ليقوم لصلاة الصبح بنشاط، ويقوى على ما بعدها من الطاعات، ولأنّه يدفع صفرة السّهر عن الوجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 فإذا كان له حاجة.. ألمّ بأهله، فإذا سمع الأذان.. وثب، فإن كان جنبا.. أفاض عليه من الماء، وإلّا.. توضّأ وخرج إلى الصّلاة. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه بات عند ميمونة أمّ المؤمنين ... (فإذا كان له حاجة) ؛ أي: إلى الجماع، كما يعلم من قوله (ألمّ) بالتّشديد؛ من الإلمام- (بأهله) ؛ أي: قرب من زوجته، وهو: كناية عن الجماع، يقال «ألمّ بالشيء» : قرب منه، وألمّ بالذنب: فعله، وألمّ بالقوم: أتاهم ونزل بهم، وألمّ بالمعنى؛ إذا عرفه. ويؤخذ من ذلك: أنّه صلى الله عليه وسلّم كان يقدّم التهجّد، ثمّ يقضي حاجته من نسائه، فإنّ الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. انتهى «باجوري» . (فإذا سمع الأذان وثب) - بفتح الواو المثلاثة؛ من باب وعد: أي قام بسرعة وخفّة- (فإن كان جنبا!؟ أفاض عليه) ؛ أي: أسال على جميع بدنه (من الماء) ؛ أي: اغتسل. وأشار ب «من» التبعيضية إلى طلب تقليل الماء وتجنّب الإسراف. (وإلّا) !! بأن لم يكن جنبا (توضّأ) وضوآ جديدا، لأنّ نومه لا ينقض وضوءه، ويحتمل أنّه توضّأ لحصول ناقض غير النوم (وخرج إلى) محلّ (الصّلاة) ؛ وهو المسجد بعد ما صلّى ركعتي الفجر. ويؤخذ من الحديث: أنّه ينبغي الاهتمام بالعبادة وعدم التكاسل بالنوم والقيام إليها بنشاط. (و) أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنّسائيّ، وابن ماجه، و «الموطأ» باختلاف في بعض الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» : (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه) ، أي: ابن عباس (بات) - أي: رقد- في الليل (عند ميمونة) بنت الحارث الهلالية العامرية (أمّ المؤمنين) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وهي خالته رضي الله تعالى عنها ... رضي الله تعالى عنها، قيل كان اسمها «برّة» فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلّم «ميمونة» ، وكانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية ففارقها، فتزوجها أبو رهم بن عبد العزى وتوفي عنها، فتزوّجها صلى الله عليه وسلّم لمّا كان بمكّة معتمرا في ذي القعدة سنة سبع بعد خيبر في عمرة القضاء، وكانت أختها لأبيها أمّ الفضل لبابة بنت الحارث تحت العبّاس، وأختها لأمّها أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى بنت عميس تحت حمزة رضي الله تعالى عنهم. (وهي) ؛ أي: ميمونة (خالته) ؛ أي: خالة ابن عبّاس، لأنها أخت أمّه لأبيها، وهي الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلّم، لأنها لما جاءتها خطبته عليه الصلاة والسلام؛ وهي على بعير لها، قالت: هو وما عليه لله ولرسوله. وجعلت أمرها للعبّاس؛ فأنكحها النبيّ صلى الله عليه وسلّم وبنى بها ب «سرف» «1» . ومن النوادر أنّها ماتت ب «سرف» في المحلّ الذي تزوّجها فيه؛ فاجتمع فيه العزاء والهناء، وهو على عشرة أميال من مكة؛ بين التنعيم والوادي في طريق المدينة المنورة سنة إحدى وستين؛ أو ثلاث وستين؛ أو ستّ وستين هجرية، وصلّى عليها ابن عبّاس ودخل قبرها (رضي الله تعالى عنها) . وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم. وسبب بيتوتته عندها: أنّ العبّاس أراد أن يتعرّف عبادته صلى الله عليه وسلّم بالليل ليفعل مثلها، فأرسل عبد الله ليتعرّفها؛ فيخبره بها. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلّم وعد العباس بذود من الإبل؛ وهو: ما بين الثلاث إلى العشر، فأرسل ابنه عبد الله يستنجزه، فأدركه المساء فبات عندها.   (1) بفتح السين وكسر الراء؛ غير منصرف، ويجوز صرفه. وهو الموضع الذي هلك فيه أبيّ بن خلف بعد أن طعنه الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلّم في يوم أحد كما تقدم في الجزء الثاني من هذا الكتاب عند الكلام عن جلوسه صلى الله عليه وسلّم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طولها، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا انتصف اللّيل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.. فاستيقظ (قال) ؛ أي: ابن عباس (: فاضطجعت) ؛ أي: وضعت جنبي بالأرض وجعلت رأسي (في) أي: على (عرض) بفتح العين على الأصحّ الأشهر، وحكي ضمها [عرض] وهو بمعنى مفتوح العين؛ أي جانب (الوسادة) - بكسر الواو- المعروفة، أي المخدّة- بكسر الميم- التي تتوسّد تحت الرأس. (واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: وأهله- كما في رواية مسلم- أي وضع جنبه بالأرض ووضع رأسه الشريف (في) أي: على (طولها) ؛ أي: الوسادة مع زوجته ميمونة، لأن عادته صلى الله عليه وسلّم أن ينام مع زوجاته، فإذا أراد القيام لوظيفته قام لها وترك أهله، فيجمع بين حقّ أهله وحقّ ربّه. واعتزال الزوجة في النوم!! من عادة الأعاجم، وهذا إذا لم يكن عذر في اجتنابها، فإن كان؛ كخوف نشوزها؟! فالأولى اعتزالها في الفراش؛ تأديبا لها. ويؤخذ من ذلك حلّ نوم الرجل مع أهله بغير مباشرة بحضرة محرم لها مميّز. قال القاضي عياض: وقد جاء في بعض روايات الحديث؛ قال ابن عباس: بتّ عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضا. قال: وهذه اللفظة؛ وإن لم يصحّ طريقها؛ فهي حسنة المعنى جدّا، إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة له صلى الله عليه وسلّم فيها حاجة إلى أهله، لا سيما وهو كان في تلك الليلة مراقبا لأفعاله صلى الله عليه وسلّم، ولعله لم ينم!! أو نام قليلا جدّا!!. قاله في «شرح مسلم» . (فنام رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ، وفي رواية «الصحيحين» : فتحدّث مع أهله ساعة ثم رقد (حتّى إذا انتصف اللّيل) تقريبا، (أو قبله) ؛ أي: قبل انتصافه (بقليل، أو بعده) ؛ أي: بعد انتصافه (بقليل) وهذا شكّ من ابن عبّاس لعدم تحديده الوقت، (فاستيقظ) هكذا وجد في نسخ!! وكأنّ الفاء زائدة، لأنه جواب «إذا» ، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يمسح النّوم عن وجهه، ثمّ قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة (آل عمران) ؛ أي: الّتي أوّلها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السّورة ثمّ قام إلى شنّ معلّق فتوضّأ منها، فأحسن الوضوء، ... سقط في بعض النسخ! «أي» انتبه (رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعل) ؛ أي: شرع (يمسح النّوم) ؛ أي: أثره، لأن النوم لا يمسح (عن وجهه) ؛ أي: عن عينيه. وفي رواية الشيخين: فلما كان ثلث الليل الأخير؛ أو نصفه قعد فنظر إلى السماء. (ثمّ قرأ العشر الآيات) - الآيات: بدل من العشر- (الخواتيم) - بالياء المثناة جمع الخاتمة- (من سورة «آل عمران» أي الّتي أوّلها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السّورة) . فيسنّ للشخص إذا استيقظ من نومه قراءة شيء من القرآن، لأنها تزيل الكسل وتحصّل النشاط للعبادة، بل تندب هذه الآيات بخصوصها عقب الانتباه. وفيه إباحة قول الرجل «سورة آل عمران» أو «سورة البقرة» ... أو نحو ذلك، وكرّهه بعض السلف؛ وقال: بل يقال «السورة التي يذكر فيها آل عمران» . (ثمّ قام) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم (إلى شنّ) - بفتح الشين المعجمة، وبالنون المشدّدة- وهي: القربة البالية، (معلّق) لتبريد الماء؛ أو صيانته. وذكّر وصف الشّنّ هنا!! نظرا للفظه، وأنّث ضميره في قوله (فتوضّأ منها) !! نظرا لمعناه؛ وهو القربة. وفي رواية الشيخين: فأطلق شناقها- بكسر الشين المعجمة: خيط يشدّ به فم القربة- ثمّ صبّ في الجفنة، ثمّ توضّأ منها (فأحسن الوضوء) ؛ أي: وضوءه، أي أسبغه وأكمله؛ بأن أتى بواجباته ومندوباته. وهو معنى رواية «الصحيحين» : وضوآ حسنا بين الوضوئين، لم يكثر وقد أبلغ. أي: لم يكثر صبّ الماء؛ وقد أبلغ الوضوء أماكنه، واستوفى عدده المسنون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 ثمّ قام يصلّي. قال عبد الله بن عبّاس: فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى على رأسي، ثمّ أخذ بأذني اليمنى ففتلها- وفي رواية: فأخذ بأذني؛ فأدارني عن يمينه ... (ثمّ قام يصلّي) وفي رواية للنسائي: فتوضّأ واستاك، ثمّ صلّى ركعتين، ثم نام، ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين، وأوتر بثلاث. ولمسلم: فاستيقظ فتسوّك وتوضّأ؛ وهو يقول إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... حتّى ختم السورة، فصلّى ركعتين؛ أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثمّ انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بستّ ركعات؛ كلّ ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثمّ أوتر بثلاث ركعات. ولا تنافي بين هذه الروايات لأنّ في بعضها زيادة فيعمل بها، وإن سكتت الرواية الآخرى عنها، لأنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، وليست الواقعة متعدّدة حتى يحمل الاختلاف عليها، وإنما هي واحدة؛ فيجب عند التعارض العمل بالأصحّ من تلك الروايات؛ وهي رواية الشيخين ثم أحدهما. انتهى. ذكره في «جمع الوسائل» . (قال عبد الله بن عبّاس: فقمت) بعد الوضوء (إلى جنبه) ؛ كما في رواية الشيخين، فقمت وتوضّأت فقمت عن يساره (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده اليمنى على رأسي) ؛ أي: ليتمكّن من مسك الأذن، أو لتنزل البركة في رأسه ليحفظ جميع أفعاله صلى الله عليه وسلّم. (ثمّ أخذ بأذني) - بضمّ الذال وسكونها- (اليمنى ففتلها) - بالفاء العاطفة؛ على صيغة الماضي- وفي رواية «يفتلها» بصيغة المضارع. (وفي رواية) للشيخين: (فأخذ بأذني؛ فأدارني) ، أي: حوّلني (عن يمينه) ؛ تنبيها على ما هو السنة من وقوف المأموم الواحد على يمين الإمام، فإن وقف عن يساره!؟ حوّله الإمام ندبا بأخذ أذنه وفتلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 - فصلّى ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين (ستّ مرّات) ، ثمّ أوتر، ثمّ اضطجع حتّى جاءه المؤذّن، ... وقد قيل: إنّ المعلّم إذا فتل أذن المتعلّم كان أذكى لفهمه. قال الربيع: ركب الشافعيّ يوما فلصقت بسرجه فجعل يفتل أذني، فأعظمت ذلك حتّى وجدته عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه صلى الله عليه وسلّم فعله به، فعلمت أنّ الإمام لا يفعل شيئا إلّا عن أصل. انتهى «باجوري» . (فصلّى ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين) أي: بتكرير الركعتين (ستّ مرّات) ؛ فتكون صلاته ثنتي عشرة ركعة، ولم يكتف بذكر ركعتين!! خشية أن يقصر ضبط السّامع من التعداد، (ثمّ أوتر) أي: أفرد ركعة وحدها فتمّت صلاته ثلاث عشرة ركعة؛ كما في «الصحيحين» ، منها ركعتان سنّة العشاء؛ أو سنة الوضوء، والإحدى عشرة وتر على المشهور، وذلك تقييد للمطلق في غيره من الروايات؛ خلافا لمن جعلها كلّها وترا، وجعل أكمل الوتر ثلاث عشرة. وفيه أنّ السلام يسنّ من كلّ ركعتين في الوتر. وصحّ الوصل من فعله صلى الله عليه وسلّم أيضا، لكن الفصل أشهر وأصحّ، والظاهر من السياق أنّ ابن عباس صلّى معه جماعة. فيؤخذ منه جواز فعل النافلة جماعة؛ وإن لم تطلب في نحو ذلك. (ثمّ اضطجع) ؛ أي: وضع جنبه على الأرض. وفي رواية: ثمّ اضطجع فنام حتّى نفخ، وكان إذا نام نفخ. وهذه الرواية هي المتقدّمة في «باب النوم» . (حتّى جاءه المؤذّن) ؛ أي: بلال- كما هو الظاهر- للإعلام بدخول وقت الصلاة. فيسنّ إتيان المؤذّن للإمام ليخرج إلى الصلاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فقام فصلّى ركعتين خفيفتين، ثمّ خرج فصلّى الصّبح. (فقام فصلّى ركعتين خفيفتين) هما سنة الصبح، فيسنّ تخفيفهما. قال في «نظم القواعد الفقهية» للسيد أبي بكر بن أبي القاسم الأهدل: وسنّة الفجر بلا تطويل ... أفضل منها معه للدّليل (ثمّ خرج) ؛ أي: من بيته إلى المسجد (فصلّى الصّبح) ، أي: بأصحابه. ويؤخذ من الحديث 1- أن فعل النفل في البيت أفضل؛ إلا ما استثني. و2- أنّه يسنّ للمقتدي الفذّ الوقوف عن يمين الإمام، فإن وقف عن يساره! حوّله الإمام ندبا. و 3- أنّ الفعل القليل في الصلاة لا يضرّ، بل قد يسنّ إذا كان لمصلحة. و 4- أنّ الأمر بالمعروف مشروع حتّى في الصلاة. و 5- جواز صلاة الفرض بوضوء النفل. و 6- وأنّ المميّز كبالغ؛ جماعة وموقفا. و 7- أنّ السلام يسنّ من كلّ ركعتين في الوتر. و 8- أنّه يندب إتيان المؤذن إلى الإمام ليخرج إلى الصلاة. و 9- أنّه يستحبّ تخفيف سنة الصبح قبله. و 10- أنّ الإيتار بثلاث عشرة أكمل. كذا قيل!! وردّ بأن أكثر الروايات الاقتصار على إحدى عشرة، ورواية ثلاث عشرة واقعة حال، فعليه يحتمل أنه حسب منها ركعتين مقدّمة الوتر، أو سنّة العشاء، أو نحو ذلك. و 11- أنّ النفل في البيت أفضل. وفيه فضل ابن عباس رضي الله عنه، وحذقه مذ كان طفلا، لمراصدته المصطفى صلى الله عليه وسلّم، ومراقبته أحواله إلى أن أحرم معه، وحفظ صلاته وقراءته؛ وما عمله تلك الليلة من العبادات والعادات. هذا؛ ووتره صلى الله عليه وسلّم آخر الليل هو الأغلب؛ بناء على أنه الأفضل والأكمل، وإلّا! ففي «الصحيحين» وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوتر من كلّ الليل؛ من أوله وأوسطه وآخره، وانتهى وتره إلى الصبح، والمراد ب «أوّله» بعد صلاة العشاء. ولعل اختلاف هذه الأوقات على ما وردت به الروايات، لاختلاف الأحوال والأعذار، فإيتاره أوّله لعلّه كان لمرض، وإيتاره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وفي «الصّحيح» : عن أنس: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتوضّأ عند كلّ صلاة. وعن ابن عبّاس أيضا؛ ... أوسطه!! لعله كان لسفر. انتهى «جمع الوسائل» . (وفي «الصّحيح» ) - يعني البخاري-، وكذا أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه: كلّهم؛ (عن أنس) «1» رضي الله تعالى عنه (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يتوضأ عند كلّ صلاة) ، وربّما صلّى صلوات بوضوء واحد، ولفظ رواية الترمذي: كان يتوضّأ لكلّ صلاة؛ طاهرا، أو غير طاهر. قال الطحاوي: هذا محمول على الفضيلة؛ دون الوجوب، أو هو من خصوصيّاته، أو كان يفعله وهو واجب؛ ثم نسخ. انتهى. والأصحّ هو الأخير، بدليل حديث الترمذي: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يتوضّأ لكلّ صلاة، فلما كان عام الفتح صلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد، فقال عمر: إنّك فعلت شيئا لم تكن فعلته!! قال: «عمدا فعلته؛ يا عمر» . قال الترمذيّ: صحيح. قال النّوويّ: فيه جواز الصّلوات بوضوء واحد ما لم يحدث، وهو جائز بإجماع من يعتدّ به. انتهى مناوي؛ على «الجامع الصغير» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي، وابن ماجه: كلّهم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما. وقوله (أيضا) غير مناسب الإتيان به هنا، بل قد يوهم أنّ الحديث الذي قبله هو حديث ابن عبّاس، وأنّ النّسخة فيها تحريف!! وليس كذلك. فالصواب: حذفه. ولعلّ المصنّف كتب أوّلا حديث ابن عباس في بيتوتته عند ميمونة، ثمّ حديث ابن عباس هذا، فذكر فيه لفظ «أيضا» ، ثم أدرج بينهما حديث   (1) في الأصل: عن عائشة. وما أثبتناه من «وسائل الوصول» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا لم يصلّ باللّيل؛ منعه من ذلك النّوم، أو غلبته عيناه.. صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة. أنس وغفل عن محو لفظة «أيضا» فبقيت كما هي، والله أعلم!! والأمر سهل. (قال) أي: ابن عبّاس (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل) أي: في الليل (ثلاث عشرة ركعة) - بسكون الشين- قال بعضهم: أكثر الوتر ثلاث عشرة؛ لظاهر هذا الحديث. وفيه أنّ صلاة الليل أعمّ من الوتر. وقال أكثر العلماء: أكثره إحدى عشرة، وتأوّلوا حديث ابن عبّاس بأنّ منها سنّة الصبح، وهو تأويل ضعيف جدّا. كذا قاله في «جمع الوسائل» . وفيه نظر!! فإنّ هذا التأويل يؤيّده حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه الشيخان، وأبو داود، والنسائي: أنّه صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ منها الوتر، وركعتا الفجر. انتهى. فزعم ملّا علي قاري أنّه تأويل ضعيف مردود عليه. قال المناوي: وحكمة الزيادة على إحدى عشرة: أنّ التهجّد والوتر يختصّان بصلاة الليل، والمغرب وتر النهار، فناسب كون صلاة الليل كالنهار في العدد جملة وتفصيلا. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله) تعالى (عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا لم يصلّ باللّيل) تهجّدا ووترا؛ (منعه من ذلك) الفعل؛ وهو الصلاة بالليل (النّوم) بأن رغب فيه مع إمكان اختياره تركه، (أو غلبته عيناه) يعني: غلبه النوم بحيث لا يستطاع دفعه، فالمقصود بيان سبب عدم صلاته في الليل، و «أو» للتقسيم، ويحتمل أن تكون للشكّ من الراوي. وجواب «إذا» قوله (صلّى) بدل ما فاته (من النّهار) ؛ أي: فيه (ثنتي عشرة ركعة) ؛ تداركا لما فاته من التهجّد، لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قام أحدكم من اللّيل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» . لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) [الفرقان] . وفيه دليل على جواز قضاء النّافلة، بل على استحباب قضائها؛ لئلا تعتاد النفس الترك، وعيّن وقت صلاة النهار المذكورة في حديث آخر بأنّه من طلوع الشمس إلى الاستواء. وفي «صحيح مسلم» ؛ عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من نام عن حزبه من اللّيل، أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظّهر؛ كان كمن قرأه من اللّيل» . وحديث عائشة في «المتن» !! أخرجه مسلم، وأبو داود؛ عنها بلفظ: كان إذا نام من اللّيل؛ أو مرض صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة. وهذا فيه تنبيه على أنّه كان يقدّم وتره في أوّل الليل، أو سكت عن ذكر الوتر، لأنّ ندب قضائه معلوم بالأولى، لأنّه نفل مؤقّت، بخلاف التهجّد فإنّه نفل مطلق، لكن لما اتخذه وردا وعادة سنّ قضاؤه، لأنه التحق بالنفل المؤقّت. (و) أخرجه أبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا قام أحدكم من اللّيل) ؛ أي: فيه (فليفتتح) ندبا مؤكّدا (صلاته) ؛ أي: الأحد، أو الليل (بركعتين خفيفتين) لخفّة القراءة فيهما. والحكمة فيه: تهوين الأمر على النفس ابتداء لحصول النشاط، والإرشاد إلى أنّ من شرع في شيء فليكن قليلا قليلا حتّى تتعوّد نفسه بالعمل على التدريج، فيكون الشروع في بقية عمله بالنشاط وإتمامه على الوجه الأكمل. وفي الحديث إشعار بأنّه لا ينبغي أن يقتصر في صلاة الليل على ركعتين إلا عند الضرورة. وفيه دليل لندب هاتين الركعتين، وهما مقدّمة لصلاة الوتر، وكما يسنّ تقديم السنّة القبلية على الفرض لنحو ذلك؛ فكذا ندب هنا، لتأكّد الوتر حتى اختلف في وجوبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وعن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال: لأرمقنّ ومناسبة هذا الحديث للباب: من حيث إنّ أمره [صلى الله عليه وسلّم] بشيء يقتضي فعله. بل ورد في «صحيح مسلم» التصريح بفعله صلى الله عليه وسلّم هاتين الركعتين، ولفظه: عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان إذا قام من الليل ليصلّي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. قال المناوي: استعجالا لحلّ عقدة الشيطان على قافيته، وهو صلى الله عليه وسلّم؛ وإن كان منزّها عن عقده، لكنه فعله تشريعا لأمّته. ذكره الحافظ العراقي. قال الحفني: وهذا يقتضي أنّ حلّ عقدته لا يحصل بالذكر ومسح الوجه، ولا بالوضوء، ولا بالشروع في الصلاة، بل بالفراغ منها، أي: تمام الحلّ يحصل بذلك، وأنّ أصله يحصل بالذكر ومسح الوجه والوضوء. انتهى. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ، ومالك في «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ، وابن ماجه: كلّهم؛ (عن) أبي عبد الرحمن- أو أبي طلحة، أو أبي زرعة- (زيد بن خالد الجهنيّ) - بضم الجيم وهاء؛ نسبة إلى قبيلة جهينة- صحابي مشهور، سكن المدينة وشهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحد وثمانون حديثا؛ اتفقا منها على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه السائب بن يزيد، والسائب بن خلّاد الصحابيان، وجماعات من التابعين. وتوفي بالمدينة المنورة، وقيل: بالكوفة، وقيل: بمصر سنة: ثمان وثمانين؛ وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل: توفي سنة اثنتين وسبعين، وقيل: سنة ثمان وتسعين (رضي الله تعالى عنه. أنّه قال) ؛ أي: زيد (: لأرمقنّ) - بضمّ الميم وتشديد النون؛ من الرّمق- بفتح فسكون، أو [الرّمق] بفتحتين- وهو: النظر إلى الشيء على وجه المراقبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتوسّدت عتبته، أو فسطاطه، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين خفيفتين، ثمّ صلّى ركعتين طويلتين.. طويلتين.. طويلتين. والمحافظة، يقال: رمق يرمق رمقا؛ من بابي «نصر» و «طلب» . وأكّد باللام والنون!! مبالغة في تحصيل معرفة ذلك وضبطه؛ أي: لأنظرنّ وأرقبنّ وأحفظنّ (صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم!!) ، أي: في هذه الليلة حتّى أرى كم يصلّي. وعدل عن الماضي إلى المضارع!! استحضارا لتلك الحالة الماضية؛ لتقريرها في ذهن السامع أبلغ تقرير، ثم انتقل إلى كيفية تفصيل علمه بها؛ فقال: (فتوسّدت) ؛ أي: جعلت (عتبته) وسادة لي، والعتبة: الدرجة التي يوطأ عليها، (أو) قال (فسطاطه) ؛ أي: عتبة فسطاطه- بضمّ الفاء وكسرها- بيت من شعر، وفيه عشر لغات: 1- فسطاط- بطائين؛ مع سكون السين، أو [2- فسّطاط] تشديدها و 3- فستات- بتائين مع سكون السين-، و 4- فستاط بتاء ثم طاء-، و 5- فسّاط- بسين مشدّدة ثم طاء. فهذه خمسة كلّ بضمّ الأوّل، وكسره «1» فتلك عشرة كاملة. ويطلق الفسطاط على مصر العتيقة، وعلى كلّ مدينة جامعة، وهذا شكّ من الراوي، والظاهر الثاني، لأنّه صلى الله عليه وسلّم في الحضر يكون عند نسائه؛ فلا يمكن أن يتوسّد زيد عتبته ليرمقه، بخلافه في السفر؛ فإنه خال عن الأزواج الطاهرات «2» ؛ فيمكنه أن يتوسّد عتبة فسطاطه، والمراد بعتبة الفسطاط: بابه؛ أي: محلّ دخوله. (فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركعتين خفيفتين) هما مقدّمة الوتر- كما تقدّم-. وإنّما خفّف فيهما!! لأنهما عقب كسل من أثر النوم. (ثمّ صلّى ركعتين طويلتين.. طويلتين.. طويلتين.   (1) وبسطها هكذا: 6- فسطاط، 7- فسّطاط، 8- فستات، 9- فستاط، 10- فسّاط. (عبد الجليل) . (2) بل يصطحب بعضهن بالإقراع بينهن (عبد الجليل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 ذكر لفظ «طويلتين» ثلاث مرّات؛ للتّأكيد مبالغة في طولهما. ثمّ صلّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ... ذكر لفظ «طويلتين» (ثلاث مرّات) !! للتّاكيد؛ مبالغة في طولهما) للدلالة على المبالغة في تطويل هاتين الركعتين، فكأنّهما بمنزلة ستّ ركعات طويلات. وإنّما بولغ في تطويلهما!! لأن النشاط في أوّل الصلاة بعد المقدمة يكون أقوى، والخشوع يكون أتمّ، ومن ثمّ سنّ تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة. (ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) ؛ أي: في الطول. وأراد طويلتين طويلتين «مرتين» . وإنّما كانتا دون اللتين قبلهما!! لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئا فشيئا، فيخفف من التطويل على سبيل التدريج، وهكذا يقال فيما بعد. (ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) أراد طويلتين!. (ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) ؛ أي: فيهما بعض طول من غير مبالغة. (ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) أي: عاريتين عن الطول. فقوله «ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللتين قبلهما» بتكرير ذلك أربع مرّات؛ كما هو الرواية في مسلم و «الموطأ» وغيرهما، وفي بعض النسخ جعلها مكررة ثلاث مرّات فقط، وذلك يعتبر سقطا في النسخة، لمخالفته لما يأتي من قوله ثلاث عشرة ركعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 ثمّ أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. وعن أبي سلمة بن عبد الرّحمن- رحمه الله تعالى- أنّه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف كانت صلاة ... وقوله (ثمّ أوتر) أي: بواحدة، أي: صلّى ركعة مفردة (فذلك) المجموع (ثلاث عشرة ركعة) ؛ منها ركعتان مقدّمة الوتر، والباقي وتر. (و) أخرج الشيخان وغيرهما؛ كأبي داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ وهذا لفظها: (عن أبي سلمة) عبد الله (بن عبد الرّحمن) بن عوف القرشي الزّهري التابعي الجليل، وأمّه تماضر بنت الإصبغ. وكان صبيح الوجه، وكان ثقة فقيها كثير الحديث، اتفقوا على جلالته وإمامته وعظيم قدره وارتفاع منزلته، وهو مدني من كبار التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة- في قول-. سمع جماعة من الصحابة؛ منهم: عبد الله بن سلام، وابن عمر، وابن عبّاس وابن عمرو بن العاصي، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو أسيد بضم الهمزة-، ومعاوية بن الحكم، وربيعة بن كعب، وعائشة، وأم سلمة، ولم يسمع من عمر بن الخطاب، بل روايته عنه مرسلة. وسمع جماعة من التابعين؛ منهم: عطاء بن أبي رباح، وعروة، وعمر بن عبد العزيز. روى عنه خلائق من التابعين وغيرهم، منهم: عامر الشعبي، وعبد الرحمن الأعرج، وعراك بن مالك، وعمرو بن دينار، وأبو حازم سلمة بن دينار، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، وآخرون. وتوفي بالمدينة المنورة سنة: أربع وتسعين- بتقديم المثناة على المهملة- وعمره: اثنتان وسبعون سنة (رحمه الله تعالى) : آمين. (أنّه سأل) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف كانت صلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلّي أربعا ... رسول الله صلى الله عليه وسلّم في رمضان؟) ؛ أي: في لياليه وقت التهجّد زيادة على ما صلّاه بعد العشاء من التراويح. (فقالت: ما) - نافية- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليزيد) بالنصب، بتقدير «أن» بعد لام الجحود، وهي لام التأكيد بعد النفي، مثل قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [143/ البقرة] ورواية الصحيحين بدون اللام؛ أي: لم يكن صلى الله عليه وسلّم يزيد (في رمضان؛ ولا في غيره) نفت كونه صلى الله عليه وسلّم يزيد على إحدى عشرة ركعة بحسب ما علمته، فلا ينافي ما ثبت من الزيادة عند غيرها، لأن زيادة الثقة مقبولة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكلّ يخبر عن علمه، وقد كان عند أكثر أهل الصدر الأول أن للنبي صلى الله عليه وسلّم صلوات مخصوصة اختلفوا في كيفيتها وعددها. (على إحدى عشرة ركعة) أي: غير مقدمة الوتر، فيكون المجموع بها ثلاث عشرة ركعة، وهذا بالنسبة للصلاة التي كان يصلّيها بعد النوم، فلا ينافي أنّه كان يصلي قبل النوم نفلا آخر غير الوتر، فلا تكون منكرة لصلاة التراويح. انتهى «باجوري» . (يصلّي أربعا) ؛ أي: مع السلام من كلّ ركعتين، ليوافق خبر زيد السابق، وإنما جمعت الأربعة لتقاربها طولا وحسنا؛ لا لكونها بإحرام واحد وسلام واحد. انتهى «باجوري» . وقال الإمام النووي في «شرح مسلم» : وفي رواية: «يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلّا في آخرها» . وفي رواية أخرى: «يسلّم من كلّ ركعتين» . وفي رواية: «يصلي أربعا، ثم أربعا، ثم ثلاثا» . وفي رواية: «ثمان ركعات، ثم يوتر بركعة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعا لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ... وفي رواية: «عشر ركعات ويوتر بسجدة» . وفي حديث ابن عباس فصلّى ركعتين، ثم ركعتين ... الخ. وفي حديث ابن عمر: «صلاة اللّيل مثنى مثنى» . هذا كلّه دليل على أن الوتر ليس مختصّا بركعة، ولا بإحدى عشرة، ولا بثلاث عشرة، بل يجوز ذلك وما بينه، وأنّه يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة؛. وهذا لبيان الجواز، وإلّا! فالأفضل التسليم من كلّ ركعتين؛ وهو المشهور من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمره بصلاة الليل مثنى مثنى. (لا تسأل) - رواية «الصحيحين» : فلا تسأل- (عن حسنهنّ وطولهنّ!!) معناه: أنّهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول؛ مستغنيات بظهور حسنهنّ وطولهن عن السؤال عنه والوصف. وفي هذا الحديث مع الأحاديث المذكورة بعده في تطويل القراءة والقيام دليل لمذهب الشافعي وغيره ممّن قال: تطويل القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود، بمعنى أنّ الزمن المصروف لطول القيام أفضل من الزمن المصروف لتكرير السجود، وكون المصلي أقرب ما يكون من ربّه؛ وهو ساجد!! إنما هو بالنسبة لاستجابة الدعاء فيه. وقالت طائفة: تكثير الركوع والسجود أفضل. وقالت طائفة أخرى: تطويل القيام في الليل أفضل، وتكثير الركوع والسجود في النهار أفضل. انتهى من المناوي، و «شرح مسلم» . (ثمّ يصلّي أربعا) العطف ب «ثمّ» يقتضي أنّه حصل تراخ بين هذه الأربع والتي قبلها، وهكذا يقال فيما بعده (لا تسأل) - رواية «الصحيحين» : فلا تسأل- (عن حسنهنّ وطولهنّ) ، لأنهن من كمال الطول والحسن في غاية ظاهرة مغنية عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 ثمّ يصلّي ثلاثا. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» . وعن عائشة أيضا رضي الله ... السؤال، (ثمّ يصلّي ثلاثا) لم يصف هذه الثلاث بالطول؛ ولا بالحسن!! إشارة إلى أنّه خفّفها، وظاهر اللفظ يقتضي أنه صلّى الثلاث بسلام واحد، وهو جائز، بل واجب عند أبي حنيفة، لكن صلاتها بسلامين أفضل عندنا- معاشر الشافعية-، ومتعيّن عند المالكية. انتهى «باجوري» . (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر) ؛ أي: مع أنك أمرت بعض أصحابك- كأبي هريرة- بالوتر قبل النوم؛ مخافة أن يغلبه النوم فيفوته الوتر؟!!. (فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ) - بتشديد الياء- (تنامان، ولا ينام قلبي» ) ؛ أي: فلا أخاف فوت الوتر، ومن أمن فوته سنّ له تأخيره، بخلاف من يخاف فوت الوتر بالاستغراق في النوم إلى الفجر، فالأولى له أن يوتر قبل أن ينام، ولمّا علم صلى الله عليه وسلّم من حال أبي هريرة رضي الله عنه ذلك أمره بأن يوتر قبل أن ينام. فالحاصل: أنّ من وثق بيقظته؛ سنّ له تأخيره، ومن لم يثق بها! سنّ له تقديمه. انتهى «باجوري» . وعدم نوم القلب من خصائصه على أمته؛ لا على الأنبياء، فكلّهم لا تنام قلوبهم، لاستغراقها في شهود جمال الذات العليّة والحضرة المتعالية وجلالها. وإنّما فاتته صلاة الصبح في حديث نومه في الوادي!! لأن رؤية الفجر من وظائف البصر؛ لا القلب. والله أعلم. (و) أخرج مسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا رضي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي من اللّيل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها.. اضطجع على شقّه الأيمن. تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي من اللّيل) ؛ أي: في الليل (إحدى عشرة ركعة) ؛ أي: غالبا، أو عندها، فلا ينافي ما ثبت من زيادة أو نقصان في بعض الروايات؛ كرواية الثلاث عشرة، وكرواية التسع؛ والسبع. والحاصل: أنّ في رواية «ثلاث عشرة» ، وفي رواية «إحدى عشرة» ، وفي رواية «تسعا» ، وفي رواية «سبعا» ، ولعل اختلاف الروايات بحسب اختلاف الأوقات والحالات؛ من صحة ومرض، وقوّة وضعف!! ولذلك قال الشيخ ابن حجر: والصواب حمله على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة، فكان تارة يصلي كذا، وتارة يصلي كذا، أو للتنبيه على سعة الأمر في ذلك. (يوتر منها بواحدة) قال الباجوري: ظاهره أنّ البقية ليست من الوتر، بل تهجّد، وذلك صحيح، لأن أقلّ الوتر ركعة، ويحتمل أن المعنى يفصل منها واحدة، فلا ينافي أنّ البقيّة من الوتر، لأنّ أكمله إحدى عشرة ركعة، وعلى كلّ فهو دليل صريح في أنّ الركعة الواحدة صلاة صحيحة، وأنّ أقلّ الوتر ركعة وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصحّ الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قطّ، والأحاديث الصحيحة تردّ عليه. انتهى «شرح مسلم» . (فإذا فرغ منها) ؛ أي: من الإحدى عشرة ركعة (اضطجع على شقّه) - بكسر الشين المعجمة- أي: جنبه (الأيمن) حتّى يأتيه المؤذّن، فيصلي ركعتين خفيفتين. هذا تمامه في «صحيح مسلم» . وفي هذا الحديث: أن الاضطجاع بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر، وكذا في حديث ابن عبّاس: أن الاضطجاع كان بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر. وفي الرواية الآخرى في مسلم؛ عن عائشة: أنّه كان يضطجع بعد ركعتي الفجر. قال القاضي عياض: وفي ذلك ردّ على الشافعي وأصحابه في قولهم «إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ......... الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنّة» . قال: وذهب مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة إلى أنّه بدعة، وأشار إلى أنّ رواية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مرجوحة. قال: فتقدّم رواية الاضطجاع قبلهما. قال: ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما «إنّه سنة» ؛ فكذا بعدهما. قال: وقد ذكر مسلم؛ عن عائشة رضي الله عنها قولها «فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلّا! اضطجع» فهذا يدلّ على أنّه ليس بسنّة، وأنّه تارة كان يضطجع قبل، وتارة بعد، وتارة لا يضطجع. انتهى كلام القاضي عياض؛ نقله النووي في «شرح مسلم» . وتعقّبه النوويّ قائلا: الصحيح- أو الصواب-: أنّ الاضطجاع بعد الفجر سنّة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا صلّى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» رواه أبو داود، والترمذي؛ بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح، فهذا حديث صحيح صريح في الأمر بالاضطجاع. وأما حديث عائشة بالاضطجاع بعدها وقبلها، وحديث ابن عباس قبلها!! فلا يخالف هذا، فإنّه لا يلزم من الاضطجاع قبلها ألايضطجع بعدها. ولعله صلى الله عليه وسلّم ترك الاضطجاع بعدها في بعض الأوقات بيانا للجواز؛ لو ثبت الترك، ولم يثبت!! فلعله كان يضطجع قبل وبعد!!. وإذا صحّ الحديث في الأمر بالاضطجاع بعدها مع روايات الفعل الموافقة للأمر به؛ تعيّن المصير إليه. وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث!؟ لم يجز ردّ بعضها، وقد أمكن بطريقين أشرنا إليهما؛ أحدهما: أنّه اضطجع قبل وبعد. والثاني: أنّه تركه بعد في بعض الأوقات لبيان الجواز. والله أعلم. انتهى كلام النووي. وقال العلامة السيّد محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في «سبل السلام» : العلماء في هذه الضجعة بين مفرط ومفرّط ومتوسط. فأفرط جماعة من أهل الظاهر؛ منهم ابن حزم ومن تابعه، فقالوا بوجوبها، وأبطلوا صلاة الفجر بتركها، وذلك لفعله المذكور في حديث عائشة الذي رواه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 ......... البخاري؛ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شقّه الأيمن، ولحديث الأمر بها في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا صلّى أحدكم الرّكعتين قبل الصّبح فليضطجع على جنبه الأيمن» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. قال ابن تيمية: ليس بصحيح لأنه تفرّد به عبد الرحمن بن زياد، وفي حفظه مقال. قال الحافظ ابن حجر: والحقّ أنه تقوم به الحجّة، إلّا أنّه صرف الأمر عن الوجوب ما ورد من عدم مداومته صلى الله عليه وسلّم على فعلها. وفرّط جماعة؛ فقالوا بكراهتها، واحتجّوا بأن ابن عمر كان لا يفعل ذلك، ويقول: كفى بالتسليم. أخرجه عبد الرزاق، وبأنه كان يحصب «1» من يفعلها. وقال ابن مسعود: ما بال الرجل إذا صلّى الركعتين تمعّك كما يتمعّك الحمار!!. وتوسّط فيها طائفة؛ منهم مالك وغيره، فلم يروا بها بأسا لمن فعلها راحة وكرّهوها لمن فعلها استنانا. ومنهم من قال باستحبابها على الإطلاق؛ سواء فعلها استراحة أم لا. قيل: وقد شرعت لمن يتهجّد من الليل، لما أخرجه عبد الرزاق؛ عن عائشة كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يضطجع لسنّة، لكن كان يدأب ليله فيضطجع ليستريح منه. وفيه راو لم يسمّ. وقال النووي: المختار أنّها سنّة، لظاهر حديث أبي هريرة. قلت: وهو الأقرب، وحديث عائشة!! لو صحّ؛ فغايته أنّه إخبار عن فهمها، وعدم استمراره صلى الله عليه وسلّم عليها دليل سنّيّتها. ثم إنّه يسنّ على الشقّ الأيمن. قال ابن حزم: فإن تعذّر على الأيمن!! فإنّه يومئ ولا يضطجع على الأيسر. انتهى كلام «سبل السلام» . فائدة: ذكر سيّدي مصطفى البكري نفعنا الله بعلومه آمين؛ في كتابه «المنهل   (1) يرميه بالحصباء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وعن عائشة أيضا قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل تسع ركعات. أي: في بعض الأوقات. العذب» السائغ لورّاده: أنّه يقول في اضطجاعه: «اللهمّ؛ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ومحمّد صلى الله عليه وسلّم، أجرني من النار» ثلاثا. وذكر سيّدي محيي الدين ابن عربي قدس الله سره في «فتوحاته» عن بعض العلماء: أنّه قال: من لم يضطجع لا تصحّ منه صلاة الصبح. ووجّه مقالته. قال «1» : وقد رأيت شيخنا الهمام عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى يفعله، ولم ينصّ علماؤنا على سنيّته؛ أي: علماء الحنفية، لكن نفعله لما ذكره الشيخ الأكبر رحمه الله، ومراعاة لمن يقول بسنّيّته من غير مذهبنا، ولكن ينبغي لمن علم من نفسه أنّ النوم غالبه ألايضطجع مخافة أن ينام، وكرّه مالك الاضطجاع لهذه العلة. انتهى كلام سيدي مصطفى البكري رحمه الله تعالى. ملخصا. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا) رضي الله تعالى عنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل تسع ركعات) . قال الباجوري: (أي في بعض الأوقات) ، فلا تنافي هذه الرواية غيرها من باقي الروايات. وقد روى أبو داود؛ عن عبد الله بن أبي قبيس قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوتر؟ قالت: يوتر بأربع وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع؛ ولا بأكثر من ثلاث عشرة. وللبخاري؛ عن مسروق أنّه سألها عن صلاته. فقالت: سبعا، وتسعا، وإحدى عشرة ركعة سوى ركعتي الفجر. قال القرطبي: أشكل حديثها على كثير، حتى نسب للاضطراب. قال ابن حجر الهيتميّ المكّيّ: وإنما يتمّ لو اتّحد الراوي   (1) أي: السيد مصطفى البكري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وعن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من اللّيل، قال: فلمّا دخل في الصّلاة.. قال: «الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» . عنها، والوقت، والصلاة. والصواب أنّ ما ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط، فكان تارة يصلّي سبعا، وتارة تسعا، وتارة إحدى عشرة؛ وهو الأغلب. انتهى. وقد كان صلى الله عليه وسلّم تارة يصلي قائما وهو الأغلب، وتارة جالسا؛ ثم قبل الركوع يقوم. (و) أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي، وابن ماجه مع تخالف في بعضه، وهذا لفظ «الشمائل» : (عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم من اللّيل) أي: في الليل. ولفظ أحمد والنسائي أنّه صلّى معه في ليلة من رمضان. (قال) - أي: حذيفة- (فلمّا دخل في الصّلاة) ؛ أي: بتكبيرة الإحرام (قال الله أكبر) من كلّ شيء. والظاهر أنّه قال ذلك بعد تكبيرة الإحرام بدليل زيادة الكلمات الآتية، كما قاله العلّامة ملا علي قاري رحمه الله تعالى؛ فيكون هذا صيغة من صيغ دعاء الافتتاح الواردة، ويؤيّد ذلك رواية أبي داود: قال الله أكبر «ثلاثا» . (ذو الملكوت) أي: صاحب الملك والعزّة، لأن الملكوت- بفتحتين-: الملك والعزّة. وصيغة «فعلوت» للمبالغة، والكثرة، كما في: رحموت ورهبوت. (والجبروت) - بفتحتين أيضا- أي: الجبر والقهر، والتاء فيه للمبالغة. (والكبرياء) - بالمدّ- أي: الترفّع عن جميع الخلق مع انقيادهم، والتنزّه عن كلّ نقص، ولا يوصف بهذين الوصفين غيره سبحانه وتعالى. (والعظمة) : تجاوز القدر عن الإحاطة به. وقيل: الكبرياء: عبارة عن كمال الذات، والعظمة: عبارة عن جمال الصفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 قال: ثمّ قرأ (البقرة) ، ثمّ ركع؛ فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: «سبحان ربّي العظيم، سبحان ربّي العظيم» ، ثمّ رفع رأسه؛ فكان قيامه نحوا من ركوعه، وكان يقول: «لربّي الحمد، لربّي الحمد» ، ... (قال) - أي حذيفة- (: ثمّ قرأ) سورة ( «البقرة» ) - أي- بكمالها بعد الفاتحة؛ وإن لم يذكرها، اعتمادا على ما هو معلوم من أنّه صلى الله عليه وسلّم لم يخل صلاة عن الفاتحة. (ثمّ ركع؛ فكان ركوعه نحوا من قيامه) ، أي: قريبا منه، فيكون قدر طول الركوع قريبا من هذا القيام الطويل، ولا مانع منه، لأنه ركن طويل. (وكان يقول: «سبحان ربّي العظيم) - بفتح ياء الإضافة، ويجوز إسكانها- (سبحان ربّي العظيم» ) ؛ أي: وهكذا، فالمرّتان المراد منهما التكرار مرارا كثيرة؛ لا خصوص المرتين، على حدّ قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [4/ الملك] فكان يكرّر هذه الكلمة ما دام راكعا. (ثمّ رفع رأسه) من الركوع (فكان قيامه) ؛ أي: مكث في الاعتدال (نحوا من ركوعه) . قال النووي في «شرح مسلم» : هذا فيه دليل لجواز تطويل الاعتدال. وأصحابنا يقولون: لا يجوز، ويبطلون به الصلاة. انتهى. وقال المناوي: زاد كلمة «من» في قوله «نحوا من ركوعه» !! تنبيها على أن قيامه؛ أي: اعتداله كان يقرب من ركوعه؛ لا أنّه يماثله، وقربه من الركوع أمر نسبيّ، فلا دليل فيه لما اختاره كثير من الشافعية- ومنهم النووي-: أنّ الاعتدال والقعود بين السجدتين ركنان طويلان؛ بل المذهب أنّهما قصيران، فمتى زاد على قدر الذكر المشروع فيهما عمدا بطلت الصلاة هذا محصول المذهب. (وكان يقول) في الاعتدال: ( «لربّي الحمد، لربّي الحمد» ) . أي: كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 ثمّ سجد؛ فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول: «سبحان ربّي الأعلى، سبحان ربّي الأعلى» ، ثمّ رفع رأسه فكان ما بين السّجدتين نحوا من السّجود، وكان يقول: «ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي» حتّى قرأ (البقرة) ، و (آل عمران) ، ... يكرّر ذلك مادام في الاعتدال، فليس المراد الإتيان بالمرّتين فقط، نظير ما سبق، لكن المقرّر في الفروع أنّه لا يندب تكرار ذلك، بل يأتي بالأذكار المخصوصة؛ وهي «ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد؛ أهل الثناء والمجد ... » إلى آخره ولعلّ ما وقع هنا لبيان الجواز!! والله أعلم. (ثمّ سجد؛ فكان سجوده نحوا من قيامه) ، أي: اعتداله من الركوع؛ قاله ملّا علي قاري. وقال المناوي: أي: من قيامه للقراءة، لا من قيامه من الركوع، وإلّا! لكان الطويل أقصر من القصير. انتهى وتبعه الباجوري. (وكان يقول) في سجوده: ( «سبحان ربّي الأعلى، سبحان ربّي الأعلى» ) ؛ أي: كان يكرّر ذلك مادام ساجدا- كما تقدّم في نظيره-. (ثمّ رفع رأسه) - أي- من السجود الأول إلى الجلوس بين السجدتين. (فكان) الجلوس (ما) - أي الذي- (بين السّجدتين نحوا) - أي: قريبا- (من السّجود) وقد علمت ما فيه!!. (وكان يقول) - أي- في جلوسه بين السجدتين: ( «ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي» ) ؛ أي: كان يكرّر ذلك ما دام جالسا، ويأتي فيه نظير ما تقدّم في تكراره «لربي الحمد» في الاعتدال، ولم يذكر السجود الثاني، ولا تطويله، ولا ما قاله فيه!! لعلّه لسهو من الراوي، أو للاختصار لكونه يعلم بالمقايسة على السجود الأوّل. (حتّى) غاية لمحذوف، والتقدير واستمرّ يطوّل حتّى (قرأ) سورة ( «البقرة» ) أي: في الركعة الأولى، (و) سورة ( «آل عمران» ) - أي- في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 و (النّساء) ، و (المائدة) ، أو (الأنعام) ؛ أي: أنّه صلّى أربع ركعات قرأ في الأولى: (البقرة) ، وفي الثّانية: (آل عمران) ، وفي الثّالثة: (النّساء) ، وفي الرّابعة: (المائدة) أو (الأنعام) «1» . والشّكّ فيهما من شعبة ... الثانية، (و) سورة ( «النّساء» ) - أي- في الثالثة، (و) سورة ( «المائدة» ؛ أو) قال: سورة (الأنعام) في الرابعة. (والشّكّ فيهما) أي: السورتين- وهما المائدة والأنعام- (من) الإمام الحافظ الحجّة العابد الصالح أمير المؤمنين في الحديث؛ أبي بسطام: (شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي «مولاهم» الواسطي، ثم البصري «مولى عبدة بن الأعز» ، وعبدة «مولى يزيد بن المهلب الأزدي» . كان شعبة من واسط، ثم انتقل إلى البصرة فاستوطنها. وهو من تابعي التابعين، وأعلام المحدثين وكبار المحققين. رأى الحسن البصري، ومحمّد بن سيرين، وسمع أنس بن سيرين، وعمرو بن دينار، والشعبي، وخلائق لا يحصون من التابعين، وخلائق من غيرهم. روى عنه الأعمش، وأيوب السختياني، ومحمد بن إسحاق التابعيون، والثوري وابن مهدي ووكيع وعبد الله بن المبارك ويحيى القطّان، وخلائق لا يحصون من كبار الأئمة. وأجمعوا على إمامته في الحديث وجلالته وتحرّيه واحتياطه وإتقانه. وتوفي بالبصرة في أول سنة: - 160- ستين ومائة، وهو: ابن سبع وسبعين   (1) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من «وسائل الوصول» ، ولكن الشارح- رحمه الله- قد ضمّنها في الشرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 راوي هذا الحديث. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باية من القرآن ليلة. سنة- بتقديم المهملة على الموحدة فيهما- أي: فعمره ثمانون سنة إلّا ثلاث سنوات. رحمه الله تعالى. (راوي هذا الحديث) يعني أنّه شكّ في السورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلّم في الرابعة؛ هل هي المائدة، أو الأنعام!! وظاهر الخبر أنّه قرأ السور الأربع في الركعات الأربع، وبه صرّحت رواية أبي داود، ولكن رواية مسلم والنسائي ظاهرة في أنّه قرأ الكلّ في ركعة واحدة، فلعل الواقعة تعدّدت!! فتكون صلاة حذيفة مع النبي صلى الله عليه وسلّم وقعت في ليلتين في إحداهما قرأ السور في ركعة، وفي الليلة الآخرى قرأ السور الأربع في أربع ركعات. أو يقال: إن في رواية أبي داود والترمذي وهما، والصواب رواية مسلم والنسائي!!. ويؤيّده: اتحاد المخرج وهو صلة بن زفر. ولعل البخاريّ لم يخرجه في «صحيحه» ؛ لما فيه من الاختلاف والاضطراب! والله أعلم. انتهى من كتاب «جمع الوسائل» لملا علي قاري رحمه الله تعالى. وهذه القراءة كانت في صلاة الليل كما يفيده أوّل الحديث، وأمّا قراءته في الفرائض!! فوردت على أنحاء شتى. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام) - أي صلّى- (رسول الله صلى الله عليه وسلّم باية) أي: متلبّسا بقراءة آية (من القرآن) ؛ وهي قوله تعالى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) [المائدة] يعني: أحيا بقراءة هذه الآية (ليلة) ؛ أي: استمرّ يكرّرها ليلته كلّها في ركعات تهجّده، فلم يقرأ فيها بغيرها، أو صار يكرّرها في قيام ركعة واحدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: صلّيت ليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل قائما حتّى هممت بأمر سوء. إلى الفجر. ويرجّح الأوّل ما في «فضائل القرآن» لأبي عبيد؛ عن أبي ذرّ: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة من الليالي، فقرأ آية واحدة الليل كلّه حتّى أصبح؛ بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد. فقال القوم لأبي ذر: أيّة آية هي؟ فقال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) [المائدة] . وإنما داوم على تكريرها والتفكّر في معانيها حتّى أصبح!! لما اعتراه عند قراءتها من هول ما ابتدئت به مما أوجب اشتعال نار الخوف، ومن حلاوة ما ختمت به مما أوجب اهتزازه طربا وسرورا. ويؤخذ منه جواز تكرار آية في الصلاة، ولعل ذلك كان قبل النهي عن القراءة في الركوع والسجود!! فلا ينافيه خبر مسلم: «نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا» . أو فعله لبيان الجواز؛ تنبيها على أنّ النهي للتنزيه؛ لا للتحريم. وحديث «المتن» رواه النسائيّ وابن ماجه؛ عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. كما قاله ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وابن ماجه، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله تعالى عنه قال: صلّيت ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم) - أي- جماعة، فدلّ ذلك على صحّة النفل جماعة؛ وإن لم تشرع فيه ما عدا العيدين والكسوفين ونحوهما.. (فلم يزل قائما) أي: أطال القيام جدّا (حتّى هممت) أي: قصدت. والهمّ بمعنى القصد، ويعدّى بالباء (بأمر سوء) بإضافة «أمر» إلى «سوء» - كما هو الرواية- كما أفهمه كلام الحافظ ابن حجر. وقيل: إنّه روي بقطعها على الوصفيّة. والسّوء- بفتح السين وضمّها-: نقيض المسرّة. وشاع الإضافة إلى المفتوح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي جالسا ... ك «رجل سوء» ، ولا يقال سوء- بالضمّ-. وقد قرئ متواترا بالوجهين؛ في قوله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [98/ التوبة] . (قيل له: وما هممت به؟!) أي: أيّ شيء الذي هممت به؟. (قال) ؛ أي: ابن مسعود (: هممت أن أقعد) بلا صلاة (وأدع) - أي: أترك- (النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) يصلّي وحده؛ كما قاله القسطلاني وغيره. ولا مانع منه! لأنّ قطع النفل جائز عندنا. وقال المناوي: بأن ينوي قطع القدوة ويتمّ صلاته منفردا، لا أنّه يقطع الصلاة؛ كما ظنّه القسطلّاني وغيره!! لأن ذلك لا يليق بجلالة ابن مسعود. قال الباجوري: لكنّ المتبادر من قوله «أن أقعد» هو الأوّل، واحتمال أنّه يتمّ الصلاة قاعدا بعيد، فترك الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلّم على الأول أمر سوء، وكذا ترك الاقتداء به على الثاني، لأنّ في كلّ حرمان الثواب العظيم الحاصل بالصلاة مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم. انتهى. قال النووي في «شرح مسلم» : فيه أنّه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار، وأن لا يخالفوا بفعل ولا قول؛ ما لم يكن حراما. واتفق العلماء على أنّه إذا شق على المقتدي في فريضة؛ أو نافلة القيام، وعجز عنه جاز له القعود، وإنّما لم يقعد ابن مسعود!! للتأدّب مع النبي صلى الله عليه وسلّم. وفيه جواز الاقتداء في غير المكتوبات. وفيه استحباب تطويل صلاة الليل. انتهى. (و) أخرج مسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي جالسا) . قيل: كان ذلك في كبر سنّه. وقد صرّحت به عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه الشيخان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين- أو أربعين- آية.. قام فقرأ وهو قائم، ... ومن خصائصه صلى الله عليه وسلّم: أنّ تطوّعه قاعدا كهو قائما، لأنّه مأمون الكسل؛ فلا ينقص أجره، بخلاف غيره، فإنّه من صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم. ويؤخذ منه صحّة تنفّل القادر قاعدا، وهو مجمع عليه. (فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته) ؛ أي: من مقروئه (قدر) ؛ أي: مقدار (ما يكون ثلاثين أو أربعين آية؛ قام) . وفيه إشارة إلى أنّ الذي كان يقرأه قبل أن يقوم أكثر، لأن البقية تطلق غالبا على الأقلّ. والظّاهر أن الترديد بين الثلاثين والأربعين من عائشة!! فيكون إشارة إلى أن المقدار المذكور مبنيّ على التخمين، فردّدت بينهما؛ تحرّزا من الكذب. ويحتمل أنّه تارة كان يقع منه كذا وتارة كذا. ويحتمل أنّه شكّ من بعض الرواة فيما قالته عائشة، وهي إنّما قالت أحدهما!! وأيّده الحافظ العراقي برواية في «صحيح مسلم» عنها: فإذا أراد أن يركع؛ قام قدر ما يقرأ الإنسان أربعين آية. ويؤخذ من ذلك صحّة بعض النفل قاعدا وبعضه قائما، وصحّة بعض الركعة قاعدا وبعضها قائما، وجعل بعض القراءة في القعود وبعضها في القيام، وسواء في ذلك كلّه قعد ثم قام، أو قام ثمّ قعد، وسواء نوى القيام؛ ثم أراد القعود، أو نوى القعود؛ ثم أراد القيام. وهو قول الأئمة الأربعة، ولكن يمنع بعض المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام. انتهى «باجوري ومناوي» . (فقرأ؛ وهو قائم) أي: والحال أنّه قائم، أي: مستقرّ على القيام. وظاهر التعبير بالفاء: أنه لا تراخي بين القيام والقراءة. وظاهره أيضا أنّ من افتتح الصلاة قاعدا ثم قام؛ لا يقرأ حال نهوضه، لانتقاله إلى أكمل منه، بخلاف عكسه، فيقرأ في حال الهويّ. وبه صرّح الشافعية في فرض المعذور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 ثمّ ركع وسجد، ثمّ صنع في الرّكعة الثّانية مثل ذلك. وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تطوّعه؟ ... وأما مسألة الحديث؛ وهو النفل قاعدا مع القدرة؛ ثم ينتقل إلى القيام، أو بالعكس؟! فهو مخيّر بين القراءة في النهوض والهوي، لكن الأفضل القراءة هاويا؛ لا ناهضا. انتهى «مناوي وباجوري» . (ثمّ ركع وسجد) ؛ أي: من قيام. قال الحافظ ابن حجر: في الحديث ردّ على من شرط- على من افتتح النفل قاعدا- أن يركع قاعدا، وعلى من افتتحه قائما- أن يركع قائما، وهو محكيّ عن بعض الحنفية والمالكية، لرواية في مسلم أي: ستأتي بعد هذا- لكن لا يلزم منه منع ما دلّت عليه هذه الرواية، فيجمع بأنه كان يفعل كلّا من ذلك بحسب النشاط وعدمه. (ثمّ صنع في الرّكعة الثّانية مثل ذلك) ؛ أي: قرأ وهو جالس، حتّى إذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين، أو أربعين آية؛ قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع وسجد، فبعد أن قام في أثناء الأولى قعد في أوّل الثانية، فقد انتقل من القيام للقعود؛ وإن كان في ركعة أخرى. وهو حجّة على من منع ذلك. (و) أخرج مسلم، والترمذي؛ في «الشمائل» ؛ (عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بن شقيق) العقيلي- بالضمّ مصغّرا- البصري، روى عن عمر وعثمان وأبي ذر، وعنه ابن سيرين وقتادة وجعفر بن أبي وحشية، وثّقه أحمد وابن معين، وقال أحمد: ثقة ناصبيّ؛ يحمل على علي بن أبي طالب. خرّج له مسلم والأربعة، قيل: مات سنة: ثمان ومائة رحمه الله تعالى. آمين. (قال) ؛ أي: عبد الله بن شقيق: (سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: عن كيفيتها (في تطوّعه) بدل مما قبله بإعادة الجار. والتطوّع: فعل شيء مما يتقرّب به إلى الله تعالى؛ تبرّعا من النفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 فقالت: كان يصلّي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم.. ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس.. ركع وسجد وهو جالس. (فقالت: كان يصلّي ليلا طويلا) بدل من «الليل» بدل بعض من كلّ، أي: زمنا طويلا من الليل، لا أنّه يجعل صلاته طويلة. انتهى «مناوي» (قائما) حال من فاعل «يصلي» ؛ أي: يصلّي زمنا طويلا حال كونه قائما فيه. (وليلا) ؛ أي: زمنا (طويلا) حال كونه (قاعدا) فيه في كلّ صلاته؛ أو بعضها، فالحال مبنيّة على أن المراد بطول زمن الصلاة طول قيامها؛ أو قعودها. انتهى «مناوي» . ويؤخذ من ذلك ندب تطويل القراءة في صلاة الليل وتطويل القيام فيها، وهو أفضل من تكثير الركوع والسجود مع تقصير القراءة- على الأصحّ عند الشافعية-، ولا يعارضه حديث «عليك بكثرة السّجود» !! لأن المراد كثرة الصلاة؛ لا كثرة السجود حقيقة. انتهى «باجوري ومناوي» . (فإذا) الفاء تفصيلية (قرأ وهو قائم؛ ركع وسجد؛ وهو قائم) ، أي: انتقل إلى الركوع والسجود، والحال أنّه قائم تحرّزا عن الجلوس قبل الركوع والسجود. (وإذا قرأ وهو جالس! ركع وسجد؛ وهو جالس) أي: انتقل إلى الركوع والسجود، والحال أنّه جالس تحرّزا عن القيام قبل الركوع والسجود. قال المناوي- بعد ذكر مثل هذا التقرير- ما نصّه: ذكر ذلك كله الشّرّاح!!. وأنت خبير بأنها كلّها توجيهات لا تخلو عن ركاكة وتكلّف. انتهى. ثم نقل عن الزين العراقي أنّ ذلك محمول على أنّه صلى الله عليه وسلّم كان له أحوال مختلفة في تهجّده وغيره، فكان يفعل مرّة كذا، ومرّة كذا، ومرة يفتتح قاعدا؛ ويتمّ قراءته قاعدا؛ ويركع قاعدا. ومرّة يفتتح قاعدا، ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وعن حفصة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في سبحته- أي: نافلته- قاعدا، ويقرأ بالسّورة ويرتّلها حتّى تكون أطول من أطول منها ... ويركع قائما. فإن لفظة «كان» لا تقتضي الدوام عند جمع من العلماء الأعلام. انتهى. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ، ومالك في «الموطأ» ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ لها- والنسائيّ؛ (عن) أمّ المؤمنين (حفصة) بنت عمر بن الخطّاب (زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّي في سبحته) - بضم السين المهملة وسكون الموحدة- (أي نافلته) . سمّيت «سبحة» !! لاشتمالها على التسبيح، وخصّت النافلة بذلك!! لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة فأشبهت صلاة النفل، وهذا التخصيص أمر غالبيّ، فقد يطلق التسبيح على الصلاة مطلقا؛ تقول (فلان يسبّح) أي: يصلي فرضا أو نفلا. ومنه قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [98/ الحجر] أي: صلّ. وقوله فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصافات] أي: المصلين، (قاعدا) حال من فاعل «يصلي» . وزاد مسلم في أوّل الحديث زيادة هي قول حفصة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلّى في سبحته قاعدا حتّى إذا كان قبل موته بعام؛ فكان يصلي في سبحته قاعدا، (و) كان (يقرأ بالسّورة) من القرآن- الباء زائدة- (ويرتّلها) ؛ أي: يتأنّى في قراءتها، ويبيّن الحروف والحركات والوقوف، (حتّى تكون أطول من أطول منها) ؛ أي: حتى تصير السورة القصيرة- كالأنفال مثلا- لاشتمالها على الترتيل أطول من طويلة خلت عنه- كالأعراف-. وهذا معنى قول بعضهم «إنّه يمكث في قراءة هذه مرتّلا متدبّرا بحيث تصير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والّذي نفسي بيده، ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى كان أكثر صلاته قاعدا، إلّا المكتوبة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع قيام اللّيل، وكان إذا مرض أو كسل.. صلّى قاعدا. أطول من السورة التي أطول من هذه السورة؛ بحسب عدد الآيات عند عدم الترتيل في السورة الطويلة» . (و) أخرج النسائي، وابن ماجه؛ (عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: و) الله (الّذي نفسي بيده) ؛ أي: روحي في قبضة قدرته (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتّى كان أكثر صلاته قاعدا؛ إلّا المكتوبة) . حديث أمّ سلمة هذا رواه ابن حبّان في «صحيحه» بلفظ: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتّى كان أكثر صلاته؛ وهو جالس، وكان أحبّ العمل إليه ما داوم عليه صاحبه؛ وإن كان يسيرا. وأخرج مسلم في «صحيحه» ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم لم يمت حتّى كان أكثر صلاته وهو جالس. قال الحافظ العراقي: ولا منافاة بين حديث حفصة وحديث عائشة- كما قد يتوهّم-!! فقول عائشة «كان يصلّي جالسا» لا يلزم منه كونه صلّى جالسا قبل وفاته بأكثر من عام، فإنّ «كان» لا يقتضي الدوام؛ بل ولا التكرار على أحد قولي أهل الأصول، وبتقدير كونه «صلّى في تطوّعه قاعدا قبل وفاته بأكثر من عام» لا ينافي حديث حفصة، لأنها إنّما نفت رؤيتها؛ لا الوقوع بالكليّة. انتهى. (و) أخرج أبو داود، والحاكم؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يدع قيام اللّيل) - يعني التهجّد؛ وهو الصلاة في الليل بعد النوم- (وكان إذا مرض أو كسل) - ك «فرح» - (صلّى قاعدا) ، ومع ذلك فصلاته قاعدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته. كصلاته قائما في مقدار الأجر، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلّم بخلاف غيره، فإن صلاته قاعدا على النصف من صلاة القائم. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائيّ؛ باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» ؛ (عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما؛ قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: شاركته في الصلاة، بمعنى: أنّ كلّا منهما فعل تلك الصلاة، وليس المراد أنّه صلى معه جماعة، لأنه يبعد ذلك هنا؛ وإن كانت الجماعة جائزة في الرواتب، لكنها غير مشروعة فيها. (ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب؛ في بيته) . راجع لسنّة المغرب فقط. وقال الباجوري كالمناوي: إنّه راجع للأقسام الثلاثة قبله، لأن القيد يرجع لجميع ما تقدّمه- كما صرّح به بعضهم-. لكن قد يقال: هلا اكتفى بقوله «في بيته» الثانية المذكورة في قوله (وركعتين بعد العشاء في بيته) !! لأنّه يرجع لجميع ما تقدّمه؛ كما علمت. إلّا أن يقال صرّح به هنا!! اهتماما به. انتهى كلام الباجوري. وفي «جمع الوسائل» : إنّه يحتمل رجوعه للثلاثة قبله، ولسنّة المغرب فقط. ذكره ابن حجر. انتهى. وعجيب منهم هذه الاحتمالات؛ مع أن الحديث مفصّل في «صحيح مسلم» بوضوح، فلا يحتاج لهذه الاحتمالات!! ولفظه في «صحيح مسلم» : عن ابن عمر؛ قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل الظهر سجدتين- يعني: ركعتين- وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين، وبعد الجمعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 ......... سجدتين، فأمّا المغرب والعشاء والجمعة! فصلّيت مع النبي صلى الله عليه وسلّم في بيته. انتهى. فهذا مما يوضّح رجوع قوله «في بيته» الأول للمغرب، والثاني للعشاء فقط؛ كما هو أحد الاحتمالين اللذين أبداهما المحقّق ابن حجر، ولعلّهم لم يستحضروا رواية «صحيح مسلم» المذكورة!! ثم هي تشتمل على عشر ركعات من الرّواتب. وزاد في «صحيح البخاري» : قبل الصبح ركعتين، فالمجموع اثنتا عشرة ركعة. قال الإمام النووي في «شرح مسلم» : وليس للعصر ذكر في «الصحيحين» !! وجاء في «سنن أبي داود» بإسناد صحيح؛ عن عليّ رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي قبل العصر ركعتين. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «رحم الله امرأ صلّى قبل العصر أربعا» . رواه أبو داود، والتّرمذيّ؛ وقال: حديث حسن. وجاء في أربع بعد الظهر حديث صحيح؛ عن أمّ حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من حافظ على أربع ركعات قبل الظّهر وأربع بعدها حرّمه الله على النّار» رواه أبو داود، والترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح. وفي «صحيح البخاري» عن ابن مغفّل أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «صلّوا قبل المغرب ركعتين..» قال في الثالثة «لمن شاء» . ولمسلم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أربعا قبل الظّهر، وركعتين بعدها، وبعد المغرب، وبعد العشاء؛ كلّها في البيت، وإذا طلع الفجر صلّى ركعتين. وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن مغفّل؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «بين كلّ أذانين صلاة» المراد بين الأذان والإقامة. فهذه جملة من الأحاديث الصحيحة في السنن الراتبة مع الفرائض. قال أصحابنا وجمهور العلماء بهذه الأحاديث كلّها، واستحبّوا جميع هذه النوافل المذكورة في الأحاديث السابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي ركعتين خفيفتين ... ولا خلاف في شيء منها عند أصحابنا؛ إلّا في الركعتين قبل المغرب؛ ففيهما وجهان لأصحابنا: أشهرهما لا يستحبّ، والصحيح عند المحققين استحبابهما بحديثي ابن مغفّل، وبحديث ابتدارهم السّواري بها؛ وهو في «الصحيحين» . قال أصحابنا وغيرهم: واختلاف الأحاديث في أعدادها محمول على توسعة الأمر فيها، وأنّ لها أقلّ وأكمل، فيحصل أصل السنة بالأقلّ، ولكن الاختيار فعل الأكثر الأكمل، وهذا كما في اختلاف أحاديث صلاة الضحى، وكما في أحاديث الوتر، فجاءت فيها كلها أعدادها بالأقلّ والأكثر وما بينهما؛ ليدلّ على أقلّ المجزئ في تحصيل أصل السنة، وعلى الأكمل والأوسط. والله أعلم. انتهى كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى. يقول العبد الضعيف جامع هذا الشرح: لكن المقرّر في الفروع أنّ المؤكّد من الرواتب التابعة للفرائض عشر نظمها صاحب «الزّبد» فقال: ثنتان قبل الصّبح والظّهر كذا ... وبعده ومغرب ثمّ العشا ويؤخذ من الحديث أنّ البيت للنفل أفضل، إلّا ما استثني؛ حتّى من جوف الكعبة. وحكمته: أنّه أخفى فيكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، وبالغ ابن أبي ليلى فقال: لا تجزيء سنّة المغرب في المسجد. انتهى «باجوري» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي، وابن ماجه بألفاظ مختلفة- وهذا لفظ «الشمائل» -؛ (عن) أمّ المؤمنين (حفصة رضي الله تعالى عنها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي ركعتين) هما سنّة الصبح (خفيفتين) ، قد صحّ تخفيفهما من طرق في «الصحيحين» وغيرهما، فيسنّ تخفيفهما؛ اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلّم، وخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 حين يطلع الفجر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع ركعتي الفجر في السّفر ولا في الحضر، ولا في الصّحّة ولا في السّقم. تطويلهما أعلّ بالإرسال. على أنّه محمول على بيان الجواز. وأخذ مالك رحمه الله تعالى من تخفيفهما أنّه لا يقرأ فيهما غير الفاتحة، وحكاه ابن عبد البرّ عن الأكثر. وبالغ بعض السلف؛ فقال: لا يقرأ فيهما شيئا أصلا. وذهب الشافعيّ رضي الله عنه- كالجمهور- إلى أن المراد بتخفيفهما عدم تطويلهما على الوارد فيهما، فلا ينافي ذلك ما في مسلم: كان كثيرا ما يقرأ في الأولى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [136] آية البقرة، وفي الثانية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ [64] آية آل عمران. وروى مسلم وغيره: أنّه قرأ فيهما سورتي الإخلاص؛ يعني «الكافرون» ، و «قل هو الله أحد» . وصحّ: «نعم السّورتان تقرأ بهما في ركعتي الفجر «قل يا أيّها الكافرون» ، و «قل هو الله أحد!!» فيسنّ تخفيفهما مع قراءة ما ذكر حتّى لو قرأ جميع ذلك لم تفته سنّة التخفيف. انتهى «باجوري، ومناوي، وملا علي قاري» . (حين يطلع) - بضم اللام؛ من باب: قعد، أي: يظهر- (الفجر) هو: ضوء الصبح؛ وهو حمرة الشّمس في سواد اللّيل. سمّي بذلك!! لانفجاره، أي: انبعاثه، كانفجار الماء؛ من الفجور، وهو الانبعاث في المعاصي، والمراد الفجر الصادق؛ وهو الذّي يبدو مستطيلا. (و) أخرج الخطيب- بسند فيه عبد الله بن رجاء؛ قال فيه الذهبي: صدوق كثير الغلط والتصحيف، وأورده في «الضعفاء» أيضا-؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يدع ركعتي الفجر) ؛ أي صلاة سنة الصبح (في السّفر؛ ولا في الحضر، ولا في الصّحّة؛ ولا في السّقم) - بفتحتين: المرض، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثماني ركعات: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء. قال ابن عمر: وحدّثتني ... أو المرض الطويل- وفيه إشعار بأنهما أفضل الرّواتب، بل قال الحسن البصري بوجوبهما، لكن منع بخبر: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلّا أن تطّوّع» . فهما أفضل الرواتب عند الشافعية ما عدا الوتر. وقد روى الشيخان وغيرهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يكن صلى الله عليه وسلّم على شيء من النوافل أشدّ منه تعاهدا على ركعتي الفجر. وفي رواية لمسلم؛ عنها: ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة: ولا إلى غنيمة. ولمسلم أيضا؛ عن عائشة: لهما أحبّ إليّ من الدّنيا جميعها. وفي «مسلم» أيضا؛ عن عائشة مرفوعا: «ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها» . قال في «جمع الوسائل» : ولهذا روي عن أبي حنيفة أنّهما واجبتان، فلا شكّ أنّهما أفضل من سائر الرواتب. انتهى. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ؛ في «الشمائل» - وهذا لفظها-: (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثمان ركعات) - أي: من السنن المؤكّدة- (: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب) . ويسنّ ألايتكلّم قبلهما، لخبر رزين: «من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلّم رفعت صلاته في علّيّين» . وفيه ردّ على من لم يجوّزهما في المسجد. (وركعتين بعد العشاء. قال) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب: (وحدّثتني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 حفصة بركعتي الغداة، ولم أكن أراهما من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. حفصة) بنت عمر (بركعتي الغداة) ؛ أي: الفجر. وأصل الغداة: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. (ولم أكن أراهما) - بفتح الهمزة-؛ أي: أبصرهما. يعني: لم أكن عالما بركعتي الغداة (من النّبيّ صلى الله عليه وسلّم!!) ؛ أي: لأنّه كان يفعلهما عند نسائه قبل خروجه إلى المسجد دائما؛ أو غالبا، بخلاف بقية الرواتب، فإنّه ربّما فعلها في المسجد. ونفيه لرؤيتهما!! ينافيه ما رواه الترمذي في «جامعه» ، والنسائي؛ عن ابن عمر أيضا: رمقت النبي صلى الله عليه وسلّم شهرا- وفي رواية: أربعين صباحا- فكان يقرأ بهما أي: بسورتي الكافرون والإخلاص- في ركعتي الفجر. فهذا صريح في أنّه رآه يصلّيهما، وأجاب الشّبراملّسي بأن الأوّل محمول على الحضر، فإنّه كان فيه يصلّيهما عند نسائه. والثاني محمول على السفر، فإنّه كان فيه يصلّيهما عند صحبه. وأجاب العلّامة ملّا علي قاري بأن نفي رؤيته قبل أن تحدّثه حفصة، وإثباتها بعده؛ كما يشير إلى ذلك قوله «رمقت» . انتهى «باجوري» . وفي «الشمائل» للترمذي؛ عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟! قالت: كان يصلّي قبل الظّهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ثنتين. انتهى. وهذا السؤال عن السنن المؤكّدة، فلذلك أجابته عائشة بالعشر المؤكّدة. ولا ينافيه ما ورد في أخبار أنّه كان يصلّي أربعا قبل الظهر، وأربعا بعدها، وأربعا قبل العصر، وركعتين قبل المغرب، وركعتين قبل العشاء!! لاحتمال أنّه كان يصلّي هذه العشر في المسجد؛ وتلك في بيته، فأخبر كلّ راو بما اطلع عليه، أو أنّه كان يواظب على هذه؛ دون تلك، فهذه العشر هي الرواتب المؤكّدة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وعن معاذة قالت: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى؟ قالت: نعم.. أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله عزّ وجلّ. لمواظبة المصطفى صلى الله عليه وسلّم عليهنّ، وبقيت رواتب أخرى لكنها لا تتأكّد كتلك. وأفضل الرواتب ركعتا الفجر؛ للخلاف في وجوبهما، كما تقرّر. قال المحقّق العراقيّ: ولم أر لأصحابنا تعرّضا لآكدها بعدهما، وقالت المالكية والحنابلة: آكدها بعدها الركعتان بعد المغرب، ويشهد له أنّ الحسن قال بوجوبهما أيضا. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي؛ في «الشمائل» وهذا لفظها- (عن معاذة) - بضم الميم- بنت عبد الله العدوية؛ أم الصّهباء البصرية، ثقة من الثالثة، خرّج لها الستة؛ قاله المناوي. (قالت: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى؟!) ؛ أي: الصلاة التي تفعل في الضحى- بضم الضاد والقصر-: اسم للوقت الذي يكون من تمام ضوء الشمس إلى تمام ربع النهار، وقبله من طلوع الشمس إلى تمام ضوئها يقال له «ضحوة» ك «طلحة» ، و «ضحو» ك «فلس» ، و «ضحيّة» ك «هديّة» ، وبعده من تمام الربع إلى الزوال؛ يقال له «ضحاء» - بالفتح والمد-؛ ك «سماء» . فتلخص: أنّ الوقت من طلوع الشمس إلى الزوال ينقسم ثلاثة أقسام؛ كما يؤخذ من «القاموس» و «المختار» و «المصباح» . ووقتها الشرعيّ: من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، لكن الأفضل تأخيرها إلى أن يمضي ربع النهار، ليكون في كلّ ربع صلاة. انتهى «باجوري» . (قالت: نعم) ؛ أي: كان يصلّيها، وهذا كاف في الجواب. وقولها (أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله عزّ وجلّ) ؛ زيادة على المطلوب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 ......... لكنّها تتعلّق بالمطلوب، وهي محمودة حينئذ. و «أربع ركعات» معمول لمحذوف؛ أي: كان يصلّي أربع ركعات. والمراد أنّه كان يصلّيها أربع ركعات في أغلب أحواله، كما أشارت إليه بقولها «ويزيد ما شاء الله عزّ وجلّ» ؛ أي: وينقص، ففي كلامها «اكتفاء» ، والمراد أنّه يزيد زيادة محصورة؛ وإن كان ظاهر العبارة الزيادة بلا حصر، لكنه محمول على المبالغة. فالحاصل: أنّه صلّاها تارة ركعتين؛ وهو أقلّها، وتارة أربعا؛ وهو أغلب أحواله، وتارة ستّا، وتارة ثمانية؛ وهو أكثرها فضلا وعددا- على الراجح-. وقيل: أفضلها ثمان، وأكثرها اثنتا عشرة. ولا ينافي ذلك قول الفقهاء «كلّ ما كثر وشقّ كان أفضل» !! لأنه غالبي، فقد صرّحوا بأن العمل القليل قد يفضل الكثير في صور كثيرة، لأنّه قد يرى المجتهد من المصالح المحتفّة بالعمل القليل ما يفضله على الكثير. هذا؛ وقد ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رأيته سبّحها؛ أي: صلّاها- تعني صلاة الضحى-. وجمع البيهقيّ بين هذا وبين ما تقدّم عنها بحمل قولها «ما رأيته سبّحها» على نفي رؤية مداومته عليها؛ وقولها «نعم» على الغالب من أحواله، فقد شهد تسعة عشر من أكابر الصحب أنّهم رأوا المصطفى صلى الله عليه وسلّم يصلّيها. وقال في «فتح الباري» - بعد أن ذكر في الضحى أقوالا ستّة- ما نصّه: قد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، وذكر لغالب هذه الأقوال مستندا، وبلّغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسا من الصّحابة. انتهى. قال الحاكم: وفي الباب عن 1- أبي سعيد، و 2- أبي ذر، و 3- زيد بن أرقم، و 4- أبي هريرة، و 5- بريدة الأسلمي، و 6- أبي الدرداء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ......... و7- عبد الله بن أبي أوفى، و 8- عتبان بن مالك، و 9- عتبة بن عبد السّلمي، و 10- نعيم بن همار، و 11- أبي أمامة الباهلي، و 12- عائشة بنت أبي بكر، و 13- أمّ هانئ، و 14- أم سلمة: كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي الضحى. انتهى. بل قال ابن جرير: أحاديثها بلغت حدّ التواتر. وفي «مصنف ابن أبي شيبة» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنّها لفي كتاب الله تعالى، ولا يغوص عليها إلّا الغوّاص. قال ابن العربي: وهي كانت صلاة الأنبياء قبل المصطفى صلى الله عليه وسلّم، ويسنّ فعلها في المسجد لخبر فيه، وأما ما صحّ عن ابن عمر من قوله «إنها بدعة ونعمت البدعة» . ومن قوله «لقد قتل عثمان؛ وما أحد يسبّحها، وما أحدث الناس شيئا أحبّ إلي منها» !! فمحمول على أنّه لم يبلغه هذه الأخبار، أو أنّه أراد أنّه صلى الله عليه وسلّم لم يداوم عليها، أو أنّ التجمّع لها في نحو مسجد هو البدعة. وبالجملة: فقد قام الإجماع على استحبابها، وإنّما اختلفوا في أنّها مأخوذة من سنة مخصوصة؛ أو من عمومات!! وقد ورد في شأنها أحاديث كثيرة تدلّ على مزيد فضلها كخبر أحمد: «من حافظ على صلاة الضّحى غفرت له ذنوبه؛ وإن كانت مثل زبد البحر» . ومن فوائدها أنّها تجزئ عن الصدقة التي تطلب عن مفاصل الإنسان الثلاث مئة وستين مفصلا كلّ يوم تطلع فيه الشمس، كما رواه مسلم وغيره. وقد اشتهر بين العوام أنّ قطعها يورث العمى! ولا أصل له. انتهى «باجوري» مع زيادة من المناوي وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي الضّحى ستّ ركعات. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى حتّى نقول لا يدعها، ويدعها (و) أخرج التّرمذيّ؛ في «الشمائل» ، والحاكم في «صلاة الضحى» ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يصلّي الضّحى ستّ ركعات) . أي: في بعض الأوقات، فلا تنافي بين الروايات، قال المناوي: وهذا روي أيضا من حديث علي، وجابر، وعائشة. قال القسطلاني: لكن لا يخلو إسناد كلّ منها من مقال. انتهى. (و) أخرج الترمذي؛ في «الجامع» وحسّنه، وفي «الشمائل» ، والحاكم وصحّحه؛ من طريق عطية بن سعد العوفي- وهو ضعيف؛ كما قال النووي-. (عن أبي سعيد الخدريّ) ؛ نسبة إلى «خدرة» جدّ له (رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى) ؛ أي: يواظب عليها أيّاما متوالية لمحبّته لها؛ (حتّى نقول) - أي: في أنفسنا، أو يقول بعضنا لبعض-: (لا يدعها) ؛ أي: لا يتركها بعد هذه المواظبة، (ويدعها) ؛ أي: يتركها أحيانا؛ خوفا من أن يعتقد الناس وجوبها لو واظب عليها دائما، وقد أمن هذا بعده؛ لاستقرار الشريعة؛ فتطلب المواظبة عليها الآن. ويقرأ فيها بسورتي «الشمس» و «الضحى» ، كما رواه الحاكم؛ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نصلّي الضحى بسورتيها: «والشمس وضحاها» ؛ «والضحى» . ومناسبتها ظاهرة كالشمس، والأنسب إذا صلّاها أربعا أن يقرأ فيها ب «الشمس» و «الليل» و «الضحى» و «ألم نشرح» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 حتّى نقول لا يصلّيها. وعن أبي أيّوب الأنصاريّ ... ومن فوائد صلاة الضحى: أنّها تجزئ عن الصدقات التي تصبح على مفاصل الإنسان الثلاث مائة وستين مفصلا؛ كما أخرجه مسلم، وقال: «وتجزئ عن ذلك ركعتا الضّحى» . قال الحافظ زين الدين العراقي: إنّه اشتهر بين العوامّ أنّ من صلّى الضحى ثمّ قطعها يعمى، فصار كثير منهم يتركها أصلا لذلك!! وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنّه ممّا ألقاه الشيطان على ألسنتهم ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما إجزاؤها عن تلك الصّدقات. وكذا اشتهر هذا القول بين النساء فتوهّمن أنّ تركها حالة الحيض والنفاس مما يقطعها فتركنها من أصلها؛ وقلن إنّما تصلي الضحى المرأة المنقطعة «1» . انتهى «جمع الوسائل» . (حتّى نقول) - أي: في أنفسنا، أو يقول بعضنا لبعض- (: لا يصلّيها) ، أي: لا يعود لصلاتها أبدا لنسخها، أو اختلاف اجتهاده فيها. والحاصل: أنه كان يحبّها، فكان يواظب عليها أيّاما؛ ويتركها أحيانا للخوف من اعتقاد فرضيّتها، وهذا الحديث قد عورض بحديث مسلم أنّه كان إذا صلّى صلاة أثبتها، وقد صلّى مرة الضحى بعد صلاة العصر؛ فلم يتركه. قال البيهقي: وهذا من خصائصه. انتهى «مناوي» . (و) أخرج أبو داود، وابن ماجه، والترمذي؛ في «الشمائل» - باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» -: (عن أبي أيّوب) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاريّ) الخزرجي النجّاري المدني الصحابي الجليل. شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة مهاجرا،   (1) أي: الآيسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشّمس، فقلت: يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟ فقال: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس، ... وأقام عنده شهرا حتى بنيت مساكنه ومسجده. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مائة وخمسون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. روى عنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد الجهني، وابن عبّاس، وعبد الله بن يزيد الخطمي؛ وكلّهم صحابة. وسعيد بن المسيّب، وسالم بن عبد الله، وعروة بن الزّبير، وعطاء بن يزيد الليثي، وعبد الله بن حنين، وخلائق سواهم. توفي بأرض الروم غازيا سنة: خمسين- وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثنتين وخمسين- وقبره بالقسطنطينية (رضي الله تعالى عنه. أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يدمن) - من الإدمان بمعنى المداومة؛ أي: يلازم- (أربع ركعات عند زوال الشّمس؟!) ، أي: عقبه لعدم التراخي كأنّها عنده، وهذه الصلاة هي سنّة الزوال، وقيل: سنّة الظهر القبلية. ويبعد الأوّل التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلّم واظب على شيء من السنن بعد الزوال، إلّا على راتبة الظهر. (فقلت) - أي: قال أبو أيّوب الأنصاري-: (يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟!) ؛ أي: تديمها، والقصد الاستفهام عن حكمة ذلك. (فقال) ؛ أي رسول الله صلى الله عليه وسلّم (: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس) ؛ أي: لصعود الطاعة ونزول الرحمة، كما جاء في حديث البزار عن ثوبان أنّه صلى الله عليه وسلّم كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 فلا ترتج حتّى يصلّى الظّهر، فأحبّ أن يصعد لي في تلك السّاعة خير» ؛ قلت: أفي كلّهنّ قراءة؟ قال: «نعم» ، قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟ قال: «لا» . يستحبّ أن يصلّي بعد نصف النهار، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله؛ أراك تستحبّ الصلاة هذه الساعة؟! فقال: «تفتح فيها أبواب السّماء، وينظر الله إلى خلقه بالرّحمة، وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصّلاة والسّلام» . انتهى «ملّا علي قاري» . (فلا ترتج) - بضمّ التاء الأولى، وفتح الثانية؛ بينهما راء ساكنة وآخره جيم مخففة-؛ أي: لا تغلق (حتّى يصلّى الظّهر) ؛ أي: صلاة الظهر. (فأحبّ أن يصعد) - بفتح أوله ويجوز ضمّه- أي: يطلع ويرفع (لي في تلك السّاعة خير» ) أي: عمل خير من النوافل؛ زيادة على ما كتب ليدلّ على كمال العبودية. واستشكل هذا بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلّا بعد صلاة الصبح، ويبعد أنّ العمل يصعد قبل صعودهم!! وقد يراد بالصعود القبول. (قلت) أي: - للنبي صلى الله عليه وسلّم- (: أفي كلّهنّ قراءة؟!) ؛ أي: قراءة سورة غير الفاتحة، وإلّا! فالنفل لا يصحّ بدون الفاتحة، كما هو معلوم. (قال: «نعم» . قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟) ، أي: بين الركعتين الأوليين والركعتين الآخريين! (قال: «لا» ) . أي ليس فيهن تسليم فاصل. وبهذا استدلّ من جعل صلاة النهار أربعا أربعا. ويمكن أن يقال: المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أنّ الأفضل مثنى مثنى؛ ليلا ونهارا، لخبر أبي داود وغيره: «صلاة اللّيل والنّهار مثنى مثنى» . وبه قال الأئمة الثلاثة. وقال أبو حنيفة: الأفضل أربعا أربعا مطلقا، ووافقه صاحباه في النهار؛ دون الليل. وهذا الحديث وما في معناه حجّة لهم. انتهى «مناوي وباجوري» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 ومعنى (لا ترتج) : لا تغلق. وعن أمّ هانئ رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل، فسبّح- أي: صلّى ... (ومعنى «لا ترتج» ) - بضم المثناة الفوقية الأولى وفتح الثانية وتخفيف الجيم- (لا تغلق) ؛ ذكره شرّاح «الشمائل» . (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه- باختلاف في الألفاظ-: كلّهم (عن أمّ هانئ) - بالهمزة-: فاختة بنت أبي طالب (رضي الله تعالى عنها؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة) لا يعارضه رواية الشيخين وغيرهما عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الفتح؛ فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب ... الحديث. لاحتمال تعدّد الواقعة؛ فمرّة كان في بيتها، ومرّة ذهبت له، أو كان في بيتها في ناحية عنها وعنده فاطمة، فمجيئها له لا ينفي كونه في بيتها، وكان ذهابها إليه لشكوى أخيها عليّ، إذ أراد أن يقتل من أجارته. لكن وقع في «الموطأ» ومسلم؛ من طريق أبي مرة؛ عن أمّ هانئ «أنّها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم؛ وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل» . ويجمع بينهما بأن ذلك تكرّر منه. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكّة؛ وكانت هي في بيت آخر بمكّة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل. فيصحّ القولان. فعلى هذا يكون لها بيتان أحدهما كان صلى الله عليه وسلّم سكن فيه، والآخر سكناها، فالإضافة باعتبار مالكيّتها. انتهى. «جمع الوسائل ومناوي» . (فاغتسل) أخذ منه الشافعية أنّه يسنّ لمن دخل مكة أن يغتسل أوّل يوم لصلاة الضحى؛ تأسّيا به صلى الله عليه وسلّم. (فسبّح؛ أي: صلى) ؛ من باب تسمية الكلّ باسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 ثمان ركعات- ما رأيته صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قطّ أخفّ منها، غير أنّه كان يتمّ الرّكوع والسّجود. البعض، لاشتمال الصلاة على التسبيح، وقد يطلق التسبيح على صلاة التطوّع على أنّ رواية «الصحيحين» : فصلّى (ثمان) منسوب إلى الثّمن، لأنّه الجزء الذي صيّر السبعة ثمانية؛ فهو ثمنها، ثم فتحوا أوّله، لأنّهم يغيّرون في النسبة، وحذفوا منها إحدى ياءي النسب وعوّضوا منها الألف، وقد تحذف منه الياء، ويكتفى بكسر النون، أو يفتح تخفيفا. كذا حقّقه العلّامة الكرماني. انتهى. «مناوي وملّا علي قاري» (ركعات) زاد ابن خزيمة في روايته؛ عن أمّ هانئ: «فسلّم من كلّ ركعتين» وفيه ردّ على من تمسّك به في صلاتها موصولة، سواء صلّى ثمان ركعات؛ أو أقل. ولمسلم أنّه صلى الله عليه وسلّم صلّى في بيتها عام الفتح ثمان ركعات في ثوب واحد؛ قد خالف بين طرفيه (: ما رأيته) ، أي: النبي (صلى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قطّ) ؛ أي: أبدا (أخفّ منها) أي: من تلك الصلاة التي صلّاها صلى الله عليه وسلّم. زاد في رواية مسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول؛ أم ركوعه؛ أم سجوده!!. ولا يؤخذ من هذا الحديث ندب التخفيف في صلاة الضحى؛ خلافا لمن أخذه، لأنّه لا يدلّ على أنّه واظب على ذلك، بخلافه في سنة الفجر. بل ثبت أنّه طوّل في صلاة الضحى؛ كما رواه ابن أبي شيبة. وإنّما خفّفها يوم الفتح!! لاشتغاله بمهمّاته. (غير أنّه) - نصب على الاستثناء-، ولعلّه لما كان ينشأ من قولها «ما رأيته صلّى صلاة قطّ أخفّ منها» توهّم أنه لم يتمّ الركوع والسجود؛ دفعت ذلك التوهّم بأنّه صلى الله عليه وسلّم (كان يتمّ الرّكوع والسّجود) يعني: لا يخفّفهما جدّا، وإلّا فهو يتمّ سائر الأركان مع التخفيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 [وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة في تمام] «1» . وعن أبي واقد اللّيثيّ رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة على النّاس، وأطول النّاس صلاة لنفسه. (و) أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» ، والترمذيّ، والنّسائي (عن أنس رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس) - لفظ رواية مسلم: «من أخفّ الناس» - (صلاة) إذا صلّى إماما؛ لا منفردا، كما صرّح به الحديث الآتي عقبه. (في تمام) للأركان. قيّد به!! دفعا لتوهّم من يفهم أنّه ينقص منها حيث عبّر ب «أخفّ» . قال ابن تيمية: فالتخفيف الذي كان يفعله هو تخفيف القيام والقعود؛ وإن كان يتمّ الركوع والسجود ويطيلهما؛ فلذلك صارت صلاته قريبا من السواء. وقال بعضهم: محمول على بعض الأحوال، وإلّا!! فقد ثبت عنه التطويل أيضا جدّا أحيانا، وفي رواية لمسلم أيضا: كان يوجز في الصلاة ويتمّ. انتهى «مناوي» . (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو يعلى بإسناد جيد؛ (عن أبي واقد) - بقاف مهملة- (اللّيثيّ) بمثلاثة بعد التحتية، واسمه: الحارث بن مالك المديني، شهد بدرا (رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة على النّاس) - يعني: المقتدين به- (وأطول النّاس صلاة لنفسه) ، ما لم يعرض ما يقتضي التخفيف؛ كما فعل في قصّة بكاء الصبي ونحوه.   (1) إضافة من الشارح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وعن عبد الله بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في بيتي، والصّلاة في المسجد؟ قال: «قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد؛ إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» ؛ وفيه- كالذي قبله- أنّه يندب للإمام التخفيف من غير ترك شيء من الأبعاض والهيئات، لكن لا بأس بالتطويل برضاهم؛ إن انحصروا، كما استفيد من حديث آخر. انتهى «مناوي» . (و) أخرج ابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عبد الله بن سعد) الأنصاري الحرامي- وقيل: القرشي الأموي- عمّ حرام بن حكيم، صحابيّ؛ نقل أنه شهد فتح القادسية، وكان يومئذ على مقدّمة الجيش. روى عنه حرام بن حكيم وخالد بن معدان. وزعم الخطيب: أن حرام بن حكيم هذا هو حرام بن معاوية الأنصاري، وأنّهما متّحدان!! وقد فرّق بينهما البخاريّ، والدارقطني، والعسكري وغيرهم. انتهى «إصابة» . (رضي الله تعالى عنه؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في بيتي؛ والصّلاة في المسجد؟!) ؛ أي: أيّتهما أفضل، والمراد صلاة النفل (قال: «قد) : للتحقيق (ترى) : الرؤية بصرية، والخطاب لعبد الله بن سعد (ما أقرب بيتي من المسجد) أي: قد ترى كأقرب بيتي من المسجد (فلأن أصلّي في بيتي) الفاء: فصيحة، و «أن» مصدرية؛ أي: إذا كنت ترى ذلك؛ فلصلاتي في بيتي مع كمال قربه من المسجد (أحبّ إليّ من أن أصلّي) ؛ أي: من صلاتي (في المسجد) أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، ولتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشيطان- كما سيأتي-. (إلّا أن تكون) الصلاة (صلاة مكتوبة» ) ؛ أي: مفروضة، فإنّ الأحبّ إليّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، وتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشّيطان. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ البرد.. بكّر بالصّلاة، وإذا اشتدّ الحرّ.. أبرد بالصّلاة. صلاتها في المسجد، لأنها من شعائر الإسلام، وقول (أي: لتحصل البركة للبيت وأهله) ؛ أي: بصلاة النفل فيه، (وتنزل الملائكة) لاستماع القرآن، (وليذهب عنه الشّيطان) ؛ بسبب وجود العبادة وعدم الغافلة. ومعنى الحديث: أنّه مع كمال قرب بيتي من المسجد صلاتي في بيتي أحبّ إليّ من صلاتي في المسجد إلّا المكتوبة. وهو معنى حديث «الصحيحين» : «أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» . وفي «الصحيحين» : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتّخذوها قبورا» . وكذلك يستثنى من النفل ما تسنّ فيه الجماعة، والضحى، وسنّة الطواف، والإحرام، والاستخارة.. وغير ذلك ممّا هو مبيّن في الفروع. انتهى «مناوي» . (و) أخرج البخاري والنّسائيّ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ البرد بكّر بالصّلاة) ؛ أي: بصلاة الظهر، يعني صلّاها في أوّل وقتها، وكلّ من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه. (وإذا اشتدّ الحرّ أبرد بالصّلاة) ؛ أي: دخل بها في البرد، بأن يؤخّرها إلى أن يصير للحيطان ظلّ فيه يمشي قاصد الجماعة. قال المناويّ: قال الإمام البخاريّ: يعني هنا صلاة الجمعة؛ قياسا على الظهر، لا بالنصّ؛ لأن أكثر الأحاديث تدلّ على الإبراد بالظهر، وعلى التبكير بالجمعة مطلقا، وقوله- أعني البخاري- «يعني الجمعة» !! يحتمل كونه قول التابعي مما فهم، وكونه من تفقّهه؛ فترجّح عنده إلحاقا بالظهر، لأنها إما ظهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 ......... وزيادة، أو بدل عن الظهر، لكنّ الأصحّ من مذهب الشافعي عدم الإبراد بها. انتهى. وإنّما يسنّ الإبراد عند الشافعية بشروط: 1- كونه بصلاة الظهر، و 2- كونه في الحرّ الشديد، و 3- كونه بالبلد الحارّ، و 4- كونه لمن يصلّي جماعة، و 5- كونها تقام في موضع بعيد بأن يكون في مجيئه مشقّة تذهب الخشوع؛ أو كماله، و 6- كونهم يمشون إليها في الشمس. فلا يسنّ الإبراد بالجمعة، ولا في غير شدّة الحرّ؛ ولو بقطر حار، ولا في قطر بارد؛ أو معتدل؛ وإن اتفق فيه شدّة حرّ، ولا لمن يصلي منفردا. لكن اعتمد في «التحفة» و «النهاية» وغيرهما: أنّه يسنّ الإبراد لمنفرد يريد الصلاة في المسجد، ولا يسنّ الإبراد لمن يأتي من قرب، أو من بعد، لكن يجد ظلّا يمشي فيه، إذ ليس في ذلك كبير مشقّة. وإذا سنّ الإبراد بالشروط المذكورة سنّ التأخير إلى حصول الظلّ الذي يقي طالب الجماعة من الشمس؛ وغايته نصف الوقت. وهذا أحد المسائل المستثناة من قولهم «كلّ عبادة مؤقّتة فالأفضل تعجيلها أوّل الوقت» ، واستثنوا من ذلك فصولا؛ منها: الإبراد المذكور بشرطه، ومنها: صلاة الضحّى أوّل وقتها طلوع الشمس، ويسنّ تأخيرها لربع النهار، ومنها: صلاة العيدين؛ يسنّ تأخيرها لارتفاع الشمس، ومنها: الفطرة أوّل وقتها غروب شمس ليلة العيد ويسنّ تأخيرها ليوم العيد، ورمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة والحلق كلّها يدخل وقتها بنصف ليلة النحر، ويستحبّ تأخيرها ليوم النحر. وقد نظم هذه المستثنيات الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى؛ فقال: أوّل الوقت في العبادة أولى ... ما عدا سبعة أنا المستقري الضّحى العيد فطرة ثمّ ظهر ... حيث الابراد سائغ بالحرّ وطواف الحجيج ثمّ حلاق ... بعد حجّ ورمي يوم النّحر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا. وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه- وفي رواية: حزنه- أمر.. صلّى؛ ... (و) أخرج أبو نعيم في «أماليه الحديثية» ، والخطيب، وابن عساكر في «تاريخه» : كلّهم؛ (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) - وإسناده حسن؛ كما في العزيزي- قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا) كيف؛ وهو أعلم الناس بالله، وأعرفهم به!! ولهذا قام في الصلاة حتّى تورّمت قدماه. (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود؛ وسكت عليه (عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده «1» - وهو حديث صحيح؛ كما في العزيزي- قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه) - بحاء مهملة وزاي فموحدة مفتوحة مخففة- أي: هجم عليه، أو نزل به. (وفي رواية: حزنه) - بنون- (أمر) أي: أوقعه في الحزن، يقال: حزنني الأمر، وأحزنني الأمر؛ فأنا محزون. ولا يقال «محزن» . (صلّى) ، لأن الصلاة معينة على دفع جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرّب إليه.   (1) يجدر التنبيه أن والده ليس اسمه «اليمان» ! وإنما هو لقب له «هامش الأصل» . واسمه العلم: حسيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 أي: إذا نزل به همّ، وأصابه غمّ. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا.. لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين. ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة؛ وهي ركعتان عقبها، وكان ابن عبّاس يفعل ذلك، ويقول: نفعل ما أمرنا الله به بقوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [153/ البقرة] . فينبغي لمن نزل به غمّ أن يشتغل بخدمة مولاه؛ من صلاة وذكر ونحوهما، فإنّه تعالى يفرّجه عنه. انتهى شروح «الجامع الصغير» . قال في «النهاية» : معنى إذا حزبه أمر: (أي: إذا نزل به همّ) ؛ هو الكرب يحصل بسبب ما يتوقّع حصوله من أذى، (وأصابه غمّ) الكرب: يحصل للقلب بسبب ما حصل من الأذى، وقيل: هما بمعنى واحد، وقال بالفرق بينهما القاضي عياض وغيره. انتهى شرح «القاموس» . (و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ؛ (عن أنس) أي: ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلّم (رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا) في سفره- لنحو استراحة؛ أو قيلولة؛ أو تعريس- (لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين) ؛ أي: نفلا غير الفريضة. ويحتمل أنّ المراد به ركعتا الفرض؛ أي: الظهر مثلا مقصورة. قال المناوي: قال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح السند معلول المتن؛ خرّجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة بلفظ «الظهر ركعتين» ، فظهر أنّ في رواية الأوّل وهما؛ أو سقوطا. والتقدير: حتى يصلّي الظهر ركعتين. وقد جاء صريحا في «الصحيحين» . انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى. (و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في «الصلاة» وقال: على شرطهما؛ وأقرّه الذهبي، وقال العزيزي: إسناده صحيح-: كلّهم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة؛ ليحافظوا عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارق مصلّاه سواكه ومشطه. وروى الإمام أحمد، ... (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة) . قال ابن حجر: وحبّ المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيء!! إما بإخباره للصحابي بذلك، وإما بالقرائن (ليحافظوا عنه) كيفية الصلاة المشتملة على فروض وأبعاض وهيئات؛ فيرشدون الجاهل وينبّهون الغافل. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي قال: (كان صلى الله عليه وسلم لا يفارق مصلّاه) موضع صلاته (سواكه) ؛ أي: آلة السواك (ومشطه) . ورمز له برمز الطبراني. (وروى الإمام) الحافظ أبو عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي البغداديّ، الإمام البارع المجمع على جلالته وإمامته، وورعه وزهادته، وحفظه ووفور علمه، وسيادته. خرج من مرو حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها إلى أن توفّي بها، ودخل مكّة والمدينة المنورة، والشام، واليمن، والكوفة، والبصرة، والجزيرة. سمع سفيان بن عيينة، ويحيى القطّان، ووكيعا، وابن مهدي، وعبد الرزاق، وخلائق. وروى عنه شيخه عبد الرزاق، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة الرازي، وبقي بن مخلد الأندلسي، وخلائق قال أبو حاتم: كان أحمد ابن حنبل بارع الفهم بمعرفة صحيح الحديث وسقيمه. وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة: أربع وستين ومائة، وتوفي في ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة: إحدى وأربعين ومائتين، ودفن ببغداد، وقبره مشهور معروف يتبرّك به رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من صلاته.. استغفر (ثلاثا) ، ثمّ قال: ... (و) الإمام (مسلم) بن الحجاج في «كتاب الصلاة» ، (و) الإمام (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني في «الصلاة» أيضا (و) الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) نسبة إلى «ترمذ» : مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له «جيحون» وتقدّمت ترجمته. (و) الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار (النّسائيّ) - بفتح النون والسين المهملة المخفّفة-؛ بعدها ألف ممدودة؛ أو مقصورة؛ منسوب إلى «نسا» مدينة بخراسان، قال بعضهم: والنّسئيّ نسبة لنسإ ... مدينة في الوزن مثل سبإ (و) الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي «مولاهم» القزوينيّ المعروف بلقب (ابن ماجه) ؛ بسكون الهاء وصلا ووقفا لأنه اسم أعجمي، و «ماجه» لقب يزيد والد محمّد؛ لا جدّه كما في «القاموس» ، وقد تقدّمت ترجمته. كلّهم رووه عن ثوبان مولى المصطفى صلى الله عليه وسلّم: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من صلاته) ؛ أي: سلّم منها (استغفر) ؛ أي: طلب المغفرة من ربّه تعالى (ثلاثا) من المرّات. زاد البزّار في روايته: «ومسح جبهته بيده اليمنى» . قيل للأوزاعي- وهو أحد رواة الحديث-: كيف الاستغفار؟ قال: يقول «أستغفر الله.. أستغفر الله» . قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ رحمه الله تعالى: استغفاره عقب الفراغ من الصلاة استغفار من رؤية الصلاة، أو للتشريع؛ تعليما لأمته، ويحتمل أن يكون لهما. (ثمّ قال) ؛ بعد الاستغفار، والظاهر أنّ التراخي المستفاد من «ثمّ» غير مراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 «اللهمّ؛ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» . هنا: ( «اللهمّ؛ أنت السّلام) - أي: المختصّ بالتنزّه عن النقائص والعيوب لا غيرك- (ومنك السّلام) ؛ أي: الأمان والسلامة من النقائص لمن أردت له ذلك. (تباركت) ؛ أي: تعظّمت وتمجّدت (يا ذا الجلال والإكرام» ) ، لا تستعمل هذه الكلمة في غير الله تعالى. انتهى عزيزي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 [الفصل الثّاني في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الثّاني في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم عن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: كان يصوم حتّى نقول ... (الفصل الثّاني) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة صومه صلى الله عليه وسلّم) والصوم والصيام كلاهما مصدر ك «صام» ، فهما بمعنى واحد. وهو- لغة-: الإمساك؛ ولو عن الكلام ومنه إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [26/ مريم] أي: إمساكا عن الكلام. وشرعا-: الإمساك عن المفطّرات جميع النّهار بنيّة. والمراد به هنا ما يشمل الفرض والنفل. روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظه-: كلّهم يروونه (عن عبد الله بن شقيق) العقيلي- مصغرا- تقدّمت ترجمته قريبا! (قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم!) ؛ أي: هل كان يديم الصيام أم لا؟! وهل كان يقلّ منه؛ أو يكثر؟ وهل كان يخصّ شهرا كاملا بالصوم؛ أم لا!؟ إلى غير ذلك مما يعرف ممّا يأتي. (قالت: كان يصوم) - أي: يتابع صوم النفل- (حتّى نقول) - بالنون؛ أي: نحن في أنفسنا، أو: يقول بعضنا لبعض، وهذا هو الرواية؛ كما قاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 قد صام- أي: داوم الصّوم- فلا يفطر، ويفطر حتّى نقول قد أفطر- أي: داوم الإفطار- فلا يصوم. قالت: وما صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا كاملا منذ قدم المدينة.. إلّا رمضان. وسئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان يصوم من الشّهر حتّى نرى ... القسطلّاني- (قد صام) قال الباجوري: (أي: داوم الصّوم فلا يفطر) . انتهى. (و) كان (يفطر) ؛ أي: يداوم الفطر (حتّى نقول) - بالنون؛ أي: نحن في أنفسنا، أو: يقول بعضنا لبعض- (قد أفطر) قال الباجوري: (أي: داوم الإفطار فلا يصوم) . انتهى. (قالت) - أي عائشة- (: وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلّم شهرا كاملا) مقتضاه أنّه لم يصم شعبان كلّه، لكن في الرواية الآتية عن أمّ سلمة أنّه صامه كلّه!! ويجمع بينهما بحمل الكلّ على المعظم، حتى جاء في كلام العرب: إذا صام أكثر الشهر يقال صام الشهر كلّه، أو أنّه صامه كلّه في سنة وصام بعضه في سنة أخرى. (منذ قدم المدينة) ، قد يفهم منه أنّه كان يصوم شهرا كاملا قبل قدومه المدينة، ويمكن أنّها قيّدته بذلك!! لأن الأحكام إنّما تتابعت وكثرت حينئذ، مع أنّ رمضان لم يفرض إلّا في المدينة في السنة الثانية من الهجرة. (إلّا رمضان) سمّي بذلك!! لأنه حال وضع اسمه على مسمّاه وافق الرّمض؛ وهو شدّة الحرّ فسمّي ب «رمضان» ، أو لأنه يرمض الذنوب؛ أي يذهبها. (و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ له-: أنّه (سئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ فقال: كان يصوم من الشّهر) أي: كان يكثر الصوم في الشهر (حتّى نرى) - بالنون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 ألايريد أن يفطر منه، ويفطر حتّى نرى ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته مصلّيا، ولا نائما إلّا رأيته نائما. التي للجمع، أو [ترى] بالتاء التي للمخاطب؛ مبنيا للفاعل، أو [يرى] بالياء التي للغائب؛ مبنيا للفاعل، أو [يرى] للمفعول، فالروايات أربع- أي: نظنّ (ألايريد) - بنصب الفعل على كون «أن» مصدرية، وبالرفع على كونها مخفّفة من الثقيلة- (أن يفطر منه) ؛ أي: من الشهر. (ويفطر) أي: يكثر الفطر (حتّى نرى) برواياته السابقة (ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت) - بفتح التاء على الخطاب- (لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا؛ إلّا رأيته مصلّيا؛ ولا نائما؛ إلّا رأيته نائما) ؛ أي: أنّ صلاته ونومه كان يختلف بالليل، لأنه ما كان يعيّن بعض الليل للصلاة وبعضه للنوم، بل وقت صلاته في بعض الليالي وقت نومه في بعض آخر، وعكسه، فكان لا يرتّب لتهجّده وقتا معينا، بل بحسب ما تيسّر له من القيام. ولا يشكل عليه قول عائشة «كان إذا صلّى صلاة داوم عليها» ، وقولها «كان عمله ديمة» !! لأن اختلاف وقت التهجّد تارة في أوّل الليل؛ وأخرى في آخره! لا ينافي مداومة العمل، كما أنّ صلاة الفرض تارة تكون في أوّل الوقت، وتارة في آخره، مع صدق المداومة عليه؛ كما قاله ملّا علي قاري. وإنّما ذكر الصلاة في الجواب؛ مع أنّ المسؤول عنه ليس إلّا الصوم!! إشارة إلى أنّه ينبغي للسائل أن يعتني بالصلاة أيضا. والحاصل: أنّ صومه وصلاته صلى الله عليه وسلّم كانا على غاية الاعتدال، فلا إفراط فيهما؛ ولا تفريط. انتهى «باجوري» . (و) أخرج النسائي، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» - وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر- كلّهم؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان ورمضان. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم أر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه. (عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان) ، سمّي بذلك!! لتشعّبهم في المفازات بعد أن يخرج رجب، وقيل: لتشعّبهم في طلب الماء. وقيل غير ذلك. (ورمضان) مقتضى هذا الحديث أنّه صام شعبان كلّه، وهو معارض لما سبق من أنّه ما صام شهرا كاملا غير رمضان، وتقدّم الجواب عن ذلك بأن المراد بالكلّ الأكثر، فإنّه وقع في رواية مسلم «كان يصوم شعبان كلّه، كان يصومه إلّا قليلا» . قال النووي: الثاني مفسّر للأول، وبيان أن قولها «كلّه» أي: غالبه. فلعلّ أم سلمة لم تعتبر الإفطار القليل؛ وحكمت عليه بالتتابع لقلّته جدا. (و) أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظها-: (عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم في شهر) من الأشهر (أكثر) ؛ مفعول مطلق، وهو صفة لمحذوف: أي: صياما أكثر (من صيامه في شعبان) . والمعنى أنّه كان يصوم في شعبان وغيره، وكان صيامه في شعبان تطوّعا أكثر من صيامه في ما سواه. (كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه) الإضراب بظاهره ينافي حديثها السابق أوّل الباب، فاحتيج للتوفيق بأنها أرادت صومه كلّه في سنين، فسنة يصوم من أوّله، وسنة من آخره، وسنة من وسطه، فصوم كلّه مبالغة في قلّة ما كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 ......... يفطره، وليس على حقيقته، فكلمة «بل» للإضراب ظاهرا، وللمبالغة في كثرة الصوم باطنا، لئلا يتوهّم أن ما كان يفطره؛ وإن كان قليلا لكن له وقع كثلثه، فنبّهت عائشة رضي الله عنها بهذا الإضراب على أنه لم يفطر منه إلّا ما لا وقع له؛ كيوم أو يومين أو ثلاثة، بحيث يظنّ أنّه صامه كلّه، وفي الواقع لم يصمه كلّه؛ خوف وجوبه. واعترض بأن «كلّ» المضافة إلى الضمير تتعيّن للتأكيد، والتأكيد ب «كلّ» لدفع توهّم عدم الشمول تجوّزا؛ فكيف يحمل المؤكّد بها على الشمول مجازا!! واعتذر بأنّ التأكيد بها قد يقع لغير دفع المجاز، وهو؛ وإن كان فيه ما فيه؛ لكن ضرورة التوفيق بين أطراف الأخبار تحوج إلى إخراج بعض الألفاظ عن ظاهرها. وأوضح من ذلك في التوفيق: ما ذكره ابن عبد البرّ أنّ أول أمره كان يصوم أكثره، وآخره كان يصوم كلّه. وإنما آثر المصطفى صلى الله عليه وسلّم شعبان على المحرّم؛ مع أنّه أفضل للصوم بعد رمضان- كما في مسلم؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «أفضل الصّيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرّم» -!! لأن شعبان لما اكتنفه شهران عظيمان اشتغل الناس بهما؛ فصار مغفولا عنه، مع ما انضم لذلك من رفع الأعمال فيه، أي: رفع جملة أعمال السّنة. أو أنّه لم يعلم فضل صوم المحرم إلّا في آخر حياته قبل التمكّن من صومه! أو أنّه كان يعرض له عذر يمنعه من إكثار الصوم في المحرم كمرض أو سفر! أو أنّه كان يشتغل عن صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؛ فتجتمع، فيقضيها في شعبان، كما في خبر الطبراني؛ عن عائشة رضي الله عنها «كان يصوم ثلاثة أيّام من كل شهر» ، فربما أخّر تلك حتّى يجتمع عليه صوم السنة؛ فيصوم شعبان!! أو أنّه كان يخصّ شعبان بالصيام تعظيما لرمضان، فيكون بمنزلة تقديم السنن الرواتب في الصلوات قبل المكتوبات. ويؤيده حديث غريب عند الترمذي؛ أنّه سئل صلى الله عليه وسلّم: أيّ الصوم أفضل بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيّام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة. رمضان؟! قال: «شعبان لتعظيم رمضان» . انتهى شروح «الشمائل» . (و) أخرج أبو داود؛ بدون قوله «وقلما ... إلى آخره» ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ وقال: حسن غريب- قال الحافظ العراقيّ: وقد صحّحه أبو حاتم، وابن حبان، وابن خزيمة، وابن عبد البرّ، وكان الترمذي اقتصر على تحسينه للخلاف في رفعه-!! كلّهم؛ (عن عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم من غرّة) - بضم الغين المعجمة وتشديد الراء؛ أي: أوّل- (كلّ شهر) والمراد هنا أوائله، لأن الغرّة أوّل يوم من الشهر. (ثلاثة أيّام) ؛ افتتاحا للشهر بما يحصل صوم كلّه، إذ الحسنة بعشر أمثالها، فقد ورد في الخبر: «صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر صوم الدّهر» أي: كصومه. قال العراقي: ولا منافاة بين هذا الخبر وخبر عائشة الآتي «أنّه لم يكن يبالي من أيّ أيّام الشهر يصوم» ، لأن هذا الراوي حدّث بغالب ما اطّلع عليه من أحواله فحدّث بما عرف، وعائشة اطلعت على ما لم يطلع عليه. (وقلّما كان يفطر) ؛ أي: قلّ إفطاره (يوم الجمعة) ، بل كان كثيرا ما يصومه، لكنه يضمّه إلى الخميس؛ أو السبت، فلا يخالف حديث النهي عن إفراده بالصوم، لأن النهي محمول على ما إذا لم يصم يوما قبله؛ أو بعده، فإفراد الجمعة مكروه، لأنه يوم عيد تتعلّق به وظائف كثيرة دينية، والصوم يضعف عنها، بخلاف ما لو ضمّ لغيره، ففضيلة المضموم له جابرة لما فات بسبب الضعف. هذا قصارى ما قاله علماء الشافعية؛ جمعا بين الأدلة. والتأويل بأن صوم الجمعة من خصائصه!! يحتاج لدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتحرّى صوم الإثنين والخميس. وقال في «جمع الوسائل» : وفيه دليل لأبي حنيفة ومالك حيث ذهبا إلى أن صوم يوم الجمعة وحده حسن، فقد قال مالك في «الموطأ» : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ممّن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن!! وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه؛ وأراه كان يتحرّاه!. انتهى كلامه. وعند جمهور الشافعية يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلّا أن يوافق عادة له؛ متمسّكين بظاهر ما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو بعده» فتأويل الحديث عندهم: أنّه كان يصومه منضمّا إلى ما قبله [أو] إلى ما بعده. أو أنّه مختصّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم كالوصال- على ما قاله المظهري-. ويؤيده قوله «لا يصوم أحدكم ... » المشعر بتخصيص الأمّة رحمة عليهم. لكنه- كما قال الحافظ ابن حجر- ليس بجيّد، لأن الاختصاص لا يثبت بالاحتمال، ولم يبلغ مالكا النهي عن صوم يوم الجمعة فاستحسنه، وأطال في «موطّئه» وهو؛ وإن كان معذورا لكن السنّة مقدّمة على ما رآه هو وغيره. انتهى. (و) أخرج الترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائيّ، وابن ماجه وإسناده حسن؛ كما في «العزيزي» -: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يتحرّى صوم الاثنين) - بهمزة وصل؛ أي: صوم يوم الاثنين- (والخميس) ؛ تحرّاه: تعمّده، أو: طلب ما هو الأحرى بالاستعمال، فالمعنى على الأول: يتعمّد صومهما؛ فيصبر عن الصوم منتظرا لهما، وعلى الثاني! معناه: يجتهد في إيقاع الصوم فيهما، لأن الأعمال تعرض فيهما؛ كما في الخبر الآتي، ولأنّه سبحانه وتعالى يغفر فيهما لكلّ مسلم إلّا المتهاجرين أي: المتقاطعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم» . حيث يحرم التقاطع. رواه الإمام أحمد، وسيأتي. قال المناوي: واستشكل استعمال «الاثنين» بالياء مع تصريحهم بأن المثنى والملحق به يلزم الألف؛ إذا جعل علما وأعرب بالحركة!! وأجيب بأنّ عائشة رضي الله تعالى عنها من أهل اللسان؛ فيستدلّ بنطقها على أنه لغة. وفيه ندب صوم الاثنين والخميس، وتحرّي صومهما، وهو حجّة على مالك في كراهته لتحرّي شيء من أيّام الأسبوع للصيام. انتهى. (و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تعرض الأعمال) ؛ أي: أعمال الناس. وهذا عرض إجمالي، فلا ينافي أنّها تعرض كلّ يوم وليلة؛ كما في حديث مسلم: «رفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النّهار، وعمل النّهار قبل عمل اللّيل» . ولا ينافي أنّها تعرض ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر!! لأنّه عرض لأعمال السنة؛ وذاك عرض لأعمال الأسبوع. فالعرض ثلاثة أقسام: 1- عرض لعمل اليوم والليلة؛ وهو تفصيلي، و 2- عرض لعمل الأسبوع، و 3- عرض لعمل السّنة. وهما إجماليان. وحكمة تكرير العرض: إظهار شرف العاملين بين الملأ الأعلى، وإلّا! فهو تعالى غنيّ عن العرض، لأنه أعلم بعباده من الملائكة. (يوم الاثنين والخميس) على الله تعالى؛ كما في «جامع الترمذي» ، وعند النسائي «على ربّ العالمين» (فأحبّ أن يعرض عملي) فيهما؛ (وأنا صائم) جملة حالية من فاعل «فأحب» ، والفاء لسببية السابق للاحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وعن أبي هريرة أيضا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له.. فقال: «الأعمال تعرض كلّ إثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم.. إلّا المتهاجرين، فيقول: أخّروهما [حتّى يصطلحا] » . تنبيه: ثبت في «صحيح مسلم» سبب آخر لصوم الاثنين؛ وهو أنّه سئل عن صومه، فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ» . ولا تعارض؛ فقد يكون للحكم سببان. انتهى (مناوي) . (و) أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما في «العزيزي» - (عن أبي هريرة أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر ما يصوم الاثنين والخميس) فصومهما سنّة مؤكّدة. (فقيل له) : لم تخصّهما بأكثريّة الصوم؟!. (فقال) ؛ أي: المصطفى صلى الله عليه وسلّم (: «الأعمال تعرض) على الله تعالى (كلّ اثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم) ذنوبه المعروضة عليه بغير وسيلة طاعة، لكن الصغائر، فإن لم يوجد صغائر؛ أو كفّرت بخصال أخرى؟! فنرجو من فضل الله تعالى أن يكفّر من الكبائر بهذا. وفي «فتح الباري» : أن كلّ نوع من الطاعات مكفّر لنوع مخصوص من المعاصي؛ كالأدوية بالنسبة للداءآت. انتهى. (إلّا المتهاجرين) ، أي: المسلمين المتقاطعين؛ (فيقول) الله لملائكته (: أخّروهما [حتّى يصطلحا] ) » . أي: ولو بالمراسلة عند البعد. قال المنذري: قال أبو داود: إذا كان الهجر لله تعالى؛ فليس من هذا. فإنّ النبي صلى الله عليه وسلّم هجر بعض نسائه أربعين يوما «1» !! وابن عمر هجر ابنا له حتّى مات.   (1) المشهور أنه شهر. وكان تسعة وعشرين يوما!! فليحرر. (عبد الجليل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ......... قال ابن رسلان: ويظهر أنّه لو صالح أحدهما الآخر؛ فلم يقبل؟ غفر للمصالح. انتهى. وفي معناه خبر آخر رواه مسلم، والبخاري في «الأدب» ، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر فيهما لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلّا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا» . وفي خبر آخر «اتركوا هذين حتّى يفيئا» . وأخرج الحكيم الترمذيّ؛ عن والد عبد العزيز- كما في «الجامع الصغير» -: «تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله تعالى، وتعرض على الأنبياء؛ وعلى الآباء والأمّهات يوم الجمعة. فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضا وإشراقا، فاتّقوا الله، ولا تؤذوا موتاكم» . انتهى. قال المناوي: وفائدة العرض عليهم: إظهار الله للأموات عذره فيما يعامل به أحياؤهم من عاجل العقوبات وأنواع البليّات في الدنيا، فلو بلغهم ذلك من غير عرض أعمالهم عليهم لكان وجدهم أشدّ. قال القرطبي: يجوز أن يكون الميت يبلّغ من أفعال الأحياء وأقوالهم بما يؤذيه؛ أو يسرّه بلطيفة يحدثها الله لهم في ملك يبلّغ، أو علامة، أو دليل، أو ما شاء الله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [61/ الأنعام] وعلى ما يشاء، وفيه زجر عن سوء القول في الأموات؛ وفعل ما كان يسرّهم في حياتهم، وزجر عن حقوق الأصول والفروع وبعد مماتهم بما يسؤهم من فعل؛ أو قول. قال: وإذا كان الفعل صلة وبرّا؛ كان ضدّه قطيعة وعقوقا. انتهى كلام المناوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر صومه السّبت والأحد، ويقول: «هما يوما عيد المشركين فأحبّ أن أخالفهم» . (و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «باب الصوم» ، والبيهقيّ في «سننه» : كلّهم؛ (عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها) ، وسببه أنّ كريبا أخبر أنّ ابن عبّاس وناسا من الصحابة بعثوه إلى أمّ سلمة يسألها؛ عن أيّ الأيام كان أكثر لها صياما؟! فقالت: يوم السبت والأحد، فأخبرهم؛ فقاموا إليها بأجمعهم؟! فقالت: صدق، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر صومه) من الشهر (السّبت والأحد) ؛ أي: معا، لأن إفرادهما كيوم الجمعة مكروه. وسمّي «السبت» بذلك!! لانقطاع خلق العالم فيه، لأن السبت هو القطع. وسمّي «الأحد» بذلك!! لأنه أوّل أيّام الأسبوع عند جمع؛ ابتدأ فيه خلق العالم. (ويقول: «هما يوما عيد المشركين) ؛ أي: اليهود والنصارى، لأن أصل كفر اليهود والنصارى بالشرك وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [30/ التوبة] . (فأحبّ) - بصيغة المضارع- (أن أخالفهم» ) لأنهم يجعلونهما يومي لهو ولعب، فأنا أجعلهما يومي عبادة، وفيه أنّه لا يكره إفراد السبت مع الأحد بالصوم، والمكروه إنما هو إفراد السبت؛ لأن اليهود تعظّمه، والأحد؛ لأنّ النصارى تعظّمه، ففيه تشبّه بهم. بخلاف ما لو جمعهما، إذ لم يقل أحد منهم بتعظيم المجموع. قال بعضهم: ولا نظير لهذا في أنّه إذا ضمّ مكروه لمكروه آخر تزول الكراهة. انتهى «مناوي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصوم من الشّهر السّبت والأحد والإثنين، ومن الشّهر الآخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس. (و) أخرج الترمذي في «جامعه» ؛ من حديث خيثمة؛ وقال حسن- قال عبد الحق: والعلّة المانعة له من تصحيحه أنّه روي مرفوعا وموقوفا؛ وذا عند الترمذي علّة!! - قال ابن القطّان: وينبغي البحث (عن) سماع خيثمة من (عائشة رضي الله تعالى عنها) فإني لا أعرفه. انتهى. (قالت) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصوم من الشّهر السّبت) ، سمّي بذلك!! لأن السبت القطع، وذلك اليوم انقطع فيه الخلق، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستّة أيام؛ ابتدأ الخلق يوم الأحد وختمه يوم الجمعة بخلق آدم عليه السلام. وأمّا قول اليهود لعنهم الله «إنّ الله تعالى استراح فيه» !! فتولّى الله تعالى ردّه عليهم بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) [ق] . ومن ثمّ أجمعوا على أنه لا أبلد من اليهود، وكذا من تبعهم من المجسّمة!! كذا قال ملّا علي قاري. (والأحد) سمّي بذلك!! لأنه أوّل ما بدأ الله الخلق فيه، وأول الأسبوع- على خلاف فيه-. (والاثنين) ، سمّي بذلك!! لأنّه ثاني أيام الأسبوع- على الخلاف في ذلك-. (ومن الشّهر الآخر الثّلاثاء) - بفتح المثلاثة مع المد-، (والأربعاء) - بتثليث الباء- (والخميس) بالنصب فيه وفيما قبله؛ على أنّه مفعول فيه ل «يصوم» . قال المظهري: أراد صلى الله عليه وسلّم أن يبيّن سنّيّة صوم جميع أيام الأسبوع، فصام من شهر السبت والأحد والاثنين، ومن شهر الثلاثاء والأربعاء والخميس. وإنّما لم يضمّ جميع هذه الستة متوالية!! لئلا يشقّ على الأمة الاقتداء به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وعن معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟ قالت: نعم، قلت: من أيّها كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟ قالت: كان لا يبالي من أيّها صام؛ أي: من أوّله، ومن وسطه، ومن آخره. ولم يذكر في هذا الحديث يوم الجمعة!! وقد ذكر في حديث آخر قبل هذا؛ وهو حديث ابن مسعود أنّه كان قلّما يفطر يوم الجمعة منفردا؛ أو منضمّا إلى ما قبله؛ أو ما بعده- على ما سبق تقريره هناك-. وسمّيت «الجمعة» بذلك!! لأنّه تمّ فيه خلق العالم؛ فاجتمعت أجزاؤه في الوجود. انتهى «مناوي وجمع الوسائل» . (و) أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه: كلّهم؛ (عن معاذة) العدوية (قالت: قلت لعائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها (: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟! قالت) - أي- عائشة الصديقة (: نعم. قلت: من أيّها) ؛ أي: من أي الشهر (كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟!) . لأنّ «أي» إذا أضيفت إلى جمع معرّف يكون السؤال لتعيين بعض أفراده، ك «أيّ الرجال جاء؟» أي: أزيد أم خالد؟. (قالت) - أي- عائشة (: كان لا يبالي من أيّها صام. أي) كان يستوي عنده الصوم (من أوّله، ومن وسطه، ومن آخره) . قال ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» : قال العلماء: ولعلّه صلى الله عليه وسلّم لم يواظب على ثلاثة معيّنة؛ لئلا يظنّ تعيينها وجوبا، فإنّ أصل السنّة يحصل بصوم أيّ ثلاثة من الشهر، والأفضل صوم أيّام البيض الثالث عشر وتالييه. ويستحبّ صوم ثلاثة أيام من أوّل الشهر، لما سبق: من أنّه كان يصوم ثلاثة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع صوم أيّام البيض في سفر ولا حضر. و (أيّام البيض) : اليوم الثّالث عشر من الشّهر، ... غرّة كلّ شهر، وكذا ثلاثة من آخره: السابع والعشرين؛ وتالييه، وممّن اختار صوم أيّام البيض كثير من الصحابة والتابعين. قال القاضي: اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة المستحبّة في كلّ شهر!!! ففسّره جماعة من الصحابة والتابعين بأيّام البيض؛ وهي: الثالث عشر وتالياه؛ منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبو ذر رضي الله عنهم. واختار إبراهيم النّخعي وآخرون ثلاثة في أوّله؛ منهم الحسن البصري. واختارت عائشة رضي الله عنها وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر، ثمّ الثلاثاء والأربعاء والخميس من آخر. وفي حديث رفعه ابن عمر: أوّل اثنين في الشهر وخميسان بعده. وأم سلمة أوّل خميس والاثنين بعده، ثم الاثنين. وقيل: أوّل يوم من الشهر والعاشر والعشرون، وقيل: إنّه صام به مالك بن أنس. وروي عنه كراهة صوم أيام البيض، ولعله مخافة الوجوب على مقتضى أصله!! وقال ابن شعبان المالكي: أوّل يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون. وعندي أنّه يعمل في كلّ شهر بقول، والباقي بقول الأكثر الأشهر، وهو أيام البيض، وإن قدر على الجمع بين الكلّ في كلّ شهر؛ فهو أكمل وأفضل. انتهى. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» بسند حسن؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يدع صوم أيّام) الليالي (البيض في سفر ولا حضر) ؛ أي: كان يلازم صومها فيهما (وأيّام البيض) هي: (اليوم الثّالث عشر من الشّهر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 والرّابع عشر، والخامس عشر. وسمّيت بيضا؛ لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة، ... و) اليوم (الرّابع عشر) منه، (و) اليوم (الخامس عشر) منه. (وسمّيت بيضا!! لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها) ؛ قاله العزيزي وغيره. (و) أخرج البخاري، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذيّ في «الجامع» ؛ و «الشمائل» ، وابن ماجه- وهذا لفظ الترمذي-: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء) - بالمدّ؛ وقد يقصر، وهو اليوم العاشر من المحرم- (يوما تصومه قريش) ؛ هم أولاد النضر بن كنانة، وقيل: أولاد فهر بن مالك (في الجاهليّة) ؛ أي: من قبل بعثته صلى الله عليه وسلّم المشرّفة بنعت الإسلام. والجاهلية: هي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وبشرائع الإسلام، ولعل قريشا تلقّوا صيامه من أهل الكتاب! وقال القرطبي: ولعلّهم استندوا في صومه إلى شرع إبراهيم؛ أو نوح! فقد ورد في أخبار أنّه اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا، ولهذا كانوا يعظّمونه بكسوة الكعبة فيه. وفي «المطامح» ؛ عن جمع من أهل الآثار: أنّه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى، وفيه استوت السفينة على الجودي، وفيه تيب على آدم، وفيه ولد عيسى، وفيه نجّي يونس من بطن الحوت، وفيه تيب على قومه، وفيه أخرج يوسف من بطن الجبّ. وبالجملة: هو يوم عظيم شريف حتّى إنّ الوحوش كانت تصومه؛ أي: تمسك عن الأكل فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصومه، فلمّا قدم المدينة.. صامه وأمر بصيامه، ... وفي «صحيح مسلم» أنّ صوم عاشوراء يكفّر سنة، وصوم عرفة يكفّر سنتين. وحكمته: أنّ عاشوراء موسويّ ويوم عرفة محمّديّ. وورد: «من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه السّنة كلّها» . وطرقه؛ وإن كانت ضعيفة؛ لكن قوّى بعضها بعضا. وأمّا ما شاع فيه من الخضاب؛ والادّهان، والاكتحال، وطبخ الحبوب وغير ذلك!! فموضوع مفترى، حتى قال بعضهم: الاكتحال فيه بدعة ابتدعها قتلة الحسين. لكن ذكر السيوطي في «الجامع الصغير» : «من اكتحل بالإثمد يوم عاشورا لم يرمد أبدا» . رواه البيهقي بسند ضعيف. انتهى «باجوري» . (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصومه) بمكّة كما تصومه قريش، ولا يأمر به. (فلمّا قدم المدينة صامه وأمر) النّاس (بصيامه) . وفي الحديث اختصار يوضّحه ما رواه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم لمّا قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشورا، فسألهم عن ذلك!؟ فقالوا هذا يوم أنجى الله فيه موسى، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا؛ فنحن نصومه. فقال: «نحن أحقّ بموسى منكم» ! فصامه وأمر بصيامه. واستشكل رجوعه إليهم في ذلك!! وأجيب باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، أو أخبره به من أسلم منهم؛ كابن سلام، على أنّه ليس في الخبر أنّه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة تصريح بأنّه كان يصومه قبل. فغاية ما في القصّة أنّه صفة حال وجواب سؤال؛ فلا تعارض بينه وبين خبر عائشة «إنّ أهل الجاهلية كانوا يصومونه» ، إذ لا مانع من توارد الفريقين مع اختلاف السبب في ذلك!!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فلمّا افترض رمضان.. كان رمضان هو الفريضة، وترك عاشوراء، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون صيامه صلى الله عليه وسلّم استئلافا لليهود؛ كما استألفهم باستقبال قبلتهم، وبالسدل، وغير ذلك!! وعلى كلّ حال؛ فلم يصحّ اقتداؤه بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك في الوقت الذي كان فيه يحبّ موافقة أهل الكتاب؛ فيما لم ينه عنه، فلما فتحت مكّة واشتهر أمر الإسلام أحبّ مخالفة أهل الكتاب؛ كما ثبت في «الصحيح» ، فهذا من ذلك. فوافقهم أوّلا؛ وقال: «نحن أحقّ منكم بموسى» عليه الصّلاة والسّلام، فلما أحبّ مخالفتهم؛ قال في آخر حياته: «لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التّاسع» . قال بعض العلماء: وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أنّه أراد نقل العاشر إلى التاسع. والثاني: أن يضيفه إليه في الصوم؛ مخالفة لليهود في إفرادهم اليوم العاشر. وهذا هو الراجح. ويشعر به بعض روايات مسلم. ولأحمد؛ من حديث ابن عبّاس مرفوعا: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا يوما بعده» . ولذا قال بعض المحققين: صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: 1- أدناها: أن يصام وحده، 2- وفوقه: أن يصام التاسع معه، 3- وفوقه: أن يصام التاسع والحادي عشر معه. انتهى. من «جمع الوسائل» . (فلمّا افترض) - بالبناء للمجهول- (رمضان) ؛ أي: افترض الله صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة (كان رمضان هو الفريضة) ؛ لا غيره، أي: انحصرت الفريضة فيه، فتعريف المسند مع ضمير الفصل يفيد قصر المسند على المسند إليه. (وترك) - بالبناء للمفعول- (عاشوراء) ؛ أي: نسخ وجوب صومه، أو تأكّده الشديد؛ على الخلاف: في أنّه كان قبل فرض رمضان صوم واجب؛ أولا!! والمشهور عند الشافعية هو الثاني، والحنفية على الأوّل، فعندهم: أنّ صوم عاشوراء كان فرضا، فلما فرض رمضان نسخ وجوب عاشوراء، وهو ظاهر سياق الحديث، وعند الشافعية: أنّ صوم عاشوراء كان سنّة مؤكّدة ملتزمة تقرب من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 فمن شاء.. صامه، ومن شاء.. تركه. وعن عليّ رضي الله [تعالى] عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ... الفرض، فلما وجدت الفريضة الراجحة الأحقّ بالالتزام ترك عاشوراء؛ فلم يبق مؤكّدا، بل ترك إلى مطلق الندب. (فمن شاء صامه، ومن شاء تركه) ، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة أنّه كان واجبا ثم نسخ الأمر به، ثم تأكّد بالنداء العامّ من حضرته عليه الصلاة والسلام يوم عاشوراء: «من كان لم يصم؛ فليصم، ومن كان أكل؛ فليتمّ صيامه إلى اللّيل» . ثم زيادته بأمر الأمّهات ألايرضعن فيه الأطفال، وردّ بما فيه من ركاكة وتعسّف بيّن. قال الحافظ ابن حجر: وقول بعضهم «المتروك تأكّد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه» !! لا يخفى ضعفه، بل تأكّد ندبه باق، لا سيما مع الاهتمام به، حتّى في عام وفاته، فقد عزم في آخر عمره صلى الله عليه وسلّم أن يضمّ إليه التاسع. انتهى «مناوي» . قال النووي في «شرح مسلم» : ويتمسّك أبو حنيفة بقوله «أمر بصيامه» والأمر للوجوب، وبقوله: فلمّا فرض رمضان؛ قال: «من شاء صامه، ومن شاء تركه» ، ويحتجّ الشافعية بقوله «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه» . وقوله «من شاء صامه، ومن شاء تركه» معناه: أنّه ليس متحتّما، فأبو حنيفة يقدّره: ليس بواجب، والشافعية يقدّرونه: ليس متأكّدا أكمل التأكيد. وعلى المذهبين؛ فهو سنّة مستحبّة الآن؛ من حين قال النبي صلى الله عليه وسلّم هذا الكلام. وقال في «جمع الوسائل» : قال العلماء: لا شكّ أنّ قدومه صلى الله عليه وسلّم المدينة كان في ربيع الأول، وفرض رمضان في شعبان من السنة الثانية، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلّا في سنة واحدة، ثم فوّض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» - بإسناد حسن؛ كما في «العزيزي» - (عن) أمير المؤمنين (عليّ رضي الله عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 يوم عاشوراء، ويأمر به. وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر: أوّل إثنين من الشّهر، والخميس، والإثنين من الجمعة الآخرى. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: ... يوم عاشوراء) بمكّة كما تصومه قريش؛ ولا يأمر به، فلما قدم المدينة صار يصومه (ويأمر به) ؛ أي: بصومه أمر ندب، لأنّه يوم شريف أظهر الله فيه كليمه موسى على فرعون وجنوده، وفيه استوت السفينة على الجودي، وفيه تاب الله على قوم يونس، وفيه أخرج يوسف من السجن «1» ، وفيه أخرج يونس من بطن الحوت، وفيه صامت الوحوش. ولا بعد أن يكون لها صوم خاصّ!! كذا في «المطامح» . انتهى مناوي على «الجامع» . (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي- ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، لكن قال الزيلعي: هو حديث ضعيف. وقال المنذري: اختلف فيه على هنيدة راويه فمرّة قال- (عن حفصة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) ، وأخرى عن أمّه؛ عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها!! وتارة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر: أوّل اثنين من الشّهر، والخميس، والاثنين من الجمعة الآخرى) . فينبغي لنا المحافظة على التأسّي به في ذلك. (و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو بكر في «الغيلانيات» ؛ (عن جابر) أي: ابن عبد الله- لأنه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنه) وعن   (1) الذي مرّ خروجه من الجب!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرّطب ما دام الرّطب، وعلى التّمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهنّ، ويجعلهنّ وترا؛ ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النّار. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أيضا: ... والده قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرّطب؛ مادام الرّطب) موجودا، (وعلى التّمر؛ إذا لم يكن رطب) ؛ أي: إذا لم يتيسر ذلك الوقت. (ويختم بهنّ) ؛ أي: يأكلهنّ عقب الطعام، لأنّه يصلحه، لا سيما الصّيحاني؛ فإنّه أجود تمر المدينة. كذا قاله الحفني على «الجامع الصغير» . (ويجعلهنّ وترا ثلاثا؛ أو خمسا؛ أو سبعا) . أخذ منه أنّه يسنّ الفطر من الصوم على الرطب، فإن لم يتيسر! فالتمر. والرّطب مع تيسّره أفضل ... وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم يعجبه الرّطب جدّا. انتهى «مناوي» . (و) أخرج أبو يعلى في «مسنده» ؛ (عن) إبراهيم بن حجّاج؛ عن عبد الواحد بن زياد؛ عن ثابت؛ عن (أنس) ، أي: ابن مالك- لأنه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنه) ، ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، وليس كما قال، فقد قال ابن حجر: إن عبد الواحد؛ قال فيه البخاري: إنّه منكر الحديث. وقال الحافظ الهيثمي: فيه عبد الواحد وهو ضعيف. ذكره المناوي. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات) ؛ إن لم يجد رطبا، لأن التمر يردّ قوة البصر التي أضعفها الصوم، (أو) على (شيء) حلو (لم تصبه النّار) ؛ أي: ليس مصنوعا بنار؛ كالدبس وعسل النحل، فيندب لنا التأسّي به في ذلك. (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بإسناد صحيح- كما في العزيزي- (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم يكن رطبات.. فتمرات، فإن لم يكن تمرات.. حسا حسوات من ماء. وعن أنس أيضا قال: ... (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفطر) من صومه (على رطبات قبل أن يصلّي) المغرب، (فإن لم يكن رطبات) ؛ أي: لم يتيسّر!! (فتمرات) ؛ أي: فيفطر على تمرات، والأفضل أن يكون وترا في الكلّ، (فإن لم يكن تمرات) ؛ ولا نحوها من كلّ حلو؛ أي: لم يتيسّر ذلك!! (حسا حسوات من ماء) . قال العلقمي: الحسوات- بحاء وسين مهملتين- جمع حسوة- بالفتح-؛ وهي: المرّة من الشرب، والحسوة- بالضم-: الجرعة من الشّراب بقدر ما يحسى مرّة واحدة. انتهى. قال ابن القيّم: في فطره عليها تدبير لطيف، فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا يجد الكبد منها ما يجذبه ويرسله إلى القوى والأعضاء؛ فيضعف، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد وأحبّه إليه، لا سيما الرطب، فيشتدّ قبولها؛ فتنتفع به هي والقوى. فإن لم يكن!! فالتمر لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن فحسوات تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم؛ فتنتبه بعده للطعام وتتلقاه بشهوة. انتهى. وقال غيره في كلامه على هذا الحديث: هذا من كمال شفقته على أمّته وتعليمهم ما ينفعهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلوّ المعدة أدعى لقبوله وانتفاع القوى؛ لا سيما القوّة الباصرة، فإنها تقوى به. وحلاوة المدينة المنوّرة التمر، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوت وأدم وفاكهة. وأما الماء! فإنّ الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء انتفعت بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظامئ الجائع البداءة بشرب ماء قليل؛ ثم يأكل. وفيه ندب الفطر على التمر ونحوه، فلو أفطر على خمر؛ أو لحم خنزير؟ صحّ صومه. انتهى مناوي على «الجامع» . (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والبيهقي في «سننه» بإسناد صحيح؛ (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزّلت عليكم الملائكة» . وعن ابن الزّبير رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» . كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم) ؛ أي: نزل ضيفا عند قوم وهو صائم فأفطر، (قال) في دعائه لهم (: «أفطر عندكم الصّائمون) - خبر بمعنى الدعاء بالخير والبركة، لأن إفطار الصائمين يدلّ على اتساع الحال وكثرة الخير، إذ من عجز عن نفسه؛ فهو عن غيره أعجز. انتهى «مناوي» . - (وأكل طعامكم الأبرار) - قال المظهري: دعاء أو إخبار، وهذا الوصف موجود في حقّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم؛ لأنّه أبرّ الأبرار- (وتنزّلت) - وفي رواية الطبراني: وصلّت- (عليكم الملائكة» بالرحمة والبركة. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد حسن- كما في «العزيزي» - (عن ابن الزّبير) - هكذا هو في «الجامع الصغير» بدون تسمية لابن الزبير، وسكت عليه شارحه، والمعروف أنّ المراد عند الإطلاق ب «ابن الزبير» هو عبد الله ابن الزبير (رضي الله تعالى عنه) ؛ وعن والده، وقد صرّح بتسميته في «شرح الأذكار» في «باب ما يقول إذا أفطر عند قوم» ؛ فقال: أخرجه الحافظ ابن حجر من طريق الطبراني؛ عن مصعب بن ثابت؛ عن عبد الله بن الزبير أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا أكل عند قوم؛ قال: «أكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» مختصرا. انتهى. (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم؛ قال «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» ) ؛ أي: استغفرت لكم ودعت لكم بالرحمة والبركة. وأخرج ابن ماجه؛ من طريق مصعب بن ثابت؛ عن عبد الله بن الزبير؛ قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» . وعن معاذ بن زهرة: ... أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ؛ فقال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . انتهى. (و) أخرج أبو داود، والحاكم بإسناد حسن- كما في «العزيزي» - (عن ابن عمر) أي: عبد الله- لأنّه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر) من صومه؛ (قال: «ذهب الظّمأ) مهموز الآخر؛ بلا مدّ، أي: العطش- قال تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ [120/ التوبة] . ذكره في «الأذكار» قال: وإنما ذكرته؛ وإن كان ظاهرا!! لأني رأيت من اشتبه عليه فتوهّمه ممدودا. (وابتلّت العروق) ، لم يقل ذهب الجوع أيضا، لأن أرض الحجاز حارّة، فكانوا يصبرون على قلّة الطعام؛ لا العطش، وكانوا يتمدّحون بقلّة الأكل؛ لا بقلّة الشرب. (وثبت الأجر) ، يعني: زال التعب وبقي الأجر (إن شاء الله تعالى» ) ثبوته؛ بأن يقبل الصوم ويتولّى جزاءه بنفسه، كما وعد إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) [الرعد] . (و) أخرج أبو داود في «سننه» و «مراسيله» ؛ (عن معاذ بن زهرة) ويقال: أبو زهرة الضبي التابعي؛ قال في «التقريب» كأصله: مقبول أرسل حديثا فوهم من ذكره في الصحابة مرسلا، قال: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ... الخ؛ قال ابن حجر: أخرجه في «السنن» و «المراسيل» بلفظ واحد، ومعاذ هذا ذكره البخاري في التابعين، ولكنه قال: معاذ أبو زهرة. وتبعه ابن أبي حاتم، وابن حبّان في «الثقات» ، وعدّه الشيرازي في الصحابة، وغلّطه المستغفريّ، ويمكن كون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» . وعن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: ... الحديث موصولا؛ ولو كان معاذ تابعيّا!! لاحتمال كون الذي بلّغه له صحابيا، وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في «السنن» ، وبالاعتبار الآخر أورده في «المراسيل» . انتهى ذكره المناوي على «الجامع» . (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر) من صومه (قال) عند فطره: «اللهمّ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» وفي رواية زيادة: «وبك آمنت، وعليك توكّلت» ، وفي رواية «فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» كما سيأتي. قال الطّيبي: قدّم الجارّ والمجرور في القرينتين على العامل!! دلالة على الاختصاص وإظهارا للاختصاص في الافتتاح، وإبداء لشكر صنيع المختصّ به في الاختتام. انتهى «مناوي» . (و) أخرج ابن السّنّي، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ (عن معاذ) - أي: ابن زهرة الضبيّ التابعي (رضي الله تعالى عنه) مرسلا؛ وهو حديث ضعيف- كما في «العزيزي» (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر؛ قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» ) أي: يسّر لي ما أفطر عليه، فيندب قول ذلك عند الفطر من الصوم؛ فرضا أو نفلا. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، وابن السنّي؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) وهو حديث حسن لغيره- كما في العزيزي-؛ (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر) - أي: من صومه؛ ولو نفلا (قال) في دعائه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» . وعن علقمة قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصّ من الأيّام ... ( «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) - قدّم المعمول على العامل!! دلالة على الاختصاص- (فتقبّل منّي) - وفي رواية للدار قطني: «أفطرنا وتقبّل منّا» - (إنّك أنت السّميع) لدعائي (العليم» ) بحالي وإخلاصي، ولعلّه كان يأتي بالإفراد إذا أفطر وحده، وبالجمع إذا أفطر مع غيره!!. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم في «صحيحيهما» ، وأبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أبي شبل (علقمة) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النّخع النّخعي؛ الكوفي التابعي الكبير، الجليل الفقيه البارع، أحد الأعلام. مخضرم؛ سمع عمر بن الخطاب، وعثمان، وعليا، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وحذيفة، وخبّابا، وأبا موسى الأشعري، وعائشة وغيرهم من الصحابة. روى عنه أبو وائل، وإبراهيم النّخعي، والشعبي، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن يزيد، وأبو الضحى، وسلمة بن كهيل، وخلق من التابعين. وأجمعوا على جلالته وعظم محلّه، ووفور علمه، وجميل طريقته. قال إبراهيم النّخعي: كان علقمة يشبّه بابن مسعود. وقال أبو سعد ابن السمعاني: كان علقمة أكبر أصحاب ابن مسعود وأشبههم هديا ودلّا. توفي سنة: اثنتين وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين. والله أعلم. رحمه الله تعالى. (قال: سألت عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها: أكان) - وفي رواية: هل كان- (رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخصّ) - وفي رواية: يختصّ- (من الأيّام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 شيئا؟ قالت: كان عمله ديمة، وأيّكم يطيق ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق؟ وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي امرأة، ... شيئا) ؛ أي: يتطوّع في يوم معيّن بعمل مخصوص؛ فلا يفعل في غيره مثله، كصلاة وصوم؟!. (قالت: كان) وفي رواية البخاري: قالت: لا، كان (عمله ديمة) - بكسر الدال؛ مصدر- أي: دائما. وأصل «ديمة» : دومة، لأنّه من الدوام، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، والمراد بالدوام: الغالب، أو الدوام الحقيقي، لكن ما لم يمنع مانع كخشية المشقّة على الأمّة؛ أو نحو ذلك. فلا ينافي ذلك قول عائشة «كان صلى الله عليه وسلّم يصوم حتّى نقول: قد صام. ويفطر حتى نقول: قد أفطر» . ولا ينافي أيضا عدم مواظبته على صلاة الضحى؛ كما في بعض الروايات عند الترمذي- وقد تقدّم- ومنها حديث مسلم وغيره؛ عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلّي الضحى؟ قالت: لا، إلّا أن يجيء من مغيبه. وبالجملة فكانت المواظبة غالب أحواله، وقد يتركها لحكمة. والله أعلم. (وأيّكم يطيق ما) ؛ أي: وأيّ واحد منكم يطيق العمل الذي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطيق) الدوام عليه من غير ضرر؛ صلاة كان، أو صوما، أو نحوهما؛ خصوصا مع كمال عمله خشوعا وخضوعا وإخلاصا. ومناسبة هذا الحديث للباب!! شمولاه للصوم، وكذا يقال في الأحاديث بعده. (و) أخرج الشيخان وغيرهما؛ كالترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها- (عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها؛ قالت: دخل عليّ) - بتشديد الياء- (رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعندي امرأة) زاد في رواية عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن هشام: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فقال: «من هذه؟» ، قلت: فلانة؛ لا تنام اللّيل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم ... حسنة الهيئة. ووقع في رواية مالك؛ عن هشام أنّها من بني أسد. أخرجه البخاري، ولمسلم من رواية الزّهري؛ عن عروة في هذا الحديث: أنّها الحولاء بالمهملة والمد- وهو اسمها بنت تويت- بمثنّاتين؛ مصغر- ابن حبيب- بفتح المهملة- ابن أسد بن عبد العزى؛ من رهط خديجة أم المؤمنين (فقال) ؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( «من هذه؟» قلت: فلانة) كناية عن كلّ علم مؤنّث، فهي غير منصرفة للعلمية والتأنيث، فقد صرّح النحاة بأنّه يكنّى ب «فلان» و «فلانة» عن أعلام الأناسي خاصّة، فيجريان مجرى المكنّى عنه؛ أي: يكونان كالعلم فلا تدخلها اللام، ويمتنع صرف «فلانة» ، ولا يجوز تنكير «فلان» ، فلا يقال جاءني فلان وفلان آخر. ذكره الرّضيّ وغيره. (لا تنام اللّيل!) ؛ أي: تحييه بصلاة، وذكر، وتلاوة قرآن، ونحوها. وظاهر هذه الرواية: أنّ المرأة عند عائشة حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ووقع في رواية الزهري عند مسلم «أنّ الحولاء مرّت به» . فيجمع بينهما بأنّها كانت أوّلا عند عائشة، فلما دخل صلى الله عليه وسلّم عليها قامت؛ كما في رواية أحمد بن سلمة؛ عن هشام ولفظه: كانت عندي امرأة، فلما قامت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من هذه يا عائشة؟» . فقلت: هذه فلانة؛ وهي أعبد أهل المدينة. والحديث أخرجه الحسن بن سفيان في «مسنده» ؛ من طريق، فيحتمل أنّها لما قامت لتخرج فمرّت به في حال ذهابها؛ فسأل عنها. وبهذا يجمع بين الروايات. ثم ظاهر السياق أنّها مدحتها في وجهها. وفي «مسند الحسن» ما يدلّ على أنّها قالت ذلك بعد ما خرجت المرأة، فتحمل رواية الكتاب عليه. انتهى «جمع الوسائل» . (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عليكم) - عبّر بقوله «عليكم» مع أن المخاطب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 من الأعمال ما تطيقون؛ فوالله لا يملّ [الله] حتّى تملّوا» ، وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... النساء!! إيماء لتعميم الحكم بتغليب الذكور على الإناث، أي: خذوا والزموا- (من الأعمال ما) - أي: العمل الذي- (تطيقون) الدوام عليه بلا ضرر، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد والاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكليف ما لا يطاق. قال الحافظ ابن حجر: سبب وروده خاصّ بالصلاة؛ لكن اللفظ عامّ، وهو المعتبر. ويؤخذ منه- كما قال القسطلاني-: وجه مناسبة هذا الحديث بما قبله وبما بعده بعنوان الباب. (فو الله) فيه دلالة على جواز الحلف من غير استحلاف، إذا أريد به مجرّد التأكيد، وفي رواية: «فإنّ الله (لا يملّ) - وفي أخرى: «لا يملّ الله- (حتّى تملّوا» ) - بفتح أوّلهما وثانيهما؛ مع تشديد اللام فيهما- وفي رواية: «لا يسأم حتّى تسأموا» وهي مفسّرة للأولى، وإسناد الملل والسامة إلى الله تعالى من قبيل المشاكلة والازدواج؛ نحو نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [67/ التوبة] أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) [الواقعة] لأن الملل مستحيل في حقّه تعالى، فإنّه فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه. وهذا إنّما يتصوّر في حقّ من يتغيّر، والمراد لا يعرض الله عليكم، ولا يقطع ثوابه ورحمته عنكم حتّى تسأموا العبادة وتتركوها. فهذا الحديث يقتضي أمرهم بالاقتصاد في العمل؛ دون الزيادة، لئلا يملّوا فيعرضوا فيعرض الله عنهم. وفيه الحثّ على الاقتصاد في العمل وكمال شفقة المصطفى صلى الله عليه وسلّم ورأفته؛ حيث أرشدهم لما يصلحهم مما يمكنهم المداومة عليه مع انبساط النفس وانشراح الصدر، لئلا يطيعوا باعث الشغف فيحمّلوا أنفسهم فوق ما يطيقون؛ فيؤدّي ذلك إلى عجزهم عن الطاعة. انتهى «مناوي» . (وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم) أحبّ- بالرفع؛ أو النصب- فالأوّل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الّذي يدوم عليه صاحبه. وعن أبي صالح قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله [تعالى] عنهما: ... على أنّه اسم «كان» وخبرها قوله (الّذي) ... الخ، فهو في محلّ نصب على هذا، والثاني على أنّه خبرها مقدّم، واسمها «الّذي» ، فهو في محلّ رفع على هذا. وقوله (يدوم عليه صاحبه) ؛ أي: مداومة عرفية؛ لا حقيقية، لأن شمول جميع الأزمنة غير ممكن لأحد من الخلق، فإنّ الشخص ينام وقتا، ويأكل وقتا، ويشرب وقتا ... وهكذا. (و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أبي صالح) السّمان الزيّات التابعي؛ واسمه: ذكوان، وقيل له «السمان» و «الزيّات» !! لأنّه كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة. وهو مدني غطفاني «مولى جويرية بنت الأحمس» ؛ سمع سعد بن أبي وقّاص وابن عمر، وابن عبّاس، وجابرا، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وأبا الدرداء، وأبا عياش الزّرقيّ، وعائشة. وسمع جماعة من التابعين. روى عنه بنوه: سهيل؛ وعبد الله؛ وصالح، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن دينار، ومحمد بن سيرين، والزّهري، وحبيب بن أبي ثابت، ورجاء بن حيوة، ويحيى الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي، وخلائق من التابعين وغيرهم، وسمع منه الأعمش ألف حديث. واتفقوا على توثيقه وجلالته. قال الإمام أحمد ابن حنبل: هو ثقة ثقة؛ من أجلّ الناس وأوثقهم، وشهد الدار زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، وتوفي بالمدينة المنورة سنة: إحدى ومائة رحمه الله تعالى. (قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما) - بصيغة المتكلّم وحده؛ مبنيّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 أيّ العمل كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالتا: ما ديم عليه، وإن قلّ. وروى البخاريّ: عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان أحبّ الدّين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما داوم عليه صاحبه. للمعلوم- ونصب الاسمين على المفعولية، وفي رواية: سئلت- بصيغة الغائبة؛ مبنيا للمجهول، ورفع ما بعده على النيابة-: (أيّ العمل) أي: أيّ أنواعه (كان أحبّ) - يجوز رفعه ونصبه- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟! قالتا: ما ديم) - بكسر الدال؛ وفتح الميم ك «قيل» - أي: ما ووظب (عليه؛ وإن قلّ) العمل المداوم عليه، فإنّه خير من كثير منقطع، إذ بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والإخلاص، وهذه ثمرات تزيد على الكثير المنقطع أضعافا مضاعفة. وبهذا الحديث ينكر أهل التصوّف ترك الأوراد والنوافل؛ كما ينكرون ترك الفرائض ... وأخّر المصنف هذه الأحاديث إلى الصوم!! لأن كثيرا يداومون عليه أكثر من غيره؛ فذكر فيه ذلك زجرا لهم عن موجب الملال فيه وفي غيره، وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص عن تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تخفيف العبادة ومجانبة التّشديد. والله أعلم. (وروى) الإمام الحافظ الحجّة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاريّ) في «صحيحه» ؛ في باب ... ، وكذا رواه مسلم في «صحيحه» ؛ في «كتاب الصلاة؛ باب فضيلة العمل الدائم» أثناء حديث المرأة التي تذكر من صلاتها (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّه) - أي: الشّأن- (كان أحبّ الدّين) - بكسر الدال: يعني التعبّد- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما داوم عليه صاحبه) ؛ وإن قل ذلك العمل المداوم عليه، يعني: ما واظب عليه مواظبة عرفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 ......... وإنّما كان أحبّ إليه!! لأن المداوم يدوم له الإمداد والإسعاد من حضرة الوهّاب الجواد، وتارك العمل بعد الشروع؛ كالمعرض بعد الوصل، وكالهاجر بعدما منحه من الفضل، وبدوام العمل القليل تستمرّ الطاعة والإقبال على الله؛ بخلاف الكثير الشاقّ. انتهى «مناوي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 [الفصل الثّالث في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الثّالث في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه ... (الفصل الثّالث) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة قراءته صلى الله عليه وسلّم) للقرآن والمراد بصفة القراءة: الترتيل، والمدّ، والوقف، والإسرار، والإعلان، والترجيع ... وغيرها. أخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-: (عن) أبي عبد الرحمن (عوف بن مالك) بن أبي عوف الأشجعيّ الغطفاني صحابيّ مشهور (رضي الله تعالى عنه) . قال الإمام النّووي: أوّل مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلّم خيبر، وشهد معه فتح مكة، وكانت معه راية أشجع، نزل الشام وسكن دمشق، وكانت داره عند سوق الغزل العتيق، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبعة وستّون حديثا؛ روى البخاري منها واحدا، ومسلم خمسة. روى عنه: أبو أيوب الأنصاري، والمقدام بن معدي كرب، وأبو هريرة، وروى عنه من التابعين جماعات؛ منهم أبو مسلم؛ وأبو إدريس الخولانيان، وجبير بن نفير، ومسلم بن قرضة، وشدّاد أبو عمار، وراشد بن سعد، ويزيد بن الأصم، وسليم بن عامر، وسالم أبو النضر، وأبو بردة بن أبي موسى، وشريح بن عبيدة، وضمرة بن حبيب، وكثير بن مرّة وخلق سواهم. واتفقوا على أنّه توفي بدمشق سنة: ثلاث وسبعين؛ في خلافة عبد الملك بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فاستاك، ثمّ توضّأ، ثمّ قام يصلّي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح (البقرة) ، فلا يمرّ باية رحمة.. إلّا وقف فسأل، ولا يمرّ باية عذاب.. إلّا وقف فتعوّذ، ثمّ ركع فمكث راكعا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت، ... مروان رضي الله تعالى عنه. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى. وقال المناوي في «شرح الشمائل» : إنّه من مسلمة الفتح، وعزاه لابن حجر والذهبي. والله أعلم. (قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة) من الليالي (فاستاك) ؛ أي: استعمل السّواك، (ثمّ توضّأ، ثمّ قام يصلّي) ؛ أي: يريد الصلاة (فقمت معه) - أي: للصلاة معه والاقتداء به- (فبدأ) ؛ أي: شرع فيها بالنية وتكبيرة الإحرام (فاستفتح) سورة (البقرة) أي: شرع فيها بعد قراءة الفاتحة، (فلا يمرّ باية رحمة إلّا وقف) - أي: أمسك عن القراءة- (فسأل) الله الرحمة، (ولا يمرّ باية عذاب إلّا وقف فتعوّذ) - أي- من العذاب، فيسنّ للقارئ مراعاة ذلك؛ ولو في الصلاة، فإذا مرّ باية رحمة سأل الله الرحمة، أو باية عذاب تعوّذ بالله منه، وكذا إذا مرّ باية تسبيح سبّح أو بنحو أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين] قال «بلى؛ وأنا على ذلك من الشاهدين» ، أو بنحو وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [32/ النساء] قال «اللهم؛ إنّي أسألك من فضلك» . (ثمّ ركع) عطف على «استفتح» ، ولطول قراءته المؤدّي لتراخي الركوع من ابتدائها عبّر ب «ثم» ، (فمكث) - بفتح الكاف، وضمّها، وبالوجهين قرئ قوله تعالى فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [22/ النمل]- أي: فلبث (راكعا) مكثا طويلا (بقدر قيامه) الّذي قرأ فيه سورة البقرة بكمالها. (ويقول في ركوعه) - عبّر بالمضارع!! استحضارا لحكاية الحال الماضية، وإلّا فالمقام للماضي-: ( «سبحان ذي الجبروت) ؛ أي: صاحب الجبر والقهر، ف «جبروت» بوزن «فعلوت» ؛ من الجبر. قال ملّا علي قاري: أي الملك الظاهر فيه القهر (والملكوت) أي: الملك الظاهر فيه اللطف. والمعنى بهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 والكبرياء والعظمة» ، ثمّ سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: «سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ، ثمّ قرأ (آل عمران) ، ثمّ سورة سورة. يفعل مثل ذلك في كلّ ركعة. مصرف أحوال الظاهر والباطن. انتهى ف «ملكوت» بوزن «فعلوت» ؛ من الملك. والتاء فيهما!! للمبالغة. (والكبرياء) أي: الترفّع عن جميع الخلق مع انقيادهم له والتنزّه عن كلّ نقص (والعظمة» ) ؛ أي: تجاوز القدر عن الإحاطة. وقيل: الكبرياء: عبارة عن كمال الذات، والعظمة: عبارة عن كمال الصفات، أي: صاحب الكبرياء والعظمة على وجه الاختصاص بهما، فلا يوصف بهما غيره تعالى، كما يدلّ عليه الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته؛ ولا أبالي» ، أي: أهلكته. (ثمّ سجد) أي: سجودا طويلا (بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: «سبحان ذي الجبروت، والملكوت والكبرياء والعظمة» ، ثمّ) بعد تمام الركعة الأولى والقيام للثانية (قرأ) سورة (آل عمران) بعد قراءة الفاتحة، (ثمّ سورة سورة) ؛ أي: ثم قرأ سورة «النساء» في الثالثة، ثم سورة «المائدة» في الرابعة، ففيه حذف حرف العطف بقرينة ما سبق في حديث حذيفة؛ من أنّه قرأ «النساء» و «المائدة» . فزعم أنّه تأكيد لفظيّ خلاف الظاهر (يفعل مثل ذلك) ؛ أي: حال كونه يفعل مثل ما تقدّم من السؤال والتعوّذ وتطويل الركوع والسجود؛ ( [في كلّ ركعة] ) بقدر قيامها. قال المناوي: وصلاته صلى الله عليه وسلّم كانت مختلفة باختلاف الأزمنة والأحوال؛ فتارة يؤثر التخفيف، وأخرى التطويل، وأخرى الاقتصاد؛ بحسب اقتضاء المقام مع ما فيه من بيان جواز كلّ وجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية خوف.. تعوّذ، وإذا مرّ باية رحمة.. سأل، وإذا مرّ باية فيها تنزيه الله.. سبّح. وعن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية فيها ذكر النّار.. قال: «ويل لأهل النّار، أعوذ بالله من النّار» . قال الباجوري: وهذه الصلاة هي التراويح، وظاهر السياق أنّه صلاها بسلام واحد. انتهى. ولا أدري ما هو مأخذه في تعيين كونها صلاة التراويح!! فليراجع. (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وأصحاب «السنن الأربعة» ؛ (عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده؛ (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية خوف، تعوّذ) بالله من النار، (وإذا مرّ باية رحمة سأل) الله الرحمة والجنة، (وإذا مرّ باية فيها تنزيه الله؛ سبّح) . قال المناوي: أي قال «سبحان ربي الأعلى» ، فينبغي للمؤمنين سواه أن يكونوا كذلك، بل هم أولى به منه، إذا كان غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وهم من أمرهم على خطر! قال النووي: فيه استحباب هذه الأمور لكلّ قارئ في الصلاة؛ أو غيرها. (و) أخرج ابن قانع في «معجمه» ؛ (عن أبي ليلى) - بلامين- الأنصاري والد عبد الرحمن بن أبي ليلى، واسمه: بلال، أو: داود بن بلال بن أحيحة بن الجلّاح، صحابي شهد أحدا وما بعدها، نزل الكوفة، له ثلاثة عشر حديثا، روى عنه ابنه عبد الرحمن؛ وله رواية عند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ، يقال: إنّه قتل بصفّين والله أعلم. (رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية فيها ذكر النّار؛ قال: «ويل لأهل النّار، أعوذ بالله من النّار» ) وهذا تعليم للأمّة، وإلّا فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وعن يعلى بن مملك ... معصوم من العذاب! فيسنّ لكل قارئ اقتداء به. قال المظهري وغيره: هذه الأشياء وشبهها تجوز في الصلاة وغيرها عند الشافعي رحمه الله تعالى. وعند الحنفية والمالكية: لا يجوز إلّا في غير الصلاة، قالوا: لو كان في الصلاة لبيّنه الراوي، ولنقله عدّة من الصحابة مع شدّة حرصهم على الأخذ منه الصلاة لبيّنه الراوي، ولنقله عدّة من الصحابة مع شدّة حرصهم على الأخذ منه والتبليغ، فإذا زعم أحد أنّه في الصلاة حملناه على التطوّع. وأجاب الشافعية بأنّ الأصل العموم، وعلى المخالف دليل الخصوص، وبأن من يتعانى هذا يكون حاضر القلب؛ متخشّعا خائفا راجيا؛ يظهر افتقاره بين يدي مولاه، والصلاة مظنّة ذلك، والقصر على النقل تحكّم. وقال ابن حجر: أقصى ما تمسّك به المانع حديث «إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس» !! وهو محمول على ما عدا الدعاء؛ جمعا بين الأخبار. انتهى «مناوي» . (و) أخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» وهذا لفظ «الشمائل» -: حدّثنا قتيبة بن سعيد؛ قال: حدّثنا الليث؛ عن ابن أبي مليكة؛ (عن يعلى بن مملك) - بفتح الميم الأولى وسكون الثانية؛ وفتح اللام بعدها كاف، بوزن جعفر- حجازيّ، روى عن أمّ الدّرداء؛ وأمّ سلمة، وعنه ابن أبي مليكة، وقد وثّق. ذكره جمع؛ منهم الذهبي. روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري؛ في «الأدب المفرد» ، قال الترمذي في «جامعه» - بعد ذكر حديثه الآتي-: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلّا من حديث ليث بن سعد؛ عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك؛ عن أمّ سلمة، وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 أنّه سأل أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي تنعت قراءة مفسّرة حرفا حرفا. وعن قتادة ... مليكة؛ عن أم سلمة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقطّع قراءته، وحديث الليث أصحّ. انتهى كلام الترمذي في «جامعه» . (أنّه) أي: يعلى بن مملك (سأل أمّ سلمة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها، عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم) أي: عن صفتها (فإذا) - الفاء للعطف، و «إذا» للمفاجأة، والتعبير بذلك يشعر بأنها أجابت فورا لكمال ضبطها وشدّة إتقانها- (هي) أي: أمّ سلمة (تنعت) - بفتح العين- أي: تصف؛ من قولهم «نعت الرجل صاحبه: وصفه» (قراءة مفسّرة) - بفتح السين المهملة المشدّدة-؛ من الفسر؛ وهو البيان والإيضاح، ومنه التفسير. أي: مبيّنة مشروحة واضحة؛ حال كونها مفصولة الحروف (حرفا حرفا) ؛ أي: كلمة كلمة يعني مرتّلة محقّقة. ونعتها لقراءته صلى الله عليه وسلّم!! يحتمل وجهين: أحدهما: أنّها قالت كانت قراءته كذا وكذا، وثانيهما: أنها قرأت قراءة مرتّلة مبيّنة؛ وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ مثل هذه القراءة. (و) أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-: (عن) أبي الخطّاب (قتادة) بن دعامة- بكسر الدال المهملة- ابن قتادة السدوسي البصري التابعي، ولد أعمى. وسمع أنس بن مالك، وعبد الله بن سرجس، وأبا الطفيل، وابن المسيب، وأبا عثمان النهدي، والحسن البصري، وابن سيرين، وعكرمة، وزرارة بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: مدّا. أوفى، والشّعبيّ وخلائق غيرهم من التابعين. روى عنه جماعة من التابعين؛ منهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، والأعمش، وأيوب. وخلائق من تابعي التابعين؛ منهم: مطر الورّاق، وجرير بن حازم، وشعبة، والأوزاعي؛ وغيرهم. وأجمعوا على جلالته وتوثيقه وحفظه، وإتقانه وفضله، وقدم قتادة على ابن المسيب؛ فسأله أيّاما فأكثر، فقال: تحفظ كلّ ما سألتني عنه؟! قال: نعم؛ سألتك عن كذا؛ فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا؛ فقلت فيه كذا. وقال فيه الحسن كذا؛ فذكر حديثا كثيرا؛ فقال ابن المسيب: ما كنت أظنّ الله خلق مثلك!! وذكره أحمد ابن حنبل فأطنب في الثناء عليه، وكان أحفظ أهل البصرة، ولا يسمع شيئا إلّا حفظه. توفي قتادة سنة: سبع عشرة ومائة، وقيل: ثمان عشرة ومائة؛ وهو ابن ستّ وخمسين. رحمه الله تعالى. (قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كيف كانت) ؛ أي: على أيّ صفة كانت (قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟!) : هل كانت ممدودة؛ أو مقصورة؟!. (قال) : كانت قراءته (مدّا) بصيغة المصدر؛ أي: ذات مدّ. وفي رواية للبخاري: كان يمدّ مدّا. وفي رواية: يمدّ صوته مدّا. يعني كان يمدّ ما كان من حروف المدّ واللّين مما يستحقّ المدّ مطوّلا؛ أو مقصورا؛ أو متوسّطا، من غير إفراط؛ لأنه مذموم. وليس المراد المبالغة في المدّ بغير موجب. وفي رواية البخاري؛ عن أنس: كانت مدّا يمدّ «بسم الله» ، ويمدّ «الرحمن» ويمدّ «الرحيم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته؛ يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، ثمّ يقف، ثمّ يقول: ... قال الحافظ ابن حجر: أي يمدّ اللام التي قبل الهاء في الجلالة، والميم التي قبل النون من «الرحمن» ، والحاء من «الرحيم» . قال ملّا علي قاري: ولا يخفى أنّ المدّ في كلّ من الأسماء الشريفة وصلا لا يزاد على قدر ألف؛ وهو المسمى بالمدّ: الأصلي، والذاتي، والطبيعي، ووقف توسّط أيضا فيمدّ قدر ألفين، أو يطوّل قدر ثلاث لا غير، وهو المسمّى بالمدّ العارض، وعلى هذا القياس. وتفصيل أنواع المدّ محلّه كتب القراءة. وأما ما ابتدعه قرّاء زماننا، حتى أئمة صلاتنا: أنّهم يزيدون على المدّ الطبيعي إلى أن يصل قدر ألفين وأكثر؛ وربّما يقصرون المدّ الواجب!! فلا مدّ الله في عمرهم، ولا أمدّ في أمرهم. انتهى. (و) أخرج الترمذي في «الشمائل» و «الجامع» ؛ وقال: حسن غريب، والحاكم؛ وقال على شرطهما. وأقرّه الذهبي، وقال العزيزي: حديث صحيح، وهذا لفظ «الشمائل» : حدّثنا عليّ بن حجر؛ قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأموي؛ عن ابن جريج؛ عن ابن أبي مليكة؛ (عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته) بتشديد الطاء؛ من التقطيع: وهو جعل الشيء قطعة قطعة- أي: يقف على فواصل الآي ... آية آية؛ وإن تعلّقت بما بعدها، فيسنّ الوقف على رؤوس الآي؛ وإن تعلّقت بما بعدها. كما صرّح به البيهقي وغيره. وقول بعض القرّاء «الأولى الوقف على موضع يتمّ فيه الكلام» !! إنما هو فيما لا يعلم فيه وقف للمصطفى صلى الله عليه وسلّم، وإلّا! فالفضل والكمال في متابعته في كلّ حال. (يقول «الحمد لله ربّ العالمين» ثمّ يقف) ، بيان لقوله «يقطّع» ، (ثمّ يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، ثمّ يقف، وكان يقرأ: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» . «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ثمّ يقف) ؛ أي: يمسك عن القراءة قليلا، ثم يقرأ الآية التي بعدها ... وهكذا إلى آخر السورة. قال العلامة ملّا علي قاري: وهذا الحديث يؤيّد أنّ البسملة ليست من الفاتحة؛ على ما هو مذهبنا ومذهب الإمام مالك. انتهى. لكن قال العلّامة المناوي في «شرح الجامع» : رواه الإمام أحمد، وابن خزيمة؛ عن أم سلمة بلفظ: كان يقطّع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة] انتهى. واحتجّ به القاضي البيضاوي وغيره على عدّ البسملة آية من الفاتحة. قال الدارقطني: وإسناده صحيح. (وكان يقرأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ) أي: بالألف أحيانا، وإلّا! فالجمهور على حذف الألف؛ قاله ملا علي قاري. قال شرّاح «الشمائل» : كذا هو بالألف في جميع نسخ «الشمائل» . قال القسطلّاني. وأظنّه سهوا من النساخ!! والصواب «ملك» بلا ألف كما أورده المؤلف- يعني الترمذي في «جامعه» - وبه كان يقرأ أبو عبيد ويختاره، قال الترمذي في «جامعه» : هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتّصل، لأن الليث بن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة؛ عن يعلى بن مملك؛ عن أمّ سلمة، وحديث الليث أصحّ. قال العسقلاني؛ نقلا عن ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. وأجلّ من سمع منهم عائشة الصديقة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، لكن أدرك من هو أعلى منهم؛ ولم يسمع منهم، كعليّ، وسعد بن أبي وقاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وعن عبد الله بن قيس قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أكان يسرّ بالقراءة أم يجهر؟ قالت: كلّ ذلك قد كان يفعل؛ ... وإذا ثبت سماع ابن أبي مليكة من أمّ سلمة؛ فلم لا يجوز أن يسمع الحديث بهذا اللفظ من أم سلمة؛ وسمع الحديث من يعلى بن مملك عنها باللفظ المتقدّم!! بل نقول: رواية الليث من «المزيد في متّصل الأسانيد» . انتهى. ذكره ملا علي قاري رحمه الله تعالى. (و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» . - واللفظ لها-. (عن) أبي الأسود (عبد الله بن قيس) - ويقال: ابن أبي قيس، ويقال: ابن أبي موسى- النّصري- بالنون- الحمصي، روى عن أبي ذرّ وغيره، وعنه محمد بن زياد، ومعاوية بن صالح، وهو ثقة مخضرم، وثّقه النّسائي، روى له أصحاب «السنن الأربعة» ، والبخاري في «الأدب المفرد» . (قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: بالليل كما صرّح به الترمذي في «جامعه» ؛ ولفظه: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم بالليل-؛ (أكان) - بإثبات أداة الاستفهام، وفي رواية بحذفها لكنها مقدّرة- أي: أكان (يسرّ بالقراءة) أي: يخفيها بحيث لا يسمعه غيره (أم يجهر!؟) ، أي: يظهرها بحيث يسمعه غيره، والباء زائدة للتأكيد نحو: أخذت الخطام؛ وأخذت به، فهو من قبيل تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [1/ الممتحنة] وذلك لتصريحهم بأن «أسرّ» يتعدّى بنفسه؛ يقال: أسرّ الحديث: أخفاه. (قالت) أي: عائشة (: كلّ ذلك قد كان يفعل) برفع «كلّ» على أنّه مبتدأ؛ خبره الجملة مع تقدير الرابط؛ أي: قد كان يفعله، ونصبه على أنّه مفعول مقدّم، وهو أولى، لأنّه لا يحوج إلى تقدير الضمير، ثم فسّرت ذلك ووضّحته بقولها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 قد كان «1» ربّما أسرّ، وربّما جهر. فقلت: الحمد لله الّذي جعل في الأمر سعة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ من اللّيل.. رفع طورا، وخفض طورا. ( [قد كان] ربّما أسرّ) أحيانا، (وربّما جهر) أحيانا، فيجوز كلّ منهما، والأفضل منهما ما كثر خشوعه وبعد عن الرياء، (فقلت) - القائل هو: عبد الله بن أبي قيس- (: الحمد لله الّذي جعل في الأمر) - أي: أمر القراءة من حيث الجهر والإسرار- (سعة) ، ولم يضيّق علينا بتعيين أحد الأمرين، لأنه لو عيّن أحدهما؛ فقد لا تنشط له النفس؛ فتحرم الثواب!! والسّعة من الله في التكاليف نعمة يجب تلقّيها بالشكر. والسّعة بفتح السين، وكسرها لغة؛ وبه قرأ بعض التابعين في قوله تعالى وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [247/ البقرة] . (و) أخرج أبو داود، والحاكم في «المستدرك» ، ومحمد بن نصر في «كتاب الصلاة» وسكت عليه أبو داود، والمنذريّ، فهو صالح: كلّهم؛ (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر اليماني الدوسي (رضي الله تعالى عنه) باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ محمد بن نصر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ من اللّيل رفع) قراءته (طورا؛ وخفض طورا) ، ولفظ أبي داود؛ عن أبي هريرة: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا. ولفظ الحاكم؛ عن أبي هريرة: كان إذا قام من الليل رفع صوته طورا وخفض طورا. انتهى. قال ابن الأثير: الطّور الحالة، أي: تارة يجهر في بعض الركعات، وتارة   (1) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من «وسائل الوصول» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وعن أمّ هانئ رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم باللّيل، وأنا على عريشي. وعن معاوية بن قرّة ... يسرّ، وفيه أنّه لا بأس بإظهار العمل للناس لمن أمن على نفسه الرياء والإعجاب. (و) أخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها-: (عن أمّ هانئ) - بهمز في آخره- وهي أخت علي بن أبي طالب؛ واسمها فاختة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كنت أسمع قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: وهو في صلاته (باللّيل) عند الكعبة؛ كما في رواية، فهذه القصة كانت قبل الهجرة (وأنا على عريشي) بإثبات الياء، وفي نسخ من «الشمائل» بحذفها. والعرش والعريش: السرير، وجمعه عرش- بضمتين- كبريد وبرد، أي: والحال أنّي نائمة على سريري. وفي رواية النسائي وابن ماجه بلفظ: كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلّم؛ وهو يقرأ؛ وأنا نائمة على فراشي يرجّع بالقراءة. وفي رواية للنّسائي: وأنا على عريشي. ويؤخذ من الحديث الجهر بالقراءة، حتى النفل ليلا، لكن الأفضل عند الشافعية للمصلي ليلا التوسّط؛ بأن يسرّ تارة ويجهر أخرى، وهذا في النفل المطلق، وأما غير النفل المطلق!! فيسنّ الإسرار، إلّا في نحو الوتر في رمضان فيسنّ فيه الجهر. (و) أخرج البخاري، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها-: (عن) أبي إياس (معاوية بن قرّة) - بضم القاف وتشديد الراء- ابن إياس المزني البصري، يروي عن ابن مغفّل وعلي مرسلا، وابن عباس وابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 قال: سمعت عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ناقته يوم الفتح وهو يقرأ: ... ويروي عنه قتادة وشعبة وأبو عوانة وخلق، وثّقه ابن معين وأبو حاتم، وحديثه في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي، ومات سنة: - 113- ثلاث عشرة ومائة، ومولده يوم الجمعة رحمه الله تعالى. (قال: سمعت عبد الله بن مغفّل) - بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الفاء المشددة- المزني المدني البصري، الصحابي الجليل، من أهل بيعة الرضوان. وكنيته «أبو سعيد» ، وقيل «أبو عبد الرحمن» ، و «أبو زياد» . سكن المدينة ثم تحوّل إلى البصرة وابتنى بها دارا قرب الجامع. وكان أحد البكّائين الذين نزل فيهم قوله تعالى وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) [التوبة] . وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى البصرة يفقّهون الناس، وهو أوّل من دخل مدينة «تستر» حين فتحها المسلمون. روي له عن النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم باخر. روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم الحسن البصري، وأبو العالية، ومطرّف، ويزيد بن عبد الله، وآخرون. وتوفي بالبصرة سنة: ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلّى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته بذلك (رضي الله تعالى عنه؛ يقول: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) راكبا (على ناقته) العضباء؛ أو غيرها (يوم الفتح) ؛ أي: يوم فتح مكة (وهو يقرأ) فيه دلالة إلى أنّه صلى الله عليه وسلّم كان ملازما للعبادة حتّى في حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1- 2] . قال: فقرأ ورجّع. ركوبه وسيره. وفي جهره إشارة إلى أنّ الجهر أفضل من الإسرار في بعض المواطن، وهو عند التعظيم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)) [الفتح] أي: بيّنا واضحا لا لبس فيه على أحد. وهذا الفتح هو فتح مكّة؛ كما روي عن أنس، أو فتح خيبر؛ كما روي عن مجاهد. والأكثرون على أنّه صلح الحديبية، لأنه أصل الفتوحات كلّها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [2/ الفتح] أي: لتجتمع لك هذه الأمور الأربعة؛ وهي 1- المغفرة، 2- وإتمام النعمة، 3- وهداية الصراط المستقيم، 4- والنصر العزيز، فكأنّه قيل: يسّرنا لك الفتح ليجتمع لك عزّ الدارين، وأغراض العاجل والآجل. والمراد بالمغفرة: العصمة- على قول تقدّم-؛ أي: عصمناك من الذنوب فيما تقدّم من عمرك قبل نزول الآية، وما تأخّر منه. والتحقيق- كما تقدّم في أول «الباب السادس» - أن المراد بالذنب ما هو من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ، لأنه صلى الله عليه وسلّم يترقّى في الكمال، فيرى أنّ ما انتقل عنه ذنب بالنسبة إلى الذي انتقل إليه. وقيل: المراد بالذنب ترك الأفضل. انتهى «باجوري» . (قال) أي ابن مغفّل: (فقرأ) - أي- سورة الفتح إلى آخرها كما اقتضته رواية البخاري، (ورجّع) - بتشديد الجيم- أي: ردّد صوته بالقراءة. وقد فسّره عبد الله بن مغافل بقوله ءآءآءآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة «ثلاث مرات» ، وذلك ينشأ غالبا عن نشاط وانبساط كما حصل له صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح. وزعم بعضهم أنّ ذلك كان من هزّ الناقة بغير اختياره!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قال: وقال معاوية بن قرّة: لولا أن يجتمع النّاس عليّ.. لأخذت لكم في ذلك الصّوت، أو قال: اللّحن. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ... وردّ بأنه لو كان كذلك لما فعله عبد الله اقتداء به، وجاء في حديث آخر أنّه «كان لا يرجّع» . وهو محمول على أنّه كان يتركه أحيانا لفقد مقتضيه، أو لبيان أنّ الأمر واسع في فعله وتركه، أو أنّ المراد لا يرجّع ترجيعا يتضمّن زيادة أو نقصا؛ كهمز غير المهموز ومدّ غير الممدود، وجعل الحرف حروفا، فيجرّ ذلك إلى زيادة في القرآن؛ وهو غير جائز؛ والتلحين والتغنّي المأمور به ما سلّم من ذلك. وقال ابن أبي جمرة: معنى الترجيع المطلوب: هو تحسين التلاوة، ومعنى الترجيع المنفي: ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. وقال الحافظ ابن حجر: المراد بالترجيع: الترتيل، وقد كثر الخلاف في التطريب والتغنّي بالقرآن. والحقّ أنّ ما كان سجيّة وطبعا محمود، وما كان تكلّفا وتصنّعا مذموم، وعلى ذلك تنزّل الأخبار؛ قاله المناوي والباجوري. (قال) - أي- «شعبة؛ الراوي» عن معاوية المذكور، (وقال معاوية بن قرّة: لولا) مخافة (أن يجتمع النّاس عليّ) لاستماع ترجيعي بالقرآن لما يحصل لهم منها من الطرب (لأخذت) - أي: لشرعت- (لكم في ذلك الصّوت) ، وقرأت مثل قراءته، (أو) - للشك- (قال) معاوية (اللّحن) ؛ بدلا عن «الصوت» ، وهو- بفتح اللام وسكون الحاء- واحد «اللحون» ؛ وهو: التطريب والترجيع وتحسين القراءة، أو الشّعر، ويؤخذ من هذا: أنّ ارتكاب ما يوجب اجتماع الناس مكروه؛ إن أدّى إلى فتنة، أو إخلال بمروءة. (و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كان قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) - أي-: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ربّما سمعها من في الحجرة، وهو في البيت؛ أي: كان إذا قرأ في بيته.. ربّما يسمع قراءته من في حجرة البيت من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.. قال: «بلى» ، وإذا قرأ: بالليل في الصلاة؛ أو في غيرها (ربّما سمعها) - بحذف الياء، وفي رواية [يسمعها] بإثبات الياء فعلا مضارعا- (من في الحجرة) أي: صحن البيت، وهي الأرض المحجورة؛ أي: الممنوعة بحائط محوط عليها؛ (وهو في البيت؛ أي) : والحال أنّه صلى الله عليه وسلّم في البيت يعني: (كان إذا قرأ في بيته ربّما يسمع قراءته من في حجرة البيت من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات) ، لكونها قراءة متوسّطة بين الجهر والإسرار، فلا هي في غاية الجهر؛ ولا في غاية الخفاء. وأشار بتعبيره ب «ربما» إلى أنّه كان لا يسمعها من في الحجرة إلّا إذا أصغى إليها وأنصت، لكونها إلى السّر أقرب. (و) أخرج البيهقيّ في «شعب الإيمان» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ في (التفسير) وقال: صحيح وأقرّه الذهبي. قال المناوي: وهو عجيب؛ ففيه يزيد بن عياض! وقد أورده الذهبيّ في «المتروكين» وقال النسائي وغيره: متروك؛ عن إسماعيل بن أمية، قال الذهبي: كوفيّ ضعيف؛ عن أبي اليسع لا يعرف، وقال الذهبي في «ذيل الضعفاء والمتروكين» : إسناده مضطرب، ورواه في «الميزان» «1» في ترجمة أبي اليسع، وقال: لا يدرى من هو، والسند مضطرب. انتهى كلام المناوي. كلاهما؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ) قوله تعالى (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)) [القيامة] (قال: بلى، وإذا قرأ   (1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ.. قال: «بلى» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.. قال: «سبحان ربّي الأعلى» . أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)) [التين] (قال: «بلى» ) أي: في الصلاة، أو خارجها، فيسنّ قول «بلى» عند تلاوة هاتين الآيتين ونحوهما مما فيه استفهام تقريريّ، لأنه قول بمنزلة السؤال؛ فيحتاج إلى الجواب، ومن حقّ الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كهيئة الغافل، أو كمن لا يسمع إلّا دعاء ونداء من الناعق به، ومن ثمّ ندبوا لمن مرّ باية رحمة أن يسأل الله الرحمة؛ أو آية عذاب أن يتعوّذ من النار، أو بذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو بذكر النار أن يستعيذ بالله منها. انتهى «مناوي وحفني» . (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في «المستدرك» ؛ في «كتاب الصلاة» ؛ وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبي. وقال العزيزي: إنّه حديث صحيح. (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي: سورتها ونحوها من كلّ آية فيها تنزيه؛ (قال: «سبحان ربّي الأعلى» ) أي: يقول ذلك عقب قراءتها، ويحتمل عقب قوله «الأعلى» ، فيسنّ لنا التسبيح عند تلاوة آية فيها تنزيه. وأخذ من ذلك أنّ القارئ أو السّامع كلّما مرّ باية تحميد أن يحمده، أو تكبير أن يكبّره وقس عليه. انتهى مناوي وحفني على «الجامع» . (و) أخرج أبو داود في «سننه» - بسند فيه بشر بن رافع الحارثي؛ وهو ضعيف، وقال ابن القطان: بشر يرويه عن أبي عبد الله «عمّ أبي هريرة» وهو لا يعرف حاله. والحديث لا يصحّ من أجله. انتهى مناوي على «الجامع» ومن ثمّ قال العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.. قال: «آمين» ؛ حتّى يسمع من يليه من الصّفّ الأوّل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث. (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تلا) قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة] قال:) في صلاته عقب الفاتحة: ( «آمين» ) بقصر، أو مدّ، وهو أفصح؛ مع خفّة الميم فيهما، أي: استجب. ويقولها رافعا بها صوته قليلا (حتّى يسمع) - بضمّ أوّله- في الجهرية (من يليه من الصّفّ الأوّل) . فيسنّ للإمام قول «آمين» بعد الفاتحة، ويسنّ الجهر بها في الصلاة الجهرية، ويقارن المأموم تأمين إمامه؛ ليوافق تأمين الملائكة. انتهى. شروح «الجامع الصغير» . (و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» بإسناد حسن؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث) . أي: لا يقرؤه كاملا في أقلّ من ثلاثة أيّام، لأنّها أقلّ مدّة يمكن فيها تدبّره وترتيله، لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي- وهو حديث حسن غريب- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث» ؛ أي: لأنّه ينقص فهمه وتدبره، لأنه يحتاج إلى مراعاة الألفاظ مع ما عنده من الاستعجال الشاغل عن التدبّر والتفهّم. وجعلت الثلاث غاية في ذلك!! لأنها محتملة. أمّا من أراد فهم معناه على حقيقته!! فقد مضى عمره في فهم آية ولا يحيط بها؛ ولا ببعضها. هذا كلّه في تفهّم معانيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. جمع أهله ودعا. أمّا الثواب على قراءته!! فحاصل لمن قرأه سواء فهمه؛ أم لا، للتعبّد بلفظه، بخلاف غيره من الأذكار، فلا ثواب فيه إلّا إن فهمه؛ ولو بوجه. انتهى «شرح الأذكار» . (و) في «الأذكار» للإمام النووي: روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين؛ عن قتادة التابعي الجليل الإمام «صاحب أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه» قال: كان أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: هذا موقوف صحيح، وقد وجدت له طريقا أخرى مرفوعة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ختم) القرآن (جمع أهله ودعا) . قال أبو نعيم الحافظ: غريب من حديث مسعر. قال الحافظ ابن حجر: قلت: رواته موثّقون. انتهى ملخصا؛ من «شرح الأذكار» . وذكره في «كنوز الحقائق» للمناوي، وعزاه لابن النجار. وقوله «ودعا» : أي: لأن الدعاء مستجاب عند ختم القرآن، بل الدعاء مستجاب عقب تلاوة القرآن من أيّ منه. والرحمة والسكينة تنزل على المجتمعين لدراسة القرآن الشريف، كما جاء في حديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يقرؤون القرآن ويتدارسونه إلا غشيتهم السّكينة ونزلت عليهم الرّحمة» . وأخرج ابن الضّريس وغيره بسند فيه انقطاع؛ عن ابن مسعود قال: «من ختم القرآن؛ فله دعوة مستجابة» . وكان عبد الله إذا ختم جمع أهله؛ ثم دعا وأمّنوا على دعائه. وجاء في حديث مرفوع أخرجه الطبراني في «معجمه» بسند ضعيف؛ عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ختم القرآن فله دعوة مستجابة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. يقرأ من أوّل القرآن خمس آيات. وينبغي أن يكون الختم في أوّل النهار، أو في أوّل الليل، فقد روي مرفوعا؛ عن مصعب بن سعد؛ عن أبيه سعد بن أبي وقاص؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ختم القرآن أوّل النّهار صلّت عليه الملائكة حتّى يمسي، ومن ختم أوّل اللّيل صلّت عليه الملائكة حتّى يصبح» . انتهى. ويستحبّ حضور مجلس الختم لمن يقرأ، ولمن لا يحسن القراءة. قال النووي: يستحبّ الدعاء عند الختم؛ استحبابا متأكّدا شديدا، لما قدّمناه. وروّينا في «مسند الدارمي» ؛ عن حميد الأعرج رحمه الله تعالى قال: «من قرأ القرآن ثمّ دعا أمّن على دعائه أربعة آلاف ملك» : وينبغي أن يلحّ في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمّة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كلّه في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم؛ وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البرّ والتقوى، وقيامهم بالحقّ، واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين. انتهى. وقد جمع ذلك «دعاء أبي حربه» المشهور بالبركة بين أهل اليمن، فينبغي قراءته عند كلّ ختم، وهو دعاء متداول عندهم؛ خصوصا في رمضان. قال في «حواشي الجمل على الجلالين» ؛ نقلا عن القرطبي في مقدمة تفسيره: ومن حرمة القرآن أن يفتتحه كلّما ختمه حتّى لا يكون كهيئة المهجور، (و) كذلك (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا ختم) القرآن (يقرأ من أوّل القرآن خمس آيات) ؛ لئلا يكون في هيئة الهجرة. انتهى كلام الجمل. ولم يبيّن مخرج هذا الحديث؛ ولا صحابيّه!! وفي «كنوز الحقائق» للمناوي عزو ذلك للحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» . ثم راجعت «نوادر الأصول» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 ......... فرأيت الكلام الذي نقله الجمل عن القرطبي مذكورا في «نوادر الأصول» برمّته، ولم يذكر صحابيّ الحديث!! وفي «الأذكار النووية» : وإذا فرغ من الختمة!! فالمستحبّ أن يشرع في أخرى متّصلا بالختم، فقد استحبّه السّلف، واحتجّوا فيه بحديث أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «خير الأعمال الحلّ والرّحلة» قيل: وما هما؟ قال: «افتتاح القرآن وختمه» . انتهى. قال الحافظ ابن حجر: حديث أنس المذكور أخرجه ابن أبي داود بسند فيه من كذّب. وعجيب للشيخ كيف اقتصر على هذا، ونسب للسّلف الاحتجاج به؛ ولم يذكر حديث ابن عباس وهو المعروف في الباب!! وقد أخرجه بعض الستّة وصحّحه بعض الحفاظ. ثمّ أخرج الحافظ ابن حجر؛ من طريق عن ابن عبّاس؛ قال: قال رجل: يا رسول الله؛ أيّ العمل أفضل؟ قال: «عليك بالحالّ المرتحل» . قال: وما الحالّ المرتحل؟! قال: «صاحب القرآن يضرب من أوّله إلى آخره، ويضرب من آخره إلى أوّله؛ كلّما حلّ ارتحل» . ثم أخرجه الحافظ ابن حجر، عن ابن عبّاس من طريق آخر، لكن قال فيه: «أيّ الكلام أحبّ إلى الله» ، ولم يقل في آخره «كلّما حلّ» !! قال الحافظ ابن حجر: حديث غريب أخرجه الترمذيّ عن الهيثم بن الربيع؛ عن صالح، وقال: غريب لا نعرفه من حديث ابن عبّاس إلّا من هذا الوجه. وفي «النهاية» أنّه سئل: أيّ الأعمال أفضل؟! فقال: «الحالّ المرتحل» قيل: وما الحالّ المرتحل؟! قال: «الخاتم المفتتح» هو الذي يختم القرآن بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوّله، شبّهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحلّ فيه، ثم يفتتح سيره؛ أي: يبتدئه. وكذلك قرّاء أهل مكّة إذا ختموا القرآن ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس آيات من أوّل سورة البقرة إلى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة] ثم يقطعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 ......... القراءة، ويسمّون فاعل ذلك «الحال المرتحل» ؛ أي أنّه ختم القرآن وابتدأ بأوّله؛ ولم يفصل بينهما بزمان. وقيل: أراد «بالحال المرتحل» الغازي الذي لا يفعل إلّا عقّبه بأخرى! انتهى «شرح الأذكار» للشيخ محمد بن علي بن علان الصديقي المكي رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 [الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أذكار وأدعية] الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أذكار وأدعية (الباب السابع) من الكتاب المشتمل على ثمانية أبواب (في) ذكر (أخبار) بالتنوين؛ جمع خبر، وهو مرادف للحديث. وقيل: الحديث: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم، والخبر: ما جاء عن غيره، ومن ثمّ قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها «الإخباري» ، ولمن يشتغل بالسنّة النبوية «المحدّث» . وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس. (شتّى) - جمع شتيت؛ كمريض ومرضى- متفرقة (من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلّم) كالكلام على ريقه وفضلاته صلى الله عليه وسلّم (و) في (بعض أذكار) جمع ذكر؛ وهو- لغة-: كلّ مذكور، وشرعا-: قول سيق لثناء؛ أو دعاء. وقد يستعمل شرعا أيضا لكلّ قول يثاب قائله. (و) في ذكر بعض (أدعية) جمع دعاء، وهو الطلب على سبيل التضرّع. وقيل: رفع الحاجات إلى رافع الدرجات. واختلف؛ هل الدعاء أفضل، أم تركه؛ والاستسلام للقضاء أفضل؟! فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادات. ويؤيّده ما أخرجه الترمذيّ؛ وقال: غريب لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة من طريق أنس بن مالك رفعه: «الدّعاء مخّ العبادة» . انتهى أي: خالصها، لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 كان يقولها في أوقات مخصوصة وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة فصول الداعي يدعو الله عند انقطاع أمله عما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص؛ ولا عبادة فوقها، فكان مخّها بهذا الاعتبار. وأيضا لما فيه من إظهار الافتقار والتبرّي من الحول والقوّة، وهو سمة العبودية واستشعار ذلّة البشرية ومتضمّن للثناء على الله تعالى، وإضافة الكرم والجود إليه. انتهى. (كان يقولها) ؛ أي: هذه الأذكار والأدعية (في أوقات) وحالات (مخصوصة) ؛ ك: عند رؤية الهلال، وسماع الرعد، وإذا عصفت الرياح ... ونحو ذلك. (و) في ذكر (ثلاثمائة وثلاثة عشر حديثا) . خصّ هذا العدد!! لأنه عدّة أصحاب طالوت، وعدّة أهل بدر رضوان الله عليهم. (من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: كلمه الجوامع، وهي: ما قلّ لفظه وكثر معناه، أو التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة. (وفيه) ؛ أي هذا الباب (ثلاثة فصول) يأتي بيانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 [الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم في «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: (ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختونا، مقطوع السّرّة. (الفصل الأوّل) من الباب السابع (في) ذكر (أخبار) - بالتنوين- (شتّى) - بتشديد المثناة الفوقية؛ أي: متفرقة- (من أحواله صلى الله عليه وسلّم) : القولية والفعلية والخلقية. (في) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلّم» (للقاضي عياض) بن موسى اليحصبي السّبتي أبي الفضل (رحمه الله تعالى) : (ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مختونا) - أي لا قلفة له، (مقطوع السّرّة) - بضم السين- رواه أبو نعيم، والطبراني في «الأوسط» ، وفي «دلائل البيهقي» بسند ضعيف؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه ولد معذورا مسرورا؛ أي: مقطوع السرة مختونا، يقال: عذره، وأعذره: ختنه. وروى الخطيب؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا؛ وصحّحه أيضا في «المختارة» : «من كرامتي على ربّي أنّي ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» ؛ قاله ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» . وقال الشهاب الخفاجي: والّذي صحّحه المحدّثون- كما في «التمهيد» لابن عبد البر- أنّ جدّه عبد المطّلب ختنه يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه «محمدا» ، وكانت العرب تختن؛ لأنّه سنة توارثوها من إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وليس ذلك لمجاورة اليهود، وقد ورد هذا في قصة هرقل التي قيل له فيها: إن ملك الختان قد ظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وقد روي عن أمّه آمنة أنّها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر. وروي أنّه صلى الله عليه وسلم ختن يوم شقّ قلبه الشريف؛ وهو عند مرضعته حليمة، وقد ذكره ابن القيّم في كتاب «الهدي» «1» ، وهو أرجح الأقوال، وطعن في القول الأول من الأقوال الثلاثة- يعني القول بأنه ولد مختونا-؛ وقال: إنّه روي في حديث لم يصحّ، وذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات» . ومن الغريب قول الحاكم في «المستدرك» . إن الأخبار تواترت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا!! وتعقّبه الذهبيّ؛ وقال: لا نعلم صحّة ما ذكره؛ فكيف يكون متواترا!! والقول «بأنه أراد ب «تواتره» : شهرته بين الناس لا ما اصطلح عليه المحدّثون» بعيد. وقد وقع في هذه المسألة نزاع بين ابن طلحة والكمال ابن العديم؛ فألّف ابن العديم في تأييد أنّه صلى الله عليه وسلم ختن بعد ولادته تأليفا أوضح فيه الدلائل والنقول، إلا أنّهم لم يرضوا قول ابن الجوزي «إنّه موضوع» وردّوه. انتهى كلام الخفاجي في «شرح الشفا» . (وقد روي) في بعض الروايات (عن أمّه آمنة) - بالمدّ على وزن: فاعلة- وهي بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب، ولم تلد غيره صلى الله عليه وسلّم، ولم يتزوّج غيرها عبد الله على الأصحّ فيها. وفي اسم آمنة أمان أمّته. وفي حليمة حلم. وفي بركة بركة، فتلك أمنة من سائر النقم. (أنّها) أي: أمّه آمنة؛ (قالت: ولدته) صلى الله عليه وسلّم (نظيفا) أي: نقيّا (ما به قذر) بفتحتين- أي: شيء مما يكون على المولود من الوسخ والدّرن؛ كذا رواه ابن سعد في «طبقاته» . وروي أنّه ولدته أمّه بغير دم؛ ولا وجع.   (1) هو المشهور ب «زاد المعاد في هدي خير العباد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وفي حديث عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى الله عليه وسلّم نام حتّى سمع له غطيط، فقام فصلّى، ولم يتوضّأ. وولد عليه الصلاة والسلام بمكّة على الصحيح الذي عليه الجمهور في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، وهذه الدار بنتها بعد ذلك الخيزران جارية المهدي «أمّ الهادي والرشيد» مسجدا يصلّى فيه، والمشهور أنّه ولد في ربيع الأول، وهو قول الجمهور من العلماء، يوم الاثنين: ثاني عشر ربيع الأول. والله أعلم. (وفي) البخاريّ ومسلم وغيرهما؛ من (حديث) أبي عبد الله (عكرمة) مولى ابن عبّاس الهاشمي المدني. أحد فقهاء المدينة المنورة وتابعيها من الأئمة المقتدى بهم في التفسير والحديث. أصله بربري من أهل المغرب، سمع الحسن بن عليّ، وأبا قتادة، وابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وأبا هريرة، وأبا سعيد، ومعاوية وغيرهم. روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم أبو الشعثاء، والشعبي، والنّخعي، والسبيعي، وابن سيرين، وعمرو بن دينار، وخلائق غيرهم من التابعين وخلائق من غيرهم. قال ابن معين: عكرمة ثقة. قال: وإذا رأيت من يتكلّم في عكرمة؛ فاتّهمه على الإسلام، وقال أبو أحمد بن عدي: لم يمتنع الأئمة من الرواية عن عكرمة، وأدخله أصحاب الصحّاح صحاحهم. وتوفي سنة: أربع ومائة. وقيل: سنة سبع ومائة. وقيل غير ذلك. (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلى الله عليه وسلّم نام حتّى سمع له غطيط) ؛ أي: صوت يخرج مع نفس النائم، (فقام فصلّى؛ ولم يتوضّأ) ، لأنه صلى الله عليه وسلّم كان لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا، بخلاف غيره، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلّم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 قال عكرمة: لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان محفوظا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتغوّط.. انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيّبة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّك تأتي الخلاء ... (قال عكرمة) في بيان وجه ما ذكر (: لأنّه صلى الله عليه وسلّم كان محفوظا) من أن يخامر قلبه نوم؛ وإن خامر عينيه، لحديث: «إنّا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا» أو كما قال الحديث. قال في «نظم البهجة الوردية» : وبعض ما أكرمه الله به ... منامه بالعين؛ دون قلبه (وكان صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتغوّط انشقّت الأرض فابتلعت غائطه) ؛ وهو الخارج من المحلّ المعتاد، وأصل الغائط: المكان المنخفض من الأرض تقضى فيه الحاجة؛ لأنه أستر، سمّي به الخارج من الإنسان مجازا مرسلا؛ علاقته المجاورة. (و) ابتلعت (بوله وفاحت) - بالفاء- أي: ظهرت (لذلك) المذكور من البول والغائط (رائحة طيّبة) . وهذا الحديث رواه البيهقي؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ وقال: إنه موضوع، كما في «شروح الشفاء» . (و) أسند محمد بن سعد «كاتب الواقدي» في هذا خبرا. (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم: إنّك تأتي الخلاء) بالمدّ؛ أي: المكان الخالي البعيد عن البيوت، لأنهم كانوا قبل وضع المراحيض فيها يأتونه لقضاء الحاجة، ثم عبّر به بعد ذلك عن محلّ التغوّط مطلقا، ثم صار عرفا: اسما للبناء المعدّ لذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 فلا نرى منك شيئا من الأذى؟! فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما علمت أنّ الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يرى منه شيء» . وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين منه صلّى الله عليه وسلّم، ... (فلا نرى منك شيئا من الأذى؟!) بالذال المعجمة والقصر، المراد به هنا: الغائط! (فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما) ؛- أي: أجهلت وما (علمت أنّ الأرض تبتلع) - أصل البلع: إدخال الطعام والشراب في الحنجرة والمري، فاستعير لمطلق الإخفاء، كما في قوله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [44/ هود] أي: تخفي- (ما يخرج من الأنبياء) - بحيث يغيب فيها- (فلا يرى منه شيء؟!» ) !؟: تفسير للمراد من البلع وتأكيد، وإخفاؤه مع طيبه وعدم استقذاره!! لأنه ينبغي ستره لكون ذلك من المروءة، أو لأنه يخشى من أخذ الناس له. وروى الدارقطني في «أفراده» عنها قالت: قلت: يا رسول الله؛ أراك تدخل الخلاء، ثم يجيء الرجل يدخل بعدك؛ فما يرى لما خرج منك أثرا؟! فقال: «أما علمت أنّ الله أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء» !! انتهى «شرح الشفاء» . وقد سئل الحافظ عبد الغني المقدسي: هل روي أنّه صلى الله عليه وسلّم كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟! فقال: قد روي ذلك من وجه غريب. والظاهر المنقول يؤيّده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنّه رآه؛ ولا ذكره، فلو لم تبتلعه الأرض لرئي في بعض الأوقات. (وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين) ؛ أي: البول والغائط (منه صلى الله عليه وسلّم) . وعبّر عن الخارج ب «الحدثين» !! استهجانا للتصريح باسمهما، بل اختار جمع متقدّمون ومتأخّرون من الشافعية طهارة جميع فضلاته صلى الله عليه وسلّم؛ منهم القاضي حسين، والبغوي، والسبكي، والبارزي، والزركشي، وابن الرّفعة، والبلقيني، والقاياتي ... وأطالوا فيه. وقال السبكي: إنه الذي أدين الله به. واعتمده الجمال الرملي في «النهاية» ، والخطيب الشربيني في «المغني» ؛ وفاقا للشهاب الرملي. بل قال الزركشي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وشاهد هذا أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيّب. ومن هذا حديث عليّ رضي الله [تعالى] عنه: غسّلت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذهبت أنظر ما يكون من الميت، ... وينبغي طرد الطهارة في فضلات سائر الأنبياء. انتهى لكن الشيخان: الرافعي والنووي على خلافه، وإنّ حكمها منه كغيره. أي: أنّ حكم فضلاته صلى الله عليه وسلّم كفضلات غيره في النجاسة، وجرى عليه ابن حجر الهيتمي في «التحفة» . ويؤيّد الأوّل أنّه صلى الله عليه وسلّم لم ينكر على ابن الزّبير حين شرب دمه، ولا على أم أيمن حين شربت بوله، ولا على من فعل مثل فعلهما، ولا أمرهم بغسل الفم، ولا نهاهم عن العود إلى مثله، بل أخبرهم بما لعلّه يحملهم على الحرص على التبرك بفضلاته. ومن حمل ذلك على التداوي قيل له: قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أنّ الله تعالى لم يجعل شفاء الأمّة فيما حرم عليها. رواه ابن حبان في «صحيحه» ، فلا يصحّ حمل الأحاديث التي بعضها حسن على ذلك، بل هي ظاهرة في الطهارة. قال الحافظ ابن حجر: قد تكاثرت الأدلّة على طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلّم، وعدّ الأئمة ذلك من خصوصيّاته «1» . انتهى. (وشاهد هذا) ؛ أي: دليل القول بالطهارة (أنّه صلى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء يكره) عند ذوي الطباع السليمة، (ولا غير طيّب) وهذا دليل عقليّ مؤيّد لنظر الشرع. (ومن هذا) ؛ أي: ومن الشاهد بأنه لم يكن منه شيء يكره؛ ولا غير طيّب (حديث عليّ) أمير المؤمنين (رضي الله عنه) الذي رواه ابن ماجه، وأبو داود في «مراسيله» أنّه قال: (غسّلت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) - بتشديد السين المهملة- لأنه المستعمل في الميت، ويخفّف في غيره كالثياب، (فذهبت أنظر ما يكون من الميت) ؛ من تغيّر رائحة   (1) كما نص عليه الحافظ الكبير زين الدين العراقي- رحمه الله تعالى- في باب الخصائص من «ألفيته» فقال: وبوله ودمه إذ أتي ... من شارب تبرّكا مانهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فلم أجد شيئا، فقلت: طبت حيّا وميتا. وسطعت منه ريح طيّبة لم نجد مثلها قطّ. ومثله قال أبو بكر حين قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد موته. ومنه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد، ومصّه إيّاه، ... وخروج فضلات (فلم أجد شيئا!) ، وقد مكث صلى الله عليه وسلّم بعد موته يومين؛ فلم يتغيّر منه شيء. (فقلت: طبت) - بفتح تاء الخطاب- (حيّا وميتا) ونصبهما على الحال. قال علي: (وسطعت) أي: ارتفعت وانتشرت وفاحت (منه ريح طيّبة لم نجد مثلها قطّ) ، لأن طيبه يدلّ على طيب ما يحصل منه، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح. (ومثله) ؛ أي: ومثل قول علي «طبت حيا وميتا» . (قال أبو بكر) الصدّيق رضي الله تعالى عنه (حين قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بعد موته) رواه البزار؛ عن ابن عمر بسند صحيح، وهو بعض خبر في البخاري. (ومنه) ؛ أي: ومن الشواهد على ما ذكر (شرب مالك بن سنان) بن سنان بكسر السين المهملة- والد أبي سعيد الخدري، وهو من كبار الصحابة؛ قتل شهيدا يوم أحد رضي الله تعالى عنهما (دمه) أي: دم النبي صلى الله عليه وسلّم (يوم أحد) بضمتين-: اسم جبل وقعت عنده الوقعة العظيمة المشهورة بغزوة أحد. (ومصّه إيّاه) . رواه البيهقي، والطبراني في «معجمه الأوسط» ؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، والمصّ- بالميم والصاد المهملة-: أخذ المائع القليل بجذب النفس. وأشار بقوله «شربه ومصّه» إلى أنّه كان يفيض أوّلا، فلذا جعل أخذه بفيه وابتلاعه إيّاه شربا، ولما قلّ وجعل يجذبه منه بالمشقة جعله مصّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وتسويغه صلّى الله عليه وسلّم ذلك له، وقوله: «لن تصيبه النّار» . ومثله شرب عبد الله بن الزّبير ... وروي ذلك مرفوعا: «من مسّ دمه دمي لم تصبه النّار» . (وتسويغه صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: تجويزه (ذلك) ؛ أي: شرب دمه ومصّه (له) ، أي: لمالك بن سنان رضي الله تعالى عنه؛ من غير إنكار، فلو كان دمه الشريف غير طاهر لنهاه عن ازدراده. (وقوله) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم لمالك ( «لن تصيبه النّار» ) كناية عن فوزه بنعيم الجنان. وفي رواية سعيد بن منصور: «من سرّه أن ينظر إلى من خالط دمه دمي؛ فلينظر إلى مالك بن سنان» . وفي رواية: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة؛ فلينظر إلى هذا» ، فاستشهد. رواها سعيد بن منصور؛ من طريق عمرو بن السائب بلاغا. (ومثله) - وفي نسخة من «الشفاء» : و «منه» - أي: ومن الشاهد؛ كما رواه الحاكم، والبزّار، والبيهقي، والبغوي، والطبراني، والدارقطني، وغيرهم؛ من طرق يقوّي بعضها بعضا. والعجب من قول ابن الصلاح «إنّ هذا الحديث لم أجد له أصلا!» وهو مذكور في هذه الأصول!!. (شرب) - بضم الشين المعجمة- (عبد الله بن الزّبير) - بضمّ الزاي والتصغير- أحد العبادلة، الإمام الزاهد العابد، الشجاع بن الشجاع، أوّل مولود ولد للمهاجرين، وحنّكه النبيّ صلى الله عليه وسلّم بتمرة لاكها بفمه؛ فخالط ريقه ريقه. وله رضي الله عنه من شرف النسب ما لا يوصل إليه؛ لأن أمّه أسماء بنت أبي بكر «ذات النطاقين» ، وأبوه الزبير بن العوّام رضي الله تعالى عنهما «أحد العشرة؛ سيف الله» ، وجدّته صفيّة رضي الله تعالى عنها بنت عبد المطلب، وخالته عائشة رضي الله تعالى عنها، وجدّه لأمّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 دم حجامته، وقال له عليه الصّلاة والسّلام: «ويل لك من النّاس، وويل لهم منك» ، ... صوّاما قوّاما لا ينام ليله، وكان أطلس: لا لحية له رضي الله تعالى عنه. (دم حجامته) صلى الله عليه وسلّم. ولفظ الحديث؛ عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن أبيه؛ قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة؛ وقال: «اذهب؛ يا عبد الله فغيّبه» . وفي رواية: «اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد» . فذهبت فشربته، ثم أتيته صلى الله عليه وسلّم؛ فقال «ما صنعت؟» قلت: غيّبته. قال: «لعلّك شربته!!» . قلت: شربته. وفي رواية: قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنّه خاف عن الناس. قال: «لعلّك شربته!!» . قلت: شربته. (وقال له عليه [الصّلاة] والسّلام: «ويل) - للتّحسّر والتألّم- (لك من النّاس) ؛ إشارة إلى محاصرته وتعذيبه، وقتله وصلبه على يد الحجاج، وقصّته مشهورة- (وويل لهم) - أي: للناس- (منك» ) لما أصابهم من حروبه؛ ومحاصرة مكّة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمّه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم وتخريب الكعبة، فهو بيان لما تسبّب عن شرب دمه، فإنّه بضعة من النبوة نورانية قوّت قلبه حتى زادت شجاعته، وعلت همّته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحقّ إمارة؛ فضلا عن الخلافة. وزعم أنّه «إشارة إلى ما يلحقه من قدح الجهلة فيه بسبب شرب الدم» !! مما لا ينبغي ذكره، وسقوطه مغن عن ردّه. وقد ورد عند الدارقطني في «سننه» ؛ من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما نحوه؛ ولفظه: قالت: احتجم صلى الله عليه وسلّم فدفع دمه لابني فشربه، فأتاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 ولم ينكره. جبريل فأخبره؛ فقال: «ما صنعت؟» . قال: كرهت أن أصبّ دمك. فقال صلى الله عليه وسلّم «لا تمسّك النّار» ، ومسح على رأسه. وقال: «ويل للنّاس منك، وويل لك من النّاس» . (ولم ينكره) عليه! وهذا هو محطّ الدليل. فإنّ عدم إنكاره صلى الله عليه وسلّم دليل على جوازه وطهارته. وقد سئل الحافظ ابن حجر عن الحكمة في تنوّع القول لابن الزبير ومالك بن سنان؛ مع اتحاد السبب!؟. فأجاب بأن ابن الزبير شرب دم الحجامة، وهو قدر كثير يحصل به الاغتذاء، وقوّة جذب المحجمة تجلبه من سائر العروق؛ أو كثير منها، فعلم صلى الله عليه وسلّم أنّه يسري في جميع جسده؛ فتكتسب جميع أعضائه منه قوى من قوى النبي صلى الله عليه وسلّم فتورثه غاية قوّة البدن والقلب، وتكسبه نهاية الشهامة والشجاعة؛ فلا ينقاد لمن هو دونه بعد ضعف العدل وقلّة ناصره، وتمكّن الظّلمة وكثرة أعوانهم، فحصل له ما أشار إليه صلى الله عليه وسلّم من تلك الحروب الهائلة التي تنتهك بها حرمته الناشئة من حرمته صلى الله عليه وسلّم؛ وحرمة البيت العتيق، فقيل له «ويل له» لقتله وانتهاك حرمته، و «ويل لهم» لظلمهم وتعدّيهم عليه وتسفيههم. وأما مالك بن سنان!! فازدرد ما مصّه من الجرح الذي في وجهه صلى الله عليه وسلّم؛ وهو أقلّ من دم الحجامة، وكأنه علم أنه يستشهد في ذلك اليوم، فلم يبق له من أحوال الدنيا ما يخبره به، فأعلمه بالأهمّ له ممّا يتلقاه من أنواع مسرّات الجنان. انتهى. ولا عطر بعد عروس!. وحاصله: أنّه اقتصر لمالك على التبشير بالجنة، وأنه لا تصيبه النار؛ لعدم بقاء شيء له من الدنيا، بخلاف ابن الزبير فأخبره بما يقع له في الدنيا على سبيل الإشارة، كما أشار له أيضا بأنّه من أهل الجنة؛ بقوله «لا تمسّك النّار» . فزعم «أن مقتضاه أنه لم يخاطب بهذا ابن الزبير؛ بل مالكا» ساقط، إذ محطّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وقد روي نحو من هذا عنه صلّى الله عليه وسلّم في امرأة شربت بوله، فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» . ولم يأمر واحدا منهم بغسل فم، ولا نهاه عن عوده) انتهى ملخّصا. الفرق إنما هو قوله «ويل لك» .. الخ. انتهى زرقاني على «المواهب» . (وقد روي نحو من هذا) المذكور في شرب دمه صلى الله عليه وسلّم (عنه صلى الله عليه وسلّم في امرأة شربت بوله) ، واسم هذه المرأة «بركة» فقيل: هي بنت يسار «مولاة أبي سفيان بن حرب بن أمية» ، كانت تخدم أمّ حبيبة؛ وتخدم النبي صلى الله عليه وسلّم، وقيل: هي بركة المعروفة ب «أمّ أيمن» الحبشية مولاته وحاضنته ومرضعته، ورثها من أبيه؛ ثم أعتقها لمّا تزوّج خديجة؛ فتزوّجها عبيد بن زيد بن الحارث، فولدت له أيمن، وبه كنّيت، ثم تزوّجها بعد النبوة زيد بن حارثة؛ فولدت له أسامة حبّه صلى الله عليه وسلّم، وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البرّ وغيره؛ قاله في «شرح الشفاء» . (فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» ) وفي رواية: «لن تلج النّار بطنك» والحديث صحيح رواه الحاكم؛ وأقرّه الذهبي، ورواه الدارقطني، وألزم البخاريّ ومسلما إخراجه في «الصحيح» ؛ قاله في «الشفاء» . وفي رواية بعدها زيادة: (ولم يأمر واحدا منهم) أي: أحدا ممن شرب دمه وبوله (بغسل فم) !! ولو كان نجسا لأمر به، (ولا نهاه) ؛ أي: الأحد (عن عوده) ؛ أي: عن عود شرب بوله، ولو كان نجسا لنهاه عن عوده، ولحرم تناوله ووجب تطهير محلّه، ولم يقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم على مثله، وكونه للتداوي والعلاج!! خلاف الظاهر. والضمير في «نهاه» وكذا الضمير في «عوده» كلاهما للواحد. وفي نسخة صحيحة من «الشفاء» : «عودة» بالتاء المربوطة ك «دولة» ، فكأنه رواية. والله أعلم. (انتهى) كلام «الشفاء» للقاضي عياض (ملخّصا) بتشديد الخاء المعجمة المفتوحة؛ على صيغة اسم المفعول- أي: مؤتى من ألفاظه بما هو المقصود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وأمّا ريقه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم: فقد بصق في بئر دار أنس، ... قال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : وقد شرب أيضا دمه عليه الصلاة والسلام أبو طيبة، وعاش مائة وأربعين سنة. وسفينة «مولى النبي صلى الله عليه وسلّم» . رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. ذكره الرافعي في «الشرح الكبير» ؛ قال ابن الملقّن: ولم أجده في كتب الحديث!! انتهى. قال الخفاجي: وكون عليّ كرم الله وجهه شرب دمه لم يثبت؛ كما أشار إليه الدّميري في «منظومته في الفقه» ؛ يعني المسمّاة «رموز الكنوز» حيث قال: غريبة فضلة سيّد البشر ... طاهرة على خلاف انتشر وابن الزّبير بدم الهادي البشير ... نال الّذي رام كما له أشير وهو الّذي خصّ بويل النّاس ... وهو بويله من الإيلاس في «مسند البزّار» ثمّ البيهقي ... والطّبرانيّ رواه فثق والدّارقطنيّ، وقول ابن الصّلاح ... (ليس له أصل) يفي في الاصطلاح وأمّ أيمن استزادت شرفا ... إذ شربت بول النّبيّ المصطفى وسقيت إذ هاجرت للسّنّة ... ماء رويّا من شراب الجنّة فبعده ما مسّ جوفها ظما ... ولم تذق إلى الممات ألما صحّحه الحاكم، والمرويّ في ... شرب عليّ دمه لم يعرف وابن الصّلاح قال في شرب أبي ... طيبة: إنّه ضعيف السّبب قال ابن سبع: ويقينا كانت ... تبلعها الأرض ومنها ازدانت ولم تبل من تحته بهيمه ... ولم تر الدّهر به سقيمه وهذه فائدة تفرّد بها؛ وهي: أنّ الدوابّ لم تبل وهو صلى الله عليه وسلّم راكب عليها، ولم تسقم دابّة ركبها في حياته. (وأمّا ريقه) - أي: وصف ريقه- (الشّريف صلى الله عليه وسلّم) ، فكان يشفي الداء الحسّيّ والمعنويّ كإزالة ملوحة الماء؟! فالجواب محذوف اكتفاء بما دلّ عليه قوله (فقد بصق) بالصاد والزاي وفي لغة بالسين؛ خلافا لمن أنكرها (في بئر دار أنس) بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها. وأتي بدلو من ماء فشرب من الدّلو، ثمّ صبّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد وابن ماجه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتفل في أفواههم؛ ويقول للأمّهات: «لا ترضعنهنّ إلى اللّيل» ، فكان ريقه يجزيهم. رواه البيهقيّ. مالك (فلم يكن في المدينة) المنورة (بئر أعذب) : أحلى (منها) ببركة بصاقه. رواه أبو نعيم، وغيره؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (وأتي) - بصيغة المجهول- أي: جيء (بدلو من ماء فشرب من الدّلو) . لم يقل «منه» !! لئلا يوهم أنّه شرب من الماء في غير الدلو؛ بأن صبّه في إناء غيره من الدلو (ثمّ صبّ) باقي شربه (في البئر) ، قصدا لإظهار المعجزة المصدّقة له. (ففاح منها [مثل] رائحة المسك. رواه) الإمام (أحمد) بن حنبل. (و) رواه (ابن ماجه) ؛ من حديث وائل بن حجر الحضرمي رضي الله تعالى عنه. (وكان صلى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء يدعو برضعائه) ؛ أي: صبيانه الذين ينسبون إليه، (ورضعاء ابنته فاطمة) ؛ أي: أولادها. ورضيع الشخص: أخوه رضاعة، وليس مرادا هنا؛ كما هو ظاهر. (فيتفل) - بكسر الفاء وضمّها-: يبصق، (في أفواههم، ويقول للأمّهات: «لا ترضعنهنّ إلى اللّيل) لعله أراد مشاركتهم للصائمين في عدم تناول شيء لتعود عليهم بركة تصوّرهم بهم، ولا مانع أنّه يكتب لهم ثواب من صامه إكراما له، (فكان ريقه يجزيهم) - بفتح الياء- أي: يكفيهم إلى الليل، ويجوز [يجزئهم] ضمّ الياء مع سكون الجيم؛ آخره همزة- أي: يغنيهم عن اللبان (رواه البيهقيّ) في «الدلائل» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه- وهنّ خمس- فوجدنه يأكل قديدا، فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها، كلّ واحدة قطعة، فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف. رواه الطّبرانيّ. و (الخلوف) : تغيّر رائحة فم الصّائم. ومسح صلّى الله عليه وسلّم بيده الشّريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة ... (ودخلت عليه عميرة بنت مسعود) الأنصاريّة (هي وأخواتها يبايعنه؛ وهنّ خمس؛ فوجدنه يأكل قديدا) : لحما مقدّدا؛ أي: مجفّفا في الشمس (فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها؛ كلّ واحدة) ، بدل من الفاعل في «مضغنها» ، وذلك بعد أخذ عميرة لها من المصطفى، ففي رواية عنها: فمضغ لهنّ قديدة، ثم ناولني القديدة فقسمتها بينهنّ، فمضغت كلّ واحدة (قطعة فلقين الله) ؛ أي: متن (وما وجد لأفواههنّ خلوف) - بضم الخاء-: تغير ريح. (رواه الطّبرانيّ) ، وأبو نعيم، وأبو موسى في «الصحابة» ، وفي روايتهما: فلقين الله ما وجدن في أفواههن خلوفا ولا اشتكين من أفواههن شيئا. (والخلوف) بضم الخاء المعجمة (: تغيّر رائحة) الفم. وهذا هو المشهور الذي صرّح به أئمة اللغة، ومنه الحديث: «لخلوف (فم الصّائم) أطيب عند الله من ريح المسك» . وحكى بعض الفقهاء والمحدّثين فتح الخاء، واقتصر عليه الدّميري في «شرح المنهاج» ، وأظنّه غلطا؛ كما صرّح به جماعة!!. وقال آخرون: الفتح لغة رديئة. والله أعلم. انتهى «شرح القاموس» . (ومسح صلى الله عليه وسلّم بيده الشّريفة بعد أن نفث) : تفل (فيها من ريقه على ظهر) وبطن (عتبة) بن فرقد بن يربوع السّلمي، صحابيّ نزل الكوفة ومات بها، وهو الذي فتح الموصل زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وتقدّمت ترجمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 - وكان به شرى- فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ. وأعطى الحسن لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي. وروى القاضي عياض في «الشّفا» بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء: ... (وكان به شرى) : بثور صغار حمر حكّاكة مكربة؛ تحدث دفعة غالبا وتشتدّ ليلا لبخار حارّ يثور في البدن دفعة؛ قاله في «القاموس» . (فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ) في «الكبير» و «الصغير» ؛ من طريق أمّ عاصم زوجة عتبة بن فرقد عنه؛ قال: أخذني الشّرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فأمرني فتجرّدت فوضع يده على بطني وظهري، فعبق الطيب من يومئذ. قالت أمّ عاصم: كنا عنده أربع نسوة فكنّا نجتهد في الطيب؛ وما كان هو يمسّ الطيب؛ وإنّه لأطيب ريحا منّا. (وأعطى الحسن) بن عليّ سبطه صلى الله عليه وسلّم (لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي) - بفتح الراء وكسر الواو-: زال ظمؤه. رواه ابن عساكر. وروى الطبراني أنّ امرأة بذيئة اللسان جاءته صلى الله عليه وسلّم؛ وهو يأكل قديدا، فقالت: ألا تطعمني!! فناولها من بين يديه. فقالت: لا؛ إلّا الّذي في فيك!!. فأخرجه فأعطاه لها؛ فأكلته، فلم يعلم منها بعد ما كانت عليه من البذاءة. ولله درّ إمام العارفين سيّدي محمد وفا الشاذلي المالكي رحمه الله تعالى حيث يقول: جنى النّحل في فيه، وفيه حياتنا ... ولكنّه من لي بلثم لثامه رحيق الثّنايا والمثاني تنفّست ... إذا قال في فيح بطيب ختامه (وروى القاضي عياض في «الشّفاء» ) في «فصل خلقه في الوفاء وحسن العهد» (بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء) - بمهملتين بينهما ميم ساكنة فألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 قال: بايعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقيّة، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثمّ ذكرت بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه. فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك» . وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، ... ممدودة- العامريّ الصحابي، وقد روى حديثه هذا أبو داود، وهو من أفراده، وأخرجه أيضا ابن منده في «المعرفة» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» . (قال) ؛ أي: عبد الله (: بايعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ببيع) ؛ أي: بعقد بيع (قبل أن يبعث) بالرسالة، (وبقيت له بقيّة) ، إمّا من الثمن؛ أو المثمّن، فإن البيع من الأضداد، (فوعدته أن آتيه بها) ؛ أي: البقية (في مكانه) الذي وقع فيه البيع، (فنسيت) الوعد الذي جرى بيننا، (ثمّ ذكرت بعد ثلاث) ؛ أي: ثلاث ليال، أو ثلاثة أيام. ولم يلحق التاء به!! لحذف المعدود. وإنما تلزم قاعدة العدد إذا ذكر المعدود، (فجئت، فإذا هو في مكانه) - أي مستقرّ صلى الله عليه وسلّم في مكانه لم يفارقه- (فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ!!) - بتشديد الياء- (أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك!!» ) وهذا دليل على وفائه صلى الله عليه وسلّم بعهده ووعده، وهو من جملة أخلاق جدّه النبي إسماعيل حيث قال تعالى في حقّه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [54/ مريم] قال مجاهد: لم يعد شيئا إلّا وفّى به. (و) أخرج البيهقيّ بإسناد حسن؛ كما في العزيزي، لكن قال المناوي: قضية صنيع المصنف- يعني: السيوطي- أنّ البيهقي خرّجه وسكت عليه، وهو باطل! فإنه خرّجه من حديث إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن أيوب؛ عن ابن أبي مليكة؛ (عن عائشة) ، وعن محمد بن أبي بكر؛ عن أيوب؛ عن إبراهيم بن ميسرة؛ عن عائشة (أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 قالت: كان أبغض الأشياء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكذب. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلع على أحد من ... ثم عقّبه بما نصّه: قال البخاري: هو مرسل- يعني بين إبراهيم بن ميسرة وعائشة- ولا يصحّ حديث ابن أبي مليكة؛ قال البخاري: ما أعجب حديث معمر عن غير الزهري، فإنّه لا يكاد يوجد فيه حديث صحيح. انتهى. فأفاد بذلك أنّ فيه ضعفا؛ أو انقطاعا. فاقتطاع المصنف- يعني السيوطي- لذلك من كلامه وحذفه: من سوء التصرّف. وإسحاق الدبري يستبعد لقيّه لعبد الرزاق!! كما أشار إليه ابن عدي، وأورده الذهبي في «الضعفاء» . انتهى كلام المناوي. (قالت) - أي: عائشة- (: كان أبغض الأشياء) كذا في «كنوز الحقائق» . وفي «الجامع الصغير» : كان أبغض الخلق (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: أبغض أعمال الخلق إليه (: الكذب) لكثرة ضرره وجموم «1» ما يترتّب عليه من المفاسد والفتن، فهو إثم كلّه إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين، ومن ثمّ كان أشدّ الأشياء ضررا، ولهذا كان يزجر أصحابه وأهل بيته عنه، ويهجر على الكلمة من الكذب المدّة الطويلة. وذلك لأنّه قد يا بني عليه أمورا ربّما ضرّت ببعض الناس. وفي كلام الحكماء: إذا كذب السفير بطل التدبير. ولهذا لما علم الكفّار أنّه أبغض الأشياء إليه نسبوه إليه؛ فكذّبوا بما جاءهم به من عند الله ليغيظوه بذلك، لأنه يوقف الناس عن قبول ما جاء به من الهدى، ويذهب فائدة الوحي. وروي أنّ حذيفة قال: يا رسول الله؛ ما أشدّ ما لقيت من قومك؟ قال: «خرجت يوما لأدعوهم إلى الله، فما لقيني أحد منهم إلّا وكذّبني» . انتهى «مناوي» . (و) أخرج الإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح- كما في العزيزي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا اطّلع على أحد من   (1) هي بمعنى (العموم) مع الوفرة والكثرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 أهل بيته كذب كذبة.. لم يزل معرضا عنه حتّى يحدث توبة. أهل بيته) ، أي: من عياله وخدمه (كذب كذبة) واحدة- بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما- (لم يزل معرضا عنه) ؛ إظهارا لكراهته الكذب، وتأديبا له، وزجرا عن العود لمثلها (حتّى يحدث توبة) من تلك الكذبة الواحدة التي كذبها، وذلك لشدّة بغضه صلى الله عليه وسلم الكذب، لما يترتّب عليه من المفاسد، وإن كان نحو الزّنا أشدّ منه. وفي رواية البزار: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الكذب! ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما يزال في نفسه حتّى يعلم أنّه أحدث منها توبة. وقبح الكذب مشهور معروف، إذ ترك الفواحش بتركه، وفعلها بفعله فموضعه من القبح كموضع الصدق من الحسن، ولهذا أجمع على حرمته إلّا لضرورة؛ أو مصلحة. قال الغزالي: وهو من أمّهات الكبائر. قال: وإذا عرف الإنسان بالكذب؛ سقطت الثقة بقوله، وازدرته العيون، واحتقرته النفوس. وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب؛ فانظر إلى قبح كذب غيرك، ونفور نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه، واستقباحك ما جاء به. قال: ومن الكذب الذي لا إثم فيه ما اعتيد في المبالغة ك «جئت ألف مرّة» فلا يأثم؛ وإن لم يبلغ ألفا. قال: ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل فيه أن يقال «كل الطعام» فيقول «لا أشتهيه» . وذلك منهيّ عنه. وهو حرام؛ إن لم يكن فيه غرض صحيح. وقال الراغب: الكذب عار لازم، وذلّ دائم، وحقّ الإنسان أن يتعوّد الصدق، ولا يترخّص في أدنى الكذب، فمن استحلاه عسر عليه فطامه. وقال بعض الحكماء: كلّ ذنب يرجى تركه بتوبة إلّا الكذب، فكم رأينا شارب خمر أقلع، ولصّا نزع؛ ولم نر كذّابا رجع. وعوتب كذّاب في كذبه؛ فقال: لو تغرغرت به وتطعّمت حلاوته ما صبرت عنه طرفة عين. ذكره المناوي في شرح «الجامع الصغير» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم.. لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السّلام عليكم.. السّلام عليكم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه الفيء.. قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظّين، وأعطى العزب حظّا. (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود في «الأدب» بسند حسن- كما في العزيزي- عن عبد الله بن بسر- بضم الموحدة وسين مهملة ساكنة- رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم) لنحو عيادة؛ أو زيارة؛ أو غير ذلك من المصالح (لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه) كراهة أن يقع النظر على ما لا يراد كشفه مما هو داخل البيت، لأن الدّور يومئذ لم تكن عليها ستور كالآن، (ولكن) يستقبله (من ركنه الأيمن؛ أو الأيسر) ، فكان يجعل وجهه جهة يمين الباب؛ أو شماله، (ويقول: «السّلام عليكم.. السّلام عليكم» ) أي: يكرّر ذلك ثلاثا، أو مرّتين عن يمينه وشماله. (و) أخرج أبو داود في «الخراج» وسكت عليه، والحاكم في «المستدرك» كلاهما؛ عن عوف بن مالك قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه الفيء) بالهمز؛ ولا يجوز الإبدال والإدغام- والمراد به هنا ما يشمل خراج الأرض، وما أخذ من الكفار بلا قتال. وتخصيصه بالثاني عرف الفقهاء. (قسمه) بين مستحقّيه (في يومه) ، أي: في اليوم الذي يصل إليه فيه، (فأعطى الآهل) - بالمد؛ أي- الذي له أهل زوجة، أو زوجات (حظّين) - بفتح الحاء؛ أي: نصيبين- نصيبا له، ونصيبا لزوجته أو زوجاته؛ لأنه أكثر حاجة، (وأعطى العزب) الذي لا زوجة له- وهو أفصح من لغة «الأعزب» الواقعة في بعض الأحاديث- (حظّا) واحدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بالسّبي.. أعطى أهل البيت جميعا؛ كراهية أن يفرّق بينهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل فرأى في وجهه بشرا.. أخذ بيده. ويؤخذ من التعليل ما عليه الشافعية من أنّ كلّ واحد يعطى قدر كفايته وكفاية من يمون، من ولد وزوجة وعبد. وخصّوا ذلك بمن أرصد للقتال. وفيه مبادرة الإمام إلى القسمة ليصل كلّ واحد إلى حقّه، ولا يجوز التأخير إلّا لعذر. قاله العزيزي على «الجامع» . (و) أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتي) - بالبناء للمفعول- (بالسّبي) : النهب عبيد، وإماء (أعطى أهل البيت) المسبيّين الآباء والأمهات والأولاد، والمراد أعطى الأقارب الذين سبوا (جميعا) لمن شاء؛ (كراهية أن يفرّق بينهم) يعني: أنه إذا كان في السبي امرأة وابنها، أو رجل وابنه، أو أخت وأختها، أو أخ وأخوه؛ لا يعطي المرأة لشخص وابنها لآخر، ولا الأب لشخص وابنه لآخر، ولا الأخ لشخص وأخاه لآخر، بل يعطي الاثنين لشخص واحد؛ كراهة التفريق بينهما، لما جبل عليه من الرأفة والرحمة. فاستفدنا من فعله أنّه يسنّ للإمام؛ ولكلّ من ولي أمر السبي أن يجمع عليهم ولا يفرقهم؛ لأنه أدعى إلى إسلامهم، وأقرب إلى الرحمة والإحسان بهم. (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عكرمة مولى ابن عبّاس مرسلا قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل) أي: متى قدم عليه رجل من أيّ محلّ (فرأى في وجهه بشرا) - بكسر الباء وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة وجه وأمارة سرور (أخذ بيده) إيناسا له وتودّدا ليعرف ما عنده من الأخبار الحسنة؛ مما يسرّه من نصرة الدين، وقيام شعار الإسلام، وتأييد المؤمنين. قال ابن العربي: الأخذ باليد نوع من التودّد والمعروف؛ كالمصافحة. انتهى «مناوي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع بالاسم القبيح.. حوّله إلى ما هو أحسن منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل ولا يتطيّر ... (و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عروة بن الزبير مرسلا- وفي العزيزي: إنه حديث صحيح- قال (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع بالاسم القبيح حوّله إلى ما هو أحسن منه) ، فمن ذلك تبديله «عاصية» ب «جميلة» ، والعاصي بن الأسود ب «مطيع» ، لأن الطباع السليمة تنفر عن القبيح، وتميل إلى الحسن المليح، وكان المصطفى يتفاءل ولا يتطيّر. قال القرطبي: وهذه سنّة ينبغي الاقتداء به فيها. وفي أبي داود: كان لا يتطيّر وإذا بعث غلاما سأله عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح؛ ورئي بشره في وجهه، فإن كره اسمه رئي كراهته في وجهه. قال القرطبي: ومن الأسماء ما غيّره وصرفه عن مسمّاه، لكن منع منه؛ حماية واحتراما لأسماء الله وصفاته عن أن يسمّى بها، فقد غيّر اسم «حكم» و «عزيز» ؛ كما رواه أبو داود، لما فيها من التشبه بأسماء الله تعالى. ذكره المناوي. قال: وقد روي هذا الحديث بنحوه بزيادة الطبراني في «الصغير» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بسند؛ قال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ولفظه: كان إذا سمع اسما قبيحا غيّره، فمرّ على قرية يقال لها «عفرة» فسماها «خضرة» . هذا لفظه. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني- بسند قال الحافظ الهيثمي: فيه ليث بن أسلم، وهو ضعيف بغير كذب- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتفاءل) - بالهمز- أي: إذا سمع كلمة حسنة تأوّلها على معنى يوافقها (ولا يتطيّر) ؛ أي: لا يتشاءم بشيء كما كانت الجاهلية تفعله من تفريق الطير من أماكنها، فإن ذهبت إلى الشمال تشاءموا، وذلك لأن من تفاءل فقد فهم خيرا؛ وإن غلط في جهة الرجاء، ومن تطيّر؛ فقد أساء الظنّ بربّه، ولله درّ من قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وكان يحبّ الاسم الحسن. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا وجد الرّجل راقدا على وجهه ليس على عجزه شيء.. ركضه برجله، وقال: «هي أبغض الرّقدة إلى الله تعالى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالباه، وكان لا يعتاف إلّا أنّه ... يعجبه الفأل إذا عنّ له (وكان يحبّ الاسم الحسن) ، وليس هو من معاني التطير، بل هو كراهة الكلمة القبيحة نفسها؛ لا لخوف شيء وراءها، كرجل سمع لفظ «خنا» فكرهه، وإن لم يخف على نفسه منه شيئا؛ ذكره الحليمي. (و) أخرج الإمام أحمد- بسند رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن الشّريد بن سويد رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا وجد الرّجل) - الظاهر أن الرجل وصف طردي، وأن المراد الإنسان؛ ولو أنثى، إذ هي أحقّ بالستر؛ قاله المناوي- (راقدا على وجهه) ؛ أي: منبطحا (ليس على عجزه) - بفتح العين وضمّها، ومع كلّ فتح الجيم وسكونها، والأفصح كرجل؛ وهو من كلّ شيء: مؤخّره- (شيء) يستره من نحو ثوب. وظاهره أن كراهة هذه الرّقدة من حيث كشف العورة؛ وإن كانت مكروهة من حيث الهيئة أيضا؛ كما ثبت في غير هذا الحديث، وأشار له في هذا الحديث بقوله «الرّقدة» أي: الهيئة. (ركضه) - بالتحريك-؛ أي ضربه (برجله) ليقوم، (وقال: هي أبغض الرّقدة) - بكسر الراء- (إلى الله تعالى) . ومن ثمّ قيل: إنّها نوم الشياطين. (و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الأوسط» ، وابن حبّان: كلّهم؛ من حديث حفص بن عمر؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه- وقد ذكره ابن أبي حاتم وروى عنه جمع، وبقية رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي- (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأمر بالباه) - يعني: النكاح- وهل المراد هنا العقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وينهى عن التّبتّل نهيا شديدا؛ أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر من أسلم أن يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة. الشرعي؛ أو الوطء!! فيه احتمالان. قال المناوي: والصواب أن المراد الوطء لتصريح الأخبار بأن حثّه على التزوج لتكثير أمّته. وذا لا يحصل بمجرّد العقد. (وينهى عن التّبتّل) ؛ أي: رفض الرجل للنساء؛ وترك التلذّذ بهنّ، وعكسه، فليس المراد هنا مطلق التبتل الذي هو ترك الشهوات، والانقطاع إلى العبادة، بل تبتّل خاصّ، وهو انقطاع الرجال عن النساء؛ وعكسه. قال الحفني: فينبغي للشخص أن يجامع زوجاته مادام فيه قوّة لأجل التناسل. وما ورد أنّ السيدة مريم تسمّى «البتول» ، وكذا السيدة فاطمة!! فالمراد أنّ لهما نوع انقطاع للعبادة؛ لا الإعراض عن الشهوة بالكلية، فالسيدة فاطمة لم تترك الشهوة بالمرّة، وإلّا! لم يحصل لها نسل، بل المراد أنّها ليست ملتفتة لذلك كغيرها من النساء؛ لاشتغالها بمولاها. انتهى. (نهيا شديدا) تمامه عند الإمام أحمد: ويقول: «تزوّجوا الودود الولود، فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . وكان التبتّل من شريعة النصارى فنهى عنه أمّته. انتهى مناوي؛ على «الجامع» . (أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه) . والمراد من التزوّج الوطء المؤدّي لتكثير النسل- كما تقدّم-. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد حسن- كما في العزيزي- عن قتادة بن عياض الرّهاوي- بضم الراء وخفة الهاء- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأمر من أسلم) من الرجال (أن يختتن؛ وإن كان) قد كبر وطعن في السن، كما إذا كان (ابن ثمانين سنة) ، فقد اختتن إبراهيم الخليل بالقدوم؛ وهو ابن ثمانين سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّر الخيل. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره الشّكال من الخيل. قال العزيزيّ: فسّره في بعض طرق الحديث عند ... (و) أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلى الله عليه وسلّم يضمر) - قال الحفني: من «أضمر» ، ويصحّ أن يقرأ من «ضمر» من باب «دخل» انتهى- (الخيل) . قال المناوي على «الجامع» : أراد بالإضمار: التضمير؛ وهو: أن يعلف الفرس حتى يسمن ثم يردّه إلى القلّة ليشتدّ لحمه. كذا ذكره جمع، لكن في «شرح الترمذي» للزين العراقي: هو أن يقلّل علف الفرس مدّة ويدخل بيتا كنّا، ويجلّل ليعرق ويجفّ عرقه؛ فيخفّ لحمه؛ فيقوى على الجري، قال: وهو جائز اتفاقا، للأحاديث الواردة فيه. (و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وأصحاب السنن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يكره الشّكال) لأنه يدلّ على عدم جودة الفرس، إلّا إذا كان أغرّ، أي: له بياض في جبهته. فإنّه حينئذ لا يكون الشّكل فيه دليلا على عدم جودته. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون كره اسم الشّكال من جهة اللفظ، لأنّه يشعر بنقيض ما تراد له الخيل، أو لكونه يشبه الصليب، بدليل أنّه كان يكره الثوب الذي فيه تصليب، وليس هذا من الطّيرة- كما حققه الحليمي-. (من) - وفي رواية: «في» - (الخيل. قال) العلّامة الشيخ علي بن أحمد بن محمد (العزيزيّ) الشافعي المتوفى سنة: سبعين وألف هجرية- وتقدّمت ترجمته في أوّل الكتاب- في كتابه «السراج المنير شرح الجامع الصغير» : (فسّره) - أي: الشكال- (في بعض طرق الحديث عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 مسلم: بأن يكون في رجله اليمنى وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. وكرّهه لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل: يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة. وقال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغرّ.. زالت الكراهة. مسلم؛ بأن يكون في رجله اليمنى) بياض، (وفي يده اليسرى بياض، أو) يكون البياض (في يده اليمنى ورجله اليسرى) . وقال الزمخشري: هو أن يكون ثلاث قوائم محجّلة وواحدة مطلقة، أو عكسه. شبه ذلك بالعقال؛ فسمّي به. انتهى. ووراء ذلك أقوال عشرة مذكورة في المطوّلات. (وكرّهه!! لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل:) كرّهه لأنه (يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس) الذي فيه الشكال؛ (فلم يكن فيه نجابة) . والنجيب: الفاضل من كلّ حيوان. (وقال بعض العلماء) - كما حكاه في «شرح مسلم» للنووي وأقرّه-: (إذا كان) الفرس (مع ذلك) الشّكال (أغرّ) - الغرّة في الجبهة: بياض فوق الدرهم، وفرس أغرّ، ومهرة غرّاء؛ مثل: أحمر، وحمراء- (زالت الكراهة) لزوال الإشكال لكن توقّف فيه الزين العراقي. انتهى مناوي على «الجامع» . (و) أخرج ابن ماجه؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه- قال المناوي: ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، وليس كما قال! فقد قال الزيلعي: حديث واه. وسأل عنه ابن أبي حاتم أباه؛ فقال: هذا موضوع. وقال الحافظ ابن حجر: سنده ضعيف جدّا. انتهى. وكيفما كان؛ فكان الأولى للمصنف حذفه من الكتاب؛ فضلا عن رمزه لحسنه. انتهى. كلام المناوي على «الجامع» -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر.. سلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. قال: «أمّا بعد» . (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر) للخطبة ( [سلّم] ) . قال العلقمي: يسنّ للإمام السلام على الناس عند دخوله المسجد؛ يسلّم على من هناك، وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه، وإذا وصل أعلى المنبر وأقبل على الناس بوجهه يسلّم عليهم، ولزم السامعين الردّ عليه، وهو فرض كفاية. وسلامه بعد الصعود؛ هو مذهبنا ومذهب الأكثرين، وبه قال ابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والإمام أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: يكره. انتهى. ذكره العزيزي. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز الطبراني: (كان صلى الله عليه وسلّم إذا خطب؛ قال «أمّا بعد» ) وقد عقد البخاري في «صحيحه» لذلك بابا؛ فقال: باب من قال في الخطبة بعد الثناء «أما بعد» . رواه عكرمة؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم ذكر بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلّون، قلت: ما شأن الناس؟ فأشارت برأسها إلى السماء. فقلت: آية!! وفيه، فخطب الناس؛ وحمد الله بما هو أهله ثم قال: «أمّا بعد» ... الخ. ثم ذكر البخاري بسنده إلى الحسن البصري، عن عمرو بن تغلب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتي بمال أو سبي فقسمه.. إلى أن قال: فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال «أمّا بعد؛ فو الله إنّي لأعطي الرّجل ... الخ» . ثم ذكر البخاريّ بسنده إلى عروة بن الزبير أنّ عائشة رضي الله عنها أخبرته أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج ذات ليلة من جوف الليل؛ فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته ... إلى أن قال: فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهّد، ثم قال: «أمّا بعد؛ فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ... الخ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. يعتمد على عنزة؛ أو عصا. و (العنزة) : العصا الصّغيرة. ثم ذكر البخاريّ بسنده؛ عن عروة أيضا؛ عن أبي حميد الساعدي أنّه أخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام عشيّة بعد الصلاة؛ فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أمّا بعد» ... وفيه قصّة ابن اللّتبيّة لمّا استعمله على الصدقة. ثم ذكر البخاريّ بسنده؛ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ... إلى أن قال «أمّا بعد؛ فإنّ هذا الحيّ من الأنصار يقلّون ويكثر النّاس ... الخ» . فائدة: أفاد قطب الدين الحلبي في «شرحه على البخاري» أنّ المواضع التي ثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أمّا بعد» خمسة وثلاثون موضعا. انتهى. (و) أخرج الإمام الشافعيّ في «مسنده» باب إيجاب الجمعة؛ عن عطاء بن أبي رباح مرسلا- قال في العزيزي: وهو حديث صحيح-: (كان صلى الله عليه وسلّم إذا خطب يعتمد على عنزة) - بالتحريك: رمح صغير- (أو عصا، و) هو عطف عامّ على خاصّ؛ إذ (العنزة) - محركة؛ كقصبة-: (العصا الصّغيرة) ؛ في أسفلها زجّ- بالضم: أي: سنان-. وعبّر عنها بعكّازة في طرفها سنان، وبعضهم بحربة قصيرة. وفي «طبقات ابن سعد» أنّ النجاشي كان أهداها له، وكان يصحبها ليصلّي إليها في الفضاء، أي: عند فقد السترة، ويتّقي بها كيد الأعداء، ولهذا اتّخذ الأمراء المشي أمامهم بها. ومن فوائدها: اتقاء السباع، ونبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خوف الرشاش، وتعليق الأمتعة بها، والركزة عليها ... وغير ذلك. قال ابن القيّم: ولم يحفظ عنه أنّه توكّأ على سيف، وكثير من الجهلة يظنّ أنه كان يمسك السيف على المنبر؛ إشارة إلى قيام الدّين به، وهو جهل قبيح، لأن الوارد العصا والقوس، ولأن الدّين إنما قام بالوحي، وأمّا السيف!! فلمحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالهديّة؛ صلة بين النّاس. المشركين المعارضين للدعوة. والمدينة التي كانت خطبته فيها إنّما افتتحت بالقرآن. انتهى مناوي على «الجامع» . (و) أخرج ابن ماجه؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه- وهو حديث ضعيف- قال: (كان صلى الله عليه وسلّم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث) ؛ من الأيّام، تمضي من ابتداء مرضه. قال المناوي في «شرح الجامع» : قال في «الميزان» : قال أبو حاتم: هذا باطل موضوع. وقال الدميري: الأحاديث الصحيحة تدلّ بعمومها على خلاف حديث الباب، وقال الحفني: هذا حديث ضعيف؛ وقيل: منكر؛ فلا يعمل به، لأن الأحاديث الصحيحة مصرّحة بطلب العيادة قبل الثلاث وبعدها، ولو من رمد- على المعتمد-. انتهى. وقال الزركشي: هذا يعارضه أنّه عاد زيد بن أرقم من رمد به قبلها؛ أي: قبل ثلاث. قال في «شرح الإلمام» : وقع لبعض العوامّ بأن الأرمد لا يعاد!! وقد أخرج أبو داود أنّه صلى الله عليه وسلّم عاد زيد بن أرقم من وجع كان في عينيه. ورجاله ثقات. قال العلقمي: وفي إطلاق الحديث- أي حديث البخاري: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني» - أنّ العيادة لا تتعيّن بوقت دون وقت، لكن جرت بها العادة طرفي النهار. انتهى. ذكر جميع ذلك شرّاح «الجامع الصغير» . (و) في «كنوز الحقائق» : (كان صلى الله عليه وسلّم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه) . (و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، والطبراني في «الكبير» ، وابن عساكر بسند حسن- كما في العزيزي-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأمر) أصحابه (بالهديّة) - يعني بالتهادي- (صلة) أي: محبّة (بين النّاس) ، لأنها تذهب وحر الصدر «تهادوا تحابّوا» فالهديّة من أعظم أسباب التّحابب بينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بقطع المراجيح. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ هذه السّورة: (سبح اسم ربك الأعلى) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الصّدقة، ... (و) في «كنوز الحقائق» - ورمز له برمز الحكيم الترمذي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلّم يأمر بقطع المراجيح) . قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : مرجح ومرجاح لغتان، فمرجح جمعه: مراجح، ومرجاح جمعه: مراجيح؛ ك «مفتح ومفاتح، ومفتاح ومفاتيح» ؛ وهو لهو ولعب كان يفعله العجم في أيّام النيروز؛ تفرّجا وتلهّيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب، وكره لهم أن يتزيّوا بزيّ من اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فلا خلاق له هناك. انتهى كلام الحكيم الترمذي. (و) أخرج الإمام أحمد، والبزار بسند ضعيف: كلاهما؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحبّ هذه السّورة) سورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) أي: نزّه اسم ربّك عن أن يبتذل، أو يذكر إلّا على جهة التعظيم. قال الفخر الرازي: وكما يجب تنزيه ذاته عن النقائص؛ يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. قاله المناوي؛ على «الجامع» . (و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛ (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحثّ على الصّدقة) ، كقوله: «تصدّقوا، فسيأتي على النّاس زمان يمشي بصدقته فلا يجد من يقبلها» . رواه البخاري، ومسلم؛ عن حارثة بن وهب رضي الله عنه. وكقوله: «المرء في ظلّ صدقته» . وكقوله: «اتّقوا النّار؛ ولو بشقّ تمرة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وينهى عن المسألة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يسمر عند أبي بكر اللّيلة في الأمر من أمور المسلمين. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّؤيا الحسنة. وكقوله: «يا معشر النّساء تصدّقن؛ فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار» . (وينهى عن المسألة) ، كقوله: «لا تسأل النّاس شيئا؛ ولا سوطك؛ وإن سقط منك حتّى تنزل إليه فتأخذه» . رواه الإمام أحمد؛ عن أبي ذر. وكقوله: «لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا» . رواه النسائي، وأبو داود؛ عن عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه. وذلك لأن السؤال للمخلوق ذلّ للسائل، وهو ظلم من العبد لنفسه، وفيه إيذاء المسؤول؛ وهو من جنس ظلم العباد، وفيه خضوع العبد لغير الله تعالى؛ وهو من جنس الشرك. ففيه أجناس الظلم الثلاثة: الظلم المتعلّق بحقّ الله، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه. ومن له أدنى بصيرة لا يقدم على مجامع الظلم وأصوله بغير الاضطرار. انتهى مناوي؛ على «الجامع» . (و) في «كنوز الحقائق» ورمز له رمز الترمذي: (كان صلى الله عليه وسلّم يسمر عند أبي بكر) الصدّيق (اللّيلة) الكاملة (في الأمر) الّذي يعرض (من أمور المسلمين) ؛ اهتماما به. (و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي- بسند صحيح؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يعجبه الرّؤيا الحسنة) تمامه عند أحمد: وربّما قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟!» ، فإذا رأى الرجل الرؤيا سأل عنه، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه، فجاءت امرأة؛ فقالت: رأيت كأنّي دخلت الجنة فسمعت بها وجبة ارتجّت لها الجنّة، فنظرت فإذا قد جيء بفلان وفلان ... حتّى عدّت اثني عشر رجلا. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سريّة قبل ذلك، فجيء بهم؛ وعليهم ثياب بيض تشخب أوداجهم. فقيل: اذهبوا بهم «إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اشتدّي أزمة تنفرجي» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يبيع ... أرض البيدخ» ، أو قال «نهر البيدخ» فغمسوا به فخرجوا وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم أتوا بكراسيّ من ذهب؛ فقعدوا عليها. فأتت تلك السرية؛ وقالوا: أصيب فلان وفلان ... حتّى عدّوا الاثني عشر الذين عدّتهم المرأة. ذكره المناوي؛ على «الجامع» . (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يقول) مخاطبا لما لا يعقل بعد تنزيله منزلة من يعقل، كقوله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [44/ هود] (: «اشتدّي) يا (أزمة) أي: شدة؛ وهي: ما يصيب الإنسان من الأمور المغلقة من الأمراض وغيرها. (تنفرجي» ) - بالجزم- جوابا للأمر، أي: تذهبي بمعنى يذهب همّك عنا، وليس المراد حقيقة أمر الشدّة بالاشتداد ولا ندائها، بل المراد طلب الفرج لتزول الشدّة، لكن لما ثبت بالأدلة أن اشتداد الشدّة سبب الفرج، كقوله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح] ، وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [28/ الشورى] . وقوله عليه الصلاة والسلام: «وإنّ الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرا» . أمرها وناداها؛ إقامة للسبب مقام المسبّب، وفيه تسلية وتأنيس بأن الشدّة نوع من النعمة، لما يترتّب عليها. والله أعلم؛ ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. (و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يبيع) . أخرج الترمذي بسنده؛ قال: حدّثنا عبد المجيد بن وهب؛ قال: قال لي العدّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟!. قال: قلت: بلى. فأخرج لي كتابا «هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ اشترى منه عبدا؛ أو أمة؛ لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة؛ بيع المسلم للمسلم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 ويشتري، ... قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأخرج الترمذي أيضا بسنده؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم باع حلسا وقدحا؛ وقال: «من يشتري هذا الحلس والقدح» !!. فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من يزيد على درهم!! من يزيد على درهم!!» فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. والحلس: كساء يوضع على ظهر البعير تحت القتب لا يفارقه. انتهى. وروى الطبراني؛ وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي وغيرهم؛ عن زيد بن سعنة «أجلّ أحبار اليهود الذين أسلموا» أنّه اشترى من النبي صلى الله عليه وسلّم تمرا إلى أجل؛ وأعطاه الثمن، ثم جاءه قبل حلول الأجل بيومين أو ثلاثة، فأخذ بمجامع قميصه، ونظر إليه بوجه غليظ. ثم قال له: ألا تقضيني يا محمد حقي! فو الله إنّكم يا بني عبد المطلب مطل ... الحديث المتقدّم في الفصل الأول؛ من الباب الخامس من هذا الكتاب. (ويشتري) روى البخاريّ وغيره؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فلما أن أقبلنا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحبّ أن يتعجّل إلى أهله فليتعجّل» . قال جابر: فأقبلنا؛ وأنا على جمل لي أرمك «1» ليس فيه شية، والناس خلفي. فبينا أنا كذلك إذ قام علي؛ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا جابر استمسك» . فضربه بسوطه ضربة، فوثب البعير مكانه؛ فقال: «اتبيع الجمل!!» قلت: نعم. فلما قدمنا المدينة؛ ودخل النبي صلى الله عليه وسلّم المسجد في طوائف أصحابه؛ فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط. فقلت له: هذا جملك. فخرج فجعل يطيف بالجمل؛ ويقول: «الجمل جملنا» فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم أواق من ذهب؛ فقال: «أعطوها جابرا» ، ثم قال: «استوفيت   (1) وهو الذي في لونه كدورة؛ أي: يخالط حمرته سواد. «النهاية» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ولكن كان شراؤه أكثر. الثّمن!!» . قلت: نعم. قال: «الثّمن والجمل لك» . وروى أبو داود، وابن خزيمة؛ عن عمارة بن خزيمة بن ثابت الأوسي؛ عن عمّه- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم- أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم ابتاع من أعرابي فرسا فاستتبعه «1» ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلّم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي ويساومونه بالفرس؛ ولا يشعرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه، فنادى الأعرابيّ؛ فقال: «إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه، وإلّا بعته» . فقال النبي صلى الله عليه وسلّم حين سمع نداء الأعرابي: «أو ليس قد ابتعته منك» !!. قال الأعرابي: لا؛ والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلى، قد ابتعته» . قال: فطفق الأعرابي يقول: هلّم شهيدا؛ يشهد أنّي بعتك!! فمن جاء من المسلمين يقول: ويلك؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكن ليقول إلّا الحقّ. حتى جاء خزيمة بن ثابت؛ فاستمع المراجعة؛ فقال: أنا أشهد أنّك قد بايعته ... الحديث. وفيه: فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة برجلين. وعند الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ؛ من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم اشترى من أعرابيّ فرسا، فجحده الأعرابيّ، فجاء خزيمة؛ فقال: يا أعرابي؛ أتجحد!! أنا أشهد أنّك قد بعته. فقال: أن شهد عليّ خزيمة فأعطني الثمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا خزيمة؛ إنّا لم نشهدك! كيف تشهد!!» . قال: أنا أصدّقك على خبر السماء، ألا أصدّقك على ذلك الأعرابي!! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم شهادته بشهادة رجلين. انتهى؛ ذكره في «المواهب» . (ولكن كان شراؤه) صلى الله عليه وسلّم أي: مباشرته الشراء (أكثر) من مباشرة البيع. روى البخاريّ؛ عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلّم ثم جاء رجل مشرك مشعانّ «2» طويل بغنم يسوقها، فقال   (1) أي: طلب المصطفى صلى الله عليه وسلّم من الأعرابي أن يتبعه ليقبضه الثمن. (2) ثائر الرأس أشعث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وآجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم، ولخديجة في سفر التّجارة. النبي صلى الله عليه وسلّم: «بيعا أم عطيّة!» . أو قال «هبة!» . قال: لا؛ بل بيع. فاشترى منه شاة. (وآجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم) . روى البخاري في «صحيحه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» . فقال أصحابه: وأنت!! فقال: «نعم؛ كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» . قال في «فتح الباري» : قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرّن برعيها على ما يكلّفونه من القيام بأمر أمّتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنّهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرّقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوّها من سبع وغيره؛ كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها وشدّة تفرّقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة؛ ألفوا من ذلك الصبر على الأمّة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها؛ فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمّلهم لمشقّة ذلك أسهل ممّا لو كلّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم. وخصّت الغنم بذلك!! لكونها أضعف من غيرها، ولأنّ تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرّبط؛ دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. انتهى. (و) آجر نفسه قبل النبوة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة (لخديجة) بنت خويلد بن أسد (في سفر التّجارة) ، وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة؛ تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامّة عير قريش، وكانت تستأجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 ......... الرجال؛ وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قوما تجّارا، ومن لم يكن منهم تاجرا؛ فليس عندهم بشيء. وسبب ذلك- كما رواه الواقديّ، وابن السّكن-: أنّ أبا طالب قال: يا ابن أخي؛ أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا وألحّت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادّة، ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام؛ وخديجة تبعث رجالا من قومك يتّجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك!! وإن كنت أكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود؛ ولكن لا نجد من ذلك بدّا. فقال صلى الله عليه وسلّم: «لعلّها ترسل إليّ في ذلك» . فقال أبو طالب: أخاف أن تولّي غيرك. فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، وقبل ذلك صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه. فقالت: ما علمت أنّه يريد هذا!! وأرسلت إليه؛ وقالت: دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم اخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. فذكر ذلك صلى الله عليه وسلّم لعمّه. فقال: إنّ هذا الرزق ساقه الله إليك. فخرج ومعه ميسرة «غلام خديجة» في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظلّ شجرة في سوق بصرى قريبا من صومعة نسطور الراهب. فقال نسطور الراهب: «ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبي» . ثمّ حضر سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى.. وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى. فقال: «ما حلفت بهما قطّ» . فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة- وخلا به-: هذا نبيّ، والّذي نفسي بيده؛ إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم. فوعى ذلك ميسرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 واستدان برهن، وبغير رهن، واستعار، وضمن، ووقف أرضا كانت له. ثم انصرف أهل العير جميعا، وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلّانه في الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علّيّة لها؛ رأت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو على بعير، وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها صلى الله عليه وسلّم فأخبرها بما ربحوا؛ فسرّت، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت! فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بقول نسطوراء، وقول الآخر الذي خالفه في البيع. وقدم صلى الله عليه وسلّم بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما كانت سمّته له، وتزوّج صلى الله عليه وسلّم خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما. انتهى؛ من «المواهب» و «شرحها» . (واستدان) صلى الله عليه وسلّم (برهن) . روى البخاريّ، ومسلم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل؛ ورهنه درعا من حديد. (و) استدان صلى الله عليه وسلّم (بغير رهن) . روى البخاريّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعطوه» . فقالوا: ما نجد إلّا سنّا أفضل من سنّه!! فقال الرجل: أوفيتني؛ أوفاك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعطوه؛ فإنّ من خيار النّاس أحسنهم قضاء» . (واستعار) صلى الله عليه وسلّم. روى البخاري، ومسلم؛ عن قتادة؛ قال: سمعت أنسا يقول: كان فزع بالمدينة. فاستعار النبي صلى الله عليه وسلّم فرسا من أبي طلحة؛ يقال له «المندوب» ، فلما رجع قال: «ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا» . واستعار صلى الله عليه وسلّم أدرعا من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال: أغصب؛ يا محمّد!! فقال: «لا؛ بل عاريّة مضمونة» . رواه أبو داود، والنسائي. (وضمن) . روى الحاكم بإسناد صحيح أنّه صلى الله عليه وسلّم تحمّل عن رجل عشرة دنانير؛ ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «شرح الروض» . (ووقف) صلى الله عليه وسلّم (أرضا كانت له) من أموال مخيريق النّضري الإسرائيلي؛ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وحلف في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله تعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، في قوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي، وقوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي، بني النضير، كان عالما؛ وكان أوصى بأمواله في السنة الثالثة للنبي صلى الله عليه وسلّم؛ وهي سبع حوائط، وذلك أوّل وقف في الإسلام؛ كما في «الأوائل» للشيخ علاء الدين علي دده. لكن هذا خلاف المصرّح به في كتب الفقه، والمشهور- كما في «التحفة» ؛ و «شرح الروض» - أنّ أوّل وقف في الإسلام هو وقف سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أرضه التي أصابها بخيبر، وشرط فيها شروطا؛ منها أنّه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، وأنّ من وليها يأكل منها بالمعروف؛ أو يطعم صديقا غير متموّل فيه. كما رواه الشيخان. (وحلف في أكثر من ثمانين موضعا) بصيغ مختلفة؛ فتارة يقول «لا؛ ومقلّب القلوب» ، وتارة يقول «والّذي نفسي بيده» ، وطورا يقول «والّذي نفس أبي القاسم بيده» ، وأكثر أيمانه «لا ومصرّف القلوب» كما سيأتي. (وأمره الله تعالى) في كتابه المبين (بالحلف في ثلاثة مواضع) من القرآن: الأول (في قوله تعالى) في سورة يونس وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي: ما وعدتنا به من العذاب والبعث. (قُلْ إِي) - نعم- (وربّى) إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: قل لهم في الجواب هذه الأمور الثلاثة إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ عطف على «إي» ، فهو من مقول القول. (و) الثاني في سورة سبأ في (قوله تعالى) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (قُلْ) - لهم- (بَلى) - ردّ لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلّا إتيانها- (وَرَبِّي) لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فقوله «لتأتينكم» تأكيد لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وقوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى. نفوه على أتمّ الوجوه وأكملها، وقوله «عالم الغيب ... » الخ تقوية للتأكيد، لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه؛ وقوّة إثباته، وصحّته، لما أنّ ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر. (و) الثالث، في سورة التغابن في (قوله) تعالى زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا (قُلْ بَلى) - من المعلوم أنّ «بلى» تنقض النفي وتثبت المنفيّ. فالمعنى هنا: قل بلى تبعثون (وَرَبِّي) . فقوله (لَتُبْعَثُنَّ) هو المفاد بها، وإنما أعيد!! توصّلا لتوكيده بالقسم، ولعطف قوله ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) . (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يستثني في يمينه تارة) ؛ أي: يعقّب اليمين بقول «إن شاء الله» ونحوه، كقوله في حديث أبي موسى الأشعري: «إنّي- والله- إن شاء الله؛ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير، وتحلّلتها» متفق عليه. قال في «شرح مسلم» : ويشترط لصحّة هذا الاستثناء شرطان؛ أحدهما: أن يقوله متّصلا باليمين. والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول «إن شاء الله» قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن قوله «إن شاء الله» يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متّصلا. انتهى. (ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى) ؛ بأن لا يحنث. روى البخاريّ؛ عن أنس رضي الله عنه: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من نسائه؛ وكانت انفكّت رجله، فأقام في مشربة «1» تسعا وعشرين ليلة، ثم نزل. فقالوا: يا رسول   (1) العلّيّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 ومدحه بعض الشّعراء فأثاب عليه، ومنع الثّواب في حقّ غيره، وأمر أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب. الله؛ آليت شهرا!! فقال: «إنّ الشّهر يكون تسعا وعشرين» . (ومدحه) صلى الله عليه وسلّم (بعض الشّعراء) من الصّحابة، ومنهم كعب بن زهير بن أبي سلمى في قصيدته المشهورة «بانت سعاد» ؛ (فأثاب) صلى الله عليه وسلّم (عليه) ؛ أي: المدح، فقد ذكر العلماء أنّ كعب بن زهير لما أنشد قصيدة «بانت سعاد» بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يسمع، ولما وصل إلى قوله: إنّ الرّسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بردته التي كانت عليه، ولذا قال أهل العلم: هذه القصيدة هي التي حقّها أن تسمّى ب «البردة» ، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلّم أعطى كعبا بردته الشريفة. وأمّا قصيدة البوصيري!! فحقّها أن تسمّى ب «البرأة» ، لأنه كان أصابه داء الفالج؛ فأبطل نصفه، وأعيا الأطباء، فلما نظمها رأى المصطفى صلى الله عليه وسلّم فمسح بيده عليه فبرئ لوقته. وقد بذل معاوية رضي الله عنه لكعب في هذه البردة عشرة آلاف من الدراهم؛ فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا من الدراهم فأخذها منهم؛ وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم. ويقال: إنها التي يلبسها الخلفاء في الأعياد. قال الشامي: ولا وجود لها الآن، لأن الظاهر أنّها فقدت في وقعة التتار. قال الزرقاني في «شرح المواهب» : وقد جمع اليعمريّ شعراءه الذين مدحوه بالشعر من رجال الصحابة ونسائهم؛ فقارب بهم مائتين. انتهى. (ومنع الثّواب) ؛ أي: المكافأة والمجازاة (في حقّ غيره) ؛ أي: غير البعض المثاب، لما رأى من المصلحة في المنع. (وأمر) صلى الله عليه وسلّم (أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب) ؛ بقوله: «احثوا التّراب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف.. قال: «والّذي نفس محمّد بيده» . في وجوه المدّاحين» رواه الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ واستغربه، ورواه ابن عدي، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب. وبقوله «احثوا في أفواه المدّاحين التّراب» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ عن المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه. انتهى؛ ذكره المناوي في «شرح الجامع» . وفيه: الحثي: كناية عن الحرمان والردّ. يريد: لا تعطوهم على المدح شيئا، وقيل: هو على ظاهره، فيرمى في وجوههم التراب، وجرى عليهم ابن العربي قال: وصورته: أن يأخذ كفّا من تراب وترمى به بين يديه، ويقول: ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا!! ومن أنا، وما قدري!! توبّخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرّف المادح قدرك وقدره؛ هكذا فليحث التراب في وجوههم. وعبّر بصيغة المبالغة في قوله «المدّاحين» !! إشارة إلى أنّ الكلام فيمن تكرّر منه المدح حتّى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكّل بها الناس؛ وجازف في الأوصاف، وأكثر من الكذب. قال الشافعية: ويحرم مجاوزة الحدّ في الإطراء في المدح؛ إذا لم يمكن حمله على المبالغة، وتردّ به الشهادة إن أكثر منه؛ وإن قصد إظهار الصنعة. قال ابن عبد السلام في «قواعده» : ولا تكاد تجد مدّاحا إلّا رذلا، ولا هجّاء إلّا نذلا. انتهى. (و) أخرج ابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن رفاعة بن عرابة الجهني رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا حلف) على شيء وأراد تأكيد اليمين؛ (قال «والّذي نفس محمّد بيده» ) ؛ أي: بقدرته وتصريفه. وفيه جواز تأكيد اليمين بما ذكر. أي: إذا عظم المحلوف عليه؛ وإن لم يطلب ذلك المخاطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر أيمانه: «لا ومصرّف القلوب» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اجتهد في اليمين.. قال: «لا والّذي نفس أبي القاسم بيده» . (و) أخرج ابن ماجه- بسند حسن؛ كما في العزيزي- عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم أكثر أيمانه) - بفتح الهمزة- جمع يمين، وهو بالرفع اسم «كان» ، وخبرها قوله ( «لا؛ ومصرّف القلوب» ) ويصحّ العكس؛ وهو أحسن، لأن المحدّث عنه الثاني؛ قاله الحفني. قال المناوي: وفي رواية البخاري: «لا؛ ومقلّب القلوب» أي: لا أفعل، أو: لا أقول وحقّ مقلّب القلوب، ومصرّف القلوب. وفي نسبة تقلّب القلوب، أو تصرّفها إليه!! إشعار بأنه يتولّى قلوب عباده، ولا يكلها إلى أحد من خلقه. قال الطيبي: «لا» نفي للكلام السابق، و «مصرّف القلوب» إنشاء قسم. وفيه: أنّ أعمال القلب من الأدوات والدواعي وسائر الأعراض بخلق الله تعالى، وجواز تسمية الله بما صحّ من صفاته على الوجه اللائق، وجواز الحلف بغير تحليف. قال النووي: بل يندب، إذا كان لمصلحة كتأكيد أمر مهمّ، ونفي المجاز عنه. وفي الحلف بهذه اليمين زيادة تأكيد، لأن الإنسان إذا استحضر أنّ قلبه وهو أعزّ الأشياء عليه- بيد الله يقلّبه كيف يشاء؛ غلب عليه الخوف؛ فارتدع عن الحلف على ما لا يتحقق. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد بسند صحيح، وأبو داود في «الأيمان» ، وابن ماجه في (الكفارة) بألفاظ مختلفة؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا) حلف و (اجتهد في اليمين) أي: أراد تأكيده؛ (قال «لا؛ والّذي نفس أبي القاسم) - أي: ذاته وجملته- (بيده» ) . أي: بقدرته وتدبيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وكان صلّى الله عليه وسلّم يحلف: «لا ومقلّب القلوب» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف على يمين.. لا يحنث؛ حتّى نزلت كفّارة اليمين. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استراث الخبر؛ ... قال الطيبي: وهذا في علم البيان من أسلوب التجريد، لأنّه جرّد من نفسه شخصا يسمّى «أبا القاسم» وهو هو، وكان يعبّر بذلك في بعض الأوقات. وأصل الكلام: «والذي نفسي بيده» ، ثم التفت من التكلّم إلى الغيبة. (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «التوحيد» وغيره، والترمذي؛ والنسائي في «الأيمان» وغيره، وابن ماجه في «الكفارة» : كلهم؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحلف) فيقول: ( «لا؛ ومقلّب القلوب» ) قال العلقمي: «لا» نفي للكلام السابق، «ومقلّب القلوب» هو المقسم به، والمراد ب «تقليب القلوب» : تقليب أعراضها وأحوالها؛ لا تقليب ذاتها. انتهى «عزيزي» . (و) أخرج الحاكم في «المستدرك» ؛ في «كتاب الأيمان» - وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا حلف على يمين) أي: بيمين واحتاج إلى فعل المحلوف عليه (لا يحنث) ، أي: لا يفعل ذلك المحلوف عليه؛ وإن احتاجه (حتّى نزلت كفّارة اليمين) أي: الآية المتضمّنة مشروعية الكفارة؛ وهي قوله تعالى فَكَفَّارَتُهُ ... [89/ المائدة] . قال المناوي على «الجامع» : وتمامه عند الحاكم: فقال: «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا كفّرت عن يميني، ثمّ أتيت الذّي هو خير» انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد- بسند قال فيه الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. قال: ورواه الترمذي أيضا، لكن جعل مكان طرفة ابن رواحة. انتهى (مناوي) - قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا استراث الخبر) الذي يتطلّع له، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أي: استبطأه.. تمثّل ببيت طرفة: ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وكان صلّى الله عليه وسلّم يتمثّل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا ... وأصل هذا الشّطر: كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا ... ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تمثّل به على الوجه المذكور. (أي: استبطأه) - وهو استفعل من الريث؛ وهو الاستبطاء، يقال: راث ريثا: أبطأ، واسترثته: استبطأته- (تمثّل ببيت طرفة) - بفتحات- ابن العبد؛ أي: بعجزه، وهو قوله (ويأتيك بالأخبار) - بفتح الهمزة جمع خبر- (من لم تزوّد) أي: من لم تصنع له زادا. وأوّل البيت: ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا ... وجاء في بعض الروايات أنّه ينشد البيت بتمامه. والتمثيل: إنشاد بيت، ثمّ آخر، ثمّ آخر. وتمثّل بشيء ضربه مثلا، كذا في «القاموس» . والمثل: الكلام الموزون في مورد خاصّ، ثم شاع في معنى يصحّ أن تورده باعتبار أمثال مورده؛ قاله شرّاح «الجامع الصغير» . (و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن الحسن البصري مرسلا: (كان صلى الله عليه وسلّم يتمثّل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا) أي: زاجرا ورادعا. (وأصل هذا الشّطر) موزونا هكذا: (كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا. ولكنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم تمثّل به على الوجه المذكور) ؛ فقدّم وأخرّ فيه؛ فصيّره غير موزون، إذ ملحظه المعاني فقط. وقد كان سيّدنا عمر رضي الله عنه يعترض على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ صلّى الله عليه وسلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يسافر يوم الخميس. الشاعر، ويقول: الأولى تقديم «الإسلام» . قال المناوي: وإنما كان صلى الله عليه وسلّم يتمثّل به!! لأن الشيب نذير الموت، والموت يسنّ إكثار ذكره؛ لتتنبّه النفس من سنة الغافلة، فيسنّ لمن بلغ سنّ الشيب أن يعاتب نفسه ويوبّخها بإكثار التمثّل بذلك، وفيه جواز إنشاد الشعر له صلى الله عليه وسلّم؛ لا إنشاؤه. (قال تعالى وَما عَلَّمْناهُ) - أي: النبي صلى الله عليه وسلّم- (الشّعر) - ردّ لقولهم «إنّ ما أتى به من القرآن شعر» ، فالمعنى ليس القرآن بشعر، لأن الشعر كلام متكلّف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع؛ منسوج على منوال الوزن والقافية، مبنيّ على خيالات وأوهام واهية، فأين ذلك من التنزيل الجليل المنزّه عن مماثلة كلام البشر، المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة، الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة!! - (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي: لا يصحّ منه، ولا يتأتّى له، أي: جعلناه بحيث لو أراد إنشاءه لم يقدر عليه، أو أراد إنشاده لم يقدر عليه أيضا بالطبع والسجية، لأنّه لو كان ممن يقول الشعر لتطرّقت إليه التّهمة عقلا في أنّ ما جاء به من عند نفسه. قال العلماء: ما كان يتّزن له (صلى الله عليه وسلّم) بيت شعر، وإن تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه مكسّرا. قال القرطبي: وإصابة الوزن منه صلى الله عليه وسلّم في بعض الأحيان!! لا توجب أنّه يعلم الشعر، كقوله «أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب» . على أن التمثل بالبيت لا يوجب أن يكون قائله عالما بالشعر، ولا أن يسمّى «شاعرا» باتفاق العلماء، كما أنّ من خاط ثوبا على سبيل الاتفاق لا يكون خيّاطا. انتهى. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» - بسند فيه خالد بن إياس وهو متروك؛ كما قال الحافظ الهيثمي وغيره- عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحبّ أن يسافر يوم الخميس) ، لأنّه بورك له ولأمّته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه. فيه، أو لأنه أتمّ أيام الأسبوع عددا، لأنه تعالى بثّ الدواب في أصل الخلق؛ فلاحظ الحكمة الربانية، والخروج فيه نوع من بثّ الدوابّ الواقع في يوم المبدأ. ومحبّته لا تستلزم المواظبة عليه، فقد خرج مرّة يوم السبت!! ولعله كان يحبّه أيضا، كما ورد في خبر آخر: «اللهمّ؛ بارك لأمّتي في سبتها وخميسها» . وفي البخاري أيضا: أنّه كان قلّما يخرج إذا خرج في السّفر إلّا يوم الخميس. وفي رواية للشيخين معا: ما كان يخرج إلّا يوم الخميس. قاله المناوي في «شرح الجامع» . (و) في «الصحيحين» وغيرهما في «حديث الإفك» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وروي عن غيرها أيضا- أنّه (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا) لنحو غزو (أقرع بين نسائه) ؛ تطييبا لنفوسهنّ، وحذرا من الترجيح بلا مرجّح؛ عملا بالعدل، لأن المقيمة؛ وإن كانت في راحة لكن يفوتها الاستمتاع بالزوج، والمسافرة؛ وإن حظيت عنده بذلك تتأذّى بمشقّة السفر، فإيثار بعضهنّ بهذا وبعضهنّ بهذا اختيارا عدول عن الإنصاف. ومن ثمّ كان الإقراع واجبا، لكن محلّ الوجوب في حقّ الأمّة؛ لا في حقّه عليه الصلاة والسلام، لعدم وجوب القسم عليه؛ كما نبّه عليه ابن أبي جمرة؛ قاله المناوي. وفيه أن المقرّر في كتب الفقه الشافعي: أنّ القسم واجب عليه. (فأيّتهنّ) - بتاء التأنيث- أي: أيّة امرأة منهن (خرج سهمها خرج بها معه) في صحبته، وهذا أوّل حديث الإفك، وبقيّته- كما في البخاري-: وكان يقسم لكلّ امرأة منهنّ يومها وليلتها، غير أنّ سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم؛ تبتغي بذلك رضاء الله ورسوله. هكذا ذكره في «كتاب الهبة» . وفيه حلّ السفر بالزوجة، وخروج النساء في الغزوات، وذلك مباح إذا كان العسكر تؤمن عليه الغلبة، وكان خروج النساء مع المصطفى صلى الله عليه وسلّم في الجهاد فيه مصلحة بيّنة لإعانتهنّ على ما لا بدّ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وكان صلّى الله عليه وسلّم يتخلّف في المسير، فيزجي الضّعيف ويردف، ويدعو لهم. ومعنى (يزجي الضّعيف) : يسوقه سوقا رفيقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر.. بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ... وفيه مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء ... ونحو ذلك. والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبارها؛ قاله المناوي. (و) أخرج أبو داود، والحاكم- وقال: على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي. وسكت عليه أبو داود-: كلاهما في «الجهاد» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتخلّف) أي: يتأخّر (في المسير) ؛ أي في السّفر (فيزجي) - بضمّ أوّله- (الضّعيف، ويردف) نحو العاجز على ظهر الدابّة، أي: دابّته، أو دابة غيره (ويدعو لهم) بالإعانة ونحوها. ونبّه به على أدب أمير الجيش؛ وهو الرفق بالسير؛ بحيث يقدر عليه أضعفهم، ويحفظ به قوّة أقواهم، وأن يتفقّد خيلهم وحمولهم، ويراعي أحوالهم، ويعين عاجزهم، ويحمل ضعيفهم ومنقطعهم، ويسعفهم بماله وحاله، وقاله ودعائه، ومدده وأمداده. (ومعنى «يزجي) - بمثناة تحتية مضمومة وزاي معجمة فجيم- (الضّعيف» : يسوقه سوقا رفيقا) ليلحق بالرّفاق. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» والحاكم- بسند فيه يزيد بن سفيان أبو فروة وهو مقارب الحديث مع ضعف؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر) - زاد البخاري في رواية: ضحى؛ بالضمّ والقصر- (بدأ بالمسجد) . وفي رواية لمسلم: كان لا يقدم من سفر إلّا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد (فصلّى فيه ركعتين) . زاد البخاري: قبل أن يجلس. انتهى. وذلك للقدوم من السفر تبرّكا به، وليستا تحيّة المسجد! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 ثمّ يثنّي بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس. واستنبط منه ندب الابتداء بالمسجد عند القدوم قبل بيته، وجلوسه للناس عند قدومه ليسلّموا عليه، ثمّ التوجّه إلى أهله. وهذه الجملة الأولى «وهي الصلاة في المسجد عند القدوم» رواه البخاريّ في «الصحيح» في نحو عشرين موضعا. (ثمّ يثنّي بفاطمة) الزهراء البضعة الطاهرة رضي الله تعالى عنها. (ثمّ يأتي أزواجه) فقدم من سفر فصلّى في المسجد ركعتين، ثم أتى فاطمة فتلقّته على باب القبّة؛ فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي، فقال: «ما يبكيك» ؟ قالت: أراك شعثا نصبا، قد اخلولقت ثيابك!! فقال لها: «لا تبكي، فإنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر: لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر؛ ولا حجر؛ ولا وبر؛ ولا شعر إلّا أدخله الله به: عزّا؛ أو ذلّا، حتّى يبلغ حيث بلغ اللّيل» . انتهى. هذا تمام الحديث؛ كما قاله المناوي رحمه الله تعالى. (و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي؛ عن أنس رضي الله عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم لا يطرق) - بضم الراء؛ من باب: دخل- (أهله ليلا) أي: لا يقدم عليهم من سفر؛ ولا غيره في الليل على غفلة؛ فيكره ذلك لأنّ القادم إمّا أن يجد أهله على غير أهبة من نحو تنظّف، أو يجدهم بحالة غير مرضيّة. قال المناوي: وتمام الحديث عند الشيخين: وكان يأتيهم غدوة؛ أو عشية. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «الجهاد» ؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس) . قال العلقمي: وسبب الخروج يوم الخميس ما روي من قوله صلى الله عليه وسلّم: «بورك لأمّتي في بكورها يوم الخميس» وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني، أو أنّه إنّما أحبّه؛ لكونه وافق الفتح له والنصر فيه، أو لتفاؤله بالخميس على أنه ظفر على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يودّع الجيش.. قال: «أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سريّة ... «الخميس» ؛ وهو الجيش، ومحبّته لا تستلزم المواظبة عليه، فقد خرج في بعض أسفاره يوم السبت- كما تقدّم-. (و) أخرج أبو داود، والحاكم في «الجهاد» ، وكذا النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عبد الله بن يزيد الخطمي- بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة- قال في «الأذكار» : حديث صحيح. وقال في «رياض الصالحين» : رواه أبو داود بإسناد صحيح؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يودّع الجيش) الذي يجهّزه للغزو؛ (قال: «أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» ) ؛ أي: أطلب من الله تعالى أن يكون دينكم وما بعده وديعة عنده تعالى؛ وهو تعالى خير من يحفظ الودائع، وفيه نوع مشاكلة للتوديع، إذ جعل دينهم وأمانتهم من الودائع، لأن السفر يصيب الإنسان فيه المشقّة والخوف؛ فيكون ذلك سببا لإهمال بعض أمور الدين، فدعا المصطفى صلى الله عليه وسلّم لهم بالمعونة في الدين والتوفيق فيه، ولا يخلو المسافر من الاشتغال بما يحتاج فيه إلى نحو أخذ وعطاء وعشرة، فدعا لهم بحفظ الأمانة؛ وتجنّب الخيانة، ثم بحسن الاختتام، ليكون مأمون العاقبة عما سواه في الدنيا والدين، فيسنّ قول هذا الذكر عند المسافر؛ وإن كان الحديث في سفر الغزاة؛ فمثله غيره من بقية الأسفار. (و) أخرج أبو داود في «الجهاد» ، والترمذي في «البيوع» ، وابن ماجه في «التجارة» : كلّهم؛ من حديث عمارة بن حديد؛ عن صخرة بن وداعة العامري الأزدي- وهو حديث حسن؛ كما في العزيزي- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا بعث) ؛ أي: إذا أراد أن يرسل (سريّة) - بفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 أو جيشا.. بعثهم من أوّل النّهار. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا قال: «أقصر الخطبة، وأقلّ الكلام، فإنّ من البيان لسحرا» ... السين وكسر الرّاء المهملتين- وهي: قطعة من الجيش من مائة إلى خمس مائة، (أو جيشا) هو العدد من الجند مما زاد على ثمان مائة إلى أربعة آلاف، فإن زاد على أربعة آلاف فهو «جحفل» ، وما زاد على ذلك يقال له «جيش جرّار» . وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال: سريّة سمّ إذا كانت فئه ... من مائة إلى انتها خمس مائه فإن تزد ف «منسر» ، فإن تزد ... على ثمان مائة «جيش» يعدّ فإن على أربعة آلاف ... زادت ف «جحفل» بلا خلاف ما زاد جيش صفه ب «الجرّار» ... دونكها عن شارح «الأذكار» (بعثهم من أوّل النّهار) ، لأنه بورك له ولأمّته في البكور. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والخطيب في «تاريخه» - بسند فيه جميع بن ثور وهو متروك؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا) على جيش؛ أو نحو بلدة (قال) فيما يوصيه: «أقصر الخطبة) - بضم الخاء- أي: التي يقدّمها المتكلم أمام كلامه على عادتهم في تقديم خطبة على مقصودهم، فليس المراد خطبة نحو الجمعة؛ كما هو جليّ، (وأقلّ الكلام، فإنّ من الكلام لسحرا» ؛ أي: نوعا تستمال به القلوب كما تستمال بالسّحر، وذلك هو السّحر الحلال. (و) أخرج البخاريّ في «غزوة تبوك» وغيرها، ومسلم في «التوبة» ، وكذا أخرجه أبو داود في «سننه» ؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد غزوة.. ورّى بغيرها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يلقى العدوّ عند زوال الشّمس. (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد غزوة ورّى) - بتشديد الراء- أي: سترها وكنّى عنها (بغيرها) ؛ أي: بغير تلك الغزوة التي أرادها. يعني يذكر لفظا يوهم السامعين التوجّه إلى ناحية؛ مع أن مراده غيرها، كما إذا أراد غزوة خيبر مثلا؛ وقال «ما أحلى ماء مكّة، وما أطيب مالها» !! موهما أنّه يريد غزو مكّة، فهذا ليس بكذب، بل إيهام غير المراد؛ لئلا يتفطّن العدوّ فيستعدّ للدفع وللحرب، والمقصود أخذ العدوّ بغتة. والتوراة: أن يذكر لفظا يحتمل معنيين: أحدهما أقرب من الآخر، فيسأل عنه وعن طريقه؛ فيفهم السامع بسبب ذلك أنّه يقصد المحلّ القريب، والمتكلّم صادق، لكن الخلل وقع في فهم السامع خاصّة. انتهى «شروح «الجامع الصغير» . ولفظ «الصحيحين» : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها حتّى كانت تلك الغزوة- يعني تبوك- غزاها في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا، وغزوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بجهته التي يريد. انتهى. وهو حديث طويل؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه. (و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» - بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يعجبه أن يلقى العدوّ) للقتال (عند زوال الشّمس) ، لأنّه وقت تفتح فيه أبواب السماء؛ كما ثبت في الحديث؛ أنّه كان يستحبّ أن يصلّي بعد نصف النهار. فقالت عائشة: أراك تستحبّ الصلاة في هذه الساعة؟! قال: «تفتح فيها أبواب السّماء، وينظر الله تبارك وتعالى بالرّحمة إلى خلقه، وهي صلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت عند القتال. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج يوم العيد في طريق.. رجع في غيره. كان يحافظ عليها آدم، وإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى» . رواه البزار؛ عن ثوبان. وهذا بخلاف الإغارة على العدو، فإنّه يندب أن يكون أوّل النهار، لأنّه وقت غفلتهم؛ كما فعل في خيبر. (و) أخرج أبو داود، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «الجهاد» وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبيّ- كلّهم؛ عن أبي موسى الأشعري- وقال ابن حجر: إنّه حديث حسن؛ كما في المناوي- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت عند القتال) ، كأن ينادي بعضهم بعضا؛ أو يفعل أحدهم فعلا له أثر فيصيح ويعرّف نفسه؛ فخرا وإعجابا، وذلك لأنّ الساكت أهيب، والصمت أرعب، ولهذا كان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يحرّض أصحابه يوم صفين ويقول: استشعروا الخشية وعنّوا بالأصوات؛ أي: احبسوها وأخفوها؛ من التعنّن: الحبس عن اللّغط ورفع الأصوات. أمّا إذا كان رفع الأصوات لغير الإعجاب!! فلا بأس به، ولذا أخبر صلى الله عليه وسلّم أنّ صوت بعض أصحابه في الحرب خير من ألف مقاتل لإرهاب الكفار، إذ قال صلى الله عليه وسلّم: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» . انتهى؛ من شروح «الجامع الصغير» . (و) أخرج الترمذي، والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح؛ كما قال العزيزي- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا خرج يوم العيد) أي: عيد الفطر؛ أو الأضحى (في طريق) لصلاته (رجع في غيره) ؛ أي: غير طريق الذهاب إلى المصلّى فيذهب في أطولهما تكثيرا للأجر، ويرجع في أقصرهما، لأن الذهاب أفضل من الرجوع؛ لتشهد له الطريقان. وفي رواية البخاري؛ عن جابر قال: كان إذا كان يوم عيد خالف الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. نكّس رأسه، ونكّس أصحابه رؤوسهم، فإذا أقلع عنه.. رفع رأسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل. وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ أنّه كان يخرج في العيدين من طريق الشّجرة، ويدخل من طريق المعرّس، وإذا دخل مكة دخل من الثنيّة العليا، ويخرج من الثنيّة السّفلى. (و) أخرج مسلم في «المناقب» ؛ عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي) ؛ أي: حامل الوحي. أسند النزول إلى الوحي!! للملابسة بين الحامل والمحمول، ويسمّى «مجازا عقليا» تارة، و «استعارة بالكناية» تارة أخرى، بمعنى أنّه شبّه الوحي برجل مثلا، ثم أضيف إلى المشبّه الإتيان الذي هو من خواصّ المشبّه به، لينتقل الذهن منه إليه. والوحي- لغة-: الكلام الخفيّ، وعرفا-: إعلام الله نبيّه الشرائع بوجه ما. (نكّس) - بشدّ الكاف- (رأسه) أي: أطرق كالمتفكّر؛ لثقل الوحي إذا نزل عليه الملك في غير صورة رجل، حتى إنّه يحصل له مزيد العرق؛ وإن كان في شدّة البرد. (ونكّس أصحابه رؤوسهم) لإدراكهم نزول الوحي عليه بسبب إطراقه رأسه. (فإذا أقلع) - أي: الوحي بمعنى حامله- أي: سرّي وكشف (عنه رفع رأسه) صلى الله عليه وسلّم. (و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، والخطيب، والبزار- بسند فيه أبو بكر الهذلي، قال فيه ابن حبان: يروي عن الأثبات أشياء موضوعة. وقال غندر: كان يكذب- وأخرجه ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- قال في العزيزي: وهو حديث ضعيف- قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل) - في رواية: حضر- (رمضان أطلق كلّ أسير) كان مأسورا عنده قبله، (وأعطى كلّ سائل) ، فإنه كان أجود ما يكون في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره، ثمّ لم يأت فراشه حتّى ينسلخ. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. تغيّر لونه، وكثرت صلاته، وابتهل في الدّعاء، وأشفق لونه؛ أي: تغيّر وصار كلون الشّفق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر رمضان. وفيه ندب العتق في رمضان، والتوسعة على الفقراء والمساكين. (و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» بإسناد حسن؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره) بكسر الميم-: إزاره، وهو كناية عن الاجتهاد في العبادة واعتزال النساء (ثمّ لم يأت فراشه) أي: غالب الليل (حتّى ينسلخ) ؛ أي: يمضي. (و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» - بسند فيه عبد الباقي بن قانع، قال الذهبي فيه: قال الدارقطني: يخطئ كثيرا. انتهى- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل) شهر (رمضان، تغيّر لونه) إلى الصفرة، أو الحمرة؛ خوفا من عدم الوفاء بحقّ العبودية فيه، وهو تعليم لأمّته، ولأنه على قدر علم المرء يعظم خوفه. (وكثرت صلاته، وابتهل) أي: اجتهد (في الدّعاء، وأشفق لونه) أخصّ مما قبله؛ لخصوص هذا بالحمرة؛ كما قال: (أي: تغيّر) لونه (وصار) في الحمرة (كلون الشّفق) الأحمر. (و) أخرج الشيخان في «الصوم» ، وأبو داود؛ والنسائي في (الصلاة) ، وابن ماجه في (الصوم) : كلّهم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر) - زاد في رواية ابن أبي شيبة- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 الأخير من رمضان.. شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مقيما.. اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا سافر.. اعتكف من العام المقبل عشرين. (الأخير من رمضان) - والمراد الليالي- (شدّ مئزره) . قال القاضي: المئزر: الإزار، ونظيره ملحف ولحاف، وشدّه كناية عن التشمير والاجتهاد، أراد به الجدّ في الطاعة، أو كناية عن اعتزال النساء وتجنّب غشيانهنّ، (وأحيا ليله) : أي: ترك النوم الذي هو أخو الموت وتعبّد معظم الليل؛ لا كله، بقرينة خبر عائشة «ما علمته قام ليلة حتّى الصباح» ، فلا ينافي ذلك ما عليه الشافعية من كراهة قيام الليل كلّه. (وأيقظ أهله) ؛ أي: زوجاته المعتكفات معه في المسجد، واللّاتي في بيوتهن إذا دخلها لحاجة؛ أي: يوقظهنّ للصلاة والعبادة، فيسنّ إيقاظ من وثق بقيامه للتهجّد. (و) أخرج الإمام أحمد- بسند حسن؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا كان مقيما اعتكف العشر الأواخر من رمضان) ؛ طلبا لليلة القدر، لأنّها محصورة فيها عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه وأرضاه. (وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين) : العشر الوسطى بدل ما فاته في السفر، والعشر الأخيرة على عادته. وفيه أنّ فائت الاعتكاف يقضى؛ أي: يشرع قضاؤه. (و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، والبزار: كلّهم من حديث زائدة بن أبي الرقاد؛ عن زياد النّميري؛ عن أنس بن مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة الجمعة.. قال: «هذه ليلة غرّاء، ويوم أزهر» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاء الشّتاء.. دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف.. خرج ليلة الجمعة. قال العزيزيّ: الظّاهر أنّ المراد ... قال النووي في «الأذكار» : إسناده ضعيف، وقال البيهقيّ: تفرّد به زياد النميري، وعنه زائدة بن أبي الرقاد، وقال البخاري: زائدة عن زياد منكر الحديث وجهّله جماعة، وجزم الذهبي في «الضعفاء» بأنه منكر الحديث؛ قاله المناوي. ولفظ الحديث- كما في «الجامع الصغير» -: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) إذا دخل رجب؛ قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان؛ وبلّغنا رمضان» . وكان (إذا كانت) ؛ أي: وجدت (ليلة الجمعة؛ قال: «هذه ليلة غرّاء) - ك «حمراء» ؛ أي: سعيدة صبيحة مضيئة- (ويوم أزهر» ) ؛ أي: يومها يوم أزهر، أي: نيّر مشرق، ولذا طلب فيه أعمال صالحة كالكهف، وكذا ليلتها، وكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلّم. (و) أخرج الخطيب في «تاريخه» في ترجمة الربيع «حاجب المنصور» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ كلاهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- وهو من رواية الربيع المذكور عن الخليفة المنصور؛ عن أبيه؛ عن جدّه. وبه عرف حال السند- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا جاء الشّتاء) ؛ أي: زمن الشتاء (دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف) ؛ أي: زمن الصيف (خرج ليلة الجمعة) ، وتمام الحديث: وإذا لبس ثوبا جديدا حمد الله وصلّى ركعتين، وكسا الخلق. (قال) المناويّ: يحتمل أنّ المراد بيت الاعتكاف، ويحتمل أنّ المراد بالبيت: الكعبة. وقال العلامة علي بن أحمد (العزيزيّ) في كتابه «السّراج المنير شرح الجامع الصغير» : (الظّاهر أنّ المراد) بالدخول والخروج في الزمنين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في الشّتاء، والخروج منها في الصّيف. (ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في) زمن (الشّتاء) للكنّ من البرد، (والخروج منها) ؛ أي: البيوت (في) زمن (الصّيف) إلى المحلّ الذي هو أعلى الدار مثلا؛ الذي يقال له «السطوح» لكونه مكشوفا، أو الخروج إلى فناء الدار المكشوف أمامها مثلا؛ كما يقع في بعض البلدان، ولذا عبّر ب «دخل» المناسب للكنّ وب «خرج» المناسب للكشف، ويكون ابتداء الخروج والدخول ليلة الجمعة، أشار إلى ذلك الحفني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 [الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة] الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سأل الله تعالى.. جعل باطن كفّيه ... الفصل الثّاني) ؛ من الباب السابع (في) ذكر (بعض أذكار) جمع ذكر؛ وهو- لغة-: كلّ مذكور. وشرعا-: قول سيق لثناء؛ أو دعاء، وقد يستعمل شرعا لكلّ قول يثاب قائله؛ قاله ابن حجر في «التحفة» . (و) في ذكر بعض (أدعية) ؛ جمع: دعاء، وهو: الطلب على سبيل التضرّع، وهو أفضل من تركه عند جمهور العلماء، وهو من أعظم العبادات. (كان يقولها) أي: هذه الأذكار والأدعية النبيّ (صلى الله عليه وسلّم في أوقات) وحالات (مخصوصة) ك: عند الكرب، وعند الخروج من بيته، وفي الصباح والمساء ... ونحو ذلك. أخرج الإمام أحمد- بسند فيه ابن لهيعة، وقال الهيثمي: رواه أحمد مرسلا بإسناد حسن، وفيه إيذان بضعف هذا المتصل المرويّ- عن السائب بن خلّاد رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سأل الله تعالى) خيرا (جعل باطن كفّيه) بالتثنية- وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 إليه، وإذا استعاذ.. جعل ظاهرهما إليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابته شدّة فدعا.. رفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه. نسخة بالإفراد- (إليه، وإذا استعاذ) من شرّ (جعل ظاهرهما إليه) ؛ لدفع ما يتصوّره من مقابلة العذاب والشرّ، فيجعل يديه كالتّرس الواقي عن المكروه، ولما فيه من التفاؤل بردّ البلاء؛ قاله المناوي. (و) أخرج أبو يعلى بإسناد حسن؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أصابته شدّة) - بالتشديد ك: عدّة- (فدعا) في الصلاة برفع الشّدّة (رفع يديه) حال الدعاء، ففيه أنّه يندب رفع اليدين حال الدعاء، إذ قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه رفع يديه حال الدّعاء في مواطن كثيرة، وعلى ذلك قول بعضهم: رفع اليدين سنّة حال الدّعا ... فدع لمن يتركه مبتدعا فخمسة وأربعون أثرا ... فيه أتت عن أحمد خير الورى فيها الضّعيف والصّحيح والحسن ... فليس من يتركه على سنن «1» قال المناوي: وحكمة الرفع: اعتياد العرب رفعهما عند الخضوع في المسألة؛ والذّلّة بين يدي المسؤل، وعند استعظام الأمر، والداعي جدير بذلك لتوجّهه بين يدي أعظم العظماء. ومن ثمّ ندب الرفع عند تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول؛ إشعارا بأنه ينبغي أن يستحضر عظمة من هو بين يديه حتى يقبل بكليّته عليه. انتهى. فكان صلى الله عليه وسلّم يرفع يديه (حتّى يرى) - بالبناء للمجهول- (بياض إبطيه) ؛ أي: لو كان بلا ثوب لرئي، أو كان ثوبه واسعا فيرى بالفعل، وذكر بعض الشافعية أنّه لم يكن بإبطيه شعر. قال في «المهمات» : وبياض الإبط كان من خواصّه صلى الله عليه وسلّم، وأما   (1) بل ذكر الحافظ السيوطي- رحمه الله تعالى- أن أصل الرفع بلغ حد التواتر، ولا القضايا التي ورد فيها بأعيانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه في الدّعاء.. لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له.. بدأ بنفسه. إبط غيره!! فأسود لما فيه من الشعر، وردّه الحافظ الزين العراقي بأن ذلك لم يثبت، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من بياض إبطه ألايكون له شعر، فإنّ الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض؛ وإن بقي فيه آثار الشعر. انتهى. (و) أخرج الترمذي في «الدعوات» وقال: صحيح غريب، لكن جزم النووي في «الأذكار» بضعف سنده. وأخرجه أيضا الحاكم: كلاهما؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدّعاء لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه) ؛ تفاؤلا بحصول المراد. قال المناوي في «شرح الجامع» : ففعل ذلك سنّة كما جرى عليه جمع شافعية؛ منهم النووي في «التحقيق» ؛ تمسّكا بعدّة أخبار هذا منها، وهي؛ وإن ضعفت أسانيدها؛ تقوّت باجتماعها، فقوله في «المجموع» «لا يندب» ؛ تبعا لابن عبد السلام، وقال: لا يفعله إلّا جاهل!! في حيّز المنع. انتهى كلام المناوي. لكن قال الحفني: هذا المسح في غير الصلاة، أمّا في الصلاة! فلا يطلب المسح أصلا. انتهى. وكأنّ فيه جمعا بين القولين. والله أعلم. (و) أخرج أصحاب السنن الثلاثة، وابن حبّان، والحاكم؛ عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه- وقال الترمذي: حسن صحيح، والحاكم: صحيح- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له) بخير (بدأ بنفسه) ؛ ثمّ ثنّى بغيره، ثم عمّم؛ اتباعا لملّة أبيه إبراهيم، فتتأكّد المحافظة على ذلك وعدم الغافلة عنه، وإن كان لا أحد أعظم من الوالدين، ولا أكبر حقّا على المؤمن منهما، ومع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل.. أصابته الدّعوة، وولده وولد ولده. وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب؛ ثبّت قلبي على دينك» ، فقيل له في ذلك؟ قال: «إنّه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله؛ فمن شاء.. أقام، ومن شاء.. أزاغ» . ذلك قدّم الدعاء للنفس عليهما في القرآن في غير موضع، فغيرهما أولى. انتهى مناوي على «الجامع» . (و) أخرج الإمام أحمد؛ عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما- قال العلقمي بجانبه علامة الصحة- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل؛ أصابته الدّعوة، و) أصابت (ولده وولد ولده) ؛ أي: ذريته؛ أي: استجيب دعاؤه للرجل وذريته من بعده، وسكت عمّا لو دعا عليه!! لأنه قد سأل الله تعالى أن يجعل دعاءه رحمة على المدعوّ عليه. (و) أخرج الترمذي- بسند فيه شهر بن حوشب؛ كما قال الهيثمي- عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب) - المراد: تقليب أعراضها وأحوالها؛ لا ذواتها- (ثبّت قلبي على دينك» ) - بكسر الدال- وهذا تعليم للأمّة، وإلّا! فقلبه ثابت ودائم له ذلك لعصمته. (فقيل له في ذلك!!) - يعني: قالت له أمّ سلمة لما رأته يكثر ذلك: إن القلوب لتتقلب؟!. (قال: «إنّه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله) يقلّبه الله كيف يشاء- (فمن شاء أقام) - قلبه على الدين الحقّ- (ومن شاء أزاغ» ) قلبه، أي: أماله إلى الدين الباطل. قال المناويّ على «الجامع» : وتمامه عند الإمام أحمد: «فنسأل الله أن لّا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأل الله أنّ يهب لنا من لدنه رحمة؛ إنّه هو الوهّاب» . انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها: «ربنا؛ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ» . قال الغزالي: إنّما كان ذلك أكثر دعائه! لاطّلاعه على عظيم صنيع الله تعالى في عجائب القلب؛ وتقلّبه، فإنّه هدف يصاب على الدوام من كلّ جانب، فإذا أصابه شيء وتأثّر؛ أصابه من جانب آخر ما يضادّه فيغيّر وصفه. وعجيب صنع الله في تقلّبه لا يهتدي إليه إلّا المراقبون بقلوبهم، والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى. وقال ابن عربي: تقليب الله القلوب هو ما خلق فيها من الهمّ بالحسن والهمّ بالسوء. فلما كان الإنسان يحسّ بترادف الخواطر المتعارضة عليه في قلبه الذي هو عبارة عن تقليب الحقّ، وهذا لا يقتدر الإنسان على دفعه؛ كان ذلك أكثر دعائه. يشير إلى سرعة التقليب من الإيمان إلى الكفر وما تحتهما فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) [الشمس] وهذا قاله للتشريع والتعليم. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال صهيب: سأل قتادة أنسا: أيّ دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلّم أكثر؟!. قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها: ربّنا) بإحسانك (آتنا في الدّنيا) حالة (حسنة) لنتوصّل بها إلى الآخرة على ما يرضيك. قال الحرالي: هي الكفاف من مطعم ومشرب وملبس ومأوى وزوجة؛ لا سرف فيها. (وفي الآخرة حسنة) من رحمتك التي تدخلنا بها جنّتك، (وقنا عذاب النّار» ) بعفوك وغفرانك. قال الطيبي: إنما كان يكثر من هذا الدعاء!! لأنه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والآخروية. وبيان ذلك: أنّه كرّر الحسنة؛ ونكّرها: تنويعا، وقد تقرّر في علم المعاني: أنّ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى، فالمطلوب في الأولى: الحسنات الدنيوية من الاستعانة والتوفيق والوسائل التي بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من خمس: من الجبن، والبخل، ... اكتساب الطاعات والمبرّات، بحيث تكون مقبولة عند الله تعالى، والمطلوب في الثانية: ما يترتّب من الثواب والرضوان في العقبى. وقوله «وقنا عذاب النّار» تتميم، أي: إن صدر منا ما يوجبها من التقصير والعصيان؛ فاعف عنا، وقنا عذاب النار. فحقّ لذلك أن يكثر من هذا الدعاء. قال قتادة: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها. انتهى. كذا قرّره المناوي على «الجامع» رحمه الله تعالى. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والنسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد) - بفتح الجيم وضمّها-: مشقّة (البلاء) - بالفتح والمد، ويجوز الكسر مع القصر- (ودرك) - بفتح الدال والراء وتسكّن-؛ وهو: الإدراك واللّحاق (الشّقاء) - بمعجمة ثم قاف-: الهلاك، ويطلق على الأمر الشاقّ المؤدّي إلى الهلاك (وسوء القضاء) ؛ أي: المقضي، والّا! فحكم الله كلّه حسن لا سوء فيه، (وشماتة الأعداء) : فرحهم ببليّة تنزل بالمعادي تنكأ القلب، أو تبلغ من النفس أشدّ مبلغ. وقد أجمع العلماء في كلّ عصر ومصر على ندب الاستعاذة من هذه الأشياء، وردّوا على من شذّ من الزهّاد؛ قاله المناوي على «الجامع» . (و) أخرج أبو داود في «الصلاة» ، والنسائي في «الاستعاذة» ، وابن ماجه في «الدعاء» - وسكت عليه أبو داود-: كلّهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتعوّذ من خمس؛ من 1- الجبن) - بضم الجيم وسكون الموحدة-؛ هو البخل بالنفس خوفا من الموت، فلا يقاتل الأعداء. (و 2- البخل) ؛ أي: منع بذل الفضل لا سيما للمحتاج، وحبّ الجمع والادّخار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وسوء العمر، وفتنة الصّدر، وعذاب القبر. وكان يتعوّذ من الجانّ، وعين الإنسان.. حتّى نزلت المعوّذتان، فأخذ بهما وترك ما سواهما. (و 3- سوء العمر) ؛ أي: عدم البركة فيه، بأن يخلّ بالواجبات ولا يصرفه في الطاعات: من بارك الله له في عمره ... أدرك في مديدة من برّه ما لم تكن تحصره العباره ... ولم تكد تلحقه الإشاره (و 4- فتنة الصّدر) - بفتح الصاد وسكون الدال المهملتين- أي: القلب، أي: الأمور القبيحة التي تكون في القلب؛ كالحقد، والكبر، والغلّ، والحسد، والعقيدة الزائغة. وهذا تعليم للأمة، وإلّا! فهو صلى الله عليه وسلّم معصوم من ذلك. (و 5- عذاب القبر» ) أي: التعذيب فيه بنحو ضرب، أو نار، أو غيرهما على ما وقع التقصير فيه من المأمورات أو المنهيّات، والقصد بذلك تعليم الأمّة كيف يتعوّذون. (و) أخرج الترمذي- وقال: حسن غريب- والنسائي، وابن ماجه، والضياء في «المختارة» ؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم (كان يتعوّذ من الجانّ) ، أي: يقول: «أعوذ بالله من الجانّ (وعين الإنسان) ، من: ناس ينوس إذا تحرّك، وذلك يشترك فيه الجنّ والإنس، وعين كلّ ناظر (حتّى نزلت المعوّذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما) ؛ أي: ممّا كان يتعوّذ به من الكلام غير القرآن، لما ثبت أنّه كان يرقي بالفاتحة، وفيهما الاستعاذة بالله، فكان يرقي بها تارة، ويرقي بالمعوّذتين أخرى؛ لما تضمّنتاه من الاستعاذة من كلّ مكروه، إذ الاستعاذة من شرّ ما خلق تعمّ كلّ شرّ يستعاذ منه في الأشباح والأرواح، والاستعاذة من شر الغاسق- وهو الليل وآفته؛ أو القمر إذا غاب- يتضمّن الاستعاذة من شرّ ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة، والاستعاذة من شرّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من موت الفجاءة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. يدعو بهذه الدّعوات: « (اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير، ... النفّاثات تتضمّن الاستعاذة من شرّ السواحر وسحرهنّ، والاستعاذة من شرّ الحاسد تتضمّن الاستعاذة من شرّ النفوس الخبيثة المؤذية. والسورة الثانية تتضمّن الاستعاذة من شرّ الإنس والجنّ. فجمعت السورتان الاستعاذة من كل شرّ، فكانتا جديرتين بالأخذ بهما وترك ما عداهما. قال ابن حجر: هذا لا يدلّ على المنع من التعوّذ بغير هاتين السورتين، بل يدلّ على الأولوية؛ لا سيما مع ثبوت التعوّذ بغيرهما. وإنما اكتفى بهما!! لما اشتملتا عليه من جوامع الكلم، والاستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلا؛ قاله المناوي على «الجامع» . (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتعوّذ من موت الفجاءة) - بالضمّ والمدّ، و [الفجأة] يفتح ويقصر: البغتة-. (وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت) ، وقد وقع ذلك، فإنه مرض في ثاني ربيع الأول؛ أو ثامنه؛ أو عاشره، ثمّ امتدّ مرضه اثني عشر يوما. (و) أخرج أبو يعلى، وابن السنّي- بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى) ؛ أي إذا دخل في الصباح والمساء (يدعو بهذه الدّعوات: «اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير) - بضم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) ؛ فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. قال: «أصبحنا على فطرة ... الفاء والمد- كذا الرواية؛ وإن صحّ القصر في لغة؛ على وزان «تمرة» أي: من الخير الذي يأتي بغتة، ويقال مثل ذلك فيما بعد؛ قاله الحفني. (وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) . هذا آخر الدعاء. قال ابن القيّم: من جرّب هذا الدعاء عرف قدر فضله، وظهر له جموم «1» نفعه، وهو يمنع وصول أثر العائن، ويدفعه بعد وصوله؛ بحسب قوة إيمان العبد القائل وقوّة نفسه واستعداده وقوّة توكّله وثبات قلبه، فإنّه سلاح والسلاح يضارب به. انتهى، ذكره المناوي؛ على «الجامع» . وأما قوله (فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» ) ، فإنّما هو بيان منه صلّى الله عليه وسلّم لوجه طلب الدعاء، فلا يقوله الداعي؛ بل يقتصر على حدّ «من فجاءة الشرّ» ، فمن قال ذلك حفظ من بغتة الشرّ إلى المساء أو الصباح. (و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ، وابن السنّي في «اليوم والليلة» -؛ وقال النووي في «الأذكار» : إسناده صحيح، وقال العراقي في «المغني» : إسناده صحيح، وقال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح-: كلهم؛ من طريق عبد الرحمن بن أبزى- بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالزاي وألف مقصورة- الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث- مختلف في صحبته- قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى؛ قال: «أصبحنا على فطرة)   (1) هكذا في الأصل، وكذا في المناوي؛ على «الجامع» !!. وهو بمعنى العموم مع الوفرة والكثرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» . - بكسر الفاء- (الإسلام) ؛ أي: دينه الحق، وقد ترد الفطرة بمعنى السّنّة. (وكلمة الإخلاص) ، هي كلمة الشهادة، (ودين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم) ، الظاهر أنّه قال [ذلك] تعليما لغيره. ويحتمل أنّه جرّد من نفسه نفسا يخاطبها. قال ابن عبد السلام في «أماليه» : و «على» في مثل هذا تدلّ على الاستقرار والتمكّن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئا تمكّن منه واستقرّ عليه، ومنه أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [5/ البقرة] . قال النووي في «الأذكار» : لعله صلى الله عليه وسلّم قال ذلك جهرا ليسمعه غيره؛ فيتعلّمه منه. انتهى مناوي على «الجامع» . (وملّة أبينا إبراهيم) الخليل (حنيفا) : مائلا إلى الدين المستقيم، (مسلما؛ وما كان من المشركين» ) . قال العلقمي في «شرح الجامع الصغير» : قال شيخنا- يعني السيوطي-: فائدة؛ وهي عزيزة النقل: فرع أوّل المساء: من الزوال. ذكره الفقهاء عند كلامهم على كراهة السّواك للصائم بعد الزوال، أما الصباح!! فقلّ من تعرّض له، وطالما فحصت عنه!! إلى أن وقفت عليه في ذيل «فصيح ثعلب» للعلّامة موفق الدين البغدادي قال: الصباح عند العرب: من نصف الليل الأخير إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول. انتهى ما نقله. قلت: ومن فوائده أنه يشرع ذكر الألفاظ الواردة في الأذكار المتعلّقة بالصباح والمساء، وهذا واضح في «الأذكار» التي فيها ذكر المساء والصباح، أمّا التي فيها ذكر اليوم والليلة!! فلا يتأتّى فيها ذلك إذ أوّل اليوم شرعا من طلوع الفجر، والليل من غروب الشمس. انتهى. وقال ابن حجر في «شرح المشكاة» - بعد كلام الموفّق-: والظاهر أنّ المراد في الأحاديث بالمساء: أوائل الليل، وبالصباح: أوائل النهار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 ......... ثم رأيتني في «شرح سيد الاستغفار» ذكرت لذلك زيادة؛ وهي قوله: ومن إطلاقه المساء على ما ذكر- أي: من غروب شمس اليوم، والصباح على ما يأتي، أي: طلوع الفجر- يؤخذ ما قرّرناه سابقا أنّ الأذكار المقيّدة بالصباح والمساء ليس المراد منها حقيقتهما من نصف الليل إلى الزوال في الأول، ومنه إلى نصف الليل في الثاني؛ كما نقل عن ثعلب! وإنما المراد بهما العرف: من أوائل النهار في الأول، وآخره في الثاني. ويؤيّده أنّ ابن أمّ مكتوم الأعمى مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يؤذّن الأذان الثاني الذي هو علامة على الفجر الصادق حتى يقال له «أصبحت ... أصبحت» . وفي الصباح ابتداؤه من هذا الوقت وما قرب منه؛ لا من نصف الليل، وشروع الأذان منه عندنا لا يدلّ على أنّه من حينئذ لا يسمّى «صباحا» . انتهى. وسبقه لذلك ابن الجزري؛ فقال: من قال «إنّ ذكر المساء يدخل بالزوال» ؛ فكيف يعمل في قوله «أسألك خير هذه اللّيلة وما بعدها» !! وهل تدخل الليلة إلّا بالغروب!؟ انتهى. وسبقه أيضا لذلك العلامة الرداد؛ وزاد بيان آخر الوقت في كلّ منهما؛ فقال في «موجبات الرحمة وعزائم المغفرة» : وقت أذكار الصباح: من طلوع الفجر إلى أن تكون الشمس من ناحية المشرق كهيئتها من ناحية المغرب عند العصر، ووقت أذكار المساء: من بعد صلاة العصر إلى المغرب إلى أن يمضي ثلث الليل أو نصفه. والله أعلم. وقال ابن حجر في «شرح المشكاة» ؛ في الكلام على حديث عثمان «ما من عبد يقول في صباح كلّ يوم ومساء كلّ ليلة ... » الخ. قال «ثمّ» في صباح ومساء، وحين يصبح وحين يمسي أنّه لو قال أثناء النهار؛ أو الليل لا تحصل له تلك الفائدة، وعظيم بركة الذكر يقتضي الحصول. انتهى. ذكر جميع ذلك الشيخ العلامة محمد بن علي بن علّان الصديقي في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى آمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابه غمّ أو كرب.. يقول: «حسبي الرّبّ من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أهمّه الأمر.. رفع رأسه إلى السّماء (و) أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب «الفرج بعد الشدة» ؛ من طريق الخليل بن مرّة الضبعي؛ عن فقيه أهل الأردن بلاغا؛ أي قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه (كان صلى الله عليه وسلّم إذا أصابه غمّ) ؛ أي: حزن، سمّي به!! لأنه يغطّي السرور. (أو كرب) أي: همّ (يقول: «حسبي الرّبّ من العباد) أي: كافيني من شرّهم- (حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي ... حسبي الله ونعم الوكيل) - أي: نعم من يفوّض له الأمر هو- (حسبي الله؛ لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» ) الذي ضمّني إليه وقرّبني منه، ووعدني بالجميل والرجوع إليه. قال الحكيم: قد جعل الله في كلّ موطن سببا وعدة لقطع ما يحدث فيه من النوائب، فمن أعرض عن السبب والعدة ضرب عنه صفحا، ومن اغتنى بالله كافيا وحسيبا وأعرض عما سواه؛ وقال «حسبي الله» عند كل موطن؛ ومن كلّ أحد كفاه الله، وكان عند ظنّه؛ إذ هو عبد تعلّق بربّه، ومن تعلّق به لم يخيّبه، وكان في تلك المواطن محفوظا، فإذا ردّد العبد هذه الكلمات بإخلاص عند الكرب نفعته نفعا عظيما، وكنّ له شفيعا إلى الله تعالى في كفايته شرّ الخلق، ورزقه من حيث لا يحتسب، وكان الله بكل خير إليه أسرع. انتهى. (و) أخرج الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أهمّه الأمر رفع رأسه إلى السّماء) ، لأنها قبلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء.. قال: «يا حيّ يا قيّوم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل به همّ أو غمّ.. قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . الدعاء؛ (وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء قال: «يا حيّ يا قيّوم» ) . أخذ منه أنه الاسم الأعظم، والراجح أنه لفظ «الله» . وعدم الاستجابة فورا! لنقص في الدعاء. و «قيّوم» من أبنية المبالغة، ومعنى القيوم: القائم بمصالح عباده. وأخذ الحليمي من الخبر أنّه يندب أن يدعو الله بأسمائه الحسنى، قال: ولا يدعوه بما لا يخلص ثناء؛ وإن كان في نفسه حقا. (و) أخرج الحاكم في «المستدرك» في «الدعاء» ؛ عن وضّاح؛ عن النضر بن إسماعيل البجلي؛ عن عبد الرحمن بن إسحاق؛ عن القاسم بن عبد الرحمن؛ عن أبيه؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- وقال الحاكم: صحيح. وردّه الذهبي؛ بأن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه!! وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة!!. انتهى. ذكره المناوي؛ على «الجامع» - قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا نزل به همّ أو غمّ؛ قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» ) : أستعين وأستنصر، يقال: أغاثه الله: أعانه ونصره، وأغاثه الله برحمته: كشف شدّته. وقد روى هذا الحديث الترمذيّ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بلفظ: إذا كربه أمر؛ قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك استغيث» . قال المناوي على «الجامع» : في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهمّ والغمّ مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمّنة لجميع صفات الكمال؛ مستلزمة لها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وكان صلّى الله عليه وسلّم يدعو عند الكرب: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض وربّ العرش الكريم» . وصفة القيّوميّة متضمّنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا قيل: إن الاسم الأعظم هو «الحي القيوم» ، والحياة التامّة تضادّ جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم همّ ولا غمّ، ونقصان الحياة يضرّ بالأفعال وينافي القيومية. فكمال القيومية بكمال الحياة، فالحيّ المطلق التامّ الحياة لا يفوته صفة كمال البتّة. والقيّوم لا يتعذّر عليه فعل ممكن البتة، فالتوسّل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضادّ الحياة ويغيّر الأفعال؛ فاستبان أن لاسم «الحيّ القيّوم» تأثيرا خاصّا في كشف الكرب وإجابة الدعاء. انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه؛ كلهم في (الدعوات) ؛ عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يدعو عند الكرب) ؛ أي: عند حلوله يقول: ( «لا إله إلّا الله العظيم) : الذي لا شيء يعظم عليه، (الحليم) : الذي يؤخّر العقوبة مع القدرة، (لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض، وربّ العرش الكريم» ) روي برفع «العظيم» و «الكريم» على أنهما نعتان ل «ربّ» ، والثابت في رواية الجمهور: الجرّ نعت العرش. قال المناوي في «شرح الجامع» : هذا دعاء جليل ينبغي الاعتناء به، والإكثار منه عند العظائم؛ فيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة الدالّة على تمام القدرة، والحلم الدالّ على العلم، إذ الجاهل لا يتصوّر منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية. قال الإمام ابن جرير: كان السلف يدعون به ويسمّونه «دعاء الكرب» ؛ وهو؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا راعه شيء.. قال: «الله.. الله ربّي لا شريك له» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أمرا.. قال: «اللهمّ؛ خرلي واختر لي» . وإن كان ذكرا! لكنه بمنزلة الدعاء، لخبر: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائل» . فائدة: قال ابن بطّال؛ عن أبي بكر الرازي: كنت بإصبهان عند أبي نعيم، وهناك شيخ يسمى «أبا بكر» عليه مدار الفتيا، فسعي به عند السلطان فسجن، فرأيت المصطفى صلى الله عليه وسلّم في المنام وجبريل عن يمينه؛ يحرّك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي المصطفى صلى الله عليه وسلّم: قل لأبي بكر يدعو ب «دعاء الكرب» الذي في «صحيح البخاري» حتى يفرّج الله عنه، فأصحبت فأخبرته، فدعا به؛ فلم يكن إلّا قليلا حتى أخرج. والمدار على صدق النية. انتهى. (و) أخرج النسائي- بسند حسن؛ كما في العزيزي، لكن قال المناوي: فيه سهل بن هاشم الشامي؛ قال في «الميزان» عن الأزدي: منكر الحديث، ثم ساق له هذا الخبر، وقال أبو داود: هو فوق الثقة لكن يخطئ في الأحاديث. انتهى عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا راعه شيء) من الرّوع: الفزع والخوف، أي: إذا أفزعه شيء؛ (قال «الله ... الله؛ ربّي لا شريك له» ) أي: لا مشارك له في ملكه، وهذا تعليم للأمّة، فيسنّ قول ذلك عند الفزع والخوف. (و) أخرج الترمذي- بسند ضعيف؛ كما قال ابن حجر والنووي- عن أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أمرا) ؛ أي: فعل أمر من الأمور؛ (قال: «اللهمّ؛ خر لي) - أي: فوّضت أمري إليك أن تختار لي ما فيه خير، وتدفع عني ما فيه شرّ- ( «واختر لي» ) . أصلح الأمرين واجعل لي الخيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل به أمر.. فوّض الأمر فيه إلى الله عزّ وجلّ، وتبرّأ من الحول والقوّة، وسأله الهدى واتّباعه، وسأله البعد عن الضّلالة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءه أمر يسرّ به.. خرّ ساجدا شكرا لله تعالى. فيه؛ أي: إذا كان الأمران خيرا فاختر لي الأكثر خيرا منهما، فالخيرات كلّها من خيرته، والصفوة من الخيرات مختاره، فلا تكرار. (و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلى الله عليه وسلّم إذا نزل به أمر) أي: هجم عليه حزن أو همّ؛ (فوّض الأمر فيه إلى الله عزّ وجلّ) ؛ أي: ردّه إليه وجعله الحاكم فيه، (وتبرّأ من الحول والقوّة) إلى حول الله وقوّته، (وسأله الهدى) إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم (واتّباعه) ، وأطلق «الهدى» !! ليتناول كلّ ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، (وسأله البعد عن الضّلالة) أي: الهلاك بعدم التوفيق للرشاد، وهذا تشريع وتعليم للأمّة ما ينفعها. (و) أخرج الترمذيّ في آخر «الجهاد» - وقال: حسن غريب؛ لا يعرف إلّا من هذا الوجه- وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم في «الصلاة» ؛ كلّهم من حديث بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أبي بكرة رضي الله تعالى عنه- قال الحاكم: وبكّار صدوق، وللخبر شواهد. وقال عبد الحق: فيه بكار؛ وليس بقويّ. وقال ابن القطّان: لكنه مشهور مستور، وقد عهد قبول المستورين. انتهى مناوي على «الجامع» . وقال العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره، - قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا جاءه) - لفظ رواية الحاكم: «إذا أتاه» - (أمر) أي: أمر عظيم كما يفيده التنكير (يسرّ به) أي: بغتة، فلا يسنّ سجود الشكر لكلّ نعمة كدوام العافية والجاه، وإلّا! لزم استغراق العمر في سجود الشكر. وقوله (خرّ ساجدا شكرا لله تعالى) ؛ أي: سقط على الفور هاويا إلى إيقاع سجدة الشكر لله تعالى؛ على ما أحدث له من السرور، فسجدة الشكر سنّة عند حدوث نعمة، وكذا عند اندفاع نقمة، والسجود أقصى حالة العبد في التواضع لربّه؛ وهو: أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته.. قال: «باسم الله، التّكلان على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . رواه أبو هريرة ... يضع مكارم وجهه بالأرض، وينكّس جوارحه. وهكذا يليق بالمؤمن كلّما زاده ربّه محبوبا ازداد له تذلّلا وافتقارا، فبه ترتبط النعمة ويجتلب المزيد لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [7/ إبراهيم] . والمصطفى صلى الله عليه وسلّم أشكر الخلق للحقّ لعظم يقينه؛ فكان يفزع إلى السجود. وفيه 1- حجّة للشافعي في ندب سجود الشكر عند حدوث سرور؛ أو دفع بلية. 2- وردّ على أبي حنيفة في عدم ندبه. وقوله «لو ألزم العبد بالسجود لكلّ نعمة متجدّدة كان عليه ألايغافل عن السجود طرفة عين، فإنّ أعظم النعم نعمة الحياة؛ وهي متجدّدة بتجدّد الأنفاس» . وردّ بأن المراد سرور يحصل عند هجوم نعمة ينتظر أن يفجأ بها مما يندر وقوعه، ومن ثمّ قيّدها في الحديث بالمجيء على الاستعارة؛ قاله المناوي على «الجامع» رحمه الله تعالى. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته؛ قال: «باسم الله) أي: أعتصم، زاد الغزالي في «الإحياء» : «الرّحمن الرّحيم» ، (التّكلان) - بضم التاء: الاعتماد- (على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ) ؛ أي: لا تحوّل لنا عن المعصية، ولا قوّة لنا على الطاعة إلّا بتيسير الله وإقداره. قال الحفني على «الجامع» : وقد ورد أنّ الشخص إذا خرج إلى السفر؛ فقال أوّل توجّهه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم توكّلت على الله» ، وقرأ آية الكرسي؛ كان محفوظا في سفره إلى أن يرجع إلى محلّه. وإنّما أمر الشخص بقول ذلك عند الخروج من منزله!! لأن مخالطة الناس ربّما توقع فيما لا يليق. انتهى. وهذا الحديث (رواه أبو هريرة) : عبد الرحمن بن صخر اليماني الدّوسي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 رضي الله تعالى عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته.. قال: «باسم الله، توكّلت على الله، اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ أو نضلّ، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا» . روته أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها. (رضي الله تعالى عنه) فيما أخرجه ابن ماجه وابن السّنّي، والحاكم- وفي العزيزي: قال الشيخ: حديث حسن، لكن قال المناوي؛ عن العراقي: فيه ضعف انتهى-: (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته؛ قال: «باسم الله، توكّلت على الله) ؛ أي: اعتمدت عليه في جميع أموري، (اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ) بفتح النون وكسر الزاي-، من الزّلل؛ أي: من أن نقع في معصية. (أو نضلّ) - بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- عن الحق؛ من الضلالة. (أو نظلم) - بفتح النون وكسر اللام- (أو نظلم) - بضم النون وفتح اللام- (أو نجهل) - بفتح النون- على أحد. (أو يجهل) - بضم الياء- (علينا» ) أي: أن نفعل بغيرنا ما يضرّه؛ أو يفعل بنا غيرنا ما يضرّنا. والقصد من ذلك تعليم الأمة، وإلّا! فهو صلى الله عليه وسلّم معصوم من الظلم والجهل وغيرهما. (روته أمّ سلمة) زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، وتقدّمت ترجمتها (رضي الله تعالى عنها) ؛ فيما أخرجه عنها الترمذي في «الدعوات» ، وابن السنّي، والنسائي في «الاستعاذة» لكن ليس في لفظه «توكّلت على الله» !!. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال في «رياض الصالحين» : حديث صحيح؛ رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. انتهى. (و) أخرج أبو داود بإسناد جيّد- كما في «الأذكار» ، وفي العزيزي: إنه حديث حسن- عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم؛ من الشّيطان الرّجيم» . وقال: «إذا قال ذلك.. حفظ منه سائر اليوم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. يقول: «باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي ... (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد؛ قال) حال شروعه في دخوله: ( «أعوذ بالله العظيم) أي: ألوذ بملاذه، وألجأ إليه مستجيرا به، (وبوجهه الكريم) أي: ذاته، إذ الوجه يعبّر به: 1- عن الذات بشهادة كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [88/ القصص] أي: ذاته، و 2- عن الجهة؛ كما في قوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [115/ البقرة] أي: جهته؛ قاله المناوي على «الجامع» . (وسلطانه القديم) على جميع الخلائق قهرا وغلبة (من الشّيطان الرّجيم» ) أي: المرجوم. (وقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم: ( «إذا قال) ؛ أي: ابن آدم (ذلك؛ حفظ منه) ؛ أي: من الشيطان؛ أي: من وسوسته (سائر اليوم» ) أي: جميع ذلك اليوم الذي يقول فيه هذا الذكر. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد؛ يقول: «باسم الله، والسّلام على رسول الله) أبرز اسمه الميمون على سبيل التجريد عند ذكره، التجاء إلى منصب الرسالة، ومنزل النبوة!! تعظيما لشأنها كأنّه غيره امتثالا لأمر الله في قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [56/ الأحزاب] . قاله المناوي؛ على «الجامع» . (اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» ، وإذا خرج؛ قال: «باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 أبواب فضلك» . روته فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنها. أبواب فضلك» ) . خصّ الرحمة بالدخول؛ والفضل بالخروج!! لأنّ من دخل اشتغل بما يزلفه إلى الله تعالى وثوابه؛ فناسب ذكر الرحمة، فإذا خرج انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله من الرزق؛ فناسب ذكر الفضل. وطلب المغفرة في هذا الخبر تشريع لأمّته، لأن الإنسان محلّ التقصير في سائر الأحيان؛ قاله المناوي، على «الجامع» . (روته) البضعة الطاهرة (فاطمة) بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأشبه الناس به، سيّدة نساء العالمين، ولقبها (الزّهراء) !! قيل: لأنها لم تحض أصلا، ولقبها «البتول» !! لتبتّلها؛ أي: انقطاعها إلى الله عز وجل. ولدت قبل النبوة بخمس سنين، روى الدولابي: أن العبّاس دخل على عليّ وفاطمة وهما يتراجعان في مواليدهما؛ فقال العباس: ولدت يا علي قبل بناء الكعبة بسنوات، وولدت فاطمة وهي تبنى. وقيل: ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلّم. وتزوّجها في السنة الثانية من الهجرة. قيل: ولها يومئذ خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، ولعليّ يومئذ إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر. وكان تزوّجها في صفر، وبنى بها في ذي الحجة بعد وقعة أحد، ولم يتزوّج عليّ غيرها حتّى ماتت؛ كأمّها خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلّم. واشتهر أن عليّا أصدقها درعه التي منحه النبي صلى الله عليه وسلّم؛ وتسمّى «الحطميّة» وقيل: أصدقها أربعمائة مثقال فضة، واشتهر في كتب الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم لم يزد في صداق بناته وأزواجه على خمسمائة درهم. وحضر عقدها جماعة من النبلاء، ودعا صلى الله عليه وسلّم برطب وزبيب؛ وقال «انتهبوا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ......... وروي أنّه خطبها قبل علي جمع من الصحابة، وأنّ تزويجها من عليّ كان بوحي من الله، ودعا لهما النبي صلى الله عليه وسلّم حين اجتمعا؛ وقال: «جمع الله شملكما، وسعد جدّكما وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيّبا» . قال جابر: رضي الله عنهما؛ فوالله؛ لقد أخرج الله منهما الكثير الطيّب.. ولدت الحسن والحسين، قيل: ومحسن، وأم كلثوم، وزينب. وتوفيت رضي الله تعالى عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلّم بستّة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر. وقيل غير ذلك؛ ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة- 11- إحدى عشرة. واختلف في سنّها يوم وفاتها!! فقيل: ثمان وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون. وقطع الحافظ ابن حجر أنّها ماتت؛ وقد جاوزت العشرين بقليل، والخلاف في عمرها بحسب الخلاف في ميلادها. وغسّلها عليّ وأسماء بنت عميس، وكانت أوصتها بذلك؛ وقالت لها: يا أسماء! إني أستقبح أن يطرح على المرأة ثوب وتحمل على النعش كالرجل، فوصفت لها أسماء فعل أهل الحبشة، ودعت بجرائد رطبة فأرتها ذلك، فأوصتها أن يعمل لها مثله، فهي أوّل من غطّي نعشه. ودفنت ليلا، وتولّى ذلك عليّ والعبّاس وأخفي قبرها. وذكر ابن عبد البرّ: أن الحسن دفن إلى جنب أمّه. انتهى. وقبر الحسن معروف في قبّة واحدة هو والعبّاس بن عبد المطلب. ويؤيّد ذلك ما ذكره المحبّ الطبري في «تاريخ المدينة المنورة» : أنّ الشيخ أبا العباس المرسيّ كان يسلّم على فاطمة أمام قبّة العباس، ويذكر أنّه كشف له عن قبرها ثمّ. ذكر هذه الترجمة الشيخ محمد بن علي بن علّان الصدّيقي المكي في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى، و (رضي الله تعالى عنها) فيما أخرجه عنها الإمام أحمد، وابن ماجه، والطبراني. قال مغلطاي: حديث فاطمة هذا حسن، لكن إسناده ليس بمتّصل. انتهى؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. قال: «باسم الله، اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» . رواه أنس رضي الله تعالى عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل السّوق.. قال: «باسم الله، اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق وخير ما فيها، نقله المناوي؛ على «الجامع» رحمه الله تعالى. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد؛ قال: «باسم الله، الّلهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» ) ، أورده المصنف عقب ما تقدّم!! إشعارا بندب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم وأزواجه كما يشرع السلام عليه أيضا عند دخول المسجد، لأنّه محلّ الذكر. (رواه أنس رضي الله تعالى عنه) فيما أخرجه ابن السّنّي في كتاب «عمل اليوم والليلة» بدون ذكر الأزواج. قال السخاوي: وفي سنده من لا يعرف. قال النووي في «الأذكار» : وروينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد والخروج منه، من رواية ابن عمر أيضا. انتهى كلامه. (و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» في «باب الدعاء» بإسناد ضعيف: كلاهما؛ عن بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل السّوق) أي: أراد دخولها؛ (قال) عند الأخذ فيه: « (باسم الله) - ادخلها- (اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق) بضمّ المهملة، مؤنّث سماعي وقد يذكّر؛ كما أشار إليه الكرماني. سمّيت بذلك!! لسوق البضائع إليها، وقيل: لقيام الناس فيها على سوقهم؛ جمع ساق، وقيل: لتصاكك السّوق فيها من الازدحام-. (وخير ما فيها) - مما ينتفع به من الأمور الدنيوية، ويستعان به على القيام بوظائف العبودية، وللوسائل حكم المقاصد-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الخلاء ... (وأعوذ بك من شرّها) في ذاتها؛ أو مكانها لكونها مكان إبليس. (وشرّ ما فيها) أي: من شر ما خلق ووقع فيها، وسيق إليها مما يشغل عن ذكر الربّ سبحانه، أو مخالفة من غشّ، أو خيانة، أو ارتكاب عقد فاسد ... وأمثال ذلك. وقد ورد أن الشيطان يدخل السوق مع أول داخل؛ ويخرج مع آخر خارج. (اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة) ؛ أي: حلفا كاذبا، (أو صفقة خاسرة» ) ، أي: عقدا فيه خسارة دنيوية؛ أو دينية، وذكرهما تخصيص بعد تعميم، لكونهما أهمّ، ووقوعهما أغلب. قال المناوي على «الجامع» : وإنما سأل خيرها واستعاذ من شرّها!! لاستيلاء الغافلة على قلوب أهلها حتّى اتخذوا الأيمان الكاذبة شعارا، والخديعة بين المتبايعين دثارا، فأتى بهذه الكلمات ليخرج من حال الغافلة. فيندب لمن دخل السوق أن يحافظ على قول هذا الذكر، فإذا نطق الرجل بهذه الكلمات؛ كان فيه تحرّزا عمّا يكون من أهل الغافلة فيها، وهذا مؤذن بمشروعية دخول السوق، أي: إذا لم يكن فيه حال الدخول معصية كالصّاغة، وإلّا! حرم. انتهى. (و) أخرج ابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» ؛ من طريق إسماعيل بن رافع؛ عن دريد بن نافع؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما- وقال المنذري: هذا حديث ضعيف. وقال العراقي: إسماعيل مختلف فيه، ورواية دريد بن نافع عن ابن عمر منقطعة، وفي العزيزي: إنّ هذا الحديث حسن لغيره قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل) أي: أراد أن يدخل (الخلاء) أصله المحلّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس، الخبيث المخبث، الشّيطان الرّجيم» . وإذا خرج.. قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته، وأبقى فيّ قوّته، وأذهب عنّي أذاه» . الذي لا أحد به، ويطلق على المعدّ لقضاء الحاجة، ويكنّى به عن إخراج الفضلة المعهودة، قال الوليّ العراقيّ: والأوّلان حقيقيان، والثالث مجازي. قال: فيحتمل أن المراد في الحديث الأول؛ ويوافقه أن الإتيان بهذا الذكر لا يختصّ بالبنيان عند الفقهاء. وأن المراد الثاني؛ ويوافقه لفظ «الدخول» . انتهى. نقله المناوي على «الجامع» . (قال) عند شروعه في الدخول: ( «الّلهمّ؛ إنّي أعوذ) أي: ألوذ وألتجئ (بك من الرّجس النّجس) - قال العلقمي: بكسر الراء والنون وسكون الجيم فيهما، لأنه من باب الإتباع؛ وهو أنواع. فمنه: إتباع حركة فاء كلمة حركة فاء أخرى، لكونها قرنت معها. وسكون عين كلمة لسكون عين كلمة أخرى، أو حركتها كذلك. انتهى؛ نقله العزيزي-. (الخبيث) في نفسه (المخبث) لغيره- بضمّ الميم فسكون الخاء المعجمة؛ فكسر الموحدة- أي: الذي يوقع الناس في الخبائث والنجاسات الحسيّة والمعنوية؛ أي: يفرح بوقوعهم فيها (الشّيطان الرّجيم» ) ؛ أي: المرجوم. (وإذا خرج؛ قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته) - أي: المأكول والمشروب- (وأبقى فيّ) - بتشديد الياء- (قوّته، وأذهب عنّي أذاه» ) بإذهاب فضلته. وخصّ هذا الدعاء بالخارج من الخلاء!! للتوبة من تقصيره في شكر النعمتين المنعم على العبد بهما، وهما: 1- ما أطعمه ثم هضمه ثم سهّل خروج الأذى منه. و 2- أبقى فيه قوّة ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الجبّانة.. يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانية، والأبدان البالية، والعظام النّخرة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بالله مؤمنة، اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا منك وسلاما منّا» . (و) أخرج ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل الجبّانة) - بالجيم والموحدة المشدّدة المفتوحتين-: محلّ الدفن. سمّي به!! لأنه يجبن ويفزع عند رؤيته، ويذكر الحلول فيه. وقال ابن الأثير: الجبّانة الصحراء، وتسمّى بها المقابر!! لأنها تكون في الصحراء؛ تسمية للشيء باسم موضعه. ذكره المناوي؛ على «الجامع» . (يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانيّة) ؛ أي: الفاني أجسادها، إذ الأرواح لا تفنى، ولذا أتى بالجملة بعدها مفسّرة لذلك، أعني قوله: (والأبدان البالية) ؛ أي: في غير نحو الشهداء ممن لا تبلى أجسادهم؛ المنظومة في قول بعضهم: لا تأكل الأرض جسما للنّبيّ ولا ... لعالم وشهيد قتل معترك ولا لقارئ قرآن ومحتسب ... أذانه لإله مجري الفلك وزيد من صار صدّيقا كذلك من ... غدا محبّا لأجل الواحد الملك ومن يموت بطعن والرّباط ومن ... كثير ذكر وهذا أعظم النّسك (والعظام النّخرة) : المتفتّتة، تقول: نخر العظم نخرا من باب «تعب» : بلي وتفتّت؛ فهو نخر وناخر (الّتي خرجت) - صفة للأرواح- (من الدّنيا؛ وهي بالله) ؛ لا بغيره كما يؤذن به تقديم الجارّ والمجرور على قوله (مؤمنة) أي: مصدّقة موقنة. (اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا) - بفتح الراء-؛ أي سعة واستراحة ورحمة (منك وسلاما منّا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 قوله: (الأرواح الفانية) أي: الفانية أجسادها. قال المناوي على «الجامع» : أي دعاء مقبولا، وأخذ ابن تيمية من مخاطبته للموتى أنّهم يسمعون، إذ لا يخاطب من لا يسمع، ولا يلزم منه أن يكون السمع دائما للميت، بل قد يسمع في حال؛ دون حال، كما يعرض للحيّ، فإنّه قد لا يسمع الخطاب لعارض، وهذا السمع سمع إدراك لا يترتّب عليه جزاء؛ ولا هو السمع المنفيّ في قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [80/ النمل] ، إذ المراد به سمع قبول وامتثال أمر، ولذلك قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: سماع موتى كلام الخلق قاطبة ... جاءت به عندنا الآثار في الكتب وآية النّفي معناها سماع هدى ... لا يهتدون ولا يصغون للأدب قال الحفني: وفي رواية: «إنّ من دخل الجبّانة؛ فقال (السّلام عليكم ورحمة الله دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، الّلهمّ ربّ هذه الأرواح الفانية، والأجساد البالية، والعظام النّخرة، والجلود الممزّقة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بك مؤمنة؛ أنزل عليها رحمة من عندك وسلاما منّي) غفر له بعدد من مات من لدن خلق آدم إلى أن تقوم السّاعة» . قال شيخنا: وهذا الغفران حاصل أيضا برواية المتن. انتهى كلام الحفني. وقال المناوي على «الجامع» : جاء في كثير من الروايات أنّه كان إذا وقف على القبور؛ قال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . قال البطليوسي: وهنا مما استعملت فيه «إن» مكان «إذا» ، فإنّ كلّا منهما يستعمل مكان الآخر. انتهى. (قوله) في الحديث ( «الأرواح الفانية» ؛ أي: الفانية أجسادها) ، إذ الأرواح لا تفنى كما تقدّم، بل هي من الثمانية المستثناة في قول بعضهم: ثمانية حكم البقاء يعمّها ... من الهلك والباقون في حيّز العدم هي العرش والكرسيّ نار وجنّة ... وعجب وأرواح كذا الّلوح والقلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 و (الرّوح) : السّعة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ بالمقابر.. قال: «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون» . (والرّوح) - بفتح الراء-؛ في قوله «روحا منك» المراد به: (السّعة) والاستراحة. (و) أخرج ابن السنّي- بإسناد ضعيف؛ كما قال الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا مرّ بالمقابر) أي: مقابر المسلمين؛ (قال: «السّلام عليكم أهل الدّيار) - بحذف حرف النداء، وسمّيت القبور «ديارا» !! تشبيها لها بديار الأحياء في الدنيا، لاجتماع الموتى فيها وإقامتهم بها- (من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون» ) أي: لا حقون بكم في الوفاة، وقيّد المشيئة!! للتبرّك والتفويض إلى الله تعالى. قال الخطّابي: وفيه أنّ السلام على الموتى كهو على الأحياء، خلاف ما كانت الجاهلية عليه. قال المناوي على «الجامع» : وقد ورد بمعنى هذا الحديث في «مسلم» ؛ فقال: كان يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» . وفي خبر الترمذي: كان إذا مرّ بقبور المدينة؛ قال: «السّلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» . انتهى. (و) أخرج أبو داود وسكت عليه، - وأقرّه المنذري، وفي العزيزي: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت.. وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التّثبيت؛ فإنّه الآن يسأل» . إسناده حسن. انتهى- وكذا رواه الحاكم والبزّار: كلّهم؛ عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت) أي: المسلم. قال الطيبيّ: والتعريف للجنس، وهو قريب من النّكرات. (وقف عليه) أي: على قبره هو وأصحابه صفوفا؛ (فقال: «استغفروا لأخيكم) - في الإسلام- (وسلوا له التّثبيت) - أي: اطلبوا له من الله تعالى أن يثبّت لسانه وجنانه لجواب الملكين- (فإنّه الآن يسأل» ) - بضمّ أوّله-؛ أي: يسأله الملكان: منكر ونكير، فهو أحوج ما كان إلى الدعاء والاستغفار، وذلك لكمال رحمته صلى الله عليه وسلّم بأمّته، ونظره إلى الإحسان إلى ميتهم ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده. قال الحكيم الترمذي: الوقوف على القبر وسؤال التثبيت للميت المؤمن في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة، لأنّ الصلاة بجماعة المؤمنين كالعسكر له اجتمعوا بباب الملك يشفعون له، والوقوف على القبر بسؤال التثبيت مدد العسكر، وتلك ساعة شغل المؤمن، لأنّه يستقبله هول المطلع والسؤال وفتنته، فيأتيه منكر ونكير؛ وخلقهما لا يشبه خلق الآدميين، ولا الملائكة، ولا الطير، ولا البهائم، ولا الهوام، بل خلق بديع، وليس في خلقهما أنس للناظرين!! جعلهما الله مكرمة للمؤمن لتثبيته ونصرته، وهتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحلّ عليه العذاب. وإنما كان مكرمة للمؤمن!! لأن العدوّ لم ينقطع طمعه بعد، فهو يتخلّل السبيل إلى أن يجيء إليه في البرزخ، ولو لم يكن للشيطان عليه سبيل هناك؛ ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالدعاء بالتثبيت!!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 ......... وقال الإمام النووي: قال الشافعي والأصحاب: يسنّ عقب دفنه أن يقرأ عنده من القرآن، فإن ختموا القرآن كلّه فهو أحسن. قال: ويندب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل البقرة وخاتمتها. وقال المظهري: فيه دليل على أنّ الدعاء نافع للميت، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن؛ كما هو العادة. لكن قال النووي: اتفق كثير من أصحابنا على ندبه!!. قال الآجرّيّ في «النصيحة» : يسنّ الوقوف بعد الدفن قليلا، والدعاء للميت مستقبل وجهه- بالثبات، فيقال «اللهمّ؛ هذا عبدك وأنت أعلم به منا، ولا نعلم منه إلّا خيرا، وقد أجلسته تسأله، اللهمّ؛ فثبّته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبّتّه في الدنيا، اللهمّ؛ ارحمه وألحقه بنبيّه، ولا تضلّنا بعده، ولا تحرمنا أجره» ) . انتهى. ذكر ذلك كلّه المناويّ رحمه الله تعالى على «الجامع» . واستدلّ الشافعيّة على ندب التلقين بعد الدفن: بما رواه الطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال: إذا أنا متّ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فقال: «إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التّراب على قبره؛ فليقم أحدكم على رأس قبره، ثمّ ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنّه يسمعه ولا يجيب، ثمّ يقول يا فلان بن فلانة فإنّه يقول: أرشدنا رحمك الله!. ولكن لا تشعرون؛ فليقل أذكر ما كنت عليه في الدّنيا من شهادة أن لّا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وأنّك رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، وبالقرآن إماما فإنّ منكرا ونكيرا يأخذ كلّ واحد منهما بيد صاحبه؛ فيقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند من لقّن حجّته!!» . فقال رجل: يا رسول الله؛ فإن لم يعرف أمّه!؟ قال: ينسبه إلى أمّه حواء: يا فلان بن حوّاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شيّع جنازة.. علا كربه، ... قال في «سبل السلام» للسيد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى: قال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح، لكن قال الهيثميّ بعد سياقه: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم! وجزم ابن القيم في «الهدي» بوضع حديث التلقين. وأما في «كتاب الروح» !! فإنه جعل حديث التلقين من أدلّة سماع الميت لكلام الأحياء، وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من غير نكير كافيا في العمل به، ولم يحكم له بالصحّة، بل قال في «كتاب الروح» : إنّه حديث ضعيف. قال السيد الصنعاني في «سبل السلام» : ويتحصّل من كلام أئمة التحقيق: أنّه حديث ضعيف، وبه جزم النووي- كما ذكره في «شرح الروض» - وقال: لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث «اسألوا الله له التّثبيت» ، ووصية عمرو بن العاصي إذ قال حين حضرته الوفاة: فإذا دفنتموني فشنّوا علي التراب شنّا، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي. رواه مسلم. لكن في «سبل السلام» : إن قصة عمرو بن العاصي وحديث «اسألوا له التّثبيت» لا شهادة فيهما على التلقين. قال في «شرح الأذكار» للشيخ محمد بن علّان الصدّيقي المكي رحمه الله تعالى: وقد ألّف الحافظ السخاوي جزآ في التلقين نقل فيه عن أئمة من أئمة المذاهب الأربعة استحبابه؛ وأطال في ذلك، وتكلّم فيه على حديث التلقين وشواهده؛ وبلغ فيه بضعة عشر شاهدا. والله أعلم. (و) أخرج الحاكم في كتاب «الكنى والألقاب» ؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا شيّع جنازة علا كربه) - بفتح الكاف وسكون الراء بعدهما موحدة؛ هو ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه. ويحزنه- (وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه) . تفكّرا في أهوال الموت وما بعده؛ من القبر والظلمة وأحوال القيامة، وما إليه المصير. ولعل مستند الراوي في ذلك إخباره صلى الله عليه وسلّم، وإلّا! فهو أمر خفيّ لا يطّلع عليه. وقد أخرج هذا الحديث الطبراني في «الكبير» بسند فيه ابن لهيعة- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- بلفظ: كان إذا شهد جنازة رئيت عليه كابة، وأكثر حديث النفس. وأخرجه أيضا ابن المبارك وابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عبد العزيز بن أبي رواد مرسلا بلفظ: كان إذا شهد جنازة أكثر الصّمات وأكثر حديث نفسه. قال المناوي في «شرح الجامع» : قال في «فتح القدير» : ويكره لمشيّع الجنازة رفع الصوت بالذكر والقراءة، ويذكر في نفسه. انتهى. وقال النووي في «الأذكار» : يستحبّ للماشي مع الجنازة أن يكون مشتغلا بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه الميت، وما يكون مصيره، وحاصل ما كان فيه، وأنّ هذا آخر الدنيا، ومصير أهلها، وليحذر كلّ الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإنّ هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغافلة واللهو، والاشتغال بالحديث الفارغ، فإنّ الكلام بما لا فائدة فيه منهيّ عنه في جميع الأحوال؛ فكيف في هذا الحال!! واعلم أنّ الصواب والمختار ما كان عليه السّلف رضي الله عنهم من السكوت في حال السّير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك. قال ابن علّان في «شرح الأذكار» : لأن الصحابة كرهوا ذلك حينئذ. رواه البيهقي، وكره الحسن وغيره «استغفروا لأخيكم» ، ومن ثمّ قال ابن عمر لقائله: لا غفر الله لك. لكن رأيت السيد طاهر الأهدل نقل عن جدّه السيد حسين بن عبد الرحمن الأهدل ما لفظه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وكان صلّى الله عليه وسلّم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز. اعلم أنّه؛ وإن كانت السّنّة السكوت؛ فقد اعتاد الناس كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم ورفع أصواتهم بذلك، فلا ينبغي أن ينهوا عن ذلك؛ ويقال إنها بدعة مكروهة، فإنّ المكروه ما ورد فيه نهي مقصود، ولأن دواعيهم لا تتوفّر على السكوت، والفكر في أمر الموت، بل يفيضون في حديث الدنيا بأهلها فيقعون في محذور أعظم من الذي يحاوله الناهي، وقد قالوا: إنّ الناهي يترك النهي عن المنكر إذا لزم عليه الوقوع في منكر أقوى منه. انتهى. ونقله ابن زياد في «فتاويه» ؛ وقال بعد نقله: وقد جرت العادة في بلدنا «زبيد» بالجهر بالذكر أمام الجنازة بمحضر من العلماء والفقهاء والصلحاء، وقد عمّت البلوى بما شاهدناه من اشتغال غالب المشيّعين بالحديث الدنيوي، وربّما أدّاهم ذلك إلى الغيبة أو غيرها من الكلام المحرّم. فالذي أختاره أنّ شغل أسماعهم بالذكر المؤدّي إلى ترك الكلام وتقليله أولى من استرسالهم في الكلام الدنيوي؛ ارتكابا لأخفّ المفسدتين، كما هو القاعدة الشرعية، وسواء الذكر والتهليل وغيرهما من أنواع الذكر. والله اعلم. انتهى كلام «شرح الأذكار» . (و) في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز ابن سعد في «الطبقات» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز) . وقد أخرج الطبراني والبيهقي في «سننه» ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما: «ليس للنّساء في اتّباع الجنائز أجر» . وأخرج الطبراني في «الكبير» ، والبزّار؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «ليس للنّساء في الجنازة نصيب» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عزّى.. قال: «يرحمه الله ويؤجركم» . وفي «الصحيحين» ؛ عن أمّ عطيّة رضي الله تعالى عنها: نهينا عن اتباع الجنائز؛ ولم يعزم علينا. أي: نهيا غير محتّم، فهو نهي تنزيه يفيد الكراهة في حقّهنّ فقط. وأما ما رواه ابن ماجه وغيره مما يدلّ على التحريم!! فضعيف، ولو صحّ، حمل على ما يتضمّن حراما. أمّا اتباع الجنازة للرجال إلى أن تدفن!! فسنّة متأكّدة، لخبر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز أبي نعيم في «الحلية» : (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا عزّى) التعزية معناها- لغة-: التصبير لمن أصيب بما يعزّ عليه. وقد يطلق على الصبر على المكروه. وشرعا-: الحمل على الصبر بوعد الأجر والتذكير بأن الأمور جميعها مرجعها لله تعالى، وأنّ له ما أخذ وما أعطى، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت المسلم بالمغفرة ... ونحو ذلك. وهي مستحبّة على سبيل التأكيد، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة في قوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] . وثبت في «الصحيحين» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» . وروى الترمذي والبيهقي في «سننه الكبرى» ؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من عزّى مصابا فله مثل أجره» . وإسناده ضعيف، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا عزّى (قال: «يرحمه الله) - أي: يرحم الله الميت- (ويؤجركم» ) معاشر الأقارب، ويدخل وقت التعزية من حين يموت، والتعزية بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه. وتحصل التعزية بأيّ لفظ. واستحبّ الشافعية أن يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا هنّأ.. قال: «بارك الله لكم، وبارك عليكم» . 1- في تعزية المسلم بالمسلم «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميّتك» . و2- في المسلم بالكافر «أعظم الله أجرك وأحسن عزاك» . و3- في الكافر بالمسلم «أحسن الله عزاءك وغفر لميّتك» . و4- في الكافر بالكافر «أخلف الله عليك» . وأحسن ما يعزّى به ما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما في حديث بنت النبي صلى الله عليه وسلّم التي أرسلت تدعوه وتخبره أنّ ابنا لها في الموت فقال للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أنّ لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ... » وذكر تمام الحديث؛ قاله النووي رحمه الله تعالى. (و) في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز ابن منيع؛ (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا هنّأ) - بالتشديد والهمزة آخره- والتهنئة: الدعاء بالهنا لمن فاز بخير ديني؛ أو دنيوي لا يضرّه في دينه؛ قاله في «شرح الأذكار» . (قال) في تهنئته ( «بارك الله لكم) - أي: كثّر لكم النموّ والإنعام والأمن من كلّ مؤذ في هذا الأمر المهم الذي يحتاج إلى الإمداد- (وبارك عليكم» ) أعاد العامل!! لزيادة الابتهال. قال الكرماني في أواخر «كتاب الدعوات» ؛ من «شرح البخاري» : أراد بقوله «بارك الله لك» اختصاص البركة، وبقوله «عليك» استعلاء عليه. انتهى. وهذا الذكر ورد الدعاء به للمتزوّج، فقد قال صلى الله عليه وسلّم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين أخبره أنّه تزوّج: «بارك الله لك وبارك عليك» أخرجه الشيخان، والترمذي، والنسائي عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل على مريض يعوده.. قال: «لا بأس، طهور إن شاء الله تعالى» . قال النووي: وروّينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفّأ الإنسان إذا تزوّج، قال: «بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال المناوي: وأخرج النسائي، وابن ماجه؛ عن عقيل بن أبي طالب أنّه تزوّج بامرأة من بني جشم، وقالوا «بالرفاء والبنين» ؛ فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «بارك الله لهم وبارك عليهم» . وأخرج الحارث بن أبي أسامة، والطبراني في «الكبير» ؛ عن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إذا تزوّج أحدكم؛ فليقل له «بارك الله لك وبارك عليك» . قال المناوي على «الجامع» : وكانت عادة العرب إذا تزوّج أحدهم، قالوا له «بالرفاء والبنين» فنهى عن ذلك وأبدله بالدعاء المذكور. قال النووي: ويكره أن يقال «بالرفاء والبنين» لهذا الحديث. انتهى. وقد ألّف الحافظ السيوطي في هذا المعنى جزآ سمّاه «حصول الأماني بأصول التهاني» ، وأورد فيه أحاديث وأثارا في التهنئة بأحوال عالية وأزمنة فاضلة وأعمال كاملة وحوادث مسفرة. (وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده، قال: «لا بأس) - أي: لا ضرر ولا مشقّة عليك هو- (طهور) - بفتح الطاء؛ أي مرضك مطهّر لك من ذنوبك- (إن شاء الله تعالى» ) . وذلك يدلّ على أن «طهور» دعاء لا خبر فيه. وفيه أنّه لا نقص على الإمام في عيادة بعض رعيّته؛ ولو أعرابيا جاهلا جافيا، ولا نقص على العالم في عيادة الجاهل ليعلّمه ويذكّره ما ينفعه، ويأمره بالصبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم.. قال: «اللهمّ؛ صلّ على آل فلان» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. قال: ... ويسلّيه ... إلى غير ذلك مما يجبر خاطره وخاطر أهله. وهذا الحديث أخرجه البخاري في «الطب» وغيره؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلّم على أعرابي يعوده؛ فقال: «لا بأس، طهور» . فقال الأعرابي: كلّا؛ بل هي حمّى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فنعم؛ إذن» . (و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ كلهم في «الزكاة» ؛ عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم) أي: بزكاة أموالهم؛ (قال) امتثالا لقول ربه له وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [103/ التوبة] : ( «اللهمّ؛ صلّ على آل فلان» ) كناية عمن ينسبون إليه، أي: زكّ أموالهم التي بذلوا زكاتها، واجعلها لهم طهورا، واخلف عليهم ما أخرجوه منها، واعطف عليهم بالرحمة، واغفر لهم؛ إنّك أنت الغفور الرحيم. وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام؛ إذ يكره تنزيها إفراد الصلاة على غير نبي؛ أو ملك، لأنّه صار شعارا لهم إذا ذكروا، فلا يقال لغيرهم؛ وإن كان معناه صحيحا. وتمام الحديث عن ابن أبي أوفى؛ قال: فأتاه أبي بصدقته؛ فقال: «اللهمّ؛ صلّ على آل أبي أوفى» . (و) أخرج الإمام أحمد، والبزّار بسند رجاله ثقات؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا) لغزو ... أو نحوه (قال) عند خروجه له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 «اللهمّ؛ بك أصول، وبك أحول، وبك أسير» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا.. قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قفل من غزو، أو حجّ، أو عمرة ... ( «اللهمّ؛ بك أصول) - أي: أسطو على العدو وأحمل عليه- (وبك أحول) أي: أتحوّل عن المعصية، أو أتحوّل وأنتقل عن مكاني؛ أي ذهابي إلى العدو إنما هو بقدرتك- (وبك أسير» ) إلى العدو فانصرني عليه. (و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود في «الجهاد» ، والترمذي، وابن ماجه في «الدعوات» ، وابن حبان، والضياء المقدسي في «المختارة» بأسانيد صحيحة؛ كلّهم عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا غزا) ؛ أي: خرج للغزو (قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي) - أي: معتمدي في جميع أموري، لا سيما في الحرب، فأنا أتقوّى بك كما يتقوّى الشخص بعضده- (وأنت نصيري) ؛- أي: كثير النصر على أعدائي. (بك أحول) - بحاء مهملة، من حال يحول، بمعنى: احتال، والمراد: كيد العدو- (وبك أصول) - بصاد مهملة؛ أي: أقهر. قال القاضي: الصّول: الحمل على العدو، ومنه الصائل- (وبك أقاتل» ) العدو. (و) أخرج الإمام مالك في «الموطأ» ، والإمام أحمد، والشيخان في «الحج» ، وأبو داود، والترمذي في «الجهاد» ؛ كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا قفل) - بقاف ثم فاء- أي: رجع وزنا ومعنى، ومنه القافلة؛ أي: الراجعة (من غزو؛ أو حجّ؛ أو عمرة) . قال الحافظ في «الفتح» : ظاهره اختصاص الذكر الآتي بهذه الأمور الثلاثة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 يكبّر على كلّ شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ... وليس الحكم كذلك عند الجمهور، بل يشرع قول ذلك في كلّ سفر إذا كان سفر طاعة؛ وإن كان المسافر فيه لا ثواب له، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب من غيره، وهذا التعليل متعقّب، لأن الذي يخصّه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح أو معصية من الإكثار من ذكر الله تعالى، وإنّما النزاع في خصوص استحباب هذا الذكر بسفر الطاعة، فذهب قوم إلى الاختصاص لكونه عبادة مخصوصة شرع له ذكر مخصوص، فيختصّ به كالذكر المأثور عقب الأذان والصلاة، وإنما اقتصر الصحابيّ على الثلاث!! لانحصار سفره صلى الله عليه وسلّم فيها. انتهى. (يكبّر على كلّ شرف) - بفتحتين: مكان عال- (من الأرض ثلاث تكبيرات) . هذا غاية ما كان يقول صلى الله عليه وسلّم، فالتقييد بالثلاث لبيان الواقع؛ لا للاختصاص، فإنّ الزيادة على الثلاث زيادة خير. قال الطيبيّ: وجه التكبير على الأماكن العالية هو ندب الذكر عند تجدّد الأحوال والتقلّبات، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلّم يراعي ذلك في الزمان والمكان. انتهى. وقال الحافظ العراقي: مناسبة التكبير على المرتفع: أنّ الاستعلاء محبوب للنفس، وفيه ظهور وغلبة، فينبغي للمتلبّس به أن يذكر عنده أنّ الله أكبر من كلّ شيء، ويشكر له ذلك ويستمطر منه المزيد. (ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله) بالرفع على البدلية؛ من الضمير المستتر في الخبر المقدّر، أو من اسم «لا» ؛ باعتبار محلّه قبل دخولها. (وحده) ؛ نصب على الحال، أي: لا إله منفرد إلّا هو وحده. (لا شريك له) عقلا ونقلا. أمّا الأول!! فلأن وجود إلهين محال كما تقرّر في الأصول. وأمّا الثاني!! فلقوله تعالى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [163/ البقرة] ، وذلك يقتضي أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 له الملك وله الحمد؛ وهو على كلّ شيء قدير، آئبون، ... لا شريك له، وهو تأكيد لقوله «وحده» لأن المتّصف بالوحدانية لا شريك له. (له الملك) - بضم الميم-: السلطان والقدرة وأصناف المخلوقات (وله الحمد) . زاد الطبراني في رواية: «يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير، (وهو على كلّ شيء قدير) هذه الجملة الأخيرة عدّها بعضهم من العمومات في القرآن التي لم يدخلها تخصيص؛ وهي كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185/ آل عمران] ، وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [6/ هود] وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) [الحجرات] وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) [البقرة] ونوزع في الأخيرة بتخصيصها بالممكن. قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنّه المنفرد بإيجاد كلّ موجود، وأنّه المعبود في كلّ مكان. (آئبون) بهمزة ممدودة فهمزة مكسورة. فموحّدة؛ واحده: آئب؛ وهو: الراجع. قال في «مفتاح الحصن» : بكسر الهمزة بعد الألف، وكثير من الناس يلفظ بياء بعد الألف، وهو لحن. ومعناه: راجعون. قال في «الحرز» : وكون الياء لحنا إنما هو في الوصل، أما في الوقف عليه!! فهو صحيح بلا خلاف. انتهى. ثم هو خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن راجعون، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع، فإنّه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة، وهي تلبّسهم بالعبادة المخصوصة، والاتصاف بالأوصاف المذكورة؛ أشار إليه العلقمي. وفي «الحرز» : الأولى أن يفسّر «آئبون» براجعون عن الغافلة. فإنّ الأوّاب وصف الأنبياء، ومنه قوله تعالى إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) ونعت الأولياء، ومنه فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) [الإسراء] ويقال للصلاة بين العشاءين «صلاة الأوّابين» . انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . (تائبون) قال الغزالي في «المنهاج» ؛ نقلا عن شيخه: التوبة ترك اختيار ذنب سبق عنك مثله؛ تعظيما لله تعالى. قال الأبّي: وأصلها الرجوع عما هو مذموم شرعا إلى ما هو محمود شرعا. وفي قوله «تائبون» إشارة إلى التقصير في العبادة، أو قاله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التواضع، أو تعليما لأمّته!! أو المراد أمّته. وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة، فيكون المراد ألايقع منهم ذنب؛ قاله العلقمي. (عابدون، ساجدون، لربّنا) ؛ متعلّق ب «ساجدون» ، أو بسائر الصفات على سبيل التنازع، وهو مقدّر بعد قوله (حامدون) أيضا. وقال الحفني: يقدّر مع كلّ من هذه الأوصاف «لربّنا» فيكون حذف من الأوّل لدلالة الثاني. انتهى. ومعنى «حامدون» : أي مثنون عليه بصفات الكمال، وشاكرون حوارف الإفضال. (صدق الله وعده) فيما وعد به من إظهار دينه وكون العاقبة للمتقين؛ وذلك في نحو قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [55/ النور] . قال العلقمي: وهذا في سفر الغزو، ومناسبته لسفر الحجّ والعمرة قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [27/ الفتح] . (ونصر عبده) محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الخندق، فهو يعني به نفسه، إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل. (وهزم الأحزاب) أي: الطوائف المتفرّقة الذين تجمّعوا عليه للقتال يوم الخندق. ويحتمل عموم الكفار في ذلك اليوم وغيره (وحده» ) بغير فعل أحد من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رجب.. قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان، وبلّغنا رمضان» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن.. قال مثل ما يقول؛ حتّى إذا بلغ (حيّ على الصّلاة ... حيّ على الفلاح) ... الآدميين، ولا سبب من جهتهم، فقوله «وهزم الأحزاب وحده» نفي لما سبق ذكره. وهذا معنى الحقيقة، فإنّ فعل العبد خلق لربّه، والكلّ منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد أهل الكفر بلا قتال لفعل، وفيه دلالة على التفويض إلى الله تعالى واعتقاد أنّه مالك الملك، وأنّ له الحمد ملكا واستحقاقا، وأنّ قدرته تتعلّق بكلّ شيء من الممكنات. (و) أخرج البيهقي؛ في «شعب الإيمان» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، وكذا البزّار- بإسناد ضعيف؛ كما تقدّم- كلّهم رووه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل رجب) أي: الشهر المسمّى بذلك الذي هو فرد من أفراد الأشهر الحرم؛ (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم: ( «اللهمّ) ؛ أي: يا الله (بارك لنا في رجب) - بالتنوين- (وشعبان) أي: وفّقنا للأعمال الصالحة فيهما- (وبلّغنا رمضان» ) . لم يقل «ورمضان» ؛ بل زاد «وبلّغنا» !! لبعده عن أول رجب؛ كذا قاله الحفني. قال ابن رجب: وفيه دليل على ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمنة الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإنّ المؤمن لا يزيده عمره إلّا خيرا. (و) أخرج الإمام أحمد، والبزّار، والطبراني- بسند؛ قال الهيثمي: فيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف، لكن روى عنه مالك- كلّهم رووه عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن قال مثل ما يقول) ذلك المؤذّن، (حتّى إذا بلغ) أي: ذلك المؤذّن (حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح) أي: هلمّوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن يتشهّد.. قال: «وأنا.. وأنا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن قال: (حيّ على الفلاح) ... إليها، وأقبلوا وتعالوا مسرعين، (قال: «لا حول) ؛ أي: لا تحوّل لنا عن معصية الله. (ولا قوّة) لنا على طاعة الله تعالى (إلّا بالله» ) تعالى. قال ابن الأثير: المراد بهذا ونحوه: إظهار الفقر إلى الله تعالى بطلب المعونة منه على ما يحاول من الأمور كالصلاة هنا، وهو حقيقة العبودية. انتهى. (و) أخرج أبو داود، والحاكم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن يتشهّد) ؛ أي: ينطق بالشهادتين في أذانه؛ (قال: «وأنا.. وأنا» ) أي: يقول عند أشهد ألاإله إلّا الله: «وأنا» ، ويقول عند أشهد أنّ محمدا رسول الله: «وأنا» . فقوله «وأنا» مبتدأ خبره محذوف؛ أي: وأنا أشهد كما تشهد، فتكرير «أنا» راجع إلى الشهادتين. وفيه أنّه كان مكلّفا أن يشهد على رسالته كسائر الأمة. وفيه أنّه لو اقتصر على قوله «وأنا» حصل له فضل متابعة الأذان كلّه؛ ذكره المناوي على «الجامع» ، وقال: رواه ابن حبّان وبوّب عليه «باب إباحة الاقتصار عند سماع الأذان على وأنا ... وأنا» . انتهى. لكن قال الحفني في «حواشي الجامع الصغير» : لا تحصل سنّة الإجابة على لفظ «وأنا» ، بل لا بدّ من أن يقول «وأنا أشهد ... الخ» ، أو يقتصر على «أشهد ... الخ» بدون لفظ «أنا» . انتهى. (و) أخرج ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» بسند ضعيف؛ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن؛ قال) في أذانه (حيّ على الفلاح) ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 قال: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر ... أي: هذه الجملة؛ (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا له: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» أي: فائزين بكلّ خير، ناجين من كل ضير. فيسنّ لمن سمع المؤذن أن يقول مثل قوله، فيأتي بكلّ كلمة عقب فراغ المؤّذن منها حتّى في الترجيع؛ وإن لم يسمعه. إلّا في قوله «حي على الصلاة.. حي على الصلاة، حي على الفلاح.. حي على الفلاح» فإنّه يقول «لا حول ولا قوة إلا بالله» . قال في «حواشي فتح المعين» ويسنّ أن يجيب كلّا من الحيعلة بلفظه أيضا، ثم يحوقل ويزيد مع حيّ على الفلاح: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» . انتهى. قال في «فتح المعين» : ولو سمع بعض الأذان!! أجاب فيه وفيما لم يسمعه. ولو ترتّب المؤذّنون؟! أجاب الكلّ. وفي «حواشي فتح المعين» . ومما عمّت به البلوى ما إذا أذّن المؤذنون، واختلطت أصواتهم على السامع؛ وصار بعضهم يسبق بعضا! وقد قال بعضهم: لا يستحبّ إجابة هؤلاء. والذي أفتى به الشيخ عز الدين أنّه يستحبّ إجابتهم؛ أي: إجابة واحدة؛ ويتحقق ذلك بأن يتأخّر بكلّ كلمة حيث يغلب على ظنّه أنهم أتوابها، بحيث تقع إجابته متأخرة؛ أو مقارنة، فلو سكت حتى فرغ كلّ الأذان؛ ثم أجاب قبل فاصل طويل عرفا؟! كفى في أصل سنة الإجابة. انتهى. وفي «فتاوي السمهودي» : لا يستحبّ للمؤذّن أن يجيب أذان نفسه؛ وإن تردّد في ذلك الإسنوي في «تمهيده» . وصنّف فيه السمهودي «جزآ» أودعه فتاويه المشرقة. وتردّد الأشخر في إجابة أذان غير الصلاة: هل يطلب؛ أم لا؟ واستظهر الثاني. قال: لأنّ الجواب إنّما هو للدّعاء إلى الصلاة، وغيره ذكر قد يطلب إجابته. قال: ولم أر فيه شيئا. انتهى «شرح الأذكار» . (و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد ضعيف؛ عن حذيفة بن أسيد- بفتح الهمزة والتنوين-: الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا نظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 إلى البيت.. قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى ما يحبّ.. قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ، وإذا رأى ما يكره.. قال: «الحمد لله على كلّ حال، ... إلى البيت) - أي: الكعبة- (قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا) أضافه إليه! لمزيد التشريف، وأتى باسم الإشارة! تفخيما (تشريفا) ؛ أي: ترفيعا وإعلاء (وتعظيما) ؛ أي: تبجيلا (وتكريما) ، أي: تفضيلا. وكأنّ حكمة تقديم التعظيم على التكريم في البيت؛ وعكسه في قاصده: أنّ المقصود بالذّات في البيت إظهار عظمته في النفوس حتّى يخضع لشرفه ويقوم بحقوقه، ثم كرامته بإكرام زائريه بإعطائهم ما طلبوه، وإنجازهم ما أمّلوه. وفي زائره وجود كرامته عند الله تعالى بإسباغ رضاه عليه، وعفوه عمّا جناه واقترفه؛ ثم عظمته بين أبناء جنسه بظهور تقواه وهدايته أيضا!!. ويرشد إلى هذا ختم دعاء البيت بالمهابة الناشئة عن تلك العظمة، إذ هي التوقير والإجلال، وختم دعاء الزائر بالبرّ الناشئ عن ذلك التكريم، إذ هو الاتساع في الإحسان. فتأمّله. أشار إليه بعض المتأخّرين؛ قاله ابن علّان. (وبرّا ومهابة» ) إجلالا وعظمة، وتمام هذا الدّعاء في حديث الطبراني؛ كما في شرح «الأذكار» : «وزد من عظّمه وشرّفه ممّن حجّه؛ أو اعتمره، تشريفا وتكريما ومهابة وبرّا» . انتهى. (و) أخرج ابن ماجه وابن السنّيّ: كلاهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال في «الأذكار» : وإسناده جيّد- قالت: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّ قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ) قال الحسن: ما من رجل يرى نعمة الله عليه؛ فيقول: الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات إلّا أغناه الله. وزاد: (وإذا رأى ما يكره قال: «الحمد لله على كلّ حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرّعد ... ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» ) بيّن به أنّ شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها، لأنّ تلك الشدائد نعم في الحقيقة؛ لأنّها تعرّضه لمنافع عظيمة ومثوبات جزيلة، وأعواض كريمة في العاقبة؛ تتلاشى في جنبها مشقّة هذه الشدائد فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) [النساء] ، وما سمّاه الله خيرا فهو أكثر مما يبلغه الوهم. نحمده على شمول النّعم ... حتّى لقد أبطنها في الألم والنعمة ليست هي اللّذة، وما اشتهته النّفس بمقتضى الطّبع، بل هي ما يزيد في رفعة الدّرجة؛ ذكره الإمام الغزالي؛ ونقله المناوي رحمهم الله تعالى. آمين. (و) أخرج الإمام أحمد، والترمذي؛ في «كتاب الدعاء» - قال الصدر المناوي: بسند جيّد- وأخرجه الحاكم في «الأدب» : كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب- قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ. وفي العزيزي: قال الشيخ حديث صحيح، لكن قال النووي في «الأذكار» بعد عزوه للترمذي: إسناده ضعيف. وقال الحافظ العراقي: وسنده حسن؛ ذكره المناوي على «الجامع» - قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرّعد) بإضافة العامّ إلى الخاصّ للبيان، فالرّعد: هو الصوت الّذي يسمع من السّحاب؛ كذا قاله ابن الملك. والصحيح: أن الرعد ملك موكّل بالسّحاب. وقد نقل الشافعي؛ عن الثّقة؛ عن مجاهد: أنّ الرّعد ملك، والبرق أجنحته يسوق السحاب بها، ثمّ قال: وما أشبه ما قاله بظاهر القرآن!!. قال بعضهم: وعليه فيكون المسموع صوته، أو صوت سوقه على اختلاف فيه. ونقل البغوي عن أكثر المفسرين: أنّ الرّعد ملك يسوق السحاب، والمسموع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 والصّواعق ... تسبيحه. وعن ابن عباس: أنّ الرّعد ملك موكل بالسّحاب؛ وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه، وأنّه يسبح الله تعالى؛ فلا يبقى ملك إلّا يسبح، فعند ذلك ينزل المطر. وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعث الله السّحاب فنطقت أحسن النّطق، وضحكت أحسن الضّحك، فالرّعد نطقها، والبرق ضحكها» . وقيل: البرق لمعان صوت الرّعد يزجر به السّحاب. وأما قول الفلاسفة: إن الرّعد صوت اصطكاك أجرام السّحاب، والبرق ما يقدح من اصطكاكها!! فهو من حزرهم وتخمينهم؛ فلا يعوّل عليه. انتهى. ذكر جميع ذلك العلّامة محمد بن علي بن علّان في «شرح الأذكار» . (والصّواعق) بالنصب، فيكون التقدير: وأحسّ الصّواعق، من باب: «علفتها تبنا وماء باردا» . أو أطلق السّمع وأريد به الحسّ؛ من باب: إطلاق الجزء وإرادة الكلّ. وفي نسخة: بالجر؛ عطفا على الرّعد، وهو إنّما يصحّ على بعض الأقوال في تفسير الصّاعقة. قال بعضهم: قيل. هي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصحّ عطفه على شيء ممّا قبله. وقيل: الصّاعقة صيحة العذاب أيضا، وتطلق على صوت شديد غاية الشّدة يسمع من الرّعد، وعلى هذا يصحّ عطفه على صوت الرعد، أي: صوت السحاب، فالمراد بالرّعد: السّحاب؛ بقرينة إضافة الصوت، أو الرعد: صوت السّحاب. وقال الطيبيّ: هي قصفة رعد تنقضّ معها قطعة من نار، يقال: صعقته الصّاعقة: إذا أهلكته فصعق؛ أي: مات. إمّا لشدة الصوت، وإمّا بالإحراق، ولعلّ اختيار الجمع في قوله: الصواعق؛ موافقته للآية. انتهى. ذكر ذلك كلّه الشيخ محمد علي بن علّان في «شرح الأذكار» النووية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 قال: «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرّعد.. قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده» . (قال «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك) الغضب استعارة، والمشبّه به الحالة التي تعرض للملك عند انفعاله، وغليان دم القلب، ثم الانتقام من المغضوب عليه، وأكثر ما ينتقم به القتل، فرشّح الاستعارة به عرفا. (ولا تهلكنا بعذابك) الإهلاك والعذاب جاريان على الحقيقة في حقّه تعالى، وقيل: الغضب هنا من صفة الذّات، أي: إرادة الهلاك ونحوه، والعذاب من صفة الأفعال. ولمّا لم يكن تحصيل المطلوب إلّا بمعافاة الله تعالى كما أخبر: «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك» ؛ قال: (وعافنا) من البلايا والخطايا المقتضية للعذاب والغضب (قبل ذلك» ) أي: قبل وقوع ما ينتظر، والمراد الدّعاء بأن لا يقع شيء من ذلك. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي ورمز له برمز البخاريّ: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرّعد؛ قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد) هو: ملك موكّل بالسّحاب على ما ثبت في الأحاديث، فنسبة التسبيح إليه حقيقة، أي: ينزّهه متلبّسا (بحمده» ) . وفي «الأذكار النووية» : روّينا بالإسناد الصحيح في «الموطأ» ؛ عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان إذا سمع الرّعد ترك الحديث؛ وقال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته» . انتهى. قال في «شرحه» ؛ نقلا عن الحافظ ابن حجر: وهو حديث موقوف؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب المفرد» ، عن إسماعيل بن أبي أويس؛ عن مالك. وقوله: «ترك الحديث» ؛ أي: الكلام مع الأنام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى المطر.. قال: «اللهمّ؛ صيّبا نافعا» . وزاد الحافظ في روايته بعد قوله «جثا وترك الحديث» قوله: «وما كان فيه» ، فإن كان في صلاة أتمّ الصلاة؛ وقال: إنّ هذا لوعيد شديد لأهل الأرض، سبحان الّذي يسبح الرّعد بحمده ... الخ. وأخرج الطبراني بإسناده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق ومطر، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته «ثلاثا» ؛ عوفي من ذلك الرعد، فقلنا فعوفينا، ثم لقيت عمر في بعض الطريق، فإذا بردة أصابت أنفه، فقلت: ما هذا؟ فقال: بردة أصابت أنفي، فأثّرت فيّ، فقلت: إن كعبا قال ... فذكره. فقلنا فعوفينا، فقال عمر: فهلّا أعلمتمونا حتى نقول!! قال الحافظ: هذا موقوف حسن الإسناد، وهو؛ وإن كان عن كعب؛ فقد أقرّه ابن عباس وعمر، فدلّ على أنّ له أصلا. قال: وقد وجدت بعضه بمعناه من وجه آخر عن ابن عباس أخرجه الطبراني أيضا؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا سمعتم الرّعد فاذكروا الله فإنّه لا يصيب ذاكرا» وفي سنده ضعف. انتهى. وقد جاء عن ابن عباس أيضا قال: ومن قال هذا الذكر فأصابته صاعقة؛ فعليّ ديته. انتهى كلام «شرح الأذكار» . (و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «اللهمّ صيّبا) أي: اسقنا «صيّبا» أي: مطرا (نافعا) لا مغرقا كطوفان نوح؛ قاله ابن مالك. وقال الطيبيّ: هو تتميم في غاية الحسن؛ لأنّ «صيّبا» مظنّة الضّرر، وتبعه عليه ابن حجر الهيتمي المكيّ. ويجوز أن يكون احترازا عن مطر لا يترتّب عليه نفع، أعمّ من أن يترتّب عليه ضرر؛ أم لا، وقد روى هذا الحديث النسائيّ وابن ماجه، لكن قال: «سيّبا» بإبدال الصّاد في «صيبا» سينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سال السّيل.. قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا، فنتطهّر منه، ونحمد الله عليه» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل.. قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت فيها» . قال الحافظ العراقي: وسند الكلّ صحيح، فينبغي- كما نقل في «المرقاة» عن النووي- الجمع بين ذلك كلّه، أو يأتي بما في كلّ رواية. والله أعلم. (و) أخرج الإمام الشافعي في «مسنده» ، والبيهقي في «سننه» : كلاهما عن يزيد بن الهاد مرسلا، ونقل المناوي عن الذّهبيّ أنه مع إرساله منقطع أيضا: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا سال السّيل قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا) أي: جعل ما سال فيه مطهرا (فنتطهّر منه) الطهارة: تشمل الغسل والوضوء، والأفضل عند الشافعية الجمع بين الغسل والوضوء، ثم الغسل، ثم الوضوء، فيسنّ فعل ذلك لكلّ أحد. قالت الشافعية: ويسنّ لكلّ أحد أن يبرز للمطر، ولأول مطر آكد، ويكشف له من بدنه غير عورته، ويغتسل ويتوضّأ في سيل الوادي، فإن لم يجمعهما توضأ. (ونحمد الله عليه» ) ؛ أي: على حصوله. (و) أخرج ابن السنيّ والبزار والطبراني في «الكبير» كلّهم؛ عن عثمان بن أبي العاصي رضي الله تعالى عنه- وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق وأبو شيبة؛ وكلاهما ضعيف كما قال الحافظ الهيثمي، قال الحافظ ابن حجر: لكن تقوى بشواهده-. (كان) النبي (صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل) - قال العزيزي: بسكون الميم؛ مقابل الجنوب-. (قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت) - بفتح التاء المثناة- (فيها» ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ اجعلها لقحا لا عقيما» ؛ ... وفي رواية بدله: «من شرّ ما أرسلت به» ؛ على صيغة المجهول، والمراد: أنها قد تبعث عذابا على قوم، فتعوّذ من ذلك، فتندب المحافظة على قول ذلك عند اشتدادها وعدم الغافلة عنه. قال النووي في «الأذكار» : روّينا في «سنن أبي داود» وابن ماجه بإسناد حسن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «الرّيح من روح الله تعالى، تأتي بالرّحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها» . قلت: قوله صلى الله عليه وسلّم «من روح الله» هو- بفتح الراء- قال العلماء، أي: من رحمة الله بعباده. انتهى. فائدة: ذكر شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ وغيره: أنّ الرياح أربع: التي تجيء من تجاه الكعبة: الصّبا، ومن ورائها: الدّبور، ومن جهة يمينها: الجنوب، ومن جهة شمالها: الشمأل. ولكلّ منها طبع، فالصّبا: حارّة رطبة، والدّبور: باردة رطبة، والجنوب: حارّة رطبة، والشمأل: باردة يابسة، وهي من ريح الجنة التي تهبّ عليهم؛ كما في «مسلم» انتهى. ذكره ابن علان في «شرح الأذكار» . (و) أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ، وابن حبان في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» ، وابن السنّي كلّهم؛ عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح؛ كما قال الحافظ ابن حجر- قال: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّت الرّيح قال: «اللهمّ [اجعلها] لقحا) - بفتح اللام والقاف-؛ من باب تعب، قال في «السلاح» - بفتح اللام مع فتح القاف وسكونها، وبالحاء المهملة-: الحاملة للسحاب، والعقيم بعكسه انتهى. أي: اجعلها حاملة للماء كاللّقحة من الإبل؛ (لا عقيما» ) هو تأكيد لما قبله؛ أي: لا تجعلها خالية عن الماء كالعقيم من الحيوان؛ لا ولد له، شبّه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 أي: حاملا للماء كاللّقحة من الإبل. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها؛ وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، وشرّ ما أرسلت به» ... بالعقيم. قال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [22/ الحجر] . ثم بيّن المصنف معنى قوله في الحديث «لقحا» ؛ فقال: (أي: حاملا للماء كاللّقحة) - بكسر اللام وفتحها- أي: الناقة (من الإبل) القريبة العهد بالنتاج، والجمع: لقح، وقد لقحت الناقة لقحا ولقاحا، وناقة لاقح إذا كانت حاملا، ونوق لواقح، واللّقاح: ذوات الألبان، الواحدة: لقوح. كذا في «النهاية» . (وكان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا عصفت) - بفتح أوّليه المهملتين وبالفاء- (الرّيح) أي: اشتدّ هبوبها (قال) داعيا إلى الله ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها) أي: الخير العارض منها من المنافع كلّها. (و) أسألك (خير ما أرسلت به) ؛ أي: بخصوصها في وقتها، وهي بصيغة المجهول. (وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها؛ وشرّ ما أرسلت به» ) - على صيغة المجهول- قال المناوي كالعلقمي: - وتمامه عند مخرّجه مسلم- قالت: أي: عائشة، وإذا تخيّلت السماء تغيّر لونه، وخرج؛ ودخل، وأقبل؛ وأدبر، فإذا أمطرت سرّي عنه فعرفت ذلك فسألته!، فقال: «لعلّه يا عائشة كما قال الله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» [24/ الأحقاف] الآية. انتهى. قال الحفني: ففيه الاستعداد بالمراقبة لله تعالى والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه صلى الله عليه وسلّم أن يعاقبوا بعصيان العصاة، وسروره بزوال الخوف. وهذا لا ينافي قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال] !! لأنه يخاف أن يكون عذابا مخصوصا أو معلقا على شيء، كما قال بعض المبشرين بالجنة: لو كانت إحدى رجليّ داخل الجنّة والآخرى خارجها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 روته عائشة رضي الله تعالى عنها. ما أمنت مكر الله. انتهى. قال العزيزي: قال أبو عبيد وغيره: «تخيلت السماء» من المخيلة- بفتح الميم-: وهي سحابة فيها رعد وبرق تخيّل إليه أنها ماطرة، ويقال: أخالت إذا تغيّرت. انتهى. (روته عائشة) أم المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) فيما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عنها. تنبيه: قال في «شرح الأذكار» : وقع في «المشكاة» أن الحديث متفق عليه!! فنظر فيه في «المرقاة» بأنه من أفراد مسلم، كما يفهم من كلام ابن الجزري في «التصحيح» حيث قال: رواه مسلم، وأبو داود ... الخ. وقد عزاه السيوطي في «الجامع الصغير» إلى تخريج الترمذي أيضا؛ ولم يذكر أبا داود فيمن خرّجه!! وراجعت «باب ما يقول: إذا هاجت الريح» ؛ من «سنن أبي داود» فلم أره فيه، فلعلّ ما نقله ابن الجزري عنه في بعض النسخ، ثم رأيت ما يؤيد ما ذكره صاحب «المشكاة» ؛ وهو «تيسير الوصول إلى جامع الأصول» لابن الدّيبع بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور، وقال: أخرجه الشيخان هكذا، والترمذي. انتهى. وأخرجه الترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح، والإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا الرّيح، فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا: اللهمّ؛ إنّا نسألك خير هذه الرّيح وخير ما فيها؛ وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شرّ هذه الرّيح؛ وشرّ ما فيها؛ وشرّ ما أمرت به» . وأخرج ابن السنّي؛ عن أنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا وقعت كبيرة؛ أو هاجت ريح عظيمة فعليكم بالتّكبير؛ فإنه يجلو العجاج الأسود» . ذكره النووي في «الأذكار» . وقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وروى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا هاجت ريح ... «كبيرة» الله أعلم أنّ التقدير: مصيبة كبيرة؛ أي: من موت، أو حريق، فالتكبير يدفع حرّ النار، وإذا استحضر العبد مضمون التكبير هان عليه ما لاقاه من مصيبة. وقوله: «العجاج الأسود» !! قال النووي في «التهذيب» ؛ نقلا عن أبي عبيد: العجاج غبار تثور به الريح، الواحدة: عجاجة؛ أي: أنّ التكبير يجلو؛ أي: يذهب عن مرآة الجوّ العجاج الأسود من الظلمة والقتام. والله أعلم. ثم يحتمل أن يكون ذلك على حقيقته بما خصّ الله به التكبير من رفع ذلك، ويحتمل أن يكون المراد يجلو عن القلب التعب الحاصل من القتام الأسود؛ أي: لردّه الأمر حينئذ إلى فاعله، وعلمه بالفاعل المختار الّذي لا يخلو فعل من أفعاله عن حكمة والله أعلم. انتهى. ذكره في «شرح الأذكار» . (وروى ابن عبّاس) حبر الأمّة وترجمان القرآن- وقد تقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما) فيما أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «سننه» عنه بسند فيه حسين بن قيس الملقب ب «حنش» ، وهو متروك؛ وبقية رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي-. ورواه ابن عدي في «الكامل» من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي، وذكره المناوي؛ فقال: ثم رأيت الحافظ في «الفتح» عزاه لأبي يعلى وحده؛ عن أنس رفعه، وقال: إسناده صحيح. انتهى. قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا هاجت ريح) ؛ أي: اشتدّ هبوبها، والريح المفردة في القرآن للشرّ، والمجموعة للخير، ولم ترد في القرآن مفردة في الخير إلّا في موضع واحد، وهو قوله تعالى وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [22/ يونس] ذكره العزيزي والحفني وغيرهما. قال المناوي: وفي رواية: «الريح» معرّفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 استقبلها بوجهه، وجثا على ركبتيه، ومدّ يديه، وقال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، اللهمّ؛ اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» . (استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه) أي: قعد عليهما وعطف ساقيه إلى تحته، وهو قعود المستوفز الخائف الّذي إذا احتاج إلى النهوض نهض سريعا، وهو قعود الصغير بين يدي الكبير، وفيه نوع أدب مع الله تعالى، فكان هذا منه صلى الله عليه وسلّم تواضعا لله وخوفا على أمّته، وتعليما لهم في تبعيّته كأنّه لمّا هبت الريح وأراد أن يخاطب ربّه بالدعاء قعد قعود المتواضع لربّه الخائف من عذابه. (ومدّ يديه) للدعاء (وقال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، [وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به] ، اللهمّ؛ اجعلها رحمة) لنا (ولا تجعلها عذابا) علينا، (اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» ) . لأنّ الريح من الهواء، والهواء أحد العناصر الأربع التي بها قوام الحيوان والنبات، حتّى لو فرض عدم الهواء دقيقة لم يعش حيوان، ولم ينبت نبات. والريح: اضطراب الهواء وتموّجه في الجوّ؛ فيصادف الأجسام فيحللها، فيوصل إلى دواخلها من لطائفها ما يقوم لحاجته إليه، فإذا كانت الريح واحدة جاءت من جهة واحدة، وصدمت جسم الإنسان والنبات من جانب واحد، فتؤثّر فيه أثرا أكثر من حاجته؛ فتضرّه، ويتضرّر الجانب المقابل لعكس مهبّها بفوت حظّه من الهواء؛ فيكون داعيا إلى فساده، بخلاف ما لو كانت رياحا تعمّ جوانب الجسم، فيأخذ كلّ جانب حظّه؛ فيحدث الاعتدال. ذكره المناوي. وفي «شرح الأذكار» لابن علان رحمه الله تعالى: قال ابن الجوزي في «المنتخب» : قال ابن عباس: الرّياح ثمان؛ أربع للرحمة: المبشرات، والمثيرات، والمرسلات، والرّخاء. قلت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 ......... وفي «المرقاة» بدل «المبشرات والرخاء» بدلهما «الذاريات، والناشرات» . وأربع للعذاب: العاصف، والقاصف- وهما في البحر-. والصّرصر، والعقيم- وهما في البرّ-. قال عبيد بن عمر: يبعث الله تعالى ريحا فتقمّ الأرض، ثمّ يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثمّ يبعث المؤلّفة فتؤلّفه، ثمّ يبعث اللّواقح؛ فتلقّح الشجر. انتهى كلام «المنتخب» . قال المناوي: استشكل ابن العربي خوفه أن يعذّبوا؛ وهو فيهم، مع قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال] !!؟. ثمّ أجاب بأن الآية نزلت بعد القصة. واعترضه ابن حجر بأن آية الأنفال كانت في المشركين من أهل بدر، ولفظ «كان» في الخبر يشعر بالمواظبة على ذلك. ثمّ أجاب بأنّ في الآية احتمال التخصيص بالمذكورين، أو بوقت دون وقت، أو بأنّ مقام الخوف يقتضي عدم أمن المكر، أو خشي على من ليس فيهم أن يقع بهم العذاب، فالمؤمن شفقة عليه، والكافر يودّ إسلامه، وهو مبعوث رحمة للعالمين. انتهى. ثمّ قال: قال ابن المنيّر: هذا الحديث مخصوص بغير الصّبا من جميع أنواع الريح؛ لقوله في الحديث: «نصرت بالصّبا» . ويحتمل إبقاء هذا الحديث على عمومه ويكون نصرها له متأخّرا عن ذلك، أو أنّ نصرها له بسبب إهلاك أعدائه، فيخشى من هبوبها أن تهلك أحدا من عصاة المؤمنين؛ وهو كان بهم رؤوفا رحيما. وأيضا فالصّبا يؤلّف السحاب ويجمعه، ثمّ يقع المطر غالبا، وقد جاء في خبر: أنه كان إذا أمطرت سرّي عنه، وذلك يقتضي أن يكون الصّبا مما يقع التخوف عند هبوبها، فيعكّر ذلك على التخصيص المذكور!. انتهى ما ذكره المناوي رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال.. قال: «هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك» (ثلاثا) . (و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛ في «كتاب الأدب» عن قتادة بلاغا، قال الحافظ: ورجاله ثقات، فإن كان المبلّغ صحابيا فهو صحيح. انتهى. وأخرجه ابن السنّي أيضا؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال الحافظ العراقي: وأسنده أيضا الدارقطني في «الأفراد» ، والطبراني في «الأوسط» ؛ عن أنس، قال أبو داود: ليس في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديث مسند صحيح. قال: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال) الهلال: اسم للقمر لليلتين من أول الشهر، ثمّ هو قمر، لكن في «الصحاح» : أنه اسم لثلاث ليال من أول الشهر. (قال: «هلال) الظاهر أنه منصوب بمقدر؛ أي: اللهمّ اجعله هلال (خير) أي: بركة (ورشد) أي: صلاح، كما يدلّ على ذلك رواية ابن السنيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه: كان إذا نظر إلى الهلال قال: «اللهمّ اجعله هلال يمن ورشد، آمنت بالّذي خلقك فعدلك، تبارك الله أحسن الخالقين» . ففي هذه الرواية التصريح بالفعل المقدر. (آمنت ب) الله (الّذي خلقك» ثلاثا) أي: يكرّر ذلك ثلاثا، فيقول: «هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك، آمنت بالّذي خلقك، آمنت بالّذي خلقك» ، والتّكرار! للاعتناء بالمقام، والثلاث! لأنها آخر القلّة ومبدأ الكثرة. وقد ورد في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا دعا دعا ثلاثا. وإضافة الخير والرشد! رجاء أن يقعا فيه، وتعليما لأمته. وظاهر مخاطبته صلى الله عليه وسلّم له!! أنّه ليس بجماد، بل حيّ دارك يعقل ويفهم. قال حجّة الإسلام: وليس في أحكام الشريعة ما يدفعه؛ ولا ما يثبته!! فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 ثمّ يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» . ضرر علينا في إثباته. ذكره المناوي على «الجامع» والعزيزي أيضا. (ثمّ يقول) بعده ( «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» ) . ولأبي داود عن قتادة مرسلا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه. قال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه: ووجدت لمرسل قتادة شاهدا مرسلا أيضا؛ أخرجه مسدد في «مسنده الكبير» ورجاله ثقات، قال: ووجدت له شاهدا موصولا؛ من حديث أنس بن مالك قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أقاويل يقولها في الهلال إذا رآه؛ منها أنّه كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه؛ وقال: «هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك» . يردّدها ثلاثا. ومنها: كان يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» . وكان يقول: «اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسّلامة والإسلام» . وكان يقول: «الحمد لله الّذي بدأكم ثمّ يعيدكم» . وكان يقول: «الحمد لله الّذي خلقك وسوّاك فعدلك، ربّي وربّك الله» . قال الحافظ بعد تخريجه: هذا غريب أخرجه أبو نعيم في «عمل اليوم والليلة» ، ورجاله ثقات إلّا عمر بن أيوب- يعني: الغفاري- فإنّه ضعيف جدّا، ونسبه الدّارقطني مرّة إلى الوضع. انتهى ذكره في «شرح الأذكار» . (و) أخرج الإمام أحمد والترمذي في «الدعوات» ؛ وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمي في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» في «الأدب» : كلّهم من حديث سليمان بن سفيان، عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه يحيى، عن جدّه طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ المكيّ ثم المدنيّ، أحد العشرة رضي الله تعالى عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال.. قال: «اللهمّ؛ أهلّه علينا باليمن والإيمان والسّلامة والإسلام، ربّي وربّك الله» . وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ونوزع بأن الحديث عدّ من منكرات سليمان المذكور!! وقد ضعفه ابن المديني، وأبو حاتم، والدارقطني، وقال: ليّن ليس بثقة. وذكره ابن حبان في «الثقات» ؛ وقال: يخطئ!! وقال الحافظ ابن حجر: صحّحه الحاكم وغلط في ذلك، فإن فيه سليمان بن سفيان ضعّفوه، وإنّما حسّنه الترمذيّ!! لشواهده. انتهى. قال: (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال؛ قال: «اللهمّ؛ أهلّه) قال الطيبي: روي بالفكّ والإدغام. (علينا) ؛ أي: أطلعه علينا مقترنا (باليمن) ؛ أي: البركة (والإيمان) ؛ أي: بدوامه وكماله (والسّلامة والإسلام) ؛ أي: الانقياد للأحكام. قال الحكيم الترمذيّ: «اليمن» : السعادة، و «الإيمان» : الطمأنينة بالله، كأنّه سأل دوامهما، و «السلامة والإسلام» : أن يدوم له الإسلام ويسلم له شهره، فإنّ لله في كلّ شهر حكما وقضاء في الملكوت، وفيه تنبيه على ندب الدعاء؛ لا سيّما عند ظهور الآيات وتقلّب أحوال النيرات: وعلى أنّ التوجّه فيه إلى الربّ؛ لا إلى المربوب، والالتفات في ذلك إلى صنع الصانع؛ لا إلى المصنوع. ذكره التوربشتي. انتهى من المناوي على «الجامع» . وزاد قوله: (ربّي وربّك الله» ) لأن أهل الجاهلية فيهم من يعبد القمرين؛ فكأنه يناغيه ويخاطبه؛ فيقول: أنت مسخّر لنا لتضيء لأهل الأرض؛ ليعلموا عدد السنين والحساب. وقال الطّيبي: لما قدّم الدعاء في قوله: «اليمن والإيمان، والسلامة والإسلام» طلب في كلّ من الفقرتين دفع ما يؤذيه من المضارّ، وجلب ما يرفعه من المنافع. وعبّر بالإيمان والإسلام عنها!! دلالة على أنّ نعمة الإيمان والإسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وفي رواية: «بالأمن» بدل «اليمن» . وكان آخر كلامه صلّى الله عليه وسلّم: ... شاملة للنّعم كلّها، ومحتوية على المنافع بأسرها، فدلّ على عظم شأن الهلال حيث جعل وسيلة لهذا المطلوب، فالتفت إليه قائلا: «ربي وربك الله» مقتديا بأبيه إبراهيم حيث قال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) ؛ بعد قوله هذا رَبِّي [76/ الأنعام] . وفيه من اللطائف أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم جمع بين طلب دفع المضارّ وجلب المنافع في ألفاظ يجمعها معنى الاشتقاق؛ ذكره المناوي في «كبيره على الجامع» رحمه الله تعالى. آمين. (وفي رواية) للدارمي في «مسنده» ، والطبراني في «الكبير» بسند ضعيف (بالأمن بدل) قوله: (اليمن) الواقع في الرواية السابقة. ولفظ الرواية هذه: عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر، اللهم؛ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسّلامة والإسلام، والتّوفيق لما تحبّ وترضى، ربّنا وربّك الله» . انتهى. ذكرها في «الأذكار» و «الجامع الصغير» . (و) أخرج أبو داود في الأدب، وابن ماجه في «الوصايا» ؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه- وفي العزيزي: إنه حديث صحيح- قال: (كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: ممّا يتعلّق بنصح الأمة والأعمال المطلوبة منهم، وكذا ما بعده، فإنّ فيه نهيا للأمّة عن مثل فعل اليهود من اتّخاذهم قبور أنبيائهم مساجد كما سيأتي. أما آخر كلامه على الإطلاق: ف «جلال ربّي الرّفيع» كما سيأتي، وقيل: «الرّفيق الأعلى» . وجمع بأنه نطق بهما معا؛ بأن قال: «جلال ربّي الرّفيع.. الرّفيق الأعلى» ! قاله الحفني على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 «الصّلاة ... الصّلاة، اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» . وكان آخر ما تكلّم به صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «قاتل الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ... وقوله: ( «الصّلاة الصّلاة) ؛ أي: احفظوها بالمواظبة عليها، والإتيان بها في أوقاتها، فهو منصوب على الإغراء، وكرّره للتأكيد. (اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» ) ؛ أي: فيما ملكتم من الأرقّاء بالإنفاق عليهم، والرّفق بهم، وخصّ اليمين!! لأنّ أكثر تصرّف الشخص فيما يملك بيده اليمنى، فأضيف الملك إليها لذلك، وقرن الوصيّة بالصّلاة الوصيّة بالمملوك!! إشارة إلى وجوب رعاية حقّه على سيّده كوجوب الصلاة. قالوا: وذا من جوامع الكلم، لشمول الوصية بالصلاة لكلّ مأمور ومنهي إذ هي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وشمول ما ملكت أيمانكم لكلّ ما يتصرّف فيه ملكا وقهرا، لأنّ «ما» عامّ في ذوي العلم وغيرهم، فلذا جعله آخر كلامه. انتهى. ذكره شرّاح «الجامع الصغير» . (و) أخرج البيهقي في «سننه» ؛ عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه قال: (كان آخر ما تكلّم به) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم أن قال «قاتل الله اليهود والنّصارى) ؛ أي: قتلهم وأهلكهم. (اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) هذا ظاهر في اليهود؛ دون النّصارى، إذ ليس لهم نبيّ مدفون، لأن سيدنا عيسى رفع وليس بينه وبين نبيّنا نبيّ أصلا!! فإمّا أن يكون ضمير «اتخذوا» راجعا لليهود فقط، وإما يكون راجعا للنصارى أيضا باعتبار إطلاق لفظ الأنبياء على أحبارهم تجوّزا، لأنّهم كانوا يعظّمونهم كتعظيم الأنبياء ويسجدون إلى قبورهم، وهذا نهي لأمّته عن مثل فعلهم. ويؤيده قوله في رواية لمسلم: «قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» . ولهذا لما أفرد النّصارى في حديث قال: «إذا مات فيهم الرجل الصّالح» ، ولما أفرد اليهود في حديث قال: «قبور أنبيائهم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 لا يبقينّ دينان بأرض العرب» . وكان آخر ما تكلّم به صلّى الله عليه وسلّم: «جلال ربّي الرّفيع، فقد بلّغت» ، ثمّ قضى صلّى الله عليه وسلّم. (لا يبقينّ دينان) - بكسر الدال- (بأرض العرب» ) . قال المناوي: وفي رواية: «بجزيرة العرب» انتهى. أي: فهو نهي عن إقامة الكفّار فيها. وفي المناوي على «الجامع» : وقد أخذ الأئمّة بهذا الحديث؛ فقالوا: يخرج من جزيرة العرب من دان بغير ديننا، لكنّ الشافعي خصّ المنع بالحجاز: وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها؛ دون اليمن من أرض العرب. انتهى. (و) أخرج الحاكم في «المستدرك» عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وسلّم) مطلقا ( «جلال ربّي) - بالنصب- أي: أختار جلال ربّي (الرّفيع، فقد بلّغت» ) جميع ما أمرت بتبليغه فلا عذر لكم. (ثمّ قضى) ؛ أي: مات (صلى الله عليه وسلّم) . ولا يناقضه ما سبق، لأنّ ذلك آخر وصاياه لأهله وأصحابه وولاة الأمور من بعده؛ وذا آخر ما نطق به. قال السهيليّ: وجه اختيار هذه الكلمة من الحكمة أنّها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرّخصة لغيره في النّطق، وأنّه لا يشترط الذكر باللّسان. وأصل هذا الحديث في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول وهو صحيح: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة» ، ثمّ أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثمّ قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فعلمت أنّه لا يختارنا، وعرفت أنّه الحديث الّذي كان يحدّثنا وهو صحيح، والذي دعاه إلى ذلك رغبته في لقاء محبوبه، فلما عيّن للبقاء محلا خاصّا؛ ولا ينال إلا بالخروج من هذه الدّار التي تنافي ذلك اللّقاء اختار الرفيق الأعلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 ......... تتمة: ذكر السهيليّ عن الواقدي: أنّ أول كلمة تكلّم بها المصطفى صلى الله عليه وسلّم لمّا ولد: «جلال ربّي الرفيع» ، لكن روى عائذ: أنّ أوّل ما تكلّم به لما ولدته أمّه حين خروجه من بطنها: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا» . انتهى. ذكره المناوي في «شرح الجامع الصغير» رحمه الله تعالى. آمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 [الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وهي على عدد الرّسل الكرام، وأهل بدر شموس الإسلام. (الفصل الثّالث) من الباب السابع (في) ذكر (ثلاث مائة وثلاثة عشر حديثا) تقريبا (من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم) . من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: كلمه الجوامع للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ بنظم لطيف لا يعثر الفكر في طلبه، ولا يلتوي الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذّهن إلّا معناها إليه أسبق، كما قال صلى الله عليه وسلّم: «أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . رواه أبو يعلى والبيهقي عن ابن عمر، والدارقطني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم. قاله الزرقاني على «المواهب» . (وهي على عدد الرّسل الكرام) صلوات الله وسلامه عليهم، إذ قيل: إنهم ثلثمائة وثلاثة عشر، وقيل: وأربعة عشر، وقيل: وخمسة عشر، والأسلم الإمساك عن ذلك، لقوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [78/ غافر] . (و) هي أيضا على عدد (أهل بدر) الكبرى (شموس الإسلام) رضوان الله عليهم. في «السّيرة الشامية» بدر: قرية مشهورة على نحو أربع مراحل من المدينة المنورة، وكان أهل غزوة بدر ثلثمائة وسبعة عشر رجلا، وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا، ويؤيّد هذه الرواية أنّه صلى الله عليه وسلّم أمر بعدّهم فأخبر بأنهم ثلثمائة وثلاثة عشر؛ ففرح بذلك، وقال: «عدّة أصحاب طالوت» انتهى. ذكره الباجوري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 اخترتها من «الشّفا» للقاضي عياض، و: «المواهب اللّدنّيّة» للعلّامة القسطلّانيّ، و: «الجامع الصغير» و: «الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» كلاهما للحافظ السّيوطيّ، و: «كنوز الحقائق» و: «طبقات الأولياء» كلاهما للعلّامة المناويّ. (اخترتها) ؛ أي: انتقيتها وجمعتها (من) كتاب ( «الشّفاء) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلّم» (للقاضي) أبي الفضل (عياض) بن موسى اليحصبي المالكي رحمه الله تعالى رحمة واسعة. آمين. (و) من كتاب ( «المواهب اللّدنّيّة) بالمنح المحمدية» (للعلّامة) شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر الخطيب (القسطلّانيّ) - بضم القاف، وسكون السين. وضم الطاء المهملتين، وتشديد اللام- كذا أخذناه عن المشايخ شرقا وغربا، ووجدناه بخط من يقتدى به. انتهى من «هدى الأبرار شرح منظومة طلعة الأنوار» ؛ نقله شيخنا الشيخ حسن المشاط في تعليقه على «رفع الأستار» . (و) من كتاب ( «الجامع الصّغير) من أحاديث البشير النّذير» . (و) من كتاب ( «الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» ) على ألسنة العامة ومن ضاهاهم من الفقهاء الذين لا علم لهم بالأحاديث كما ذكر ذلك في مقدمتها. (كلاهما) ؛ أي: «الجامع» و «الدرر» (للحافظ) وليّ الله تعالى جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (السّيوطيّ) رحمه الله تعالى رحمة الأبرار. (و) من كتاب ( «كنوز الحقائق) في حديث خير الخلائق» ، (و) من كتاب ( «طبقات الأولياء» ) وهي الطبقات الكبرى المسمّاة «الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية» (كلاهما) ؛ أي: «كنوز الحقائق» و «الطبقات» (للعلّامة) الحبر الفهامة صاحب القلم السّيّال: عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الملقّب «زين الدين» الحدادي (المناويّ) - بضم الميم-: صاحب التصانيف السائرة رحمه الله تعالى ورضي عنه، وقد تقدّمت ترجمتهم جميعا في أول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 ومن المعلوم عند النّاس كافّة، ... الكتاب رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار، وأسكنهم أعلى فراديس القرار، ونفعنا بعلومهم، وأعاد علينا من فهومهم بمنه وكرمه. آمين. (ومن المعلوم) المقرّر (عند النّاس) : اسم وضع للجمع كالقوم والرّهط، وواحده إنسان من غير لفظه، مشتق من: ناس ينوس؛ إذا تدلى وتحرك، فيطلق على الجنّ والإنس. قال تعالى الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) [الناس] ، ثمّ فسّر الناس بالجنّ والنّاس، فقال مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) [الناس] ، وسمّى الجنّ ناسا كما سموا رجالا، قال تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [6/ الجن] وكانت العرب تقول: رأيت ناسا من الجنّ، ويصغر الناس على «نويس» ، لكن غلب استعماله في الإنس؛ قاله في «المصباح» . (كافّة) ؛ أي: جميعا، قال سيبويه: إنّ «كافّة» يلزم التنكير والنصب على الحالية؛ كعامّة، وقاطبة، وطرّا، ونحوه، وزاد غيره: أنّها لا تثنى ولا تجمع ولا تطلق على غير العقلاء، ولم يرد ذلك في كلام الله تعالى، ولا في كلام العرب!. ووهّموا من استعملها على خلاف ذلك: كابن نباته في «خطبه» وصاحب «الكشاف» في «كشافه» ، وفي قوله في خطبة «المفصل» : «محيط بكافّة الأبواب» لإخراجه لها عن النصب والتنكير، واستعمالها فيما لا يعقل. وأما قول الجوهري « «الكافة» الجميع من الناس» !! فلا وهم فيه؛ لأن النكرة إذا أريد لفظها يجوز أن تعرّف فلا وهم فيه، كما توهّم صاحب «درة الغواص» للحريري؛ ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في «شرح الشفا» على قول المتن: «ما روته الكافّة عن الكافة» . وتعقّبه بقوله: هذا وإن اتفقوا عليه لا وجه له رواية ودراية. أما الأوّل: فلأن العرب إذا استعملت لفظا في معنى وضعته له على وجه مخصوص من الإعراب؛ لم يلزم غيرهم اتّباعهم فيه، ولو قلنا بذلك لأدّى إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 موافقين ومخالفين، مسلمين وغير مسلمين.. أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفصح النّاس على الإطلاق، ولم يخالف في ذلك أحد. التضييق على الناس في استعمال الألفاظ العربية. وعدّ هذا ونحوه لحنا- كما قاله الحريري- لا وجه له. وأما الثاني: فلأنّه روي عن عمر رضي الله تعالى عنه استعماله في كتابه لبني كاكله المرويّ عنه رواية ثابتة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك أيضا حيث كتبه بعينه بين جمع من الصّحابة وناهيك بهم فصاحة!! فإن أردت تفصيله فانظره في شرحنا ل «درة الغواص في أوهام الخواص» . انتهى كلام الخفاجي رحمه الله تعالى. والمراد بقوله «كافّة» : عموم الناس كما بيّنه بقوله: (موافقين) لنا في الدّين والعقيدة، (ومخالفين) فيهما (مسلمين؛ وغير مسلمين) ، فجميع الطوائف وجميع الفرق على اختلاف أديانهم وعقائدهم ومذاهبهم ومشاربهم كلّهم معترفون (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أفصح النّاس على الإطلاق) أي: أقدرهم على الإتيان بالكلام الفصيح؛ أي: البليغ، فالفصاحة قد تطلق ويراد بها البلاغة، وهو أحسنهم بيانا، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب، ويسلب الأرواح، لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة. (ولم يخالف في ذلك أحد) من سائر الطوائف، فكيف وهو الذي شدّت به الفصاحة نطاقها، ومدّت إليه البلاغة رواقها، وقد كان يقول: «أنا أفصح العرب» !! ذكره في «المواهب» ؛ أي: والعرب أفصح الناس، فهو أفصح الفصحاء، وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله؛ مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟!. فقال: «كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاءني بها جبريل فحفظتها» . رواه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» بإسناد ضعيف، وفي رواية ابن عساكر: «فحفّظنيها» ؛ أي: جبريل، فلذا كنت أفصح العرب. ينطق بأفصح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وهاكها مرتّبة على الحروف: اللّغات وأتمّ البلاغات، وأفحم بلغاء العرب قاطبة، فلم يدع منهم أحدا إلّا أعجزه وأدلّه، وحيّره في أمره وأعلّه؛ قاله الزرقاني على «المواهب» قال: وأما ما يروى: «أنا أفصح من نطق بالضّاد» !! فقال ابن كثير: لا أصل له. انتهى، لكن معناه صحيح. وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند. وقد جمع العلماء كابن السنّي، والقضاعيّ، وابن الصّلاح في آخرين من كلامه الفرد الموجز البديع الذي لم يسبق إليه كتبا مستقلة، وتبعهم المصنف فذكر منها جملة وافرة في هذا الفصل، (وهاكها) ؛ أي: خذها، لأن «ها» اسم فعل أمر بمعنى «خذ» . وفيه: لغتان: القصر والمدّ، ويستعمل مجرّدا، فيقال: للواحد المذكر وغيره «ها» بالقصر، و «هاء» بالمد، ويستعمل متلوا بكاف الخطاب بحسب المخاطب، فيقال: «هاك، وهاك، وهاكما، وهاكم، وهاكن» ، ويستعمل مقتصرا على تصرف الهمزة فيقال: «هاء وهاؤما وهاؤم وهاؤن» . وهذه أفصح اللّغات فيها، وبها ورد القرآن؛ قاله السيوطي في «شرح جمع الجوامع» النحوي. (مرتّبة على الحروف) فما كان أوله همزة ففي حرف الهمزة، وما كان أوله باء موحدة ففي حرف الباء، وهكذا قال المصنف: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 [ (حرف الهمزة) ] (حرف الهمزة) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 1- «أوتيت جوامع الكلم» . (حرف الهمزة) ؛ أي: هذا باب الأحاديث المبدوءة بحرف الهمزة، وصدّرها بحديث «أوتيت جوامع الكلم» !! لما فيه من المناسبة للفصل الذي عقده، إذ تضمّن ذلك الحديث براعة الاستهلال، وحسن المطلع، وهي أن يأتي المتكلم في طالعة كلامه بما يشعر بمقصوده. ومراد المصنف التنويه بفصاحته صلى الله عليه وسلّم بذكر شيء من جوامع كلمه الدّالة على أنّه صلى الله عليه وسلّم أحرز قصب السبق في مضمار الفصاحة والبلاغة مع ملاحظة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الأحكام ومكارم الأخلاق المطلوب من الشخص التخلّق بها والعمل بما فيها، كيما يتمّ له الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم في أفعاله وأقواله وأخلاقه الذي هو موضوع الكتاب، فرحم الله المصنف رحمة واسعة، وجمعنا به في مستقرّ رحمته بمنّه وكرمه. آمين. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: 1- «أوتيت جوامع الكلم) واختصر لي الكلام اختصارا» رواه العسكري في «الأمثال» عن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلا بهذا اللفظ، لكن في سنده من لا يعرف. ورواه الديلمي بلا سند عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه بلفظ: «أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا. ورواه الشيخان لكن بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم» . وفي خبر آخر رواه أحمد: «أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه» . وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب أنّه مرّ برجل يقرأ كتابا من التوراة فذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 2- «اتّق الله فيما تعلم» . للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال: «إنّما بعثت فاتحا وخاتما، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصرلي الحديث اختصارا» . ولأبي يعلى عن خالد بن عرفطة قال: كنت عند عمر فجاء رجل فذكره.. وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا أيّها النّاس، أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصرلي الكلام اختصارا» . وفي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة: «أعطيت فواتح الكلم» . وفي أخرى: «أعطيت مفاتيح الكلم» . وفي أخرى: أعطيت جوامع الكلم» . وفي حديث أبي موسى: «أعطيت فواتح الكلم وخواتمه» ، قلنا: يا رسول الله؛ علّمنا مما علمك الله! فعلمنا التشهد. ورواه أيضا في «المختارة» عن عمر بن الخطاب بلفظ آخر، مع بيان سبب وروده. ومعناه: أنّه صلى الله عليه وسلم أوتي ملكة يقتدر بها على إيجاز اللفظ مع سعة المعنى، بنظم لطيف، لا تعقيد فيه؛ يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذّهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه. وقيل: أراد القرآن، وقيل: أراد أنّ الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الأمور المتقدمة جمعت له في الأمر الواحد والأمرين، والله أعلم. 2- ( «اتّق) - بكسر الهمزة وشد المّثناة فوق- (الله) أمر من التقوى: فعلى من الوقاية: ما يتقى به مما يخاف، فتقوى العبد لله: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه، وهي هنا الحذر (فيما تعلم» ) ؛ أي: احذره وخفه في العمل، أو في تركب العمل بالذي تعلمه- وحذف المفعول للتعميم- وذلك بأن تتجنب المنهي وتفعل المأمور. وخاطب العالم! لأن الجاهل لا يعرف كيف يتقي من جانب الأمر، ولا من جانب النهي. والمراد أصالة العلم العيني الذي لا رخصة للمكلّف في تركه وما عداه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 3- «اتّق الله في عسرك ويسرك» . من كمال التقوى. قال ابن القيم: وللمعاصي من الآثار القبيحة ما لا يعلمه إلّا الله، فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذف في القلب، والمعصية تطفئه؛ شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأنّ العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي وكتب رجل إلى أخيه: إنّك أوتيت علما فلا تطفئنّ نوره بظلمة الذّنوب؛ فتبقى في الظّلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم. أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: «يا داود أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي» . وقال بشر: التّلذّذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم من كل تنعم في الدنيا؛ فمن أجاب شهوته فيه فما اتقى فيما علم. انتهى ذكره المناوي على «الجامع» . وهذا الحديث رواه البخاري في «التاريخ» ، والترمذي: كلاهما عن زيد بن مسلمة الجعفي قال: قلت: يا رسول الله؛ سمعت منك حديثا كثيرا فإني أخاف أن ينسيني آخره أوّله فمدّني بكلمة جامعة؛ فقال: «اتق الله فيما تعلم» . قال الترمذي في «العلل» : سألت عنه محمدا- يعني البخاري- فقال: سعيد بن أشوع لم يسمع من زيد، فهو عندي مرسل. وقال السيوطي في «الجامع الكبير» : منقطع. انتهى ذكره المناوي في «شرح الجامع» وقال: رواه أيضا الطبراني من حديث سعيد بن أشوع عن زيد بن مسلمة الجعفي. انتهى 3- ( «اتّق الله) : خفه واحذره (في عسرك) - بضم فسكون-: الضيق، والصعوبة، والشدّة. (ويسرك» ) : الغنى والسهولة؛ أي: خف الله واحذره في ضيقك وشدّتك، وضدّهما بأن تجتنب ما نهى عنه وتفعل ما أمر به في جميع أحوالك يعني: إذا كنت في ضيق وشدّة وفقر؛ فخف الله أن تفعل ما نهى عنه، أو تهمل ما أمر به، وإن كنت في سرور وغنى؛ فاحذره أن تطغى وتقتحم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 ......... ما لا يرضاه، فإنّ نعمته إذا زالت عن إنسان قلّما تعود إليه، وقدّم العسر على اليسر!! لأن اليسر يعقبه، كما دلّ عليه قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) [الانشراح] ، أو اهتماما بشأن التقوى فيه. قال بعض العارفين: من علامات التحقق بالتقوى: أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يحتسب، وإذا أتاه من حيث يحتسب ما تحقق بالتقوى، ولا اعتمد على الله؛ فإن معنى التقوى أن تتخذ الله وقاية من تأثير الأسباب في قلبك باعتمادك عليها، والإنسان أبصر بنفسه، وهو يعلم من نفسه بمن هو أوثق، وبما تسكن إليه نفسه، ولا تقل: إنّ الله أمرني بالسعي على العيال، وأوجب مؤنتهم، فلا بدّ من الكدّ في السبب الذي جرت العادة أن يرزقه فيه، فإنا ما قلنا لك لا تعمل فيها؛ بل نهيناك عن الاعتماد عليها والسكون عندها، فإن وجدت القلب يسكن إليها؛ فاتّهم إيمانك، وإن وجدت قلبك ساكنا مع الله تعالى، واستوى عندك وجود السبب المعين وفقده؛ فأنت الذي لم تشرك بالله شيئا، فإن أتى رزقك من حيث لا تحتسب! فذلك بشرى أنك من المتقين. تنبيه: قال ابن عربي: طريق الوصول إلى علم القوم التقوى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ [96/ الأعراف] ؛ أي: أطلعناهم على العلوم المتعلّقة بالعلويات والسفليّات، وأسرار الجبروت وأنوار الملك والملكوت. وقال الله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [2- 3/ الطلاق] . والرزق: روحانيّ وجسمانيّ، وقال وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [282/ البقرة] أي: يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية انتهى؛ ذكره المناوي على «الجامع» . وهذا الحديث قال في «الجامع الصغير» أخرجه أبو قرّة الزبيدي- نسبة إلى زبيد المدينة المشهورة باليمن- في «سننه» واسم أبي قرة: موسى بن طارق، عن طليب- بالتصغير- ابن عرفة. قال المناوي: له وفادة، ولم يرو عنه إلا ابنه كليب وهما مجهولان، ذكره الذهبي كابن الأثير. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 4- «اتّقوا مواضع التّهم» . 5- «أتمّكم عقلا.. أشدّكم لله خوفا» . 4- ( «اتّقوا مواضع التّهم» ) ذكره في «كنوز الحقائق» . ورمز له برمز البخاري في «التاريخ» . وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلّم كيف نتقي مواضع التّهم؛ حيث قال لمن أبصره مع زوجته صفيّة: «إنّها أمّكما صفيّة» فاستعظما ذلك! فقال: «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» . فأشفق عليهما فحرسهما، وأشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التّهمة حتى لا يتساهل العالم الورع في أحواله؛ ظنّا منه أنه لا يظّنّ به إلا الخير؛ إعجابا منه بنفسه، وهي زلة عظيمة، إذ أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا بدّ له من منقّص ومبغض! فتعيّن الاحتراز عن تهمة الأعداء والأشرار، فإنّهم لا يظنّون بالناس كلّهم إلا الشرّ. 5- ( «أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا» ) ذكره في «كنوز الحقائق» ، ورمز له برمز الغزالي، وعزاه في «شرح الإحياء» إلى داود بن المحبّر في «كتاب العقل» قال: حدثنا ميسرة، عن محمد بن زيد، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت قول الله عزّ وجلّ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [2/ الملك] فقال صلى الله عليه وسلّم: «أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه، وإن كانوا أقلّكم تطوّعا» . وأخرج داود بن المحبّر في «كتاب العقل» أيضا عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «جدّ الملائكة واجتهدوا في طاعة الله سبحانه بالعقل، وجدّ المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله عزّ وجلّ أوفرهم عقلا» . وأخرج داود في كتابه المذكور عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله؛ بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: «بالعقل» . قلت: وفي الآخرة؟ قال: «بالعقل» . قلت: أليس إنما يجزون بقدر أعمالهم؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 6- «اجتنبوا الخمر؛ فإنّها مفتاح كلّ شرّ» . 7- «الأجر على قدر النّصب» . «يا عائشة؛ وهل عملوا إلّا بقدر ما أعطاهم الله عزّ وجلّ من العقل!. فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» . قال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في «نوادره» . ذكر ذلك كله في «الإحياء» و «شرحه» . 6- ( «اجتنبوا الخمر) ؛ مصدر خمره؛ إذا ستره، سمّي به عصير العنب إذا اشتدّ!! لأنه يخمر العقل، ولها نحو أربعمائة اسم، وتذكّر وتؤنث، والتأنيث أفصح، وهو حرام مطلقا، وكذا كلّ ما أسكر عند الأكثر؛ وإن لم يسكر لقلّته، بل الشافعي وأحمد ومالك على وصفها بذلك، فعندهم الخمر كلّ مسكر، وخالف أبو حنيفة. فالمعنى؛ على رأي الجماعة: اجتنبوا كلّ مسكر؛ أي: - ما من شأنه الإسكار-، فشمل العصير، والاعتصار، والبيع، والشراء، والحمل، والمسّ، والنظر، وغيرها. ذكره المناوي على «الجامع» . أي: اجتنبوا تعاطيها؛ (فإنّها مفتاح كلّ شرّ» ) كان مغلقا من زوال العقل، والوقوع في المنهيات، وحصول الأسقام والآلام. والحديث المذكور ذكره في «الجامع الصغير» ، ورمز له برمز الحاكم في «الأطعمة» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال في العزيزي: وهو حديث صحيح. 7- ( «الأجر على قدر النّصب» ) متفق عليه؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. قال النجم الغزي: وربما قيل: على قدر المشقة» . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم لعائشة بعد اعتمارها: «أجرك على قدر نفقتك أو نصبك» وفي لفظ: «أو تعبك» وفي آخر: «إنّ لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك» بالواو. وروى ابن الإمام أحمد في «زوائده» عن ابن المبارك عن سفيان من قوله: إنما الأجر على قدر الصّبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 ......... قال الإمام النووي: وظاهره أن الثّواب والفضل في العبادة بكثرة النصب والنفقة. قال الحافظ ابن حجر: وهو كما قال، لكنّه ليس بمطّرد، فقد يكون بعض العبادة أحقّ من بعض، وهي أكثر فضلا وثوابا بالنسبة للزمان؛ كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام رمضان، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وإلى شرف العبادة المالية، والبدنية؛ كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها وأطول من قراءتها ... ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر من التطوع!! أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في «القواعد» ، وقال أيضا: وقد كانت الصلاة قرّة عين النبيّ صلى الله عليه وسلّم وهي شاقّة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقّتها مساوية لصلاته مطلقا. والله أعلم. انتهى؛ ذكره العجلوني في «الكشف» . وقد جعل الفقهاء هذا الحديث أساسا لقاعدة قرّروها في كتبهم وعبّروا عنها بقولهم: ما كان أكثر فعلا كان أكثر فضلا، واستثنوا منها مسائل مذكورة في «الأشباه والنظائر» ، وقد نظمها السيد العلّامة الولي سراج الدين أبو بكر بن أبي القاسم الأهدل المتوفى سنة: - 1035- خمس وثلاثين وألف هجرية رحمه الله تعالى آمين؛ فقال: اعلم بأنّي كنت قد نظمت ... لهذه فيما مضى فقلت: قاعدة: ما كان أربى فعلا ... فإنّه يكون أزكى فضلا. وأصلها من الحديث المنتخب ... عن النبي: «الأجر على قدر النّصب» وأخرجوا عن ذاك بضع عشر ... فهاكها منظومة كدرّ وذلك القصر على الإتمام ... يفضل في الثّلاثة الأيّام ثمّ الضّحى ثمان ركعات أبر ... وإن يكن أكثرها ثنتي عشر والوتر مهما بثلاث يفعل ... فإنّها ممّا يزيد أفضل لكن على قول ضعيف نقلا ... عن «البسيط» والإمام ذي العلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 ......... كذا صلاة الصّبح كانت أفضلا ... من غيرها وإن يكنّ أطولا وركعة الوتر لديهم أفضل ... من سنّة الفجر وأيضا تفضل تهجّد اللّيل وإن كانت أقل ... وهو مع الكثرة والطّول حصل كذا صلاة العيد من كسوف ... أزكى ولو مع طولها المعروف وسنّة الفجر بلا تطويل ... أفضل منها معه للدّليل وفي الصّلاة سورة كمالا ... أفضل من بعض ولو قد طالا وقيل بل من قدرها وذاك ما ... لم يرد البعض وإلّا قدّما والجمع في مضمضة وما تلا ... أفضل من فصل بستّ حصلا كذلك الفصل بغرفتين ... أزكى من السّت بغير مين والحجّ والوقوف ممن ركبا ... أفضل منه ماشيا تأدّبا كذلك الميقات للإهلال ... أفضل من دويرة الأهالي ومرّة جماعة إن صلّى ... أفضل من صلاته وأعلى منفردا خمسا وعشرين جعل ... وهكذا تصدّق وقد أكل البعض من أضحيّة تبرّكا ... فهو على بذل الجميع قد زكا وينبغي عدّك كلّ ما أتى ... فيه الدّليل للقليل مثبتا كركعتي تحيّة المساجد ... أفضل من إتيانه بزائد واللّفظ في استعاذة بما ورد ... في الذّكر من زيادة في المعتمد وقس على ذلك بالتّأمّل ... والحمد لله على التّفضّل قال سيّدي أحمد زرّوق رحمه الله تعالى: قاعدة: الأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة، لفضل الإيمان والمعرفة والذّكر والتلاوة على ما هو أشدّ منها بكثير من الحركات الجسمانيّة. وقوله عليه الصلاة والسلام: «أجرك على قدر نصبك» !! إخبار خاصّ في خاصّ لا يلزم عمومه، لا سيّما: وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما. مع قوله: «إنّ أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا» . وكذا جاء: «خير دينكم أيسره» ... إلى غير ذلك. والله أعلم. انتهى كلام سيدي زروق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 8- «أجملوا في طلب الدّنيا؛ ... المغربي في «قواعده» . وهو موافق لما انتقده الشيخ أحمد بن حجر في «تحفته» حيث قال بعد استثناء هذه الصّور المنظومة سابقا: ولك أن تقول: لا يرد شيء من ذلك على القاعدة، لأن هذه كلّها لم تحصل الأفضلية فيها من حيث عدم أشقّيّتها؛ بل من حيثية أخرى اقترنت بها؛ كالاتّباع الذي يربو على ثواب الكثرة والمشقّة. فتأمله لتعلم ما في كلام الزركشي وغيره، فإنّ المجتهد قد يرى من المصالح المختصّة بالقليل ما يفضله على الكثير. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى. لكن قال العلّامة المحقّق الفقيه عبد الله بن سليمان الجرهزيّ اليمنيّ الزّبيديّ المتوفّى سنة: - 1201- إحدى ومائتين وألف هجرية رحمه الله تعالى آمين؛ معقّبا على كلام ابن حجر ما نصّه: قلت: فيه ما فيه!! إذ تفضيل القليل للاتباع مناف لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأجر على قدر النّصب» ، فإن لم يحمل على الاستثناء لم يزل الإشكال. انتهى كلام الجرهزي رحمه الله تعالى. 8- ( «أجملوا) - بهمزة قطع مفتوحة، فجيم ساكنة، فميم مسكورة- أي: ترفقوا (في طلب الدّنيا) بأن تطلبوا الرّزق طلبا جميلا؛ أي: تحسنوا السعي في نصيبكم منها بلا كدّ وتعب وتكالب، فلم يحرّم الطّلب بالكلّية، بل أمر بالإجمال فيه، وهو ما كان جميلا في الشرع؛ محمودا في العرف، فيطلب من جهة حلّه ما أمكن. ومن إجماله اعتماد الجهة التي هيّأها الله ويسّرها له، ويسّره لها، فينتفع بها ولا يتعدّاها. ومنه ألايطلب بحرص وقلق وشره ووله، حتى لا ينسى ذكر ربّه ولا يتورّط في شبهة؛ فيدخل فيمن أثنى عليهم بقوله تعالى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [37/ النور] ... الآية. قاله المناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فإنّ كلّا ميسّر لما كتب له منها» ... ثم وجه الأمر بذلك بقوله: (فإنّ كلّا) ؛ أي: كلّ أحد من الخلق (ميسّر) بوزن معظّم- أي: مهيّأ مصروف مسهل (لما كتب) : قدّر (له منها» ) يعني: الرزق المقدّر له سيأتيه ولا بدّ، فإنّ الله تعالى قسم الرزق وقدّره لكلّ أحد بحسب إرادته؛ لا يتقدّم ولا يتأخّر، ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه الأزليّ، وإن كان يقع ذلك بتبديل في اللّوح أو الصحف بحسب تعليق بشرط. وقال: «أجملوا» ، وما قال: «اتركوا» !! إشارة إلى أنّ الإنسان؛ وإن علم أنّ رزقه المقدّر له لا بدّ له منه لكن لا يترك السعي رأسا، فإن من عوائد الله في خلقه تعليق الأحكام بالأسباب، وترتيب الحوادث على العلل، وهذه سنته في خلقه مطّردة، وحكمته في ملكه مستمرة، وهو وإن كان قادرا على إيجاد الأشياء اختراعا وابتداعا؛ لا بتقديم سبب وسبق علة؛ بأن يشبع الإنسان بلا أكل، ويرويه بغير شرب، وينشئ الخلق بدون جماع.. لكنّه أجرى حكمته بأنّ الشبع والرّي والولد يحصل عقب الطّعم والشرب والجماع. فلذا قال: «أجملوا» ؛ إيذانا بأنّه وإن كان هو الرزّاق، لكنه قدر حصوله بنحو سعي رفيق، وحالة كسب من الطلب جميلة، فجمع هذا الخبر بالنظر إلى السبب، والمسبب، والمسبّب له؛ وذلك هو: الله، والرزق، والعبد، والسعي. وجمع بين المسبب والسبب!! لئلا يتّكل من تلبّس بأهل التّوكل وليس منهم، فيهلك بتأخّر الرزق؛ فربّما أوقعه في الكفر!! ولئلا ينسب الرزق لسعيه؛ فيقع في الشرك. وقد عرف بذلك أن من اجتهد في طلب الدّنيا وتهافت عليها شغل نفسه بما لا يجدي، وأتعبها فيما لا يغني، ولا يأتيه إلّا المقدور؛ فهو فقير وإن ملك الدنيا بأسرها، فالواجب على المتأدّب باداب الله تعالى أن يكل أمره إلى الله تعالى، ويسلّم له، ولا يتعدّى طوره، ولا يتجرّأ على ربّه ويترك التكلّف؛ فإنه ربّما كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 9- «الإحسان: ... خذلانا، ويترك التدبير فإنه قد يكون هوانا: والمرء يرزق لا من حيث حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الدّاهي قال بزرجمهر: وكل الله تعالى الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل؛ ليعلم أنّه لو كان الرزق بالحيل؛ لكان العاقل أعلم بوجوه مطلبه والاحتيال لكسبه. قال بعضهم: لو كان بالعقل الغنى لوجدتني ... بنجوم أفلاك السّماء تعلّقي لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... شيئان مفترقان أيّ تفرّق التقى ملكان فتساءلا؛ فقال أحدهما: أمرت بسوق حوت اشتهاه فلان اليهودي، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. انتهى ملخصا بعضه من المناوي على «الجامع» . وهذا الحديث رمز له في «الجامع الصغير» بأنه رواه ابن ماجه، والحاكم، والطبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «سننه» ؛ عن أبي حميد السّاعدي، قال في العزيزي: وهو حديث صحيح. وقال المناوي على «الجامع» : قال الحاكم: على شرطهما. وأقرّه الذهبي. لكن فيه هشام بن عمار! أورده الذهبي في «ذيل الضعفاء» ، وقال أبو حاتم: صدوق تغيّر، فكلّما لقّن تلقّن. وقال أبو داود: حدّث بأرجح من أربعمائة حديث لا أصل لها. وفيه إسماعيل بن عياش! أورده في «الضعفاء» ؛ وقال: مختلف فيه وليس بقوي. وفيه عمارة بن غزية! أورده في «الذيل» أيضا وقال: ثقة، ضعفه ابن حزم. انتهى كلام المناوي على «الجامع» . 9- ( «الإحسان) قال ابن حجر الهيتمي: «أل» فيه للعهد الذهني المذكور في الآيات الكثيرة نحو* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [26/ يونس] ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) [البقرة] ، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [الرحمن] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنّه يراك» . فلمّا كثر تكّرره وعظم ثوابه سأل عنه جبريل ليعلمهم بعظم ثوابه وكمال رفعته، وهو مصدر «أحسنت كذا» ، و «وفي كذا» إذا أحسنته وكمّلته؛ متعديا بهمزة، من حسن كذا، وبحرف الجر ك «أحسنت إليه» إذا فعلت معه ما يحسن فعله، والمراد هنا الأول إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات بأدائها على وجهها المأمور به مع رعاية حقوق الله تعالى فيها ومراقبته واستحضار عظمته وجلاله! ابتداء واستمرارا. وهو على قسمين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحقّ كما قال صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله) من عبد: أطاع، والتعبّد: التنسّك، والعبودية: الخضوع والذّلّ. (كأنّك تراه) . وهذا من جوامع الكلم لأنّه جمع مع وجازته بيان مراقبة العبد ربّه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال، والإخلاص له في جميع الأعمال، والحثّ عليهما مع بيان سببهما الحامل عليهما لملاحظة أنّه لو قدّر أنّ أحدا قام في عبادة وهو يعاين ربّه تعالى لم يترك شيئا ممّا يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن الصّمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها. والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه وتعالى مطّلع عليه ومشاهد له وقد بيّنه صلى الله عليه وسلّم بقوله: (فإن لم تكن تراه! فإنّه يراك» ) مشيرا إلى أنّه ينبغي للعبد أن يكون حاله مع فرض عدم عيانه لربه تعالى كهو مع عيانه؛ لأنّه تعالى مطّلع عليه في الحالين؛ إذ هو قائم على كلّ نفس بما كسبت، مشاهد لكلّ أحد من خلقه في حركته وسكونه؛ فكما أنّه لا يقدم على تقصير في الحال الأول؛ كذلك لا ينبغي له أن يقدم عليه في الحال الثاني، لما تقرر من استوائهما بالنسبة إلى اطّلاع الله تعالى وعلمه وشهود عظيم كماله، وباهر جلاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 10- «اختلاف أمّتي رحمة» . وقد ندب أهل الحقائق 1- إلى مجالسة الصالحين لأنه لاحترامه لهم وحيائه منهم لا يقدم على تقصير في حضرتهم. و 2- إلى أنّ العبد ينبغي له أن يكون في عبادة ربه كضعيف بين يدي جبّار؛ فإنه حينئذ يتحرّى ألايصدر منه سوء أدب بوجه. انتهى كلام ابن حجر في «شرح الأربعين» . وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام مسلم والثلاثة: أبي داود والترمذي والنسائي؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وهو قطعة من حديث طويل، أوله: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ... الحديث وهو مذكور بطوله في «كتاب الأربعين النووية» وكذا رمز له برمز أحمد والشيخين وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. 10- ( «اختلاف أمّتي رحمة» ) اعلم أن هذا الحديث قد تكلّم عليه العلماء قديما وحديثا من جهة معناه، ومن جهة عزوه، وأنا أنقل كلامهم؛ وإن وقع فيه تكرار في بعض المواضع لأجل حصول الفائدة بالوقوف على ما قيل فيه ... قال العجلوني في كتاب «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» ما نصّه: قال في «المقاصد» : رواه البيهقي في «المدخل» بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى؛ فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله! فسنّة منّي ماضية، فإن لم تكن سنّة منّي! فما قال أصحابي، إنّ أصحابي بمنزلة النّجوم في السماء، فأيّما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» . ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي بلفظه، وفيه ضعيف، وعزاه الزركشي وابن حجر في «اللآلئ» لنصر المقدسي في «الحجة» مرفوعا، من غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 ......... بيان لسنده؛ ولا لصحابيّه، وعزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بغير بيان لسنده أيضا؛ بلفظ: «اختلاف أصحابي رحمة لأمّتي» وهو مرسل ضعيف. وبهذا اللفظ أيضا ذكره البيهقي في «رسالته الأشعرية» بغير إسناد. وفي «المدخل» له عن القاسم بن محمد من قوله: اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم رحمة لعباد الله. وفيه أيضا عن عمر بن عبد العزيز: أنّه كان يقول: ما سرّني لو أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. وفيه أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون؛ فيحلّل هذا ويحرّم هذا. فلا يعيب هذا على هذا. ثمّ قال في «المقاصد» أيضا: قرأت بخط شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- أنّه حديث مشهور على الألسنة. وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس» ، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمّة أنّه لا أصل له، لكنّه ذكره الخطّابي في «غريب الحديث» مستطردا؛ فقال: اعترض هذا الحديث رجلان: أحدهما ماجن، والآخر ملحد؛ وهما إسحاق الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا: لو كان الاختلاف رحمة؛ لكان الاتفاق عذابا، ثمّ تشاغل الخطابي بردّ كلامهما، ولم يشف في عزو الحديث؛ لكنّه أشعر بأن له أصلا عنده. ثمّ قال الخطّابي: والاختلاف في الدّين ثلاثة أقسام: الأول: في إثبات الصانع ووحدانيّته، وإنكاره كفر. والثاني: في صفاته ومشيئته، وإنكارهما بدعة. والثالث: في أحكام الفروع المحتملة وجوها؛ فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث: «اختلاف أمتي رحمة» انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 ......... وقال النووي في «شرح مسلم» ج 11 ص 92: ولا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضدّه عذابا، ولا يلتزم هذا ولا يذكره إلّا جاهل أو متجاهل، وقد قال تعالى وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا [73/ القصص] فسمّى اللّيل رحمة، ولا يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا انتهى. ومثله يقال: فيما رواه ابن أبي عاصم في «السنة» عن أنس مرفوعا: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ، ورواه الترمذي عن ابن عمر بلفظ: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» . ورواه أحمد، والطبراني في «الكبير» عن أبي نصر الغفاري في حديث رفعه: «سألت ربّي ألاتجتمع أمتي على ضلالة» . فقد قيل مفهومه: إن اختلاف هذه الأمة ليس رحمة ونعمة، لكن فيه ما تقدم نظيره عن النووي وغيره. وفي «الموضوعات» للعلامة ملا علي قاري: أن السيوطي قال- يعني في «الجامع الصغير» -: أخرجه نصر المقدسي في «الحجة» ، والبيهقي في «الرسالة الأشعرية» بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي الحسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعلّه خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا!!. ثمّ قال السيوطي؛ عقب ذكره لكلام عمر بن عبد العزيز: وهذا يدلّ على أنّ المراد اختلافهم في الأحكام الفرعية، وقيل: في الحرف والصنائع، والأصحّ الأول، فقد أخرج الخطيب في رواة مالك؛ عن إسماعيل بن أبي المجالد قال: قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله؛ نكتب هذه الكتب- يعني مؤلفات الإمام مالك- ونفرّقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمّة؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمّة، كلّ يتبع ما صحّ عنده، وكل على هدى، وكلّ يريد الله تعالى. وفي «مسند الفردوس» عن ابن عباس مرفوعا: «اختلاف أصحابي لكم رحمة» . وذكر ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن القاسم بن محمد أنه قال: كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 ......... اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم رحمة للناس. وأخرجه أبو نعيم بلفظ: كان اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم رحمة لهؤلاء الناس. انتهى كلام «كشف الخفا ومزيل الإلباس» . وذكر في «شرح الإحياء» في كتاب العلم ج 1 ص 205 بعضا مما نقلناه عن «كشف الخفاء» ، وزاد أنّه رواه أبو نصر السّجزي في «الإبانة» ؛ وقال: غريب، والخطيب، وابن عساكر في «تاريخهما» . وقال ابن السبكي في «تخريج أحاديث المنهاج» : هذا شيء لا أصل له. وقال والده: لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع! انتهى. وقال ابن الملقّن في «تخريج أحاديث المنهاج» : لم أر من خرّجه مرفوعا بعد البحث الشديد عنه، وإنّما نقله ابن الأثير في مقدمة «جامعه» من قول مالك. انتهى كلام «شرح الإحياء» ملتقطا. وفي المناوي على «الجامع الصغير» : «اختلاف» افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور؛ ذكره الحراني. «أمّتي» ؛ أي: مجتهدي أمتي في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها، فالكلام في الاجتهاد في الأحكام؛ كما في «تفسير القاضي» قال: فالنهي مخصوص بالتفرّق في الأصول؛ لا الفروع. انتهى. قال السبكي: ولا شكّ أن الاختلاف في الأصول ضلال؛ وسبب كلّ فساد؛ كما أشار إليه القرآن. وأمّا ما ذهب إليه جمع؛ من أنّ المراد الاختلاف في الحرف والصنائع! فردّه السّبكي بأنّه كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة؛ إذ لا خصوص للأمة بذلك، فإنّ كلّ الأمم مختلفون في الحرف والصنائع! فلا بدّ من خصوصية!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 ......... قال: وما ذكره إمام الحرمين في «النهاية» كالحليمي؛ من أنّ المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب؛ فلا ينساق الذهن من لفظ «الاختلاف» إليه. «رحمة» للناس. كذا هو ثابت في رواية من عزا المصنف الحديث إليه، فسقطت اللفظة منه سهوا؛ أي: اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعدّدة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلّم بكلّها؛ لئلا تضيق بهم الأمور من إضافة الحقّ الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم، ولم يكلّفوا ما لا طاقة لهم به توسعة في شريعتهم السمحة السهلة، فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة، خصّت بها هذه الأمّة، فالمذاهب التي استنبطها أصحابه فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوّعها كشرائع متعددة، وقد وعد بوقوع ذلك فوقع، وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم: أما الاختلاف في العقائد فضلال ووبال كما تقرّر، والحقّ ما عليه أهل السّنة والجماعة فقط. فالحديث إنّما هو في الاختلاف في الأحكام. و «رحمة» نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي عموما فيكفي في صحّته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت مّا في حال مّا على وجه مّا. وأخرج البيهقي في «المدخل» عن القاسم بن محمد؛ أو عمر بن عبد العزيز: لا يسرّني أنّ أصحاب محمد؛ لم يختلفوا، لأنّهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. ويدلّ لذلك ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فبأيّهم اقتديتم اهتديتم: واختلاف أصحابي لكم رحمة» . قال السّمهوديّ: واختلاف الصّحابة في فتيا اختلاف الأمّة. وما روي من أن مالكا لما أراده الرشيد على الذّهاب معه إلى العراق؛ وأن يحمل الناس على «الموطأ» كما حمل عثمان الناس على القرآن؟ فقال مالك: أمّا حمل الناس على «الموطأ» فلا سبيل إليه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم افترقوا بعد موته صلى الله عليه وسلّم في الأمصار، فحدّثوا، فعند أهل كلّ مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 ......... «اختلاف أمتي رحمة» كالصّريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام، كما نقله ابن الصلاح؛ عن مالك من أنّه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد. قال: وليس كما قال ناس: فيه توسعة على الأمّة بالاجتهاد إنّما هو بالنّسبة إلى المجتهد، لقوله: فعليك بالاجتهاد، فالمجتهد مكلّف بما أدّاه إليه اجتهاده؛ فلا توسعة عليهم في اختلافهم، وإنّما التوسعة على المقلّد، فقول الحديث «اختلاف أمّتي رحمة للناس» أي: لمقلديهم، ومساق قول مالك «مخطئ ومصيب ... الخ» إنّما هو الردّ على من قال: من كان أهلا للاجتهاد له تقليد الصحابة دون غيرهم. وفي «العقائد» لابن قدامة الحنبلي: «إن اختلاف الأئمة رحمة واتفاقهم حجة» . انتهى. فإن قلت: هذا كلّه لا يجامع نهي الله تعالى عن الاختلاف، بقوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [103/ آل عمران] وقوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [105/ آل عمران] ؟! الآية. قلت: هذه دسيسة ظهرت من بعض من في قلبه مرض، وقد قام بأعباء الردّ عليه جمع جمّ؛ منهم: ابن العربي وغيره بما منه أنّه سبحانه وتعالى إنما ذمّ كثرة الاختلاف على الرسل كفاحا، كما دلّ عليه خبر: «إنّما أهلك الّذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم» . وأما هذه الأمّة! فمعاذ الله تعالى أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين؛ لأنه أوعد الّذين اختلفوا بعذاب عظيم. والمعترض موافق على أنّ اختلاف هذه الأمّة في الفروع مغفور لمن أخطأ منهم، فتعيّن أنّ الآية فيمن اختلف على الأنبياء؛ فلا تعارض بينها وبين الحديث. وفيه ردّ على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض، وقد عمّت به البلوى وعظم به الخطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 ......... قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كثير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلفات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأنّ غرضهم ليس إلا اتّباع الكتاب والسّنة، وكلّ ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل. قال: وإذا رأيت فقيها خالف حديثا، أو ردّ حديثا، أو حرّف معناه، فلا تبادر لتغليطه؛ فقد قال عليّ كرّم الله وجهه- لمن قال له: أتظنّ أنّ طلحة والزّبير كانا على باطل!؟ -: يا هذا إنّه ملبوس عليك، وإن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله. وما زال الاختلاف بين الأئمة واقعا في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكلّ على تعظيم الباري جلّ جلاله، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حقّ، وأن كتابهم واحد، ونبيّهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحقّ، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف، فإن داخلها زهو من الأكمل، وانكسار من الأصغر! فذلك دأب النفوس الزكية في بعض الأحيان غفلة عن الله تعالى؛ فما الظّنّ بالنفوس الشريرة المنطقية. انتهى. ويجب علينا أن نعتقد أنّ الأئمة الأربعة والسّفيانين والأوزاعي وداود الظاهري وإسحاق بن راهواه وسائر الأئمة على هدى، ولا التفات لمن تكلّم فيهم بما هم بريئون منه. والصحيح- وفاقا للجمهور- أن المصيب في الفروع واحد، ولله تعالى فيما حكم عليه أمارة، وأنّ المجتهد كلّف بإصابته، وأن مخطئه لا يأثم؛ بل يؤجر، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. نعم؛ إن قصّر المجتهد أثم اتفاقا، وعلى غير المجتهد أن يقلّد مذهبا معيّنا. وقضية جعل الحديث «الاختلاف رحمة» جواز الانتقال من مذهب لآخر. والصحيح عند الشافعية جوازه، لكن لا يجوز تقليد الصحابة وكذا التابعين- كما قاله إمام الحرمين- من كلّ من لم يدوّن مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحرّرت؛ حتى ظهر تقييد مطلقها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 ......... وتخصيص عامّها، بخلاف غيرهم؛ لانقراض أتباعهم. وقد نقل الإمام الرازي رحمه الله تعالى إجماع المحققين على منع العوامّ من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم. انتهى. نعم؛ يجوز لغير عامّي من الفقهاء المقلّدين تقليد غير الأربعة في العمل لنفسه؛ إن علم نسبته لمن يجوز تقليده وجمع شروطه عنده. لكن بشرط ألايتتبع الرّخص بأن يأخذ من كلّ مذهب بالأسهل بحيث تنحلّ ربقة التكليف من عنقه. وإلا! لم يجز. خلافا لابن عبد السلام حيث أطلق جواز تتبّعها، وقد يحمل كلامه على ما إذا تتبّعها على وجه لا يصل إلى الانحلال المذكور. وقول ابن الحاجب كالآمدي «من عمل في مسألة بقول إمام ليس له العمل فيها بقول غيره اتفاقا» !! إن أراد به اتفاق الأصوليين، فلا يقضي على اتفاق الفقهاء والكلام فيه. وإلا! فهو مردود، أو مفروض فيما لو بقي من آثار العمل الأول ما يستلزم تركّب حقيقة لا يقول بها كلّ من الإمامين؛ كتقليد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس؛ والإمام مالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة؛ فعلم أنّه إنما يمتنع تقليد الغير في تلك الواقعة نفسها، لا مثلها. كأن أفتي ببينونة زوجته بنحو تعليق فنكح أختها، ثم أفتي بأن لا بينونة ليس له الرجوع للأولى بغير إبانتها «1» . وكأن أخذ بشفعة جوار تقليدا للحنفي، ثم استحقت عليه فيمتنع تقليده للشافعي في تركها؛ لأنّ كلّا من الإمامين لا يقول به، فلو اشترى بعده عقارا وقلّد الإمام الشافعي في عدم القول بشفعة الجوار لم يمنعه ما تقدّم من تقليده في ذلك، فله الامتناع من تسليم العقار الثاني، وإن قال الآمدي وابن الحاجب ومن على قدمهما- كالمحلّي- بالمنع في هذا، وعمومه في جميع صور   (1) أي الأخت الثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 ......... ما وقع العمل به أوّلا؛ فهو ممنوع، وزعم الاتفاق عليه باطل. وحكى الزركشي أنّ القاضي أبا الطيّب أقيمت صلاة الجمعة فهمّ بالتكبير؛ فذرق عليه طير، فقال: أنا حنبلي، فأحرم، ولم يمنعه عمله بمذهبه من تقليد المخالف عند الحاجة!!. وممن جرى على ذلك السبكي فقال: المنتقل من مذهب لآخر له أحوال. الأول: أن يعتقد رجحان مذهب الغير، فيجوز عمله به! اتباعا للراجح في ظنّه. الثاني: ألايعتقد رجحان شيء، فيجوز. الثالث: أن يقصد بتقليده الرخصة فيما يحتاجه؛ لحاجة لحقته أو ضرورة أرهقته، فيجوز. الرابع: أن يقصد مجرّد الترخّص فيمتنع، لأنّه متبع لهواه؛ لا للدّين. الخامس: أن يكثر ذلك ويجعل اتباع الرّخص ديدنه، فيمتنع؛ لما ذكر ولزيادة فحشه. السادس: أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع! فيمتنع. السابع: أن يعمل بتقليد الأوّل كحنفيّ يدّعي شفعة جوار فيأخذها بمذهب الحنفيّ! فتستحق عليه؛ فيريد تقليد الإمام الشافعي، فيمتنع لخطئه في الأولى أو الثانية؛ وهو شخص واحد مكلّف. قال: وكلام الآمدي وابن الحاجب منزّل عليه. وسئل البلقيني عن التقليد في المسألة السريجيّة فقال: أنا لا أفتي بصحة الدور، لكن إذا قلّد من قال بعدم وقوع الطلاق كفى، لا يؤاخذه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها؛ أي مع التقليد. وهو ذهاب منه إلى جواز تقليد المرجوح وتتبعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 ......... قال بعضهم: ومحل ما مرّ من منع تتبّع الرّخص إذا لم يقصد به مصلحة دينيّة، وإلا! فلا منع؛ كبيع مال الغائب، فإن السبكيّ أفتى بأن الأولى تقليد الشافعي فيه، لاحتياج الناس غالبا في نحو مأكول ومشروب إليه، والأمر إذا ضاق اتسع. وعدم تكرير الفدية بتكرر المحرم اللّبس، فالأولى تقليد الشافعي لمالك فيه. كما أفتى به الأبشيطي رحمه الله تعالى. وذهب الحنفية إلى منع الانتقال مطلقا. قال في «فتح القدير» : المنتقل من مذهب لمذهب باجتهاد وبرهان آثم، عليه التعزير وبدونهما أولى. ثم حقيقة الانتقال إنما تتحقق في حكم مسألة خاصّة قلّد فيها وعمل بها، وإلا! فقوله «قلّدت أبا حنيفة فيما أفتى به من المسائل أو التزمت العمل به» على الإجمال وهو لا يعرف صورها! ليس حقيقة التقليد بل وعد به، أو تعليق له كأنّه التزم العمل بقوله فيما يقع له، فإذا أراد بهذا الالتزام؛ فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد بالزامه نفسه بذلك! قولا أو نيّة شرعا، بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما يحتاجه بقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) [الأنبياء] ، والمسؤول عنه إنّما يتحقّق عند وقوع الحادثة!!. قال: والغالب أنّ مثل هذه الالتزامات لكفّ الناس عن تتبّع الرّخص، إلا أنّ أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، ولا يدرى ما يمنع هذا من النقل والعقل. انتهى. وذهب بعض المالكية إلى جواز الانتقال بشروط: ففي «التنقيح» للقرافي؛ عن الزناتي: التقليد يجوز بثلاثة شروط 1- ألايجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع؛ كمن تزوّج بلا صداق، ولا وليّ ولا شهود؛ فإنه لم يقل به أحد. و 2- أن يعتقد في مقلّده الفضل، و 3- ألايتتبع الرخص والمذاهب. وعن غيره: يجوز فيما لا ينقض فيه قضاء القاضي، وهو ما خالف الإجماع، أو القواعد الكليّة، أو القياس الجليّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 11- «اخزن لسانك ... ونقل عن الحنابلة ما يدلّ للجواز. وقد انتقل جماعة من المذاهب الأربعة من مذهبه لغيره؛ منهم عبد العزيز بن عمران كان مالكيا؛ فلمّا قدم الإمام الشافعيّ- رحمه الله تعالى- مصر تفقّه عليه. وأبو ثور من مذهب الحنفيّ إلى مذهب الشافعيّ. وابن عبد الحكم من مذهب مالك إلى الشافعيّ، ثم عاد إلى مذهب مالك. وأبو جعفر بن نصر من الحنبليّ إلى الشافعيّ. والطحاويّ من الشافعيّ إلى الحنفيّ. والإمام السّمعاني من الحنفي إلى الشافعيّ. والخطيب البغدادي والآمدي وابن برهان من الحنبلي إلى الشافعيّ، وابن فارس صاحب «المجمل» من الشافعيّ إلى المالكيّ، وابن الدّهان من الحنبلي للحنفيّ؛ ثم تحول شافعيا. وابن دقيق العيد من المالكي إلى الشافعيّ، وأبو حيان من الظّاهريّ للشافعيّ! ذكره الإسنوي وغيره. وإنما أطلنا وخرجنا عن جادة الكتاب!! لشدّة الحاجة لذلك، وقد ذكر جمع أنه من المهمات التي يتعيّن اتقانها. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى في شرح «الجامع الصغير» . 11- ( «اخزن لسانك) ؛ أي: صنه واحفظه عن التكلم فيما لا يعنيك، فإن الكلام ترجمان يعبّر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، ولا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على دفع شوارده، فحقّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه، أو الإقلال منه. قال عليّ كرّم الله وجهه: اللسان معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 ......... ولله درّ القائل: احفظ لسانك أيّها الإنسان ... لا يلدغنّك إنّه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشّجعان قال ابن الأعرابي: أمراض النفس قولية وفعلية، وتفاريع القولية كثيرة، لكن عللها وأدويتها محصورة في أمرين: الأول: ألاتتكلم إذا اشتهيت أن تتكلم. والآخر: ألاتتكلم إلا فيما إن سكتّ عنه عصيت، وإلّا! فلا، وإيّاك والكلام عند استحسان كلامك، فإن حالتئذ من أكبر الأمراض، وما له دواء إلّا الصمت، وقد نسب إلى الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى في آفات اللسان هذه المنظومة: تعلّم حفظ آفات اللّسان ... لتحظى بالأمان وبالأماني وخذها إنّها سبعون شيئا ... حكت في نظمها عقد الجمان فكفر والخطامع خوف كفر ... وكذب ثمّ سبّ في هوان وفحش غيبة ونميمة مع ... مراء والجدال وطعن جاني وسخرية وتعريض ولعن ... ونوح واشتغال بالأغاني مخاصمة وإفشاء لسرّ ... وخوض في محلّ بافتتان سؤال المال والدّنيا، نفاق ... بقول والكلام لدى الأذان سؤالك عن أغاليط وأيضا ... عوام النّاس عن صعب المعاني وتغليظ الكلام وأمر نكر ... ونهي العرف عن خطأ اللّسان سؤال عن عيوب النّاس أخذ ... لذي الوجهين في أمر الدّهان كلام حالة القرآن يتلى ... وبعد طلوع فجر للعيان وحالة خطبة وبمسجد مع ... دخول خلا لحاجات تعاني وفي حال الصّلاة وفي جماع ... وفتح القول عند كبير شان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 إلّا من خير» . وبالألقاب نبز مع يمين ... غموس أو بغير الله دان إخافة مؤمن وفضول قول ... وإكثار اليمين بلا توان على غير الدّعاء كأهل ظلم ... بدون صلاح حال كلّ آن سؤال إمارة ووصيّة مع ... تولّيه على دار وخان وردّ كلام متبوع وقطع ... لقول الغير شعر ذو امتهان تناجي اثنين مدح مع مزاح ... ونطق بالّذي هو غير عاني على النّفس الدّعاء وردّ عذر ... أتى بالرّأي تفسير القران سؤالك عن حلال أو طهور ... بغير محلّه قصد امتحان وسجع والفصاحة مع سلام ... على الذّمي وذي فسق مهان كذا متغوّط أو بائل مع ... كلام الأجنبيّة في مكان وإرشاد لنحو طريق سوء ... وإذن في المعاصي للمدان وآفات العبادات اللّواتي ... تعدّت والّتي قصرت لفان كذا الآفات ضمن معاملات ... وآفات السّكوت بلا بيان وقد تمّت بعون الله فاخلص ... لناظمها دعاءك بالجنان وقد ذكر الإمام الغزالي في «إحياء علوم الدين» آفات اللّسان مفصّلة بما يشفي العليل فراجعها إن شئت. (إلّا من خير» ) كقراءة القرآن، وذكر الله تعالى، ومذاكرة العلم، والأمر بالمعروف، وذلك أن قول الخير خير من السكوت؛ لأن قول الخير ينتفع به من يسمعه، والصّمت لا يتعدّى نفعه. وهذا الحديث رواه الطبراني في «الصغير» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وتمام الحديث: «فإنّك بذلك تغلب الشّيطان» وقد جاءت أحاديث كثيرة في التحذير من خطر اللّسان، ولا نجاة من خطره إلّا بالصّمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحثّ عليه؛ فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 12- «أخلص العمل ... من قوله: «من صمت نجا» رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو- بسند فيه ضعف- وقال: غريب، وهو عند الطبراني- بسند جيّد-. وروى الإمام أحمد والترمذيّ- وصححه- والنسائيّ وابن ماجه؛ عن عبد الله بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الثقفي، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ قال: «قل آمنت بالله ثمّ استقم» . قال: قلت فما أتقي؟ فأومأ بيده إلى لسانه. وهو عند مسلم دون آخر الحديث الذي فيه ذكر اللّسان. وأخرج الترمذي- وقال: حسن- عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك» . وأخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه أضمن له الجنّة» . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم أنّه قال «من سرّه أن يسلم فليلزم الصّمت» . رواه ابن أبي الدّنيا في «الصمت» ، وأبو الشيخ في «فضائل الأعمال» ، والبيهقي في «الشعب» كلّهم من حديث أنس رضي الله عنه- بإسناد فيه ضعف-. وأخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رفعه قال: «إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلّها تكفّر اللّسان تقول: اتّق الله فينا، فإنّك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» . وروى ابن أبي الدنيا في «الصمت» ؛ من طريق وهيب بن الورد قال: كان يقال: الحكمة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصمت، والعاشر: عزلة الناس. 12- ( «أخلص) - بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجّمة، وكسر اللام- (العمل) ، الإخلاص الكامل: أن تعبد ربك امتثالا لأمره، وقياما بحقّ ربوبيته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 يجزك منه القليل» . لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره، ولا للسلامة من عضّة الدّهر ونكبته؛ وذلك لأن الإخلاص ثلاث درجات: عليا: وهو أن يعمل العبد لله وحده! امتثالا لأمره وقياما بحق ربوبيّته. ووسطى: وهو أن يعمل لثواب الآخرة. ودنيا: وهو أن يعمل للإكرام في الدنيا والسلامة من آفاتها. وما عدا هذه الثلاث المراتب؛ فهو من الرّياء، فإذا اخلصت العمل لله تعالى (يجزك منه) ؛ أي: من العمل الخالص لله (القليل» ) وتكون تجارتك رابحة، وفي «التوراة» : ما أريد به وجهي فقليله كثير، وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل. ومن كلامهم: لا تسع في إكثار الطاعة بل إخلاصها. وقال الغزالي: أقلّ طاعة سلمت من الرياء والعجب وقارنها الإخلاص يكون لها عند الله تعالى من القيامة ما لا نهاية له. وأكثر طاعة إذا أصابتها هذه الآفة لا قيمة لها، إلّا أن يتداركها الله تعالى بلطفه. قال ابن الكمال: الإخلاص- لغة-: ترك الرياء في الطاعة. واصطلاحا-: تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدّر لصفائه، وكلّ شيء تصوّر أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه فخلص منه سمّي خالصا. قال بعضهم: ولا شكّ أن كلّ من أتى بفعل اختياري فلا بدّ له فيه من غرض، فمهما كان الباعث واحدا سمّي الفعل الصادر عنه إخلاصا؛ فمن تصدّق وغرضه محض الرياء؛ فهو غير مخلص، ومن كان غرضه محض التقرّب إلى الله تعالى! فهو مخلص، لكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرّب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل، لكن خصّصته العادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 13- «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ... بالميل عن الحقّ. ومن كان باعثه مجرّد الرّياء فهو معرّض للهلاك، فالإخلاص شرط لقبول كلّ طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أخلصوا أعمالكم لله، فإنّ الله لا يقبل إلا ما خلص له» رواه الدارقطني عن الضحّاك بن قيس رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: ولكلّ عمل من المأمورات خصوص اسم في الإخلاص، كإخلاص المنفق بأن الإنعام من الله؛ لا من العبد، وكإخلاص المجاهد بأن النّصر من الله؛ لا من العبد المجاهد، قال الله تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [126/ آل عمران] وكذا سائر الأعمال. انتهى كلام المناوي في «شرح الجامع» . وهذا الحديث أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» ؛ من حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه- وإسناده منقطع-، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب «الإخلاص» ، وابن أبي حاتم، والحاكم، وأبو نعيم في «الحلية» من حديث معاذ؛ قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اليمن قلت: أوصني، فقال: «أخلص دينك يكفك القليل من العمل» . وقال الحاكم: صحيح، وتعقّبه الذهبي. انتهى ذكره في «شرح الإحياء» . 13- ( «أدّ) - بفتح الهمزة، وكسر الدّال- وجوبا في الواجب، وندبا فيما تطلب فيه المعاونة من الأداء. قال الراغب: وهو دفع ما يجب دفعه وتوفيته؛ أي: أوصل. (الأمانة) وهي: كلّ حقّ لزمك أداؤه وحفظه، ومن قصرها على حقّ الحقّ أو حقّ الخلق! فقد قصّر. قال القرطبي: الأمانة تشمل أعدادا كثيرة، لكن أمهاتها: الوديعة، واللقطة، والرهن، والعاريّة. (إلى من ائتمنك) عليها، ولا مفهوم له؛ بل غالبيّ، فإنّ حفظها أثر كمال الإيمان، فإذا نقص نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت. والمراد: من جعل لك الشرع على ماله يدا؛ فشمل ما إذا ألقت الريح ثوبا في بيتك، أو دخل فيه جائع. والمراد بأدائها: إيصالها إليه بالتخلية بينه وبينها؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 ولا تخن من خانك» . فليست الأمانة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء؛ من أنّها الوديعة التي لم يضمنها ذو اليد إذا لم يقصر. وقال النووي: الظاهر أن المراد بالأمانة: التكليف الذي كلّف الله به عباده، والعهد الذي أخذه الله عليهم، وهي التي في قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [72/ الأحزاب] ... الآية. وفي «النهاية» الأمانة: تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان. وقال الفخر الرازيّ: قيل: هي التكليف، سمّي أمانة!! لأنّ من قصّر فعليه الغرامة، ومن وفّى فله الكرامة. وقيل: هي لا إله إلّا الله، وهو بعيد. فالأكوان ناطقة بأن الله واحد. وقيل: هي الأعضاء، فالعين أمانة ينبغي حفظها، والأذن كذلك، وبقيّة الأعضاء. وقيل: هي معرفة الله تعالى. ولما كانت النفوس نزّاعة إلى الخيانة روّاغة عند مضائق الأمانة، وربّما تأوّلت جوازها مع من لم يلتزمها أعقبه بقوله: (ولا تخن من خانك» ) ؛ أي: لا تعامله بمعاملته، ولا تقابل خيانته بخيانتك؛ فتكون مثله، وليس منها ما يأخذه الإنسان من مال من جحده حقّه إذ لا تعدّي فيه. أو المراد: إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته، وإن كان حسنا؛ أي: جائزا، بل قابله بالأحسن الذي هو العفو، وادفع بالّتي هي أحسن، وهذا- كما قاله الطيبي- أحسن. وهذه مسألة تتكرّر على ألسنة الفقهاء ولهم فيها أقوال؛ الأول: لا تخن من خانك مطلقا، وهذا ظاهر الحديث. الثاني: خن من خانك! قاله الشافعي، وهو مشهور مذهب مالك!! وأجابوا عن هذا الحديث بأنّه لم يثبت، أو المعنى: لا تأخذ منه أزيد من حقك، أو هو إرشاد إلى الأكمل كما مرّ، واحتجّوا بقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 ......... فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [194/ البقرة] ، وبحديث هند وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف» . الثالث: إن كان ممّا ائتمنك عليه من خانك فلا تخنه، وإن كان ليس في يدك فخذ حقّك منه؛ قاله مالك. الرابع: إن كان من جنس حقّك فخذه، وإلّا فلا! قاله أبو حنيفة. قال ابن العربي: والصحيح منها جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه؛ أو غير جنسه إذا عدلت؛ لأنّ ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت. انتهى من الزرقاني على «المواهب» ، والمناوي على «الجامع» . وهذه المسألة تلقّب عند الفقهاء ب «مسألة الظّفر» . وتحرير القول فيها أنّ الحقّ إمّا أن يكون عينا؛ أو دينا؛ أو منفعة. 1- فالعين إن خشي من أخذها ممّن هي عنده ضررا؛ فلا بدّ فيها من الرفع إلى الحاكم؛ تحرزا عن الضّرر، وإلّا! فله أخذها استقلالا للضرورة. 2- والدّين إن كان على غير ممتنع من أدائه طالبه به؛ فلا يأخذ شيئا له من غير مطالبة، ولو أخذه! لم يملكه، ويلزمه ردّه، فإن تلف؟ ضمنه، وإن كان على ممتنع من أدائه! ولو مقرّا؟ جاز له أخذ جنس حقه بصفته بطريق الظّفر. ويملكه بمجرّد الأخذ؛ فلا يحتاج إلى صيغة تملك، فإن تعذّر عليه الجنس المذكور؛ بأن وجد غير جنس حقّه، أو جنس حقّه بغير صفته؟ أخذه مقدّما النقد على غيره. ويبيعه مستقلّا كما يستقل بالأخذ؛ لما في الرفع إلى الحاكم من المؤنة والمشقّة وتضييع الزمان حيث لا حجّة له، وإلّا! فلا يبيع إلا بإذن الحاكم، ولا يبيعه إلّا بنقد البلد، فإن كان جنس حقّه! تملّكه، وإن كان غير جنس حقّه؟ اشترى به جنس حقّه ثمّ تملكه. ولا يأخذ فوق حقّه إن أمكن الاقتصار على حقّه، فإن لم يمكن؟ أخذ فوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 ......... حقّه، ولا تضمن الزيادة لعذره، وباع منه بقدر حقّه إن أمكن تجزّؤه، وإلّا! باع الكلّ وأخذ من ثمنه قدر حقّه، وردّ الباقي بصورة هبة ونحوها. وله أخذ مال غريم غريمه؛ إن لم يظفر بمال غريمه، وكان غريم الغريم ممتنعا أيضا. وله فعل ما لا يصل للمال إلّا به؛ ككسر باب ونقب جدار وقطع ثوب، ولا يضمن ما فوّته بذلك، ومحلّ ذلك إذا كان ما يفعل به ذلك ملكا للمدين؛ ولم يتعلق به حقّ لازم؛ كرهن وإجارة. وما ذكر في دين آدميّ. إمّا دين الله تعالى؟ كزكاة امتنع المالك من أدائها! فليس للمستحق الأخذ من ماله إذا ظفر به لتوقّفه على النيّة. 3- والمنفعة إن كانت واردة على عين؛ فهي كالعين، فله استيفاؤها منها بنفسه إن لم يخش من ذلك ضررا، وإلّا! فلا بد من الرّفع إلى الحاكم. وإن كانت واردة على ذمّة؟ فهي كالدّين، فإن كانت على غير ممتنع طالبه بها، ولا يأخذ شيئا من ماله بغير مطالبة، وإن كانت على ممتنع؛ وقدر على تحصيلها بأخذ شيء من ماله؟ فله ذلك بشرطه. هذا تفصيل «مسألة الظّفر» في كتب الفقه الشافعي، والله أعلم. وهذا الحديث رواه البخاري في «التاريخ» ، وأبو داود والترمذيّ في «البيوع» ؛ من رواية شريك بن عبد الله النخعي، ومن رواية قيس بن الربيع: كلاهما عن أبي صالح السمان. ورواه الحارث بن أبي أسامة من رواية الحسن البصري: كلاهما- أي: الحسن البصري وأبي صالح السمان- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه الدارمي في «مسنده» والحاكم! وقال: إنه صحيح على شرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 14- «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» . مسلم، ولكن أعلّه ابن حزم، وكذا ابن القطان والبيهقي، وقال أبو حاتم: إنّه منكر؛ أي: ضعيف. وقال الإمام الشافعي: إنّه ليس بثابت عند أهله؛ أي: ضعيف. وقال الإمام أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم من وجه صحيح، ولعلّ كلام الإمام أحمد باعتبار ما وقف عليه! وإلّا؛ فليس في رواته وضّاع ولا كذّاب، ويحتمل أن يكون ليس مراد الإمام أحمد حقيقة البطلان بل الضعف، بدليل قوله لا أعرفه ... الخ. وقال ابن ماجه: له طرق ستّة كلّها ضعيفة. قال السخاوي: لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى. أي: لأنّ تباين الطّرق وكثرتها يفيد قوّة؛ وأن للحديث أصلا. وقد رواه الدارقطني، والطبراني في «الكبير» و «الصغير» ؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، ورجاله ثقات، وصحّحه الضياء في «المختارة» ورواه الطبراني في «الكبير» وابن عساكر والبيهقي من حديث أبي أمامة- بإسناد ضعيف-، والدارقطني عن أبيّ بن كعب بإسناد ضعيف، والطبراني أيضا عن رجل من الصحابة. فحديث أبي هريرة لا يقصر عن درجة الحسن، وقد صحّحه ابن السّكن. وسبب الحديث كما رواه إسحاق بن راهواه في «مسنده» أن رجلا زنى بامرأة آخر، ثمّ تمكّن الآخر من زوجة الزّاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر ... فذكر الحديث؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . 14- ( «أدّبني ربّي) ؛ أي: علّمني رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة. (فأحسن تأديبي» ) بإفضاله عليّ بالعلوم الوهبيّة ممّا لم يقع نظيره لأحد من البريّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 ......... قال بعضهم: أدّبه باداب العبوديّة، وهذّبه بمكارم أخلاق الربوبيّة؛ لما أراد إرساله ليكون ظاهر عبوديّته مرآة للعالم؛ كقوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» وباطن حاله مرآة للصادقين في متابعته، وللصديقين في السير إليه؛ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [31/ آل عمران] . وقال القرطبي: حفظه الله من صغره، وتولّى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كرّه إليه أحوال الجاهلية وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كلّ ذلك لطف به وعطف عليه، وجمع للمحاسن لديه. انتهى. وقال بعضهم: أدّب الله روح رسوله وربّاها في محل القرب قبل اتصالها ببدنه باللّطف والهيبة؛ فتكامل له الأنس باللّطف، والأدب بالهيبة، واتصلت بعد ذلك بالبدن ليخرج من اتّصالها كمالات أخرى من القوّة إلى الفعل، وينال كلّ من الروح والبدن بواسطة الآخر من الكمال ما يليق بالحال، ويصير قدوة لأهل الكمال. والأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا. أو الأخذ بمكارم الأخلاق. أو الوقوف مع المستحسنات، أو تعظيم من فوقه مع الرفق بمن دونه، وقيل: غير ذلك. والحديث المذكور رواه الإمام أبو سعد ابن السمعاني في كتاب «أدب الإملاء» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أدّبني فأحسن تأديبي، ثمّ أمرني بمكارم الأخلاق؛ فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) » [الأعراف] . قال السخاوي: سند هذا الحديث ضعيف جدّا، وإن اقتصر شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- على الحكم عليه بالغرابة؛ في بعض «فتاويه» !!. ولكن معناه صحيح. ولذا جزم بحكايته ابن الأثير في خطبة «النهاية» وغيرها، ثمّ قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 15- «إذا أراد الله بعبد خيرا.. فقّهه في الدّين، ... وبالجملة فهو كما قال ابن تيمية: لا يعرف له إسناد ثابت. وقال السيوطي في «الدرر» : ضعّفه ابن السّمعاني وابن الجوزي، وصحّحه أبو الفضل ابن ناصر رحمهم الله تعالى، آمين. 15- ( «إذا أراد الله بعبد خيرا) كاملا (فقّهه في الدّين) ؛ أي: فهّمه الأحكام الشرعية بتصوّرها والحكم عليها، أو باستنباطها من أدلّتها، وكلّ ميسّر لما خلق له، هذا ما عليه الجمهور. وقال الغزالي: أراد العلم بالله وصفاته الّتي تنشأ عنها المعارف القلبيّة؛ لأنّ الفقه المتعارف؛ وإن عظم نفعه في الدّين؛ لكنّه يرجع إلى الظواهر الدينيّة، إذ غاية نظر الفقيه في الصّلاة مثلا الحكم بصحّتها عند توفّر الواجبات والمعتبرات. وفائدته: سقوط الطلب في الدنيا. وأما قبولها وترتّب الثواب فليس من تعقّله، بل يرجع إلى عمل القلب وما تلبّس به من نحو خشية ومراقبة، وحضور وعدم رياء ونحو ذلك؛ فهذا لا يكون أبدا إلا خالصا لوجه الله، فهو الّذي يصحّ كونه علامة على إرادة الخير بالعبد. وأما الفقهاء فهم في واد والمتزوّدون للآخرة بعلمهم في واد. ألا ترى إلى قول مجاهد «إنّما الفقيه من يخاف الله» ، وقول الحسن- لمن قال «قال الفقهاء» -: وهل رأيت فقيها؛ إنّما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة!! والفقه في المعرفة أشرف كلّ معلوم، لأن كلّ صفة من صفاته توجب أحوالا ينشأ عنها التلبّس بكلّ خلق سنيّ، وتجنّب كلّ خلق رديّ. فالعارفون أفضل الخلق، فهم بالإرادة أخلق وأحقّ. وأمّا تخصيص الفقه بمعرفة الفروع وعللها! فتصرّف حادث بعد الصدر الأول. انتهى؛ من المناوي على «الجامع» . وقال الحفني على «الجامع الصغير» : الظاهر أن المراد في هذا الحديث ونظيره بالفقه: العلم بالله تعالى وصفاته والتخلّق بمقتضى ما علم؛ إذ هذا هو الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وزهّده في الدّنيا، وبصّره عيوبه» . ينفع القلب. وعلم الفقه المعلوم! وإن كان خيرا كبيرا! لا دخل له في تطهير القلب، إذ هو مجرد أحكام ووقائع. انتهى. (وزهّده) - بالتشديد-: صيّره زاهدا (في الدّنيا) ؛ أي: جعل قلبه معرضا عنها، مبغضا محقرا لها؛ رغبة به عنها، تكريما له، وتطهيرا عن أدناسها، ورفعة عن دناءتها. (وبصّره) - بالتشديد- (عيوبه» ) ؛ أي: عرّفه بها وأوضحها له؛ ليتجنّبها كأمراض القلب؛ من نحو حسد وحقد، وغلّ وغش، وكبر ورياء، ومداهنة وخيانة، وطول أمل وقسوة قلب، وعدم حياء وقلّة رحمة.. وأمثالها. وفيه دلالة على أنّ الزهد في الدنيا علامة إرادة الله الخير بعبده. قال الغزالي: والزهد فيها: أن تنقطع همّته عنها ويستقذرها ويستنكرها؛ فلا يبقى لها في قلبه اختيار ولا إرادة، والدنيا وإن كانت محبوبة مطلوبة للإنسان؛ لكن لمن وفّق التوفيق الخاصّ وبصّره الله بافاتها تصير عنده كالجيفة، وإنما يتعجّب من هذا الراغبون في الدنيا، العميان عن عيوبها وآفاتها، المغترّون بزخرفها وزينتها، ومثل ذلك: إنسان صنع حلوى من أغلى السكر وعجنها بسمّ قاتل، وأبصر ذلك رجل ولم يبصره آخر. ووضعه بينهما، فمن أبصر ما جعل فيه من السّمّ زهده، وغيره يغترّ بظاهره فيحرص عليه، ولا يصبر عنه؛ قاله المناوي على «الجامع» . والحديث رواه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وعن محمد بن كعب القرظي مرسلا، ورواه الديلمي في «مسند الفردوس» عن أنس أيضا، قال العراقي: وإسناده ضعيف جدّا، وقال غيره: واه؛ قاله المناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 16- «إذا أسأت.. فأحسن» . 17- «إذا لم تستح.. فاصنع ما شئت» . 16- ( «إذا أسأت) بفعل كبيرة، أو صغيرة، أو ما لا ينبغي مع شخص (فأحسن» ) - بفتح الهمزة- أي: بالتوبة في الأول، وبفعل ما يكفّر الصغيرة في الثاني، وبالاعتذار للشخص في الثالث. قاله الحفني على «الجامع» . وقال المناوي على «الجامع» ؛ أي: قابل الفعلة السّيّئة بخصلة حسنة، كأن تقابل الخشونة باللّين، والغضب بالكظم، والسّورة بالأناة، وقس عليه؛ ذكره الزمخشري، وشاهده إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [114/ هود] . وهذا إشارة إلى أن الإنسان مجبول على الشهوات، ومقتضى البهيميّة والسبعيّة والملكيّة، فإذا ارتكب من تلك الرذائل رذيلة يطغيها بمقتضى الملكيّة: «أتبع السّيّئة الحسنة تمحها» . ومن البيّن أنّ الكبيرة لا يمحوها إلّا التوبة. قال الراغب: والحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال المرء في نفسه وبدنه، والسيئة تضادّها، وهما من الألفاظ المشتركة؛ كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة. انتهى. والحديث رواه الحاكم، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال: أراد معاذ بن جبل سفرا فقال: يا رسول الله؛ أوصني ... فذكره. ورواه عنه أيضا الطبراني وغيره، وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. انتهى. والله أعلم. 17- ( «إذا لم تستح) - بحذف الياء المثناة التحتيّة، وإثباتها- ويكون الجازم حذف الياء الثانية؛ لأنه من «استحيا» ، والأول من «استحى» . (فاصنع ما شئت» ) الأمر للتهديد والتوبيخ؛ أي: إذا نزع منك الحياء وكنت لا تستحي من الله ولا تراقبه في فعل أوامره واجتناب نواهيه (فاصنع ما شئت» ) أي: ما تهواه نفسك من الرذائل، فإنّ الله مجازيك عليه، ونظيره قوله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 ......... اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [40/ فصلت] ، وقوله تعالى فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [15/ الزمر] فإذا ارتفع الحياء صنعت النفس ما تهوى، وأنشد بعضهم: إذا لم تخش عاقبة اللّيالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء وقال آخر: إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ... وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع أو الأمر للإباحة؛ أي: انظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ممّا لا يستحى من الله ومن الناس في فعله؛ فافعله، وإن كان ممّا يستحى من الله ومن الناس في فعله؛ فدعه. وعلى هذا مدار الأحكام من حيث إن الفعل إمّا أن يستحيا منه؛ وهو 1- الحرام و 2- المكروه و 3- خلاف الأولى، واجتنابها مشروع. أو لا يستحيا منه وهو 1- الواجب و 2- المندوب، و 3- المباح، وفعل الأوّلين مطلوب. والثالث جائز. والحياء- بالمدّ- لغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به. وقيل: انقباض وخشية يجدها الإنسان من نفسه عندما يطّلع منه على قبيح. واصطلاحا: خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ. وأمّا الحيا- بالقصر-! فيطلق على المطر، وعلى فرج الناقة. وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «الحياء خير كلّه؛ لا يأتي إلّا بخير» . وحكي أنّ رجلا رأى «1» النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: أنت قلت «الحيا خير كلّه» ؟ بالقصر- فقال: لا. ثمّ رآه ثانيا فسأله مثل ذلك؛ فقال: لا، فأخبر بذلك بعض   (1) الظاهر أنه في المنام!!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ......... العلماء، فقال: الحيا- بالقصر- فرج الناقة، والذي في الحديث- بالمدّ- فرآه الثالثة وسأله: وقال: أنت قلت: «الحياء خير كلّه» ؟. فقال: نعم. وينبغي أن يراعى فيه القانون الشرعي، فإنّ منه ما يذمّ كالحياء المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود شروطه. فإن هذا جبن لا حياء، ومثله الحياء في العلم المانع من سؤاله عن مهمات الدّين إذا أشكلت عليه، ومن ثمّ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: نعم النّساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين، ولذا جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت: إنّ الله لا يستحي من الحقّ؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: «نعم؛ إذا رأت الماء» . وروى البيهقي عن الأصمعي أنه قال: من لم يتحمل ذلّ التّعلم ساعة بقي في ذلّ الجهل أبدا. ومن لم يذق ذلّ التّعلّم ساعة ... تجرّع ذلّ الجهل طول حياته وروى أيضا عن عمر قال: لا تتعلّم العلم لثلاث، ولا تتركه لثلاث: لا تتعلم العلم لتماري به، ولا لترائي به، ولا لتباهي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بجهالة. وروى الترمذي أنّه صلى الله عليه وسلّم قال: «استحيوا من الله حقّ الحياء» ، قالوا: إنّا نستحي والحمد لله!! فقال: «ليس ذلك، ولكنّ الاستحياء من الله حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء» . وأهل المعرفة في ذلك يتفاوتون بحسب تفاوت أحوالهم، وقد جمع الله سبحانه وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم كمال الحياء بنوعيه، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وكان في الكسبيّ واصلا إلى أعلى غايته وذروتها، والله أعلم. والحديث المذكور رواه البخاريّ في ذكر بني إسرائيل عن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه بلفظ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 ......... «إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه؛ عن أبي مسعود المذكور بلفظ: «آخر ما أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . وكذا رواه ابن عساكر عن أبي مسعود أيضا. وكذا رواه الإمام أحمد عن حذيفة لكن بلفظ: «إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . ورواه الطبراني في «الأوسط» عن أبي الطّفيل مرفوعا بلفظ: «كان يقال إنّ ممّا أدرك النّاس ... » الحديث، ورواه ابن عدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا الدمياطي عنه، وقال غريب. انتهى ذكره العجلوني رحمه الله تعالى في «كشف الخفا» . تنبيه: حكي أنّ بعضهم وافى البصرة نحو شعبة يسمع منه ويكثر، فصادف المجلس قد انقضى؛ وانصرف شعبة إلى منزله، فحمله السرف إلى أن سأل عن منزل شعبة؛ فأرشد إليه، فجاء فوجد الباب مفتوحا فدخل من غير استئذان، فوجد شعبة جالسا على البالوعة يبول، فقال: السلام عليكم؛ رجل غريب قدمت من بلدة بعيدة لتحدّثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأعظم شعبة ذلك، فقال: يا هذا؛ دخلت منزلي بغير إذني، وتكلّمني على مثل هذه الحال!!. فقال: إني خشيت الفوت. فقال: تأخّر عنّي حتى أصلح من شأني، فلم يفعل واستمر في إلحاح، قال: وشعبة يخاطبه وذكره في يده يستبرئ. فلما أكثر قال: اكتب: حدثنا منصور بن المعتمر، عن ربعيّ بن حراش، عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إن ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . ثم قال: والله؛ لا أحدّثك بعد هذا الحديث، ولا حدّثت قوما تكون فيهم. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 18- «إذا نزل القضاء.. عمي البصر» . 18- ( «إذا نزل القضاء) ؛ أي: المقضيّ (عمي البصر) ؛ أي: غطّي عنه نور العقل حتّى لا يرى بنوره المنافع فيطلبها، ولا المضارّ فيجتنبها، فهو محجوب بحجاب القدرة مع بقاء صورته، فكم من متردّ في مهلكة وهو يبصرها، ومفوّت منفعة في دينه أو دنياه وهو مشرف عليها. قال تعالى وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) [الأعراف] ومنه علم: أن العبد لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنّه لا رادّ لقضائه بالنقض، ولا معقّب لحكمه بالرّد. وهذا الحديث رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرجه البيهقي من قول ابن عباس بلفظ: إنّ القدر إذا جاء حال دون البصر. قاله جوابا عن قول نافع بن الأزرق في معناه «أرأيت الهدهد كيف يجيء فينقر الأرض فيصيب موضع الماء، ويجيء إلى الفخّ؛ وهو لا يبصره حتى يقع في عنقه» ؟! ورواه الترمذي بلفظ: «إذا جاء القدر عمي البصر، وإذا جاء الحين غطّى العين» . ورواه ابن أبي شيبة والحاكم- وصححه- من طرق عن ابن عباس أنّه قيل له: كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطّير؛ قال: إنّ سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه فتفقّده. قيل: «كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخّ، ويلقى عليه التراب، ويضع له الصبيّ الحبالة؛ فيغيّبها فيصيده» ؟! فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر. وفي رواية سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن يوسف بن ماهك: أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ذكر يوما الهدهد، فقال: يعرف بعد مسافة الماء في الأرض. فقال نافع بن الأزرق: قف.. قف يا ابن عباس، كيف تزعم أنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض؛ وهو ينصب له الفخّ فيذر عليه التراب فيصاد؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 19- «ارحموا ترحموا» . فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: كذا وكذا، لم أقل له شيئا! إنّ البصر ينفع ما لم يأت القدر؛ فإذا جاء القدر حال دون البصر. فقال ابن الأزرق: لا أجادلك بعدها في شيء. وأنشد غلام ثعلب لنفسه: إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا رأي وعقل وبصر وحيلة يعملها في كلّ ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر أغواه بالجهل وأعمى عينه ... فسلّه عن عقله سلّ الشّعر حتّى إذا أنفذ فيه حكمه ... ردّ عليه عقله ليعتبر وهذا الشعر تضمّن معنى حديث: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتّى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره، فإذا مضى أمره؛ ردّ إليهم عقولهم ووقعت النّدامة» . رواه الديلمي في «مسند الفردوس» عن أنس وعليّ رضي الله تعالى عنهما. وقال في «الدرر» : رواه الديلمي والخطيب؛ عن ابن عباس بسند ضعيف. وقال في «المقاصد» : رواه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ، ومن طريقه الديلمي في «مسنده» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا، وكذا الخطيب وغيره بسند فيه لا حق بن حسين كذّاب وضّاع؛ بلفظ: «إنّ الله إذا أحبّ إنفاذ أمر سلب ذوي العقول عقولهم» . انتهى من «كشف الخفا» للعجلوني. وفي «الميزان» : إنه خبر منكر؛ أي: لأن فيه سعيد بن سماك بن حرب متروك كذّاب؛ ذكره المناوي. 19- ( «ارحموا) من في الأرض (ترحموا» ) - بضمّ أوله، مبنيا للمجهول- أي: يرحمكم الله سبحانه لأنّ الرحمة من صفات الحقّ الّتي شمل بها عباده، فلذا كانت أعلى ما اتّصفت بها البشر، فندب إليها الشارع في كلّ شيء، حتّى في قتال الكفّار والذّبح وإقامة الحجج وغير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 20- «ازهد في الدّنيا.. يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس.. يحبّك النّاس» . وتمام الحديث: «واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرّين الّذين يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون» أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري في «الأدب» . والبيهقي في «شعب الإيمان» والطبراني بسند جيّد؛ كما قال المنذري والعراقي. وقال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد الشرعبي وثّقه ابن حبان؛ قاله المناوي. وقوله: «لأقماع القول» : - بفتح الهمزة جمع قمع؛ بكسر القاف وفتح الميم كضلع-: وهو الإناء الذي ينزل في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات، ومنه ويل لأقماع القول شبّه أسماع الّذين يستمعون القول؛ ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع الّتي لا تعي شيئا ممّا يفرغ فيها، فكأنه يمرّ عليها مجتازا كما يمرّ الشراب في الأقماع!! والله أعلم. 20- ( «ازهد) من الزّهد- بضم أوله وقد تفتح-، وهو- لغة-: الإعراض عن الشيء احتقارا له، وشرعا-: الاقتصار على قدر الضّرورة من المال المتيقّن الحلّ فهو أخصّ من الورع؛ إذ هو ترك الحرام والمشتبه. (في الدّنيا) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها؛ أي: أعرض عنها بقلبك ولا تحصّل منها إلّا ما تحتاج إليه، فإنّك إن فعلت ذلك (يحبّك) - بفتح الباء المشددة- (الله) تعالى لكونك أعرضت عمّا أعرض عنه؛ ولم ينظر إليه منذ خلقه، ولأنّ الله تعالى يحبّ من أطاعه، وطاعته تعالى لا تجتمع مع محبة الدّنيا، كما دلّت عليه النصوص والتجربة والتواتر؛ لأنّ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» ، والله لا يحبّ الخطايا ولا أهلها. (وازهد فيما في أيدي النّاس) ؛ أي: فيما عندهم من الدنيا (يحبّك) - بفتح الموحدة المشددة- (النّاس» ) لأنّ قلوبهم مجبولة على حبّها مطبوعة عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 ......... ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبّه واصطفاه. ولهذا قال الحسن البصري: لا يزال الرجل كريما على الناس حتى يطمع في دنياهم؛ فيستخفّون به ويكرهون حديثه. وقيل لبعض أهل البصرة: من سيّدكم؟ قالوا: الحسن البصري، قيل: بم سادكم؟ قال: احتجنا لعلمه، واستغنى عن دنيانا. انتهى. وقال النووي في «شرح الأربعين» قوله: «ازهد في الدنيا.. الخ» الزّهد: ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا؛ وإن كان حلالا، والاقتصار على الكفاية. والورع: ترك الشبهات. قالوا: وأعقل الناس الزهاد؛ لأنّهم أحبوا ما أحبّ الله، وكرهوا ما كره الله تعالى من جمع الدنيا، واستعملوا الراحة لأنفسهم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو «أوصي لأعقل الناس» ! صرف إلى الزّهاد. ولبعضهم: كن زاهدا فيما حوت أيدي الورى ... تضحى إلى كلّ الأنام حبيبا أو ما ترى الخطّاف حرّم زادهم ... فغدا رئيسا في الجحور قريبا وللشافعي رضي الله تعالى عنه في ذمّ الدّنيا: ومن يذق الدّنيا فإنّي طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها فلم أرها إلّا غرورا وباطلا ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها وما هي إلّا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همّهنّ اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها فدع عنك فضلات الأمور فإنّها ... حرام على نفس التّقيّ ارتكابها قوله: «حرام على نفس التقي ارتكابها» يدلّ على تحريم الفرح بالدّنيا، وقد صرّح بذلك البغوي في تفسير قوله تعالى وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا [26/ الرعد] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 ......... ثمّ المراد بالدنيا المذمومة: طلب الزّائد على الكفاية، أمّا طلب الكفاية! فواجب. قال بعضهم: وليس ذلك من الدنيا. وأمّا الدنيا فالزائدة على الكفاية، واستدلّ بقوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ [14/ آل عمران] ... الآية، فقوله تعالى ذلك إشارة إلى ما تقدم من طلب التوسع والتبسط. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: طلب الزائد من الحلال عقوبة ابتلى الله بها أهل التوحيد. ولبعضهم: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ... إلّا الّتي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه ... وإن بناها بشرّ خاب بانيها النّفس ترغب في الدّنيا وقد علمت ... أنّ الزّهادة فيها ترك ما فيها فاغرس أصول التّقى ما دمت مجتهدا واعلم بأنّك بعد الموت لاقيها ثمّ بعد ذلك إذا فرح بها لأجل المباهاة والتفاخر والتطاول على الناس؛ فهو مذموم، ومن فرح بها لكونها من فضل الله تعالى؛ فهو محمود. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اللهم لا نفرح إلّا بما رزقتنا. انتهى كلام النووي ملخصا. والحديث!! قال السخاوي وغيره: رواه ابن ماجه، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم، وابن حبان، وأبو نعيم والبيهقي وآخرون؛ من حديث خالد بن عمر القرشي، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أنّه قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله؛ دلّني على عمل إذا عملته أحبّني الله وأحبّني الناس!! فقال: «ازهد ... » وذكر الحديث. وحسّنه الترمذي، وتبعه النّوويّ، وصحّحه الحاكم، وتعقّبه الذّهبي؛ بأن فيه خالد بن عمر وضّاع، ومحمد بن كثير المصيصي ضعّفه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 21- «استعينوا على الحاجات بالكتمان؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» . وقال المنذري عقب عزوه لابن ماجه: وقد حسّن بعض مشايخنا إسناده! وفيه بعد، لأنّه من رواية خالد القرشي وقد ترك واتّهم!!. قال: لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النّبوّة، ولا يمنع كونه من رواية الضعفاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم قاله. انتهى. وقال السخاوي: فيه خالد هذا مجمع على تركه، بل نسبوه إلى الوضع. قال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات. وقال ابن عدي: خالد وضع هذا الحديث. وقال العقيلي: لا أصل له. لكن رواه غير الحاكم عن الثوري، وأخرجه أبو نعيم من طريق مجاهد عن أنس مرفوعا، لكن في سماع مجاهد من أنس نظر!! وقد رواه الثقات فلم يجاوزوا به مجاهدا، وكذا يروى عن الربيع بن خثيم رفعه مرسلا. وبالجملة فقد حسّن الحديث النووي؛ ثم العراقي، وكلام شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- ينازع فيه كما بيّنته في تخريج «الأربعين» . انتهى. وقال ابن حجر الهيتمي في «شرح الأربعين» : التحسين إنّما جاء باعتبار تعدد الطّرق، فهو حسن لغيره؛ لا لذاته، وهو أحد الأحاديث الأربعة الّتي عليها مدار الإسلام. انتهى. 21- ( «استعينوا على) قضاء (الحاجات بالكتمان) - بكسر الكاف- أي: إخفائها عن الغير قبل الشروع فيها مستعينين بالله على الظّفر بها، فالكتمان؛ وإن كان سببا عاديّا لقضائها؛ لكنّه في الحقيقة لله تعالى. وعلّل طلب الكتمان بقوله: (فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» ) يعني: إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 ......... قال السخاوي وغيره: والأحاديث الواردة في التحدث بالنّعم محمولة على ما بعد وقوعها؛ فلا تعارض هذا!! نعم إن ترتب على التّحدث بها حسد فالكتمان أولى. انتهى. وأخذ من الحديث أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه؛ والاجتهاد في طيّ سرّهم. قال الشافعي: من كتم سرّه كانت الخيرة في يده. قال: وروي لنا عن عمرو بن العاصي أنّه قال: ما أفشيت إلى أحد سرّا فأفشاه فلمته، لأنّي كنت أضيق منه سرّا. وقال بعض الحكماء: من كتم سرّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وكم من إظهار سرّ أراق دم صاحبه ومنع من بلوغ مأربه!! ولو كتمه كان من سطواته آمنا! ومن عواقبه سالما، وبنجاح حوائجه فائزا! وقال بعضهم: سرّك من دمك، فإذا تكلّمت فقد أرقته. وقال أنوشروان: من حصّن سرّه فله بتحصينه خصلتان: الظّفر بحاجته، والسّلامة من السّطوات. وفي «منثور الحكم» : انفرد بسرّك، ولا تودعه حازما فيزول، ولا جاهلا فيحول؛ لكن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق ومشورة ناصح فيتحرّى له من يأتمنه عليه ويستودعه إيّاه؛ فليس كلّ من كان على الأموال أمينا كان على الأسرار أمينا، والعفّة عن الأموال أيسر من العفّة عن إذاعة الأسرار. قال الراغب: إذاعة السّرّ من قلّة الصّبر وضيق الصّدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء، والسبب في صعوبة كتمان السّر أنّ للإنسان قوّتين: آخذة؛ ومعطية، وكلتاهما تتشوّف إلى الفعل المختصّ بها، ولولا أنّ الله وكّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوّة تتشوّف إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 22- «استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» . فعلها الخاصّ بها، فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلّا حيث يجب إطلاقها. انتهى. مناوي على «الجامع» ، وزرقاني على «المواهب» . والحديث أخرجه الطبراني في «معاجمه» الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه، لكن بلفظ: «استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان» ... والباقي سواء. وكذا أخرج الحديث البيهقيّ في «الشعب» ، وأبو نعيم وابن أبي الدنيا والعسكري والقضاعي وابن عديّ: كلّهم؛ عن معاذ بن جبل وفيه عند الجميع سعيد بن سلّام العطار كذّبه أحمد وغيره، وقال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وقال فيه العجلي: لا بأس به. ولكن أخرجه العسكري أيضا من غير طريقه بسند ضعيف مع انقطاعه بلفظ: «استعينوا على طلب حوائجكم بالكتمان لها، فإنّ لكلّ نعمة حسدة، ولو أنّ امرأ كان أقوم من قدح لكان له من الناس غامز» . ويستأنس له بما أخرجه الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس مرفوعا: «إنّ لأهل النّعم حسّادا فاحذروهم» . وفي الباب عن جماعة منهم عمر؛ عند الخرائطي، وابن عباس؛ عند الخطيب، وعلي بن أبي طالب؛ عند الخلعي، فلا يسوغ دعوى وضعه كما صنع ابن الجوزي، وقد جزم الحافظ العراقي بأنه ضعيف فقط. انتهى من الزرقاني. لكن قال العلامة الحفني في حاشية «الجامع الصغير» : الجمهور على أن هذا الحديث موضوع، والله أعلم. 22- ( «استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» ) ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز الحاكم، وذكره في «كشف الخفا» بلفظ: «استعينوا على كلّ صنعة بصالح أهلها» ، وقال: قال في «الأصل» : قد يستأنس له بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من أمر دنياكم فإليكم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 23- «استفت قلبك وإن أفتاك النّاس وأفتوك» . وقال في «التمييز» : ويشهد له ما ثبت في «سنن أبي داود» عن سعد قال: مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعودني، فوضع يده بين ثدييّ حتّى وجدت بردها على فؤادي، وقال لي: «إنّك رجل مفؤد فأت الحارث بن كلدة من ثقيف، فإنّه رجل يطبّ ... » الحديث. 23- ( «استفت قلبك) ؛ أي: اطلب الفتوى من قلبك، وعوّل على ما فيه؛ لأنّ للنفس شعورا من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته فيه وما تذمّ؛ فيطمئن القلب للعمل الصالح طمأنينة تبشّره بأمن العاقبة، ولا يطمئنّ للإثم بل يورثه نفرة وتندّما وحزازة؛ لأن الشرع لا يقرّ عليه، وفي رواية: «استفت نفسك» (وإن) غاية لمقدّر دلّ عليه ما قبله، أي: فالتزم العمل بما في قلبك وإن (أفتاك النّاس) ؛ أي: علماؤهم كما في رواية: وإن أفتاك المفتون (وأفتوك» ) بخلافه، فرّخصوا لك فيه، لأنهم إنما يطّلعون على الظّواهر لا السّرائر. والجمع للتأكيد!! كما في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ [17/ الطارق] فأتى بالثاني تأكيدا للأول، قال النووي في «شرح الأربعين» مثاله: الهدية إذا جاءتك من شخص غالب ماله حرام وتردّدت النفس في حلّها وأفتاك المفتي بحلّ الأكل، فإن الفتوى لا تزيل الشّبهة، وكذلك إذا أخبرته امرأة بأنه ارتضع مع فلانة، فإن المفتي إذا أفتاه بجواز نكاحها لعدم استكمال النّصاب لا تكون الفتوى مزيلة للشبهة، بل ينبغي الورع؛ وإن أفتاه الناس. لكن قال المناوي: قال حجة الإسلام الغزالي: ولم يردّ كلّ أحد لفتوى نفسه، وإنّما ذلك ل «وابصة» في واقعة تخصّه. انتهى. قال البعض: وبفرض العموم؛ فالكلام فيمن شرح الله صدره بنور اليقين فأفتاه غيره بمجرّد حدس أو ميل من غير دليل شرعي، وإلّا! لزمه اتباعه، وإن لم ينشرح له صدره. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 ......... وبما بحثه صرّح حجّة الإسلام، لكن بزيادة بيان وإحسان، فقال ما محصوله: ليس للمجتهد أو المقلّد إلّا الحكم بما يقع له أو لمقلّده. ثمّ يقال للورع: استفت قلبك وإن أفتوك، إذ للإثم حزازات في القلوب، فإذا وجد قابض مال في نفسه شيئا منه؛ فليتّق الله، ولا يترخّص تعلّلا بالفتوى من علماء الظاهر، فإن لفتاويهم قيودا من الضّرورات، وفيها تخمينات واقتحام شبهات، والتّوقي عنها من شيم ذوي الدّين وعادات السالكين لطريق الآخرة. انتهى كلام المناوي. والحديث المذكور رواه الإمام أحمد ابن حنبل والدارمي في «مسنديهما» بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى وأبو نعيم والطبراني مرفوعا؛ كلّهم عن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا لا أريد أن أدع شيئا من البّر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي: «ادن يا وابصة» . فدنوت منه حتى مسّت ركبتي ركبته، فقال: «يا وابصة؛ أخبرك بما جئت تسأل عنه، أو تسألني عنه؟» قلت: يا رسول الله، أخبرني، قال: «جئت تسأل عن البّر والإثم» . فقلت: نعم، قال: فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري؛ ويقول: «يا وابصة؛ استفت نفسك، البّرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر؛ وإن أفتاك الناس وأفتوك» . قال النووي: حديث حسن. قال العلّامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: وفي جوابه صلى الله عليه وسلّم لوابصة بهذا إشارة إلى متانة فهمه وقوّة ذكائه وتنوير قلبه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلّم أحاله على الإدراك القلبيّ، وعلم أنّه يدرك ذلك من نفسه، إذ لا يدرك ذلك إلّا من هو كذلك. وأما الغليظ الطبع الضعيف الإدراك! فلا يجاب بذلك، لأنّه لا يتحصّل منه على شيء، وإنما يفصّل له ما يحتاج إليه من الأوامر والنواهي الشرعية. وهذا من جميل عاداته صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه، فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يخاطبهم على قدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 24- «أسلم.. تسلم» . عقولهم، ومن ثمّ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم. انتهى. قال في «كشف الخفا ومزيل الإلباس» : وفي الباب عن النّواس وواثلة وغيرهما رضي الله تعالى عنهم. انتهى. 24- ( «أسلم) - بكسر اللام- (تسلم» ) - بفتحها-: فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني مع ما فيه من البديع؛ وهو الجناس الاشتقاقي: وهو رجوع اللّفظين في الاشتقاق إلى أصل واحد. وهذا قطعة من كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى هرقل مذكور في حديث طويل مشهور ب «حديث هرقل» ، رواه البخاري في مواضع كثيرة من «صحيحه» ، وأخرجه مسلم في «المغازي» وغيرها، ولفظ الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفي رواية البخاري في «الجهاد، وبدء الوحي» : من محمد عبد الله ورسوله- إلى هرقل عظيم الرّوم؛ سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد؛ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) » [آل عمران] انتهى «1» . وفي رواية للبخاري في «الجهاد» : «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله ... » الخ بتكرار «أسلم» مع زيادة الواو في الثانية، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه. كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [136/ النساء] قاله الحافظ؛ نقله عنه الزّرقاني ثمّ قال:   (1) في اللفظ النبوي اقتباس من الآية لا تصريح بنصها! فتنبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 25- «اسمح.. يسمح لك» . قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمّنها بعض هذا الكتاب على الأمر بقوله «أسلم» ، والترغيب بقوله. «تسلم، ويؤتك» ، والزجر بقوله «فإن توليت» ، والترهيب بقوله «فإن عليك» والدلالة بقوله «يا أهل الكتاب» . وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا! وهو من كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم. قال: واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام- يعني: السراج البلقيني-: أن كلّ من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذّبائح، لأنّ هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، بل ممّن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال لهم «يا أهل الكتاب» ، فدلّ على أنّ لهم حكمهم، خلافا لمن خصّ ذلك بالإسرائيليّين؛ أو بمن علم أن سلفه دخل اليهوديّة أو النصرانيّة قبل التبديل. انتهى. 25- ( «اسمح) أمر من السماح؛ قاله المناوي على «الجامع» . وقال الحفني: «اسمح» من المسامحة وهي ترك المال؛ لا في مقابلة شيء. فالمسامحة ترك، والسماح بذل، فثمّ فرق بينهما. انتهى. (يسمح) - بالبناء للمفعول، والفاعل-؛ أي: يسمح الله (لك» ) في الدنيا بالإنعام، وفي العقبى بعدم المناقشة في الحساب وغير ذلك. والمعنى: عامل الناس بالمسامحة والمساهلة يعاملك الله بمثله في الدنيا والآخرة، «كما تدين تدان» ، وهو حثّ على المساهلة في المعاملة وحسن الانقياد، وهو من سخاوة الطبع وحقارة الدنيا في القلب، فمن لم يجده من طبعه فليتخلّق به، فعسى أن يسامحه الحقّ فيما قصّر فيه من طاعته وعسر عليه في الانقياد إليه في معاملته إذا أوقفه بين يديه لمحاسبته. ولا يخفى كمال المسامحة على ذي لبّ، فجمع بهذا اللفظ الموجز المضبوط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 26- «أصحابي كالنّجوم؛ ... بضابط العقل الذي أقامه الحقّ حجّة على الخلق ما لا يكاد يحصى من المصالح والمطالب العالية؛ قاله المناوي على «الجامع» . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بسند رجاله رجال الصحيح؛ كما قاله الحافظ الهيثمي. ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» كلّهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وخطّئوا من حكم عليه بالوضع. ورواه عبد الرزاق عن عطاء مرسلا بلفظ: «اسمحوا يسمح لكم» . وروى الشيخان وأحمد؛ عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك» . وعندهم أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قال: «قال الله: أنفق أنفق عليك» ، وفي معناه ما في «المجالسة» من طريق عون أنّه قال: أخذ الحسن شعره فأعطى الحجام درهمين، فقيل له: يكفيه دانق، فقال: لا تدنّقوا فيدنّق عليكم. انتهى من المناوي على «الجامع» ، ومن العجلوني. 26- ( «أصحابي كالنّجوم) في الهداية، لأنّ كلّا منهما يهتدى به؛ فالنجوم يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، والصحابة يهتدى بهم من ظلمات الجهل؛ لكن الاهتداء بالصّحابة أقوى من الاهتداء بالنّجوم، لأنّه ينجي من الهلاك الآخروي ومن الدنيوي، بخلاف الاهتداء بالنّجوم. ولا يقال: إذا كان كذلك فكيف يشبه الصّحابة بالنجوم؛ مع أن القاعدة أن وجه الشبه يكون أقوى في المشبّه به!! لأنّا نقول: التشبيه إنّما هو باعتبار الحسّ والمألوف. وبهذا الاعتبار يكون الاهتداء في المشبّه به أقوى من المشبّه. وهذا لا ينافي أنّه أقوى في المشبّه باعتبار آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» . وفي تشبيههم بالنّجوم إشارة إلى علوّ مرتبتهم جميعا؛ كعلوّ مرتبة النجوم. وفيه إشارة إلى تفاوت مراتب الصحابة كتفاوت مراتب النجوم. (فبأيّهم) ؛ أي: بأيّ واحد منهم (اقتديتم) ؛ فيما اختلفوا فيه (اهتديتم» ) يوضّح ذلك ما روي من أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم سأل الربّ عما يختلف فيه أصحابه؟ فقال: «يا محمد؛ أصحابك عندي كالنجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض؛ فمن أخذ بشيء ممّا اختلفوا فيه فهو على هدى عندي» ؛ قاله الباجوري على «السّلّم المنورق» قال: وظاهر هذين الحديثين: أنّ الصّحابة كلّهم مجتهدون، وهو ما جرى عليه ابن حجر في «شرح الهمزية» ، وعلّله بتوفّر شروط الاجتهاد في جميعهم. قال: ولذلك لم يعرف أنّ واحدا منهم قلّد غيره في مسألة من المسائل، لكن رجّح بعضهم أن فيهم المقلّدين والمجتهدين. ثم قال- أي: الباجوري-: فإن قيل: خطابه صلى الله عليه وسلّم في قوله «بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ؛ لا يصحّ أن يكون للصّحابة كما هو ظاهر، ولا لغيرهم؛ لعدم حضورهم حين الخطاب؟! أجيب بأنه لغيرهم على طريق استحضارهم؛ وفرضهم حاضرين؛ كذا قال بعض المحققين. ثمّ ذكر الباجوري أن الشيخ تقي الدين السبكي نقل عن تاج الدين بن عطاء الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كانت له تجليات يرى في بعضها سائر أمّته الآتية بعده؛ فيقول: مخاطبا لهم: «لا تسبّوا أصحابي؛ فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» . قال: ومثله يقال في الخطاب الذي نحن بصدده. انتهى كلام الباجوري في «شرح السّلّم المنورق» . قال السيد عبد الله الغماري- عافاه الله تعالى-: هذا الحديث رواه الدارقطني في «غرائب مالك» ، وابن عبد البر في «كتاب العلم» ؛ من حديث جابر بن عبد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 27- «أعجل الأشياء عقوبة.. البغي» . بإسنادين ضعيفين، ورواه عبد بن حميد في «مسنده» من حديث ابن عمر بإسناد واه، والقضاعي في «مسند الشهاب» ؛ من حديث أبي هريرة بإسناد فيه كذّاب، وأبو ذرّ الهروي في «السنة» ؛ من طريق الضحّاك معضلا، وإسناده ضعيف جدّا. وقد ثبت ما يؤدي معنى صدره كما قال البيهقي؛ وهو ما في «صحيح مسلم» عن أبي موسى مرفوعا: «النّجوم أمنة أهل السّماء، فإذا ذهب النّجوم أتى أهل السّماء ما يوعدون، وأصحابي أمنة أمّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يوعدون» . وفيه- كما قال الحافظ- الإشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة. انتهى كلام الغماري في تعليقاته على كتاب «تأييد الحقيقة العلية» للسيوطي رحمه الله تعالى. وقال في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» : رواه البيهقي وأسنده الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «أصحابي بمنزلة النّجوم في السّماء؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم» انتهى. وقال الباجوري في حواشي «السلّم المنورق» : وتكلّم بعضهم في سنده حتى قال الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» : إنه روي من طرق كلّها ضعيفة، بل قال ابن حزم: إنه موضوع. لكن نقل العارف بالله الشعراني في «الميزان» : إنه صحيح عند أهل الكشف؛ وإن كان فيه مقال. انتهى. 27- ( «أعجل) : أسرع (الأشياء) ؛ أي: الذنوب (عقوبة) - بالنصب- (البغي» ) : مجاوزة الحدّ والتعدي بلا حقّ، و «عقوبة» تمييز؛ محوّل عن المضاف، و «البغي» حذف منه المضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقامه!! أي: أسرع عقوبات الأشياء عقوبة البغي. والمعنى: لكل ذنب عقوبة، لكنها قد تتأخر إلّا البغي فينجّز للباغي في الدّنيا إن لم يعف الله تعالى عنه، وما أحسن ما قيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 28- «أعدى عدوّك.. نفسك الّتي بين جنبيك» . لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السّهل والجبل وهذا الحديث ذكره في «المواهب» ولم يعزه إلى أحد!! وكذلك شارحه الزرقاني لم يذكر من رواه! ولعلّه مرويّ بالمعنى، فكان ينبغي للمصنف حذفه، لكنّه تبع «المواهب» في ذكره، ويدلّ لما قلناه أن الزرقاني ذكر لفظ الحديث الوارد في هذا المعنى؛ فقال: روى الطبراني في «الكبير» ، والبخاري في «التاريخ» ؛ عن أبي بكرة مرفوعا: «اثنان يعجّلهما الله تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» . قال في «الفائق» : وأصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [150/ الأعراف] ؛ سبقتموه. انتهى. قال المناوي- بعد ذكر الحديث الذي أورده الزرقاني-: وفيه أن البغي والعقوق من الكبائر. وخصّ هاتين الخصلتين من بين خصال الشرّ بذكر التعجيل فيهما!! لا لإخراج غيرهما؛ فإنه قد يعجل أيضا، بل لأنّ المخاطب بذلك كان لا يحترز من البغي؛ ولا يبرّ والديه، فخاطبه بما يناسب حاله؛ زجرا له، وكثيرا ما يخصّ بعض الأعمال بالحثّ عليها بحسب حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر ممّا سواها؛ إمّا لمشقتها عليه، وإمّا لتساهله في أمرها. انتهى كلام المناوي على «الجامع» . 28- ( «أعدى عدوّك) ؛ أي: أشد أعدائك عداوة لك (نفسك) ؛ الأمّارة بالسّوء (الّتي بين جنبيك» ) ؛ لأنّها عدوّ ملازم من داخل تعين الشّيطان على هلاكك، والعدوّ يكون للواحد والجمع والمؤنث والمذكر، وقد يثنّى، وقد يجمع، وما أحسن ما قيل: إنّي بليت بأربع ما سلّطوا ... إلّا لأجل شقاوتي وعنائي إبليس والدّنيا ونفسي والهوى ... كيف الخلاص وكلّهم أعدائي والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ؛ معزوّا للبيهقي- يعني في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 29- «أعظم النّاس خطايا.. أكثرهم خوضا في الباطل» . 30- «أعظم الخطايا.. اللّسان الكذوب» . «الزّهد» بإسناد ضعيف؛ كما قاله العجلوني- قال: وله شاهد من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. انتهى. 29- ( «أعظم النّاس خطايا) : جمع خطيئة؛ وهي الذنب الواقع عن عمد (أكثرهم خوضا) ؛ أي: كلاما (في الباطل» ) ؛ الذي لا فائدة فيه تعود على الإنسان. و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» فلا ينبغي للشخص أن يصرف أوقاته في الخوض في الباطل، فإن ذلك ضياع لعمره، وكلّ نفس من أنفاسك جوهرة؛ إن صرفته فيما ينفعك في الآخرة، أو حسرة؛ إن صرفته في الأمور التي لا خير فيها ولا ثواب تناله منها. 30- ( «أعظم الخطايا) ؛ أي: الذنوب الصّادرة عن عمد، والخطايا: جمع خطيئة، أصلها خطائي، بوزن فعائل؛ فأبدلت الياء بعد ألف الجمع همزة فصار خطائئ بهمزتين، ثمّ أبدلت الثانية ياء لتطرّفها، ثم قلبت الكسرة قبلها فتحة على حدّ عذاري، ثم قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ فصار خطاآ بألفين بينهما همزة، فاجتمع شبه ثلاث ألفات؛ فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال. والخطيئة: - فعيلة- من الخطي- بكسر أوله-: وهو الذنب. انتهى ذكره ابن علان في «شرح رياض الصالحين» . (اللّسان) ؛ أي: خطيئة اللّسان (الكذوب» ) ؛ أي: الكثير الكذب الذي تكرّر كذبه حتى صار صفة له، حتى يأتي بالكبائر كلّها؛ كالقذف والبهتان وشهادة الزور وغيرها، وربّما أفضى إلى الكفر، ذلك لأنّ اللّسان أكثر الأعضاء عملا من سائر الجوارح. وما من معصية إلّا وله فيها مجال، وإذا تعوّد الكذب أورد صاحبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 31- «أعمى العمى.. الضّلالة بعد الهدى» . المهالك؛ فمن أهمله مرخيّ العنان؛ ينطق بما شاء من البهتان؛ سلك به في ميدان الخطايا والطّغيان، وما ينجى من شرّه إلّا أن يقيّده بلجام الشرع، ولكون جريمته عظيمة جعل له حاجزان: الأسنان والشفتان. والحديث أخرجه ابن لال والديلمي؛ كلاهما عن ابن مسعود، وأخرجه ابن عديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وإسناده ضعيف؛ كما في العزيزي. 31- ( «أعمى العمى الضّلالة بعد الهدى» ) ؛ أي: الكفر بعد الإسلام، فهو العمى على الحقيقة، والمرتد أسوء حالا من الكافر الأصلي؛ لأنّه لا يرث ولا يورث، وماله فيء، فإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ماله ... إلى غير ذلك من أحكام يخالف فيها الكافر الأصليّ. وهذا الحديث هو قطعة من حديث طويل رواه البيهقي في «دلائل النبوّة» وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: خرجنا في غزوة تبوك فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ كان منها على ليلة؛ فلم يستيقظ حتى كانت الشمس كرمح؛ فقال: «ألم أقل لك يا بلال إكلأ لنا الفجر» فقال: يا رسول الله ذهب بي الّذي ذهب بك! فانتقل غير بعيد، ثمّ صلّى، ثمّ حمد الله، ثمّ أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله ... » وهو مذكور بطوله في «الجامع الصغير» ، وكذا رواه العسكري، والديلمي؛ عن عقبة بن عامر، ورواه أبو نصر السجزي في «الإبانة» ؛ عن أبي الدرداء مرفوعا، ورواه ابن أبي شيبة، وأبو نعيم في «الحلية» ، والقضاعي في «الشهاب» ؛ عن ابن مسعود موقوفا. قال بعض شراح «الشهاب» : إنه حسن غريب؛ قاله المناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 32- «اعمل لوجه واحد.. يكفك الوجوه كلّها» . 33- «أفضل الأعمال.. سرور تدخله على مسلم» . 32- ( «اعمل لوجه واحد يكفك) - بحذف الياء- من الكفاية؛ لأنّه مجزوم في جواب الأمر، والفاعل المعمول له المدلول عليه بالفعل؛ أي: اعمل لله تعالى وحده خالصا لوجهه يكفك المعمول له (الوجوه كلّها» ) ؛ أي: جميع مهماتك في حياتك وبعد مماتك. قال الغزالي: اعمل لأجل من إذا عملت لأجله ووحّدته بقصدك وطلبت رضاه بعملك؛ أحبّك وأكرمك وأغناك عن الكلّ، ولا تشرك بعبادته عبدا حقيرا مهينا لا يغني عنك شيئا. وهذا الحديث أخرجه ابن عديّ والديلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وفي سنده أبو عبد الرحمن السّلمي وضاع للصوفية. ومحمد بن أحمد بن هارون؛ قال: الذهبي في «الضعفاء» : متّهم بالوضع، ونافع بن هرمز أبو هرمز قال في «الميزان» : كذّبه ابن معين، وتركه أبو حاتم وضعفه أحمد. انتهى. وبه يعرف أنّ سنده هلهل بالمرّة، فكان ينبغي للمصنف حذفه؛ قاله المناوي على «الجامع» . وبه يعلم أنّ مصنّفنا تبع «الجامع الصغير» في ذكره هذا الحديث والأولى حذفه. 33- ( «أفضل الأعمال) ؛ أي: من أفضلها بعد الفرائض، والمراد الأعمال التي يفعلها المؤمن مع إخوانه (سرور) ؛ أي: سبب سرور (تدخله على مسلم» ) من المسلمين، والمراد أن تدخل على أخيك المسلم سببا ينشرح به صدره؛ إمّا من جهة الدّين، أو من جهة الدّنيا، كأن تقضي عنه دينا لزمه أداؤه، أو تطعمه طعاما لا سيّما إذا كان ممّا يشتهيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 34- «أفضل الأعمال.. العلم بالله تعالى» . قيل لابن المنكدر: ما بقي ممّا يستلذّ؟ قال: الإفضال على الإخوان. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللّفظ الّذي أورده المصنف ورمز له برمز ابن عديّ، وهو موجود في «الجامع الصغير» بلفظ: «أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا» . انتهى وعزاه لابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج» والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن عديّ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. قال المناوي: وظاهر صنيع المصنف أنّ البيهقي خرّجه وسكت عليه، والأمر بخلافه، بل قال: عمّار فيه نظر، وللحديث شاهد مرسل ثمّ ذكره. وضعّفه المنذري؛ وذلك لأنّ فيه الوليد بن شجاع! قال أبو حاتم: لا يحتجّ به، وفيه عمّار بن محمد مضعّف، ثمّ قال: والحاصل أنّه حسن لشواهده. انتهى 34- ( «أفضل الأعمال العلم بالله تعالى» ) ؛ أي معرفة ما يجب له، ويستحيل عليه سبحانه من الصفات والسلوب والإضافات، فالعلم بذلك أفضل الأعمال وأشرف العلوم وأهمّها، فإنّه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلّف مرسل للرّسل منزّل للكتب؛ لم يتصوّر علم فقه ولا حديث ولا تفسير، فجميع العلوم متوقّفة على علم الأصول، وتوقفها عليه ليس بطريق الخدمة، بل بالإضافة والرئاسة. ومن ثمّ عدّ رئيس العلوم كلّها؛ فمعرفة الله تعالى والعلم به أول واجب مقصود لذاته على المكلّف، لكن ليس المراد بالمعرفة الحقيقية لأنّ حقيقته تعالى غير معلومة للبشر، ولا العيانيّة لأنّها مختصّة بالآخرة، ولا الكشفيّة فإنّها منحة إلهيّة، ولا نكلّف بمثلها إجماعا. بل البرهانيّة أي: التي تنشأ عن البراهين، وهي الّتي كلّفنا بها. وإيضاح ذلك أنّ المعرفة أربعة أقسام: 1- المعرفة الحقيقية؛ أي: الإحاطة بذاته تعالى وهذا مستحيل لا نكلّف به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 35- «أفضل الجهاد.. أن تجاهد نفسك وهواك» . ومنه: ما عرفناك حقّ معرفتك؛ أي: ما أحطنا بذاتك. و2- المعرفة التي لا تكون في الدنيا إلّا لنبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ وهي معرفة العيان؛ أي: المعرفة الناشئة عن إدراك البصر؛ فإنها لا تقع لغير نبيّنا إلا في الآخرة، فلسنا مكلّفين بها أيضا. و3- المعرفة عن كشف؛ وهي خاصّة بأولياء الله تعالى بأن يكشف عن لطيفة قلوبهم بحيث يدركون بواطن الأمور، حتى لو كشف لهم الحجاب في الآخرة لم يزدادوا يقينا. وهذه الجنّة المعجّلة في الدنيا، ولسنا مكلّفين بها أيضا، لأنها تقع بالفيض الإلهي، وإن كان لها أسباب ذكرها القوم في كتب التصوّف. و4- المعرفة البرهانية؛ أي: الّتي تنشأ عن البراهين وهي الّتي كلّفنا بها، وذلك بأن يعلم بالدّليل وجوده تعالى وما يجب له وما يستحيل عليه كما تقرّر. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» وقال: رواه ابن عبد البر. وذكره في «الجامع» معزوّا للحكيم الترمذي، عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: «أفضل الأعمال العلم بالله، إنّ العلم ينفعك معه قليل العمل وكثيره، وإنّ الجهل لا ينفعك معه قليل العمل ولا كثيره» . قال المناوي: وسبب هذا الحديث: أنّ رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «العلم بالله» . ثمّ أتاه فسأله، فقال مثل ذلك، فقال: يا رسول الله: إنّما أسألك عن العمل؟ فقال: «إنّ العلم ينفعك ... » الخ قال ابن حجر الهيتمي: وفيه أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقّه أعظم قدرا من مجرّد العبادة البدنيّة. انتهى كلام المناوي؛ ملخصا. 35- ( «أفضل الجهاد) بالمعنى اللّغوي: وهو ارتكاب المشاقّ، إذ الجهاد شرعا: قتال الكفار (: أن تجاهد) أيّها الإنسان (نفسك وهواك» ) في ذات الله بأن تكفّها عن الشهوات، وتمنعها عن الاسترسال في اللّذات، وتلزمها فعل الأوامر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 36- «افتضحوا فاصطلحوا» . 37- «أفضل الدّين.. الورع» . وتجنب المناهي؛ فإنه الجهاد الأكبر، والهوى أكبر أعدائك؛ وهو ونفسك أقرب الأعداء إليك، لما أنّ ذلك بين جنبيك؛ والله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [123/ التوبة] ، ولا أكفر عندك من نفسك؛ فإنها في كلّ نفس تكفر نعمة الله تعالى عليها، وإذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك جهاد الأعداء الّذي إن قتلت فيه كنت شهيدا من الأحياء الذين عند ربهم يرزقون!!. ولعمري إنّ جهاد النّفس لشديد! بل لا شيء أشدّ منه؛ فإنها محبوبة، وما تدعو إليه محبوب، فكيف إذا دعيت إلى محبوب؛ فإذا عكس الحال وخولف المحبوب اشتدّ الجهاد، بخلاف جهاد أعداء الدين والدنيا!. ولهذا قال الغزالي: وأشدّ أنواع الجهاد الصّبر على مفارقة ما يهواه الإنسان ويألفه، إذ العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله، ولا يقوى باعث الدين على قمعهما؛ فلذا كان أفضل الجهاد. انتهى ذكره المناوي على «الجامع» ؛ قال: والحديث أخرجه الحافظ أبو نعيم والديلمي؛ من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وذكره في «الجامع الصغير» معزوّا إلى ابن النجار؛ عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه بلفظ: «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه» . انتهى. 36- ( «افتضحوا فاصطلحوا» ) هو من الأمثال السائرة، وليس بحديث، وقد رواه الخطابي في «العزلة» ، من طريق محمد بن حاتم المظفري. قال النجم الغزي: وفي معناه: «تعالوا نقتبح ساعة ونصطلح» انتهى. ذكره العجلوني في «كشف الخفا» فكان ينبغي للمصنف ألايذكره. 37- ( «أفضل الدّين الورع» ) : الذي هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النّفس مع كل طرفة. والورع: يكون في خواطر القلوب وسائر أعمال الجوارح، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 38- «أفضل الصّدقة.. جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول» . وإنّما كان أفضل! لما فيه من التخلّي عن الشبهات، وتجنّب المحتملات. والحديث رواه الطبراني في «معاجيمه» الثلاثة؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع» وفيه محمد بن أبي ليلى ضعّفوه لسوء حفظه؛ كما قاله المنذري، ثمّ الهيثمي. نقله المناوي، وقد ذكره أيضا في «كنوز الحقائق» مقتصرا على الجملة التي في المتن. 38- ( «أفضل الصّدقة) ؛ أي: من أفضلها (جهد) - قال المناوي: روي بضم الجيم وفتحها! فبالضم-: الوسع والطّاقة وهو الأنسب هنا. وبالفتح: المشقة والمبالغة والغاية (المقلّ) - بضمّ الميم فكسر القاف-: أي: مجهود قليل المال، يعني: قدرته واستطاعته، ولا شك أن الصّدقة بشيء مع شدّة الحاجة إليه والشهوة له أفضل من صدقة الغني، وهو أفضل الناس بشهادة خبر: «أفضل النّاس رجل يعطي جهده» . وإنّما كان ذلك أفضل!! لدلالته على الثقة بالله والزّهد. والمراد بالمقلّ: الغني القلب؛ ليوافق حديث مسلم وغيره: «أفضل الصّدقة ما كان عن ظهر غنى» . (وابدأ) - بالهمز، وتركه- (بمن تعول» ) ؛ أي: بمن تلزمك مؤنته وجوبا، ثمّ بعد ذلك تدفع الصّدقة لغيرهم، لأنّ القيام بكفاية العيال واجب عليك، والصّدقة مندوب إليها، ولا يدخل في ذلك ترفّه العيال وتشهيتهم وإطعامهم لذائذ الأطعمة بما زاد على كفايتهم من التّرفّه؛ لأنّ من لم تندفع حاجته أولى بالصّدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع. والحديث أخرجه أبو داود في «الزكاة» وسكت عليه، وأقرّه المنذري، وأخرجه الحاكم في «الزكاة» أيضا: كلاهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقرّه الذّهبي. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 39- «أفضل النّاس.. أتقاهم لله، وأوصلهم للرّحم» . 40- «أفلح من رزق لبّا» . 39- ( «أفضل النّاس أتقاهم لله) ؛ أي: أخوفهم فيما أمر ونهي (وأوصلهم للرّحم» ) ؛ أي: القرابة. وقد تقدم الكلام على صلة الرحم. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد رحمه الله تعالى. 40- ( «أفلح) بصيغة الماضي (من رزق) - بالبناء للمفعول- (لبّا» ) - بضم اللّام وبالباء الموحدة المشددة-: يعني فاز وظفر من رزقه الله تعالى عقلا راجحا؛ اهتدى به إلى الإسلام، وفعل المأمور، وتجنّب المنهيّ. وكلّما كان العقل في العبد أوفر؛ فسلطان الدّلالة فيه على الرشد والنهي عن الغيّ أنفذ وأظهر، ولذلك كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم إذا ذكر له عن رجل شدّة اجتهاده وعبادته سأل عن عقله؛ لأنه مناط الفلاح. والعقل هو الكاشف عن مقادير العبودية، ومحبوب الله ومكروهه. والعقل: نور خلقه الله وقسمه بين عباده على قدر مشيئته فيهم، وعلمه بهم. وأول ما فات ابن آدم من دينه العقل، فإن كان ثابت العقل يكون خاشع القلب لله، متواضعا بريئا من الكبر؛ قائما على قدميه ينظر إلى اللّيل والنّهار يعلم أنّهما في هدم عمره؛ لا يركن إلى الدنيا ركون الجاهل؛ لعلمه أنّه إذا خلف الدنيا خلف الهموم والأحزان. قال بعض العارفين: ما قسم الله لخلقه حظّا أفضل من العقل واليقين. قال الراغب: والفلاح: الظّفر. وإدراك البغية أربعة أشياء: 1- بقاء بلا فناء، و 2- غنى بلا فقر. و 3- عزّ بلا ذلّ. و 4- علم بلا جهل. وقال الزمخشري: المفلح الفائز بالبغية كأنّه الّذي انفتحت له وجوه الظّفر ولم تستغلق عليه. والمفلج- بالجيم-: مثله. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 41- «الاقتصاد في النّفقة.. نصف المعيشة، والتّودّد إلى النّاس وقال بعضهم: ليس شيء أجمع لخصال الخير من خصال الفلاح. واللّب: العقل الخالص من الشوائب. سمي به! لأنّه خالص بما في الإنسان من قواه كاللبّاب من الشيء، وقيل: هو ما زكى من العقل، وكلّ لبّ عقل، ولا عكس. انتهى ذكره المناوي في «شرح الجامع» . وهذا الحديث رمز له في «الجامع الصغير» برمز البخاري في «التاريخ» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن قرّة بن هبيرة بن عامر القشيري- من وجوه الوفود- قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلّم فقلنا: إنّه كان لنا أرباب نعبدهنّ فودعناهنّ ... فذكره. قال الهيثمي: فيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. انتهى من المناوي على «الجامع» . 41- ( «الاقتصاد) ؛ أي: التوسط (في النّفقة) وتجنّب الإفراط والتفريط فيها. (نصف المعيشة) قال الطيبي: وذلك لأنّ كلا طرفي التبذير والتقتير ينغّص المعيشة، والتوسّط فيه هو العيش. والعيش نوعان: عيش الدنيا، وعيش الآخرة. كما أن العقل صنفان: مطبوع، ومسموع. والمسموع: صنفان؛ معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق. وقال غيره: التوسّط في النفقة يحصل به راحة للعبد وحسن حال، وذلك نصف ما به الحياة. فقد قيل: كمال المعيشة شيئان: مدة الأجل، وحسن الحال. فمدّة الأجل لا دخل للعبد فيها بوجه، وحسن الحال؛ وإن كان من الله؛ لكنّه جعل للعبد مدخلا فيه بالسّعي في أسبابه المحصّله له عادة. ذكره الزرقاني على «المواهب» . (والتودّد) ؛ أي: التحبب (إلى النّاس) بالأخذ في أسباب المحبة؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 نصف العقل، وحسن السّؤال نصف العلم» . كملاقاتهم بالبشر وطلاقة الوجه، وحسن الخلق، والرفق، وغير ذلك (نصف العقل) لأنّه يبعث على محبتهم، وعلى السلامة من شرّهم؛ أي: نصف ما يرشد إليه العقل ويحصّله. وجعله نصفين! مبالغة حتّى كأنّ ما يرشد إليه من المحاسن هو نفسه. (وحسن السّؤال نصف العلم» ) فإن السائل الفطن يسأل عما يهمّه وهو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسؤول ومسؤول؛ فإذا ظفر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعليه يحمل قوله: «- لا أدري- نصف العلم» ذكره الطيبيّ. وقال غيره: إذا أحسن سؤال شيخه أقبل عليه بقلبه وقالبه، وأوضح له ما أشكل، وأبان له ما أعضل؛ لكونه وجد استعدادا وقابلا، وإذا لم يحسن السؤال أعرض عنه وضنّ بإلقاء النفائس إليه، وفتح من الجواب بنزر يسير ممّا يورده عليه. ذكره الزّرقاني على «المواهب» . وهذا الحديث رواه البيهقي في «الشّعب» ، والطبراني في «مكارم الأخلاق» ، والعسكري في «الأمثال» ، وابن السني والديلمي من طريقه، والقضاعي: كلّهم من طريق نافع؛ عن ابن عمر مرفوعا. وضعّفه البيهقي لكن له شاهد عند العسكري من حديث خلّاد بن عيسى الصّفّار أبي مسلم الكوفي، عن ثابت البناني، عن أنس رفعه: «الاقتصاد نصف المعيشة، وحسن الخلق نصف الدّين» . وكذا أخرجه الطبراني، والخطيب، وابن لال «1» . ومن شواهده أيضا للعسكري عن أنس رفعه: «السؤال نصف العلم، والرّفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ في اقتصاد» .   (1) اسمه أحمد بن علي. و «لال» : معناه أخرس. «هامش الأصل» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 42- «الله في عون العبد.. ما دام العبد في عون أخيه المسلم» . وورد: «الرّفق في المعيشة خير من بعض التّجارة» ؛ رواه الدارقطني والطبراني وغيرهما، ويروى كما في «الفردوس» : «الرّفق خير من كثير من التّجارة» . وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: «السؤال نصف العلم، والرّفق نصف المعيشة» . وفي «صحيح ابن حبان» من حديث طويل عن أبي ذرّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال له: «يا أبا ذرّ؛ لا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق» . وهذا اللفظ عند البيهقي في «الشعب» . وله أيضا، وللعسكريّ عن عليّ مرفوعا: «التّودّد نصف الدّين، وما عال امرؤ قطّ على اقتصاد» ؛ أي: ما افتقر من أنفق قصدا ولم يجاوزه إلى الإسراف. وورد في حديث عند الديلمي؛ عن أنس رفعه: «إنّ أحدكم يأتيه الله عزّ وجلّ برزق عشرة أيّام في يوم واحد، فإن هو حبس عاش تسعة أيّام بخير، وإن هو وسّع وأسرف قتّر عليه تسعة أيّام» . وجاء في خبر: «من فقه الرّجل رفقه في معيشته» . قال مجاهد: ليرفق أحدكم بما في يده، ولا يتأوّل قوله وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [39/ سبأ] فإنّ الرّزق مقسوم، فلعلّ رزقه قليل فينفق نفقة الموسّع ويبقى فقيرا حتّى يموت، بل معنى الآية: أنّ ما كان من خلف فمنه سبحانه، فلعلّه إذا أنفق بلا إسراف ولا إقتار كان خيرا من معاناة بعض التجارة. انتهى من «المواهب» وشرحها. 42- ( «الله في عون العبد) ؛ أي: إعانته وتسديده، ومثل العبد الأمة. فالمراد الذّكر والأنثى، وإنّما عبّر بالعبد! تنبيها على شرف العبوديّة. (ما دام العبد) كرّر «العبد» بوضع الظاهر موضع المضمر!! تفخيما لشأنه وترغيبا في سرعة الامتثال، و «ما» مصدرية ظرفية؛ أي: مدة دوام كون العبد (في عون أخيه المسلم» ) ؛ أي: إعانة بقلبه أو بدنه أو ماله أو جاهه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 ......... قيل: وهذا إجمال لا يسع بيانه الطّروس، فإنّه مطلق في سائر الأحوال والأزمان. ومنه أنّ العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي له ألايجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحقّ، وتأمّل دوام هذه الإعانة، فإنه صلى الله عليه وسلّم لم يقيّدها بحالة خاصّة، بل أخبر أنّها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه. وروى الإمام أحمد: «من كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته» . والطبراني: «أفضل الأعمال إدخال السّرور على المؤمن فكسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» . وورد: «من سعى في حاجة أخيه المسلم؛ قضيت له أو لم تقض؛ غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وكتب له براءة من النّار وبراءة من النّفاق» . وعن الحسن رضي الله تعالى عنه: أنّه أمر ثابتا البناني بالمشي في حاجة، فقال: أنا معتكف! فقال له: يا أعمش؛ أما علمت أنّ مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجّة بعد حجّة؟!» . وروى الإمام أحمد: أنّ خبّاب بن الأرتّ خرج في سرية فكان صلى الله عليه وسلّم يحلب عنزا لعياله، فيملأ الجفنة حتى يفيض زيادة على حلابها؛ فلما قدم وحلبها عاد إلى ما كان. وكان أبو بكر الصّدّيق يحلب للحيّ أغنامهم؛ فلما استخلف؛ قيل: الآن لا يحلبها!، فقال: بلى؛ وإنّي لأرجو ألايغيّرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وذلك لأن العرب كانوا يستقبحون حلب النّساء. وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يتعاهد الأرامل فيستقي لهنّ الماء باللّيل، ورآه طلحة داخلا بيت امرأة ليلا فدخل لها نهارا؛ فإذا هي عجوز عمياء مقعدة! فقال: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ فقالت له: منذ كذا وكذا يتعاهدني بما يقوم بي من البرّ، وما يصلح لي شأني، ويخرج عنّي الأذى ويقمّ لي بيتي! فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 43- «أمت أمر الجاهليّة ... طلحة لنفسه: ثكلتك أمّك يا طلحة؛ أعثرات عمر تتبع!!. انتهى من «شرح الأربعين» للعلامة ابن حجر رحمه الله تعالى. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الذي أورده المصنف؛ مرموزا له برمز متفق عليه. لكن رأيت في «شرح رياض الصالحين» وغيره: أنه جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وابن عساكر، وأبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ، وأبو عوانة في «مستخرجه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولم أر الحديث معزوّا للبخاري في شيء من المصنفات التي راجعتها، كما أنّي لم أر فيها زيادة لفظ «المسلم» ؛ بعد لفظة «أخيه» . وهذا لفظ الحديث بطوله: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنّة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلّا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» هذا لفظ مسلم في «صحيحه» في «كتاب الدعوات» . 43- ( «أمت) - بإسكان التاء-: أمر من «أمات» ، والخطاب لمعاذ من جملة وصيته له، والمراد توصيته بأن يحيل (أمر الجاهليّة) بنقض أحكامها، وخفض أعلامها، حتى ينسى ذكرها، ويعفو أثرها؛ فتكون كالميت الذي نسي ذكره وانقطع خبره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 ......... وفي «بلوغ الأرب» للألوسي: الجاهلية الذي كثر فيه الجهّال وهي ما قبل الإسلام. وعن ابن خالويه: أنّ هذا اللفظ اسم حدث في الإسلام للزّمن الذي كان قبل البعثة. قال الحافظ ابن حجر في «شرحه على البخاري» : وهذا هو الغالب، ومنه يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [154/ آل عمران] . ثم قال: وأما جزم النووي في عدّة مواضع في «شرح مسلم» أنّ هذا هو المراد حيث أتى!! ففيه نظر، فإنّ هذا اللّفظ- وهو «الجاهلية» - يطلق على ما مضى، والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره فتح مكّة. انتهى كلام «الفتح» . أي: فلفظ «الجاهلية» لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها قبل الإسلام؛ لما كانوا عليه من مزيد الجهل في كثير من الأعمال والأحكام. ومما أبطله الشرع من عوائدهم: أنّهم كانوا يطلّقون النساء حتى إذا قرب انقضاء عدّتهنّ راجعوهن؛ لا عن حاجة ولا لمحبّة، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مدة الانتظار، وكان الرجل يطلق امرأته أو يتزوج أو يعتق ويقول «كنت لاعبا» فأبطل الله تعالى ذلك، وردّه عليهم بقوله سبحانه وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [231/ البقرة] . وفي الحديث: «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: النكاح، والطلاق، والرّجعة» . ومن ذلك: أنهم كانوا يمنعون النساء أن يتزوجنّ من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ؛ حميّة جاهلية، كما يقع كثيرا من نحو الملوك؛ غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، فإنهم بسبب ما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النّخوة والكبرياء؛ يتخيّلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع، وقد أبطل الله ذلك ونهى عنه بقوله وَإِذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 ......... طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) [البقرة] . ومن ذلك: أنهم كانوا إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء أن يتزوّجها بعضهم، وإن شاؤا زوّجوها، وإن شاؤا لم يزوّجوها. فهم أحقّ بامرأته من أهلها، فنهى الله تعالى عن ذلك بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [19/ النساء] أي: لتأخذوا ميراثهن أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت؛ أو تردّ إليه صداقها. وفي رواية: إن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وحاصل معنى الآية: لا يحل لكم أن تأخذوهنّ بطريق الإرث؛ فتزعمون أنّكم أحقّ بهنّ من غيركم، وتحبسونهنّ لأنفسكم، وكان الرجل من العرب إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه، فإن كان له حاجة فيها طرح ثوبه عليها، وإن لم يكن له حاجة فيها تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، وقد أبطل الله ذلك بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22) [النساء] وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية «نكاح المقت» ، ويسمى الولد الحاصل منه «مقتي» ، ولهم في هذا الباب غير ذلك من المنكرات، وقد ذكرت في كتب الحديث والتفسير!!. وروى البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 إلّا ما حسّنه الإسلام» . 44- «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» . كانُوا مُهْتَدِينَ (140) [الأنعام] . (إلّا ما حسّنه الإسلام» ) وأقرّه كالقسامة والدية مئة من الإبل. وكانت العرب في الجاهلية تحرّم أشياء نزل القرآن بتحريمها، فكانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات، إلّا ما يحكى عن حاجب بن زرارة وهو سيّد بني تميم: تزوج بنته وأولدها. وإنما تنزّهت العرب، ولا سيّما قريش عن هذه المناكح!! حفظا لحرمة الأرحام الدّانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة، فتضعف الحميّة وتقل الغيرة، وهم أخصّ الناس بالمناكح الطاهرة، وكان أقبح ما يصنع بعضهم أن يجمع بين الأختين. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» . 44- ( «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» ) رواه الديلمي- بسند ضعيف- عن ابن عباس مرفوعا. وفي «اللآلئ» بعد عزوه ل «مسند الفردوس» عن ابن عباس مرفوعا قال: وفي إسناده ضعيف ومجهول. انتهى. وقال في «المقاصد» : وعزاه الحافظ ابن حجر ل «مسند الحسن بن سفيان» عن ابن عباس بلفظ: «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» قال: وسنده ضعيف جدّا. ورواه أبو الحسن التميمي من الحنابلة في «العقل» له؛ عن ابن عباس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي أيضا بلفظ: «بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب النّاس على قدر عقولهم» . وله شاهد عن سعيد بن المسيب مرسلا بلفظ: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا ... » وذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 ......... ورواه في «الغنية» للشيخ عبد القادر الجيلاني قدّس سرّه بلفظ: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدّث النّاس على قدر عقولهم» . وفي «صحيح البخاري» ؛ عن عليّ موقوفا: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله!! ونحوه ما في «مقدمة صحيح مسلم» عن ابن مسعود قال: ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة. وروى العقيلي في «الضعفاء» وابن السنّي وأبو نعيم في «الرياضة» وغيرهم عن ابن عباس مرفوعا: «ما حدّث أحدكم قوما بحديث لا يفهمونه إلّا كان فتنة عليهم» . ورواه الديلمي أيضا من طريق حمّاد بن خالد، عن ابن عباس رفعه: «لا تحدّثوا أمّتي من أحاديثي إلّا ما تحمله عقولهم» . وروى البيهقي في «الشعب» عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا: «إذا حدّثتم النّاس عن ربّهم فلا تحدّثوهم بما يعزب عنهم ويشقّ عليهم» . وصحّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: حفظت عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم وعاءين؛ فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعا: «عاقبوا أرقّاءكم على قدر عقولهم» . وأخرجه الدارقطني عن عائشة مثله. وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين؛ عن أبي ذرّ مرفوعا: «خالقوا الناس بأخلاقهم» . وأخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود مرفوعا: «خالط الناس بما يشتهون؛ ودينك فلا تكلمنّه» . ونحوه عن عليّ رفعه: «خالق الفاجر مخالفة، وخالص المؤمن مخالصة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 45- «إنّ الله تعالى بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع أقوام وخفض آخرين» . 46- «إنّ الله تجاوز لأمّتي عن النّسيان، وما أكرهوا عليه» . ودينك لا تسلمه لأحد» . انتهى. ذكر جميع ذلك العجلونيّ في «كشف الخفا» رحمه الله تعالى. 45- ( «إنّ الله تعالى بعثني) أرسلني (رحمة مهداة) - بضم الميم وسكون الهاء-: أي: هدية للمؤمنين والكافرين بتأخير العذاب. (بعثت برفع أقوام) وهم المؤمنون (وخفض آخرين» ) وهم من أبى واستكبر، وإن بلغ من الشرف المقام الأفخر، بمعنى: أنه يضع قدرهم ويذلّهم باللّسان والسّنان؛ فكان عنده مزيد الرحمة للمؤمنين، وغاية الغلظة على الكافرين؛ فاعتدل فيه الإنعام والانتقام. وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. 46- ( «إنّ الله تجاوز) ؛ أي: عفا «من جازه يجوزه» : إذا تعدّاه وعبر عليه (لأمّتي) أمة الإجابة (عن النّسيان) - بكسر النون-: ضد الذّكر والحفظ؛ أي: عن إثم النّسيان، (وما أكرهوا) ؛ أي: الأمة، وذكّره «1» !! نظرا للمدلول؛ لا للفظ (عليه» ) ؛ أي: حملوا على فعله قهرا. قال المناوي: والمراد رفع الإثم، وفي ارتفاع الحكم خلف، والشافعي كالجمهور على الارتفاع. قال العلقمي: وحدّه الإكراه: أن يهدّد قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقوبات؛ يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه، وقد غلب على ظنّه أنه يفعل به ما هدّد به؛ إن امتنع ممّا أكرهه عليه، وعجز عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره ونحوهما من أنواع الدّفع.   (1) أي ضمير «أكرهوا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 47- «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» . ويختلف الإكراه باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها. انتهى «عزيزي» . وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الّذي أورده المصنف؛ مرموزا له برمز الطبراني في «الكبير» عن ثوبان الهاشمي «مولى المصطفى صلى الله عليه وسلم» ، وقال الحاكم: إنّه صحيح على شرطهما. ذكره المناوي. وأطال العجلوني في «كشف الخفا» في تخريجه وما قيل فيه من قدح، إلى أن قال: وأصل الباب: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في «الصحيحين» ؛ عن زرارة بن أوفى يرفعه: «إنّ الله تجاوز لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلّم به» . انتهى. 47- ( «إنّ الله جعل الحقّ) يعني: أجراه (على لسان عمر) بن الخطاب، فكان كالسّيف الصّارم والحسام القاطع. قال الطيبي: «جعل» بمعنى «أجرى» ، فعدّاه ب «على» وفيه معنى ظهور الحقّ واستعلائه على لسانه، ووضع «جعل» موضع أجراه!! إيذانا بأنّ ذلك كان خلقيّا ثابتا لازما مستقرا (وقلبه» ) فكان الغالب على قلبه جلال الله؛ فكأنّ الحقّ معتمله حتى يقوم بأمر الله وينفّذ بقاله وحاله؛ وفاء بما قلّده الله الخلق من رعاية هذا الدين الذي ارتضاه لهم. انتهى مناوي على «الجامع» . وقال الحفني: أي هو زائد عن غيره في ذلك؛ وإن كان أفضل منه كأبي بكر، إذ قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فالغالب على سيّدنا أبي بكر الرأفة، والغالب على سيّدنا عمر الشدّة في دين الله تعالى، ولذا لما أسلم ووجد الناس مختفين فقال: ألسنا على الحقّ؛ يا رسول الله!! فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقال: ففيم الاختفاء؟. فأمر بالصّلاة والطّواف جهارا فظهر الإسلام من حينئذ، وإنما قيل هو زائد ... الخ!! لأنّ جميع الصّحابة كذلك لا يجري على ألسنتهم وقلوبهم إلّا الحق. انتهى كلام الحفني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 48- «إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ... وفي «سنن أبي داود» في «كتاب الخراج» أنّ عمر بن عبد العزيز كتب: أنّ من سأل عن مواضع الفيء، فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فرآه المؤمنون عدلا موافقا لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الحقّ على لسان عمر وقلبه» . فرض الأعطية وعقد لأهل الأديان ذمّة بما فرض عليهم من الجزية لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم. انتهى. وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما؛ وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه أبو يعلى والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي. وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن بلال بن رباح الحبشي المؤذن، وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما. وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود في «الخراج» ، وابن ماجه، والحاكم، وصحّحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه بلفظ: «إنّ الله وضع الحقّ على لسان عمر يقول به» . وفي «كشف الخفا» للعجلوني: حديث: «الحقّ بعدي مع عمر حيث كان» قال الصغاني: موضوع. انتهى. وأقول رواه في «الجامع الكبير» عن الحكيم الترمذي، وابن عساكر؛ عن الفضل بن عباس بلفظ: «الحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان» . انتهى كلام العجلوني رحمه الله تعالى. 48- ( «إنّ الله) عزّ وجلّ (لا ينظر إلى أجسامكم) المجرّدة عن السّير المرضية، وفي «صحيح مسلم» : «أجسادكم» بدل «أجسامكم» ؛ أي: لا يجازيكم على ظاهرها (ولا إلى صوركم) الظاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 ولكن ينظر إلى قلوبكم» . (ولكن ينظر إلى قلوبكم» ) التي هي محلّ التقوى، وأوعية الجواهر، وكنوز المعرفة؛ أي: إنّما تكون المجازاة على ما في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته؛ دون الصّور الظّاهرة، فمعنى النظر هنا: الإحسان والرحمة والعطف. ومعنى نفيه: نفي ذلك، فعبّر عن الكائن عند النظر بالنظر مجازا، وذلك لأن النظر في الشاهد دليل المحبّة، وترك النظر دليل البغض والكراهة، وميل الناس إلى الصّور المعجبة، والله منزّه عن ذلك، فجعل نظره إلى ما هو السرّ واللّبّ؛ وهو القلب. والجمال قسمان: ظاهري، وباطني؛ كجمال علم وعقل وكرم، وهذا هو محلّ نظر الله من غيره، وموضع محبته؛ فيرى صاحب الجمال الباطني، فيكسوه من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات؛ فإن المؤمن يعطى حلاوة ومهابة بحسب إيمانه؛ فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبّه؛ وإن كان أسود مشوها، وهذا أمر مشهود بالعيان. قال الغزالي: قد أبان هذا الحديث أن محلّ القلب موضع نظر الرّبّ، فيا عجبا ممن يهتمّ بوجهه الّذي هو محل نظر الخلق؛ فيغسله وينظفه من القذر والدّنس، ويزيّنه بما أمكن لئلا يطّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتمّ بقلبه الذي هو محلّ نظر الخالق فيطهّره ويزيّنه لئلا يطّلع ربّه على دنس أو غيره فيه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . وهذا الحديث رواه مسلم في «صحيحه» في «كتاب الأدب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ورواه مسلم أيضا في «الأدب» عنه بلفظ: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . ورواه ابن ماجه بمثله عن أبي هريرة في «باب الزهد» بلفظ: «إنما ينظر ... الخ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 49- «إنّ الله يحبّ معالي الأمور، ويكره سفسافها» . 49- ( «إنّ الله) تعالى (يحبّ معالي الأمور) قال المناوي على «الجامع» : هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينيّة. انتهى. قال الحفني: كالصلاة والصوم وتعليم العلم ونحو ذلك. انتهى. أي: لا الأمور الدنيويّة، فإن العلوّ فيها نزول؛ كما في المناوي. (ويكره سفسافها» ) - بفتح أوله-؛ أي: حقيرها ورديئها كالعجب والكبر. فمن اتصف بالأخلاق الزكية أحبّه، ومن تحلّى بالأوصاف الرديّة كرهه. والإنسان يضارع الملك بقوة الفكر والتمييز، ويضارع البهيمة بالشهوة والدناءة. فمن صرف همّته إلى اكتساب معالي الأخلاق أحبّه الله، فحقيق أن يلتحق بالملائكة لطهارة أخلاقه. ومن صرفها إلى السفاسف ورذائل الأخلاق التحق بالبهائم، فيصير إمّا ضاريا ككلب، أو شرها كخنزير، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو رواغا كثعلب، أو جامعا لذلك كشيطان. وشرف النفس صونها عن الرذائل والدّنايا، والمطامع القاطعة لأعناق الرجال؛ فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك. من نفسه شريفة أبيّه ... يربأ عن أموره الدّنيّه ولم يزل يجنح للمعالي ... يسهر في طلابها اللّيالي والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفا» بلفظ: «إنّ الله يحبّ معالي الأمور ويبغض سفسافها» ، وقال: رواه الحاكم عن سهل بن سعد. ورواه أبو نعيم والطبراني وابن ماجه؛ عن سهل أيضا بلفظ: «إنّ الله كريم يحبّ الكرم، ويحبّ معالي الأخلاق؛ ويكره سفسافها» . ورواه ابن ماجه عن طلحة، وأبو نعيم عن ابن عباس بلفظ: «إنّ الله جواد يحبّ الجود، ويحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 50- «إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» . ورواه الطبراني عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب بلفظ: «إنّ الله يحبّ معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها» . انتهى. 50- ( «إنّ الله) تعالى (يحبّ الرّفق) - بكسر فسكون-: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والدفع بالأخفّ (في الأمر كلّه» ) ؛ أي: في أمر الدّين وأمر الدنيا في جميع الأحوال والأفعال حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكّد ذلك في معاشرة من لا بدّ من معاشرته؛ كزوجته وخادمه وولده. فالرّفق محبوب مطلوب مرغوب، وكلّ ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشرّ. قال الغزالي: فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به؛ رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به؛ حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به؛ فقيه فيما ينهى عنه. وعظ المأمون واعظ بعنف؛ فقال له: يا هذا ارفق، فقد بعث من هو خير منك إلى من هو شرّ منّي. قال تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [44/ طه] . أخذ منه أنه يتعيّن على العالم الرفق بالطالب، وألايوبّخه ولا يعنّفه. انتهى. قال العلقمي: وسببه كما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل رهط من اليهود على النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقالوا: السام عليكم؛ قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السّام واللّعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة؛ إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» ، فقلت: يا رسول الله؛ أو لم تسمع ما قالوا!؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلت: وعليكم» . انتهى من المناوي على «الجامع» ، ومن العزيزي على «الجامع» . والحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم في «الاستئذان» ؛ كلاهما عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 ......... عائشة رضي الله تعالى عنها، وروى مسلم رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه» . وفي رواية له؛ من حديث شعبة عنها: ركبت بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردّده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرّفق إنّ الرّفق ... » الحديث. وعزاه في «اللآلي» ل «مسند الإمام أحمد» عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وأحمد وآخرون بلفظ: كنت على بعير فيه صعوبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرّفق فإنّه لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» . ورواه العسكري عن عائشة بلفظ: «ما كان الرّفق في قوم إلّا نفعهم، ولا كان الخرق في قوم إلّا ضرّهم» . وله من حديث حجاج بن سليمان الرعيني قال: قلت لابن لهيعة: كنت أسمع عجائز المدينة يقلن «إنّ الرّفق في المعيشة خير من بعض التّجارة» ، فقال: حدّثنيه محمد بن المنكدر، عن جابر، رفعه. وله أيضا عن عروة بن الزبير قال: مكتوب في التوراة: الرّفق رأس الحكمة. وأثر عروة عند أبي الشيخ بلفظ: بلغني أنه مكتوب في التوراة: ألا إنّ الرّفق.. الخ. وأخرج الطبراني عن جرير مرفوعا: «الرفق زيادة تبركة» . وروى العسكري والقضاعي عن عائشة مرفوعا: «من أعطي حظّه من الرّفق فقد أعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظّه من الرّفق فقد حرم حظّه من خير الدنيا والآخرة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 51- «إنّ الله ينزل الرّزق على قدر المؤونة» . وفي رواية للعسكري عنها بلفظ: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق» . ومثله للقضاعي عن أبي الدرداء مرفوعا. وروى العسكري عن أنس مرفوعا: «ما كان الرّفق في شيء قطّ إلّا زانه، ولا كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه» . ورواه عن جرير رفعه: «من يحرم الرّفق يحرم الخير كلّه» . وروى البيهقي في «مناقب الشافعي» عن ابنه محمد أنّه قال: رآني أبي وأنا أعجل في بعض الأمور، فقال: يا بنيّ؛ رفقا، فإنّ العجلة تنقض الأعمال، وبالرفق تدرك الآمال. ثمّ ساق الشافعي سنده إلى أبي هريرة رفعه: «إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» . وقال النجم: وعند الطبراني عن ابن مسعود: «الرفق يمن، والخرق شؤم وهو عند البيهقي- وإذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق؛ فإنّ الرفق لم يكن في شيء قطّ إلّا زانه، وإنّ الخرق لم يكن في شيء قطّ إلّا شانه» . وعند الدارقطني في «الأفراد» عن أنس: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا نفعهم في الدّين، ووقّر صغيرهم كبيرهم، ورزقهم الرّفق في معيشتهم، والقصد في نفقاتهم، وبصّرهم عيوبهم فيتوبوا منها، وإذا أراد بهم غير ذلك تركهم هملا» . انتهى من «كشف الخفا» . 51- ( «إنّ الله) تعالى (ينزل الرّزق) - كذا في «كنوز الحقائق» ! قال العجلوني: والمشهور على الألسنة: «المعونة- (على قدر المؤونة» ) . وهو في «الجامع الصغير» كما قال العجلوني: إنه مشهور على الألسنة. قال العزيزي في «شرح الجامع» : ومعناه: أنّ الله يعين الإنسان على قدر ما يحتاج إليه من المؤونة؛ بحسب حاله، وما يناسبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 ......... وقال المناوي؛ يريد أن العبد إذا لزمه القيام بمؤونة من تلزمه مؤونته شرعا، فإن كانت تلك المؤن قليلة قلّل له، وإن كانت كثيرة وتحمّلها على قدر طاقته وقام بحقّها وعانى من فنون الدنيا ما أمر به لأجلها؛ أمدّه الله بمعونته، ورزقه من حيث لا يحتسب بقدرها. وعماد ذلك طلب المعونة من الله تعالى بصدق وإخلاص، فهو حينئذ مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شيء فاستعان الله عليها جاءته المعونة على قدر المؤونة، فلا يقع لمن اعتمد ذلك عجز عن مرام أبدا. وفي ذلك ندب إلى الاعتصام بحول الله وقوّته وتوجيه الرّغبات إليه بالسؤال والإبتهال، ونهي عن الإمساك والتقتير على العيال؛ فلا يخشى الإنسان الفقر من كثرة العيال، فإنّ الله يعينه على مؤونتهم، بل يندب له أن يعمل على ما فيه تكثيرهم؛ اعتمادا على الله. ولذا لما شكا بعض التلامذة لشيخه ضيق العيش أمره بالزّواج؛ فتعجب لكونه على مؤونة نفسه، لكنه امتثل ثمّ شكا له بعد ذلك؛ فأمره بالسكنى في بيت، ثمّ باتخاذ دابة، ثمّ باتّخاذ خادم، فوسّع الله عليه بعد ذلك، فالشيخ أخذ ذلك من هذا الحديث. انتهى كلام المناوي على «الجامع» ، مع زيادة من غيره. وتمام الحديث- كما في «الجامع الصغير» -: «وينزل الصّبر على قدر البلاء» ، ورمز له بأنّه أخرجه ابن لال في «مكارم الأخلاق» وابن عدي. قال المناوي: وكذا البيهقي في «الشعب» : كلّهم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفيه عبد الرحيم بن رافد! أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال: ضعفه الخطيب، عن وهب بن وهب. قال أحمد وغيره: كذّاب، لكن يأتي ما يقوّيه بعض قوة. انتهى كلام المناوي على «الجامع» . وكأنه يعني بما يقوّيه حديث: «إنّ المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤونة، وإنّ الصّبر يأتي من الله للعبد على قدر المصيبة» . أخرجه الحكيم الترمذي في «النوادر» ، والبزار في «المسند» ، والحاكم في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 52- «إنّ أخسر النّاس صفقة ... كتاب «الكنى والألقاب» ، والطبراني في «الكبير» : كلهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال الهيثمي: وفيه طارق بن عمّار! قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وبقية رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته محتجّ بهم في «الصحيح» إلا طارق بن عمّار ففيه كلام قريب؛ ولم يترك. قال: والحديث غريب. انتهى؛ نقله المناوي على «الجامع» . وهذا الحديث وهو حديث: «إنّ المعونة تأتي من الله للعبد» ... الخ ذكره العجلوني في «الكشف» ؛ وقال: رواه البيهقي في «الشعب» ، والعسكري في «الأمثال» ، والبزار وابن شاهين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ورواه البيهقي أيضا بلفظ: «أنزل الله عزّ وجلّ المعونة على قدر المؤونة، وأنزل الصّبر عند البلاء» . ورواه ابن الشخير بلفظ: «أنزل المعونة مع شدة المؤونة، وأنزل الصّبر عند البلاء» . ورواه عمر بن طلحة من حديث أبي الحواري؛ حدثنا: عبد العزيز بن عمر أنه قال: أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه الصّلاة والسلام: يا داود اصبر على المؤونة تأتك المعونة، وإذا رأيت لي طالبا؛ فكن له خادما. انتهى كلام العجلوني في «الكشف» رحمه الله تعالى. 52- ( «إنّ أخسر النّاس صفقة) هي في الأصل: ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، والخسر في الأصل: نقص رأس المال، ثمّ استعمل في المقتنيات الخارجة؛ كالمال والجاه، وأكثر استعماله في النفيس منها؛ كصحة وسلامة وعقل وإيمان وثواب، وهو المراد هنا؛ ذكره الراغب. أي: من أشد الناس خسرانا لعظيم الثواب، وأعظمهم حسرة يوم الماب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 من أذهب آخرته بدنيا غيره» . 53- «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين ... (من أذهب آخرته) بترك الواجب أو المندوب (بدنيا غيره» ) ؛ أي: بسبب اشتغاله بجلب دنيا غيره؛ كخدام العظماء يشتغلون بنفع مخاديمهم، والقيام بمصالحهم، ويتركون الصّلوات، ويحلفون الأيمان الفاجرة، ويأخذون أموال الناس لاسترضاء مخاديمهم؛ كذا قاله الزرقاني على «المواهب» . وفي القليوبي على «المنهاج» الفقهي: وأخسّ الأخسّاء: من باع دينه بدنيا غيره كالمكّاس. انتهى. أي: وكالقاضي الذي يحكم لغيره بملك غيره ظلما؛ كما قاله شيخنا. وفي «المواهب مع الشرح» : أن ابن النّجار في «تاريخ بغداد» روى من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة العتري «حليف بني عديّ» أبي محمد المدني ولد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثّقه العجلي. روى عن أبيه عامر صحابيّ مشهور حديثا لفظه: «أخسّ الناس صفقة: رجل أخلق يديه في آماله، ولم تساعده الأيام على أمنيّته؛ فخرج من الدّنيا بغير زاد، وقدم على الله بغير حجة» . وهو مما بيّض له الديلمي لعدم وقوفه له على سند. انتهى ملخصا، ومثله في «الجامع الصغير وشرحه» . 53- ( «إنّ الدّين) - بكسر الدال- أي: دين الإسلام (يسر) أي: ذو يسر؛ نقيض العسر، أو هو يسر، مبالغة لكثرة اليسر- بالنسبة للأديان قبله- كأنّه نفسه، لأنّ الله رفع عن هذه الأمة الإصر الّذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أنّ توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمّة بالإقلاع والعزم على عدم العود والنّدم. (ولن يشادّ) : أي: يقاوم (الدّين) بأن يتعمّق بكثرة العبادة كأن يصوم كلّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 أحد إلّا غلبه» . يوم، ويقوم جميع اللّيل، فإنه يعجز، فيترك جميع ذلك، فيصير معرضا عن الله بعد الإقبال، أو بالمبالغة في الطهارة والصّلاة وإخراج الحروف من مخارجها. و «الدّين» منصوب على المفعولية، وفاعله قوله: (أحد) الثابت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عند الأصيلي، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم، وأكثر رواة البخاري بإسقاط لفظ «أحد» على إضمار الفاعل للعلم به، و «الدين» نصب على المفعولية أيضا. وحكى صاحب «المطالع» أن أكثر الروايات برفع «الدّين» على أنّ «يشادّ» مبنيّ لما لم يسمّ فاعله، وعارضه النووي بأنّ أكثر الروايات: بالنصب. قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما بأنّه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيّد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: «إنه من يشادّ هذا الدين يغلبه» . ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب. انتهى زرقاني (إلّا غلبه» ) قال العلقمي: المعنى لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينيّة ويترك الرّفق إلّا عجز وانقطع، فيغلب. قال في «الفتح» : وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، والمبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلّي اللّيل ويغالب النّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللّيل؛ فنام عن صلاة الصّبح؛ أي: عن وقت الفضيلة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس؛ فخرج وقت الفريضة. وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: «إنّكم لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره» . وقد يستفاد من هذا، الإشارة إلى الأخذ بالرّخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرّخصة تنطّع، كمن يترك التيمّم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعمال الماء إلى حصول الضّرر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 54- «إنّ الصّبر عند الصّدمة الأولى» . قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوّة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدّين ينقطع. انتهى عزيزي. وقال الطيبيّ: بناء المفاعلة في «يشادّ» ليس للمغالبة، بل للمبالغة نحو طارقت النّعل، وهو من جانب المكلّف، ويحتمل أن يكون للمبالغة على سبيل الاستعارة، والمستثنى منه عامّ الأوصاف؛ أي: لم يحصل ويستقرّ ذلك المشادّ على وصف من الأوصاف إلّا على وصف المغلوبيّة. انتهى زرقاني. وتمام هذا الحديث: «فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» . انتهى من «الجامع الصغير» . ورمز له برمز البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وفي الزرقاني: قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث من أفراد البخاري؛ عن مسلم. انتهى. 54- ( «إنّ الصّبر) ؛ الكامل المحبوب ما كان (عند الصّدمة الأولى» ) ؛ أي: عند زمن ابتداء المصيبة وشدّتها بخلاف زمن آخرها؛ فإنّه وإن كان فيه ثواب إلّا أنه دون الأوّل؛ لأنّ آخر المصيبة يهوّن الأمر شيئا فشيئا؛ فيحصل له التّسلّي. والصّبر: حبس النفس على كريه تتحمّله أو لذيذ تفارقه، وهو لفظ عامّ ربّما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف موقعه. فحبس النفس لمصيبة يسمّى «صبرا» ؛ لا غير، ويقابله: الجزع، وحبسها في محاربة يسمى «شجاعة» ويقابله: الجبن، وفي إمساك عن الكلام يسمّى «صمتا وكتمانا» ويقابله: القلق. وأصل الصّدم: ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. انتهى من «شروح الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» باللّفظ الّذي أورده المصنف مرموزا له برمز الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 55- «إنّك لن تدع لله شيئا.. إلّا عوّضك الله خيرا منه» . وسببه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم مرّ بامرأة تبكي على صبيّ لها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: «اتقي الله واصبري» فقالت: إليك عنّي، فإنّك لم تصب بمصيبتي!، ولم تعرفه. فقيل لها: إنّه النبيّ صلى الله عليه وسلم! فأتت بابه فلم تجد عنده بوّابين فقالت: لم أعرفك ... فذكره. وفي رواية: «إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى» وفي رواية: «إنّما الصّبر عند أوّل صدمة» ، وفي رواية: «الصّبر عند الصّدمة الأولى» . ( «إنّك لن تدع لله) ؛ أي: لمحض الامتثال من غير مشاركة غرض من الأغراض (شيئا) ؛ بأن لا تشدّد في طلبه لكون تركه فيه رفق بالمسلمين (إلّا عوّضك الله خيرا منه» ) في الدين والدنيا، لأنّك لما قهرت نفسك وهواك لأجل الله جوزيت بما هو أفضل وأنفع. والحديث ذكره المناوي في «الطبقات» باللفظ الذي أورده المصنف. وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلّا له؛ إلّا عوّضه الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه» وقال: رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا، وقال: غريب. لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في «ترغيبه» عن أبي بن كعب مرفوعا بلفظ: «لا يترك عبد شيئا لا يدعه إلّا لله، إلّا آتاه الله ما هو خير له منه» . ولأحمد عن قتادة وأبي الدهماء: أنّهما نزلا على رجل من البادية، فقالا له: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا؟ قال: نعم سمعته يقول: «إنّك لن تدع شيئا لله إلّا أبدلك الله به ما هو خير لك منه» . وفي لفظ له أيضا: «إنّك لن تدع شيئا اتّقاء الله إلّا أعطاك الله خيرا منه» . ورجاله رجال الصحيح. وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا: «ما ترك عبد لله أمرا لا يتركه إلّا لله؛ إلّا عوّضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 56- «إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم.. فسعوهم بأخلاقكم» . وللطبراني وأبي الشيخ عن أبي أمامة مرفوعا: «من قدر على طمع من طمع الدّنيا فأدّاه ولو شاء لم يؤدّه؛ زوّجه الله من الحور العين حيث شاء» . انتهى. 56- ( «إنّكم لن تسعوا) - بفتح السين المهملة- وفي رواية: «لا تسعون» بالفتح أيضا- أي: لا تطيقون أن تعمّوا (النّاس بأموالكم) لعزّة المال وكثرة الناس فلا يمكنكم ذلك (فسعوهم بأخلاقكم» ) بحيث تقبلون على كلّ منهم بالبشاشة وإظهار المودّة، وكأنّه جعل المال محلّا لطالبيه لاستراحة من حصل له منك مال، فاطمأنّ به كما يطمئنّ من هيّء له منزل يدفع عنه الضّرر. وهذا الحديث ذكره في «المواهب» ، وقال: رواه أبو يعلى والبزار من طرق؛ أحدها حسن عن أبي هريرة رفعه بلفظ: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» . قال الزرقاني: أي: لا تتسع أموالكم لعطائهم، فوسّعوا أخلاقكم لصحبتهم. والوسع والسّعة: الجدة والطّاقة، وذلك لأن استيعاب عامّتهم بالإحسان بالفعل لا يمكن، فأمر بجعل ذلك بالقول. كما قال تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [83/ البقرة] . وروى العسكري عن الصّولي: لو وزنت كلمة النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأحسن كلام الناس كلّهم لرجحت على ذلك، وهي قوله: «إنكم..» الخ. قال: وقد كان ابن عبّاد كريم الوعد، كثير البذل، سريعا إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه. وقال إبراهيم بن أدهم: إنّ الرجل ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه بماله؛ لأنّ المال عليه فيه زكاة وصلة أرحام وأشياء أخر، وخلقه ليس عليه فيه شيء. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم باللّيل الظامىء بالهواجر» رواه الطبراني. انتهى. وذكر حديث المتن في «الجامع الصغير» بلفظ «المواهب» مرموزا له برمز البزار، وأبي نعيم في «الحلية» ، والحاكم، والبيهقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 57- «إنّ لصاحب الحقّ مقالا» . 58- «إنّما الأعمال بالنّيّات» . في «شعب الإيمان» . زاد المناوي: رواه الطبراني؛ كلّهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. 57- ( «إنّ لصاحب الحقّ) ؛ أي: الدّين (مقالا» ) صولة الطلب، وقوّة الحجة. وأخذ منه الغزالي أنّ المظلوم من جهة القاضي له أن يتظلّم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم، وكذا يقول المستفتي للمفتي: قد ظلمني أبي.. أو أخي.. أو زوجي. فكيف طريقي في الخلاص!؟. والأولى التعريض بأن يقول: ما قولكم في رجل ظلمه أبوه أو أخوه، لكن التعيين مباح؛ لما ذكر. والحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: إن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال: «دعوه، فإنّ لصاحب الحقّ مقالا» وهو من غرائب الصحيح، فإنه لا يروى عن أبي هريرة إلا بإسناد مداره على سلمة بن كهيل، وقد صرّح بأنّه سمعه من أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى حين حجّ. وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبرمز أبي نعيم في «الحلية» عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه. 58- ( «إنّما الأعمال) : جمع عمل، وهو حركة البدن؛ فيشمل القول ويتجوّز به عن حركة النفس، والمراد هنا عمل الجوارح الصّادرة من المؤمنين، أي: إنما صحتها (بالنّيّات) من مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: كل عمل بنيّته. وقال الحربي: كأنه إشارة إلى تنويع النيّة كالأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل وعده، أو اتقاء وعيده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ......... وفي معظم الرّوايات: «بالنّيّة» بالإفراد لأن محلّها القلب؛ وهو متّحد، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر؛ وهي متعدّدة فناسب جمعها، أو لأنّ النّيّة ترجع إلى الإخلاص؛ وهو واحد للواحد الذي لا شريك له. وفي «صحيح ابن حبان» : «الأعمال بالنّيّات» بحذف «إنّما» وجمعهما، وللبخاري في «الإيمان والعتق والهجرة» : «الأعمال بالنّيّة» بجمع «الأعمال» وإفراد «النّيّة» . وله في «النكاح» : «العمل بالنّيّة» بإفرادهما. وهذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين؛ لأنّ «أل» في الأعمال للاستغراق، وهو مستلزم للحصر؛ لأنّ معناه: كلّ عمل بنيّة، فلا عمل إلّا بنية. أو لأنّ «إنّما» للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق؛ أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع؛ أو بالعرف، أو تفيده بالحقيقة، أو بالمجاز؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخ الإسلام البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلّا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية. وعبّر بالأعمال دون الأفعال!! لأن الفعل قد يكون زمانه يسيرا ولا يتكرر، قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) [الفيل] ، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [45/ إبراهيم] حيث كان إهلاكهم في زمن يسير ولم يتكرر، بخلاف العمل فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد بالاستمرار والتكرار الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [25/ البقرة] طلب منهم العمل الدائم المتجدد لا نفس العمل، قال تعالى فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) [الصافات] ولم يقل الفاعلون. و «النيات» جمع نية؛- بكسر النون وشدّ المثناة التحتية في المشهور، وفي لغة: تخفيفها. قال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض؛ من جلب نفع أو دفع ضرّ حالا أو مالا. والشرع خصّه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل؛ لابتغاء رضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 59- «إنّما البيع عن تراض» . 60- «إنّما العلم بالتّعلّم، ... الله تعالى وامتثال حكمه. وهي محمولة في الحديث على المعنى اللّغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده من بقية الحديث وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل. والحديث أخرجه الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة: البخاري؛ في سبعة مواضع من «صحيحه» ، ومسلم، والترمذي في «الجهاد» ، وأبو داود في «الطلاق» ، والنسائي في «الأيمان» ، وابن ماجه في «الزهد» ؛ كلهم من حديث عمر بن الخطاب. ولم يخرجه في «الموطأ» رواية الأكثرين، وخرّجه في رواية محمد بن الحسن عنه، ذكره في آخر «باب النوادر» قبيل آخر الكتاب بورقات. 59- ( «إنّما البيع) ؛ أي: الجائز الصحيح شرعا الذي يترتب عليه أثره؛ الذي هو انتقال الملك وحلّ الانتفاع: هو ما وقع (عن تراض» ) من المتعاقدين مع باقي أركانه وشروطه، بخلاف ما لو صدر بنحو إكراه بغير حقّ، فلا أثر له، بل المبيع باق على ملك البائع؛ وإن صدرت صورة البيع. وأفاد الحديث بإناطة الانعقاد بالرضى؛ اشتراط الصيغة لوجود صورته الشرعية في الوجود، لأنّ الرضى أمر خفيّ لا يطّلع عليه، فاعتبر ما يدلّ عليه وهو الصّيغة. والحديث أخرجه ابن ماجه والضّياء؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قدم يهودي بتمر وشعير وقد أصاب الناس جوع، فسألوه أن يسعّر لهم فأبى ... وذكر الحديث. 60- ( «إنّما العلم) ؛ أي: اكتسابه في الابتداء، وإدراك الأحكام ووصولها إلى الذّهن (بالتّعلّم) من العلماء؛ أي: بالأخذ في أسبابه من سؤال العلماء العارفين، والاعتناء بالتّلقّي عنهم، وإنّما بقاؤه وعدم ضياعه بمذاكرته وعدم الغافلة عنه، ولا يستحي من السؤال عمّا أشكل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 وإنّما الحلم بالتّحلّم» . قال مجاهد: لا يتعلّم العلم مستحي ولا مستكبر. وقيل لابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. والحصر في الحديث بالنّظر للغالب، وإلّا! فقد يحصل العلم بسبب الرياضة المقتضية لإفاضة العلوم على القلب من غير تعلم. (وإنّما الحلم) ؛ أي: المكتسب (بالتّحلّم» ) ؛ أي: بحمل النفس عليه. قال الراغب: الحلم: إمساك النفس عن هيجان الغضب. والتّحلّم: إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب. انتهى. وفيه إشارة إلى أنّ الملكة قد تحصل بالاكتساب، فإذا كان عادته الغضب والانتقام؛ وعالج نفسه ومنعها من الانتقام المرّة بعد الآخرى، تعوّدت على الحلم حتى صار ملكة له، وكذا معالجة نحو الكبر والبخل والعجب والحسد تقتضي تبدّل الوصف الذميم بالوصف الجميل. والحديث قال العجلوني في «الكشف» : رواه الطبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم والعسكري عن أبي الدرداء رفعه بلفظ: «إنّما العلم بالتعلم والحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه. لم يسكن الدرجات العلى؛ ولا أقول لكم من الجنة: من استقسم، أو تطيّر طيرا يردّه من سفره» . وفي سنده محمد بن الحسن الهمذاني: كذاب. ولكن رواه البيهقي في «المدخل» عن أبي الدرداء موقوفا. وفي رواية للطبراني؛ وكذا البيهقي عن أبي الدرداء بزيادة بعد قوله «يوقه» : «ثلاث من كنّ فيه لم يسكن الدّرجات العلى، ولا أقول لكم الجنّة من تكهّن، أو استقسم؛ أو ردّ من سفر تطيّرا» . وأخرجه العسكري عن أنس مرفوعا، وعن معاوية مرفوعا بلفظ: «يا أيها الناس؛ إنّما العلم بالتّعلّم والفقه بالتّفقّه، ومن يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 61- «إنّما المرء بخليله، ... وإنّما يخشى الله من عباده العلماء» . وأخرجه الطبراني في «الكبير» وابن أبي عاصم في «العلم» عن معاوية أيضا. وجزم البخاري بتعليقه؛ فقال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين» ، وقال: «إنّما العلم بالتّعلم» . وأخرجه الدارقطني في «الأفراد» والخطيب؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والخطيب عن أبي الدرداء بلفظ: «إنّما العلم بالتّعلم، وإنّما الحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه» وأخرجه أبو نعيم عن شداد بن أوس بلفظ: إنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ ماذا يزيد في العلم؟ قال: «التّعلم» . وفي سنده كذّاب، وهو عمر بن صبيح. وأخرجه البزار بسند في حديث طويل رجاله ثقات عن ابن مسعود مرفوعا أنّه كان يقول: «فعليكم بهذا القرآن فإنه مأدبة الله، فمن استطاع منكم أن يأخذ من مأدبة الله فليفعل، فإنّما العلم بالتّعلم» . وروى البيهقي في «المدخل» ، والعسكري في «الأمثال» : كلاهما عن أبي الأحوص أنه قال: «إنّ الرجل لا يولد عالما، وإنّما العلم بالتّعلم» . وروى العسكري أيضا عن حميد الطويل أنّه قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلّم، وإذا لم تكن عليما فتعلّم، فقلما تشبّه رجل بقوم إلّا كان منهم. وروى العسكري أيضا من وجه آخر عن عمرو البجلي أنه قال: الحسن هو الله، والله أحسن منك رداء، وإن كان رداؤك حبرة رداؤه الحلم، فإن لم يكن حلم لا أبالك- فتحلّم، فإنّ من تشبّه بقوم لحق بهم. انتهى. 61- ( «إنّما المرء) : يعني الإنسان (بخليله) ؛ أي: صاحبه، يعني: هو على عادته وطريقته وسيرته، لأن الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يشعر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 فلينظر المرء من يخالل» . (فلينظر) ؛ أي: فليتأمّل ويتدبّر (المرء) بعين بصيرته إلى أمور (من يخالل» ) ؛ أي: الذي يريد صداقته، فمن رآه ورضي دينه وخلقه صادقه، ومن سخط دينه فليجتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له؛ صحبه، فأقلّ درجات الأخوّة والصّداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ، وفي معنى الحديث قول الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي فإن كان ذا شرّ فجنّبه سرعة ... وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردا فتردى مع الرّدي والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الذي أورده المصنف. وذكره النووي في «رياض الصالحين» بلفظ: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ؛ وقال: رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الترمذي: حديث حسن. ومثله في «الجامع الصغير» . وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» . وقال: رواه أبو داود والترمذي وحسّنه، والبيهقي، والقضاعي عن أبي هريرة رفعه، وتساهل ابن الجوزي فأورده في «الموضوعات» ومن ثمّ خطّأه الزركشي، وتبعه في «الدرر» . وقال الحافظ في «اللآلئ» : والقول ما قال الترمذي. يعني: أن الحديث حسن. ورواه العسكري عن أنس رفعه بلفظ: «المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الخير؛ أو من الحقّ مثل الذي ترى له» ورواه ابن عدي في «كامله» بسند ضعيف. وأورده جماعة؛ منهم البيهقي في «شعبه» بلفظ: من يخالّ- بلام مشددة-. انتهى كلام «الكشف» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 62- «إنّ من البيان لسحرا» . وفي «دليل الفالحين» : قال السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع. قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن؛ كما قال الترمذي، ولا ينتهي إلى الضعف فضلا عن الوضع. قال الحافظ العسقلاني في ردّه عليه: قد حسّنه الترمذي، وصححه الحاكم. انتهى كلام «دليل الفالحين» . ملخصا. ثم قال ابن علان: وبه يعلم ما في قول المصنف- يعني النووي- بإسناد صحيح، إلا أن يريد به المقبول مجازا، فيشمل الحسن، والله أعلم. 62- ( «إنّ من البيان) هو: المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير. وقال القاضي: البيان: جمع الفصاحة في اللفظ والبلاغة باعتبار المعنى. (لسحرا» ) بفتح لام التوكيد-؛ أي: إنّ من البيان لنوعا يحلّ من العقول والقلوب في التمويه محلّ السّحر، والسّحر- في الأصل-: الصّرف، قال تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) [المؤمنون] وسمّي السحر سحرا!! لأنه مصروف عن جهته. والساحر بسحره يزيّن الباطل في عين المسحور حتى يراه حقّا، فكذا المتكلم بمهارته في البيان وتفنّنه في البلاغة وترصيف النظم؛ يسلب عقل السامع، ويشغله عن التفكر فيه والتدبّر له؛ حتى يخيّل إليه الباطل حقّا والحقّ باطلا، وهذا معنى قول ابن قتيبة «إن منه ما يقرب البعيد، ويبعد القريب، ويزين الباطل القبيح، ويعظم الصغير؛ فكأنه سحر» . والقصد النهي عن ذلك كالنهي عن السحر؛ إن كان ذلك البيان لأجل ستر حقّ ونصرة باطل. ويحتمل أنه مدح إن كان زخرفة العبارة لأجل قبول حقّ ونصره؛ فيكون تشبيهه بالسحر من حيث استمالة القلوب فقط، لا في النهي. وهذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلّم حين قدم وفد تميم وفيهم الزّبرقان وعمرو بن الأهيم فخطبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 ......... ببلاغة وفصاحة، ثمّ فخر الزبرقان فقال: يا رسول الله؛ أنا سيّد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك. فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدنيه؛ فقال الزّبرقان: والله لقد علم مني أكثر ممّا قال؛ ما منعه أن يتكلم إلّا الحسد!! فقال عمرو: أنا أحسدك! والله إنّك للئيم الخال، حديث المال، ضيّق العطن، أحمق الولد، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أوّلا، وما كذبت فيما قلت ثانيا؛ لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والآخرى جميعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» . قال الميداني: هذا المثال في استحسان النطق وإيراد الحجة البالغة. قال التوربشتي: وحقّه أن يقال إن بعض البيان كالسّحر، لكنّه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا. انتهى من «شروح الجامع الصغير» . والحديث أخرجه الإمام مالك، والإمام أحمد، والبخاري في «النكاح والطّبّ» ، وأبو داود في «الأدب» ، والترمذي في «البرّ» : كلهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إنّ من البيان سحرا، وإن من الشّعر حكما» . ورمز له برمز الإمام أحمد وأبي داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والجملة الثانية في البخاري بلفظ: «إنّ من الشّعر لحكمة» من حديث أبيّ رضي الله عنه. وذكره في «الجامع الصغير» أيضا بلفظ: «إنّ من البيان سحرا، وإنّ من العلم جهلا، وإنّ من الشّعر حكما، وإن من القول عيالا» ورمز له برمز أبي داود في «الأدب» ؛ من حديث صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جدّه: بريدة بن الحصيب رضي الله عنهم آمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 63- «أنا مدينة العلم، وعليّ بابها» . 63- ( «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» ) الذي يدخل منه إلى المدينة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلّم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها، ولا بدّ للمدينة من باب، فأخبر أن بابها هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى، وقد شهد له بالأعلميّة الموافق والمخالف، والمعادي والمحالف؛ أخرج الكلاباذي: أن رجلا سأل معاوية رضي الله تعالى عنه عن مسألة، فقال: سل عليا؛ هو أعلم مني. فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعزّه بالعلم عزّا!!. وقد كان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر بن الخطاب يسأله عمّا أشكل عليه؛ جاءه رجل فسأله، فقال: ههنا عليّ فاسأله؛ فقال: أريد أسمع منك؛ يا أمير المؤمنين!! قال: قم؛ لا أقام الله رجليك. ومحا اسمه من الدّيوان. وصحّ عنه من طرق أنه كان يتعوّذ من قوم ليس فيهم عليّ بن أبي طالب حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئا من البعوث لمشاورته في المشكل. وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء: أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟! قال: لا والله. قال الحرالي: قد علم الأولون والآخرون أنّ فهم كتاب الله تعالى منحصر إلى علم عليّ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه؛ ذكره المناوي. وفيه أيضا: وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم أن المراد «وعلي بابها» أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تنحّل لغرضه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 ......... الفاسد بما لا يجديه، ولا يسمنه ولا يغنيه. أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعا: ما أنزل الله عز وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا وعليّ رأسها وأميرها. وأخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن عليّ كرم الله وجهه! فقال: «قسمت الحكمة عشرة أجزاء؛ فأعطي عليّ تسعة أجزاء، والناس جزآ واحدا» . وعنه أيضا: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله بطن وظهر، وأما عليّ؛ فعنده منه علم الظاهر والباطن» . وأخرج أيضا عن سيّد المرسلين وإمام المتقين: «أنا سيّد ولد آدم؛ وعليّ سيّد العرب» . وأخرج أيضا: «عليّ راية الهدى» . وأخرج أيضا: «يا عليّ؛ إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتسعى» ، وأنزلت عليه هذه الآية وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) [الحاقة] . وأخرج عن ابن عباس: كنا نتحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد إلى عليّ كرم الله وجهه سبعين عهدا لم يعهده إلى غيره. والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى. انتهى كلام المناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، مرموزا له برمز العقيلي، وابن عدي، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» وصحّحه، زاد المناوي: وكذا أبو الشيخ في «السنة» : كلّهم عن ابن عباس «ترجمان القرآن» مرفوعا مع زيادة: «فمن أراد العلم فليأت الباب» . ورمز له أيضا برمز ابن عدي والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما. قال المناوي: ورواه الإمام أحمد بدون الزيادة يعني قوله: «فمن أراد العلم فليأت الباب» . قال الذهبي- كابن الجوزي-: موضوع، وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا به. وقال ابن معين: لا أصل له. وقال الدارقطني: غير ثابت، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ......... وقال الترمذي؛ عن البخاري: منكر، وتعقّبه جمع من الأئمة منهم الحافظ العلائي فقال: من حكم بوضعه فقد أخطأ، والصواب أنه حسن باعتبار طرقه؛ لا صحيح ولا ضعيف. وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو كخبر: «أرأف أمّتي بأمتي أبو بكر» . قال الزركشي: الحديث ينتهي إلى درجة الحسن المحتجّ به، ولا يكون ضعيفا، فضلا عن كونه موضوعا!! وفي «لسان الميزان» : هذا الحديث له طرق كثيرة في «المستدرك» أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل، فلا ينبغي إطلاق القول عليه بالوضع. انتهى. ورواه الخطيب في «التاريخ» باللفظ المذكور من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس ثم قال: قال القاسم: سألت ابن معين عنه؛ فقال: هو صحيح. قال الخطيب: قلت: أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية؛ وليس بباطل، إذ رواه غير واحد عنه، وأفتى بحسنه ابن حجر، وتبعه السخاوي؛ فقال: هو حديث حسن. انتهى؛ كلام المناوي على «الجامع» . وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «أنا دار الحكمة، وعليّ بابها» . ورمز له برمز الترمذي عن علي بن أبي طالب، أي: من رواية إسماعيل بن موسى الفزاري؛ عن محمد بن عمر الرومي، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن أبي عبد الضياء، عن عليّ وقال: غريب. انتهى مناوي على «الجامع» . وقال في «المقاصد» : إنه رواه الترمذي في «المناقب» من «جامعه» ، وأبو نعيم في «الحلية» وغيرهما من حديث عليّ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أنا دار الحكمة وعليّ بابها» قال الدارقطني في «العلل» : إنّه حديث مضطرب غير ثابت. وقال الترمذي: إنه منكر، وكذا قال شيخه البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح. وقال ابن معين- فيما حكاه الخطيب في «تاريخ بغداد» -: إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في «الموضوعات» ووافقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 ......... الذهبي وغيره على ذلك. انتهى كلام «المقاصد» . وقال المناوي في «شرح الجامع» بعد ذكر حديث عليّ من رواية شريك المذكور: وزعم القزويني كابن الجوزي وضعه، وأطال العلائي في ردّه. وقال: لم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّة قادحة في هذا الخبر؛ سوى دعوى الوضع دفعا بالصّدر. وسئل عنه الحافظ ابن حجر في «فتاويه» فقال: هذا حديث صحّحه الحاكم، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ؛ وقال: إنه كذب. والصواب خلاف قولهما معا، وأنه من قسم الحسن: لا يرتقي إلى الصحة؛ ولا ينحطّ إلى الكذب. قال: وبيانه يستدعي طولا لكن هذا هو المعتمد. انتهى كلام المناوي. وقال الحافظ السيوطي في «الدرر» : وقد بسطت كلام العلائي وابن حجر في «التعقبات على الموضوعات» ، وقال في «اللآلئ» بعد كلام طويل: والحاصل أن الحديث ينتهي بمجموع طريقي أبي معاوية وشريك إلى درجة الحسن المحتجّ به. انتهى. وقال في «شرح الهمزية» لابن حجر المكي عند قولها «كم أبانت عن علوم» : إنّه حسن خلافا لمن زعم وضعه. انتهى. وقال في «الفتاوى الحديثية» : رواه جماعة وصححه الحاكم، وحسّنه الحافظان العلائي وابن حجر. انتهى. وقد ألّف العلامة حافظ العصر أبو الفيض أحمد بن الصّدّيق الغماري المتوفى سنة 1382 رحمه الله تعالى مؤلفا خاصّا في هذا الحديث؛ سمّاه «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ» وقد طبع بمصر فليطلبه من أراده. وما ذكرناه هو خلاصة ما قيل في هذا الحديث، ومن أراد المزيد فليراجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 64- «أنت ومالك لأبيك» . «المقاصد» و «الكشف» و «اللآلئ المصنوعة» مع مؤلّف السيد أحمد الغماري رحمه الله تعالى. آمين. 64- ( «أنت) أيّها الرجل القائل «إنّ أبي يريد أن يجتاح مالي» ؛ أي: يستأصله (ومالك لأبيك» ) يعني: إنّ أباك كان سببا في وجودك، ووجودك سبب وجود مالك، فإذا احتاج فله الأخذ منه بقدر الحاجة؛ كما يأخذ من مال نفسه إذا كان المأخوذ فاضلا عن حاجة الابن، ومثل الأب سائر الأصول؛ ولو من جهة الأم، ومثل الابن سائر الفروع؛ ولو من جهة البنت. وسببه- كما في ابن ماجه عن جابر بن عبد الله- أنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ إنّ لي مالا وولدا، وإن أبي يجتاح مالي، فذكره حملا له على برّ أبيه، وعدم عقوقه، فليس المراد إباحة ماله له حتى يستأصله بلا حاجة. وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن ماجه في «التجارة» ؛ عن جابر بن عبد الله. قال ابن حجر الحافظ في «تخريج أحاديث الهداية» : رجاله ثقات لكن قال البزار: إنما يعرف عن هشام، عن ابن المنكدر مرسلا، وقال البيهقي: أخطأ من وصله عن جابر. انتهى مناوي على «الجامع» . ورمز له في «الجامع» أيضا برمز الطبراني في «الكبير» . قال المناوي: وكذا البزار، كلاهما عن سمرة بن جندب وابن مسعود. قال الحافظ الهيثمي: ومن طريق سمرة فيه عبد الله بن إسماعيل الحوداني، قال أبو حاتم: ليّن، وبقية رجال البزار ثقات. انتهى. ومفهومه: أنّ رجال الطبراني ليسوا كذلك، ومن طريق ابن مسعود فيه إبراهيم بن عبد الحميد؛ ولم أجد من ترجمه!! وبقية رجاله ثقات. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: فيه من طريق ابن مسعود هذا: معاوية بن يحيى وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 ......... ضعيف. وأما حديث سمرة، فإن العقيلي بعد تخريجه عنه قال: وفي الباب أحاديث فيها لين، وبعضها أحسن من بعض. وقال البيهقي: روي من وجوه موصولا لا يثبت مثلها، وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: قد أشار البخاري في «الصحيح» إلى تضعيف هذا الحديث. انتهى؛ نقله المناوي على «الجامع الصغير» . وقال في «كشف الخفا» : وله طرق أخرى عند البيهقي في «الدلائل» ، والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بسند فيه المنكدر- ضعّفوه- عن جابر؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إنّ أبي أخذ مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب فأتني بأبيك» ، فنزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرئك السلام؛ ويقول لك: إذا جاء الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه؛ ما سمعته أذناه. فلما جاء الشيخ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما بال ابنك يشكوك؛ تريد أن تأخذ ماله» ؟ قال: سله يا رسول الله؛ هل أنفقته إلّا على إحدى عمّاته أو خالاته؛ أو على نفسي!! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إيه دعنا من هذا؛ أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك» . فقال الشيخ: والله يا رسول الله؛ ما يزال الله يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. فقال: «قل وأنا أسمع، فقال: قلت: غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسّقم لم أبت ... لسقمك إلّا ساهرا أتململ كأنّي أنا المطروق دونك بالّذي ... طرقت به دوني فعينيّ تهمل تخاف الرّدى نفسي عليك؛ وإنّها ... لتعلم أنّ الموت وقت مؤجّل فلمّا بلغت السّنّ والغاية الّتي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنّك أنت المنعم المتفضّل فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدّا للخلاف كأنّه ... بردّ على أهل الصّواب موكّل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 ......... ويروى بدل البيت الأخير قوله: فأوليتني حقّ الجوار فلم تكن ... عليّ بمال دون مالك تبخل قال: فحينئذ أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلّم بتلابيب ابنه؛ وقال: «أنت ومالك لأبيك» . وذكره في «الكشاف» في تفسير سورة الإسراء بلفظ: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أباه وأنّه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكّأ على عصا، فسأله فقال: إنّه كان ضعيفا وأنا قويّ، وفقيرا وأنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ؛ وهو يبخل عليّ بماله. فبكى عليه الصلاة والسلام وقال: «ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلّا بكى» ، ثمّ قال للولد: «أنت ومالك لأبيك» وقال مخرّجه: لم أجده. وقال في «المقاصد» قال شيخنا: أخرجه في «معجم الصحابة» من طريق وبيّض له. قال: قلت: وكأنه رام ذكر الذي قبله. والحديث عند البزار في «مسنده» ؛ عن عمر أنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أبي يريد أن يأخذ مالي ... فذكره، وهو منقطع. وأخرجه الطبراني في «معاجيمه» الثلاثة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يستعدي على والده، قال: إنه أخذ منّي مالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أنّك ومالك من كسب أبيك» . وأخرج ابن ماجه؛ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أبي اجتاح مالي؛ قال: «أنت ومالك لأبيك، إنّ أولادكم من طيب كسبكم فكلوا من أموالكم» . وأخرجه أحمد عنه، وكذا ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قال في «المقاصد» : والحديث قويّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 65- «أن تفعل الخير خير لك» . 66- «أنزلوا النّاس منازلهم» . 65- ( «أن تفعل الخير خير لك» ) «أن» حرف مصدري فهو بفتح الهمزة، أي: فعلك الخير واشتغالك به خير لك من خلافه الّذي هو الترك؛ أو الاشتغال بالشرّ، فإنّ النّفس إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشرّ؛ فينبغي للإنسان أن يوجّه اهتمامه إلى وجوه الخير وأعمال البرّ؛ ليكون ذلك شغلا شاغلا له عن التوجّه إلى الشّر والتفكير فيه. والحديث المذكور لم أقف على من ذكره؛ ولا من خرّجه. 66- ( «أنزلوا) الخطاب للأئمة أو عامّ (النّاس) ؛ من مسلم وكافر، وولي وصالح وعالم، وغني وفقير، وكبير وصغير وأشيب وغيره (منازلهم» ) ؛ أي: احافظوا حرمة كلّ أحد على قدره، وعاملوه بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف؛ فلا تسوّوا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس، فإنه يورث عداوة وحقدا في النفوس؛ لأن الإكرام غذاء الآدمي، والتارك لتدبير الله في خلقه لا يستقيم حاله، وقد دبّر الله تعالى الأحوال لعباده غنى وفقرا، وعزّا وذلّا، ورفعة وضعة؛ ليبلوكم أيّكم أشكر، فالعامل عن الله يعاشر أهل دنياه على ما دبّر الله لهم، فإذا لم ينزله المنزلة الّتي أنزله الله، ولم يخالقه بخلق حسن؛ فقد استهان به وجفاه، وترك موافقة الله في تدبيره. فالمراد بالحديث الحضّ على مراعاة مقادير النّاس ومراتبهم ومناصبهم، وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس وفي القيام ... وغير ذلك من الحقوق. فمنزلة العالم فوق منزلة الجاهل، ومنزلة الغني فوق منزلة غيره الّتي اعتادها بحيث لو ترك ذلك لأورث حقدا. ومن ذلك قبول هديته، فينبغي عدم الردّ، إلّا إذا بلغ رتبة الزهد والورع. وإلّا إذا كانت في المعنى جعالة على قضاء حاجة، فالأولى الردّ صونا للمروءة، وبعضهم حرّمها إذا كانت بهذه الصّفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 ......... فإذا سوّيت بين شريف ووضيع وغنيّ وفقير في مجلس أو عطية؛ كان ما أفسدت أكثر ممّا أصلحت. فالغنيّ إذا أقصيت مجلسه، أو حقرت هديته يحقد عليك، لما أنّ الله تعالى لم يعوّده ذلك، وإذا عاملت الولاة بما عاملت به الرّعية؛ فقد عرّضت نفسك للبلاء. وقد عدّ العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم، وقال: هذا ممّا أدّب به المصطفى صلى الله عليه وسلّم أمته من إيفاء الناس حقوقهم؛ من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة المسلم، وإجلال الكبير وما أشبهه. انتهى من «شروح الجامع الصغير» . والحديث رواه مسلم تعليقا في مقدمة «صحيحه» فقال: ويذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم. ووصله أبو نعيم في «المستخرج» وأبو داود، وابن خزيمة، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي في «الأدب» ، والعسكري في «الأمثال» وغيرهم من حديث ميمون بن أبي شبيب أنه قال: جاء سائل إلى عائشة رضي الله تعالى عنها فأمرت له بكسرة، وجاء رجل ذو هيئة فأقعدته معها، فقيل لها: لم فعلت ذلك؟ قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم. قال في «اللآلئ» : وأعلّه أبو داود بأن ميمونا لم يدرك عائشة، وردّ عليه بأن ميمونا هذا كوفي قديم أدرك المغيرة، والمغيرة مات قبل عائشة، ومجرّد المعاصرة كاف عند مسلم، وقد حكم الحاكم بصحّته، وتبعه ابن الصلاح في «علومه» . انتهى ما في «اللآلئ» . ورواه أبو نعيم في «الحلية» بلفظ: إن عائشة كانت في سفر فأمرت لناس من قريش بغداء؛ فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة؛ فقالت: ادعوه فنزل، فأكل ومضى، وجاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 67- «انظري أين أنت منه، فإنّما هو جنّتك ونارك» ؛ يعني: الزّوج. سائل فأمرت له بكسرة. فقالت: إن هذا الغنيّ لم يجمل بنا إلّا ما صنعنا به، وإن هذا السائل سأل فأمرت له بما يترضاه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم. ولفظ أبي داود: أنزلوا الناس منازلهم. وقد صحّحه الحاكم وغيره. قال في «المقاصد» : تعقّب بالانقطاع، وبالاختلاف في رفعه ووقفه كما بسطت ذلك في أول ترجمة شيخنا مع الإلمام بمعناه. وورد عن غير عائشة أيضا: 1- كمعاذ، فروى حديثه مرفوعا الخرائطي في «مكارم الأخلاق» بلفظ: «أنزل الناس منازلهم من الخير والشرّ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصّالحة» . و2- كجابر، فروى حديثه مرفوعا في «جزء» الغسولي بلفظ: «جالسوا الناس على قدر أحسابهم، وخالطوا الناس على قدر أديانهم، وأنزلوا الناس على قدر منازلهم، وداروا الناس بعقولكم» . و3- كعليّ، فروى حديثه موقوفا في «تذكرة الغافل» بلفظ: «من أنزل الناس منازلهم رفع المؤونة عن نفسه، ومن رفع أخاه فوق قدره فقد اجترّ عداوته» . وبالجملة فحديث عائشة حسن، وقال في «التمييز» : وذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه «معرفة علوم الحديث» وقال: حديث صحيح. انتهى من «كشف الخفا» للعجلوني رحمه الله تعالى. 67- ( «انظري) ؛ أي: تأملي أيتها المرأة الّتي هي ذات بعل (أين أنت منه) ؛ أي: في أي منزلة أنت من زوجك!! أقريبة من مودته؛ مسعفة له عند شدّته، ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه؛ كافرة لعشرته وإنعامه؟! (فإنّما هو) ؛ أي الزوج (جنّتك ونارك» . يعني: الزّوج) أي: هو سبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 68- «أنهاكم عن قيل، وقال، ... لدخولك الجنّة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فاعرفي حقّه وأحسني عشرته، ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلّم للمرأة الّتي جاءت تسأله عن شيء؛ فقال: «أذات زوج أنت» ؟ قالت: نعم، قال: «كيف أنت منه؟!» قالت: لا آلوه إلّا ما عجزت عنه. فذكر الحديث. وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أنّ النشوز كبيرة. والحديث رواه النسائي من طريقين، وعزاه له جمع جمّ؛ منهم الذهبي في «الكبائر» ، ولفظه: قالت عمة حصين ... وذكرت زوجها للنبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «أين أنت منه! فإنّه جنّتك ونارك» أخرجه الذهبي من وجهين؛ نقله المناوي. وذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز الطبراني في «الكبير» وابن سعد في «الطبقات» كلاهما عن عمة حصين- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين مصغرا-: ابن محصن- بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الصاد-. وفي العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح. 68- ( «أنهاكم عن قيل وقال) قال في «شرح مسلم» : هو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم. وقال في «رياض الصالحين» : معناه: الحديث بكلّ ما يسمعه فيقول «قيل كذا» ، و «قال فلان كذا» ممّا لا يعلم صحته ولا يظنّها، و «كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكلّ ما سمع» . انتهى. وقال في «شرح مسلم» : واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين: أحدهما: أنهما فعلان، ف «قيل» : مبنيّ لما لم يسمّ فاعله، و «قال» : فعل ماض. والثاني: أنهما [ «قيل وقال» ] اسمان مجروران منوّنان؛ لأن القيل والقال والقول والقالة؛ كلّه بمعنى، ومنه قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) [النساء] ومنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وكثرة السّؤال» . قولهم: كثرة القيل والقال. انتهى. (وكثرة السّؤال» ) قال في «شرح مسلم» : قيل المراد به القطع في المسائل والإكثار من السؤال عمّا لم يقع ولا تدعو إليه حاجة. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنّهي عن ذلك، وكان السّلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف المنهيّ عنه. وفي «الصحيح» : كره رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسائل وعابها. وقيل: المراد به سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك. وقيل: يحتمل أن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وما لا يعني الإنسان، وهذا ضعيف، لأنّه قد عرف هذا من النهي عن قيل وقال. وقيل: يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره فيدخل في ذلك سؤاله عما لا يعنيه ويتضمّن ذلك حصول الحرج في حقّ المسؤول، فإنّه قد لا يؤثر إخباره بأحواله، فإن أخبره شقّ عليه، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقّة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب. انتهى. قال في «دليل الفالحين» : والأولى حمل السؤال في الخبر على ما يعمّ الجميع، وذلك لأنّه اسم جنس محلّى ب «أل» فيعمّ، أمّا سؤال المال للغير!! فالظاهر اختلافه باختلاف الأحوال، ولنفسه لحاجة فلا كراهة؛ بشرط عدم الإلحاح، وذلّ نفسه زيادة على ذلّ السؤال والمسؤول؛ فإن فقد شرط حرم. انتهى ملخصا. والحديث ذكره بهذا اللفظ في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى الموصلي، وأخرجه الشيخان: البخاري في ثلاثة مواضع: «الزكاة والاستقراض والأدب» ، ومسلم في «الأحكام» ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 69- «ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تعالى حرّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعا، وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» وهذا لفظ البخاري في «الأدب» . 69- ( «ألا لا طاعة) خبر بمعنى النهي (لمخلوق) من المخلوقين كائنا من كان ولو أبا أو أما أو زوجا (في معصية الخالق» ) بل كلّ حقّ؛ وإن عظم، ساقط إذا جاء حقّ الله، إنّما الطّاعة فيما رضيه الشارع واستحسنه، فإذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع ولا طاعة. قال مسلمة بن عبد الملك لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [59/ النساء] قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59/ النساء] . قال ابن الأثير: يريد طاعة ولاة الأمور إذا أمروا بما فيه إثم كقتل ونحوه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» باللفظ الذي أورده المصنف. ورواه الإمام أحمد، والحاكم عن عمران بن الحصين، وعن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله تعالى عنهم بلفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» قال الحافظ الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال في العزيزي: إسناده حسن. ورواه البغوي عن النوّاس، وابن حبان عن عليّ بلفظ: «لا طاعة لبشر في معصية الله» ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله تعالى عنه بلفظ «لا طاعة لأحد في معصية الله ... » ، إنما الطّاعة في المعروف» . وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه في رواية: «لا طاعة لمن لم يطع الله» . وفي رواية لأحمد أيضا: «لا طاعة لمن عصى الله» . قال الحافظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 70- «الإسلام حسن الخلق» . الهيثمي: فيه عمرو بن زبيب لم أعرفه! وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، وقال ابن حجر: سنده قوي. انتهى كلام المناوي على «الجامع» . 70- ( «الإسلام) الكامل (حسن الخلق) ؛ الذي يرجع حسنه إلى اعتدال قوّة العقل بكمال الحكمة، وإلى اعتدال القوّة الغضبيّة والشهويّة، وإطاعة كلّ منهما للعقل مع الشرع. ثمّ هذا الاعتدال إمّا أن يكون بجود إلهي وكمال فطري، وإمّا أن يكون باكتساب أسبابه من المجاهدة والرياضة؛ بأن يحمل نفسه على كلّ عمل يوجب حسن خلقها ويضادّ سوء طويّتها، إذ هي لا تألف ربّها ولا تأنس بذكره؛ إلّا إذا فطمت عن عاداتها وحفظت عن شهواتها بالخلوة والعزلة أوّلا، ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثمّ بإدمان الذكر والدعاء في تلك الخلوة إلى أن يغلب عليه الأنس بالله وبذكره؛ فحينئذ يتنعّم به في نهايته؛ وإن شق عليه في بدايته. وربمّا ظنّ من جاهد نفسه أدنى مجاهدة بترك فواحش المعاصي أنه قد هذّبها وحسّن خلقها؛ وأنى له بذلك؛ ولم توجد فيه صفات الكاملين ولا أخلاق المؤمنين!! قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [2- 4/ الأنفال] . وقال تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) [المؤمنون] . وقال تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) [التوبة] . وقال عز وجل وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [62/ الفرقان] إلى آخر السورة. فمن أشكل عليه حال نفسه فليعرضها على هذه الآيات ونظائرها، فوجود جميع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 ......... هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق الذي هو أصل لكثير من المعاصي والذنوب، ووجود البعض يدلّ على البعض. وقد أشار صلى الله عليه وسلّم إلى مجامع محاسن الأخلاق؛ بقوله: «المؤمن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» ، وبأمره بإكرام الضيف والجار. وبأن المؤمن إمّا أن يقول خيرا أو يصمت. وبما جاء: «إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة» . «لا يحلّ لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظر يؤذيه» . «لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما» . «إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره» . وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الفضول، قليل الزلل، وهو برّ، وصول، وقور، صبور، رضيّ، شكور، حليم، رفيق، عفيف، شفيق، لا لمّاز، ولا سبّاب، ولا نمّام، ولا مغتاب، ولا عجول، ولا حقود، ولا بخيل، ولا حسود، هشاش بشاش، يحب في الله؛ ويبغض في الله، ويرضى في الله؛ ويغضب في الله. فهذا هو حسن الخلق وفقنا الله تعالى للتحلّي بمعاليه، وأدام علينا سوابغ أفضاله، وموانح قربه، والاندراج في سلك أوليائه وأحبابه ومواليه. آمين. قاله ابن حجر في «الزواجر» رحمه الله تعالى. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 71- «الإسلام يجبّ ما قبله، والهجرة تجبّ ما قبلها» . 71- ( «الإسلام يجبّ) - بفتح المثناة التحتية وضم الجيم- (ما قبله) من الكفر والمعاصي وما يترتب عليهما من حقوق الله تعالى؛ أي: يقطع ذلك ويمحو أثره، أما حقّ الآدمي فلا يسقط، وظاهر الخبر أن مجرّد الإسلام مكفّر للسوابق، سواء أساء أو أحسن بعد. وأمّا خبر: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» !! فوارد على منهج التحذير. انتهى مناوي 3/ 77؛ على «الجامع» . (والهجرة) ؛ أي: الانتقال من أرض الكفر إلى بلاد الإسلام (تجبّ) بالمثناة الفوقية والجيم- أي: تمحو (ما قبلها» ) من الخطايا المتعلقة بحقّ الله تعالى من العقوبات، أمّا الحقّ الماليّ؛ كزكاة، وكفارة يمين! ففي سقوطها خلاف بين العلماء. والمراد بالهجرة: ما كان قبل الفتح. وفيه: عظم موقع كلّ واحد من الخصلتين. وفي تكرير «يجبّ» في كلّ منهما دلالة على أن كلّ واحد منهما يكفّر بمفرده؛ قاله المناوي. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» بهذا اللفظ مرموزا له برمز الطبراني. وذكره العجلوني في «كشف الخفا» بلفظ: «الإسلام يجبّ ما قبله» ، وقال: رواه ابن سعد في «طبقاته» عن الزبير، وجبير بن مطعم. ورواه الإمام أحمد والطبراني عن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنه. انتهى. ونحو ذلك في «الجامع الصغير» والمناوي. وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب «الإيمان» من حديث ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاصي وهو في سياقة الموت؛ فبكى طويلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 72- «الإسلام يعلو ولا يعلى» . وحول وجهه إلى الجدار فجعل ولده يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا! أما بشرك بكذا! فأقبل بوجهه؛ فقال: إنّ أفضل ما نعدّ شهادة (ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله) إني كنت على أطباق ثلاث؛ لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا للمصطفى صلى الله عليه وسلّم منّي، ولا أحبّ إليّ أن أكون استمكنت منه فقتلته؛ فلو متّ على ذلك كنت من أهل النار؛ فلما جعل الله في قلبي الإسلام أتيته؛ فقلت: ابسط يمينك أبايعك؛ فبسطها، فقبضت يدي، قال: «ما لك» ؟ قلت: أشترط. قال: «تشترط ماذا؟» قلت: أن يغفر لي، فقال: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله» ، فما كان أحد أحبّ إليّ ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه؛ إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، ولو متّ على تلك الحالة رجوت أن أكون من أهل الجنة. ثمّ ولّينا أشياء ما أدري حالي فيها!!. انتهى. 72- ( «الإسلام يعلو ولا يعلى) عليه. قال البيهقي: قال قتادة: يعني: إذا أسلم أحد أبوين فالولد مع المسلم، فلا يتبع الفرع أحد أبويه الكافر؛ بل المسلم، فالعلوّ في نفس الإسلام. وقال ابن حزم: معناه إذا أسلمت يهودية أو نصرانية تحت كافر يفرّق بينهما، ويحتمل العلو بحسب الحجّة، أو بحسب النصرة في العاقبة، فإنها للمسلمين. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وفي «كشف الخفاء» وقالا: رواه الدارقطني والضياء في «المختارة» ، والخليلي في «فوائده» ، والروياني كلّهم عن عائذ بن عمرو المزني رفعه. ورواه الطبراني في «الصغير» ، والبيهقي في «الدلائل» عن معاذ رفعه. وعلّقه البخاري في «صحيحه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 73- «إيّاك ودعوة المظلوم» . والمشهور على الألسنة زيادة: «عليه» آخرا، بل هي رواية الإمام أحمد، والمشهور أيضا على الألسنة: «الحقّ يعلو ولا يعلى عليه» . قال ابن حجر: وسنده ضعيف. انتهى. 73- ( «إيّاك) - منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره- من قبيل قولهم: إياك والأسد، وتقديره هنا: باعد نفسك (ودعوة) - بفتح الدال-: المرّة من الدعاء؛ أي: احذر الظلم لئلا يدعو عليك. (المظلوم» ) ؛ أي: من ظلمته بأيّ وجه كان من نحو استيلاء على ما يستحقه، أو إيذاء له. فأقام المسبب الذي هو الدعاء مقام السبب الذي هو الظلم. وخلاصك من الظلم بأن تردّ إليه حقّه، أو تمكّنه من استيفائه، فإنك إن ظلمته ودعا عليك استجيب له؛ وإن كان عاصيا مجاهرا، لأنّه إنما يسأل الله حقّه الواجب على خصمه. وربّ العالمين لا يمنع صاحب حقّ من حقّه لأنّه الحاكم العادل. نعم ورد أنّ الله سبحانه وتعالى: يرضي خصوم بعض عباده بما شاء. وفي خبر رواه ابن لال والديلمي وغيرهما: أنّ في صحف إبراهيم: أيها الملك المسلّط المبتلى المغرور؛ إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها لبعض، لكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم؛ فإني لا أردّها؛ ولو كانت من كافر. وقال عمر بن عبد العزيز: إنّ الله يأخذ للمظلوم حقّه من الظّالم، فإيّاك أن تظلم من لا ينتصر عليك إلّا بالله تعالى، فإنه تعالى إذا علم التجاء عبده بصدق واضطرار انتصر له ولا بدّ! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [62/ النمل] انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إياكم ودعوة المظلوم؛ وإن كانت من كافر، فإنها ليس لها حجاب دون الله عزّ وجلّ» أخرجه سمويه عن أنس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 ......... رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: وله شواهد كثيرة سبقت؛ ويجيء كثير منها. وذكره في «الجامع» بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم؛ فإنّما يسأل الله تعالى حقّه، وإنّ الله تعالى لن يمنع ذا حقّ حقّه» . ورمز له برمز الخطيب عن عليّ أمير المؤمنين، وهو حديث ضعيف. وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «اتّقوا دعوة المظلوم» وقال: رواه أحمد وأبو يعلى عن أنس مرفوعا؛ بزيادة: «وإن كانت من كافر، فإنّه ليس بينها وبين الله تعالى حجاب» . ورواه الطبراني عن خزيمة رفعه بزيادة: فإنها تحمل على الغمام، ويقول الله جلّ جلاله: «وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» . ورواه الحاكم وقال: إنّه على شرط مسلم، والضياء في «المختارة» عن ابن عمر مرفوعا بزيادة: «فإنها تصعد إلى السماء كأنّها الشّرار» . ورواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ: «اتّقوا دعوة المظلوم فإنّها تصعد إلى السماء كأنّها شرارة» . ورواه أبو يعلى عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله تعالى حجاب» . واتفق عليه الشيخان بهذا اللفظ عن ابن عباس مرفوعا. ورواه الخطيب عن عليّ بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم فإنّما يسأل الله حقّه، وإنّ الله لم يمنع ذا حقّ حقّه» انتهى كلام العجلوني. وذكره أيضا في موضع آخر بلفظ: «اتّقوا الظّلم فإنّه ظلمات يوم القيامة» ، وقال: رواه الإمام أحمد، والطبراني، وابن ماجه عن ابن عمر. وأخرجه أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، ومسلم عن جابر بزيادة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 74- «إيّاك وقرين السّوء، فإنّك به تعرف» . 75- «إيّاك والخيانة، ... «واتّقوا الشّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» . انتهى. وقد ألّف العلامة القاضي محمد بن أحمد مشحم اليمانيّ الصّعديّ كتاب: «تحذير الظّلوم من سهام دعوات المظلوم» . رسالة مطوّلة جمع فيها كثيرا من الأحاديث المتعلقة بالتحذير من الظّلم مع ذكر حكايات وأشعار تتعلق بذلك، وهي مخطوطة لم تطبع. 74- ( «إيّاك وقرين السّوء) - بالفتح-: مصدر (فإنّك به تعرف» ) أي: تشتهر بما اشتهر من السوء. قال تعالى وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) [النساء] . ومن ثمّ قالوا: الإنسان موسوم بسيما من يقارن، ومنسوب إليه أفاعيل من صاحب؛ أي: فإن صاحب الفاجر كان دليلا على فجوره، وعكسه بعكسه. وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: الصاحب مناسب. ما شيء أدلّ على شيء؛ ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب. وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك، وقال آخر: يظنّ بالمرء ما يظنّ بقرينه. عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي ومقصود الحديث: التحرّز من أخلاق السوء، وتجنّب صحبة أهل الرّيب؛ ليكون موفر العرض سليما من العيب؛ فلا يلام بلائمة غيره. والحديث أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قاله في «الجامع» مع المناوي. وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. والله أعلم. 75- ( «إيّاك والخيانة) ؛ أي: خيانة الغير؛ كالخيانة في الوديعة، وخيانة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 فإنّها بئست البطانة» . 76- «إيّاك وما يسوء الأذن» . النفس كأن لا تمتثل المأمورات، وكأن لا تجتنب المنهيات؛ قاله الحفني. والخيانة: تكون في المال والنفس والعدد والكيل والوزن والزرع ... وغير ذلك. وفي العزيزي: قال بعضهم: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدّي الأمانة فيه. قال أبو عبيد: لا نراه خصّ به الأمانة في أمانات الناس؛ دون ما افترض الله على عباده وائتمنهم، فإنه قد سمّى ذلك أمانة؛ فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [27/ الأنفال] فمن ضيّع شيئا ممّا أمر الله به، أو ارتكب شيئا ممّا نهى الله عنه؛ فقد خان نفسه، إذ جلب إليها الذمّ في الدّنيا والعقاب في الآخرة. انتهى. (فإنّها بئست البطانة» ) - بالكسر-؛ أي: بئس الشيء الذي يستبطنه من أمره ويجعله بطانة. قال في «المغرب» : بطانة الرجل أهله وخاصّته؛ مستعار من بطانة الثوب. وقال الراغب: تستعار البطانة لمن تخصّه بالاطلاع على باطن أمرك. وقال القاضي: البطانة أصلها في الثوب؛ فاستعيرت لما يستبطن الرجل من أمره ويجعله بطانة حاله؛ قاله المناوي. وقال الحفني: البطانة في الأصل: الثوب الملاصق للجسد، والجهة التي لا تلاصقه تسمّى ظهارة، فاستعيرت لكلّ شيء ملازم، يقال: بطانة الرجل أهله وعياله، والمراد هنا الصّفة الملازمة للشخص. انتهى. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطبراني. 76- ( «إيّاك) - بكسر الكاف-: خطاب لامرأة (وما يسوء الأذن» ) قال ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 ......... ثلاثا، وهو نهي عن الغيبة؛ أي: احذري النطق بكلام يسوء غيرك؛ إذا سمعه عنك، فإنّه موجب للتنافر والعداوة. والحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي الغادية- بغين معجمة-؛ قال: خرجت أنا وحبيب بن الحارث وأم العلاء؛ مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلمنا، فقالت المرأة: أوصني ... فذكره. وأخرجه أبو نعيم في «المعرفة» ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي؛ عن العاصي بن عمرو الطفاوي، عن حبيب بن الحارث، قلت: يا رسول الله أوصني ... فذكره. قال في «الإصابة» : والعاصي مجهول. وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن عمّه العاصي بن عمرو الطفاوي، قال: حدثتني عمّتي؛ قالت: دخلت مع ناس على النبيّ صلى الله عليه وسلّم قلت: حدّثني حديثا ينفعني الله به ... فذكره. قال الهيثمي: فيه العاصي بن عمرو الطفاوي؛ وهو مستور، روى عنه محمد بن عبد الرحمن الطّفاوي وتمّام بن السريع، وبقية رجال المسند رجال الصحيح. انتهى. وقال السخاوي: هذا مرسل، فالعاصي لا صحبة له، وقال شيخي «يعني ابن حجر» : مجهول، لكن ذكره ابن حبان في «الثقات» . انتهى. ولذلك لم يذكره الذهبي في «الصّحابة» !! انتهى مناوي. وفي «الكشف» : إنّه رواه عبد الله بن أحمد في «زوائده» ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي قال: سمعت العاصي قال: خرج أبو الغادية وحبيب بن الحارث وأم الغادية مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلموا، فقالت المرأة: أوصني يا رسول الله؛ قال: «إيّاك وما يسوء الأذن» وهو مرسل، إذ العاصي لا صحبة له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 77- «إيّاكم وخضراء الدّمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السّوء» . وأخرجه ابن منده في «المعرفة» ، والخطيب في «المؤتلف» عن العاصي، عن عمّته «أم غادية» قالت: خرجت مع رهط من قومي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فلما أردت الانصراف؛ قلت: يا رسول الله أوصني. قال: «إياك وما يسوء الأذن» . انتهى ملخصا. 77- ( «إيّاكم وخضراء الدّمن) - بكسر الدال المهملة، وفتح الميم- جمع: دمنة، مثل سدر وسدرة، وهي البعر؛ أي: احذروا المرأة الحسناء ومنبتها سوء؛ كالشجرة الخضراء النابتة في الزبل. ومعناه: أنه كره نكاح ذات الفساد في أصلها، فإن أعراق السّوء تنزع أولادها؛ أي: لشبههم بها. وتفسير حقيقته: أنّ الريح يجمع الدّمن؛ وهي البعر في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي فإذا أصابه المطر أنبت نباتا غضّا ناعما يهتزّ، وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنا؛ وباطنه قبيحا فاسدا. قال الشاعر: وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا ومعنى البيت: أن الرجلين قد يظهران الصلح أو المودة وينطويان على البغضاء والعداوة؛ كما ينبت المرعى على الدّمن. وهذا أكثريّ، أو كلّيّ- في زماننا-، والله المستعان. والحديث رواه الدارقطني في «الأفراد» ، والرامهرمزي والعسكري كلاهما في «الأمثال» ، وابن عدي في «الكامل» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» وأبو بكر بن دريد في «المجتنى» ، والخطيب في «إيضاح الملتبس» ، والديلمي في «الفردوس» : كلّهم من حديث الواقدي؛ قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا باللفظ المزبور مع زيادة: قيل: يا رسول الله؛ وماذا؟ قال: ( «المرأة الحسناء) الجميلة (في المنبت) - بالميم- (السّوء» ) قال ابن عدي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 78- «الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر، ونصف في الصّبر» . تفرّد به الواقدي وهو متروك، وذكره أبو عبيد في «الغريب» ، وقال الدارقطني: لا يصح من وجه. 78- ( «الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر) أي: العمل بالطاعة (ونصف في الصّبر» ) عن المحارم. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: وفيه يزيد الرّقاشي، قال الذهبي وغيره: متروك، ورواه القضاعي بهذا اللفظ، وذكر بعض شرّاحه أنه حسن. انتهى كلام المناوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 [ (حرف الباء) ] (حرف الباء) 79- «البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك ... (حرف الباء) أي: هذا باب الأحاديث التي أولها حرف الباء الموحدة. 79- ( «البرّ) - بكسر الموحدة-؛ أي: الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبرّ في تغذية البدن، أي: معظم البرّ (حسن الخلق) - بضم اللام-: فالحصر مجازيّ، وضدّه الفجور، والإثم، ولذا قابله به، والبرّ بهذا المعنى عبارة عما اقتضاه الشارع؛ وجوبا أو ندبا، والإثم ما ينهى عنه، وتارة يقابل البرّ بالعقوق فيكون هو الإحسان، والعقوق الإساءة. وأمّا حسن الخلق! فهو التخلّق مع الحقّ والخلق، والمراد هنا المعروف، وهو طلاقة الوجه، وكفّ الأذى، وبذل الندى، وأن يحبّ للناس ما يحب لنفسه، وهذا راجع لتفسير البعض له بأنه الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والإحسان في العسر واليسر ... إلى غير ذلك من الخصال الحميدة. قال النووي: قال العلماء: البرّ يكون بمعنى الصلة، وبمعنى الصدق، وبمعنى اللّطف، والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق. انتهى. ففعل أنواع الخير ناشئ عن حسن الخلق، وفعل الشرور يدلّ على سوء الخلق وعدم استقامة الطبيعة. انتهى شروح «الجامع الصغير» . (والإثم ما حاك) - بحاء مهملة وكاف- (في صدرك) ؛ أي: تحرّك فيه وتردّد، ولم ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه الشكّ وخوف كونه ذنبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» . 80- «برّوا آباءكم.. تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا.. تعفّ ... (وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» ) ؛ أي: أماثلهم الذين يستحيا منهم كالعلماء والصلحاء، بخلاف من لا يبالى باطلاعهم، والمراد بالكراهة هنا الدينية الخارمة، فخرج العادية؛ كمن يكره أن يرى آكلا لنحو حياء أو بخل، وغير الخارمة؛ كمن يكره أن يركب بين مشاة لنحو تواضع. وإنما كان التأثير في النفس علامة للإثم!! لأنه لا يصدر إلّا لشعورها بسوء عاقبته. وظاهر الخبر أن مجرّد خطور المعصية إثم لوجود الدلالة ولا مخصص، وذا من جوامع الكلم. لأن البرّ كلمة جامعة لكلّ خير، والإثم جامع للشرّ. انتهى «مناوي» . والحديث أخرجه الإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، ومسلم في «الأدب» ، والترمذي في «الزهد» ؛ عن النّوّاس بن سمعان رضي الله تعالى عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإثم والبر ... فذكره. واستدركه الحاكم فوهم، وعجيب ذهول الذهبي عنه في اختصاره. 80- ( «برّوا آباءكم) ؛ أي: وأمهاتكم، وكأنّه اكتفى به عنه من قبيل سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [81/ النحل] ، أو أراد بالآباء ما يشمل الأمهات تغليبا؛ كالأبوين فإنكم إن فعلتم ذلك (تبرّكم) - بفتح الموحدة- (أبناؤكم) ؛ أي: وبناتكم، و «كما تدين تدان» . عن ثابت البناني قال: رأيت رجلا يضرب أباه في موضع؛ فقيل له ما هذا؟ فقال الأب: خلّوا عنه، فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع؛ فابتليت بابن يضربني في هذا الموضع. (وعفّوا) - بكسر العين المهملة-: من عفّ يعفّ من «باب ضرب» ، يقال: عفّ عن كذا فهو لازم؛ أي: لا تزنوا بنساء الغير (تعفّ) - بكسر العين- قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 نساؤكم» . البرماوي في (شرحه على «لامية ابن مالك» ) : والحاصل: أنّ مضارع المضاعف اللازم: الكسر، والمتعدي: الضم، وما سمع من المضموم في الأول نادر، وما سمع من المكسور في الثاني نادر؛ فيحفظ في كلّ منهما ولا يقاس عليه. (نساؤكم» ) أي: حلائلكم عن الرجال الأجانب؛ أي لا يزنين. قال الراغب: دخلت امرأة يزيد بن معاوية وهو يغتسل؛ فقالت: ما هذا!؟ قال: جلدت عميرة «1» ، ثم دخل وهي تغتسل، فقال: ما هذا؟ قالت: جلدني زوج عميرة. انتهى «مناوي» . والحديث رواه الطبراني في «الأوسط» عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وقال المنذري: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني أحمد «غير منسوب» !! والظاهر أنّه من المتكثرين من شيوخه؛ فلذلك لم ينسبه. انتهى. وبالغ ابن الجوزي فجعله موضوعا. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ، والخطيب في «التاريخ» ، والحاكم في «المستدرك» : كلّهم من طريق علي بن قتيبة عن مالك، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه بلفظ: «برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا عن النّساء تعفّ نساؤكم، ومن تنصّل إليه فلم يقبل؛ فلن يرد عليّ الحوض» . قال الحاكم: صحيح. وقال ابن الجوزي: موضوع، لأن عليّ بن قتيبة يروي عن الثقات البواطيل. انتهى. وتعقبه السيوطي بأن له شاهدا. انتهى، وأورده في «الميزان» في ترجمة عليّ بن قتيبة الرفاعي وقال: قال ابن عدي: له أحاديث باطلة عن مالك، ثم أورده في هذا الخبر. انتهى مناوي رحمه الله تعالى.   (1) هو اسم لفرج الرجل. والمراد الاستمناء بالكف. وكذا يحمل خبرها بعده. (عبد الجليل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 81- «بعثت بمداراة النّاس» . 82- «البلاء موكّل بالمنطق» . 81- ( «بعثت بمداراة) - بلا همز- (النّاس» ) : كلين الكلام، وخفض الجناح، وترك الإغلاظ عليهم، والقيام لمن يحصل له حقد إذا لم يقم له، وذلك من أسباب الألفة واجتماع الكلمة وانتظام الأمر، ولهذا قيل: من لانت كلمته وجبت محبته، وحسنت أحدوثته، وظمئت القلوب إلى لقائه، وتنافست في مودته. والمداراة: تجمع الأهواء المتفرقة، وتؤلّف الآراء المتشتتة، وهي غير المداهنة المنهيّ عنها. والفرق بينهما: أن المداراة بذل الدنيا لسلامة الدين، والمداهنة: بذل الدين لأجل الدنيا، وهي محرمة؛ والمداراة مطلوبة؛ لأنّها من أخلاق المؤمنين. ولذا لما طرق بعض الناس «1» بابه صلى الله عليه وسلّم فسأل عنه؛ فقيل له: فلان، فقال: بئس أخو العشيرة، فلما فتح له ودخل عظّمه وفرش له رداءه، وأظهر له البشر؛ فلما ذهب الرجل قيل له: كيف ذلك؟ قال: «إنّا لنبشّ في وجوه قوم- أي: لأجل التأليف- وقلوبنا تلعنهم» أي: لعلمنا بنفاقهم-: أي: تلعنهم ما داموا لم يرجعوا للحقّ. انتهى (شروح «الجامع الصغير» ) . والحديث أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف؛ كما قاله العزيزي. 82- ( «البلاء موكّل بالمنطق» ) قال الديلمي: البلاء: الامتحان والاختبار، ويكون حسنا ويكون سيئا، والله يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بما يكره ليمتحن صبره. ومعنى الحديث: أنّ العبد في سلامة ما سكت، فإذا تكلم عرف ما عنده بمحنة   (1) هو السيد المطاع: الأقرع بن حابس كما سيأتي في الجزء الرابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 ......... النطق؛ فيتعرض للخطر؛ أو للظفر، ولذا قال صلى الله عليه وسلّم لمعاذ «أنت في سلامة ما سكتّ، فإذا تكلّمت فلك؛ أو عليك» . ويحتمل أن يريد التحذير من سرعة النطق بلا تثبت؛ خوف بلاء لا يطيق دفعه، وقد قيل: اللسان ذئب الإنسان، وما من شيء أحقّ بسجن من اللسان. وعلى ذلك أنشدوا: لا تنطقنّ بما كرهت فربّما ... نطق اللّسان بحادث فيكون وقال آخر: لا تمزحنّ بما كرهت فربّما ... ضرب المزاح عليك بالتّحقيق وفي «تاريخ الخطيب» : اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فقدموا الكسائي يصلي جهريّة فأرتج عليه في قراءة «الكافرون» ، فقال اليزيدي: قارئ الكوفة يرتجّ عليه في هذه!!، فحضرت جهرية أخرى؛ فقام اليزيدي: فأرتج عليه في الفاتحة، فقال الكسائي: احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إنّ البلاء موكّل بالمنطق والحديث رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ من رواية إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود مرفوعا بهذا اللفظ، وزيادة: «لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا» . ورواه الخطيب والديلمي وأبو نعيم والعسكري مرفوعا: «البلاء موكّل بالمنطق، فلو أنّ رجلا عيّر كلبة برضاع كلبة لرضعها» وسنده ضعيف. وهو عند أحمد في «الزهد» ؛ موقوفا على ابن مسعود. قاله السخاوي. ورواه الديلمي عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة: «ما قال عبد لشيء: والله لا أفعله إلّا ترك الشيطان كلّ شيء وولع به حتى يؤثّمه» . وقد رواه القضاعي وابن السمعاني عن عليّ، والديلمي عن ابن مسعود، والعسكري عن أبي الدرداء رفعوه، وابن لال في «المكارم» عن ابن عباس عن أبي بكر الصديق موقوفا، وابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 81- «البيّنة على المدّعي، واليمين ... أبي الدنيا من مرسل الحسن: خمستهم بلفظ: «البلاء موكّل بالقول» . وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» من حديث أبي الدرداء وابن مسعود. قال السخاوي في «المقاصد» : ومع مجموع ما ذكرناه- يعني هذه الطرق التي لخصت من كلامه- لا يحسن الحكم عليه بالوضع؛ لأن تعدّد الطّرق وتباين مخارجها دليل على أنّ للحديث أصلا، ويشهد لمعناه قوله صلى الله عليه وسلّم للأعرابي الذي دخل عليه يعوده، وقال له: «لا بأس طهور» ، فقال الأعرابي: كلّا بل هي حمى تفور على شيخ كبير، تزيره القبور، قال: «فنعم إذا» . انتهى من الزرقاني على «المواهب» وغيره. 83- ( «البيّنة) قال البيضاوي: البينة في الأصل: الدلالة الواضحة التي تفصل الحقّ من الباطل. وقال غيره: هي ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل، بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده، والمراد هنا ما يثبت به الحقّ من شاهد أو شاهدين، أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو أربع نسوة. وسمّي الشهود «بيّنة» !! لأن بهم يتبيّن الحقّ. وقوله: (على المدّعي) هو: من يخالف قوله الظاهر، والمدّعى عليه: من يوافق قوله الظاهر. وقيل: المدعي من لو سكت خلّي ولم يطالب بشيء، والمدعى عليه من لا يخلّى؛ ولا يكفيه السكوت. وفي رواية: «على من ادعى» . (واليمين) قال الإمام النووي: هذه اليمين تسمى يمين الصّبر، وتسمى يمين الغموس، وسميت يمين الصبر!! لأنها تحبس صاحب الحقّ عن حقّه، والحبس: الصبر، ومنه قيل للقتيل والمحبوس عن الدفن «مصبّر» ، قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان» . وهذه اليمين لا تكون إلّا على الماضي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 على من أنكر» . ووقعت في القرآن العظيم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [74/ التوبة] ، ومنها قوله تعالى إخبارا عن الكفرة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام] ومنها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [77/ آل عمران] .. الآية. ويستحبّ للحاكم أن يقرأ هذه الآية عند تحليفه للخصم لينزجر. انتهى. (على من) ؛ أي: الذي (أنكر» ) المدّعى به عليه، لأنّ جانب المدعي ضعيف، فكلّف حجة قويّة وهي البيّنة، وجانب المدعى عليه قويّ؛ فقنع منه بحجة ضعيفة، وهي اليمين. قال الإمام النووي: وإنما كانت اليمين في جانب المدعى عليه! لأنه يدعي ما وافق الأصل؛ وهو براءة الذّمة. ويستثنى مسائل فيقبل فيها قول المدعي بلا بيّنة فيما لا يعلم إلّا من جهته، كدعوى الأب حاجة إلى الإعفاف. ودعوى السّفيه التوقان إلى النكاح مع القرينة. ودعوى الخنثى الأنوثة أو الذكورة. ودعوى الطفل البلوغ بالاحتلام. ودعوى القريب عدم المال ليأخذ النفقة. ودعوى المدين الإعسار في دين لزمه بلا مقابل كصداق الزوجة والضمان وقيمة المتلف. ودعوى المرأة انقضاء العدة بالأقراء؛ أو بوضع الحمل. ودعواها أنها استخلت وطلقت، ودعوى المودع تلف الوديعة؛ أو ضياعها بسرقة ونحوها. ويستثنى أيضا القسامة، فإن الأيمان تكون في جانب المدعي مع اللّوث. واللّعان، فإن الزّوج يقذف ويلاعن ويسقط عنه الحدود، ودعوى الوطء في مدة العنّة، فإنّ المرأة إذا أنكرته يصدّق الزوج بدعواه، إلّا أن تكون الزوجة بكرا، وكذا لو ادّعى أنّه وطئ في مدّة الإيلاء. وتارك الصلاة إذا قال: صليت في البيت، ومانع الزكاة إذ قال: أخرجتها؛ إلّا أن ينكر الفقراء وهم محصورون؛ فعليه البيّنة، وكذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 ......... لو ادّعى الفقر وطلب الزكاة أعطي؛ ولا يحلّف. بخلاف ما إذا ادّعى العيال، فإنّه يحتاج إلى البيّنة. انتهى ملخصا. قال ابن العربي: وهذا الحديث من قواعد الشريعة الّتي ليس فيها خلاف، وإنّما اختلف في تفاصيل الوقائع. انتهى. وهذا الحديث أخرجه عبد الرزاق والبيهقي في «سننه» وابن عساكر في «التاريخ» والدارقطني عن ابن عمرو بن العاصي بزيادة: «إلّا في القسامة» . قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث غريب معلول. وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمرو أيضا بلفظ: «البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه» ، وله شاهد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 [ (حرف التّاء) ] (حرف التّاء) 84- «ترك الشّرّ صدقة» . 85- «تعرّف إلى الله في الرّخاء.. يعرفك في الشّدّة، ... (حرف التّاء) أي: هذا باب الأحاديث التي أولها حرف التاء- المثناة الفوقية-: 84- ( «ترك الشّرّ) : السّوء والفساد والظلم، وجمعه شرور. وهذا شرّ من ذاك أصله: أشرّ؛ بالألف على «أفعل» ، واستعمال الأصل لغة لبني عامر. قال ابن مالك في «الكافية» : وغالبا أغناهم خير وشر ... عن قولهم أخير منه وأشر وقرئ شاذا: مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [26/ القمر] على هذه اللغة. (صدقة» ) معنى ذلك: أن من ترك الشرّ وترك أذى الناس فكأنّه تصدّق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشرّ كفضل الصّدقة؛ أي: في الجملة. والحديث ذكره في «المواهب» بغير عزو. 85- ( «تعرّف) - بالمثناة الفوقية وتشديد الراء المفتوحتين- أي: تحبب وتقرّب (إلى الله) تعالى بطاعته والشكر على سابغ نعمته، والصّبر تحت مرّ أقضيته، وصدق الالتجاء الخالص قبل نزول بليّته (في الرّخاء) ؛ أي: في حالة الغنى وصحة البدن والأمن، فالتّعرف في حال الغنى بالصّدقات ونفع الناس بماله، والتعرف في حال الصّحة بالعبادات، والتعرف في حالة الأمن بالاشتغال بموالاته تعالى؛ لخلوّ ذهنه عن العدوّ والخوف، فإن فعلت ذلك (يعرفك في الشّدّة) بتفريجها عنك، وجعله لك من كلّ ضيق مخرجا، ومن كلّ همّ فرجا بما سلف من ذلك التعرّف؛ فإذا تعرّفت إليه في الاختيار جازاك به عند الاضطرار بمدد توفيقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 واعلم أنّ ما أخطأك.. لم يكن ليصيبك، وما أصابك.. لم يكن ليخطئك، ... وخفيّ لطفه؛ كما أخبر تعالى عن يونس عليه الصلاة والسلام بقوله فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصافات] يعني: قبل البلاء، فلما عرف الله تعالى في الرّخاء بالتسبيح وغيره؛ نجّاه من بطن الحوت. وكما وقع للثلاثه الذين انطبقت عليهم الصخرة؛ ففرج الله عنهم، فإنهم تعرّفوا إليه في الرخاء فعرفهم في الشدّة، بخلاف فرعون فإنّه لما تنكّر لربّه في حال رخائه؛ لم ينجه اللجوء عند بلائه، وقيل له آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) [يونس] . وأمّا أهل الله فتعرّفهم الاشتغال به على الدوام وترك ما سواه؛ فيعرفهم وقت الموت، والقبر، والقيامة، وغيرها. قال الصوفية: ينبغي للعبد أن يكون بينه وبين ربّه معرفة خاصّة بقلبه بحيث يجده قريبا للاستغناء له منه، فيأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته، ولا يزال العبد يقع في شدائد وكرب في الدنيا، والبرزخ، والموقف؛ فإذا كان بينه وبين ربّه معرفة خاصّة كفاه ذلك كلّه. انتهى من «شروح الجامع الصغير» . (واعلم) : يا من يتأتّى منك العلم (أنّ ما أخطأك) من المقادير؛ أي: جاوزك فلم يصل إليك (لم يكن ليصيبك) لأنّه بان بكونه أخطأك أنّه غير مقدّر عليك، (وما أصابك) منها (لم يكن) قدّر (ليخطئك) ؛ أي: محال أن يتجاوزك إلى غيرك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلّا ما قدّر عليه. ومعنى ذلك: أنّه قد فرغ ممّا أصابك، أو أخطأك من خير أو شرّ، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك فسلامتك منه محتومة؛ فلا يمكن أن يصيبك، لأنّها سهام صائبة وجّهت من الأزل، فلا بدّ أن تقع مواقعها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 واعلم أنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ الفرج مع الكرب، ... ومن ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» . رواه الإمام أحمد. ففي ذلك حضّ على تفويض الأمور كلّها إلى الله تعالى، مع شهود أنّه الفاعل لما يشاء، وأن ما قضاه وأبرمه لا يمكن أن يتعدّى حدّه المقدّر له، وهذا راجع لقوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) [الحديد] ، وقُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [154/ آل عمران] . (واعلم) : تنبيه على أنّ الإنسان في هذه الدار؛ لا سيّما الصالحون معرّضون للمحن والمصائب وطروق المنغّصات والمتاعب. قال الله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) [البقرة] الآيات. فينبغي للإنسان أن يصبر ويحتسب ويرضى بالقضاء والقدر، وينتظر وعد الله تعالى له بأنّ عليه صلوات من ربّه ورحمة، وبأنّه من المهتدين. (أنّ النّصر) من الله للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه إنّما يوجد (مع الصّبر) على طاعته وعن معصيته. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ولا تفرّوا، فإنّ الله مع الصّابرين» ، وكذلك الصبر على الأذى في مواطن يعقبه النّصر، قال تعالى وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) [النحل] ، وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) [البقرة] ومن خيريّته لهم كونه سببا لنصرهم على أعدائهم ونفوسهم. (وأنّ الفرج) - بفتحتين-: وهو كشف الغمّ يحصل سريعا (مع الكرب) ؛ أي: يعقبه لا محالة، فلا دوام للكرب، وهو شدّة البلاء، فإذا اشتدّ البلاء أعقبه الله تعالى الفرج، كما جاء: اشتدّي أزمة تنفرجي. وفيه إشارة إلى أنّ الله تعالى إذا أراد أن يفتح لعبده بابا من فضله ابتلاه بشيء من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وأنّ مع العسر يسرا» . بلائه، ثمّ يخصّه بنعمة من نعمائه، وما رأيت شيئا من الامتحان إلّا ورأيت معه أو بعده من بوادر برّه ولطائف امتنانه سبحانه ما ينسيك ما أصابك من طوارق الحدثان. نحمده على شمول النّعم ... حتّى لقد أبطنها في الألم والحكمة في ذلك: أن يعرف قدر النّعمة وشرف الكرامة، فبمرارة الفراق يعرف حلاوة الوصال، وبحرارة الهجران يدرك راحة العرفان؛ فيحسن لمن نزل به كرب أن يكون صابرا محتسبا؛ راجيا سرعة الفرج ممّا نزل به، حسن الظّنّ بمولاه في جميع أموره، فالله سبحانه وتعالى أرحم به من كلّ راحم حتّى أمّه وأبيه؛ إذ هو سبحانه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين. (وأنّ مع العسر يسرا» ) كما نطق به قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الانشراح] ، وقال تعالى سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) [الطلاق] . وتنوين «يسرا» للتعظيم مبالغة، و «اليسر» هو السهولة، ومنه اليسار للغنى، لأنّه تسهل به الأمور، واليد اليسرى لأنّ الأمور تسهل بمعاونتها لليمنى، والعسر: نقيضه. فإن قلت: النّصر والفرج، واليسر بعد الصّبر، والكرب والعسر؛ لأنّهما يتواردان على المحل بالتناوب؛ فما معنى الاصطحاب المستفاد من «مع» ؟ فالجواب: أنّ المقصود المبالغة في معاقبة أحدهما الآخر واتصاله به، حتّى جعله كالمقارن له، وزيادة في التسلية والتنفيس. فإن قلت: كيف الجمع بين قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [185/ البقرة] وبين قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) [الانشراح] ، فإنّ الآية الأولى تدلّ على عدم إرادة العسر، وما لا يريده الله تعالى لا يكون ولا يقع؛ إجماعا من أهل السنة، والآية الثانية تدلّ على وقوع العسر قطعا؟ فالجواب: أنّ المراد ب «العسر» في الآية الأولى: العسر في الأحكام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 ......... والتكاليف الشاقّة، بدليل قوله تعالى وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [78/ الحج] . وقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [286/ البقرة] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت بالحنيفيّة السمحة» مع أنّ صدر الآية يدلّ على ذلك، وهو قوله تعالى وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [185/ البقرة] . وأمّا الآية الثانية فالمراد بالعسر فيها العسر في العوارض الدنيويّة؛ كضيق الأرزاق، وتوالي المحن والفتن، وأخذ الأموال ظلما. وقد ذكر الله تعالى اليسر في القرآن مرتين، وذكر العسر مرتين. لكن عند العرب أن المعرفة إذا أعيدت معرفة توحدت؛ لأنّ اللام الثانية للعهد، وإذا أعيدت النكرة نكرة تعدّدت، فالعسر ذكر مرتين معرفا، فهو عسر واحد، واليسر ذكر مرتين منكرا فكان اثنين. فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لن يغلب عسر يسرين» . أخرجه الحاكم عن الحسن البصري مرسلا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» . أخرجه البزار وابن أبي حاتم، واللفظ له. وما أحسن قول القائل: لا تجزعنّ لعسرة من بعدها ... يسران وعدا ليس فيه خلاف كم عسرة ضاق الفتى لنزولها ... لله في أعطافها ألطاف وقال الشاعر: إذا اشتدّت بك البلوى ... ففكّر في «ألم نشرح» فعسر بين يسرين ... إذا فكّرته تفرح والحديث أخرجه عبد بن حميد في «مسنده» عن ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 86- «تعس عبد الزّوجة» . 87- «تمسّكوا بالعروة الوثقى؛ قول: (لا إله إلّا الله) » . 88- «تهادوا تحابّوا» . عنهما، وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ، والعسكري في «الأمثال» كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. 86- ( «تعس عبد الزّوجة» ) لم أقف على من رواه. 87- ( «تمسّكوا بالعروة الوثقى) ؛ أي: العقدة المحكمة الّتي لا انقطاع ولا زوال لها حتّى تؤدّيه إلى الجنّة، وهي (: قول: (لا إله إلّا الله) » ) ؛ أي: مع قرينتها محمّد رسول الله، بأن تعتقدوا ما تضمّنته من التّوحيد وعموم الرّسالة لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، و «العروة» في الأصل: موضع شدّ اليد، وأصل المادّة تدلّ على التّعلّق، ومنه: عروته إذا ألممت به متعلقا به، واعتراه الهمّ: تعلّق به. و «الوثقى» فعلى للتفصيل؛ تأنيث الأوثق، كفضلى تأنيث الأفضل، وجمعها على: وثق، نحو: كبرى وكبر. وأمّا «وثق» بضمتين: فجمع وثيق. والكلام إمّا من باب التمثيل مبنيّ على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحقّ بالهيئة الحسيّة المنتزعة من التمسّك بالحبل المحكم، وإمّا من باب الاستعارة المفردة، حيث استعيرت العروة الوثقى للاعتقاد الحق. انتهى «جمل» . والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» ، وقد روى الطبراني في «الدعاء» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «العروة الوثقى هي شهادة ألاإله إلّا الله» . انتهى «شرح الإحياء» . 88- ( «تهادوا) - بفتح الدال المهملة-؛ أي: ليهد بعضكم لبعض (تحابّوا» ) ؛ أي: يحبّ بعضكم بعضا، لأنّ الهديّة خلق من أخلاق الإسلام دلّت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 ......... عليه الأنبياء، وحثّ عليه خلق الأولياء، وهي تؤلّف القلوب، وتنفي البغضاء من الصدور. قال الغزالي: قبول الهدية سنّة، لكن الأولى ترك ما فيه منّة، فإن كان البعض تعظم منّته دون البعض ردّ ما تعظم منّته. انتهى. ويسنّ المكافأة عن الهديّة بردّ مثلها أو زيادة إن قدر على ذلك، ولا يكلّف نفسه ما لا يطيق. والتهادي: تفاعل، فيكون من الجانبين. وينبغي للمهدي أن يقصد بالهدية امتثال أمر الشارع وما ندب لأجله، ولا يقصد بذلك الدنيا. قال حسّان رضي الله عنه: إنّ الهدايا تجارات اللّئام وما ... يبغي الكرام لما يهدون من ثمن والحديث ذكره في الجامع الصغير مرموزا له برمز أبي يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال المناوي: أخرجه النسائي في الكنى وسلطان المحدثين البخاري في الأدب المفرد، قال الزين العراقي: والسند جيد، وقال ابن حجر: سنده حسن. انتهى وذكره في المقاصد والكشف وأطالا في تخريجه وبيان اختلاف ألفاظه بالزيادة والنقص فراجعه إن شئت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 [ (حرف الثّاء) ] (حرف الثّاء) 89- «ثلاث من كنّ فيه.. وجد حلاوة الإيمان: 1- أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ... (حرف الثّاء) 89- ( «ثلاث) ؛ نكرة، وهي صفة لموصوف محذوف، ومن ثمّ وقعت مبتدأ؛ أي: خصال ثلاث، والخبر جملة، قوله: (من كنّ) ؛ أي: حصلن (فيه وجد) ؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان) ؛ أي: التلذّذ بالطاعة وتحمّل المشقة في رضا الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا. وهذا استعارة بالكناية؛ شبّه الإيمان بنحو العسل للجهة الجامعة، وهو الالتذاذ؛ فأطلق المشبّه وأضاف إليه ما هو من خصائص المشبّه به ولوازمه، وهو الحلاوة على جهة التخييل. وادّعى بعض الصّوفيّة أنّها حلاوة حسيّة، لأنّ القلب السليم من أمراض الغافلة والهوى يجد طعم الإيمان كذوق الفم طعم العسل. ذكره المناوي رحمه الله تعالى. (1- أن يكون الله ورسوله أحبّ) ؛ أي: كون الله ورسوله في محبته إيّاهما أكثر محبّة (إليه ممّا سواهما) من نفس وأهل ومال وكلّ شيء. قال النووي: وعبّر ب «ما» دون «من» ! لعمومها «1» ، وجمعه بين اسم الله ورسوله في ضمير لا ينافيه إنكاره [صلى الله عليه وسلم] على الخطيب: «ومن يعصهما» !! لأنّ المراد في الخطب الإيضاح لا الرمز، وهنا المطلوب إيجاز اللّفظ ليحفظ. وأولى منه قول البيضاوي: ثنّى الضمير هنا إيماء إلى أنّ المعتبر هو المجموع المركب من المحبّتين لا كلّ واحدة؛ فإنّها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث   (1) للعاقل وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 2- وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، ... الخطيب؛ إشعارا بأنّ كلّ واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرار، والأصل استقلال كلّ من المعطوفين في الحكم. انتهى. ومحبّة العبد ربّه بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبّة رسوله. ومحبّة العبد ربّه تنقسم باعتبار سببها والباعث عليها إلى قسمين: أحدهما: ينشأ عن مشاهدة الإحسان ومطالعة الآلاء والنظر في النّعم، فإن الإحسان سبب لميل النفس إلى حبّ من أحسن إليها، والقلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها، ولا إحسان أعظم من إحسان الربّ تقدّس، وهذا القسم يدخل فيه كلّ أحد. والثاني: يتعلّق بالخواصّ؛ وهي محبّة الجلال والجمال ولا شيء أكمل ولا أجمل منه، فلا يحدّ كماله، ولا يوصف جلاله، ولا ينعت جماله. وأسباب محبة النبيّ صلى الله عليه وسلّم كثيرة منها: أنّه أنقذنا به من النار، وأوجب لنا باتباعه الفلاح الأبديّ والنعيم السرمديّ. (و 2- أن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله) ؛ أي: لا يحبّه لغرض، إلا لغرض رضا الله حتى تكون محبّته لأبويه؛ لكونه سبحانه أمر بالإحسان إليهما، ومحبته لولده لكونه ينفعه في الدعاء الصالح له. وهكذا ذكره المناوي في «شرح الجامع» . وفي «النصائح الدينية» للحبيب الولي السيد عبد الله الحداد رحمه الله تعالى. آمين: فإذا أحبّ الإنسان الإنسان وألفه وصاحبه؛ لأنّه يحبّ الله ويعمل بطاعته؛ كان ذلك من المحبة في الله. وإذا أحبّه وصحبه؛ لأنّه يعينه على دينه ويساعده على طاعة ربّه؛ فقد أحبه في الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 3- وأن يكره أن يعود في الكفر- بعد إذ أنقذه الله منه- كما يكره أن يلقى في النّار» . وإذا أحبّه وصحبه؛ لأنه يعينه على دنياه الّتي يستعين بها على أخراه؛ فقد أحبّه في الله تعالى. وإذا أحبّه وصحبه؛ لأنه وجد طبعه يميل إليه ونفسه تأنس به، أو لأنّه يعينه على دنياه وأسباب معاشه الّتي يتمتع بها؛ فتلك محبّة طبيعية ليست من المحبة لله في شيء، وتلك صحبة نفسانيّة اقتضاها ميل الطّبع، ولكنّها مباحة، ولعلّها لا تخلو من خير إن شاء الله تعالى. وأمّا إذا أحبّه وصحبه؛ لأنّه يعينه على المعصية والظلم ويساعده على أسباب الفسق والمنكر؛ فتلك محبّة وصحبة مذمومة قبيحة، وهي في سبيل الشيطان، وليست من الله في شيء، وهي التي تنقلب في الآخرة عداوة، وربما انقلبت في الدنيا قبل الآخرة. قال الله تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) [الزخرف] انتهى كلام الحداد. (و 3- أن يكره أن يعود في الكفر) ؛ أي: يصير إليه، واستعمال العود بمعنى الصيرورة غير عزيز. (بعد إذ أنقذه الله) ؛ أي: نجّاه (منه) بالإسلام؛ إن كان كافرا، وبأن خلقه من أمّة الإجابة؛ إن كان مسلما أصالة. قاله: «الحفني على الجامع» (كما يكره أن يلقى) - بالبناء للمفعول- (في النّار» ) لثبوت إيمانه، وتمكّنه في جنانه. والحديث أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم في «كتاب الإيمان» ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال النووي رحمه الله تعالى: هذا حديث عظيم، أصل من أصول الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 90- «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا، وأدخله الجنّة برحمته: 1- تعطي من حرمك، 2- وتعفو عمّن ظلمك، 3- وتصل من قطعك» . 91- «ثلاث منجيات: 1- خشية الله تعالى في السّرّ والعلانية، 90- ( «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا) يوم القيامة، فلا يناقشه، ولا يشدّد عليه، ولا يطيل وقوفه. (وأدخله الجنّة) مع السابقين (برحمته) ؛ أي: بإحسانه تعالى، وإن كان عمله لا يبلّغه ذلك لقلته. (1- تعطي من حرمك) : إعطاءه أو مودته أو معروفه. (و 2- تعفو عمن ظلمك) في نفس أو مال أو عرض. (و 3- تصل من قطعك» ) من ذوي قرابتك وغيرهم. والحديث أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا القرشي في كتاب «ذم الغضب» ، والطبراني في «الأوسط» ، والحاكم في «التفسير» ؛ من حديث سليمان بن داود اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال الحاكم: صحيح، وردّه الذهبي، فقال: سليمان ضعيف، وفي «الميزان» : قال البخاري: سليمان منكر الحديث، قال: ومن قلت فيه: منكر الحديث لا تحلّ رواية حديثه، ثم ساق له أخبارا هذا منها، وقال العلائي: فيه سليمان؛ ضعفه غير واحد. وقال الهيثمي: فيه سليمان متروك. انتهى «مناوي» . 91- ( «ثلاث منجيات) للعبد في الدنيا والآخرة: (1- خشية الله) ؛ أي: خوفه (تعالى في السّرّ والعلانية) فهذا أكمل من خوفه في العلن فقط، أو في السّرّ فقط إلّا إذا كان عالما يقتدى به فأظهر الخشية لهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 2- والعدل في الرّضا والغضب، 3- والقصد في الفقر والغنى. وثلاث مهلكات: 1- هوى متّبع، 2- وشحّ مطاع، 3- وإعجاب المرء بنفسه» . القصد، أو خاف من الإظهار الرياء؛ فالأمور بمقاصدها. (و 2- العدل) ؛ العادل: من لا يميل به الهوى فيجور في الحكم (في) ؛ حال (الرّضا والغضب) كما قال تعالى اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8/ المائدة] ، وقال تعالى كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [135/ النساء] . (و 3- القصد) ؛ أي: التوسط (في) الإنفاق في حال (الفقر والغنى) ؛ فلا يقتّر جدّا لفقره، ولا يسرف لغناه، بل يتوسّط. قال تعالى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان] . (وثلاث مهلكات) ؛ أي: موقعات لفاعلهن في الهلاك. (1- هوى) - بالقصر- (متّبع) - بالتشديد، وفتح الموحدة-: يعني اتباع هوى النفس دائما، فكلّما مال إلى شهوة أتاها وحرص على غيرها، فهذا هواه موقع له في الرّدى دنيا وأخرى. أمّا مطاوعة الهوى في بعض الأوقات مع الرجوع إليه تعالى عقب ذلك! فليست من المهلكات. (و 2- شحّ) ؛ أي: بخل (مطاع) وهو: أن يطيعه صاحبه في منع الحقوق الّتي أوجبها الله عليه في ماله. وقيّد الشّحّ بالمطاع! لأنّه إنّما يكون مهلكا إذا كان مطاعا؛ أمّا لو كان موجودا في النفس غير مطاع فلا يكون كذلك، لأنّه من لوازم النّفس. (و 3- إعجاب المرء بنفسه» ) ؛ أي: ملاحظته إيّاها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله تعالى، وتحسينه فعل نفسه على غيره؛ وإن كان قبيحا، بأن يرى فعل نفسه خيرا من فعل غيره، وكثيرا ما يقع ذلك في أهل العلم، وقد قال أهل الله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 ......... لا يتمّ حال العبد إلّا إذا رأى نفسه دون كلّ مخلوق. وما وقع لبعض أهل الله تعالى من التّكلم بكلام يقتضي الإعجاب!! فهو من أهل الأحوال في حال السّرّ والغيبة؛ بحيث لو استيقظوا لتابوا من ذلك، كما نتوب من الذّنوب. ومن الكمّل في حال شهود وحدة الوجود والاشتغال به عن كلّ ما سواه؛ فيكون من التحدّث بنعمة الله تعالى؛ لا عجبا وافتخارا. قاله الحفني على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه أبو الشيخ في «التوبيخ» ، والبزار، وأبو نعيم، والبيهقي، والطبراني في «الأوسط» كلهم عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف. انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 [ (حرف الجيم) ] (حرف الجيم) 92- «الجار قبل الدّار، والرّفيق قبل الطّريق» . (حرف الجيم) 92- ( «الجار) ؛ أي: التمسوا الجار الصّالح (قبل) شراء (الدّار) ؛ والدار مؤنثة، وقد سئل عن ذلك العلامة عبد الملك العصامي المكي رحمه الله تعالى: وهذا نصّ السؤال: ماذا يقول إمام العصر سيّدنا ... ومن لديه ينال القصد طالبه في الدّار: هل جائز تذكير عائدها ... في قولنا مثلا «في الدّار صاحبه» ومن إبانة همز ابن أراد فهل ... يكون موصوفه اسما يطالبه أم كونه علما كاف ولو لقبا ... أو كنية إن أراد الحذف كاتبه أفد، فما قد رأينا الحقّ منخفضا ... إلّا وأنت على التّمييز ناصبه فأجاب بما نصّه: يا فاضلا لم يزل يهدي الفرائد من ... علومه وتروّينا سحائبه تأنيثك الدّار حتم لا سبيل إلى التّ ... ذكير فامنع إذا «في الدّار صاحبه» والابن موصوفه عمّم فإن لقبا ... أو كنية فارتكاب الحذف واجبه هذا جوابي فاعذر إن ترى خللا ... فمصدر العجز والتّقصير كاتبه لا زلت تاجا لهامات الهدى علما ... في العلم يحوي بك التّحقيق طالبه (و) التمسوا (الرّفيق) ؛ الذي تحصل به المعاونة والمرافقة على قطع السّفر (قبل) السلوك في (الطّريق» ) وكلّ من «الجار» و «الرّفيق» يجوز نصبه ورفعه؛ فنصبه بفعل مقدّر؛ أي: التمس أو اتّخذ. ورفعه بالابتداء والله أعلم. والحديث أخرجه الخطيب في «الجامع» عن عليّ ورافع بن خديج بأسانيد ضعيفة، وتمامه: «والزّاد قبل الرّحيل» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 93- «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب» . ورواه العسكري في «الأمثال» عن عليّ قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكر حديثا طويلا في آخره: «الجار ثمّ الدّار، والرّفيق ثمّ الطّريق» ورواه الطبراني في «الكبير» وابن أبي خيثمة، والعسكري في «الأمثال» عن رافع بن خديج بلفظ: «التمسوا الرّفيق قبل الطريق، والجار قبل الدّار» . ورواه القضاعي بلفظ: «التمسوا الجار قبل شراء الدّار، والرّفيق قبل الطّريق» وكلها ضعيفة، لكن بانضمامها يقوى الحديث؛ فيصير حسنا. قاله في «الكشف» للعجلونيّ. 93- ( «الجماعة رحمة) ؛ أي: لزوم جماعة المسلمين موصل إلى الرحمة، أو سبب للرحمة. (والفرقة) عن جماعة المسلمين بأن لا ينصرهم ببدنه أو اعتقاده (عذاب» ) ؛ أي: سبب للعذاب، لأنّه تعالى جمع المؤمنين على معرفة واحدة، وشريعة واحدة؛ ليألف بعضهم بعضا بالله وفي الله؛ فيكونون كرجل واحد على عدوّهم، فمن انفرد عن حزب الرّحمن انفرد به الشّيطان، وأوقعه فيما يؤدّيه إلى عذاب النيران. قال العامريّ في «شرح الشهاب» : لفظ الجماعة ينصرف لجماعة المسلمين لما اجتمع فيهم من جميل خصال الإسلام، ومكارم الأخلاق، وترقّي السابقين منهم إلى درجة الإحسان؛ وإن قلّ عددهم، حتّى لو اجتمع التقوى والإحسان اللّذان معهما الرحمة في واحد كان هو الجماعة، فالرحمة في متابعته، والعذاب في مخالفته. انتهى. والحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: «الجماعة..» ... الخ. قال الزركشي- بعد عزوه لأحمد والطبراني-: فيه [أبو وكيع الجراح بن مليح] «1» ؛ قال   (1) في الأصل: (الجراح بن وكيع) . والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 94- «جفّ القلم بما أنت لاق» . الدارقطني: ليس بشيء. وقال السّيوطيّ في «الدرر» سنده ضعيف. وقال السخاوي: سنده ضعيف؛ لكن له شواهد، منها: ما روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه: «يد الله على الجماعة، اتّبعوا السّواد الأعظم، فإنّ من شذّ شذّ في النّار» . ومنها: ما روى الطبراني عن أسامة بن شريك رفعه: يد الله على الجماعة، فإن شذّ الشّاذّ منهم اختطفته الشّياطين» ... الحديث. ومنها ما رواه أيضا؛ عن عرفجة رفعه: «يد الله مع الجماعة، والشّيطان مع من فارق الجماعة يركض» . ومنها ما رواه الديلمي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «الشّيطان يهمّ بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهمّ بهم» . انتهى مناوي على «الجامع الصغير» ، مع زيادة من «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» للعجلوني رحمهم الله. آمين. 94- ( «جفّ القلم بما أنت لاق» ) ؛ أي: نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ؛ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه، لفراغ ما كتب به. قال القاضي عياض: كتاب الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. وهذا اللفظ لم يوجد في كلام العرب، بل هو من الألفاظ التي لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية. وهذا الحديث رواه البخاري، والنسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوّج به النساء، فأذن لي أختصي. فسكت عنّي، ثم قلت مثل ذلك؛ فسكت، ثم قلت مثل ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة؛ جفّ القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك، أو ذر» . ورواه الطبراني في «الكبير» عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «جفّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 95- «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» . القلم بما هو كائن» وهو حسن. ورواه القضاعي؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «جفّ القلم بالشّقيّ والسّعيد، وفرغ من أربع: من الخلق، والخلق، والأجل، والرّزق» وكذا رواه الديلمي؛ عن ابن مسعود بلفظ «جرى القلم بما حكم» . 95- ( «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» ) يعني: التواضع لهنّ وترضّيهن وإطاعتهن في خدمتهنّ، وعدم مخالفتهن إلا فيما حظره الشرع سبب لدخول الجنة، وتمام الحديث: «من شئن أدخلن، ومن شئن أخرجن» . قال العامري: المراد أنّه يكون في برّها وخدمتها كالتراب تحت قدميها؛ مقدّما لها على هواه، مؤثرا برّها على برّ كلّ عباد الله، لتحمّلها شدائد حمله ورضاعه وتربيته. انتهى. فينبغي التواضع جدا للأمّهات حتى يكون كالتراب الذي تحت أقدامهنّ ليدخل الجنة مع السابقين، لأن لها ثلثي البرّ. قال بعض الصوفية: هذا الحديث له ظاهر وباطن، وحقّ وحقيقة، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلّم أوتي جوامع الكلم فقوله «الجنة» ... الخ ظاهره: أن الأمّهات يلتمس رضاهنّ المبلّغ إلى الجنة بالتواضع لهنّ، وإلقاء النّفس تحت أقدامهنّ، والتذلّل لهنّ. والحقيقة فيه: أنّ أمّهات المؤمنين هنّ معه عليه الصلاة والسلام أزواجه في أعلى درجة في الجنة، والخلق كلّهم تحت تلك الدرجة، فانتهاء رؤوس الخلق في رفعة درجاتهم في الجنة؛ وآخر مقام لهم في الرفعة: أوّل مقام أقدام أمّهات المؤمنين، فحيث انتهى الخلق فهنّ ثمّ ابتداء درجاتهنّ، فالجنة كلها تحت أقدامهن. وهذا قاله لمن أراد الغزو معه؛ وله أمّ تمنعه، فقال: «الزمها ... ثم ذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 96- «الجنّة تحت ظلال السّيوف» . قال الذهبي: فيه أن عقوق الأمهات من الكبائر وهو إجماع. انتهى «مناوي» . والحديث أخرجه الخطيب في «جامعه» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» ؛ عن أنس رفعه، وهو منكر لأن في سنده مجهولين. وذكره الخطيب أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما وضعفه. قال في «المقاصد» : وقد عزاه الديلمي لمسلم عن أنس فلينظر!! ومثله في «الدرر» انتهى «كشف الخفا» . وفي المناوي على «الجامع» : أنه أخرجه النسائي وابن ماجه، وكذا الإمام أحمد والحاكم وصححه. ومثله في «كشف الخفا» ؛ قال: عن معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله عنه. 96- ( «الجنّة تحت ظلال) - وفي رواية للبخاري: تحت بارقة- (السّيوف» ) ؛ أي: الجهاد ماله الجنة، يعني: أنّ ظلال السّيوف والضرب بها في سبيل الله تعالى سبب للفوز بظلال بساتين الجنّة ونعيمها. وفي «النّهاية» : هو كناية عن الدّنوّ من الضّرب في الجهاد حتى يعلوه السّيف ويصير ظلّه عليه؛ وخصّ السّيوف! لكونها أعظم آلات الحرب وأنفعها إذ ذاك. والحديث رواه الحاكم في «المستدرك» في «الجهاد» ؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذّهبي. وفي رواية للبخاري؛ عن ابن أبي أوفى مرفوعا بلفظ: «اعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف» . ورواه مسلم في «المغازي» ؛ عن أبي موسى بلفظ: أنّه قال بحضرة العدوّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السّيوف» . فقام رجل رثّ الهيئة، فقال: يا أبا موسى؛ أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه؛ فقال: أقرأ عليكم السلام؛ ثمّ كسر جفن سيفه وألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدوّ، فضرب به حتى قتل. وأخرجه أبو داود في «الجهاد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 [ (حرف الحاء) ] (حرف الحاء) 97- «حبّ الدّنيا.. رأس كلّ خطيئة» . (حرف الحاء) 97- ( «حبّ الدّنيا) ؛ أي: تعلّق القلب بها، والانهماك في تحصيلها بأي وجه كان، كالمكاسين والتجّار الّذين يحلفون كذبا لترويج السلعة. (رأس كلّ خطيئة» ) بشاهد التجربة والمشاهدة، فإنّ حبّها يوقع في الشّبهات ثم في المكروهات، ثم في المحرمات، وطالما أوقع في الكفر، بل جميع الأمم المكذّبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم حبّ الدنيا، فكل خطيئة في العالم أصلها حبّ الدنيا، ولا تنس خطيئة الأبوين، فإن سببها حبّ الخلود في الدنيا؛ ولا تنس خطيئة إبليس، فإن سببها حب الرّياسة التي هي شرّ من حبّ لدنيا، وكفر فرعون وهامان وجنودهما ... فحبّ الدّنيا هو الذي عمر النّار بأهلها، وبغضها هو الذي عمر الجنّة بأهلها، ومن ثمّ قيل: الدّنيا خمر الشّيطان، فمن شرب منها لم يفق من سكرتها إلّا في عسكر الموتى، خاسرا نادما. نعم؛ إذا أحبّ جمع الدنيا لصرفها في مصارفها كإطعام الجائع؛ فهو محمود لا خطيئة، فضلا عن كونه رأس كل خطيئة، ولذا ورد: «نعمت الدّنيا مطيّة المؤمن، بها يصل إلى الخير وينجو من الشّرّ» ، وهذه نصيحة منه صلى الله عليه وسلّم لأمّته. وإلّا! فكل واحد لا غنى له عن الدنيا، ولو لم يحبّ الناس الدنيا هلك العالم وبطل المعاش، إلّا أنّه علم صلى الله عليه وسلّم أن حبّ الدنيا مهلك؛ وأنّ ذكر كونه مهلكا لا ينزع الحبّ من قلب الأكثر، إلّا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم؛ فلم يترك النصح؛ وذكر ما في حب الدنيا من الخطر، ولم يترك ذكره؛ خوفا من أن يترك ثقة بالشهوات المهلكة التي سلّطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنّم تصديقا لقوله وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [13/ السجدة] . الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 ......... تنبيه: أخذ بعضهم من الحديث أنّه ينبغي ألايؤخذ العلم إلّا عن أقلّ الناس رغبة في الدنيا، فإنه أنور قلبا وأقلّ إشكالات في الدّين؛ فكيف يؤخذ علم عمّن جمع في قلبه رأس خطيئات الوجود!! كيف وذلك يمنع من دخول حضرة الله وحضرة رسوله؟! فإنّ حضرته تعالى كلامه وحضرة رسوله كلامه، ومن لم يتخلّق بأخلاق صاحب الكلام لا يمكنه دخول حضرته؛ ولو في صلاته، إذ لا يفهم أحد عن أعلى صفة إلّا إن صلح لمجالسته؛ فمن زهد في الدنيا كما زهد فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فقد أهّل لفهم كلامه، ولو رغب فيها كغالب الفقهاء! لا يؤهّل لذلك، ولا يفهم مراد الشارع إلّا إن فسر له بكلام مغلق قلق ضيق؛ كذا في «إرشاد الطالبين» . قال: وسمعت نصرانيّا يقول لفقيه: كيف يزعم علماؤكم أنّهم ورثة نبيّهم؛ وهم يرغبون فيما زهد فيه رهباننا؟! قال: كيف؟. قال: لأنّهم يأخذون في إقامة شعار دينهم؛ من تدريس وخطابة وإمامة ونحوها عرضا من الدنيا؛ ولو منعوه لعطّلوها، وجميع الرّهبان يقومون بأمر ديننا مجّانا. فانظر قوّة يقين أصحابنا وضعف يقين أصحابكم، فلو صدقوا ربّهم أنّ ما عنده خير وأبقى؛ لزهدوا في الدنيا كما زهد فيها نبيّهم والرهبان. وشكا بعضهم كثرة خواطر الشّيطان؛ فقال: طلّق بنته يهجر زيارتك، وهي الدنيا، تريد أن يقطع رحمه لأجلك. قال: هو يأتي من لا دنيا عنده، قال: إن لم تكن عنده؟؛ فهو خاطب لها، ومن خطب بنت رجل فتح باب مودّته؛ وإن لم يدخل بها. وكان الرّبيع بن خثيم يقول: أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم يدخلها حبّ الآخرة. انتهى. مناوي على «الجامع الصغير» . والحديث رواه البيقهي في «شعب الإيمان» ؛ عن الحسن البصري مرسلا؛ ثم قال- أعني البيهقي-: ولا أصل له من حديث النّبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 98- «الحبّ في الله والبغض في الله من أفضل الأعمال» . قال الحافظ الزّين العراقي: ومراسيل الحسن عندهم شبه الرّيح، ومثل به في «شرح الألفية» للموضوع من كلام الحكماء، وقال: هو من كلام مالك بن دينار؛ كما رواه ابن أبي الدنيا، أو من كلام عيسى، كما رواه البيهقي في «الزهد» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، أو من قول سعيد بن سعود؛ كما ذكره ابن يونس في «تاريخ مصر» . وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي، وعدّ ابن الجوزي الحديث في الموضوعات، وتعقّبه الحافظ ابن حجر بأن ابن المديني أثنى على مراسيل الحسن، والإسناد إليه حسن. وأورده الديلمي من حديث علي وبيّض لسنده. وقال ابن الغرس: الحديث ضعيف. وللديلمي؛ عن أبي هريرة رفعه: «أعظم الآفات تصيب أمّتي: حبّهم الدّنيا، وجمعهم الدّنانير والدّراهم، لا خير في كثير ممّن جمعها إلّا من سلّطه الله على هلكتها في الحقّ» انتهى مناوي على «الجامع» ، و «كشف الخفا» للعجلوني، رحمهما الله تعالى. آمين. 98- ( «الحبّ في الله) ؛ أي: في ذات الله، لا لشوب رياء ولا هوى، (والبغض في الله من أفضل الأعمال» ) . قال الطيبي: «في» هنا بمعنى اللام في الحديث الآخر «من أحبّ لله» ؛ إشارة إلى الإخلاص، لكن «في» هنا أبلغ، أي: الحب في جهته ووجهه، كقوله تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [69/ العنكبوت] . أي: في حقنا، ومن أجلنا، ولوجهنا خالصا. فمن أفضل الأعمال أن يحبّ الرجل للإيمان والعرفان، لا لحظ نفساني كإحسان، وأن يكرهه للكفر والعصيان؛ لا لإيذائه له. والحاصل: ألايكون معاملته مع الخلق إلا لله؛ ومن البغض في الله بغض النفس الأمّارة بالسّوء وأعداء الدّين، وبغضهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 99- «حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» . مخالفة أمرهما، والمجاهدة مع النّفس بحبسها في طاعة الله تعالى بما أمر ونهى، ومع أعدائه تعالى بالمصابرة معهم والمرابطة لأجلهم. وهذا الحديث من تدبّره وقف على سلوك طريق الله وفناء السالك في الله. قال ابن رسلان: فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله؛ كما يكون له أصدقاء يحبّهم في الله: بيانه أنّك إذا أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عصاه فلا بدّ أن تبغضه؛ لأنه عاص لله وممقوت عند الله، فمن أحبّ لسبب فبالضرورة يبغض لضدّه؛ وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطّرد في الحب والبغض في العادات، والله أعلم. انتهى. من «شروح الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» باللّفظ الذي أورده المصنف معزوا لأبي داود. وذكره في «الجامع الصّغير» بلفظ: «أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله» . معزوّا لأبي داود؛ من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وهو الموافق لما في «سنن أبي داود» ، لكن في سنده راو لم يسمّ. 99- ( «حبّك الشّيء) - بلام ودونها روايتان- (يعمي) عن عيوب المحبوب، (ويصمّ» ) عن سماعها، فلا تبصر قبيح فعله، ولا تسمع فيه نهي ناصح، بل ترى قبيحه حسنا وتسمع منه الجفا قولا جميلا، وهذا شامل لمحبّة النّفس، فإذا أحبّ الشخص نفسه وفعلها؛ رضي بكل أفعال نفسه، وأثنى على نفسه، فلا يرى لنفسه فعلا سيّئا، وهذا من سوء الحال. انظر قول سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [53/ يوسف] فما بالك بغيره!! فالحبّ لذّة تعمي عن رؤية غير المحبوب، وتصمّه عن سماع العذل فيه، والمحبة إذا استولت على القلب سلبته عن صفاته، ولذا قال بعض الشّعراء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 100- «الحرب خدعة» . وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ مرموزا له برمز الإمام أحمد والبخاري في «التاريخ» ، وأبي داود في «الأدب» عن أبي الدرداء مرفوعا وموقوفا، قال الحافظ العراقيّ: وإسناده ضعيف. وقال الزركشي: روي من طرق في كلّ منها مقال. وقال السيوطي في «الدرر» : الوقف أشبه. وقال في «المقاصد» : رواه أبو داود والعسكري؛ عن أبي الدرداء مرفوعا وموقوفا، والوقف أشبه؛ وفي سنده ابن أبي مريم، ورواه أحمد؛ عن ابن أبي مريم؛ فوقفه، والرفع أكثر. ولم يصب الصّغاني حيث حكم عليه بالوضع. وكذا قال العراقي: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سرق له حليّ فأنكر عقله! وقال الحافظ ابن حجر- تبعا للعراقي-: ويكفينا سكوت أبي داود عليه. فليس بموضوع، ولا شديد الضعف؛ فهو حسن. انتهى. وقال القاري- بعد أن ذكر ما تقدم-: فالحديث؛ إما صحيح لذاته أو لغيره، مرتقي عن درجة الحسن لذاته إلى [الصحة] لصحة معناه؛ وإن لم يثبت مبناه. انتهى. من المناوي على «الجامع» و «كشف الخفاء» للعجلوني. 100- ( «الحرب خدعة» ) ؛ بفتح الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة، وهي أشهر اللغات وأفصحها، حتى قال ثعلب وغيره: هي لغة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي المرّة الواحدة من الخداع، أي: الحرب خدعة واحدة؛ من تيسرت له حقّ له الظّفر. أو المعنى: أنها تخدع أهلها؛ من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنّها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه. وفيها لغة ثانية: [خدعة] بضم الخاء وإسكان الدال، ومعناها أنها تخدع الرّجال؛ أي: هي محلّ الخداع وموضعه؛ وفيها لغة ثالثة: [خدعة] بضمّ الخاء وفتح الدال، صيغة مبالغة: ك هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) [الهمزة] . والمعنى: إنّها تخدع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 101- «الحسب.. المال، والكرم.. التّقوى» . الرّجال؛ أي: تمنّيهم الظّفر، ولا تفي لهم، كالضّحكة إذا كان يضحك بالناس. قال العسكري: أراد بالحديث أن المماكرة في الحرب أنفع من الطعن والضرب؛ والمثل السّائر: إذا لم تغلب فاخلب. أي: اخدع. قال العزيزي: وأصل الخدع: إظهار أمر وإضمار خلافه، يعني: الحرب الكامل إنما هو المخادعة؛ لا المواجهة، وحصول الظّفر مع المخادعة بغير خطر. وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفّار، إلّا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان؛ فلا يجوز. ويقع الخداع بالتعريض والتوراة واليمين وإخلاف الوعد ونحو ذلك؛ قال النووي: اتفقوا على حلّ خداع الكفّار في الحرب كيف كان، حيث لا نقض عهد ولا أمان. وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشّجاعة، فينبغي قدح الفكر وإعمال الرأي، واستعمال المكيدة في الحرب حسب الاستطاعة، فإن ذلك أنفع من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، كما في قوله: «الحجّ عرفة» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي في «الجهاد» ؛ عن جابر بن عبد الله، والبخاري ومسلم؛ عن أبي هريرة، والإمام أحمد؛ عن أنس بن مالك، وأبي داود؛ عن كعب بن مالك الأنصاري، وابن ماجه؛ عن ابن عباس، وعن عائشة. والبزّار في مسنده؛ عن الحسين بن علي؛ والطبراني في «الكبير» ؛ عن الحسين بن علي وعن زيد بن ثابت وعبد الله بن سلام وعوف بن مالك، وعن نعيم بن مسعود وعن النواس بن سمعان. وابن عساكر عن خالد بن الوليد؛ وهو حديث متواتر. 101- ( «الحسب: المال، والكرم: التّقوى» ) ، أي: الشيء الذي يكون به المرء عظيما عند الناس؛ هو المال، والذي يكون به عظيما عند الله؛ هو التقوى، والتفاخر بالآباء ليس واحدا منهما فلا فائدة له؛ أو المراد: إن الغني يعظم ما لا يعظم الحسيب، فكأنه لا حسب إلّا المال؛ وإنّ الكريم هو المتّقي، لا من يجود بماله ويخاطر بنفسه ليعدّ جوادا شجاعا. وقال العلقمي: الحسب- في الأصل- الشّرف بالآباء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 102- «حسبك بالصّحّة والسّلامة داء قاتلا لابن آدم» . وما يعده الإنسان من مفاخره، والمعنى: إنّ الفقير ذا الحسب لا يوقّر ولا يحتفل به، والغنيّ الذي لا حسب له يوقّر ويجلل في العيون؛ وقال العامري في شرح الشهاب: أشار بالخبر إلى أن الحسب الذي يفتخر به أبناء الدنيا اليوم المال، فقصد ذمّهم بذلك حيث أعرضوا عن الأحساب الخفية ومكارم الأخلاق الدينية، ألا ترى أنه أعقبه بقوله: والكرم التقوى؛ والتقوى تشمل المكارم الدينيّة والشيم المرضيّة التي فيها شرف الدارين. انتهى. من شروح «الجامع الصغير» . ومما ينسب للإمام الشافعي- رحمه الله تعالى-: قيمة المرء فضله عند ذي الفض ... ل وما في يديه عند الرّعاع فإذا ما حويت علما ومالا ... كنت عين الزّمان بالإجماع وإذا منهما غدوت خليّا ... صرت في النّاس من أخسّ المتاع والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ مرموزا له برمز الإمام أحمد والترمذي في «التفسير» ، وابن ماجه في «الزهد» ، والحاكم في «النكاح» ؛ عن سمرة بن جندب؛ وقال الترمذي: حسن صحيح؛ وقال الحاكم: على شرط البخاري، وأقرّه الذّهبي. لكن قيل: إنّه من حديث الحسن عن سمرة؛ وقد تكلموا في سماعه منه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . 102- ( «حسبك بالصّحّة) في البدن، (والسّلامة) عن المنغّصات؛ في النفس والأهل والمال (داء قاتلا لابن آدم» ) ، لأنّ ذلك يدعوه إلى الغرور وارتكاب الشّرور، ويورثه البطر والعجب، وينسيه الآخرة، ويحبّب إليه الدّنيا لما يألفه من الشّهوات؛ «وحبّ الدّنيا رأس كلّ خطيّة» ! والتمتّع بالشّهوات المباحات يحجب القلوب عن الآخرة، وكل ذلك يسقم الدين؛ وهو دليل على عدم محبّة الله له، لأنّ المؤمن كخامة الزرع يتكفّؤها البلاء، وإذا أحبّ الله عبدا ابتلاه ليسمع تضرّعه، ويكره العفريت النّفريت الذي لا يمرض ولا يرمد. فالمؤمن كثير المشوّشات والمنغّصات في بدنه وماله وأهله، فيمرض ويصاب غالبا، ويخلو من ذلك أحيانا ليكفّر عنه سيئاته، ولا يخلو المؤمن من قلّة أو علّة أو ذلّة. وأمّا دوام السّلامة للعبد فيخشى منه الاستدراج؛ وهو من علامة الكفّار، لأن الغالب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 103- «حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النّار بالشّهوات» . عليهم الصحّة ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة. وهذا لا ينافي طلب العافية المأمور به في عدة أحاديث، لأن المطلوب العافية السليمة العاقبة مما ذكر. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» ، وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «كفى بالسّلامة داء» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإسناده ضعيف؛ قال الديلمي: وفي الباب؛ عن أنس رضي الله عنه. 103- ( «حفّت الجنّة بالمكاره) أي: أحاطت بها. والمراد بالمكاره: ما يكرهه المرء ويشقّ عليه من القيام بحقوق العبادة على وجهها؛ كإسباغ الطّهر في الشّتاء وتجرّع الصّبر على المصائب والتسليم لأمر الله فيها واجتناب المنهيات قولا وفعلا، وأطلق عليها مكاره!! لمشقّتها على العامل وصعوبتها؛ (وحفّت النّار بالشّهوات» ) أي: ما يستلذّ من أمور الدّنيا مما منع الشرع من تعاطيه، وهذا تمثيل حسن، ومعناه يوصل إلى الجنّة بارتكاب المكاره من الجهد في الطاعة، والصبر عن الشهوة؛ كما يوصل المحجوب عن الشيء إليه بهتك حجابه، ويوصل إلى النّار بارتكاب الشهوات ... ومن المكاره: الصبر على المصائب بأنواعها، فكلّ من صبر على واحدة قطع حجابا من حجب الجنّة، ولا يزال يقطع حجبها حتى لا يبقى بينه وبينها إلا مفارقة روحه بدنه؛ فيقال يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) [الفجر] . قال الغزالي: بيّن بهذا الحديث أن طريق الجنّة وعر، وسبيل صعب كثير العقبات شديد المشقّات، بعيد المسافات عظيم الآفات، كثير العوائق والموانع، خفيّ المهالك والقواطع، عزيز الأعداء والقطّاع، عزيز الأتباع والأشياع؛ وهكذا يجب أن يكون. قال ابن حجر: وهذا من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلّم وبديع بلاغته في ذمّ الشّهوات؛ وإن مالت إليها النّفوس، والحث على الطاعات؛ وإن كرهتها وشقّت عليها. والحديث متفق عليه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. لكن للبخاري «حجبت» بدل «حفّت» في الموضعين؛ ورواه القضاعي؛ عن أبي هريرة بلفظ مسلم؛ وأخرج الإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 104- «الحكمة ضالّة المؤمن» . أحمد، ومسلم، والترمذي؛ عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه الإمام أحمد في «الزهد» ؛ عن ابن مسعود موقوفا. 104- ( «الحكمة) - التي هي العلم بالأشياء على ما هي عليه، والعمل كما ينبغي. وقال ابن دريد: كلّ كلمة وعظتك أو زجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة (ضالّة المؤمن» ) ؛ أي: بمنزلة الضّالّة التي هو ناشد لها وساع في طلبها. والحديث ذكره في «الكشف» ؛ وقال: رواه القضاعي في مسنده مرسلا؛ عن زيد بن أسلم رفعه بزيادة: «حيث ما وجد المؤمن ضالّته فليجمعها إليه» . ورواه الترمذي والعسكري والقضاعي أيضا؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه- وفي سندهم إبراهيم بن الفضل ضعيف-؛ ولفظ العسكري والقضاعي: «كلمة الحكمة ضالّة كلّ حكيم، فإذا وجدها فهو أحقّ بها» . ولفظ الترمذي: «الكلمة الحكيمة ضالّة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها» ؛ وقال: غريب. ورواه العسكري أيضا عن أنس رفعه بلفظ: «العلم ضالّة المؤمن حيث وجده أخذه» . ورواه أيضا؛ عن ابن عباس من قوله؛ بلفظ: خذوا الحكمة ممّن سمعتموها، فإنّه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرّمية من غير رام» . وهذا عند البيهقي في «المدخل» ؛ عن عكرمة بلفظ: خذ الحكمة ممّن سمعت، فإنّ الرّجل يتكلّم بالحكمة وليس بحكيم؛ فيكون كالرّمية خرجت من غير رام» .. وعنده أيضا؛ عن سعيد بن أبي بردة قال: كان يقال: الحكمة ضالّة المؤمن؛ يأخذها حيث وجدها. وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان يقال: العلم ضالّة المؤمن يغدو في طلبها، فإن أصاب منها شيئا حواه حتى يضمّ إليه غيره. وفي معناه ما رواه الديلمي؛ عن علي مرفوعا: «ضالّة المؤمن العلم، كلّما قيّد حديثا طلب إليه آخر» . وللديلمي أيضا؛ عن ابن عباس مرفوعا: «نعم الفائدة الكلمة من الحكمة؛ يسمعها الرّجل فيبديها لأخيه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 105- «الحلال بيّن والحرام بيّن» . وله أيضا بلا سند؛ عن ابن عمر رفعه: «خذ الحكمة؛ ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» . ويروى نحو هذا من قول علي رضي الله عنه. انتهى. ولله در من قال: خذ العلوم ولا تنظر لقائلها ... من أين كان، فإنّ العلم ممدوح كدرّة أنت تلقاها بمزبلة ... ألست تأخذها؛ والزّبل مطروح!! 105- ( «الحلال) ، ضد الحرام- لغة؛ وشرعا- (بيّن) : ظاهر واضح؛ لا يخفى حله، وهو ما نص الله أو رسوله، أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه أو جنسه؛ ومنه: ما لم يرد فيه منع في أظهر الأقوال. (والحرام بيّن» ) واضح لا تخفى حرمته، وهو ما نص الله أو رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه بعينه أو جنسه، أو بورود عقوبة أو وعيد عليه. ثم التحريم. إمّا لمفسدة أو مضرة خفية: كالزّنا ومذكّى المجوس؛ وإما لمفسدة أو مضرة واضحة: كالسّمّ والخمر ... وتفصيله يطول. والحديث طويل، أخرجه البخاري في «كتاب الإيمان» ، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي في «البيوع» ، وابن ماجه في «الفتن» ؛ كلهم من حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكره مطولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 [ (حرف الخاء) ] (حرف الخاء) 106- «خذ الحكمة، ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» . 107- «خصلتان لا يجتمعان إلّا في مؤمن: السّخاء، وحسن الخلق» . 108- «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق» . (حرف الخاء) 106- ( «خذ الحكمة؛ ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» ) أخرجه الدّيلمي بلا سند؛ عن ابن عمر رفعه، وقد تقدّم في «الحكمة ضالّة المؤمن» . 107- ( «خصلتان لا يجتمعان) ، مع بلوغ النّهاية فيهما؛ (إلّا في مؤمن) كامل الإيمان (: 1- السّخاء) - بالمد-: الجود والكرم والإعطاء بطيب نفس. (و 2- حسن الخلق» ) ؛ وهو هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال الحسنة بسهولة. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» . 108- ( «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن) ، أي: كامل الإيمان؛ فلا يرد أن كثيرا من الموحدين موجودتان فيه؛ (: 1- البخل، و 2- سوء الخلق» ) . قال العلقمي: قال شيخنا: قال في «النهاية» : المراد من ذلك: اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النّهاية فيهما، بحيث لا ينفكّ عنهما؛ ولا ينفكان عنه، فأمّا من فيه بعض هذا وبعض هذا؛ وينفك عنه في بعض الأوقات! فإنّه بمعزل عن ذلك. انتهى «عزيزي» . وفي المناوي على «الجامع الصغير» : «خصلتان لا يجتمعان» : مبتدأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 109- «الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» . موصوف، والخبر محذوف، أي: فيما أحدثكم به خصلتان، كقوله سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [1/ النور] . أي: فيما أوحينا إليك. والبخل وسوء الخلق: مبتدأ تقديره: هما. وأفرد البخل عن سوء الخلق؛ وهو بعضه، وجعله معطوفا عليه يدلّ على أنه أسوؤها وأبشعها!! لأنّ البخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس. والحديث ذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه الترمذي وأبو داود الطيالسي؛ عن أبي سعيد الخدري. وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الترمذي والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي سعيد أيضا: قال الترمذي: غريب، لا نعرفه إلّا من حديث صدقة بن موسى. انتهى. قال الذهبي: وصدقة ضعيف؛ ضعّفه ابن معين وغيره. وقال المنذري: ضعيف. انتهى من المناوي على «الجامع الصغير» . 109- ( «الخلق كلّهم عيال الله) ؛ أي: فقراؤه، وهو الذي يعولهم. (وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» ) بالهداية إلى الله، والتعليم لما يصلحهم، والعطف عليهم، والترحم والشفقة والإنفاق عليهم من فضل ما عنده ... وغير ذلك من وجوه الإحسان الآخروية والدنيوية. والعادة أنّ السّيّد يحب الإحسان إلى عبيده وحاشيته، ويجازي عليه. وفيه حثّ على فضل قضاء حوائج الخلق ونفعهم بما تيسّر؛ من علم أو مال أو جاه أو إرشاد أو نصح، أو دلالة على خير، أو إعانة أو شفاعة أو غير ذلك. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز أبي يعلى، والبزار في «مسنده» ، وكذا البيهقي في «الشعب» ؛ عن أنس. قال السيوطي كالزركشي: سنده ضعيف؛ وأخرجه الديلمي وابن عدي؛ من حديث ابن مسعود؛ قال ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 110- «خير الأمور.. أوساطها» . الجوزي: حديث لا يصح. انتهى مناوي على «الجامع» ، و «درر» . 110- ( «خير الأمور أوساطها» ) أي: التوسّط فيها بين الإفراط والتفريط في الأخلاق؛ كالكرم بين التبذير والبخل؛ والشّجاعة بين التهوّر والجبن؛ وفي الأحوال كالاعتدال بين الخوف والرّجاء، والقبض والبسط؛ وفي الاعتقاد بين التشبيه والتعطيل، وبين القدر والجبر، فكلّ إنسان مأمور أن يجتنب كلّ وصف مذموم بالبعد عنه، وأبعد الجهات والمقادير من كلّ طرفين وسطهما؛ فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة. ويشهد لما تقدم قوله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [29/ الإسراء] . وقوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان] . وقوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) [الإسراء] . وقوله تعالى بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [68/ البقرة] . وكذا حديث الاقتصاد؛ ولقد أجاد بعضهم حيث قال: عليك بأوساط الأمور فإنّها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا وقال الحريري: حبّ التّناهي غلط ... خير الأمور الوسط وقال: خير الأمور عندنا الأوساط ... ويكره التفريط والإفراط والحديث ذكره في «الكشف» باللّفظ المذكور، قال: وفي لفظ «أوسطها» وقال: قال ابن الغرس: ضعيف، انتهى. وقال في «المقاصد» : رواه ابن السّمعاني في ذيل «تاريخ بغداد» ، لكن بسند فيه مجهول؛ عن علي مرفوعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 111- «خير الرّزق.. ما لا يطغيك ولا يلهيك» . 112- «خير العمل.. أن تفارق الدّنيا ولسانك رطب من ذكر الله» . وللدّيلمي بلا سند؛ عن ابن عبّاس مرفوعا: «خير الأعمال أوسطها» ؛ في حديث أوّله: «دوموا على أداء الفرائض» . وللعسكري عن الأوزاعي أنّه قال: ما من أمر أمر الله إلّا عارض الشّيطان فيه بخصلتين؛ لا يبالي أيّهما أصاب: الغلوّ، أو التقصير. ولأبي يعلى بسند جيّد؛ عن وهب بن منبّه قال: إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء. انتهى. 111- ( «خير الرّزق ما) - يعني: الكفاف الذي- (لا يطغيك ولا يلهيك» ) ، لأنّ ذلك هو الاقتصاد المحمود، فإنّ الزّيادة ربّما تطغي الإنسان، والنّقص عن ذلك ربما يورثه السّخط؛ والمراد بالرزق: الحلال. والحديث ذكره المناوي؛ في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبرانيّ. 112- ( «خير العمل أن تفارق الدّنيا) يعني تموت (ولسانك) ؛ أي: والحال أنّ لسانك (رطب من ذكر الله» ) ، هذا مسوق للحثّ على لزوم الذّكر؛ ولو باللّسان مع عزوب القلب، إذ ذكر اللّسان خير؛ وإن كان قلبه مشغولا، فلا يشترط حضور القلب في الذّكر، ولذلك قال تلميذ لأبي عثمان البنانيّ: في بعض الأحيان يجري الذّكر على لساني؛ وقلبي غافل! فقال: اشكر الله أن استعمل جارحة منك في خير وعوّدك الذّكر، ومن عجز عن الحضور بالقلب، فترك تعويد اللّسان بالذّكر فقد أسعف الشّيطان، فتدلّى بحبل غروره. فتمّت بينهما المشاكلة والموافقة. ولهذا قال التاج ابن عطاء الله: لا تترك الذّكر مع عدم الحضور؛ فعسى أن ينقلك منه إلى ذكر مع الحضور، ومنه إلى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 113- «خيركم.. خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» . وما ذلك على الله بعزيز. قال ناظم «الحكم العطائيّة» : لا تترك الذكر إذا لم تحضر ... فيه مع المولى الجليل الأكبر فغافلة منك عن الذّكر أشدّ ... من غفلة في الذّكر يا أخا الرّشد لكنّ أكمل الذّكر وأنفعه هو ما كان بالقلب واللّسان. أي: استحضار القلب لمعنى ما يجري على لسانه، وأكمل منه: أن يغيب عن الذّكر بالمذكور. وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ؛ عن عبد الله بن بسر- بضمّ الموحّدة وسكون المهملة- رضي الله تعالى عنه، وفي «العزيزي» : إنّه حديث ضعيف. 113- ( «خيركم) ؛ أي: من خيركم (خيركم لأهله) ؛ يعني: من خياركم وأفاضلكم: من كان معظم برّه لأهله، كما يقال: فلان أعقل النّاس، أي: من أعقلهم، فلا يصير بذلك خير النّاس مطلقا. والأهل: قد يخصّ الزّوجة وأولادها، وقد يطلق على جملة الأقارب، فهم أولى من الأجانب. قال ابن الأثير: هو إشارة إلى صلة الرّحم والحثّ عليها. قال الحفني: والأولى حمله على العموم من كلّ ذي رحم. (وأنا خيركم لأهلي» ) برّا ونفعا لهم دينا ودنيا، وكان أحسن النّاس عشرة لهم، حتى أنّه كان يرسل بنات الأنصار لعائشة يلعبن معها. وكانت إذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه. وإذا شربت شرب من موضع فمها، ويقبّلها وهو صائم. وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد؛ وهي متّكئة على منكبه. وسابقها في السّفر مرتين فسبقها وسبقته؛ ثم قال: «هذه بتلك» . وتدافعا في خروجهما من المنزل مرّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 114- «خيركم.. خيركم لأهلي من بعدي» . وفي «الصحيح» : أنّ نساءه كنّ يراجعنه ... الحديث. وتهجره الواحدة منهنّ يوما إلى الليل، ودفعته إحداهنّ في صدره؛ فزجرتها أمّها؛ فقال لها: «دعيها فإنّهنّ يصنعن أكثر من ذلك» ؛ كذا في «الإحياء» . وجرى بينه وبين عائشة كلام؛ حتى أدخل بينهما أبا بكر حكما؛ كما في خبر «الطّبرانيّ» ، وقالت له عائشة مرّة في كلام غضبت عنده: وأنت الذي تزعم أنّك نبيّ الله!! فتبسّم، كما في خبر أبي يعلى، وأبي الشّيخ؛ عنها. وكان يعتني بهنّ ويهتمّ بتفقّد أحوالهنّ، فكان إذا صلّى العصر دار على نسائه، فدنا منهنّ، واستقرأ أحوالهنّ، فإذا جاء اللّيل انقلب إلى صاحبة النّوبة. وكان إذا شربت عائشة من الإناء؛ أخذه فوضع فمه على موضع فمها. رواه مسلم. ولمّا أراد أن يحمل صفيّة بنت حييّ على بعير؛ نصب لها فخذه لتضع رجلها عليه؛ فلوت ساقها عليه. فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلّم في تلك الملاطفة. وفي «تذكرة ابن عراق» ؛ عن الإمام مالك: يجب على الرّجل أن يتحبّب إلى أهل داره حتّى يكون أحبّ النّاس إليهم. وذكر نحوه يوسف الصّدفي المالكي رحمهم الله تعالى. والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الترمذي في «المناقب» ؛ عن عائشة رضي الله عنها. وابن ماجه؛ عن ابن عباس. والطبراني في «الكبير» ؛ عن معاوية. وصحّحه الترمذي؛ وتمام الحديث: «وإذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه» . انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . 114- ( «خيركم) ؛ أيّها الصّحب، (خيركم لأهلي) : زوجاتي وأقاربي وعيالي، (من بعدي» ) ؛ أي: من بعد وفاتي وقد قبل أكثر الصحابة وصيّته، فقابلوهم بالإكرام والاحترام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 115- «خير النّاس.. أنفعهم للنّاس» . والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال المناوي: ورواه أيضا أبو يعلى وأبو نعيم والدّيلمي، ورجاله ثقات، ولكنّ شذّ راويه بقوله: «لأهلي» . والكلّ إنما قالوه: «لأهله» ذكره ابن أبي خيثمة. انتهى. 115- ( «خير النّاس أنفعهم للنّاس» ) بالإحسان إليهم بماله وجاهه، فإنّهم عباد الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعباده، أي: أشرفهم عنده؛ أكثرهم نفعا للنّاس، بنعمة يسديها، أو نقمة يزويها عنهم دينا ودنيا. ومنافع الدّين أشرف قدرا وأبقى نفعا، قال بعضهم: هذا يفيد أنّ الإمام العادل خير الناس؛ أي: بعد الأنبياء لأنّ الأمور التي يعمّ نفعها، ويعظم وقعها؛ لا يقوم بها غيره، وبه نفع العباد والبلاد، وهو القائم بخلافة النّبوّة في إصلاح الخلق؛ ودعائهم إلى الحقّ، وإقامة دينهم، وتقويم أودهم، ولولاه لم يكن علم ولا عمل. انتهى «مناوي» . والحديث أخرجه القضاعي في «مسند الشّهاب» ؛ عن جابر رضي الله عنه، وفيه عمرو بن أبي بكر السّكسكيّ الرّمليّ؛ قال في «الميزان» : واه. وقال ابن عديّ: له مناكير؛ وابن حبّان: يروي عن الثّقات الطّامات. ثم أورد له أخبارا هذا منها. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . وفي «العزيزي» : إنه حديث حسن لغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 [ (حرف الدّال) ] (حرف الدّال 116- «الدّالّ على الخير.. كفاعله، والدّالّ على الشّرّ.. كفاعله» . (حرف الدّال) 116- ( «الدّالّ على الخير كفاعله» ) في حصول الثّواب؛ وإن تفاوت المقدار، كما إذا أمرت شخصا بنحو صدقة، أو صوم يوم، أو صلاة، أو صلة رحم، أو غير ذلك؛ فإن حصل ذلك الخير فله مثل ثوابه، وإلّا فله ثواب دلالته. قال القرطبيّ: ذهب بعض الأئمّة إلى أنّ المثل المذكور إنّما هو بغير تضعيف؛ لأنّ فعل الخير لم يفعله الدّالّ! وليس كما قال!! بل ظاهر اللّفظ المساواة، ويمكن أن يصار إلى ذلك، لأنّ الأجر على الأعمال إنّما هو بفضل الله؛ يهب لمن يشاء على أيّ فعل شاء، وقد جاء في الشّرع كثير. انتهى «مناوي» . ويدخل في ذلك دخولا أوّليّا أولويّا: من يعلّم النّاس العلم الشّرعيّ، ويتحمّلون عنه؛ قاله في شرح «الإحياء» . (والدّالّ على الشّرّ كفاعله» ) ؛ أي: لإعانته عليه، فله كفعله من الإثم؛ وإن لم يحصل بمباشرته. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه البزّار؛ عن ابن مسعود وعن أنس، والطّبرانيّ في «الكبير» ؛ عن سهل بن سعد السّاعدي وعن أبي مسعود؛ وفي إسناده ضعيف [جدا] . وأخرجه أحمد والضّياء؛ عن بريدة بن الحصيب، وابن أبي الدّنيا في «قضاء الحوائج» ؛ عن أنس بإسناد حسن، بلفظ: «الدّالّ على الخير كفاعله، والله يحبّ إغاثة اللهفان» انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 117- «الدّعاء.. مخّ العبادة» . 118- «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ... ورواه ابن عبد البرّ؛ عن أبي الدرداء من قوله بلفظ: الدّالّ على الخير وفاعله شريكان. ورواه التّرمذيّ؛ عن أنس وقال: غريب. ورواه مسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، وصحّحه؛ عن أبي مسعود البدريّ؛ بلفظ: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله. انتهى «كشف الخفا» . 117- ( «الدّعاء مخّ العبادة» ) ؛ أي: خالصها، لأنّ الدّاعي إنّما يدعو الله عند انقطاع أمله ممّا سواه، وذلك حقيقة التّوحيد، والإخلاص، ولا عبادة فوقها، فكان مخّها بهذا الاعتبار. وأيضا لما فيه من إظهار الافتقار، والتّبرّي من الحول والقوّة وهو سمت العبوديّة، واستشعار ذلّة البشريّة، ومتضمّن للثّناء على الله؛ وإضافة الكرم والجود إليه. وبقية الحديث: ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] . وهذا استدلال بالآية، فإنّها تدلّ على أنّه مأمور به؛ إذا أتى به المكلّف قبل منه لا محالة، وترتّب عليه المقصود ترتّب الجزاء على الشّرط، والمسبّب على السّبب، وما كان كذلك كان أتمّ العبادة وأكملها. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث رواه الترمذي في (الدّعوات) ؛ عن أنس رضي الله عنه وقال: غريب؛ لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح. انتهى. 118- ( «دع ما يريبك) - بضمّ الياء، وفتحها أكثر رواية-؛ أي: اترك ما تشكّ في كونه حسنا، أو قبيحا، أو حلالا، أو حراما (إلى ما لا يريبك) ؛ أي: واعدل إلى ما لا شكّ فيه؛ يعني: ما تيقّنت حسنه وحلّه. والأمر للنّدب، لما أنّ توقّي الشّبهات مندوب لا واجب على الأصحّ. «ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 فإنّ الصّدق.. طمأنينة، وإنّ الكذب.. ريبة» . اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه» . قال القاضي: هذا الحديث من دلائل النّبوّة، ومعجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنّه أخبر عمّا في ضمير وابصة قبل أن يتكلم به!. والمعنى: أنّ من أشكل عليه شيء والتبس؛ ولم يتبيّن أنّه من أيّ القبيلين هو فليتأمل فيه؛ إن كان من أهل الاجتهاد، ويسأل المجتهدين؛ إن كان من المقلدين، فإن وجد ما يسكن إليه نفسه، ويطمئنّ به قلبه، وينشرح صدره، فليأخذ به، وإلّا! فليدعه، وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة؛ (فإنّ الصّدق طمأنينة) ؛ أي: يطمئنّ إليه القلب ويسكن. وفيه إضمار، أي: محلّ طمأنينة أو سبب طمأنينة. (وإنّ الكذب ريبة» ) ؛ أي: يقلق القلب ويضطرب. وقال الطّيبيّ: جاء هذا القول ممهّدا لما تقدّمه من الكلام. ومعناه: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشّيء فاتركه، فإنّ نفس المؤمن تطمئنّ إلى الصّدق، وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشّيء منبئ عن كونه مظنّة للباطل فاحذره، وطمأنينتك للشّيء مشعر بحقيقته؛ فتمسك به. والصّدق والكذب يستعملان في الأقوال والأفعال، وما يحقّ أو يبطل من الاعتقاد. وهذا مخصوص بذوي النّفوس الشّريفة، القدسيّة المطهّرة عن دنس الذّنوب؛ ووسخ العيوب. انتهى. والحاصل: أنّ الصّدق إذا مازج قلب الكامل؛ امتزج نوره بنور الإيمان، فاطمأنّ وانطفأ سراج الكذب، فإنّ الكذب ظلمة، والظّلمة لا تمازج النّور. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . والحديث أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود الطّيالسيّ، وأبو يعلى في «مسانيدهم» ، والتّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم، وآخرون؛ عن الحسن بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 119- «الدّنيا.. سجن المؤمن وجنّة الكافر» . علي، وقال التّرمذيّ: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وصحّحه ابن حبّان، وهو طرف من حديث طويل. انتهى «كشف الخفاء» ، ومناوي على «الجامع الصغير» . 119- ( «الدّنيا) قال القرطبيّ: وزنها فعلى وألفها للتّأنيث، وهو من الدّنوّ بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران] غير أنّه كثر استعمالها استعمال الأسماء؛ فاستغني عن موصوفها. والمراد: الدّار الدّنيا والحياة الدّنيا الّتي تقابل الدار الآخرة؛ أو الحياة الآخرى. انتهى. وقيل: هي ما على الأرض من الهواء والجوّ. وقيل: كلّ المخلوقات من الجواهر والأعراض، ويطلق على كلّ جزء من ذلك مجازا. انتهى عزيزي على «الجامع الصغير» . (سجن المؤمن) ؛ بالنّسبة لما أعدّ له في الآخرة من النّعيم المقيم. (وجنّة الكافر» ) ؛ بالنّسبة لما أمامه من عذاب الجحيم، وعما قريب يحصل في السّجن المستدام؛ نسأل الله السلامة يوم القيامة. وقيل: المؤمن صرف نفسه عن لذّاتها؛ فكأنّه في السّجن لمنع الملاذّ عنه، والكافر سرّحها في الشّهوات؛ فهي له كالجنّة. قال السّهرورديّ: والسّجن والخروج منه يتعاقبان على قلب المؤمن على توالي السّاعات، ومرور الأوقات، لأنّ النّفس كلما طهرت صفاتها أظلم الوقت على القلب؛ حتى ضاق وانكمد. وهل السّجن إلا تضييق وحجر من الخروج؛ فكلما همّ القلب بالتّبرّي عن مشائم الأهواء الدّنيويّة، والتخلّص عن قيود الشّهوات العاجلة؛ تشهّيا إلى الآجلة، وتنزّها في فضاء الملكوت، ومشاهدة للجمال الأزلي؛ حجزه الشّيطان المردود من هذا الباب بالاحتجاب، فتدلّى بحبل النّفس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 120- «الدّنيا.. عرض حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة.. وعد صادق، ... الأمّارة إليه، فتكدّر صفو العيش عليه، وحال بينه وبين محبوب طبعه، وهذا من أعظم السّجون وأضيقها، فإنّ من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه. تتمة: ذكروا أنّ الحافظ شهاب الدّين؛ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله، لما كان قاضي القضاة مرّ يوما بالسّوق، في موكب عظيم، وهيئة جميلة؛ فهجم عليه يهوديّ يبيع الزيت الحارّ، وأثوابه ملطّخة بالزّيت، وهو في غاية الرّثاثة والشّاعة، فقبض على لجام بغلته؛ وقال: يا شيخ الإسلام؛ تزعم أنّ نبيّكم قال: «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» فأي: سجن أنت فيه؟!! وأي: جنّة أنا فيها؟!! فقال: أنا بالنّسبة لما أعدّ الله لي في الآخرة من النّعيم؛ كأنّي الآن في السّجن، وأنت بالنسبة لما أعدّ لك في الآخرة من العذاب الأليم؛ كأنّك في جنّة. فأسلم اليهوديّ. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . وقيل: إنّ صاحب القصّة هو أبو سهل الصّعلوكيّ الفقيه الخراساني، وكان ممّن جمع رياسة الدّين والدّنيا، وقيل: إنّه الإمام الشّافعي؛ ولا مانع من تعدّد الواقعة. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد؛ ومسلم في «الرّقائق» ، والتّرمذيّ؛ وابن ماجه في «الزهد» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، والطّبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ عن سلمان، والبزّار؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. 120- ( «الدّنيا عرض حاضر) ؛ أي: متاع عاجل (يأكل منها البرّ والفاجر) : الطائع والعاصي. (والآخرة وعد) من الله (صادق) ؛ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) [آل عمران] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 يحكم فيها ملك عادل، يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدّنيا، فإنّ كلّ أمّ يتبعها ولدها» . 121- «الدّنيا.. كلّها متاع، وخير متاعها: المرأة الصّالحة» . (يحكم فيها ملك عادل) ؛ لا يتصوّر منه الجور والظلم؛ (يحقّ الحقّ ويبطل الباطل. فكونوا أبناء الآخرة) ؛ أي: عاملين بأعمال الآخرة وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) [الإسراء] . (ولا تكونوا أبناء الدّنيا) ؛ أي: مشتغلين بها، منهمكين فيها، بحيث تشغلكم عن الآخرة، وعما يقرّبكم إلى الله تعالى. (فإنّ كلّ أمّ يتبعها ولدها» ) فمن كان من أبناء الدّنيا مشتغلا بها معرضا عن الله والآخرة؛ فذلك حظّه وهو في الآخرة من الخاسرين، ومن كان من أبناء الآخرة، مشتغلا بما يقرّبه إلى الله؛ متزوّدا لآخرته؛ فعسى أن يكون من المفلحين. ولله درّ من قال: عتبت على الدّنيا لرفعة جاهل ... وخفض لذي علم، فقالت: خذ العذرا بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم ... وأهل التّقى أولاد للضّرّة الآخرى 121- ( «الدّنيا كلّها متاع) أي: شيء يتمتّع به؛ أي: ينتفع به أمدا قليلا. وعبّر بلفظ المتاع! إفهاما لخسّتها، لكونه من أسماء الجيفة؛ الّتي هي للمضطرّ يأخذ منها قدر الحاجة والضرورة. (وخير متاعها المرأة الصّالحة» ) التي فسّرت في الحديث؛ بقوله: «الّتي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته؛ في نفسها، وماله» . وقيّد بالصّالحة!! إيذانا بأنّها شرّ المتاع؛ لو لم تكن صالحة، وهو كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 122- «الدّنيا.. مزرعة الآخرة» . فشرّ متاع الدّنيا المرأة غير الصالحة. قال الطّيبيّ: المتاع من التمتّع بالشّيء؛ وهو الانتفاع به، وكلّ ما ينتفع به من عروض الدّنيا: متاع. والظّاهر أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر: بأنّ الاستمتاعات الدّنيويّة كلّها حقيرة؛ ولا يؤبه لها، وذلك أنّه تعالى لمّا ذكر أصنافها وملاذّها في آية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أتبعه بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا. ثمّ قال بعده وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) [آل عمران] . انتهى. وفيه إيماء إلى أنّ المرأة أطيب حلال في الدّنيا، أي: لأنّه سبحانه زيّن الدّنيا بسبعة أشياء ذكرها بقوله زُيِّنَ لِلنَّاسِ.. الآية؛ وتلك السّبعة هي ملاذّها وغاية آمال طلّابها؛ وأعمّها زينة وأعظمها شهوة النّساء، لأنّها تحفظ زوجها عن الحرام، وتعينه على القيام بالأمور الدّنيويّة والدّينيّة، وكلّ لذّة أعانت على لذّات الآخرة فهي محبوبة مرضية لله تعالى؛ فصاحبها يلتذّ بها من جهة تنعّمه وقرّة عينه بها، ومن جهة إيصالها إلى مرضاة ربّه، وإيصاله إلى لذّة أكمل منها. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، في «الرّضاع» ، والنّسائي في «النّكاح» ، وابن ماجه وغيره؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما رفعه. ولم يخرّجه البخاريّ!!. 122- ( «الدّنيا مزرعة الآخرة» ) الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الدّيلميّ في «الفردوس» ، وذكره العجلوني في «الكشف» . وقال: قال في «المقاصد» : لم أقف عليه. مع إيراد الغزالي له في «الإحياء» !!. وقال القاري: قلت: معناه صحيح، مقتبس من قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [20/ الشورى] . وقال ابن الغرس: لا يعرف. وأنشدوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 123- «دوروا مع كتاب الله حيثما دار» . 124- «الدّين.. النّصيحة» . إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التّفريط في زمن البذر ورواه في «الفردوس» بلا سند، عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: «الدّنيا قنطرة الآخرة» ، وذكره الصّغاني بإسقاط الآخرة «فاعبروها؛ ولا تعمروها» . وفي «الضّعفاء» للعقيلي و «مكارم الأخلاق» لابن لال؛ عن طارق بن أشيم رفعه: «نعمت الدّار الدّنيا لمن تزوّد منها لآخرته» ... الحديث. وذكره الحاكم وصحّحه، ولكن تعقّبه الذّهبيّ بأنّه منكر، وراويه عبد الجبّار لا يعرف. ولابن عساكر، عن يحيى بن سعيد؛ قال: كان عيسى عليه الصّلاة والسلام يقول: اعبروا الدّنيا ولا تعمروها، وحبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة، والنّظر يزرع في القلب الشّهوة» . انتهى كلام «الكشف» . 123- ( «دوروا مع كتاب الله حيثما دار» ) المراد- كما في حديث آخر-: «أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه، فإنّه الكتاب المبين والصراط المستقيم» . وهذا الحديث يوضّحه ما رواه الطّبراني عن معاذ: «خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدّين؛ فلا تأخذوه، ألا إنّ رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا وإنّ الكتاب والسّلطان سيفترقان؛ فلا تفارقوا الكتاب» . انتهى. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح. 124- ( «الدّين النّصيحة» ) أي: عماده وقوامه النّصيحة، على وزان «الحجّ عرفة» ، فبولغ في النّصيحة حتى جعل الدّين كله إيّاها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 ......... وهي- لغة-: الإخلاص والتّصفية. وشرعا-: إخلاص الرّأي من الغشّ للمنصوح، وإيثار مصلحته، ومن ثمّ كانت هذه الكلمة مع وجازة لفظها كلمة جامعة؛ معناها: حيازة الخير للمنصوح له. وليس في كلام العرب أجمع منها، ومن كلمة الفلاح لخيري الدنيا والآخرة. ودلت هذه الجملة على أنّ النّصيحة تسمّى «دينا» و «إسلاما» وعلى أنّ الدّين يقع على العمل كما يقع على القول. قال ابن بطّال: والنّصيحة فرض يجزئ فيه من قام به ويسقط عن الباقين. قال: والنّصيحة واجبة على قدر الطّاقة؛ إذا علم الناصح أنّه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى! فهو في سعة. والله تعالى أعلم. فإن قيل: ففي «صحيح البخاري» : أنّه صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له» . وهو يدلّ على تعليق الوجوب بالاستنصاح؛ لا مطلقا. ومفهوم الشّرط حجّة في تخصيص عموم المنطوق!؟ فجوابه: أنّه يمكن حمل ذلك على الأمور الدّنيويّة؛ كنكاح امرأة ومعاملة رجل ... ونحو ذلك. والأوّل يحمل بعمومه في الأمور الدّينيّة الّتي هي واجبة على كلّ مسلم. والله أعلم. وبقيّة الحديث: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمّة المسلمين وعامّتهم» . أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث تميم الدّاريّ مرفوعا. ورواه البخاريّ في الترجمة معلّقا؛ فقال: باب قول النّبي صلى الله عليه وسلم: «الدّين النّصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم» . وعزاه ابن حجر إلى مسلم، وأبي داود، وأحمد موصولا، وإلى البخاريّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 125- «دين المرء.. عقله، ومن لا عقل له لا دين له» . وعزاه النّوويّ في «الأذكار» إلى مسلم. ونسبه النّجم لأحمد عن ابن عبّاس، وله ولمسلم وأبي داود والنّسائي؛ عن تميم الدّاريّ. وللتّرمذيّ والنّسائيّ؛ عن أبي هريرة. وذكره في «الجامع الصّغير» مقتصرا على الجملة الّتي في المتن هنا رامزا لها برمز البخاريّ في «التّاريخ» ؛ عن ثوبان «مولى النّبيّ صلى الله عليه وسلم» ؛ والبزّار في «مسنده» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب. قال الهيثمي: رجاله رجال الصّحيح، وهو في «الأربعين النّوويّة» ؛ الحديث السّابع. انتهى من المناوي وغيره. 125- ( «دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له» ) لأنّ العقل هو الكاشف عن مقادير العبوديّة، ومحبوب الله ومكروهه، وهو الدّليل على الرّشد، والناهي عن الغيّ، وكلّما كان حظّ العبد من العقل أوفر فسلطان الدّلالة فيه أبعد، فالعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فأتمر بما أمر وانزجر عما نهاه؛ فتلك علامة العقل. وصورة العبادة قد تكون عادة، ومن ثمّ كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم إذا ذكر له عبادة رجل سأل عن عقله. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث أخرجه أبو الشّيخ بن حيّان في كتاب «الثّواب على الأعمال» ، وابن النجار في «تاريخ بغداد» ؛ عن جابر؛ ورواه عنه الدّيلمي أيضا. وفي «العزيزي» : إنّه حديث ضعيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 [ (حرف الذّال) ] (حرف الذّال) 126- «ذكر الله.. شفاء القلوب» . 127- «الذّنب لا ينسى، ... (حرف الذّال) 126- ( «ذكر الله) من تسبيح وتهليل (شفاء القلوب» ) من أمراضها، أي: هو دواء لها مما يلحقها من ظلمة الذّنوب، ويدنّسها من درن الغافلة، ولهذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم أكمل النّاس ذكرا، بل كان كلامه كلّه في ذكر الله وما والاه؛ أمره ونهيه وتشريعه وأخباره عن أسماء الرّبّ، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، ووعده ووعيده، وتمجيده وتسبيحه وتحميده، ورغبته ورهبته ذكرا منه بلسانه، وصمته ذكر منه بقلبه في كل أحيانه. تنبيه: قال الرّاغب: ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته فيتولّد منه الهيبة والإجلال، وتارة لقدرته فيتولّد منه الخوف والحزن، وتارة لفضله ورحمته فيتولّد منه الرّجاء، وتارة لنعمته فيتولّد منه العزّ، فحقّ المؤمن ألاينفكّ أبدا عن ذكره على أحد هذه الوجوه. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره. 127- ( «الذّنب) أي: الإثم، بمعنى: المؤثم، أي: ما يحصل به لوم، أو إثم على فاعله. (لا ينسى) ، بل هو محفوظ في صحف الملائكة، ولا بدّ أن يجازى عليه؛ إن لم يحصل عفو؛ لا يضلّ ربّي ولا ينسى. ونّبّه به على شيء دقيق، يغلط النّاس فيه كثيرا؛ وهو أنّهم لا يرون تأثير الذّنب؛ فينساه الواحد منهم، ويظنّ أنّه لا يضرّه ذلك، وأنّه كما قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 والبرّ لا يبلى، والدّيّان لا يموت.. فكن كما شئت» . إذا لم يغبّر حائط في وقوعه ... فليس له بعد الوقوع غبار قال ابن القيّم: وسبحان الله؛ ما أهلكت هذه البليّة من الخلق، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة!! وما أكثر المغترّين بها من العلماء فضلا عن الجهّال، ولم يعلم المغترّ أنّ الذّنب ينقض؛ ولو بعد حين، كما ينقض السّمّ والجرح المندمل على دغل. (والبرّ) - بالكسر-: الخير والفضل (لا يبلى) أي: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باق عند الله تعالى. وقيل: أراد الإحسان؛ وفعل الخير لا يبلى ثناؤه، وذكره في الدّنيا والآخرة، فهو بمنزلة الثّوب الجديد الذي لا يفنى ولا يتغيّر. (والدّيّان لا يموت) ، بل هو سبحانه حيّ باق، عالم بأحوال عباده فيجازيهم عليها. وإذا علمت هذا (فكن كما شئت» ) من أحوال وأفعال، خير؛ أو شرّ، فإنّ الدّيّان يجازيك عليها، ففيه وعيد شديد وتهديد، وفيه جواز إطلاق الدّيّان على الله لو صحّ الخبر. وفي رواية عبد الرزاق وغيره: «اعمل ما شئت، كما تدين تدان» ، أي: كما تجازي تجازى. يقال: دنته بما صنع؛ أي: جزيته. ذكره الدّيلميّ. ومن مواعظ الحكماء: عباد الله؛ الحذر الحذر، فو الله لقد ستر، حتى كأنّه غفر، ولقد أمهل حتى كأنّه أهمل. انتهى «زرقاني» . والحديث ذكره في «المواهب» ؛ وقال رواه الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ، وأبو نعيم عن عمر بن الخطاب، وفيه محمد بن عبد الملك الأنصاري ضعيف. وقد رواه عبد الرزّاق في «جامعه» ، والبيهقيّ في «الزّهد» ؛ وفي «الأسماء والصفات» ، له عن أبي قلابة رفعه مرسلا: «البرّ لا يبلى ... الخ» . ووصله أحمد في «الزّهد» ؛ فرواه عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء من قوله لكنّه منقطع مع وقفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 128- «ذهب حسن الخلق بخير الدّنيا والآخرة» . 129- «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» . وللدّيلمي عن أنس رفعه: الذّنب شؤم على غير فاعله؛ إن عيّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه» . انتهى زرقاني رحمه الله تعالى. 128- ( «ذهب حسن الخلق) الذي جاء تفسيره في حديث آخر بقوله: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك» ، وقد مرّ الكلام على حسن الخلق غير مرّة. (بخير الدّنيا والآخرة» ) وهو أثقل ما يوضع في الميزان، وهو الدّين كما جاء ذلك في أحاديث أخر، وهذا الحديث قاله النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لأمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان «إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنها» حين قالت له: يا رسول الله؛ أرأيت المرأة يكون لها زوجان في الدّنيا؛ فتموت، ويموتان ويدخلون الجنة، لأيهما تكون هي؟ قال: لأحسنهما خلقا كان عندها في الدّنيا؛ يا أمّ حبيبة، ذهب حسن الخلق بخير الدّنيا والآخرة» . قال العراقيّ: أخرجه البزّار، والطبراني في «الكبير» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» بإسناد ضعيف؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. 129- ( «ذو) أي: صاحب (الوجهين) : هو الذي يأتي كلّ قوم بما يرضيهم؛ خيرا كان أو شرّا، فيظهر لأهل المنكر أنّه راض عنهم؛ فيستقبلهم ببشر منه وترحيب. ويظهر لأهل الحقّ أنّه عنهم راض، فيريد إرضاء كلّ فريق منهم، ويظهر أنّه معهم؛ وإن كان ليس كذلك باطنا. كذا في «الشهاب الخفاجي» . وقال ابن حجر: ذو اللّسانين هو: ذو الوجهين الذي لا يكون عند الله وجيها. ثم قال: قال الغزالي: ذو اللّسانين: من يتردّد بين متعاديين؛ ويكلّم كلّا بما يوافقه، وقلّ من يتردّد بين متعاديين إلّا وهو بهذه الصفة! وهذا عين النّفاق. ثم قال الغزالي: واتفقوا على أنّ ملاقاة اثنين بوجهين نفاق. وللنفاق علامات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 ......... كثيرة؛ وهذه من جملتها، ثم قال: فإن قلت: فبماذا يصير ذا لسانين! وما حدّ ذلك؟ فأقول: إذا دخل على متعاديين وجامل كلّ واحد منهما؛ وكان صادقا فيه لم يكن منافقا، ولا ذا لسانين. فإنّ الواحد قد يصادق متعاديين؛ ولكنّ صداقته ضعيفة لا تنتهي إلى حدّ الأخوّة، إذ لو تحققت الصداقة لا قتضت معاداة الأعداء. نعم؛ لو نقل كلام كلّ واحد إلى الآخر فهو ذو لسانين، وذلك شرّ من النّميمة لأنّه يصير نمّاما بمجرّد نقله من أحد الجانبين. فإذا نقل من كلّ منهما؛ فقد زاد على النميمة. وإن لم ينقل كلاما؛ ولكن حسّن لكلّ واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه؛ فهو ذو لسانين أيضا. وكذا إن وعد كلّا منهما بأنّه ينصره، أو أثنى على كلّ في معاداته، أو على أحدهما مع ذمّه له؛ إذا خرج من عنده، فهو ذو لسانين في كلّ ذلك. انتهى من «الزواجر» . وفي «الشهاب الخفاجي» أنّه يقال له «ذو الوجهين» و «ذو اللّسانين» ، ويقال له «ذو الأوجه» كما قال: وكم من فتى يعجب النّاظرين ... له ألسن وله أوجه وهذا القول مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد تثنية الوجه الّذي هو العضو المخصوص على الحقيقة، لأنّ استحالة ذلك في الإنسان معلوم ضرورة. وإنّما أراد ذمّ المنافق الّذي ظاهره يخالف باطنه، وحاضره يضادّ غائبه، فكأنّه يلقى أخاه في مشهده بصفحة المودّة، ويتناوله في مغيبه بلسان الذمّ والعصبيّة. فشبّه عليه الصلاة والسلام هاتين الحالتين لاختلافهما بالوجهين المختلفين، لتباين ما بينهما. وقوله (لا يكون عند الله وجيها» ) ! أي: ذا قدر ومنزلة. يعني: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 ......... أنّ الله لا يرضاه ولا يحبّه لقباحة فعله، لما يتفرّع عليه من الفساد بين العباد. أما لو فعل ذلك لإصلاح ذات البين وإزالة ضغائن القلوب.. ونحو ذلك! فهو أمر حسن ليس داخلا فيما مرّ. وإذا كان «ذو الوجهين» هذا حاله ف «ذو الأوجه» معلوم بطريق الأولى، وبين الوجه والوجيه جناس اشتقاق كقوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [43/ الروم] . والحديث ذكره القاضي عياض في «الشفاء» ، قال الشهاب الخفاجي: هذا حديث رواه أبو داود عن عمّار بلفظ: «ذو الوجهين وذو اللّسانين في النّار. وروى أبو هريرة رضي الله عنه؛ عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ من شرّ النّاس ذا الوجهين؛ الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» أخرجه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه؛ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من كان ذا لسانين في الدّنيا؛ جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة» . انتهى. وفي رواية الطبراني في «الأوسط» عن أبي سعيد: «ذو الوجهين في الدّنيا يأتي يوم القيامة له وجهان من نار» . وأخرج الشيخان وغيرهما؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون النّاس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار النّاس في هذا الشّأن أشّدهم له كراهية، وتجدون شرّ النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» انتهى. من «الزواجر» . وقد عدّ ذلك من الكبائر! فانظره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 [ (حرف الرّاء) ] (حرف الرّاء) 130- «رأس الحكمة.. مخافة الله» . (حرف الرّاء) 130- ( «رأس الحكمة مخافة) - وفي رواية: خشية- (الله» ) ومعنى كون ذلك رأسا أنّه أصل ينبغي أن يترتّب عليه الثمرات؛ أي: أصل الحكمة وأسّها الخوف منه تعالى، لأنّ الحكمة تمنع النّفس عن المنهيّات، والشّهوات، والشّبهات، ولا يحمل على العمل بها إلا الخوف منه تعالى، فيحاسب النفس على كل خطرة ونظرة ولذّة، ولأنّ الخشية تدعوه إلى الزّهد في الدّنيا، فيفرّغ قلبه، فيعوّضه الله في قلبه حكمة ينطق بها، فالخوف سبب وأصل لورود الحكم. والحكمة: العلم بأحوال الموجودات على ما هي عليه بقدر الطّاقة البشريّة، ويطلق على المعلومات، وعلى إحكام الأمور وسلامتها من الآفات، وعلى منع النّفس من الشهوات.. وغير ذلك. وأوثقها العمل بالطّاعات؛ بحيث يكون خوفه أكثر من رجائه؛ فيحاسب نفسه على كل خطرة ونظرة. ومخافة الله تعالى آكد أسباب النّجاة. قال الغزالي: وقد جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرّحمة والعلم والرّضوان، وناهيك بذلك!! فقال تعالى هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] ، وقال إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) [البينة] . انتهى شروح «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال أخرجه الحكيم الترمذي، وأبو بكر بن لال في «المكارم» ، والقضاعيّ في «الشّهاب» ، عن ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه عنه أيضا البيهقيّ في «الشّعب» وضعّفه، انتهى من المناوي. وفي العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 131- «رأس الدّين.. الورع» . 132- «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى.. التّودّد إلى النّاس» . 131- ( «رأس الدّين) ؛ أي: قوّة الدّين واستحكام قواعده الّتي بها ثباته (الورع» ) بالكفّ عن أسباب التوسّع في الأمور الدّنيويّة؛ صيانة لدينه، وحراسة لعرضه، ومروءته والمتورّع دائم المراقبة للحقّ؛ حذرا من مزج حقّ بباطل، وبذلك قوام الدّين ونظامه. قال يحيى بن معاذ: كيف يكون زاهدا من لا ورع له!!. تورّع فيما ليس لك ثمّ ازهد فيما لك! والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن عديّ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. وفي «العزيزي» إنّه حديث حسن لغيره. 132- ( «رأس العقل) ؛ أي: ثمرة العقل الكامل (بعد الإيمان بالله تعالى: التّودّد إلى النّاس» ) ؛ أي: التسبّب في محبّة النّاس له؛ ولو عدوّا بالبشر، والطلاقة، والهداية، والإحسان، والزّيادة، ولا يكون قصده ذلك؛ أي المحبة؛ بل الأكمل أن يقصد بالتودّد القيام بحقّهم، وإن ترتب عليه محبتهم له وتعظيمه، لكنّه يكون في غاية الحذر من العدوّ باطنا، وربما كان إكرامه والتودّد إليه سببا في انقلاب عداوته محبّة. قال الشاعر: إلق العدوّ بوجه باسم طلق ... واجعل له في الحشا جيشا يحاربه والحديث ذكره في «كشف الخفاء» ، وقال: رواه البيهقيّ في «الشعب» والعسكريّ والقضاعيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه، ورواه أبو نعيم؛ عن أنس وعليّ. ورواه البيهقيّ؛ عن علي بن زيد مرسلا، وزاد فيه: «وما يستغني رجل عن مشهورة، وإنّ أهل المعروف في الدّنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإنّ أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 133- «رحم الله عبدا قال خيرا.. فغنم، أو سكت.. فسلم» . المنكر في الدّنيا هم أهل المنكر في الآخرة» . قال البيهقي: إنّه المحفوظ. ورواه العسكري أيضا عن علي بن زيد بن جدعان بلفظ: و «لن يهلك» بدل قوله: «وما يستغني» . وقال الغدّانيّ: إنّ هشيما حدّث به الرّشيد فأمر له بعشرة آلاف درهم. ورواه العسكري أيضا عن جابر بن عبد الله رفعه مثل الذي قبله، وزاد: «وما سعد أحد برأيه؛ ولا شقي عن مشورة، وإذا أراد الله بعبد خيرا فقّهه في دينه؛ وبصّره عيوبه» . انتهى ملخّصا. ثمّ قال: وقال ابن العرس: قال شيخنا: حديث حسن لغيره. قلت: وأورده في «الجامع الصغير» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعزاه للبزّار والبيهقي. زاد الطّبراني؛ من حديث علي: «واصطناع الخير إلى كلّ برّ وفاجر» . وعند الطّبراني؛ من حديث علي أيضا بلفظ: «رأس العقل بعد الإيمان التّحبّب إلى النّاس» . انتهى. ورواه الدّيلمي عن ابن عباس بلفظ: رأس العقل التّحبّب إلى النّاس في غير ترك الحقّ» . انتهى كلام «كشف الخفا» مع حذف شيء منه. 133- ( «رحم الله عبدا قال خيرا) ؛ كالذّكر والعلم والموعظة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، (فغنم) الأجر والذّكر الجميل، (أو سكت) عن شوء؛ (فسلم» ) من وباله وما يندم عليه بسبب صمته. قال الماوردي: يشير به إلى أنّ الكلام ترجمان يعبّر عن مستودعات الضّمائر، ويخبر بمكنونات السّرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على دفع شوارده، فحقّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه؛ أو الإقلال منه. قال علي- كرّم الله وجهه-: اللّسان معيار إطاشة الجهل وأرجحة العقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 134- «رضيت لأمّتي ما رضي لها ابن أمّ عبد» . قال ابن عربي: أمراض النّفس قوليّة وفعليّة، وتفاريع القولية كثيرة، لكن عللها وأدويتها محصورة في أمرين: الأوّل: ألاتتكلّم إذا اشتهيت أن تتكلّم. والثّاني: ألاتكلم إلا فيما إن سكتّ عنه عصيت، وإلّا! فلا، وإيّاك والكلام عند استحسان كلامك، فإنّه حالتئذ من أكبر الأمراض، وماله دواء إلّا الصّمت، إلّا أن تجبر على رفع السّتر، وهذا هو الضّابط. انتهى من المناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الشّفا» للقاضي عياض، و «الجامع الصغير» للسيوطي، وقال: أخرجه ابن المبارك في «الزّهد» ، وكذا الخرائطي في «مكارم الأخلاق» ؛ عن خالد بن أبي عمران مرسلا. ورواه أبو الشّيخ ابن حيان؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه عنه أيضا الدّيلمي، ثمّ قال: وفي الباب عن أنس. ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس بن مالك رفعه، وعن الحسن البصري مرسلا بلفظ: «رحم الله امرأ تكلّم فغنم؛ أو سكت فسلم» . قال الحافظ العراقي في سند المرسل: رجاله ثقات، والمسند فيه ضعف. قال الشّهاب الخفاجي: وله شواهد وروايات تقوّيه وتصحّحه. 134- ( «رضيت لأمّتي ما) ؛ أي: كل شيء (رضي لها) به أبو عبد الرحمن عبد الله (ابن) مسعود الهذليّ، ويقال له: ابن (أمّ عبد) الهذليّة؛ أسلم قديما، وشهد المشاهد كلّها، وهاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين. وكان النّبي صلى الله عليه وسلّم يقرّبه؛ ولا يحجبه، وهو صاحب سواكه ونعليه وطهوره، وبشّره بالجنّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 135- «رياض الجنّة.. المساجد» . ولكونه شبيها به صلى الله عليه وسلّم في سمته وأخلاقه ورحمته على الأمة وبذل النّصح لها رضي بما يرضاه للأمّة، وكان نحيفا قصيرا جدا، طوله نحو ذراع. ولي قضاء الكوفة وما يليها في خلافة عمر، ومات بها؛ أو بالمدينة سنة: اثنتين وثلاثين، عن بضع وستين سنة. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. ورواه عنه البزّار وزاد: «وكرهت لها ما كره ابن أمّ عبد» . قال الهيثمي: وفيه محمد بن حميد الرّازي، وهو ثقة، وبقيّة رجاله وثقوا. وفي العزيزي: إسناده صحيح. 135- ( «رياض الجنّة) ؛ جمع روضة: وهي الموضع المعجب بالزّهر، سمّيت به لاستراضة الماء السّائل إليها (المساجد» ) ؛ لأنّ العبادة فيها سبب للحصول في رياض الجنّة. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي الشّيخ (ابن حيان) ، وله شاهد عند التّرمذي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رفعه: «إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا» قيل: وما رياض الجنّة؟ قال: «المساجد» . قيل: وما الرّتع؟ قال: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 [ (حرف الزّاي) ] (حرف الزّاي) 136- «زر غبّا.. تزدد حبّا» . (حرف الزّاي) 136- ( «زر) ؛ يا أبا هريرة أخاك (غبّا) - منصوب على الظرفية- أي: وقتا بعد وقت، ولا تلازم زيارته كل يوم (تزدد) عنده (حبّا» ) . وبقدر الملازمة تهون عليه و «حبّا» : منصوب على التّمييز. قال بعضهم: فالإكثار من الزّيارة مملّ، والإقلال منها مخلّ. ونظم البعض هذا المعنى؛ فقال: عليك بإغباب الزّيارة إنّها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا فإنّي رأيت الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا كان ممسكا وقال آخر: وقد قال النّبيّ وكان يروي: «إذا زرت الحبيب فزره غبّا» وقال آخر: أقلل زيارتك الصّدي ... ق يكون كالثّوب استجدّه وأملّ شيء لامرئ ... أن لّا يزال يراك عنده والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البزّار في «مسنده» ، والطّبراني في «الأوسط» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي ذر. والطّبراني في «الكبير» والحاكم؛ عن حبيب بن مسلمة الفهري. والطّبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي. والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب، والخطيب؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 ......... زاد في «الكشف» : وأخرجه أبو نعيم، والعسكري في «الأمثال» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أيضا أنس وجابر وابن عباس وعلي وأبو الدرداء وغيرهم، حتى قال ابن طاهر: إن ابن عدي أورده في أربعة عشر موضعا من «كامله» كلها معلّلة، وضعّفها كلّها، وأفرد أبو نعيم طرقه. ثمّ الحافظ ابن حجر في «الإنارة بطرق غبّ الزيارة» . وقال في «المقاصد» - وتبعه النّجم بعد ذكرهما طرقه-: وبمجموعها يتقوّى الحديث؛ وإن قال البزّار: «إنّه ليس فيه حديث صحيح» ، فهو لا ينافي ما قلناه. انتهى ونحوه في المناوي على «الجامع الصغير» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 [ (حرف السّين) ] (حرف السّين) 137- «السّعيد.. من وعظ بغيره» . (حرف السّين) 137- ( «السّعيد) المبارك المرضيّ عند الله وعند الناس (من وعظ بغيره» ) ؛ أي: تصفّح أفعال غيره فاقتدى بأحسنها، وانتهى عن سيّئها. انتهى مناوي على «الجامع» . وقال الزّرقاني: أي تأمّل عواقب الأمور فلم يفعل ما يضرّه لما رأى ما أصاب غيره من فعلها. قال الشّاعر: إنّ السّعيد له من غيره عظة ... وفي التّجارب تحكيم ومعتبر وقال حجّة الإسلام الغزاليّ: المراد أنّ الإنسان يشاهد من خبائث من اضطر إلى مرافقته وأحواله وصفاته ما يستقبحه فيجتنبه. قيل لعيسى عليه الصّلاة والسّلام: من أدّبك؟ فقال: ما أدّبني أحد، رأيت جهل الجاهل فجانبته. قال الحجّة: ولقد صدق، فلو اجتنب النّاس ما يكرهونه من غيرهم لكملت آدابهم؛ واستغنوا عن مؤدّب، فاطّلع في القبور واعتبر بالنّشور، وانظر إلى مصارع آبائك وفناء إخوانك. انتهى «مناوي» . قال الزّرقاني: ومفهومه: والشّقيّ من وعظ به غيره. وهذا الحديث رواه الدّيلمي؛ عن عقبة بن عامر، والعسكريّ؛ عن زيد بن خالد بهذا اللفظ مختصرا، وصحّحه الحافظ وشيخه العراقيّ؛ خلافا لقول ابن الجوزي في أمثاله «لا يثبت» !! وأخرجه العسكري والقضاعي والبيهقي في «المدخل» ؛ عن ابن مسعود رفعه بزيادة: «والشّقيّ من شقي في بطن أمّه» . ورواه «مسلم» عنه موقوفا بالزّيادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 138- «السّفر.. قطعة من العذاب» . 139- «سيّد القوم.. خادمهم» . وللبزّار بسند صحيح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رفعه: «السّعيد من سعد في بطن أمّه، والشّقيّ من شقي في بطن أمّه» . انتهى كلام الزرقاني. 138- ( «السّفر قطعة من العذاب» ) ؛ أي: جزء منه؛ لما فيه من التّعب ومعاناة الرّيح والشّمس والبرد والخوف والخطر وأكل الخشن وقلّة الماء والزّاد وفراق الأحبّة. ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث ابن عمر مرفوعا: «سافروا تصحّوا» ؛ لأنّه لا يلزم من الصّحّة بالسّفر؛ لما فيه من الرّياضة؛ ألايكون قطعة من العذاب؛ لما فيه من المشقّة!! فصار كالدّواء المرّ المعقب للصّحّة، وإن كان في تناوله الكراهة!. انتهى «عزيزي» . وبما تقرّر علم أنّ المراد العذاب الدنيويّ الّذي هو الألم النّاشئ عن المشقّة: لما يحصل بذلك من ترك المألوف أو نقصه؛ يدل له بقيّة الحديث: «يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه؛ فليعجّل الرّجوع إلى أهله» . أخرجه الإمام مالك في آخر «الموطّأ» ، والإمام أحمد، والشّيخان، وابن ماجه: كلهم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ولله درّ من قال: وإنّ اغتراب المرء من غير خلّة ... ولا همّة يسمو بها لعجيب وحسب الفتى ذلّا؛ وإن أدرك العلا ... ونال الثّريّا: أن يقال غريب لطيفة: لمّا جلس إمام الحرمين للتّدريس محلّ أبيه بعد موته سئل: لم كان السّفر قطعة من العذاب؟! فأجاب على الفور: لأنّ فيه فراق الأحباب. انتهى شروح «الجامع الصغير» . 139- ( «سيّد القوم خادمهم» ) ؛ لأنّ السّيّد هو الّذي يفزع إليه في النّوائب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 140- «السّيوف.. مفاتيح الجنّة» . فيحمل الأثقال، فلمّا تحمّل الخادم عنهم الأمور وكفاهم المؤنة وقام بأعباء ما لا يطيقونه؛ كان سيّدهم بهذا الاعتبار. ف «خادم» : مبتدأ مؤخّر، وأصله: خادم القوم كسيّدهم، فبولغ فيه بالقلب المكاني، وبحذف أداة التّشبيه؛ حتّى جعل السّيّد خادما. قال الزّرقاني: رواه أبو عبد الرحمن السّلمي في كتاب «آداب الصّحبة» له؛ عن عقبة بن عامر رفعه، وفي سنده ضعف أو انقطاع، ورواه غيره أيضا كابن عساكر؛ من حديث ابن عبّاس؛ عن جرير مرفوعا، وأبو نعيم في «الحلية» بسند ضعيف جدّا مع انقطاعه؛ عن أنس رفعه بلفظ: «ويح الخادم في الدّنيا! سيّد القوم في الآخرة!» . والحاكم في «تاريخه» . ومن طريقه البيهقي والدّيلمي؛ عن سهل بن سعد رفعه: «سيّد القوم في السّفر خادمهم، فمن سبقهم لخدمة لم يسبقوه بعمل إلّا الشّهادة» . وعزاه الديلميّ للتّرمذيّ وابن ماجه؛ عن أبي قتادة فوهم؛ أفاده السّخاوي. انتهى زرقاني على «المواهب» . 140- ( «السّيوف) ؛ أي: سيوف الغزاة في سبيل الله (مفاتيح الجنّة» ) ؛ أي: سبب لفتح الجنّة يوم القيامة والدّخول فيها، ومعناه: أنّ الضّرب بها ينتج دخول الجنّة مع السّابقين؛ لأنّ أبواب الجنّة مغلقة لا يفتحها إلّا الطّاعة؛ والجهاد من أعظمها. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: أخرجه أبو بكر الشّافعي في كتاب «الغيلانيّات» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن يزيد بن شجرة الرّهاوي؛ صحابيّ مشهور من أمراء معاوية، وفي سنده بقيّة «1» !. وأخرجه أيضا الحاكم في «المستدرك» عن يزيد المذكور؛ قاله المناوي.   (1) ابن الوليد: علم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 [ (حرف الشّين) ] (حرف الشّين) 141- «الشّاهد.. يرى ما لا يرى الغائب» . (حرف الشّين) 141- ( «الشّاهد) ؛ أي: الحاضر (يرى ما لا يرى الغائب» ) . قال ابن جرير: أراد رؤية القلب لا العين. أي: الشّاهد للأمر يتبيّن له من الرّأي والنّظر فيه ما لا يظهر للغائب؛ لأنّ الشّاهد للأمر يتّضح له ما لا يتّضح للغائب عنه! فمعه زيادة علم. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «الكشف» ، وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن علي قال: قلت: يا رسول الله، إذا بعثتني أكون لأمرك كالسّكّة المحمّاة، أو الشّاهد يرى ما لا يرى الغائب، قال: «بل الشّاهد ... الخ» .. ورواه الضّياء في «المختارة» ، والعسكري في «الأمثال» ، وأبو نعيم؛ عن علي. ورواه العسكريّ أيضا؛ عن ابن مسعود، ورواه القضاعي بسند فيه ابن لهيعة؛ عن أنس مرفوعا. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 [ (حرف الصّاد) ] (حرف الصّاد) 142- «الصّبر.. خير مركب» . 143- «الصّبر.. مفتاح الفرج، والزّهد.. غنى الأبد» . (حرف الصّاد) 142- ( «الصّبر خير مركب» ) يوصل إلى المقصود، يوصل إلى المقصود، فالتّحقّق بالصّبر يفتح باب الوصول إلى الله تعالى، وينتج النّجاح وحسن العواقب، ثمّ هذا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النّفوس والأموال ومشاقّ التّكليف، ومقيّد بما إذا صبر ابتغاء وجه الله تعالى؛ لا ليقال: «ما أصبره وأحمله للنّوازل وأوقره عند الزّلازل» ! ولا لئلّا يعاب بالجزع! ولا لئلّا يشمت به الأعداء! كقوله «1» : وتجلّدي للشّامتين، أريهم ... أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «مسند الفردوس» . 143- ( «الصّبر) على المكروه، وترك الشّكاية (مفتاح الفرج) ؛ أي: سبب في حصول الفرج من الله، فإن النّصر مع الصّبر، والفرج مع الكرب، وهذا حيث لا مخلص ولا مفزع إلا بالصّبر. أما من جعل الله له إلى الخلاص طريقا!! فليسلكها متوكّلا على الله أن يؤدّيه ذلك إلى الخلاص ممّا هو فيه؛ ألا ترى أنّ الأسير لو أمكنه الانفلات من الكفّار فعليه الانفلات. ويتوكّل على الله!؟ وكذا نحو المحبوس على ظلم؛ إذا أمكنه الهرب لزمه ذلك. ولا يقال له: اصبر؛ فالصّبر مفتاح الفرج!. (والزّهد) الّذي هو خلوّ القلب من الدّنيا (غنى الأبد» ) ؛ لأنّه يتفرغ لعمارة   (1) الشاعر أبو ذؤيب الهذلي رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 144- «الصّلاة.. عماد الدّين» . وقته، ويجتمع قلبه على ما هو بصدده من الاشتغال بعبادة الله، ويتعلّق قلبه بالله عز وجل في جميع الأوقات. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي، وذكره في «الكشف» ؛ وقال: رواه الديلمي بلا إسناد؛ عن الحسين بن علي مرفوعا. ورواه القضاعي عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: «انتظار الفرج بالصّبر عبادة» ، ورواه ابن أبي الدّنيا في «الفرج بعد الشّدّة» ، وأبو سعيد الماليني؛ عن ابن عمر، بلفظ: «انتظار الفرج عبادة» . انتهى. 144- ( «الصّلاة عماد الدّين» ) ؛ أي: أصله وأسّه، وهي أمّ العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة ربّ العالمين، وفيها أسرار لأجلها كانت عمادا، منها: ما فيها من التّواضع بالمثول قائما بالرّكوع والسّجود، وهي خدمة الله في الأرض، والملوك لا تخدم بالكسل والتّهاون!! بل بالجدّ والتّذلّل؛ فلذلك كانت عمادا. ولذا كان سعيد بن المسيّب دائم الإقبال على الصّلاة، حتّى قيل فيه «لو قيل له: إنّ جهنم لتسعر لك وحدك» ما قدر على أن يزيد في عمله شيئا! وكان يقول لنفسه إذا دخل اللّيل: «قومي إلى خدمة ربّك؛ يا مأوى كلّ شرّ، تريدين أن تغافلي بالنّهار وتنامي باللّيل!! والله لأدعنّك تزحفي زحف البعير» فيصبح وقدماه منتفختان؛ وصلّى رضي الله عنه الصّبح بوضوء العشاء خمسين سنة. وكان ثابت البنانيّ يقوم اللّيل كلّه خمسين سنة، فإذا جاء السّحر قال: اللهمّ إن كنت أعطيت أحدا أن يصلّي في قبره فأعطني ذلك. فلمّا مات وسدّوا لحده وقعت لبنة؛ فإذا هو قائم يصلّي حالا! وشهد ذلك من حضر جنازته. وكان يقول: الصّلاة خدمة لله في الأرض، ولو كان شيء أفضل منها لما قال تعالى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [39/ آل عمران] . انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 145- «الصّلاة.. مفتاح كلّ خير، والنّبيذ.. مفتاح كلّ شرّ» . 146- «صوموا.. تصحّوا» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عمر بن الخطّاب، ثمّ قال البيهقي: عكرمة لم يسمع من عمر!! قال: وأظنّ عن ابن عمر. قال الحافظ العراقي في حاشية «الكشاف» : فيه ضعيف وانقطاع. ولم يقف عليه ابن الصّلاح؛ فقال في «مشكل الوسيط» : إنّه غير معروف. وقول النّوويّ في «التنقيح» حديث منكر باطل! رده ابن حجر، وشنّع. وأخرجه أيضا الديلمي في «مسند الفردوس» من حديث علي. انتهى مناوي على «الجامع» . وذكره في «كشف الخفاء» ، وأطال في ذكر مخرّجيه، فراجعه. 145- ( «الصّلاة مفتاح كلّ خير) يحصل للعبد، (والنّبيذ مفتاح كلّ شرّ» ) ؛ أي: أصله ومنبعه؛ والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا برمز الإمام أحمد، وذكره في «كشف الخفاء» ، وقال: رواه الدّيلمي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. 146- ( «صوموا تصحّوا» ) من الأمراض، لما ورد: «المعدة بيت الدّاء، والحمية رأس الدّواء» . والصّوم أعظم حمية؛ لأنّه يخلي الجوف من العفونات، وهذا فيمن يتناول عند فطوره وسحوره اللائق!! أمّا من يخلط ويأكل عند ذلك قدر ما يأكله وهو مفطر أو أكثر!! فلا تحصل له الصّحة؛ لوجود العفونات في جوفه. وقد أجمع مجرّبة أعمال الدّيانة من: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ [52/ الأنعام] ؛ على أنّ مفتاح الهدى والصّحّة: الجوع؛ لأنّ الأعضاء إذا وهنت لله نوّر الله القلب، وصفّى النّفس، وقوّى الجسم؛ ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة هي لأوليائه أجل في القوى من عادته في الدّنيا لعامّة خلقه. انتهى من شروح «الجامع الصغير» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 ......... والحديث ذكره في «الجامع» ، وقال: أخرجه ابن السّنّي وأبو نعيم معا في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال الزّين العراقي: كلاهما سنده ضعيف. وذكره في «كشف الخفاء» بلفظ: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحّوا، واغزوا تغنموا» . وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا. ورواه الطّبرانيّ بلفظ: «اغزوا تغنموا، وصوموا تصحّوا، وسافروا تستغنوا» . وفي رواية لابن نجيب: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحّوا، واغزو تغنموا» . وللطّبراني، والحاكم؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «سافروا تصحّوا وتغنموا» . وبهذا اللّفظ رواه أيضا القضاعي، والطّبراني؛ عن ابن عمر رفعه. ورواه أبو نعيم في «الطب» أيضا؛ عن ابن عمر رفعه بلفظ: «سافروا تصحّوا وتسلموا» . ورواه أيضا؛ عن أبي سعيد الخدري رفعه: «سافروا تصحّوا» . ومثله في «الدرر» معزوّا لأحمد؛ عن أبي هريرة، والطّبراني؛ عن ابن عباس، والقضاعي؛ عن ابن عمر. وعزاه في «الّلآلي» ل «مسند أحمد» ؛ عن أبي هريرة بلفظ: «سافروا تصحّوا، واغزوا تغنموا» . انتهى بحذف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 [ (حرف الضّاد) ] (حرف الضّاد) 147- «ضالّة المؤمن.. العلم» . (حرف الضّاد) 147- ( «ضالّة المؤمن) ؛ الكامل الإيمان (العلم» ) ؛ يعني: يسعى في تحصيله كما يسعى صاحب الضّالّة في تحصيلها؛ شبهّه بالضّالّة بجامع الحفظ والتّقييد في كلّ. وتمام الحديث: «كلّما قيّد حديثا طلب إليه آخر» . ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن عليّ أمير المؤمنين، وأخرجه أبو نعيم وابن لال أيضا. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . وقد تقدم: «الحكمة ضالّة المؤمن» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 [ (حرف الطّاء) ] (حرف الطّاء) 148- «طاعة المرأة.. ندامة» . 149- «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» . (حرف الطّاء) 148- ( «طاعة المرأة ندامة» ) ؛ لنقصان عقلها ودينها، وتقصير رأيها، والنّاقص لا ينبغي طاعته إلّا فيما أمنت غائلته وهان أمره، فإنّ أكثر ما يفسد الملك والدّول طاعة النّساء، ولهذا قال عمر- فيما رواه العسكري-: خالفوا النّساء، فإنّ في خلافهنّ البركة. قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلّا أمّ سلمة في صلح الحديبية. انتهى. واستدرك عليه ابنة شعيب في أمر موسى. انتهى. وأمّا ما اشتهر على الألسنة من خبر «شاوروهنّ وخالفوهنّ» !! فلا أصل له. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن عدي؛ عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه. قال الحفني: وهذا الحديث قد تكلّم فيه بالوضع. انتهى. 149- ( «طوبى) - تأنيث أطيب، أي: راحة وطيب عيش (لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» ) ؛ فلم يشتغل بها، فعلى العاقل أن يتدبّر في عيوب نفسه، فإن وجد بها عيبا! اشتغل بعيب نفسه، فيستحي من أن يترك نفسه ويذمّ غيره، بل يعلم أنّ عجز غيره عن نفسه في التنزّه عن ذلك العيب كعجزه، هذا إن كان ذلك عيبا يتعلّق بفعله واختياره، فإن كان خلقيا! فالذّمّ له ذمّ للخالق. فإنّ من ذمّ صنعة فقد ذمّ صانعها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 150- «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» . وإذا لم يجد بنفسه عيبا! فليعلم أن ظنّه بنفسه أنّه عري من كلّ عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم العيوب. ومن علامة بعد العبد عن حضرة ربّه نسيان عيوبه ونقائصه؛ وذلك لأنّ حضرة الحقّ نور، وشأن النّور أن يكشف عن الأشياء بخلاف الظلام!! والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «كشف الخفاء» وقالا: رواه الدّيلمي؛ عن أنس مرفوعا، وتمامه: «وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السّنّة؛ ولم يعدل عنها إلى البدعة» . ورواه العسكريّ عنه أيضا، وعدّه من الحكم والأمثال. ورواه أيضا أبو نعيم من حديث الحسين بن علي، قال الحافظ العراقي: وكلّها ضعيفة، قال في التمييز: وأخرجه البزّار؛ عن أنس مرفوعا بإسناد حسن. انتهى. 150- ( «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» ) . قاله جوابا لمن سأل: أيّ النّاس خير؟ و «طوبى» كلمة إنشاء؛ لأنّها دعاء، معناها: أصاب الخير من طال عمره وحسن عمله. وكان الظّاهر أن يجاب بقوله «من طال» . فالجواب من الأسلوب الحكيم؛ أي: غير خاف أنّ خير النّاس من طال عمره وحسن عمله. قال القاضي: لما كان السّؤال عمّا هو غيب لا يعلمه إلّا الله؛ عدل عن الجواب إلى كلام مبتدأ، ليشعر بأمارات تدلّ على المسؤول عنه؛ وهو طول العمر مع حسن العمل، فإنّه يدلّ على سعادة الدّارين والفوز بالحسنيين. قال الإمام علي بن أبي طالب: موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربّه خير من موته طفلا بلا حساب في الآخرة. ذكره الطيبي. انتهى مناوي؛ على «الجامع» . قال العجلوني في «كشف الخفاء» : ومفهوم الحديث أنّ شرّ النّاس من طال عمره وقبح عمله، وهو كذلك. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» في «كتاب المرضى» أحاديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 ......... تدلّ للأمرين، وجمع بينهما باختلاف الحالين. وقلت في ذلك: طول الحياة حميدة ... إن راقب الرّحمن عبده وبضدّه فالموت خي ... ر والسّعيد أتاه رشده انتهى. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطبراني في «الكبير» ، وأبي نعيم في «الحلية» بسند فيه بقيّة! عن عبد الله بن بسر مرفوعا. وفي العزيزي: إنّ إسناده حسن. وأخرجه التّرمذي؛ عن أبي بكر بلفظ: «خير النّاس من طال عمره وحسن عمله» . وقال: حسن صحيح. انتهى «كشف الخفاء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 [ (حرف الظّاء) ] (حرف الظّاء) 151- «ظهر المؤمن.. حمى؛ إلّا بحقّه» . (حرف الظّاء) 151- ( «ظهر المؤمن) ، وكذا جميع بدنه (حمى) ؛ أي: محميّ معصوم من الإيذاء (إلا بحقّه» ) ؛ أي: حقّ الله، أو بحقّه؛ أي: المؤمن، أي: الحقّ المتوجّه عليه من حدّ أو تعزير أو تأديب معلّم، فيحرم ضرب المسلم بغير حقّ، وقد عدّ ذلك كبيرة. وكذا يحرم ضرب أهل الذّمّة؛ لكن إثم ضرب أهل الذّمة دون إثم ضرب المؤمن. وهذا الحديث له شاهد خرّجه أبو الشّيخ، والعسكري في «الأمثال» ؛ عن عائشة بلفظ: «ظهر المؤمن حمى إلّا في حدّ من حدود الله» . نظير المعاصي حمى الله. والمعنى: لا يضرب ظهره إلا في حدّ من الحدود. والحديث المذكور في المتن ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ، وكذا الدّيلمي؛ عن عصمة بن مالك الخطمي الأنصاري رضي الله عنه وجزم المنذري بضعفه. انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 [ (حرف العين) ] (حرف العين) 152- «العدة.. دين» . (حرف العين) 152- ( «العدة دين» ) ؛ أي: هي في مكارم الأخلاق كالدّين الواجب أداؤه في لزوم الوفاء، فيكره الخلف في الوعد بلا عذر، لما ورد فيه من التّشديد والحثّ على الوفاء بالوعد؛ وإن كان مندوبا. فمن ذلك: ما رواه الطّبراني في «الأوسط» وغيره؛ عن علي أمير المؤمنين. ولفظه: «العدة دين، ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل ثمّ ويل له» فالمخلف يستوجب بالمنع لوم الخلف، ومقت الغادر، وهجنة الكذوب. وقد أثنى الله على إسماعيل عليه الصّلاة والسّلام بأنّه كان صادق الوعد. قال الشّاعر: لسانك أحلى من جنى النّحل وعده ... وكفّاك بالمعروف أضيق من قفل تمنّى الّذي يأتيك حتّى إذا انتهى ... إلى أمد ناولته طرف الحبل وقال كعب: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل وقال آخر: وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب وقال النّجم الغزّي: وممّا كتبته لبعضهم مستجيزا: قد وعدتم بالجميل أنجزوا ... ما وعدتم فنجاز الوعد زين في حديث قد روينا لفظه ... عن ثقات العلماء: «الوعد دين» والحديث ذكره في «كشف الخفاء» وقال: رواه القضاعي بلفظ التّرجمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 153- «العزلة.. سلامة» . فقط، ورواه الطّبراني في «الأوسط» والقضاعي وغيرهما؛ عن ابن مسعود بلفظ: قال: لا يعد أحدكم صبيّه ثمّ لا ينجز له، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «العدة دين» . ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيّه فلينجز له، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره بلفظ: «العدة عطيّة» . ورواه البخاريّ في «الأدب المفرد» موقوفا، ورواه الطبراني والدّيلمي؛ عن عليّ مرفوعا بلفظ: «العدة دين، ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل له- ثلاثا-» . وللدّيلمي أيضا بلفظ: «الوعد بالعدة مثل الدّين أو أشدّ» ؛ أي: وعد الواعد، وفي لفظ له: «عدة المؤمن دين، وعدة المؤمن كالأخذ باليد» . انتهى ملخصا. 153- (العزلة سلامة) ؛ في الدّين والدّنيا، والسّلامة هي رأس المال، وقد قيل: لا يعدل بالسّلامة شيء. وفيه حثّ على إيثار العزلة إذا تعذّرت صحبة الصّالحين، وحجة لمن فضّل العزلة، وقد ترجم البخاريّ «باب: العزلة راحة من خلّاط السّوء» . وذكر حديث أبي سعيد رفعه: «ورجل في شعب من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه» ؛ وأخرج ابن المبارك؛ عن عمر: خذوا حظّكم من العزلة. وما أحسن قول الجنيد «مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطاء» . قال الغزالي: عليك بالتفرّد عن الخلق؛ لأنّهم يشغلونك عن العبادة. وما أحسن ما قيل: أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السّرور وأدّبني الزّمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور فلست بسائل ما دمت يوما ... أسار الجيش أم قدم الأمير! وفي «إتمام الدّراية لقراء النّقاية» للحافظ جلال الدين السّيوطي رحمه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 154- «العرق.. دسّاس» . تعالى: ومخالطة النّاس وتحمّل أذاهم أفضل من اعتزالهم. قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم خير من الّذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم» . رواه البخاري في «الأدب المفرد» ، وغيره. وهو- أي: اعتزالهم- أفضل حيث خاف الفتنة في دينه بموافقتهم على ما هم عليه، وعليه يحمل حديث عقبة السّابق: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك» . وحديث البخاري: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» . انتهى ملخصا. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «مسند الفردوس» . 154- ( «العرق دسّاس» ) ؛ أي: دخّال- بالتّشديد- لأنّه ينزع في خفاء ولطف، يقال: دسست الشّيء إذا أخفيته وأخملته، ومنه وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) [الشمس] أي: أخمل نفسه وأبخس حظّها، وقيل: معنى دسّاس: خفيّ قليل، وكل من أخفيته وقلّلته فقد دسسته. والمعنى: أنّ الرجل إذا تزوّج في منبت صالح يجيء الولد يشبه أهل الزّوجة في العمل والأخلاق ونحوهما، وعكسه بعكسه، فعلى العاقل أن يتخيّر لنطفته ولا يضعها إلّا في أصل أصيل، وعنصر طاهر، فإنّ الولد فيه عرق ينزع إلى أمّه، فهو تابع لها في الأخلاق والطّباع. انتهى مناوي على «الجامع» . فمن أراد التزوّج بامرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها؛ فإنّها تأتيه بأحدهما؛ لأنّ الخلال تتبع الخال، فينبغي التزوّج بأصيلة النّسب؛ تباعدا بأولاده عن المنبت السّوء، وتقدم حديث: «إيّاكم وخضراء الدّمن» . ولله درّ من قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 155- «عفو الملوك.. أبقى للملك» . 156- «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» . لا تنكحنّ سوى كريمة معشر ... فالعرق دسّاس من الطرفين أو ما ترى أنّ النّتيجة دائما ... تبع الأخسّ من المقدّمتين والحديث ذكره العجلوني في «الكشف» ، وقال: رواه الدّيلميّ والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ كلاهما عن ابن عباس مرفوعا في حديث أوّله: «النّاس معادن، والعرق دسّاس، وأدب السّوء كعرق السّوء» . وللمديني في كتاب «تضييع العمر والأيام في اصطناع المعروف إلى اللّئام» عن أنس بلفظ: «تزوّجوا في الحجز الصالح فإنّ العرق دسّاس» ذكره النجم الغزي. انتهى. ونحو ذلك في «الجامع الصغير» ، ورمز للحديث الأخير برمز ابن عدي عن أنس. قال المناوي ورواه- يعني الحديث الأخير- الدّيلميّ في «مسند الفردوس» والمديني في كتاب «تضييع العمر» ؛ عن ابن عمر وزاد: «وانظر في أيّ نصاب تضع ولدك» ! قال الحافظ العراقيّ: وكلّها ضعيفة. 155- ( «عفو الملوك) - بضم الميم؛ جمع «ملك» بفتح الميم وكسر اللام- (أبقى) - بالموحدة والقاف- (للملك» ) ؛ أي: أدوم وأثبت، ويمدّ في العمر أيضا؛ كما في حديث الحكيم؛ أي: يبارك فيه بصرفه في الطاعات؛ فكأنّه زاد، وأفاد بمفهومه أنّ التّسارع إلى العقوبة لا يطول معه الملك. قيل: وهذا مجرّب، انتهى «عزيزي» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: أخرجه الرافعيّ في «تاريخ قزوين» ؛ عن علي أمير المؤمنين كرم الله وجهه. آمين. 156- ( «على اليد) ؛ أي: على صاحبها ضمان (ما) - أي: الّذي- (أخذت) ؛ أي: أخذته اليد (حتّى تؤدّيه» ) إلى صاحبه، فحينئذ تبرأ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 157- «العين.. حقّ» . الضمان، والإسناد إلى اليد على المبالغة لأنّها هي المتصرّفة، فمن أخذ مال غيره بغصب أو عاريّة أو نحو ذلك! لزمه ردّه إلى مالكه إن كان باقيا، وإن تلف! لزمه ردّ بدله، وأخذ بظاهره المالكيّة، فضمّنوا الأجراء مطلقا. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «الكشف» وقالا: أخرجه الإمام أحمد، والأربعة، والحاكم بهذا اللفظ، ولفظ أبي داود والترمذي «حتّى تؤدّي» بدون الهاء؛ وكلهم رووه عن الحسن البصريّ، عن سمرة مرفوعا. قال: في «التمييز» : وصحّحه الحاكم وحسّنه الترمذي. والحسن البصري راويه عن سمرة مختلف في سماعه منه!! وزاد فيه أكثرهم: ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه. انتهى. 157- ( «العين حقّ» ) ؛ يعني: الضرر الحاصل عنها حقّ، أي: ثابت وجوديّ مقضيّ به في الوضع الإلهي، لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال. هذا قول عامة الأمة ومذهب أهل السّنّة. وأنكره قوم مبتدعة!! وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود، فكم من رجل أدخلته العين القبر!! وكم من جمل أدخلته القدر!! لكنه بمشيئة الله تعالى، ولا يلتفت إلى معرض عن الشّرع والعقل تمسكا باستبعاد لا أصل له! فإنّا نشاهد من خواصّ الأحجار وتأثير السّحر ما يقضي معه العجب، وتحقق أنّ ذلك فعل مسبّب الأسباب. وقرّب ذلك بالمرأة الحائض؛ تضع يدها في إناء اللّبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد!! وتدخل البستان فتضرّ بكثير من العروش بغير مسّ! والصحيح ينظر إلى الأرمد فقد يرمد!! ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو! وقد ذكروا أنّ جنسا من الأفاعي إذا وقع بصره على الإنسان هلك! وحينئذ فالعين قد تكون من سمّ يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 ......... وقد أجرى الله عادته بوجود كثير من القوى والخواصّ والأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيحدث في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل. وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وذلك بواسطة ما خلق الله في الأرواح من التأثيرات. ولشدّة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة!! إنّما التأثير للرّوح، والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصها. فمنها ما يؤثّر في البدن بمجرّد الرؤية بغير اتصال، ومنها ما يؤثّر بالمقابلة، ومنها ما يؤثر بتوجه الروح؛ كأحاديث من الأدعية والرّقى والالتجاء إلى الله، ومنها ما يقع بالتوهّم والتخييل. فالخارج من عين العائن سهم معنوي؛ إن صادف البدن ولا وقاية؛ لأثّر فيه، وإلا، فلا، كالسّهم الحسّي. وقد يرجع على العائن. وقد اختلف في جريان القصاص في القتل بالعين!! فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص؛ أو الدّية إذا تكرّر ذلك منه بحيث يصير عادة. ومنع الشّافعيّة القصاص في ذلك؛ وقال النّوويّ في «الرّوضة» : ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأنّ الحكم إنّما يترتّب على منضبط عامّ؛ دون ما يختصّ ببعض النّاس في بعض الأحوال ممّا لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا!؟ ثمّ قال: قال القاضي: في هذا الحديث من الفقه ما قاله بعض العلماء: أنّه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويحترز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة النّاس ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرا!! رزقه ما يكفيه، ويكفّ أذاه عن النّاس. انتهى. شروح «الجامع الصغير» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 ......... وقد ورد الشّرع بالاستغسال للعين، في حديث سهل بن حنيف لمّا أصيب بالعين فأمر النّبي صلى الله عليه وسلم عائنه بالاغتسال. وصفته أن العائن يغتسل في قدح من ماء؛ يدخل يده فيه، فيمضمض ويمجّه في القدح، ويغسل وجهه فيه، ثمّ يصبّ بيده اليسرى على كفّه اليمنى، ثمّ باليمنى على كفّه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليسرى فيصبّ بها على مرفق يده اليمنى، ثمّ بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثمّ يغسل قدمه اليمنى، ثمّ يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيغسل الركبتين، ثمّ يأخذ داخلة إزاره، فيصبّ على رأسه صبّة واحدة، ويضع القدح حين يفرغ. هكذا رواه ابن أبي ذئب؛ عن الزّهري عند ابن أبي شيبة. وهو أحسن ما فسّر به؛ لأن الزّهري رواي الحديث. وزاد ابن حبيب في قول الزّهري هذا: يصبّ من خلفه صبّة واحدة يجري على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه المذكورة كلها وداخلة الإزار في القدح. قال الزّهري: هذا من العلم. وأخبر أنّه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه العلماء، ومضى به العمل. وجاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثله؛ إلّا أنّ فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، وفيه غسل القدمين أنّه لا يغسل جميعهما، وإنّما قال: ثمّ يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى عند أصول أصابعه. واليسرى كذلك، وهو أقرب لقول الحديث: وأطراف رجليه. وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النّظرة، أمّا عند الإصابة به وقبل الاستحكام! فقد أرشد الشارع إلى دفعه بقوله «ألا برّكت!!» أي: دعوت له بالبركة؛ بأن تقول: «ما شاء الله، تبارك الله» ، أو «اللهمّ بارك فيه ولا تضرّه» . واختلف العلماء في العائن؛ هل يجبر على هذا الغسل للمعين، أم لا؟ احتجّ من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلّم في رواية «مسلم» : «وإذا استغسلتم فاغسلوا» . وبرواية «الموطّأ» أمره بالوضوء؛ والأمر للوجوب. قال المازري: والصّحيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 ......... عندي الوجوب، ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك. انتهى. فواجب على العائن الغسل. والحديث أخرجه الإمام أحمد، والشّيخان، وأبو داود، والنّسائي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ وابن ماجه، عن عامر بن ربيعة؛ وفي رواية لأحمد؛ عن أبي هريرة أيضا بزيادة: «ويحضرها الشّيطان، وحسد ابن آدم» . قال الهيثميّ: رجاله رجال الصّحيح. وأخرجه الإمام أحمد، ومسلم في «الطّب» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بزيادة: «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» . وأخرجه الإمام أحمد، والطّبراني في «الكبير» ، والحاكم في «الطّب» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بزيادة: «تستنزل الحالق» ، أي: الجبل العالي. وقال الحاكم: صحيح. وأقرّه الذّهبي. انتهى من «كشف الخفاء» و «الجامع الصغير» وشرحه. فائدة: أخرج ابن السّنّي والبزّار؛ عن أنس رفعه: «من رأى شيئا فأعجبه؛ فقال «ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله» ؛ لم يضرّه» . وفي لفظ: «لم تضرّه العين» . وأخرج ابن عساكر أنّ سعيدا السّاجيّ من كراماته أنّه قيل له: احفظ ناقتك من فلان العائن، فقال: لا سبيل له عليها، فعانها، فسقطت تضطرب؛ فأخبر السّاجي، فوقف عليه؛ فقال: باسم الله، حبس حابس، وشهاب قابس، رددتّ عين العائن عليه، وعلى أحبّ النّاس إليه، وعلى كبده وكلوتيه وشيق، وفي ماله يليق، تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك] . فخرجت حدقة العائن وسلمت النّاقة. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 [ (حرف الغين) ] (حرف الغين) 168- «الغنى.. غنى النّفس، والفقر.. فقر النّفس» . (حرف الغين) 158- ( «الغنى) - بكسر الغين، والقصر-: ضد الفقر (غنى النّفس) ؛ أي: ليس الغنى الحقيقي هو كثرة العرض والمال، بل هو غنى النّفس وقنعها بما قسم لها، فيستغني بما حصل له، لعلمه بأنّه لم يتغيّر، فهذا هو الغنى المحمود المعتبر. (والفقر فقر النّفس» ) ؛ لأنّه كلّما حصل على شيء طلب غيره ... وهلمّ جرّا، فنفسه فقيرة أبدا حتى يجذبه ملك الموت بخياشيمه، ويقبض روحه من جسده وهو على تلك الحالة الخبيثة الرّديئة، من غير استعداد للموت ولا تأهّب له، فكان كالّذي يأكل ولا يشبع. والحديث أخرجه الدّيلمي بلا سند؛ عن أنس رفعه، ورواه العسكري؛ عن أبي ذرّ، في حديث أوّله: «يا أبا ذرّ؛ أترى أنّ كثرة المال هو الغنى!! إنّما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب» . وفي النّجم: وروى النّسائي وابن حبّان وابن عساكر؛ عن أبي ذرّ: «يا أبا ذرّ؛ أترى كثرة المال هو الغنى!! إنّما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه؛ فلا يضرّه ما لقي من الدّنيا، ومن كان فقره في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدّنيا، وإنّما يضرّ نفسه شحّها» . انتهى. وصدر الحديث رواه البخاريّ ومسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا. انتهى «كشف الخفاء» للعجلوني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 [ (حرف الفاء) ] (حرف الفاء) 159- «الفتنة.. نائمة، لعن الله من أيقظها» . 160- «فعل المعروف.. يقي مصارع السّوء» . (حرف الفاء) 159- ( «الفتنة) ؛ المحنة، وكلّ ما يشقّ على الإنسان، وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة. قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [35/ الأنبياء] ؛ كذا في «الكشّاف» . وقال ابن القيّم: الفتنة نوعان: 1- فتنة الشّبهات، وهي العظمى، و 2- فتنة الشّهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما. انتهى مناوي على «الجامع» . وفي «الحفني» : الفتنة هي ما يحصل به ضرر للعبد في دينه أو دنياه. (نائمة) ؛ ساكنة (لعن) ؛ أي: أبعد (الله) عن رحمته (من أيقظها» ) ؛ أي: أثارها، وذلك كأن يلقي المبتدع شبهة على المسلمين، وكأن يقول شخص لطائفة: إنّ عدوّكم فلان يريد قتالكم؛ ليحرّكهم للقتال! من غير أصل، وهكذا. انتهى «حفني» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «كشف الخفا» وقالا: أخرجه الرّافعي الإمام؛ عن أنس رضي الله عنه، ورواه عنه الدّيلمي، لكن بيّض ولده لسنده، وعند نعيم بن حماد في «كتاب الفتن» ؛ عن ابن عمر بلفظ: «إنّ الفتنة راتعة في بلاد الله، تطأ في خطامها؛ لا يحلّ لأحد أن يوقظها، ويل لمن أخذ بخطامها» . انتهى. 160- ( «فعل المعروف) في الدّنيا (يقي مصارع السّوء» ) ؛ أي: الوقوع في الهلكات في الدّنيا والآخرة. قال العامري: المعروف هنا يعود إلى مكارم الأخلاق مع الخلق؛ كالبرّ والمواساة بالمال، والتعهّد في مهمات الأحوال؛ كسدّ خلّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 161- «في كلّ ذات كبد حرّى.. أجر» . وإغاثة ملهوف وتفريج مكروب، وإنقاذ محترم من محذور، فيجازيه الله من جنس فعله؛ بأن يقيه مثلها، أو المعنى: يقيه مصارع السّوء عند الموت. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . والحديث أخرجه أبو بكر بن أبي الدّنيا في كتاب فضل قضاء الحوائج للناس؛ عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه القضاعي في «الشهاب» . 161- ( «في كلّ) ؛ أي: في إرواء كلّ (ذات كبد) - بفتح فكسر- (حرّى) بالقصر؛ ك «عطشى» - من الحرّ، وهو تأنيث: حرّان، وهي للمبالغة. وأنّثها!! لأنّ الكبد مؤنّث سماعي؛ يريد أنّها لشدّة حرّها قد عطشت ويبست من العطش، والمراد حرارة الحياة، وفي رواية: «كلّ كبد رطبة» ، أي: حيّة، يعني رطوبة الحياة، والمعنى: أنّ في سقي كلّ ذي كبد حرّى (أجر» ) عام مخصوص بحيوان محترم، وهو ما لم يؤمر بقتله. فيحصل الثّواب بسقيه، ويلحق به إطعامه) وغير ذلك من وجوه الإحسان. وقال بعضهم: لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني فيسقى ثمّ يقتل؛ لأنّا أمرنا بأن نحسن القتلة، ونهينا عن المثلة. انتهى شروح «الجامع الصغير» . والحديث أخرجه البخاريّ ومسلم؛ عن أبي هريرة مرفوعا؛ البخاريّ في «بدء الخلق وفي باب الآبار» ، بلفظ: «في كلّ ذات كبد رطبة أجر» في ذيل حديث المومسة؛ ومسلم في «الحيوان» ؛ عنه كمثل معناه. وذكره في «الجامع» بلفظ المصنّف مرموزا له برمز الإمام أحمد وابن ماجه؛ عن سراقة بن مالك، والإمام أحمد؛ عن ابن عمرو بن العاصي. وسببه كما في «مسند أبي يعلى» قيل: يا رسول الله، الضّوالّ ترد علينا، هل لنا أجر إن نسقيها!؟ قال: «نعم..» ثمّ ذكره. انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 [ (حرف القاف) ] (حرف القاف) 162- «القريب.. من قرّبته المودّة، وإن بعد نسبه» . 163- «قل: آمنت بالله.. ثمّ استقم» . (حرف القاف) 162- ( «القريب من قرّبته المودّة وإن بعد نسبه» ) ؛ أي: ليس القريب من كان قريبا في النّسب، بل القريب حقيقة: من قرّبته المودّة والمحبّة؛ بأن كان ودودا لك وحبيبا وصديقا، فذلك هو القريب حقيقة، وإن كان بعيدا عنك في النّسب، ف «ربّ أخ لك لم تلده أمّك» . وأصل القرب الأمانة، فمن كان متّصفا بها فهو الّذي يحبّه النّاس ويقرّبونه، وأصل البعد: الخيانة، فمن اتّصف بها. فهو الّذي يفرّ النّاس منه، كالجمل الأجرب، وإن كان أقرب قريب في النّسب!! وهذا مشاهد معلوم. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «الفردوس» . 163- ( «قل آمنت بالله) ؛ أي: جدّد إيمانك بالله ذكرا بقلبك ونطقا بلسانك. (ثمّ استقم» ) ؛ أي: الزم عمل الطّاعات والانتهاء عن المنهيّات، يحصل لك كلّ خير دنيوي وأخروي. وانتزع هاتين الجملتين من آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [30/ فصلت] وهذا من بدائع جوامع الكلم؛ فقد جمعتا جميع معاني الإيمان والإسلام؛ اعتقادا وقولا وعملا، إذ الإسلام توحيد، وهو حاصل بالجملة الأولى، والطّاعة بسائر أنواعها في ضمن الثّانية؛ إذ الاستقامة امتثال كلّ مأمور وتجنّب كلّ منهي، وعرّفها بعضهم بأنّها المتابعة للسنن المحمّديّة مع التّخلّق بالأخلاق المرضيّة. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «الكشف» وقال: أخرجه الإمام أحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 164- «قلّة العيال.. أحد اليسارين» . ومسلم والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه؛ عن سفيان بن عبد الله الثّقفي الطّائفي قال: قلت: يا رسول الله؛ قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، فذكره. وفي ابن ماجه قال: قلت: يا رسول الله؛ حدّثني بأمر أعتصم به، قال: «قل: ربّي الله، ثمّ استقم» . وزاد التّرمذي: قلت: يا رسول الله؛ ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال: «هذا!» . وأخذ بلسانه. 164- ( «قلّة العيال أحد اليسارين» ) ؛ لأنّ الغنى نوعان: 1- غنى بالشيء؛ أي: بالمال؛ بأن يكون عنده ما يكفيه ويكفي عياله. و2- غنى عن الشّيء؛ بأن لا يكون عنده عيال يحوجونه إلى السّعي وطلب الدّنيا. وهذا هو الغنى الحقيقي، فقلّة العيال لا حاجة معها إلى كثرة المؤن. وقيل: اليسار خفض العيش؛ أي: سعته والراحة فيه، وزيادة الدّخل على الخرج، أو وفاء الدّخل بالخرج، فمن كثر عياله ودخله وفضل له من دخله، أو وفي دخله بخرجه، أو قلّ عياله ودخله وفضل أو وفى!! فهو في يسر، ومن قلّ دخله وكثر عياله!! ففي عسر. انتهى شرح «الجامع الصغير» ، وشرح «المواهب» . والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» ، وقال: رواه القضاعي في «مسند الشّهاب» ؛ عن علي، «أمير المؤمنين» ؛ والدّيلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنهما. انتهى وفي «المقاصد» : حديث: «قلّة العيال أحد اليسارين، وكثرته أحد الفقرين» . القضاعي؛ عن علي، والدّيلمي؛ عن غيره، بالشّطر الأوّل مرفوعا بسندين ضعيفين. وذكره في «الإحياء» بتمامه. انتهى. وكذا ذكره في «الجامع الصّغير» بتمامه، وأوّله: «التّدبير نصف العيش» .. الخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 165- «قل الحقّ، وإن كان مرّا» . 166- «قليل تؤدّي شكره.. خير من كثير لا تطيقه» . 165- ( «قل الحقّ) في جميع الأمور ولا يصرفك عنه صارف؛ (وإن كان مرّا!» ) ؛ بأن كان على نفسك، أو على ولدك، أو صديقك، أو ذوي قرابتك؛ بأن تقرّ به وتشهد به ولا تكتمه؛ كما قال تعالى* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [135/ النساء] . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ، وفي «كشف الخفاء» وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أبي ذرّ مرفوعا، وهو صحيح. وله شواهد؛ منها: ما أخرجه البيهقي؛ عن جابر مرفوعا بلفظ: «ما من صدقة أحبّ إلى الله من قول الحقّ» . وقد صحّحه ابن حبان في حديث طويل. واشتهر على الألسنة: «قل الحقّ ولو على نفسك» . انتهى. 166- ( «قليل) من المال (تؤدّي شكره) يا ثعلبة؛ الّذي قال: ادع الله أن يرزقني مالا؛ (خير من كثير لا تطيقه» ) . تمامه عند الطّبراني: «أما تريد أن تكون مثل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم!! لو سألت الله أن يسيل الجبال ذهبا وفضّة لسالت!!» . انتهى. وهذا من معجزاته، فإنّه إخبار عن غيب وقع، فإنّه دعا لثعلبة هذا أن [ينمو] ماله، فنمت غنمه حتّى ضاقت المدينة عنها، فنزل واديا. وانقطع عن الجمعة والجماعة، وطلبت منه الزّكاة فقال: ما هذه إلّا أخيّة الجزية!! وفيه نزل* وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية [75/ التوبة] . والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» وقال: أخرجه البغويّ والباوردي، وابن قانع، وابن السّكن، وابن شاهين: كلهم في «الصّحابة» ، وكذا الطّبراني، والدّيلمي من طريق معاذ بن رفاعة؛ عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب «أو ابن أبي حاطب» الأنصاري؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 167- «القناعة.. كنز لا يفنى» . قال أبو أمامة: جاء ثعلبة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله؛ ادع الله أن يرزقني مالا. فقال: «ويحك يا ثعلبة!! أما تحبّ أن تكون مثلي، فلو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت!!» . فقال: ادع الله لي أن يرزقني مالا، فو الّذي بعثك بالحقّ نبيّا لئن رزقنيه لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه! قال: «لا تطيقه» !! قال: يا نبيّ الله؛ ادع الله أن يرزقني مالا، فقال: «اللهمّ؛ ارزقه مالا» ، فاتّخذ غنما فبورك له فيها، ونمت حتّى ضاقت به المدينة؛ فتنحّى عنها، فكان يشهد مع المصطفى صلى الله عليه وسلّم بالنّهار، ولا يشهد صلاة اللّيل، ثمّ نمت فكان لا يشهد إلّا من الجمعة إلى الجمعة، ثمّ نمت؛ فكان لا يشهد الجمعة ولا الجماعة. فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ويح ثعلبة!» . ثمّ أمر المصطفى صلى الله عليه وسلّم بأخذ الزّكاة والصّدقة؛ فبعث رجلين فمرّا على ثعلبة وقالا: الصّدقة؟! فقال: ما هذه إلّا أخيّة الجزية!! فأنزل الله فيه* وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية [75/ التوبة] . قال البيهقي: في إسناد هذا الحديث نظر!! وهو مشهور بين أهل التّفسير. انتهى. وأشار في «الإصابة» إلى عدم صحّة هذا الحديث، فإنّه ساق هذا الحديث في ترجمة ثعلبة هذا، ثمّ قال: وفي كون صاحب هذه القصّة- إن صحّ الخبر!! ولا أظنّه يصحّ؛ هو البدري! - نظر!! انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.. 167- ( «القناعة) الرّضا بالمقسوم (كنز) ؛ أي: ككنز، بجامع أنّها تغني صاحبها عن النّاس؛ كما يغنيه كنز؛ أي: مال مدفون (لا يفنى» ) ؛ لأنّ القناعة تنشأ عن غنى القلب بقوّة الإيمان ومزيد الإيقان، ومن قنع أمدّ بالبركة ظاهرا وباطنا؛ لأنّ الإنفاق منها لا ينقطع؛ إذ صاحبها كلما تعذّر عليه شيء قنع بما دونه؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 ......... فلا يزال غنيّا عن النّاس، ولذا كان ما يقنع به خير الرّزق؛ كما في حديث: «خير الذّكر الخفيّ، وخير الرّزق ما يكفي» . رواه أحمد والبيهقي. ومن قنع بالمقسوم كانت ثقته بالله- الّتي شأنها ألاتنقطع؛ لتأكّد الوثاقة- كنزا لا ينفد إمداده، ولهذا قال لقمان لابنه: يا بنيّ، الدّنيا بحر عميق؛ غرق فيه ناس كثير، فاجعل سفينتك فيها القناعة. ولله در من قال: وجدت القناعة كنز الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني به منهمك وصرت غنيّا بلا درهم ... أمرّ على النّاس شبه الملك وللإمام الشّافعي رحمه الله تعالى: عزيز النّفس من لزم القناعه ... ولم يكشف لمخلوق قناعة أفادتني القناعة كلّ عزّ ... وأيّ غنى أعزّ من القناعه فصيّرها لنفسك رأس مال ... وصيّرها مع التّقوى بضاعه وللإمام الشّافعي أيضا رحمه الله تعالى: أمتّ مطامعي وأرحت نفسي ... فإنّ النّفس ما طمعت تهون وأحييت القنوع وكان ميتا ... ففي إحيائه عرضي مصون إذا طمع يحلّ بقلب عبد ... علته مهانة وعلاه هون وفي القناعة أحاديث كثيرة؛ منها حديث ابن عمر مرفوعا: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه» . وعن علي في قوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [97/ النحل] ؛ قال: القناعة. وكذا قال الأسود: إنّها القناعة والرّضا. وعن سعيد بن جبير قال: لا يحوجه إلى أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 168- «قيّد.. وتوكّل» . وقال بعض الحكماء: انتقم من حرصك بالقناعة؛ كما تنتقم من عدوّك بالقصاص. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ قنّعني بما رزقتني وبارك لي فيه» . ولو لم يكن في القناعة إلّا التّمتّع بالعزّ؛ لكفى صاحبه. وسئل بعض الصّوفيّة عن مقام القناعة: هل يطلب من ربّه القناعة بما أعطاه الحقّ له من معرفته؛ كما يقنع بنظيره من القوت!؟ فأجاب بأنّ القناعة المطلوبة خاصة بأمور الدّنيا لئلّا يشتغل بكثرتها عن آخرته، لكونه مجبولا على الشحّ. وأمّا القناعة من المعرفة بالقليل!! فمذمومة بنصّ آية وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) [طه] ، أي: بك وبأسرار أحكامك، لا زيادة من التّكاليف؛ فإنّه كان يكره السّؤال في الأحكام، وأنشد يقول: إنّ القناعة باب أنت داخله ... إن كنت ذاك الّذي يرجى لخدمته فاقنع بما أعطت الأيّام من نعم ... من الطّبيعة لا تقنع بنعمته لو كان عندك مال الخلق كلّهم ... لم يأكل الشّخص منه غير لقمته وأنشد يقول: لا تقنعنّ بشيء دونه أبدا ... واشره فإنّك مجبول على الشّره واحرص على طلب العلياء تحظ بها ... فليس نائم ليل مثل منتبه والحديث رواه الطّبراني في «الأوسط» ؛ عن جابر، بلفظ: «القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى» . قال الذهبيّ: وإسناده واه. 168- ( «قيّد) ؛ ناقتك- وفي رواية: قيدّها- (وتوكّل» ) على الله، فإنّ التّقييد لا ينافي التّوكّل، إذ هو: اعتماد القلب على الرّبّ في كلّ عمل دينيّ أو دنيويّ، فالتّقييد لا يضادّه؛ كما أن الكسب لا يناقضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 ......... قال المحاسبيّ: من ظنّ أنّ التّوكّل ترك كسبه فليترك كلّ كسب دنيويّ ودينيّ، وكفى به جهلا!!. والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» ورمز له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عمرو بن أميّة الضّمري الكناني قال: يا رسول الله؛ أرسل راحلتي وأتوكّل، قال: «بل قيّد وتوكّل» . ورواه عنه أيضا الحاكم بلفظ: «قيّدها وتوكّل» . قال الذهبي: وسنده جيد. وقال الهيثمي: رواه الطّبراني؛ عن أبي هريرة بإسنادين؛ في أحدهما عمرو بن عبد الله بن أميّة الضّمري، ولم أعرفه! وبقية رجاله ثقات. انتهى مناوي على «الجامع» . وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح. ورواه التّرمذي؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: «اعقلها وتوكّل» وقال: غريب. ونقل؛ عن يحيى بن سعيد القطان أنّه منكر، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن أبي الدّنيا؛ عن أنس أنّه قال: قال رجل: يا رسول الله؛ أعقلها وأتوكّل، أو أطلقها وأتوكّل!؟ قال: «اعقلها وتوكّل» . يعني: النّاقة. وأخرجه ابن حبّان وأبو نعيم أيضا؛ عن عمرو بن أميّة الضّمري أنّه قال: قال رجل للنّبي صلى الله عليه وسلم- وقيل: القائل عمرو-: أرسل ناقتي وأتوكل!؟ قال: «اعقلها وتوكّل» . انتهى «كشف الخفا ومزيل الإلباس» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 [ (حرف الكاف) ] (حرف الكاف) 169- «كفى بالمرء إثما.. أن يضيّع من يقوت» . (حرف الكاف) 169- ( «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» ) ؛ أي، من يلزمه قوته ونفقته، لا سيّما الزّوجة!! فإنّ نفقتها متأكّدة، وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت؛ لتعليقه الإثم على تركه، لكن إنّما يتصور ذلك في موسر لا معسر!! فعلى القادر السّعي على عياله لئلّا يضيّعهم، فمع الخوف على ضياعهم هو مضطرّ إلى الطّلب لهم، لكن لا يطلب لهم إلّا قدر الكفاية؛ لأنّ الدّنيا بغيضة، وسؤال أوساخ النّاس قروح وخموش يوم القيامة. قال بعضهم: والضّيعة: هي التّفريط فيما له غناء وثمرة إلى ألايكون له غناء ولا ثمرة. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في «الزّكاة» ، والبيهقي في «سننه» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي، وصحّحه الحاكم، وأقرّه الذّهبي، وقال في «الرياض» : إسناده صحيح. ورواه عنه أيضا النّسائي، وهو عند مسلم بلفظ: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوته» . انتهى. مناوي على «الجامع» . قال في «الكشف» : والمشهور على الألسنة: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يعول» . بل هي رواية الحاكم؛ كما في «النجم» . انتهى. قال المناوي: وسببه- كما في البيهقي- أنّ ابن عمرو كان ببيت المقدس فأتاه مولى له؛ فقال: أقيم هنا رمضان، قال: هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول ... فذكره. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 170- «كفى بك إثما.. ألاتزال مخاصما» . 171- «كفى بالدّهر واعظا، وبالموت مفرّقا» . 170- ( «كفى بك إثما ألاتزال مخاصما!» ) ؛ أي: تكثر المخاصمة مع الخلق؛ لأنّ كثرة المخاصمة تفضي غالبا فيما يذمّ صاحبه، فالمستمرّ على الخصام الماهر فيه من أبغض الخلق إلى الله تعالى، وقد ورد التّرغيب في ترك المخاصمة، ففي أبي داود؛ عن أبي أمامة رفعه: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء؛ وإن كان محقّا، وأبغض العباد إلى الله تعالى الألدّ الخصم» ؛ كما في «الصحيحين» . فإن قيل: لا بد من الخصومة لاستيفاء الحقوق. فالجواب ما قال الغزالي: إنّ الذّم المتأكّد إنّما هو خاصّ بباطل أو بغير علم؛ كوكلاء القاضي. وقال بعض العارفين: إذا رأيت الرّجل لجوجا مرائيا معجبا برأيه فقد تمّت خسارته. انتهى مناوي على «الجامع» مرموزا له برمز التّرمذي؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وقال: غريب. وخرّجه عنه البيهقي والطّبراني، قال ابن حجر: وسنده ضعيف. انتهى «مناوي» . 171- ( «كفى بالدّهر) ؛ أي: كفى تقلّبه بأهله (واعظا) مذكّرا ومنبّها على زوال الدّنيا، ومرقّقا مليّنا للقلوب، (وبالموت مفرّقا» ) - بشدّ الرّاء وكسرها- لأنّ تفريقه لا عود بعده إلّا في الآخرة؛ بخلاف فرقة غير الموت. والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» و «كنوز الحقائق» وقالا: أخرجه ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ، وكذا العسكري في «الأمثال» كلاهما؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن جاري يؤذيني! فقال: «اصبر على أذاه وكفّ عنه أذاك» . فما لبثت إلّا يسيرا إذ جاءه فقال له: مات!! ... فذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 172- «كلّ آت.. قريب» . وهذا من بديع حكمته صلى الله عليه وسلّم ووجيزها؛ لأنّه لمّا علم أنّ أسباب العظات كثيرة؛ من العبر والآيات، وطوارق الآفات، وسوء عواقب الغفلات، ومفارقة الدّنيا وما بعد الممات؛ قال في عظة الموت كفاية عن جميع ذلك، لأنّ الموت ينزعه عن جميع محبوباته في الدّنيا ومخوفاته؛ إمّا إلى الجنّة، وإمّا إلى ما يكرهه، وذلك يوجب المنع من الرّكون إلى الدّنيا، والاستعداد إلى الآخرة وترك الغافلة. انتهى «مناوي» . قال: في «الكشف» : في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره. 172- ( «كلّ آت) ؛ من الموت والقيامة والحساب والوقوف (قريب» ) ، وأنت سائر على مراحل الأيّام واللّيالي إليه، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) [المعارج] . فالجاهل يراه بعيدا لعمى قلبه، والمؤمن الكامل يراه بنور إيمانه قريبا؛ كأنّه يعاينه؛ فبذل دنياه لآخراه، وسلّم نفسه لمولاه، فلا تغرّنّك الدّنيا، فجديدها عمّا قليل يبلى، ونعيمها يفنى، ومن لم يتركها اختيارا؛ فعمّا قريب يتركها اضطرارا، ومن لم تزل نعمته في حياته زالت بمماته. قال ابن عطاء الله السّكندري: لا بد لهذا الوجود أن تنهدم دعائمه، وأن تسلب كرائمه. فالعاقل من كان بما هو أبقى أوثق منه بما هو يفنى. وقال بعض الحكماء: من كان يؤمّل أن يعيش غدا فهو يؤمل أن يعيش أبدا. قال الماوردي: ولعمري؛ إنّه صحيح! إذ كل يوم غدا، فإذا يفضي به الأمل إلى الفوت من غير درك، ويؤديه الرّجاء إلى الإهمال بغير تلاف. وقال الحكماء: لا تبت على غير وصيّة، وإن كنت من جسمك في صحّة، ومن عمرك في فسحة، فإنّ الدّهر خائن، وكل ما هو آت كائن. انتهى «مناوي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 173- «كلّ الصّيد في جوف الفراء» . والحديث ذكره في «الدّرر» للسّيوطي، وقال: أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث. وذكره في «الكشف» ، وقال: رواه ابن مردويه؛ عن ابن مسعود مرفوعا وموقوفا، ولفظه: «ألا لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إنّ كلّ ما هو آت قريب، ألا إنّما البعيد ما ليس بات» . وروى البيهقي في «الأسماء والصفات» ، عن ابن شهاب مرسلا: إنّه صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا خطب: «كلّ ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخلف لأمر أحد، ما شاء الله لا ما شاء النّاس، يريد الله أمرا ويريد النّاس أمرا، وما شاء الله كائن؛ ولو كره النّاس، لا مبعّد لما قرّب الله؛ ولا مقرّب لما بعّد الله، ولا يكون شيء إلّا بإذن الله» . وعزاه في «المقاصد» للقضاعي؛ عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: تلقفت هذه الخطبة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرها، وفيها: «كلّ ما هو آت قريب» . انتهى كلام «الكشف» . وهذه الجملة موجودة في «الجامع الصّغير» أثناء حديث طويل أوله: «أمّا بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله» ... الخ. 173- ( «كلّ الصّيد في جوف الفراء» ) - بفتح الفاء، مقصور مهموز-: حمار الوحش، هذا خاطب به النّبي صلى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حين جاءه مسلما، بالأبواء بين مكّة والمدينة والنّبي صلى الله عليه وسلّم سائر إلى فتح مكّة؛ بعد أن كان عدوّا له هجّاء، كثير الهجاء بعد البعثة، وكان يألفه قبلها، فلمّا أسلم كان لا يرفع رأسه إلى المصطفى حياء منه صلى الله عليه وسلم. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يحبّه، ويشهد له بالجنّة، ويقول: «أرجو أن يكون خلفا من حمزة!» رضي الله عنه. فكأنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الحمار الوحشيّ من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنّك أعظم أهلي وأمسّهم رحما بي، ومن أكرم من يأتيني، وكلّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 ......... دونك!! قال ذلك ملاطفة له؛ لأنّه استأذن فلم يأذن له، وقال: إنّه هتك عرضي. والحديث أخرجه الرّامهرمزي الإمام؛ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الفارسي في كتاب «الأمثال» من طريق ابن عيينة، عن وائل بن مازن، عن نصر بن عاصم الليثي؛ قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقرشي وأخّر أبا سفيان، ثم أذن له فقال: ما كدت أن تأذن لي حتى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي وبكى، فقال: «وما أنت وذاك يا أبا سفيان؛ إنّما أنت كما قال الأول: كلّ الصّيد في جوف الفراء» . وسنده جيد، لكنّه مرسل، لأنّ نصر بن عاصم تابعيّ وسط. ونحوه عند العسكري، ولكنّه قال: «كلّ الصّيد في جوف الفراء- أو: جنب الفراء-» بالشّكّ. قال في «المقاصد» : وقد أفردت فيه جزآ فيه نفائس. والجلهمتان: تثنية الجلهمة- بضمّ الجيم وفتحها-: حافّة الوادي وناحيته. قال الدّميري في «حياة الحيوان» : الفراء: الحمار الوحش. والجمع: الفراء، مثل جبل وجبال، وفي المثل «كل الصّيد في جوف الفراء» ؛ قاله النّبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث، وقيل: لأبي سفيان بن حرب. وقال السّهيلي: الصّحيح أنّه قاله لأبي سفيان بن حرب يتألّفه به؛ وذلك لأنّه استأذن على النّبي صلى الله عليه وسلم فحجب قليلا ثمّ أذن له، فلما دخل؛ قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: ما كدت أن تأذن لي حتّى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي!!، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا سفيان؛ أنت كما قيل- كلّ الصّيد في جوف الفراء-» . ثمّ قال: وأصل هذا المثل أنّ جماعة ذهبوا للصّيد؛ فصاد أحدهم ظبيا، والآخر أرنبا، والآخر حمار وحش، فاستبشر الأوّلان بما نالا؛ فقاله الثالث؛ يعني أنّ ما رزقته يشتمل على ما عندكما؛ لأنّه أعظم، ثمّ اشتهر هذا المثل في كلّ شيء كان جامعا لغيره، كما قال القائل: يقولون: كافات الشّتاء كثيرة ... وما هي إلّا واحد غير مفترى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 174- «كلّكم.. راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته» . 175- «كلّ المسلم.. على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه» . إذا صحّ كاف الكيس فالكلّ حاصل ... لديك وكلّ الصّيد في جوف الفرا انتهى «كشف» . 174- ( «كلّكم راع) ؛ أي: حافظ مؤتمن، ملتزم بصلاح ما قام عليه، وهو ما تحت نظره من الرّعاية؛ وهي الحفظ، يعني: كلكم ملتزم بحفظ ما يطالب به؛ من العدل إن كان واليا، ومن عدم الخيانة إن كان موليا عليه؛ (وكلّكم مسؤول عن رعيّته» ) في الآخرة، فكلّ من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلّقات ذلك، فإن وفى ما عليه من الرّعاية! حصل له الحظّ الأوفر والجزاء الأكبر، وإلّا! طالبه كل أحد من رعيّته بحقّه في الآخرة. ويدخل في ذلك الولاة، والمنفق على زوجة أو قريب أو رفيق أو بهيمة؛ هل قام بحقّها أم لا!؟ والرّعاية تختلف؛ فالسّلطان أكثر مسؤولية من غيره، فإنّ عليه حفظ جميع رعيّته والذّب عنهم، وكذا نوّابه، فكلّ عليه حفظ ما تحت يده، وهكذا الزّوج ونحوه، فالرّاعي غير مطلوب لذاته؛ بل أقيم لحفظ ما استرعاه، ويشمل المنفرد؛ إذ يصدق عليه أنّه راع في جوارحه بفعل المأمور وترك المنهي. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذي؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. 175- ( «كلّ) ؛ مبتدأ (المسلم) (- فيه ردّ لزاعم أنّ كلّا لا تضاف إلّا إلى نكرة (على المسلم) (متعلق بالخبر، وهو قوله (حرام: دمه) - بالرّفع، وكذا ما بعده بيان لكل؛ أي: إراقة دمه أو قتله بلا حق، (وماله) ؛ أي: أخذ ماله بنحو غصب، (وعرضه» ) ؛ أي: هتك عرضه بالتّكلم فيه بما يشينه بلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 176- «كلّ معروف.. صدقة» . 177- «كلّ مؤذ.. في النّار» . استحقاق؛ والعرض: موضع المدح والذّمّ من الإنسان. وأدلّة تحريم هذه الثّلاثة مشهورة معروفة من الدّين بالضّرورة، وجعلها كلّ المسلم وحقيقته! لشدّة اضطراره إليها؛ فالدّم فيه حياته، ومادّته المال، فهو ماء الحياة الدّنيا، والعرض به قيام صورته المعنويّة. واقتصر على هذه الثّلاثة؛ لأنّ ما سواها فرع عنها وراجع إليها؛ لأنّه إذا قامت الصّورة البدنيّة والمعنويّة فلا حاجة لغيرهما؛ وقيامهما إنّما هو بتلك الثّلاثة. ولكون حرمتها هي الأصل والغالب لم يحتج لتقييدها بغير حقّ. فقوله في رواية «إلّا بحقّها» إيضاح وبيان. وهذا حديث عظيم الفوائد كثير العوائد مشير إلى المبادئ والمقاصد. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث أخرجه مسلم، وأبو داود في «الأدب» ، وابن ماجه في «الزهد» . 176- ( «كلّ معروف) ؛ أي: عرف في الشّرع بأنّه قربة؛ من قول أو فعل، (صدقة» ) ؛ أي: كلّ ما يفعل من أعمال البرّ والخير فثوابه كثواب من تصدّق بالمال؛ وسمّيت صدقة؛ لأنّها من تصديق الوعد بنفع الطّاعة عاجلا وثوابها آجلا. وفيه إشارة إلى أنّ الصّدقة لا تنحصر في المحسوس، فلا تختصّ بأهل اليسار مثلا، بل كلّ أحد يمكنه فعلها غالبا بلا مشقّة. انتهى «مناوي» وغيره. والحديث أخرجه الإمام أحمد بسند رجاله رجال «الصحيح» ، والبخاريّ في «صحيحه» ؛ «باب الأدب» كلاهما؛ عن جابر بن عبد الله. وأخرجه الإمام أحمد ومسلم في «الزّكاة» ، وأبو داود في «الأدب» كلهم؛ عن حذيفة بن اليمان، وهو حديث متواتر، رواه نحو ستة عشر صحابيّا رضي الله عنهم. 177- ( «كلّ مؤذ في النّار» ) ؛ يعني: كلّ ما يؤذي؛ من نحو حشرات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 178- «كلّ.. ميسّر لما خلق له» . وسباع، يكون في نار جهنّم عقوبة لأهلها؛ وقيل: هو وعيد لمن يؤذي النّاس، أي: كل من آذى الناس في الدّنيا من النّاس أو من غيرهم؛ يعذّبه الله في تلك الدّار في نار الآخرة. ذكره الزّمخشري والخطّابي. انتهى «مناوي» . والحديث أخرجه الخطيب في ترجمة عثمان الأشج؛ المعروف ب «ابن أبي الدّنيا» ، وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» كلاهما؛ عن علي، «أمير المؤمنين» ، قال الخطيب: وعثمان عندي ليس بشيء. انتهى. وأورده الذّهبي في «المتروكين» ، وقال: خبر غريب. انتهى مناوي على «الجامع» ، وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن. اه. 178- ( «كلّ) - بالتّنوين-؛ أي: كلّ إنسان (ميسّر) - بضمّ الميم، وبالمثنّاة التّحتيّة، والمهملة الثّقيلة؛ المفتوحتين- وفي رواية يسّر (لما خلق له» ) ؛ أي: مهيّأ لما خلق لأجله، قابل له بطبعه، أي: فالأمر مغيب عنّا، فلا نعرف النّاجي من غيره، إلّا أنّ الشّارع نصب لنا دليلا على ذلك، فمن رأيناه منكبّا على الطّاعة علمنا أنّه ناج، وعكسه بعكسه. وليس المراد بالتّيسير هنا ما يقابل التّعسير!! وقول بعضهم: «معناه كلّ موفّق لما خلق لأجله» غير سديد؛ لأنّ التّوفيق خلق قدرة الطّاعة في العبد؛ وليس المعنى هنا مقصورا عليه، بل المراد التّهيئة لما خلق لأجله من خير وشرّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) [الشمس] . انتهى مناوي على «الجامع» ، وحفني على «الجامع» . قال العزيزي: وفي الحديث إشارة إلى أنّ المال محجوب عن المكلّف، فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به، فإنّ عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبا، وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك؛ كما في حديث ابن مسعود وغيره، لكن لا اطّلاع له على ذلك، فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطّاعة، ولا يترك اتّكالا على ما يؤول إليه أمره، فيلام على ترك المأمور، ويستحقّ العقوبة. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 179- «كلّموا النّاس.. بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون» . فائدة: قال الرّاغب: لما احتاج النّاس بعضهم لبعض سخّر كلّ واحد منهم لصناعة ما يتعاطاه، وجعل بين طبائعهم وصنائعهم مناسبات خفيّة واتّفاقات سماويّة؛ ليؤثر الواحد بعد الواحد حرفة ينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه لمزاولتها، فإذا جعل إليه صناعة أخرى ربّما وجده مستبلدا فيها، متبرّما منها، سخّرهم الله لذلك؛ لئلّا يختاروا كلهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك ما اختاروا من الأسماء إلّا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصّناعات إلا أجملها، ومن الأفعال إلّا أرفعها، ولتنازعوا فيه، لكنّ الله بحكمته جعل كلّا منهم في ذلك مخيّرا. فالنّاس؛ إمّا راض بصنعته لا يبغي عنها حولا؛ كالحائك الّذي رضي بصناعته ويعيب الحجّام الّذي يرضى بصناعته، وبذلك انتظم أمرهم وكُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) [المؤمنون] . وإمّا كاره لها يكابدها مع كراهته إيّاها، كأنّه لا يجد عنها بدلا. وعلى ذلك دلّ هذا الحديث: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [32/ الزخرف] . فالتّباين والتّفرق والاختلاف سبب الالتئام والاجتماع والاتّفاق، فسبحان الله ما أحسن صنعه!. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والشّيخين: البخاري ومسلم، وأبي داود؛ عن عمران بن حصين. والتّرمذي؛ عن عمر بن الخطّاب. والإمام أحمد؛ عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنهم. أجمعين. 179- ( «كلّموا النّاس بما يعرفون) ؛ أي: بما يفهمونه وتدركه عقولهم، لأنّ العقول لا تحتمل إلّا على قدر طاقتها، فلها حد محدود لا تتعدّاه، وشرّ العلم الغريب؛ (ودعوا ما ينكرون» ) ؛ أي: ما يشتبه عليهم فهمه؛ لأنّ السّامع لما لا يفهمه قد يعتقد استحالته جهلا؛ فلا يصدق بوجوده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 180- «كما تدين.. تدان» . فأفاد أنّ المتشابه لا ينبغي ذكره عند العامّة. ويؤخذ من ذلك طلب تعليم العلوم السّهلة أوّلا لقاصر العقل. وينبغي للمدرّس أن يكلّم كلّ طالب على قدر فهمه وعقله، فيجيبه بما يحتمله حاله. ومن اشتغل بعمارة أو تجارة أو مهنة؛ فحقّه أن يقتصر به من العلم على قدر ما يحتاج إليه من هو في رتبته من العامّة، وأن يملأ نفسه من الرّغبة والرّهبة الوارد بهما القرآن. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» باللّفظ الّذي أورده المصنّف مرموزا له برمز البخاري. وفي «الكشف» أنه في «صحيح البخاري» ؛ عن علي موقوفا بلفظ: «حدّثوا النّاس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله!» . ونحوه ما في مقدمة «صحيح مسلم» ؛ عن ابن مسعود قال: «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة» . انتهى. ذكره في الكلام على حديث: «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» . 180- ( «كما تدين تدان» ) ؛ أي: كما تفعل تجازى بفعلك، وكما تفعل يفعل معك، سمّي الفعل المبتدأ جزاء، والجزاء هو الفعل الواقع بعده؛ ثوابا كان أو عقابا. للمشاكلة، كما في وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [40/ الشورى] . مع أنّ الجزاء المماثل مأذون فيه شرعا؛ فيكون حسنا لا سيّئا!! قال الميداني في ذلك: ويجوز إجراؤه على ظاهره، أي: كما تجازي أنت النّاس على صنيعهم تجازى أنت على صنيعك، والكاف في محلّ نصب للمصدر؛ أي: تدان دينا مثل دينك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 ......... والقصاص إن لم يكن فيك؛ أخذ من ذرّيّتك، ولهذا قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) [النساء] . فاتّق الله في أولاد النّاس يحفظك في ذرّيتك، وييسّر لهم ببركة تقواك ما تقرّ به عينك بعد موتك، وإن لم تتّق الله فيهم؛ فأنت مؤاخذ بذلك في نفسك وذرّيّتك، وما فعلته كله يفعل بهم، وهم وإن كانوا لم يفعلوا؛ لكنهم تبعا لأولئك الأصول، وناشئون عنهم وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف] . والحديث ذكره في «كشف الخفا» للعجلوني، وقال: رواه أبو نعيم، والديلمي؛ عن ابن عمر رفعه في حديث بلفظ: «البرّ لا يبلى، والذّنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، فكن كما شئت، فكما تدين تدان» . وأورده ابن عديّ أيضا في «الكامل» وفي سنده ضعيف. قال في «اللآلئ» : رواه البيهقي في «كتاب الزّهد» ، و «الأسماء والصّفات» ؛ عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذّنب لا ينسى، والبرّ لا يبلى، والدّيّان لا يموت، وكما تدين تدان» . ثمّ قال في «اللآلئ» : هذا مرسل. ورواه ابن عديّ في «الكامل» من حديث محمد بن عبد الملك. وأخرجه عبد الرّزّاق في «جامعه» ؛ عن أبي قلابة رفعه مرسلا. ووصله أحمد في «الزّهد» ، لكن جعله من قول أبي الدّرداء. ولابن أبي عاصم في «السّنّة» بسند فيه وضّاع؛ عن أنس في حديث أنّه قال: «يا موسى، كما تدين تدان» . وفي «الحلية» ؛ عن يحيى بن أبي عمرو الشّيباني؛ أنّه قال: مكتوب في «التّوراة» : كما تدين تدان، وبالكأس الذي تسقي به تشرب. وفي التنزيل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [123/ النساء] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 181- «كما تكونوا.. يولّى عليكم» . وفي النجم؛ عن فضالة بن عبيد: مكتوب في «الإنجيل» : [كما تدين تدان، وبالمكيال الّذي تكيل تكتال] . انتهى كلام «الكشف» . وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره. 181- ( «كما تكونوا يولّى عليكم» ) ؛ فإذا اتّقيتم الله وخفتم عقابه ولّى عليكم من يخافه فيكم، وعكسه. وفي بعض الكتب المنزلة: [أنا الله؛ ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة؛ فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطّفهم عليكم] . ومن دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا» . والرواية بحذف النّون وإثبات الياء في «يولّى» ، و «ما» مصدريّة؛ أعملت حملا على «أن» المصدريّة، كما أهملت «أن» حملا على «ما» . وذكر السّيوطي في «فتاواه الحديثيّة» : أنّ حذف النّون على لغة من يحذفها بلا ناصب ولا جازم؛ كما في حديث: «لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا» . أو أنّ حذفها على رأي الكوفيّين الّذي ينصبون «كلّما» ، أو على أنّه من تغيير الرواة، لكن هذا بعيد جدا. انتهى. وأنشد بعضهم في المقام: بذنوبنا دامت بليّتنا ... والله يكشفها إذا تبنا والحديث ذكره العجلوني في «الكشف» ؛ وقال: رواه الحاكم، ومن طريقه الديلمي؛ عن أبي بكرة مرفوعا بلفظ: «يولّى عليكم أو يؤمّر عليكم» . وأخرجه البيهقي بلفظ «يؤمّر عليكم» بدون شكّ، وبحذف «أبي بكرة» . فهو منقطع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 182- «كن في الدّنيا كأنّك غريب، ... وأخرجه ابن جميع في «معجمه» ، والقضاعي؛ عن أبي بكرة بلفظ: «يولّى عليكم» بدون شكّ، وفي سنده مجاهيل. ورواه الطّبراني بمعناه؛ عن الحسن أنّه سمع رجلا يدعو على الحجّاج، فقال له: لا تفعل، إنّكم من أنفسكم أتيتم؛ إنّا نخاف إن عزل الحجّاج أو مات أن يتولّى عليكم القردة والخنازير، فقد روي: «إنّ أعمالكم عمّالكم، وكما تكونوا يولّى عليكم» . وقال «النجم» : روى ابن أبي شيبة، عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [129/ الأنعام] . ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد النّاس أمّر عليهم شرارهم. وروى البيهقي؛ عن كعب قال: إنّ لكل زمان ملكا، يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم؛ بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد هلاكهم؛ بعث عليهم مترفيهم. وله عن الحسن: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه الصّلاة والسّلام: سل لنا ربّك يبيّن لنا علم رضاه عنا، وعلم سخطه، فسأله، فقال: أنبئهم أنّ رضائي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وأنّ سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم. انتهى ملخصا. 182- ( «كن في الدّنيا كأنّك غريب) ؛ أي: عش بباطنك عيش الغريب عن وطنه بخروجك عن أوطان عاداتها ومألوفاتها؛ بالزّهد في الدّنيا، والتّزوّد منها للآخرة، فإنّها الوطن؛ أي: إنّ الدّار الآخرة هي دار القرار، كما أنّ الغريب حيث حلّ نازع لوطنه، ومهما نال من الطّرف أعدّها لوطنه، وكلما قرب مرحلة سرّه، وإن تعوّق ساعة ساءه، فلا يتّخذ في سفره المساكن والأصدقاء، بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مسافة عبوره؛ لأنّ الإنسان إنّما وجد ليمتحن بالطّاعة؛ فيثاب، أو بالإثم؛ فيعاقب لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7/ هود] ، فهو كعبد أرسله سيّده في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور» . حاجة، فهو إمّا غريب أو عابر سبيل، فحقّه أن يبادر لقضائها ثمّ يعود إلى وطنه. وهذا أصل عظيم في قصر الأمل، وألايتّخذ الدّنيا وطنا ومسكنا، بل يكون فيها على جناح سفر مهيّأ للرّحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا جميع الأمم. وفيه حثّ على الزّهد والإعراض عن الدّنيا، والغريب المجتهد في الوصول إلى وطنه لا بدّ له من مركب؛ وزاد؛ ورفقاء؛ وطريق يسلكها. فالمركب: نفسه، ولا بد من رياضة المركوب ليستقيم للرّاكب، والزّاد: التقوى، والرّفقاء: الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين و [الطريق:] الصّراط المستقيم، وإذا سلك الطّريق لم يزل خائفا من القطّاع؛ «إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع» . انتهى مناوي على «الجامع» . (أو) بل (عابر سبيل) طريق قال الطّيبي: ليست «أو» للشّكّ ولا للتّخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى «بل» . فشبّه النّاسك السّالك بالغريب الّذي لا مسكن له يؤويه، ثمّ ترقى وأضرب عنه إلى عابر السّبيل لأنّ الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السّبيل، القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق! فإنّ من شأنه أن لا يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، ومن ثمّ عقّبه بقوله: (وعدّ نفسك من أهل القبور» ) ؛ أي: استمرّ سائرا ولا تفتر، فإنّك إن فترت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، فلا تتنافس في عمارة الدّور فعل المستوطن المغرور؛ فيأتيك الموت من غير استعداد، وتقدم على سفر آخرة بغير زاد. والحديث أخرجه البيقي في «الشّعب» ، والعسكري؛ من حديث ابن عمر بن الخطّاب مرفوعا في جملة حديث. وأخرجه البخاري في «صحيحه» ؛ «كتاب الرّقاق» ؛ عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنكبي فقال: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 183- «الكيّس.. من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز.. من أتبع نفسه هواها، ... وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» . وهذه رواية البخاري كما في «الأربعين النّوويّة» . وزاد أحمد، والنّسائي؛ أوّله: «اعبد الله كأنّك تراه» . ورواه التّرمذيّ بمثل رواية البخاري، إلّا أنّه قدّم جملة: «وإذا أصبحت» ، وقال: ومن حياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري يا عبد الله! ما اسمك غدا!» . ورواه أبو داود وابن ماجه. 183- ( «الكيّس) - بتشديد الياء مكسورة؛ مأخوذة من الكيس- بفتح فسكون. قال في «النهاية» : أي: العاقل المتبصّر في الأمور، النّاظر في العواقب. هو: (من دان نفسه) ؛ أي: أذلّها واستعبدها وأدّبها، وقيل: حاسبها؛ يعني: جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربّها، مجتنبة لنواهيه، فلازم الطّاعة وتجنّب المعصية. (وعمل لما بعد الموت) قبل نزوله، ليصير على نور من ربه؛ فالموت عاقبة أمور الدّنيا، فالكيّس من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها وحجبته الشّهوات والغفلات، وعاجل الحاصل يشترك في درك ضرّه ونفعه جميع الحيوانات بالطّبع؛ وإنّما الشّأن في العمل للآجل!! فجدير بمن الموت مصرعه، والتّراب مضجعه، ومنكر ونكير جليسه، والدّود أنيسه، والقبر مقرّه، وبطن الأرض مستقرّه، والقيامة موعده، والجنّة أو النّار مورده؛ ألايكون له فكر إلّا في الموت وما بعده، ولا ذكر إلّا له، ولا استعداد إلّا لأجله ولا تدبير إلّا فيه، ولا اهتمام إلّا به، ولا انتظار إلّا له، وحقيق أن يعدّ نفسه من الموتى ويراها في أهل القبور، فكل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بات. (والعاجز) - بمهملة وجيم وزاي-؛ من العجز؛ أي: المقصّر في الأمور، ورواه العسكري: «الفاجر» ؛ بالفاء والرّاء؛ من الفجور. (من أتبع) - بسكون المثنّاة الفوقيّة- (نفسه هواها) ؛ أي: صيّرها تابعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 وتمنّى على الله الأمانيّ» . لميلها للشّهوات، فلم يكفّها عن اللّذّات ولم يمنعها من ارتكاب المحرمات. قال الطيبي: العاجز الّذي غلبت عليه نفسه وقهرته فأعطاها ما تشتهيه، قوبل الكيّس بالعاجز!! والمقابل الحقيقي السّفيه؛ إيذانا بأنّ الكيّس هو القادر، والعاجز هو السّفيه. (وتمنّى على الله الأمانيّ» ) - بتشديد الياء: جمع أمنية-؛ أي: فهو مع تقصيره في طاعة ربّه واتّباع شهوات نفسه لا يستعدّ ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنى على الله العفو والجنّة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار، فإذا قيل له: ارجع واستغفر، إلى متى هذا الانهماك والتّقصير؛ يقول: دعني، عفو الله واسع، وهو الغفور الرّحيم، ورحمته وسعت كل شيء!! وما درى هذا المسكين أنّ التّوغّل في المعاصي دليل على استدراج الله تعالى له، فالّذي ينبغي له أن يعدّ نفسه مقصّرا مستحقّا للهلاك والدّمار، لا أنّه يعد نفسه بالمغفرة والكرم، ويقول: فضل الله واسع! فإنّ ذلك تمنّ، فالشّارع أو عده بالعذاب، فكيف يعد نفسه بالمغفرة!؟ وإنّما ينبغي له الوعد بالمغفرة بعد أن يتوب، فيقول: لعلّ الله يقبل توبتي ويغفر لي، لأنّ هذا حينئذ من الترجّي، لا من التّمنّي! لأخذه في الأسباب، وسقط في رواية لفظ: «الأماني» ، وأصل الأمنية: ما يقدّره الإنسان في نفسه من منى إذا قدّر، ولذلك يطلق على الكذب، وعلى ما يتمنّى. قال الحسن: إنّ قوما ألهتهم الأماني حتّى خرجوا من الدّنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إنّي أحسن الظّنّ بربّي. وكذب؛ لو أحس الظّنّ لأحسن العمل!! وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) [فصلت] . وقال سعيد بن جبير: الغرّة بالله: أن يتمادى الرّجل في المعصية، ويتمنّى على الله المغفرة. قال العسكري: وفيه: ردّ على المرجئة وإثبات الوعيد. انتهى. وفيه: ذمّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 ......... التّمنّي. وأمّا الرّجاء!! فمحمود؛ لأنّ التّمنّي يصاحب الكسل، بخلاف الرّجاء!! فتعليق القلب بمحبوب يحصل حالا: إنّ الرّجاء ما يقارن العمل ... وعند فقده تمنّ وكسل انتهى من شروح «الجامع الصغير» وغيرها. والحديث رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وابن ماجه؛ كلاهما في «الزّهد» ؛ والحاكم في «المستدرك» في «كتاب الإيمان» ، والعسكري، والقضاعي؛ من حديث أبي بكر بن أبي مريم الغسّاني، عن ضمرة بن حبيب، عن شدّاد بن أوس؛ وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الذّهبي: لا والله! أبو بكر واه. قال ابن طاهر: مدار الحديث على ابن أبي مريم، وهو ضعيف جدّا. انتهى. لكن له شاهد عند البيهقي في «الشّعب» بإسناد فيه ضعف؛ عن أنس رفعه: «الكيّس من عمل لما بعد الموت، والعاري: العاري من الدّين، اللهمّ؛ لا عيش إلّا عيش الآخرة» . انتهى «زرقاني» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 [ (حرف اللّام) ] (حرف اللّام) 184- «لدوا للموت، وابنوا للخراب» . (حرف اللّام) 184- ( «لدوا) ؛ أي: توالدوا (للموت، وابنوا للخراب» ) - اللّام لام العاقبة، فهو تسمية للشّيء باسم عاقبته- ونبّه بذلك على أنّه لا ينبغي للمرء أن يا بني من المساكن إلّا ما تندفع به الضّرورة؛ وهو ما يقي الحرّ والبرد، ويدفع الأعين والأيدي؛ وكذا لا يجمع من المال إلّا قدر الحاجة، وما عدا ذلك! فهو مضادّ للدين مفسد له، وقد اتّخذ نوح بيتا من قصب؛ فقيل له: لو بنيت!! فقال: هذا كثير لمن يموت. وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محرز، وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقلنا: لو أصلحته. فقال: كم من رجل مات وهذا قائم على حاله؟!. وأنشد البيهقي بسنده إلى ثابت البربري من أبيات له: وللموت تغدو الوالدات يخالها ... كما لخراب الدّور تبنى المساكن ولغيره: له ملك ينادي كلّ يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب وأنشد ابن حجر رحمه الله تعالى: بني الدّنيا أقلّوا الهمّ فيها ... فما فيها يؤول إلى الفوات بناء للخراب وجمع مال ... ليفنى والتّوالد للممات والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» ؛ وقال: رواه البيهقي في «الشّعب» ؛ عن أبي هريرة والزبير مرفوعا بلفظ: «إنّ ملكا بباب من أبواب السّماء» فذكر حديثا فيه: «وإنّ ملكا بباب آخر يقول: يا أيّها النّاس؛ هلمّوا إلى ربّكم، فإنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 185- «لست من الباطل، ولا الباطل منّي» . 186- «ليس الخبر.. كالمعاينة» . وإنّ ملكا بباب آخر ينادي: يا بني آدم؛ لدوا للموت وابنوا للخراب» . ورواه البيهقي أيضا عن أبي حكيم مولى الزّبير رفعه: «ما من صباح يصبح على العباد إلّا وصارخ يصرخ: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب» . وفي سنده ضعيفان، وأبو حكيم مجهول. ورواه أبو نعيم؛ عن أبي ذرّ موقوفا منقطعا أنّه قال: تلدون للموت وتبنون للخراب، وتؤثرون ما يفنى؛ وتتركون ما يبقى!! وأخرج أحمد في «الزّهد» عن عبد الواحد بن زيد أنّه قال: قال عيسى ابن مريم: يا بني آدم؛ لدوا للموت وابنو للخراب، تفنى نفوسكم وتبلى دياركم!! انتهى، كله من (المناوي) و «الكشف» للعجلوني رحمهما الله تعالى. 185- ( «لست من الباطل) ؛ أي: من أهله (ولا الباطل منّي» ) ؛ أي: من طريقتي، ولا من طريقة من اتّبعني، وإنّما لم يقل؛ «ولا هو مني» !! لأنّ الصّريح آكد وأبلغ، ولا يناقضه أنّه كان يمزح!! لأنّه كان لا يقول في مزاحه إلّا حقا. والحديث أخرجه الطّبراني، والبزّار، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، وفيه يحيى بن محمد بن قيس المدني المؤذّن، قال في «الميزان» : ضعفه ابن معين وغيره؛ لكن ليس بمتروك، وساق له أخبارا هذا منها، وقال الهيثمي: إنّ يحيى المذكور قد وثّق، لكن ذكر هذا الحديث من منكراته. قال الذهبي: لكن تابعه عليه غيره. انتهى مناوي على «الجامع» . 186- ( «ليس الخبر كالمعاينة» ) ؛ وفي رواية: «كالعيان» - بكسر العين- ومعناهما واحد؛ أي: المشاهدة، لأنّها تحصل العلم القطعيّ، وقد جعل الله لعباده آذانا واعية وأبصارا ناظرة، ولم يجعل الخبر في القوة كالنّظر بالعيان. وكما جعل في الرّأس سمعا وبصرا جعل في القلب ذلك!! فما رآه الإنسان ببصره قوي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 ......... علمه به، وما أدركه ببصر قلبه كان أقوى عنده. والحديث أخرجه الإمام أحمد ابن حنبل، وأحمد بن منيع، والطّبراني، والعسكري؛ من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بزيادة: «إنّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت» . ورواه أحمد، وابن طاهر، والبغويّ، والدّارقطني، والطّبراني في «الأوسط» ، وابن حبّان، والعسكري أيضا؛ عن ابن عباس مختصرا بدون الزّيادة، وصحّح الحديث ابن حبّان، والحاكم، والضّياء. قال العسكري: أراد صلى الله عليه وسلّم أنّه لا يهجم على قلب المخبر من الهلع بالأمر والاستفظاع له مثل ما يهجم على قلب المعاين، قال: وطعن بعض الملحدين في حديث موسى فقال: لم يصدّق بما أخبره به ربّه. وردّ بأنّه ليس في هذا ما يدلّ على أنّه لم يصدق، أو شكّ فيما أخبره به، ولكن للعيان روعة هي أنكى للقلب وأبعث لهلعه من المسموع. قال: ومن هذا قول إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [260/ البقرة] . لأنّ للمشاهدة والمعاينة حالا ليست لغيره. ولله درّ من قال: ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الخليل وقال غيره: كان خبر الله ثابتا عند موسى، وخبره كلامه، وكلامه صفته، فعرف فتنة قومه بصفة الله، لكن صفة البشريّة لا تظهر عند صفة الله لعجز البشريّة وضعفها؛ فتمسّك موسى بما في يده ولم يلقه، فلمّا عاين قومه عاكفين على العجل عابدين له؛ عاتبهم بصفة نفسه الّتي هي نظره ببصره، ورؤيته بعينه، فلم يتمالك أن طرح الألواح من شدّة الغضب وفرط الضّجر؛ حميّة للدّين. روي أنّها كانت سبعة، فانكسرت ستّة كان فيها تفصيل كلّ شيء، وبقي السّابع فيه المواعظ والأحكام. انتهى من «الزرقاني والمناوي وكشف الخفاء» رحمهم الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 ......... وهذا آخر ما أردنا تبييضه من الجزء الثّالث من كتاب (منتهى السّول» شرح كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول صلى الله عليه وسلم» ) تأليف العبد الفقير إلى الله عز وجل؛ عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبادي، اللحجي، الحضرمي، الشحّاري، المكيّ، المدرّس بالمدرسة الصّولتية، وبالمسجد الحرام بمكّة المكرمة، رحمه الله تعالى رحمة الأبرار، وختم له بخاتمة السّعادة، ورزقه الحسنى وزيادة، بمنّه وكرمه. آمين. حرر في ليلة الجمعة الموافق الثّالث من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 1398 هـ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 فهرسة الجزء الثالث من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوع الصحيفة الباب السادس: في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه ثلاثة فصول 5 الفصل الأول: في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم 6 الفصل الثاني: في صفة صومه صلى الله عليه وسلّم 73 الفصل الثالث: في صفة قراءته صلى الله عليه وسلّم 104 الباب السابع: في أخبار شتى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الخ وفيه ثلاثة فصول 126 الفصل الأول: في أخبار شتى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلّم 128 الفصل الثاني: في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم ... الخ 184 الفصل الثالث: في ثلاثمائة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم 246 حرف الهمزة 251 حرف الباء 370 حرف التاء 378 حرف الثاء 385 حرف الجيم 391 حرف الحاء 396 حرف الخاء 406 حرف الدال 413 حرف الذال 423 حرف الراء 428 حرف الزاي 433 حرف السين 435 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 الموضوع الصحيفة حرف الشين 438 حرف الصاد 439 حرف الضاد 443 حرف الطاء 444 حرف الظاء 447 حرف العين 448 حرف الغين 456 حرف الفاء 457 حرف القاف 459 حرف الكاف 466 حرف اللام 483 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 الجزء الرابع [ تتمة الباب السابع ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه الإعانة [ (حرف الميم) ] (حرف الميم) 187- «ماء زمزم.. لما شرب له» . (حرف الميم) 187- ( «ماء زمزم) بمنع الصرف؛ للعلميّة والتّأنيث، وهو سيّد المياه وأشرفها، وأجلّها قدرا، وأحبّها إلى النفوس. ولها أسماء كثيرة «زمزم» ، و «مكتومة» ، و «مضنونة» ، و «شبّاعة» ، و «سقيا الدواء» ، و «ركضة جبريل» ، و «هزمة جبريل» ، و «شفاء سقم» ، و «طعام طعم» ، و «سقيا إسماعيل» ، و «حفيرة عبد المطّلب» ؛ ذكره في «شرح القاموس» . قال: وقد جمعت أسماءها في نبذة لطيفة فجاءت على ما ينيّف على ستّين اسما ممّا استخرجتها من كتب الحديث واللّغة. (لما شرب له» ) ، فإن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وإن شربته لظمإ أرواك الله، لأنّه سقيا الله وغياثه لولد خليله، فبقي غياثا لمن بعده، فمن شربه بإخلاص وجد ذلك الغوث» . قال الحكيم الترمذي: هذا جار للعباد على مقاصدهم وصدقهم في تلك المقاصد والنيّات، لأن الموحّد إذا رابه أمر فشأنه الفزع إلى ربّه، فإذا فزع إليه واستغاث به؛ وجد غياثا، وإنّما يناله العبد على قدر نيّته. قال سفيان الثّوري: إنّما كانت الرّقى والدّعاء بالنية!! لأن النية تبلغ بالعبد عناصر الأشياء، والنيّات على قدر طهارة القلوب وسعيها إلى ربّها؛ وعلى قدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 ......... العقل والمعرفة يقدر القلب على الطيران إلى الله تعالى، فالشارب لزمزم على ذلك. وهو أفضل المياه بعد الماء النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال: وأفضل المياه ماء قد نبع ... أي من أصابع النّبيّ المتّبع يليه ماء زمزم فالكوثر ... فنيل مصر ثمّ باقي الأنهر قال الإمام النووي في «الإيضاح» : يستحبّ الشّرب من ماء زمزم والإكثار منه. ثبت في «صحيح مسلم» ؛ عن أبي ذر رضي الله عنه: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إنّها مباركة وإنّها طعام طعم» . وروّينا عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» وقد شرب جماعة من العلماء ماء زمزم لمطالب لهم جليلة فنالوها. انتهى. وقد شربه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ليكون في الحديث مثل الحافظ الذّهبي فنال ذلك وأعلى من مرتبة الذّهبيّ، وشربه الحافظ السيوطيّ لأمور؛ منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدّين البلقينيّ، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني فنال رتبة عالية، ونقل عنه أنّه ادّعى الاجتهاد المطلق، وقال: ما جاء بعد السبكيّ مثلي. وأعلى المطالب التي يشرب لأجلها ماء زمزم الموت على الإسلام، ورؤية الله تعالى في دار السّلام. ويطلب عند شربها أن يقال ما كان يقول ابن عبّاس رضي الله عنهما: اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كلّ داء. قال الإمام النوويّ في «الإيضاح» : فيستحبّ لمن أراد الشرب للمغفرة؛ أو الشّفاء من مرض ونحوه أن يستقبل القبلة، ثمّ يذكر اسم الله تعالى، ثمّ يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 ......... اللهمّ؛ إنّه بلغني أنّ رسولك محمدا صلى الله عليه وسلم قال «ماء زمزم لما شرب له» . اللهمّ؛ وإنّي أشربه لتغفر لي، اللهمّ؛ فاغفر لي؛ أو اللهمّ؛ إنّي أشربه مستشفيا به من مرضي، اللهمّ فاشفني ... ونحو هذا. ويستحبّ أن يتنفّس ثلاثا، ويتضلّع منه؛ أي: يمتلئ، فإذا فرغ حمد الله تعالى. انتهى. وكان بعضهم يقول: إنّي أشربه لظمأ يوم القيامة. وفي «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي- ومثله في «كشف الخفا» للعجلوني-: يذكر على بعض الألسنة أنّ فضيلة ماء زمزم ما دام في محلّه، فإذا نقل تغيّر وهو شيء لا أصل له. فقد كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو: «إن جاءك كتابي ليلا، فلا تصبحنّ، أو نهارا؛ فلا تمسينّ، حتّى تبعث إليّ بماء زمزم» . وفيه أنّه بعث له بمزادتين، وكان بالمدينة قبل أن تفتح مكّة؛ وهو حديث حسن لشواهده، وكذا كانت عائشة رضي الله عنها تحمله وتخبر: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله ويحمله في الأداوي والقرب فيصبّ منه على المرضى ويسقيهم، وكان ابن عبّاس إذا نزل به ضيف أتحفه من ماء زمزم. وسئل عطاء عن حمله؛ فقال: حمله النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن والحسين. انتهى. وهذا الحديث أعني حديث «ماء زمزم لما شرب له» ؛ قال المناوي: فيه خلاف طويل وتأليفات مفردة. قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: والحقّ أنّه حسن، وجزم البعض بصحّته والبعض بوضعه!! مجازفة. انتهى. وفي «الحاوي» للسيوطي؛ في «الفتاوى الحديثية» : حديث «ماء زمزم لما شرب له» ؛ أخرجه ابن ماجه في «سننه» ؛ من حديث جابر بإسناد جيد، ورواه الخطيب في «تاريخ بغداد» بإسناد قال فيه الحافظ شرف الدّين الدّمياطيّ: إنّه على رسم الصحيح. وقد ألّف الحافظ ابن حجر جزآ في حديث «ماء زمزم لما شرب له» وتكلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 188- «ما آمن بالقرآن.. من استحلّ محارمه» . عليه في تخريج أحاديث الأذكار النوويّة فاستوعب. وحاصل ما ذكره أنّه مختلف فيه، فضعّفه جماعة وصحّحه آخرون؛ منهم الحافظ المنذريّ في «الترغيب» والحافظ الدّمياطيّ قال: والصّواب أنّه حسن لشواهده. ثمّ أورده من طرق من حديث جابر وابن عباس وغيرهما، قال: وحديث جابر مخرج في «مسند أحمد» و «مسند أبي بكر بن أبي شيبة» و «مصنفه» ، و «سنن ابن ماجه» ، و «سنن البيهقي» ، و «شعب الإيمان» له، وحديث ابن عباس «في سنن الدارقطني» و «مستدرك» الحاكم، وأخرجه البيهقيّ أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا؛ لكنّ سنده مقلوب، وورد هذا اللّفظ أيضا عن معاوية، موقوفا بسند حسن لا علّة له. وله شواهد أخر مرفوعة وموقوفة، تركتها خشية الإطالة. انتهى. وقال في «شرح الأذكار» : وقد كثر في كلام الحفاظ الاختلاف في مرتبة هذا الحديث. وقد ألّفت فيه جزآ أسميته «النّهج الأقوم في الكلام على حديث ماء زمزم» وأودعته كتاب «درر القلائد؛ فيما يتعلّق بزمزم والسقاية من الفوائد» ، وحاصل ما فيه تصحيح الحديث، والله أعلم. انتهى. غريبة: في «تاريخ المدينة الشريفة» للعلامة السيّد السّمهودي: إنّ بالمدينة المنورة بئرا تعرف بزمزم- لم يزل أهلها يتبرّكون بها، قديما وحديثا، وينقل ماؤها للآفاق كزمزم. من المناوي على «الجامع الصغير» . انتهى. 188- ( «ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه» ) أي: فهو كافر؛ لاستحلاله الحري ي ي ام المنصوص عليه في القرآن وخصّ القرآن لعظمه؛ وإلّا فمن استحلّ المجمع على تحريمه المعلوم ضرورة كافر أيضا؛ كذا قاله الحفني. والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز التّرمذيّ عن صهيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 189- «ما أعطي عبد شيئا.. شرّا من طلاقة في لسانه» . 190- «ما تشاور قوم.. إلّا هدوا» . وقال: ليس إسناده قويّا. وقال البغويّ حديث ضعيف. انتهى. مناوي على «الجامع» . 189- ( «ما أعطي عبد شيئا شرّا من طلاقة في لسانه» ) بالخصام في الباص؛ بحيث يكون ماهرا؛ يزيّن بشقشقته الباطل بصورة الحق. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا برمز الدّيلميّ في «الفردوس» . 190- ( «ما تشاور قوم) قال العامريّ في «شرح الشهاب» : حقيقة المشاورة: استخراج صواب رأيه، واشتقاق الكلمة من قولهم «شوّر العس» استخلصه من موضعه، وصفّاه من الشمع (إلّا هدوا» ) إلى الصواب، وتكلّلوا بالنجّاح في أمورهم. وفيه إلماح بطلب الإستشارة المأمور بها في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [159/ آل عمران] وقيل: المشاورة حصن من النّدامة وأمن وسلامة، ونعم الموازرة المشاورة، وفي بعض الآثار: «نقّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة» . وقال الحكماء: من كمال عقلك استظهارك على عقلك. وقالوا: إذا أشكلت عليك الأمور وتغيّر لك الجمهور؛ فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة الفضلاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد. وقال بعض العارفين: الاستشارة بمنزلة تنبيه النّائم، أو الغافل؛ فإنّه يكون جازما بشيء يعتقد أنّه صواب وهو بخلافه. وقال بعضهم: إذا عزّ أمر فاستشر فيه صاحبا ... وإن كنت ذا رأي تشير على الصّحب فإنّي رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حلّ في موضع الشّهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 191- «ما جمع شيء إلى شيء.. أحسن من حلم إلى علم» . وقال الأرّجاني: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوما؛ وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر منها ما نأى ودنا ... ولا ترى نفسها إلّا بمرآة تنبيه: قال بعضهم: لا يستشار المحبّ؛ لغلبة هوى محبوبه عليه، ولا المرأة، ولا المتجردّ عن الدّنيا في شيء من أمورها، لعدم معرفته بذلك، ولا المنهمك على حبّ الدّنيا، لأنّ استيلاءها عليه يظلم قلبه فيفسد رأيه، ولا البخيل، ولا المعجب برأيه. فائدة: أخرج الشافعي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما إنّ الله ورسوله ليغنيان عنها، لكن «جعلها الله رحمة لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيّا» . قال ابن حجر: غريب. انتهى «فيض القدير» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطبري. 191- ( «ما جمع شيء إلى شيء أحسن) بالرفع، صفة ل «شيء» الأول، والجر صفة ل «شيء» الثاني. انتهى؛ «حفني» . وفي رواية «أفضل (من حلم) باللام (إلى علم» ) إذ باجتماعهما تحصل الكمالات، والنّجاة من الوقوع في المهلكات، وذلك لأنّ الحلم سعة الأخلاق، وإذا كان هناك علم؛ ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبّر بعلمه، لأنّ للعلم حلاوة، ولكل حلاوة شرة، فإذا ضاقت أخلاقه لم ينتفع بعلمه. انتهى «عزيزي» . والحديث ذكره في «الجامع» ورمز له برمز الطبراني؛ في «الأوسط» عن علي أمير المؤمنين. وأخرجه العسكري في «الأمثال» ؛ عن علي بزيادة: «وأفضل الإيمان؛ التّحبّب إلى النّاس» . «ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله: حلم يردّ به جهل الجاهل، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 192- «ما خاب.. من استخار، ولا ندم.. من استشار، ولا عال.. من اقتصد» . 193- «ما رآه المسلمون حسنا.. فهو حسن عند الله» . وحسن خلق يعيش به في النّاس، وورع يحجزه عن معاصي الله» . وعند العسكريّ أيضا؛ من حديث جابر مرفوعا: «ما أوتي شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى حلم» . ولأبي الشيخ؛ عن أبي أمامة مرفوعا: «ما أضيف شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم» . وأخرجه ابن السني أيضا. انتهى. «كشف الخفا» ، ونحوه في «المواهب» مع الزرقاني. 192- ( «ما خاب من استخار) الله تعالى؛ أي: دعا وطلب من الله تعالى خير الأمرين المباحين؛ أو المندوبين. أما الواجب! فلا كلام فيه. والأولى أن يكون بعد صلاة ركعتين؛ قاله الحفني. وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول «اللهمّ خر لي واختر لي» . وشمل العموم العظيم والحقير، فربّ حقير يترتّب عليه أمر عظيم (ولا ندم من استشار) غيره ممّن له تبصّر ونصيحة. ويستحبّ تقديم الاستشارة على الاستخارة؛ كما في «المدخل» . (ولا عال من اقتصد» ) أي: ما افتقر من توسّط في النفقة على عياله. والحديث أخرجه الطبراني في معجمه «الأوسط» و «الصغير» ، وكذا القضاعيّ؛ كلّهم عن أنس رضي الله تعالى عنه رفعه بإسناد ضعيف جدا؛ كما في الزّرقاني والمناوي وغيرهما. 193- ( «ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن عند الله» ) أخرجه الإمام أحمد في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 194- «ما ضاق مجلس بمتحابّين» . كتاب «السنة» - وليس في «مسنده» ؛ كما توهّمه بعضهم- عن ابن مسعود بلفظ: «إنّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمّدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد فاختار له أصحابا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه؛ فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» . وهو موقوف حسن. وأخرجه البزّار، والطّيالسيّ، والطّبرانيّ، وأبو نعيم، والبيهقي في «الاعتقاد» ؛ عن ابن مسعود أيضا. انتهى «كشف الخفا» . قال العلائيّ: ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا؛ ولا بسند ضعيف بعد طول البحث، انتهى «شرح قواعد الفقه» . 194- ( «ما ضاق مجلس بمتحابّين» ) بالتثنية؛ أي: لأنّ المحبة تقتضي عدم ضيق الصّدر لما يوجب من السّرور باجتماع الأحباب، ولذا قيل: رحب الفلاة مع الأعداء ضيّقة ... سمّ الخياط مع الأحباب ميدان قال الحفني: وقد دخل الأصمعي على الخليل بن أحمد، وهو جالس على حصير ضيق فقال له: اجلس. فقال: أضيّق عليك. فقال له: مه، الدّنيا تضيق بمتباغضين وما ضاق مجلس بمتحابّين. ومما يعزى لإمامنا الشافعي رضي الله عنه: من لم يكن بين إخوان يسرّ بهم ... فإنّ أوقاته نقص وخسران وأطيب الأرض ما للنّفس فيه هوى ... سمّ الخياط مع الأحباب ميدان وأخبث الأرض ما للنّفس فيه أذى ... خضر الجنان مع الأعداء نيران لكن ينبغي إذا كان في المجلس سعة أن يكون بين كل اثنين ثلثا ذراع، لأنّه الأدب. انتهى. أمّا في الشّتاء، أو الصلاة، أو الجهاد!! فينبغي الالتصاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 195- «ما قلّ وكفى.. خير ممّا كثر وألهى» . 196- «ما كان الرّفق في شيء.. إلّا زانه» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الخطيب عن أنس بن مالك مرفوعا، ورواه عنه الدّيلمي بلا سند مرفوعا. وأخرجه البيهقي في «الشعب» من قول ذي النون بلفظ: ما بعد طريق أدّى إلى صديق، ولا ضاق مكان من حبيب. انتهى «كشف» . 195- ( «ما قلّ وكفى) - من الدّنيا- (خير ممّا كثر) - منها- (وألهى» ) عن طاعة الله تعالى، وهذا من طرق الاقتصاد المحمود الممدوح، فينبغي للمرء أن يقلّل أسباب الدّنيا ما أمكن؛ فإنّ قليلها يلهي عن كثير من الآخرة، فالكثير يلهي القلب عن الرّبّ وعن الآخرة بما يحدث له؛ من الكبر والطّغيان على الحق كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق] . قال بعضهم: خذ من الدّنيا ما شئت؛ وخذ من الهمّ أضعافه. وسمّى الدّنيا لهوا؛ لأنها تلهي القلب عن كل خير، وتلهو بكل شرّ. انتهى «مناوي» . وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: رواه أبو يعلى، والضياء المقدسي في «المختارة» ، والعسكريّ في «الأمثال» ؛ كلهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الأعواد يقول ذلك. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير صدقة بن الرّبيع؛ وهو ثقة، وهو قطعة من حديث: «أمّا بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله» الحديث. انتهى «كشف ومناوي» . 196- ( «ما كان الرّفق) - أي: اللّطف- (في شيء إلّا زانه) ؛ لأنّ به تسهل الأمور ويأتلف ما تنافر، وهو مؤلّف الجماعات، وجامع الطّاعات؛ ومنه أخذ أنّه ينبغي للعالم إذا رأى من يخلّ بواجب، أو يفعل محرّما أن يترفق في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 197- «ما كان الفحش في شيء.. إلّا شانه» . إرشاده، ويتلطّف به؛ ولذا لمّا جاء شابّ إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ائذن لّي في الزّنا! فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بقربه، وقال له: «أتحبّ أن يزنى بأمّك!» فقال: لا. فقال: «بابنتك!» فقال: لا. وهكذا عدّد عليه في عمّته، وخالته، وهو يقول: لا. فقال: «إذن لا تفعل ما تكره أن يفعل بأقاربك» . فترك الزنا، ولم يخطر بباله من ذلك الوقت، وسببه رفقه صلى الله عليه وسلم به انتهى. «حفني» والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «ما كان الرّفق في شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه» وقال: أخرجه عبد بن حميد، والضّياء المقدسيّ في «المختارة» ؛ عن أنس بن مالك. وهو في مسلم بلفظ: «وما كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه» وبقية المتن بحاله. ورواه البزّار عن أنس أيضا بلفظ: «ما كان الرّفق في شيء قطّ إلّا زانه، وما كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه، وإنّ الله رفيق يحبّ الرّفق» . قال المنذري: إسناده ليّن. انتهى مناوي على «الجامع» . وقال في «الكشف» : رواه ابن حبّان عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أي: باللفظ الذي في «الجامع الصغير» . 197- ( «ما كان الفحش) أي: قبح اللّسان، وتكلّمه بما لا يليق (في شيء) من حيوان؛ أو حجر، فإن الشيء يشمل الجماد (إلّا شانه» ) أي: عابه، إذ الشّين: العيب، أي: لو فرض ذلك في حجر لكان معيبا فكيف بالإنسان!! وأشار بهذا إلى أنّ الأخلاق الرّذلة مفتاح كلّ شر، بل هي الشرّ كلّه. قال ابن جماعة: وقد بلي بعض أصحاب النّفوس الخبيثة؛ من فقهاء الزّمان بالفحش، والحسد، والعجب، والرياء، وعدم الحياء. انتهى. وأقول: ليت ابن جماعة عاش إلى الآن؛ حتى رأى علماء هذا الزمان!! انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 198- «ما هلك امرؤ.. عرف قدره» . 199- «ما هو بمؤمن.. من لا يأمن جاره بوائقه» . وهذا في زمانهما، فكيف لو رأيا زماننا؟! فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب» ، والترمذي في «البر» ، وابن ماجه؛ كلّهم عن أنس بن مالك: قال التّرمذي: حسن غريب. انتهى مناوي على «الجامع» ، وفي «العزيزي» : إن إسناده صحيح. 198- ( «ما هلك امرؤ عرف قدره» ) يعني: أنّ من عرف مقدار نفسه، ونزّلها منزلتها؛ نجا في الدّنيا والآخرة من الهلاك، ومن تعدى طوره؛ فتكبّر، ورفع نفسه فوق حدّه؛ هلك. وهو ظاهر. والحديث ذكره في «الشّفاء» قال السّيوطي: قال السمعاني: رحمه الله تعالى إنّه: حديث روي مسندا عن عليّ كرّم الله وجهه، وفي سنده من لا يعرف حاله. وقال التّجاني: لا أعرف له سندا صحيحا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم! وإنما هو من كلام أكثم بن صيفي في وصيته، فإن ثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم فلعله تمثّل به. وأكثم هذا بالمثلّثة: من بلغاء العرب وعدّه بعضهم في الصّحابة، والأكثر على خلافه. وفي كتاب «جوامع الكلم وبدائع الحكم» : هو من كلامه صلى الله عليه وسلم وذكره مسندا انتهى «شهاب» . قال القاري: ويقرب منه ما روي عن عليّ أمير المؤمنين رضي الله عنه وكرّم وجهه في الجنّة: ما ضاع امرؤ عرف قدره. لأن الضائع بمنزلة الهالك. انتهى. 199- ( «ما هو بمؤمن) كامل (من لا يأمن جاره بوائقه» ) أي: شره؛ كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 200- «مت مسلما ولا تبال» . 201- «المجالس.. بالأمانة» . جاء مبينا في الحديث؛ في بعض الروايات. يعني: لا يكون المؤمن كامل الإيمان حتى يأمن جاره من إيذائه؛ وذلك لأن إيذاء المسلم كبيرة، فكيف إذا كان جارا!! فإيذاؤه أغلظ إثما، وذلك شامل للجار الذّمّي، فإنه لا يجوز إيذاؤه أيضا؛ وفاء بذمّته، حيث انقاد لأحكام الإسلام. والحديث ذكره «في كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى. 200- ( «مت مسلما ولا تبال» ) هكذا ذكره في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . لكن قال في «المقاصد» : لا أعلمه بهذا اللفظ! والأحاديث في «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة» كثيرة، منها ما للشّيخين: البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، ومنها ما لمسلم عن عثمان بلفظ: «من مات يشهد ألاإله إلا الله دخل الجنّة» . وقال القاري: معناه صحيح، لقوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران] ويناسب هذا قول بعضهم: كن كيف شئت فإنّ الله ذو كرم ... وما عليك إذا أذنبت من باس إلّا اثنتين فلا تقربهما أبدا ... الشّرك بالله والإضرار بالنّاس 201- ( «المجالس) أي: ما يقع فيها قولا وفعلا ملحق (بالأمانة» ) فيجب حفظها فلا يشيع أحد حديث جليسه لأنّه غيبة، أو نميمة. نعم يجوز؛ بل يجب فيما إذا كان فيه ضرر، كما لو أسرّ لك جليسك أنّه يريد قتل فلان، أو الزّنا بزوجته، أو أخذ ماله مثلا، فيجب عليك إخباره ليحذر منه، كما أشار لذلك في الحديث بقوله «إلّا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ» انتهى «حفني» . قال ابن رسلان: الباء تتعلّق بمحذوف لا بدّ منه ليتمّ به الكلام؛ والتّقدير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 ......... المجالس تحسن، أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضريها لما يحصل في المجالس، ويقع في الأقوال والأفعال. فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه؛ أو يراه، فيحفظه أن ينتقل إلى من غاب عنه؛ انتقالا يحصل به مفسدة. وفائدة الحديث: النّهي عن النّميمة الّتي ربما تؤدّي إلى القطيعة، انتهى «عزيزي» . وقال العسكري: أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الرّجل يجلس إلى القوم فيخوضون في الحديث، ولعلّ فيه ما إن نمي كان فيه ما يكرهون؛ فيأمنونه على أسرارهم!! فيريد: أنّ الأحاديث الّتي تجري بينهم كالأمانة، الّتي لا يجب أن يطلع عليها، فمن أظهرها فهو قتّات، وفي التّنزيل هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) [القلم] . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة قتّات- أي: نمّام-» وروي مرفوعا، ألا إنّ من الخيانة أن يحدّث الرّجل أخاه بالحديث فيفشيه. انتهى. ولعبد الرزاق مرفوعا: «إنّما يتجالس المتجالسون بأمانة الله، فلا يحلّ لأحد أن يفشي عن صاحبه ما يكره» . وقال ابن الأثير: هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس؛ من قول أو فعل، فكأنّ ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه، والأمانة تقع على الطّاعة والعبادة والوديعة والثّقة والأمان، وقد جاء في كلّ منها حديث انتهى «شروح الجامع» ، ومن الزرقاني. والحديث رواه ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعا. ورواه الديلمي والعسكري والقضاعي والعقيلي والخطيب؛ كلهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه. ورواه أبو داود والعسكري؛ عن جابر بن عبد الله مرفوعا بزيادة: «إلّا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ» انتهى. «زرقاني» وغيره، رحمهم الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 202- «محرّم الحلال.. كمحلّ الحرام» . 203- «المرء.. كثير بأخيه» . 204- «مداراة النّاس.. صدقة» . 202- ( «محرّم الحلال كمحلّ الحرام» ) في الإثم، فكما يحرم على المكلّف تحريم ما أحلّ الله؛ كذلك يحرم عليه تحليل ما حرّم الله، فإن كان ذلك المحرّم الّذي أحلّه محرّما بالإجماع، معلوما من الدّين بالضرورة؛ كتحليل الزّنا، وشرب الخمر، فتحليله كفر، وكذا الحلال؛ إن كان حلالا مجمعا على حلّه، معلوما من الدّين بالضرورة؛ كالبيع، والنّكاح، فتحريم ذلك كفر، وخروج عن ملّة الإسلام؛ تجب الاستتابة من ذلك، وإلّا! قتل كافرا، ورميت جيفته للكلاب. هذا إن اعتقد تحليل المحرّم بالإجماع، أو اعتقد تحريم الحلال بالإجماع، وإلّا! فلا. والله أعلم. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني. 203- ( «المرء) قليل بمفرده (كثير بأخيه» ) في النّسب، أو في الدّين. قال العسكريّ: أراد أنّ الرّجل؛ وإن كان قليلا في نفسه حين انفراده؛ كثير باجتماعه معه، فهو كخبر: «اثنان فما فوقهما جماعة» انتهى. وهذا كما ترى ذهاب منه إلى أنّ المراد الأخوّة في الإسلام! نزّله الماوردي على أنّها أخوّة النّسب. ووجهه بأنّ تعاطف الأرحام، وحمية الأقارب؛ يبعثان على التّناصر والألفة، ويمنعان من التّخاذل والفرقة؛ أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقّيا من تسلّط الغرباء الأجانب انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال: أخرجه ابن أبي الدّنيا أبو بكر القرشيّ في كتاب «الإخوان» ، وكذا العسكريّ؛ كلاهما عن سهل بن سعد الساعديّ، ورواه الديلمي والقضاعي عن أنس، قال شارحه العامريّ: وهو غريب. انتهى «مناوي» . 204- ( «مداراة) بغير همزة (النّاس صدقة» ) قال العامريّ: المداراة اللّين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 ......... والتعطّف، ومعناه: أنّ من ابتلي بمخالطة النّاس؛ معاملة ومعاشرة؛ فألان جانبه وتلطّف، ولم ينفّرهم كتب له صدقة. قال ابن حبّان: المداراة الّتي تكون صدقة للمداري: تخلّقه بأخلاقه المستحسنة مع نحو عشيرته؛ ما لم يشبها بمعصية. والمداراة محثوث عليها مأمور بها، ومن ثمّ قيل: اتّسعت دار من يداري، وضاقت أسباب من يماري. وفي «شرح البخاري» : قالوا: المداراة: الرفق بالجاهل في التّعليم، وبالفاسق بالنّهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه. والمداهنة: معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه. والأولى مندوبة، والثّانية محرّمة. وقال حجّة الإسلام: النّاس ثلاثة: أحدهم مثل الغذاء؛ لا يستغنى عنه. والآخر مثل الدواء؛ يحتاج إليه في وقت دون وقت. والثّالث مثل الداء لا يحتاج إليه، لكنّ العبد قد يبتلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع، فتجب مداراته إلى الخلاص منه. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز ابن حبّان، والطّبراني في «الكبير» ، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ عن جابر بن عبد الله. وهو حديث له طرق عديدة، وهذا الطّريق- كما قاله العلائي وغيره-: أعدلها. وفيه يوسف بن أسباط الراهب! أورده الذّهبي في «الضّعفاء» !! وقال الهيثمي: فيه عند الطّبراني يوسف بن محمد بن المنكدر متروك، وقال الحافظ في «الفتح» بعد ما عزاه لابن عدي والطّبرانيّ في «الأوسط» : فيه يوسف بن محمّد بن المنكدر ضعّفوه، وقال ابن عدي: لا بأس به. قال الحافظ: وأخرجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 205- «المرء.. مع من أحبّ» . 206- «المستشار.. مؤتمن» . ابن أبي عاصم في «آداب الحكماء» بسند أحسن منه. انتهى «مناوي» . 205- ( «المرء مع من أحبّ» ) في الجنّة بحسن نيّته من غير زيادة عمل، لأنّ محبّته لهم لطاعتهم، والمحبّة من أفعال القلوب، فأثيب على ما اعتقده؛ لأن الأصل النيّة والعمل تابع لها، ولا يلزم من المعيّة استواء الدّرجات، بل ترفع الحجب حتّى تحصل الرؤية والمشاهدة، وكلّ في درجته؛ قاله القسطلّاني. وهذا الحديث متواتر، قال في «الفتح» : جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب «المحبين مع المحبوبين» ، وبلغ عدد الصّحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم «المرء مع من أحبّ» ، وفي بعضها بلفظ حديث أنس: «أنت مع من أحببت» . انتهى. قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث؛ وفي ضمنه حثّ على حبّ الأخيار؛ رجاء اللّحاق بهم في دار القرار، والخلاص من النّار، والقرب من الغفّار، والترغيب في الحبّ في الله، والترهيب من التّباغض بين المسلمين؛ لأن من لازمه فوات هذه المعية؛ وفيه رمز إلى أنّ التّحابب بين الكفار ينتج لهم المعيّة في النّار، وبئس القرار، قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) [إبراهيم] . والحديث رواه الشيخان في «الأدب» وغيرهما؛ عن أنس وأبي موسى وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. 206- ( «المستشار مؤتمن» ) أي: أمين على ما استشير فيه، فمن أفضى إلى أخيه بسرّه وأمّنه على نفسه؛ فقد جعله بمحلّها، فيجب عليه ألايشير عليه، إلّا بما يراه صوابا، فإنّه كالأمانة للرجل الّذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا ثقة. والسرّ الّذي قد يكون في إذاعته تلف النّفس؛ أولى بأن لا يجعل إلّا عند موثوق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 ......... به، ولذا احتاج المشير والنّاصح إلى كونه أمينا مجرّبا، حازما ناصحا، ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلوّن في رأيه، ولا كاذب في مقاله، فارغ البال وقت الاستشارة. ولذا قيل: إنهما يحتاجان إلى علم كبير كثير، فيحتاج أولا إلى علم الشّريعة، وهو العلم المتضمّن لأحوال النّاس، وعلم الزّمان والمكان، وعلم التّرجيح إذا تقابلت هذه الأمور، فقد يكون ما يصلح الزّمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا فينظر إلى التّرجيح، فيفعل بحسب الأرجح عنده. مثاله: أن يضيق الزّمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال، فيشير بأهمهما. وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة؛ وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضدّه! أشار عليه بما لا ينبغي؛ ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمّى علم السّياسة، فإنه يسوس بذلك النّفوس الجموحة الشّاردة عن طريق مصالحها، فلذا يحتاج المشير والنّاصح إلى علم وعقل وفكر صحيح، ورويّة حسنة واعتدال مزاج، وتؤدة وتأنّ. فإن لم يجمع هذه الخصال!؟ فخطؤه أسرع من إصابته؛ فلا يشير ولا ينصح. قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدقّ، ولا أخفى، ولا أعظم من النّصيحة. انتهى «زرقاني» ، ومناوي على «الجامع» . والحديث أخرجه الإمام أحمد؛ من حديث ابن مسعود بزيادة: «وهو بالخيار إن شاء تكلّم وإن شاء سكت، فإن تكلّم فليجتهد رأيه» . وأخرجه أصحاب «السنن الأربعة» ؛ عن أبي هريرة، والتّرمذيّ؛ عن أمّ سلمة، والطّبراني في «الأوسط» و «الكبير» ؛ عن سمرة بزيادة: «إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر» . والقضاعي عن سمرة بلفظ: «المستشار مؤتمن، فإن شاء أشار وإن شاء سكت، فإن أشار فليشر بما لو نزل به لفعله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 207- «المسلم.. أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» . والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن علي وزاد: «فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه» . وللعسكريّ؛ عن عائشة: «المستشير معان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صالح لنفسه» . وفي الباب جابر بن سمرة، وأبو الهيثم، وابن عباس، وآخرون. قال السّيوطي: وهو متواتر. انتهى «زرقاني» . وقد تقدّم الكلام على هذا الحديث في الباب الرّابع في صفة أكله صلى الله عليه وسلم. 207- ( «المسلم) حرا كان؛ أو قنا، بالغا أو صبيّا (أخو المسلم) أي: يجمعهما دين واحد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10/ الحجرات] ، فهو كالأخوّة الحقيقية، وهي أن تجمع الشّخصين ولادة من صلب أو رحم؛ أو منهما. بل الأخوّة الدينيّة أعظم من الحقيقيّة، لأنّ ثمرة هذه دنيويّة وثمرة تلك أخرويّة. (لا يظلمه ولا يسلمه» ) بضم أوله، يقال: «أسلم فلان فلانا» ؛ إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوّه، وهو عامّ في كلّ من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة؛ أي لا يتركه مع من يؤذيه؛ ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، ولا يترك نصرته المشروعة؛ سيما مع الاحتياج، أو الاضطرار إليها، لأن من حقوق أخوّة الإسلام التّناصر. قال تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [72/ الأنفال] . وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» . فقوله «ظالما» ؛ أي: بأن تكفّه عن ظلمه. وقوله «مظلوما» ؛ أي: بأن تدفع عنه من يظلمه، فخذلانه محرّم شديد التّحريم دنيويّا؛ كأن مثل أن يقدر على دفع عدوّ يريد أن يبطش به ولا يدفعه، أو دينيّا مثل أن يقدر على نصحه عن غيّه، بنحو وعظ فيترك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 208- «المسلم.. من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر.. من هجر ما حرّم الله» . والحديث أخرجه البخاري في «المظالم والإكراه» ، وأبو داود في «الأدب» ، والتّرمذي في «الحدود» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب. وأخرجه مسلم في «الأدب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال: «لا يخذله» بدل «يسلمه» . 208- ( «المسلم) الكامل في الإسلام (من) - أي: إنسان؛ ذكرا كان أو أنثى- أتى بأركان الدّين، و (سلم المسلمون) وغيرهم؛ من أهل الذمّة، فالتّقييد غالبيّ كالتّعبير بجمع المذكّر السّالم (من لسانه ويده) وبقيّة أعضائه؛ بأن لا يتعرّض لهم بما حرم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم. وخصّ هذين العضوين! لأن الأذى بهما أغلب. وقدّم اللّسان! لأكثريّة الأذى به، ولكونه المعبّر عمّا في الضّمير. وعبّر باللّسان دون القول! ليشمل من أخرج لسانه استهزاء. وعبّر باليد دون بقيّة الجوارح! ليدخل اليد المعنويّة كالاستيلاء على حقّ الغير ظلما. فإن قيل: هذا يستلزم أنّ من اتّصف بهذا خاصّة كان كاملا!! ويجاب بأنّ المراد أتى بذلك مع مراعاة بقيّة أركان الإسلام، فهذا إنّما ورد على سبيل المبالغة؛ تعظيما لترك الإيذاء. كأنّ ترك الإيذاء؛ هو نفس الإسلام الكامل، وكأنّه محصور فيه، على سبيل الادّعاء للمبالغة!!. قال الخطّابي: أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى حقوق المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثّ على حسن معاملة العبد مع ربّه، لأنّه إذا أحسن معاملة إخوانه، فالأولى أن يحسن معاملة ربّه، من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى. انتهى شروح «الجامع الصغير» . (والمهاجر) هجرة كاملة ممدوحة (من هجر) ؛ أي: ترك (ما حرّم الله» ) عليه، أي: ليس المهاجر حقيقة من هاجر من بلاد الكفر، بل من هجر نفسه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 209- «مع كلّ فرحة.. ترحة» . وأكرهها على الطّاعة، وحمّلها تجنّب المنهيّ، لأن النّفس أشدّ عداوة من الكافر؛ لقربها وملازمتها وحرصها على منع الخير. فالمجاهد الحقيقيّ من جاهد نفسه، واتبع سنّة نبيّه، واقتفى طريقه؛ في أقواله وأفعاله على اختلاف أحواله بحيث لا يكون له حركة ولا سكون إلّا على السّنّة، وهذه الهجرة العليا لثبوت فضلها على الدوام. قال العلقمي: الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة. فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النّفس الأمّارة بالسّوء والشّيطان. والظّاهرة: الفرار بالدّين من الفتن. وكأنّ المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتّكلوا على مجرّد التحوّل من دارهم حتّى يمتثلوا أوامر الشّرع ونواهيه. ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لمّا فتحت مكّة؛ تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك؛ بأنّ حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما حرّم الله!! فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام. انتهى شروح «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البخاري في «كتاب الإيمان» لكن بلفظ: «ما نهى الله عنه» ، وأبو داود في «الجهاد» ، والنّسائي في «الإيمان» ، وهذا لفظه؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه، ولم يخرّجه مسلم؛ قاله المناوي على «الجامع» . 209- ( «مع كلّ فرحة ترحة» ) في «النهاية» الترح ضد الفرح. انتهى؛ أي: مع كلّ سرور حزن؛ أي: يعقبه. حتّى كأنّه معه؛ أي: جرت عادة الله بذلك؛ لئلا تسكن نفوس العقلاء إلى نعيمها، ولا تعكف قلوب المؤمنين على فرحاتها؛ فيمقتها الله سبحانه عند هجوم ترحاتها، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) [القصص] قال بعضهم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 210- «مفتاح الجنّة.. لا إله إلّا الله» . ثمانية تجري على سائر الورى ... ولا بدّ للمرء يذوق الثّمانيه ففرح وكره واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثمّ سقم وعافيه والحديث ذكره في «الجامع» و «الكنوز» مرموزا له برمز الخطيب في ترجمة أبي بكر الشّيرازي؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وفيه حفص بن غياث، أورده الذّهبي في الضّعفاء، وقال: مجهول. انتهى «مناوي» . 210- ( «مفتاح الجنّة) أي: مبيح دخولها (لا إله إلّا الله» ) أي؛ وأنّ محمّدا رسول الله، وفيه استعارة لطيفة، لأن الكفر لما منع من دخول الجنّة، شبّه بالغلق المانع من دخول الدّار ونحوها؛ والإتيان بالشّهادة لمّا رفع المانع؛ وكان سبب دخولها شبّه بالمفتاح. وفي البخاري؛ عن وهب أنّه قيل له: أليس مفتاح الجنّة لا إله إلّا الله قال: بلى؛ ولكن ليس مفتاح إلّا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلّا! فلا. فجعل الأعمال الصالحة الّتي هي ثمرة الشهادة بمنزلة أسنان المفتاح. انتهى مناوي على «الجامع» . وقال الشريف الرضي: المراد أنّ هذا القول به يوصل إلى دخول الجنة، فجعله عليه الصّلاة والسّلام بمنزلة المفتاح الّذي به يستفتح الغلق؛ ويستفرج الباب. وأراد عليه الصّلاة والسّلام هذه الكلمة وما يتبعها من شعائر الإسلام وقوانين الإيمان، إلّا أنّه صلى الله عليه وسلم عبّر عن جميع ذلك بهذه الكلمة، لأنّها أوّل لتلك الشعائر، وسائرها تابع لها ومتعلّق بها، فهي لها كالزّمام القائد والمتقدّم الرّائد، وذلك كما يعبّرون عن حروف المعجم ببعضها، فيقال: «ألف باء تاء ثاء» والمراد جميعها، وكذلك يقولون هو في «أبجد» ويريدون سائر هذه الحروف، إلّا أنّ هذه الحروف لمّا كانت أوّلة لباقيها ومتقدّمة لما يليها، حسن أن يعبّر بها عن جميعها. انتهى. والحديث ذكره في «كشف الخفاء» باللّفظ الّذي أورده المصنّف؛ وقال: رواه الإمام أحمد عن معاذ رفعه، قال النجم: وفي لفظ «مفاتيح الجنّة» . وضعّفوه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 211- «ملاك الدّين.. الورع» . لكن عند البخاري عن وهب ما يشهد له. انتهى. وذكره «في كنوز الحقائق» ، مرموزا له برمز الديلمي في «الفردوس» ، وذكره في «الجامع» بلفظ «مفاتيح الجنّة شهادة ألاإله إلّا الله» ، ورمز له برمز الإمام أحمد؛ عن معاذ بن جبل، قال الهيثمي: رجاله وثّقوا، إلّا أنّ شهرا لم يسمع من معاذ. انتهى مناوي على «الجامع» . وفي «فيض القدير» للمناوي: تنبيه: قد جعل الله لكلّ مطلوب مفتاحا يفتح به؛ فجعل مفتاح الصّلاة الطّهور، ومفتاح الحجّ الإحرام، ومفتاح البرّ الصّدقة، ومفتاح الجنّة التّوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال والإصغاء، ومفتاح الظّفر الصّبر، ومفتاح المزيد الشّكر، ومفتاح الولاية والمحبّة الذّكر، ومفتاح الفلاح التّقوى، ومفتاح التّوفيق الرّغبة والرّهبة، ومفتاح الإجابة الدّعاء، ومفتاح الرّغبة في الآخرة الزّهد في الدّنيا، ومفتاح الإيمان التفكّر في مصنوعات الله، ومفتاح الدّخول على الله استسلام القلب والإخلاص له في الحبّ والبغض، ومفتاح حياة القلوب تدبّر القرآن والضّراعة بالأسحار وترك الذّنوب، ومفتاح حصول الرّحمة الإحسان في عبادة الحقّ؛ والسّعي في نفع الخلق؛ ومفتاح الرزق السّعي مع الاستغفار، ومفتاح العزّ الطّاعة، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كلّ خير الرّغبة في الآخرة، ومفتاح كلّ شرّ حبّ الدّنيا وطول الأمل. وهذا باب واسع من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، ولا يقف عليه إلّا الموفّقون. انتهى. 211- ( «ملاك) - بكسر الميم وفتحها- (الدّين) - أي: قوامه، ونظامه، وما يعتمد عليه فيه- هو: (الورع» ) بالكفّ عن التّوسّع في الأمور الدّنيويّة؛ المشغلة عن ذكر الله ودوام مراقبته. والورع أصله: النّظر البالغ في كلّ شيء، والبحث التّام عن كلّ شيء هو بصدده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 212- «المكر والخديعة.. في النّار» . وأصل الملاك استحكام القدرة؛ يعني أنّ إحكام الدّين يكون بالورع، بمعنى أنه إذا وجد كان الدّين على غاية من الكمال، وذلك لأن الورع دائم المراقبة للحقّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلا بحقّ؛ كما قال الحبر ابن عباس: كان عمر كالطّير الحذر. والحديث أخرجه أبو الشيخ ابن حيان، والدّيلمي؛ كلاهما عن عبادة بن الصّامت. وأخرجه الخطيب وابن عبد البرّ؛ كلاهما عن ابن عباس. وأخرجه ابن عبد البر؛ عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي الشيخ بن حيّان. 212- ( «المكر) : إضمار السوء لغيره (والخديعة) : إيصال المكروه للغير، من حيث لا يعلم (في النّار» ) ومعناه- كما قال العسكري-: أنّ صاحب المكر والخداع لا يكون تقيّا، ولا خائفا لله، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق نفسه، وهذا لا يكون في تقي، فكلّ خلّة جانبت التّقى فهي في النّار؛ أي صاحبها. انتهى. ومقتضى هذا تغاير المكر للخديعة، لأنّه جعل المكر سبب الغدر، وهو سبب الخديعة؛ والسبب مغاير للمسبب!! وفي «القاموس» وغيره: المكر الخديعة!! والجواب: أنّه جرد المكر عن معناه، كما ذكرناه؛ فلا يخالف ترادفهما. وقال الرّاغب: المكر والخديعة متقاربان، وهما اسمان لكلّ فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره؛ ويكون سيّئا، كقصد إنزال مكروه بالمخدوع. وإيّاه قصد صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، ومعناه يؤدّيان بقاصدهما إلى النّار، ويكون حسنا؛ وهو أن يقصد فاعلهما مصلحة بالمخدوع والممكور به، كما يفعل بالصّبي إذا امتنع من فعل خير، ولكونهما ضربين قال تعالى وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) [فاطر] ، ووَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [43/ فاطر] ووصف نفسه بالمكر الحسن؛ فقال وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) [آل عمران] . انتهى زرقاني على «المواهب» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 213- «من أبطأ به عمله.. لم يسرع به نسبه» . 214- «من اتّقى الله.. كلّ لسانه، ولم يشف غيظه» . والحديث ذكره في «المواهب» وقال: رواه الديلمي؛ عن أبي عن أبي هريرة، والقضاعي؛ عن ابن مسعود وزاد: «من غشّنا فليس منّا» . وفي الباب غيرهما، ونحو «ليس منّا من ضارّ مسلما وما كره» رواه الترمذي. انتهى مع زيادة من «شرح الزرقاني» . 213- ( «من أبطأ) - بألف قبل الموحدة ودونها: روايتان، وهما بمعنى، إلّا أنّ السّخاوي ادّعى أنّ لفظ مسلم بلا ألف، وأنّ رواية القضاعي «أبطأ» بألف- (به عمله) - أي: أخّره عمله السّيء، أو تفريطه في العمل الصّالح؛ بأن لم يأت به على الوجه الأكمل- (لم يسرع به نسبه» ) - أي: لا ينفعه في الآخرة شرف النّسب؛ فلا يعجل به إلى منازل السعداء. والحديث رواه مسلم، وأبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه، وأحمد، والعسكري، والقضاعي؛ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ في آخر حديث لفظه: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا ... » الخ. انتهى «زرقاني» . 214- ( «من اتّقى الله) - أي: أطاعه في أمره ونهيه بقدر الاستطاعة- (كلّ) بفتح الكاف وشدّ اللام؛ أي: تعب وأعيا- (لسانه، ولم يشف غيظه» ) ممّن فعل به مكروها، لأنّ التّقوى عبارة عن امتثال أوامر الله؛ وتجنّب نواهيه. ولن يصل العبد إلى القيام بأوامره، إلّا بمراقبة قلبه وجوارحه في لحظاته وأنفاسه؛ بحيث يعلم أنّه مطّلع عليه وعلى ضميره، ومشرف على ظاهره وباطنه؛ محيط بجميع لحظاته وخطراته وخطواته، وسائر حركاته وسكناته، وذلك مانع له مما ذكر. فمن زعم أنّه من المتقين؛ وهو ذرب اللّسان، منتصر لنفسه، مشف لغيظه؛ فهو من الكاذبين، لا بل من الهالكين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 215- «من اتّقى الله.. وقاه كلّ شيء» . 216- «من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله.. فلينظر منزلة الله عنده» . والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال: أخرجه ابن أبي الدّنيا في «كتاب التّقوى» ؛ عن سهل بن سعد. ورواه عنه أيضا الدّيلميّ في «مسند الفردوس» قال الحافظ العراقي: وسنده ضعيف، قال: ورأيناه في «الأربعين البلدانية» للسّلفي. انتهى مناوي على «الجامع» . 215- ( «من اتّقى الله وقاه كلّ شيء» ) يخافه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) [يونس] ، فأعظم بخصلة تضمّنت موالاة الله وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشرى في الدّنيا والعقبى!! فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) [التوبة] ، أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [62- 64/ يونس] . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ وقال: أخرجه ابن النّجّار في «تاريخه» ؛ عن ابن عباس، ورواه عنه أيضا الخطيب في «تاريخه» باللفظ المزبور. انتهى مناوي على «الجامع» . 216- ( «من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله) - أي: هل هو من النّاجين المحبوبين لله؛ أم لا- (فلينظر) - كيف- (منزلة الله عنده» ) من الوقار والإجلال المستلزمين لامتثال الأوامر واجتناب النّواهي، فمنزلة الله عند العبد في قلبه على قدر معرفته إيّاه؛ وعلمه به وإجلاله وتعظيمه، والحياء والخوف منه، وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، والوقوف عند أحكامه بقلب سليم ونفس مطمئنة، والتّسليم له روحا وبدنا وقلبا، ومراقبة تدبيره في أموره، ولزوم ذكره، والنّهوض بأثقال نعمته ومنّته، وترك مشيئة نفسه لمشيئته وحسن الظّنّ به، والنّاس في ذلك درجات، وحظوظهم بقدر حظوظهم من هذه الأشياء؛ فأوفرهم حظّا منها أعظمهم درجة عنده، وعكسه بعكسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 ......... قال ابن عطاء الله: إذا أردت أن تعرف مقامك عنده؛ فانظر ما أقامك فيه! فإن كان في الخدمة؛ فاجتهد في تصحيح عبوديتك، ودوام المراقبة في خدمتك، لأنّ شرط العبوديّة المراقبة في الخدمة لمراد المولى؛ وهي المعرفة، لأنك إذا عرفت أنّه أوجدك وأعانك واستعملك فيما شاء- وأنت عاجز- عرفت نفسك، وعرفت ربّك، ولزمت طاعته. إذا أردت أن ترى مقامكا ... لديه فلتنظر بما أقامكا فقيمة الإنسان عند ربّه ... بقدر ما شغله الرّبّ به قال بعض العارفين: إن أردت أن تعرف قدرك عنده؛ فانظر فيم يقيمك. متى رزقك الطّاعة والغنى به عنها؛ فاعلم أنّه أسبغ نعمه عليك ظاهرة وباطنة. وخير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك. متى رزقت طاعة مع الغنى ... عنها بمولاك فقد نلت المنى إذ أسبغ الله عليك نعمه ... ظاهرة باطنة وكرمه أجلّ ما تطلبه من ربّكا ... ما هو طالب له من نفسكا والحديث ذكره المناويّ في «الطّبقات» ، وقال في «العزيزي» : رواه الحاكم بلفظ: «من كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه» . وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «من أراد أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده» ورمز له برمز الدارقطني في «الأفراد» ؛ عن أنس بن مالك، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وعن سمرة بلفظ: «من سرّه أن يعلم ... الخ» وقال: إنه غريب من حديث صالح المرّي. وصالح المرّي. وصالح المرّي ذكره الذّهبي في الضعفاء؛ وقال فيه: قال النّسائي وغيره: متروك. ورواه الحاكم عن جابر بلفظ: «من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 217- «من أحبّ دنياه.. أضرّ باخرته، ومن أحبّ آخرته.. أضرّ بدنياه؛ فاثروا ما يبقى على ما يفنى» . عنده، فإنّ الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه» انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . 217- ( «من أحبّ دنياه أضرّ باخرته) لأن حبّها يشغله عن تفريغ قلبه لحبّ ربّه ولسانه لذكره؛ فتضرّ آخرته (ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه) فهما ككفّتي الميزان؛ إذا رجحت إحداهما خفّت الآخرى. قال الإمام علي رضي الله عنه: الدّنيا والآخرة كالمشرق والمغرب؛ إذا قربت من إحداهما بعدت عن الآخرى، فالجمع بين الدّنيا والدّين على الكمال لا يكاد يقع، إلّا لمن سخّره الله لتدبير خلقه في معاشهم ومعادهم؛ وهم الأنبياء. أمّا غيرهم! فإذا شغلت قلوبهم بالدّنيا انصرفت عن الآخرة، وذلك أنّ حبّ الدّنيا سبب لشغله بها والانهماك فيها؛ وهو سبب للشّغل عن الآخرة، فتخلو عن الطّاعة، فيفوت الفوز بدرجاتها؛ وهو عين المضرّة. بنى ملك من الملوك مدينة وتأنّق فيها، ثمّ صنع طعاما ونصب ببابها من يسأل عنها. فلم يعبها إلّا ثلاثة، فسألهم فقالوا: رأينا عيبين. قال: وما هما؟ قالوا: تخرب ويموت صاحبها. قال: فهل ثمّ دار تسلم منها؟! قالوا: نعم، الآخرة، فتخلّى عن الملك وتعبّد معهم، ثمّ ودّعهم، فقالوا: هل رأيت منا ما تكره!!. قال: لا، لكن عرفتموني فأكرمتموني، فأصحب من لا يعرفوني. انتهى «مناوي» . (فاثروا) أي: إذا علمتم ذلك فقدّموا (ما يبقى على ما يفنى» ) فقد ذمّ الله من يحبّ الدّنيا، ويؤثرها على الآخرة، بقوله كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) [القيامة] وذمّ حبّها يستلزم مدح بغضها. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا برمز الإمام أحمد، والحاكم؛ عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 218- «من أحبّ شيئا.. أكثر من ذكره» . 219- «من أحبّ قوما.. حشره الله في زمرتهم» . أبي موسى الأشعري، قال الحاكم: على شرطهما، وردّه الذّهبي، وقال: فيه انقطاع. انتهى. وقال المنذري والهيثمي: رجال أحمد ثقات. انتهى. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح. انتهى. 218- ( «من أحبّ شيئا أكثر من ذكره» ) أي: علامة صدق المحبّة إكثار ذكر المحبوب، ولهذا قال أبو نواس: فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر قال في «الرعاية» : علامة المحبّين كثرة ذكر المحبوب على الدّوام؛ لا ينقطعون، ولا يملّون، ولا يفترون، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبّين؛ لا يريدون به بدلا، ولا يبغون عنه حولا، لو قطعوا عن ذكر محبوبهم فسد عيشهم!. وقال بعضهم: علامة المحبّة ذكر المحبوب على عدد الأنفاس. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث رواه أبو نعيم، والديلمي؛ عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا. 219- ( «من أحبّ قوما حشره الله في زمرتهم» ) ، فمن أحبّ أولياء الرّحمن فهو معهم في الجنان، ومن أحب حزب الشّيطان فهو معهم في النيران. وفيه بشارة عظيمة لمن أحب الصوفيّة؛ أو تشبّه بهم، وأنّه يكون مع تفريطه بما هم عليه معهم في الجنّة. والحديث أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، والضياء المقدسي؛ عن أبي قرصافة بكسر القاف فسكون الراء فصاد مهملة ففاء- واسمه: حيدة، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم! فقال السخاوي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي ضعيف. انتهى مناوي؛ على «الجامع» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 220- «من أحبّ لقاء الله.. أحبّ الله لقاءه» . قال في «كشف الخفا» ، ويشهد له حديث: «المرء مع من أحبّ» . انتهى» . 220- ( «من أحبّ لقاء الله) أي: المصير إلى الدار الآخرة، بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يبشر برضوان الله؛ فيكون موته أحبّ إليه من حياته (أحبّ الله لقاءه» ) أي: أفاض عليه فضله وأكثر عطاياه. وتمام الحديث: «ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قالت عائشة؛ أو بعض أزواجه: إنّا لنكره الموت!. قال: «ليس ذلك، ولكنّ المؤمن إذا حضره الموت وبشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبّ إليه ممّا أمامه؛ فأحبّ لقاء الله وأحبّ الله لقاءه، وإنّ الكافر إذا حضره الموت وبشّر بعذاب الله وعقابه، فليس شيء أكره إليه ممّا أمامه؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه» . انتهى. قال النّوويّ: هذا الحديث يفسّر آخره أوّله، ويبيّن المراد بباقي الأحاديث المطلقة: من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله. ومعنى الحديث: أنّ الكراهة المعتبرة هي التّي تكون عند النّزع؛ في حالة لا تقبل فيها توبة، ولا غيرها، فحينئذ يبشّر كلّ إنسان بما هو صائر إليه، وما أعدّ له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السّعادة يحبّون الموت ولقاء الله؛ لينقلوا إلى ما أعدّ لهم، ويحبّ الله لقاءهم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاء يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينقلبون إليه ويكره الله لقاءهم، أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه وتعالى لقاءهم. وليس معنى الحديث: أنّ سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك!! ولا أنّ حبّه لقاء الآخرين حبّهم ذلك!! بل هو صفة لهم. انتهى. والحديث متفق عليه من حديث أبي موسى وعبادة بن الصّامت: البخاري في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 221- «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه.. فهو ردّ» . «الرّقاق» ، ومسلم في «الدّعوات» عنهما، وعن أبي هريرة، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم. و «في كشف الخفا» : أنّه أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي، والتّرمذي في «الزّهد» ، والنّسائي في «الجنائز» ؛ عن عائشة، وعن عبادة رضي الله تعالى عنهما. قال في «الكشف» : وروى مالك، والبخاري- واللفظ له-، ومسلم، والتّرمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال الله تعالى: «إذا أحبّ عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» . انتهى. 221- ( «من أحدث) أي: أنشأ واخترع وأتى بأمر حديث من قبل نفسه (في أمرنا) أي: شأننا الذي نحن عليه، وهو ما شرعه الله تعالى ورسوله، واستمرّ العمل به، وهو دين الإسلام، عبّر عنه بالأمر تنبيها على أنّ هذا الدّين هو أمرنا الّذي نهتمّ به، ونشتغل به؛ بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا، ولا من أفعالنا. (هذا) موضوع ليشار به لمحسوس مشاهد، وهو هنا مشار به للدّين المعقول، لتنزيله منزلة المحسوس المشاهد؛ اعتناء بشأنه وإشارة إلى جلالته ومزيد رفعته، وتعظيمه بالقرب؛ تنزيلا له باعتبار جلالته منزلة القريب، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يطلب القرب منه وتتوجّه الهمم إلى الوصول إليه. قال الطّيبيّ: وفي وصف الأمر ب «هذا» إشارة إلى أنّ أمر الإسلام كمل، واشتهر وشاع وظهر ظهورا محسوسا؛ بحيث لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة. انتهى. (ما) أي: شيئا (ليس منه) أي: ليس له في الكتاب أو السّنّة عاضد ظاهر، أو خفيّ ملحوظ أو مستنبط، (فهو ردّ» ) أي: مردود على فاعله، لبطلانه وعدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 ......... الاعتداد به؛ من إطلاق المصدر على اسم المفعول، كخلق ومخلوق ونسج ومنسوج، سواء كانت منافاته لما ذكر 1- لعدم مشروعيّته بالكليّة؛ كنذر القيام وعدم الاستضلال. أو 2- للإخلال بشرطه، أو ركنه؛ عبادة كانت أو عقدا، فلا ينقل الملك مطلقا، أو للزّيادة على المشروع فيه نحو الزّيادة في الصّلاة دون الوضوء. أو 3- لارتكاب منهياته، كذبح المحرم للصيد، ولبسه للخفّ بلا عذر؛ فلا يمسح عليه، وجماع الصائم، وجماع الحاجّ قبل التّحلّل الأول. أمّا ما عضده عاضد؛ بأن شهد له شيء من أدلة الشرع، أو قواعده!! فليس بردّ على فاعله، بل هو مقبول منه؛ كبناء نحو الرّبط والمدارس وسائر أنواع البرّ الّتي لم تعهد في الصّدر الأول، فإنّه موافق لما جاءت به الشريعة؛ من اصطناع المعروف والمعاونة على البّر والتقوى. وكالتّصنيف في جميع العلوم النافعة الشرعية؛ على اختلاف فنونها، وتقرير قواعدها، وكثرة التفريعات، وفرض ما لم يقع، وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسّنّة، والكلام على الأسانيد والمتون، وتتبع كلام العرب؛ نثره ونظمه، وتدوين كلّ ذلك، واستخراج علوم اللّغة؛ كالنّحو، والمعاني، والبيان، والأوزان، فذلك كلّه وما شاكله معلوم حسنه، ظاهرة فائدته، معين على معرفة كتاب الله تعالى، وفهم معاني كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مأمورا به. وكتفريع الأصول والفروع، وما يحتاجان إليه من الحساب وغيره من العلوم الآليّة، وككتابة القرآن في المصاحف، ووضع المذاهب وتدوينها، وتصنيف الكتب ومزيد إيضاحها وتبيينها، وغير ذلك ممّا مرجعه ومنتهاه إلى الدّين بواسطة أو وسائط، فإنّه مقبول من فاعله، مثاب ممدوح عليه. ومن ثمّ استجاز كثيرا منه الصّحابة رضوان الله عليهم؛ كما وقع لأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم في جمع القرآن، فإنّ عمر أشار به على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 ......... أبي بكر؛ خوفا من اندراس القرآن بموت الصّحابة رضي الله تعالى عنهم لمّا كثر فيهم القتل يوم اليمامة وغيره، فتوقف لكونه صورة بدعة، ثمّ شرح الله صدره لفعله، لأنّه ظهر له أنه يرجع إلى الدّين، فإنّه غير خارج عنه. ومن ثمّ لمّا دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع قال له: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله!! فقال: والله إنّه حقّ. ولم يزل يراجعه حتّى شرح الله صدره للّذي شرح له صدرهما. وكما وقع لعمر رضي الله عنه في جمع النّاس لصلاة التّراويح في المسجد، مع تركه صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله ليالي، وقال- أعني عمر-: نعمت البدعة هي. أي: لأنها؛ وإن أحدثت ليس فيها ردّ لما مضى، بل موافقة له، لأنّه صلى الله عليه وسلم علّل التّرك بخشية الافتراض، وقد زال ذلك بوفاته صلى الله عليه وسلم. وقال الشّافعي رضي الله عنه: ما أحدث فخالف كتابا أو سنّة أو إجماعا أو أثرا؛ فهو البدعة الضالّة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك؛ فهو البدعة المحمودة. والحاصل: أنّ البدعة الحسنة متّفق على ندبها، وهي ما وافق شيئا مما مرّ؛ ولم يلزم من فعله محذور شرعيّ. ومنها ما هو فرض كفاية، كتصنيف العلوم ونحوها ممّا مرّ. انتهى. من «الفتح المبين» للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى. والحديث أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ كلّهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» أي: مردود عليه، وإن لم يكن هو المحدث له. فاستفيد منه زيادة على ما مرّ- وهي الردّ- لما قد يحتجّ به بعض المبتدعة؛ من أنّه لم يخترع، وإنّما المخترع من سبقه!! ويحتجّ بالرّواية الأولى فيردّ عليه بهذه الرّواية الصّريحة في ردّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 222- «من أرضى النّاس بسخط الله.. وكله الله إلى النّاس» . 223- «من أطاع الله.. فاز» . 224- «من أعان ظالما.. سلّطه الله عليه» . المحدثات المخالفة للشّريعة؛ بالطريقة الّتي قدّمناها، سواء أحدثها الفاعل؛ أو سبق بإحداثها. وفي الحديث دلالة للقاعدة الأصولية أنّ مطلق النّهي يقتضي الفساد، لأنّ المنهي عنه ليس من الدّين، بل مخترع محدث، وقد حكم عليه بالردّ المستلزم للفساد. وفيه دلالة على إبطال جميع العقود المنهيّة، وعدم وجود ثمراتها المترتّبة عليها، وهو حديث عظيم معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده. قال النّوويّ: ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به لذلك. انتهى. 222- ( «من أرضى النّاس بسخط الله) كأن وافقهم على غيبة شخص (وكله الله إلى النّاس» ) ومن وكله إليهم وقع في المهلكات؛ لأنّه لما رضي لنفسه بولاية من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ وكله إليه. وتمام الحديث: «ومن أسخط النّاس برضاء الله كفاه الله مؤنة النّاس» . ذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز الترمذي، وأبي نعيم في «الحلية» ؛ عن عائشة رضي الله عنها، ورواه عنها أيضا الدّيلمي والعسكري. انتهى «مناوي» . قال في «العزيزي» : وإسناده حسن. 223- ( «من أطاع الله فاز» ) ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز الإمام أحمد. 224- ( «من أعان ظالما) على ظلمه (سلّطه الله عليه» ) ؛ عدلا منه سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 225- «من بثّ.. لم يصبر» . 226- «من بورك له في شيء.. فليلزمه» . وتعالى، فإنّه أحكم الحاكمين. والحديث ذكره في «الكنوز» و «الجامع» مرموزا له برمز ابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن ابن مسعود رفعه، وهو حديث ضعيف- كما في «العزيزي» - بل قال المناوي كغيره: في سنده زكريا العدوي متّهم بالوضع!! أي: فيكون على هذا ضعيفا شديد الضّعف. 225- ( «من بثّ) أي: أذاع ونشر وشكا مصيبته للنّاس (لم يصبر» ) أي: لأنّ الشّكوى منافية للصّبر إذا كانت الشكوى على جهة الجزع. والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز ابن عساكر، وفي «الجامع» ذكره من حديث تمّام؛ عن ابن مسعود، وهو قطعة من حديث أوّله «ثلاث من كنوز البرّ ... الخ» . 226- ( «من بورك له في شيء) من نحو صناعة، أو حرفة، أو تجارة (فليلزمه» ) أي: من جعلت معيشته في شيء من ذلك؛ فلا ينتقل عنه حتى يتغيّر، لأنه قد لا يفتح عليه في المنتقل إليه فهو خلقك لما شاء؛ لا لما تشاء، فكن مع مراد الله فيك؛ لا مع مرادك لنفسك. قال في «الحكم» : من علامة إقامة الحقّ لك في الشي إدامته إياك فيه مع حصول النّتائج. قال النّاظم: نتيجة الشّيء والاستقامه ... فيه دواما آية الإقامة والحديث أخرجه ابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وذكره في «الكنوز» . وأخرجه البيهقي في «الشعب» ، والقضاعي عنه بلفظ: «من رزق» . وفي لفظ للبيهقي: «من رزقه الله رزقا في شيء فليلزمه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 227- «من تأنّى.. أصاب أو كاد، ومن عجل.. أخطأ أو كاد» . ولابن ماجه؛ عن نافع قال: كنت أجهّز إلى الشّام وإلى مصر فجهّزت إلى العراق، فأتيت أمّ المؤمنين عائشة فقلت لها: يا أمّ المؤمنين؛ كنت أجهّز إلى الشّام وإلى مصر، فجهّزت إلى العراق!! فقالت: لا تفعل، مالك ولمتجرك!؟ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سبّب الله لأحدكم رزقا من وجه؛ فلا يدعه حتّى يتغيّر له؛ أو يتنكّر» . ورواه البيهقي أيضا؛ عنه بسند ضعيف بلفظ: «إذا قسم لأحدكم رزق فلا يدعه حتّى يتغيّر أو يتنكّر له» . وبلفظ: «إذا فتح لأحدكم رزق من باب فليلزمه» . ورواه أحمد؛ عن جابر أيضا بسند ضعيف، ورواه في «الإحياء» بلفظ: «من جعلت معيشته في شيء؛ فلا ينتقل عنه حتّى يتغيّر» انتهى. من «كشف الخفا» للعجلوني. 227- ( «من تأنّى) في أموره (أصاب) الحقّ ونال المطلوب (أو كاد) أن يصيب؛ أي: قارب الإصابة (ومن عجل) - بكسر الجيم- (أخطأ، أو كاد» ) أن يخطئ؛ أي: قارب الخطأ، لأن العجلة شؤم الطبع، فجاء المشرّع بضدّ الطّبع، وجعل في التأنّي اليمن والبركة، فإذا ترك شؤم الطّبع وأخذ بأمر الشّرع أصاب الحقّ، ونال المراد أو قارب؛ لتعرّضه لرضا ربّه. قال الغزالي: الاستعجال هو الخصلة المفوّتة للمقاصد؛ الموقعة في المعاصي، ومنها تبدو آفات كثيرة، وفي المثل السائر: إذا لم تستعجل تصل. قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 228- «من تشبّه بقوم.. فهو منهم» . قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل ومن آفاته أنّه مفوّت للورع، فإنّ أصل العبادات وملاكها الورع، والورع أصله النّظر البالغ في كلّ شيء، والبحث التّام عن كلّ شيء هو بصدده، فإن كان المكلّف مستعجلا، لم يقع منه توقّف ونظر في الأمور كما يجب، ويتسارع إلى كلّ طعام فيقع في الزّلل والخلل. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ، وكذا في «الأوسط» كلاهما؛ عن عقبة بن عامر بإسناد حسن، كما قال العزيزي: وقضيّة كلام المناوي أنّه ضعيف. 228- ( «من تشبّه بقوم) - أي: تزيّا في ظاهره بزيّهم، وفي تعرّفه بفعلهم، وفي تخلّقه بخلقهم، وسار بسيرتهم وهداهم في ملبسهم وبعض أفعالهم، أي: وكان التشبّه بحقّ قد طابق فيه الظّاهر الباطن- (فهو منهم» ) وقيل: المعنى من تشبّه بالصّالحين فهو من أتباعهم؛ يكرم كما يكرمون، ومن تشبّه بالفسّاق يهان ويخذل مثلهم، ومن وضع عليه علامة الشّرف أكرم؛ وإن لم يتحقّق شرفه. وفيه أنّ من تشبّه من الجنّ بالحيّات وظهر بصورتهم قتل، وأنّه لا يجوز في زماننا لبس العمامة الصفراء أو الزرقاء؛ إذا كان مسلما. كذا ذكره ابن رسلان. وبأبلغ من ذلك صرّح القرطبيّ فقال: لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظنّ به من لا يعرفه أنّه منهم! فيظنّ به ظنّ السّوء؛ فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه. وقال بعضهم: قد يقع التشبّه في أمور قلبية، من اعتقادات وإرادات وأمور خارجية من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات؛ في نحو طعام ولباس، ومسكن ونكاح، واجتماع وافتراق، وسفر وإقامة وركوب وغيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 ......... وبين الظّاهر والباطن ارتباط ومناسبة، وقد بعث الله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحكمة، الّتي هي سنّة، وهي الشّرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان ممّا شرعه له من الأقوال والأفعال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضّالّين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظّاهر في هذا الحديث؛ وإن لم يظهر فيه مفسدة، لأمور؛ منها أنّ المشاركة في الهدي الظّاهر تؤثّر تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، تعود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإنّ لابس ثياب العلماء مثلا، يجد من نفسه نوع انضمام إليهم؛ ولابس ثياب الجند المقاتلة مثلا، يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، وتصير طبيعته منقادة لذلك إلّا أن يمنعه مانع. ومنها أنّ المخالفة في الهدي الظّاهر توجب مباينة ومفارقة؛ توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضّلال، والانعطاف على أهل الهدي والرّضوان. ومنها أنّ مشاركتهم في الهدي الظّاهر توجب الاختلاط الظّاهر؛ حتّى يرتفع التّمييز ظاهرا بين المهديّين المرضيّين، وبين المغضوب عليهم والضّالين ... إلى غير ذلك من الأسباب الحكميّة الّتي أشار إليها هذا الحديث وما أشبهه. وقال ابن تيميّة: هذا الحديث أقلّ أحواله أن يقتضي تحريم التشبّه بأهل الكتاب!! وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [51/ المائدة] . وهو نظير قول ابن عمر «ومن بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبّه بهم حتّى يموت؛ حشر يوم القيامة معهم» فقد حمل هذا على التشبّه المطلق، فإنّه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك. وقد يحمل منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه؛ فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها؛ كان حكمه كذلك. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الكشف» ك «الجامع» وقال: رواه أحمد وأبو داود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 229- «من تعلّق بشيء.. وكل إليه» . والحاكم والطّبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمر رفعه، وفي سنده ضعيف كما في «اللآلي» و «المقاصد» . لكن قال العراقي: سنده صحيح. وله شاهد عند البزار؛ عن حذيفة وأبي هريرة، وعند أبي نعيم في «تاريخ أصبهان» ؛ عن أنس، وعند القضاعي؛ عن طاووس مرسلا، وصححه ابن حبّان. وتقدّم في «إنّما العلم بالتّعلّم» في أثر عن الحسن: قلّما تشبّه رجل بقوم إلّا كان منهم. وقال النّجم: قلت: روى العسكري عن حميد الطّويل؛ قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلّم، وإذا لم تكن عالما فتعلّم؛ فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم. انتهى. 229- ( «من تعلّق بشيء) - قال في «النّهاية» : أي: من علّق على نفسه شيئا من التّعاويذ والتّمائم وأشباهها، معتقدا أنها تجلب نفعا، أو تدفع عنه ضرّا- (وكل إليه» ) أي: وكلّ الله شفاءه إلى ذلك الشّيء فلا ينفع. أما إذا اعتقد أنّ الشّفاء من الله تعالى حقيقة، وأنّ هذا الدواء أو هذه التميمة أسباب عادية!! فلا بأس به، إذ الأسباب لا تنافي التّوكّل؛ قاله الحفني. وكذلك من علّق شيئا من أسماء الله الصريحة، فهو جائز بل مطلوب محبوب، فإن من وكّل إلى أسماء الله أخذ الله بيده. وأمّا قول ابن العربي «السنّة في الأسماء والقرآن الذكر؛ دون التعليق» !! فممنوع. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد والتّرمذي والحاكم؛ عن عبد الله بن عليم- بالتصغير- الجهني، أبو سعيد الكوفي، أدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يره، فروى عن عمر وغيره، وقد سمع كتاب النّبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة. انتهى «مناوي» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 230- «من حسن إسلام المرء.. تركه ما لا يعنيه» . 230- ( «من حسن) فائدة الإتيان به!! الإشارة إلى أنّه لا عبرة بصور الأعمال فعلا وتركا، إلّا إذا اتّصفت بالحسن، بأن وجدت شروط مكمّلاتها؛ فضلا عن مصحّحاتها، وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة ذلك، لأنّ الحسن من وصف الملكات؛ والترك عدميّ، فوصفه بوصف الملكات مبالغة. (إسلام المرء) آثره على الإيمان!! لأنّه الأعمال الظّاهرة، والفعل والترك إنّما يتعاقبان عليها، لأنّها حركات اختيارية يتعاقبان فيها اختيارا، وأمّا الباطنة الرّاجعة للإيمان! فهي اضطرارية؛ تابعة لما يخلقه الله تعالى في النّفوس، ويوقعه فيها. وهذا من المواضع الّتي يجب فيها تقديم الخبر على المبتدأ، لئلّا يعود الضّمير فيه على المتأخّر لفظا ورتبة، لما في المبتدأ من ضمير يعود على متعلّق الخبر؛ فهو من باب «على التّمرة مثلها زبدا» ، فقوله: «من حسن إسلام المرء» ، خبر مقدّم، والمبتدأ هو قوله (تركه) - مصدر مضاف لفاعله- (ما) - أي: شيئا، أعمّ من أن يكون قولا أو فعلا- (لا يعنيه» ) بفتح أوله؛ من «عناه الأمر» ؛ إذا تعلقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته. ومفهومه: أنّ من قبح إسلام المرء أخذه فيما لا يعنيه. والّذي «لا يعني» هو: الفضول كلّه على اختلاف أنواعه. والّذي «يعني» الإنسان من الأمور: ما تعلّق 1- بضرورة حياته في معاشه؛ مما يشبعه من جوع، ويرويه من عطش، ويستر عورته، ويعفّ فرجه، ونحو ذلك مما يدفع الضّرورة؛ دون ما فيه تلذّذ وتنعّم واستكثار. و2- سلامته في معاده، وهو الإسلام والإيمان والإحسان، فإذا اقتصر على ما يعنيه سلم من سائر الآفات، وجميع الشرور، والمخاصمات، وكان ذلك من الفوائد الدّالّة على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه، ومعاناة ما عداه ضياع للوقت النّفيس، الّذي لا يمكن أن يعوّض فائته فيما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 231- «من رتع ... لم يخلق لأجله. فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه، أو قرب ربّه منه؛ فقد حسن إسلامه- كما مرّ-. وأخذ النّووي من هذا الخبر: أنّه يكره أن يسأل الرّجل فيم ضرب امرأته. قال بعضهم: وممّا لا يعني العبد تعلّمه ما لا يهمّ من العلوم وتركه أهمّ منه، كمن ترك تعلّم العلم الذي فيه صلاح نفسه، واشتغل بتعلّم ما يصلح به غيره، كعلم الجدل؛ ويقول في اعتذاره «نيتي نفع النّاس» ، ولو كان صادقا؛ لبدأ باشتغاله بما يصلح نفسه وقلبه، من إخراج الصّفات المذمومة؛ من نحو حسد ورياء، وكبر وعجب، وتطاول على الأقران، ونحوها من المهلكات. انتهى «مناوي على «الجامع» ، ومن شرح ابن حجر على «الأربعين النوويّة» . والحديث ذكره في «الجامع» ، و «الأربعين النووية» ، و «كشف الخفا» ؛ وقالوا: رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وابن ماجه، وأبو يعلى؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الإمام أحمد، والطبراني؛ عن الحسن بن علي. ورجالهما ثقات. ورواه الحكيم في «الكنى والألقاب» ؛ عن أبي بكر، والشيرازيّ؛ عن أبي ذر، والعسكري، والحاكم في «تاريخ نيسابور» ؛ عن علي بن أبي طالب، والطّبرانيّ في «الأوسط» ، عن زيد بن ثابت، وابن عساكر في «التّاريخ» ؛ عن أبي عبد الرحمن: الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المكيّ رفعوه، وقد أوضحه السّخاوي في تخريج أحاديث «الأربعين النووية» . قال المناوي على «الجامع» : وأشار باستيعاب مخرجيه!! إلى تقوّيه وردّ زعم جمع ضعّفه، ومن ثمّ حسّنه النّووي، بل صحّحه ابن عبد البر، وبذكره خمسة من الصّحابة إلى ردّ قول آخرين لا يصح إلّا مرسلا. انتهى. 231- ( «من رتع) بفتح المثناة الفوقية فيه وفي مضارعه، أي: رعى مواشيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 حول الحمى.. يوشك أن يواقعه» . 232- «من رضي بقسمة الله.. استغنى» . (حول) - يعني جانب- (الحمى) - بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مخففة، أي: المكان المحميّ، والمراد به موضع الكلأ الذي منع منه الغير، وتوعّد من رعى فيه- (يوشك) - بكسر الشين مضارع «أوشك» بفتحها أي: يقرب- (أن يواقعه» ) ؛ أي: تأكل ماشيته منه؛ فيعاقب. شبّه أخذ الشهوات بالراعي، والمحارم بالحمى، والشّبهات بما حوله، فكما أنّ الرّاعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد، لأنّه يلزم من القرب منه الوقوع وإن كثر الحذر؛ فيعاقب، كذلك حمى الله تعالى؛ أي: محارمه الّتي حظرها لا ينبغي قرب حماها؛ فضلا عنها، لغلبة الوقوع فيها حينئذ فيستحقّ العقوبة، وأنّ الّذي ينبغي تحرّي البعد عنها، وعمّا يجرّ إليها من الشّبهات ما أمكن، حتّى يسلم من ورطتها. ومن ثمّ قال تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [187/ البقرة] ، نهى عن المقاربة حذرا من المواقعة! والقصد إقامة البرهان على تجنّب الشّبهات، لأنّه لمّا كان حمى الله لا يدركه إلّا ذو البصائر؛ كان فيه نوع خفاء فضرب له المثل بالمحسوس، بخلاف حمى الملوك، فإنّه محسوس يحترز عنه كلّ بصير. انتهى ابن حجر «شرح الأربعين» ، ومناوي على «الجامع» . وهذا قطعة من حديث أخرجه أهل الكتب السّتّة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وله فوائد جمّة أفردت بالتّأليف، حتى قال بعضهم: إنّه عليه نور النّبوة، عظيم الموقع من الشّريعة. 232- ( «من رضي بقسمة الله) - تعالى أي: قنع بما أعطاه الله تعالى؛ ولم يتضجّر، ولم يتسخّط، وشكر الله- (استغنى» ) : اتّصف بالغنى الحقيقي الّذي هو الغنى عن الشّيء؛ لا به، وهو القناعة المحمودة، الّتي توجد في أفراد من النّاس، فليحمد الله على ما أكرمه الله به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 233- «من رضي عن الله.. رضي الله عنه» . والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز أبي الشيخ بن حيّان. 233- ( «من رضي عن الله) ؛ بأن سلّم لقضائه وقدره، من ضيق عيش وبلاء بدن، وفقد ولد؛ مثلا، فلا يتسخّط ولا يتشكّى- (رضي الله عنه» ) أي: أثابه وأدخله الجنّة ونعمه. قال الطّيبي: ولعلوّ هذه المرتبة التي هي الرّضا من الجانبين خصّ الله كرام الصّحب بها، حيث قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [8/ البينة] . قال بعضهم: رضا العبد عن الله: ألايختلج في سرّه أدنى حزازة من وقوع قضاء من أقضيته، بل يجد في قلبه لذلك برد اليقين، وثلج الصّدور، وشهود المصلحة، وزيادة الطّمأنينة. ورضا الله عن العبد: تأمينه من سخطه، وإحلاله دار كرامته. وقال السهروردي: الرّضا يحصل لانشراح القلب، وانفساحه، وانشراح القلب من نور اليقين، فإذا تمكّن النّور من الباطن؛ اتّسع الصّدر، وانفتحت عين البصيرة، وعاين حسن تدبير الله، فينزع السّخط والتّضجّر، لأنّ انشراح الصّدر؛ يتضمن حلاوة الحب، وفعل المحبوب، بموقع الرّضا عند المحبّ الصّادق، لأنّ المحبّ يرى أنّ الفعل من المحبوب مراده واختياره، فيفنى في لذّة اختيار المحبوب عن اختيار نفسه. وقال بعض العارفين: الرّضا عن الله باب الله الأعظم وجنّة الدّنيا ولذّة العارفين، والرّاضوان عن الله في الجنّة، وهم في الدّنيا راضون عنه؛ متلذّذون بمجاري أقضيته، سليمة صدورهم من الغل، مطهّرة قلوبهم عن الفساد، لا يتحاسدون ولا يتباغضون. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع» ، وقال: أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» ، عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 234- «من سرّته حسنته وساءته سيّئته.. فهو مؤمن» . 234- ( «من سرّته حسنته) ؛ أي: فرح بها لكونه راجيا ثوابها موقنا بنفعها، (وساءته سيّئته) ؛ أي: حصل له همّ وغمّ بارتكابها؛ (فهو مؤمن» ) كامل الإيمان، لأنّ هذا شأن من أيقن أنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، وأنّه يجازيه بعمله، وأمّا من لا يرى للحسنة فائدة ولا للمعصية آفة؛ فذلك يكون من استحكام الغافلة على قلبه، فإيمانه ناقص، ولهذا قال ابن مسعود- فيما خرّجه الحكيم التّرمذي-: بأنّ المؤمن إذا أذنب فكأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه فتقتله، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه. فعلامة المؤمن أن توجعه المعصية حتّى يسهر ليله فيما حلّ بقلبه من وجع الذّنب، ويقع في العويل كالّذي فارق محبوبه من الخلق بموت أو غيره، فيتفجّع لفراقه فيقع في النّحيب. نعم السّرور بالحسنة مقيّد في أخبار أخر؛ بأنّ شرطه ألاينتهي إلى العجب بها، فيسرّ بما يرى من طاعته فيطمئنّ بأفعاله؛ غافلا عن منّة الله فيها، فيكون قد انصرف عن الله إلى نفسه العاجزة الحقيرة الضّعيفة الأمّارة اللّوّامة، فيهلك. ولهذا قال بعض العارفين: ذنب يوصل العبد إلى الله تعالى خير من عبادة تصرفه عنه، وخطيئة تفقره إلى الله خير من طاعة تغنيه عن الله تعالى. معصية أورثت افتقارا ... خير من الطّاعة واستكبارا والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ، والسيّوطي في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ؛ عن أبي موسى الأشعري بإسناد ضعيف. ورواه الطّبراني عن أبي أمامة باللّفظ المذكور، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه النّسائي في «الكبرى» باللفظ المزبور؛ عن عمر، فساق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 235- «من صمت.. نجا» . بإسناده إلى جابر بن سمرة: أنّ عمر خطب النّاس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّته ... » الخ. قال الحافظ العراقي في «أماليه» : صحيح على شرط الشّيخين. وأخرجه أحمد في «المسند» بلفظ: «من ساءته سيّئته وسرّته حسنته فهو مؤمن» قال- أعني العراقي-: حديث صحيح. انتهى مناوي على «الجامع» . 235- ( «من صمت) ؛ أي: سكت عن النطق بما لا يعنيه، أي: ما لا ثواب فيه، (نجا» ) من العقاب والعتاب يوم الماب، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «كفّ عنك هذا، وهل يكبّ النّاس ... » الحديث، ولذا جعل للّسان حبسان: الأسنان والشّفتان. قال الغزالي: هذا من فصل الخطاب وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وجواهر حكمه، ولا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني؛ إلّا خواصّ العلماء، وذلك أنّ خطر اللّسان عظيم، وآفاته كثيرة؛ من نحو كذب، وغيبة، ونميمة، ورياء، ونفاق، وفحش، ومراء، وتزكية نفس، وخوض في باطل، ومع ذلك إنّ النّفس تميل إليها لأنها سبّاقة إلى اللّسان، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطّبع والشّيطان، فالخائض فيها قلّما يقدر على أن يلزم لسانه، فيطلقه فيما يحبّ، ويكفّه عما لا يحبّ، ففي الخوض خطر، وفي الصّمت سلامة؛ مع ما فيه من جمع الهمّ، ودوام الوقار، وإفراغ الفكر للعبادة، والذكر، والسّلامة من تبعات القول في الدّنيا، ومن حسابه في الآخرة. قال ابن حجر رحمه الله تعالى: الأحاديث الواردة في الصمت وفضله؛ ك «من صمت نجا» ، وحديث ابن أبي الدّنيا بسند رجاله ثقات: «أيسر العبادة الصّمت» !! لا تعارض حديث ابن عباس الّذي جزم بقضيّته الشّيخ في «التّنبيه» من النّهي عن صمت يوم إلى اللّيل، لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصّمت المرغّب فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 236- «من ضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنّة» . ترك الكلام الباطل، وكذا المباح؛ إن جرّ إليه، والصّمت المنهيّ عنه ترك الكلام في الحقّ لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطّرفين. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والتّرمذي في الزّهد؛ عن ابن عمرو بن العاص، وقال: غريب لا نعرفه، إلّا من حديث ابن لهيعة. قال النّووي في «الأذكار» بعد ما عزاه للتّرمذي: إسناده ضعيف، وإنّما ذكرته!! لأبيّنه لكونه مشهورا. وقال الزّين العراقي: سند التّرمذي ضعيف، وهو عند الطّبراني بسند جيّد. وقال المنذري: رواة الطّبراني ثقات. انتهى. وقال ابن حجر: رواته ثقات. انتهى مناوي على «الجامع» . 236- ( «من ضمن لي) - من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية، فأطلق الضّمان وأراد لازمه وهو أداء الحقّ الّذي عليه- (ما بين لحييه) ؛ بفتح اللّام وسكون المهملة، والتّثنية: هما العظمان بجانبي الفمّ، وأراد بما بينهما اللّسان وما يتأتّى به النّطق. (وما بين رجليه) ؛ أي: الفرج، ترك التّصريح به استهجانا له واستحياء، لأنّه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها. والمعنى: من أدّى الحقّ الّذي على لسانه، من النّطق بما يجب عليه أو الصّمت عما لا يعنيه، وأدّى الحقّ الّذي على فرجه من وضعه في الحلال، وكفّه عن الحرام. (ضمنت له على الله الجنّة» ) أي: دخوله إياها؛ قاله الحافظ وغيره. وقال الدّاودي أحمد بن نصر المالكي: المراد بما بين اللّحيين الفم بتمامه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 ......... فيتناول الأقوال كلّها والأكل والشّرب وسائر ما يتأتّى بالفم من النّطق، والفعل؛ كتقبيل وعضّ وشتم. قال- أعني الدّاودي-: ومن تحفّظ من ذلك أمن من الشرّ كلّه، لأنّه لم يبق إلّا السّمع والبصر. قال الحافظ: وخفي عليه أنّه بقي البطش باليدين؛ وإنّما محمل الحديث على أنّ النّطق باللّسان أصل في حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلّا في خير سلم. وقال ابن بطّال: دلّ الحديث على أنّ أعظم البلايا على المرء في الدّنيا لسانه وفرجه، فمن وقي شرّهما وقي أعظم الشّرّ. انتهى. يعني فخصّهما بالذكر لذلك. وقال الطّيبي أصل الكلام: من يحفظ ما بين لحييه من اللّسان والفم فيما لا يعنيه من الكلام والطّعام يدخل الجنّة، فأراد أن يؤكّد الوعد تأكيدا بليغا، فأبرزه في صورة التّمثيل ليشير بأنّه واجب الأداء؛ فشبّه صورة حفظ المؤمن نفسه، بما وجب عليه من أمر النّبي صلى الله عليه وسلم ونهيه، وشبّه ما يترتّب عليه من الفوز بالجنّة، وأنّه واجب على الله تعالى بحسب الوعد أداؤه، وأنّه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة والشّفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حقّ واجب الأداء على آخر، فيقوم به ضامن منّا يتكفّل له بأداء حقّه، وأدخل المشبّه في جنس صورة المشبّه به، وجعله فردا من أفراده، ثمّ ترك المشبّه به، وجعل القرينة الدّالة عليه ما يستعمل فيه من الضّمان؛ ونحوه في التمثيل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [111/ التوبة] انتهى. شرح الزّرقاني على «المواهب» ، وشروح «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «كشف الخفا» ، وفي «المواهب» وقالا: رواه جماعة؛ منهم العسكري عن جابر بهذا اللّفظ مرفوعا. وأخرجه البخاري في «الرّقاق» و «المحاربين» ، والتّرمذيّ في «الزّهد» ؛ وقال: حسن صحيح غريب؛ كلاهما عن سهل بن سعد السّاعدي بلفظ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 237- «من عمل بما علم.. ورّثه الله علم ما لم يعلم» . «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنّة» . وفي لفظ عند الطّبراني بسند جيد؛ عن أبي رافع: «من توكّل لي ما بين فقميه ورجليه أتوكّل له بالجنّة» ، وفي لفظ آخر: «من تكفّل لي تكفّلت له» . وتكلّم عليها العسكري. وروى التّرمذي وابن حبّان والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه دخل الجنّة» ، وفي لفظ عنه «من حفظ ما بين لحييه» . وللدّيلمي والبيهقي بسند ضعيف؛ عن أنس رفعه: «من وقي شرّ قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنّة» . ولفظ الإحياء «فقد وقي» ؛ بدل «وجبت له الجنّة» . وفي الباب عن ابن عبّاس وآخرين. «وقبقبه» - بقافين مفتوحتين وموحدتين؛ أولاهما ساكنة-: البطن؛ من القبقبة، وهي صوت يسمع من البطن. «وذبذبه» - بذلين معجمتين مفتوحتين وموحّدتين؛ أولاهما ساكنة-: الذكر. «ولقلقه» - بلامين مفتوحتين وقافين؛ أولاهما ساكنة-: اللّسان، ويجوز أن يكون القبقبة كناية عن أكل الحرام؛ وفي هذا كلّه تحذير عظيم من شهوتي البطن والفرج، وأنّهما مهلكة ولا يقدر على كسر شهوتهما إلّا الصّدّيقون. انتهى «كشف الخفا» ، وزرقاني على «المواهب» . 237- ( «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» ) أي: العلم اللّدنيّ، الّذي هو موهبة من الله؛ يدرك به العبد ما للنفس من الحظوظ، وما للحقّ من الحقوق، فيترك ما لها من الحظوظ، ويقوم بما للحقّ من الحقوق، وهو معنى قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 ......... البعض «أراد به: إلهامه علم ما لم يتعلّم من مزيد معرفة الله تعالى، وخدع النّفس والشّيطان، غرور الدّنيا وآفات العمل؛ من نحو عجب ورياء وكبر، ورياضة النّفس وتهذيبها، وتحمّل الصّبر على مرّ القضاء، والشّكر على النّعماء، والثّقة بما وعد، والتّوكّل عليه، وتحمّل أذى الخلق» . وقد ثبت أنّ دقائق علوم الصّوفيّة منح إلهيّة، ومواهب اختصاصيّة؛ لا تنال بمعتاد الطلب. فلزم مراعاة وجه تحصيل ذلك؛ وهو ثلاث: الأوّل: العمل بما علم على قدر الاستطاعة. الثّاني: اللجأ إلى الله تعالى على قدر الهمّة. الثّالث: إطلاق النّظر في المعاني حال الرجوع لأهل السّنّة، ليحصل الفهم وينتفي الخطأ، ويتيسّر الفتح. وقد أشار لذلك الجنيد بقوله: ما أخذنا التّصوّف عن القيل والقال، والمراء والجدال، بل عن الجوع والسّهر ولزوم الأعمال. قال الغزالي: من انكشف له ولو الشيء اليسير؛ بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري؛ فقد صار عارفا بصحّة الطّريق، ومن لم ير ذلك من نفسه! فينبغي أن يؤمن به، فإنّ درجة المعرفة عزيزة جدا. ويشهد لذلك شواهد الشّرع والتّجارب والوقائع، فكلّ حكم يظهر في القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلّم؛ فهو بطريق الكشف والإلهام. وقال حجّة الإسلام: يتعيّن أن يكون أكثر الاهتمام بعلم الباطن، ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه، وصدق الرّجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة، فإنّ المجاهدة تقضي إلى المشاهدة، فجاهد تشاهد دقائق علم القلوب، وتنفجر منها ينابيع الحكمة من القلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 ......... أما الكتب في التعليم فلا تفي بذلك، بل الحكمة الخارجة عن الحصر والحدّ، إنّما تنفتح بالمجاهدة، قال: وكم من متعلم طال تعلّمه، ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهمّ في التّعلّم، ومتوفّر على العمل، ومراقبة القلب؛ فتح الله [له] «1» من لطائف الحكم ما تحار فيه عقول ذوي الألباب. انتهى. هذا؛ وقد سئل الشيخ عز الدين عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» : وما العلم الّذي إذا عمل به ورث؟، وما العلم الموروث؟، وما صفة التّوريث؛ أهو العلم أو غيره؟! فبعض النّاس قال: إنّما هذا مخصوص بالعالم- يعني: أنّه إذا عمل بعلمه ورّث ما لم يعلم، بأن يوفّق ويسدّد إذا نظر في الوقائع-، فهل يصحّ هذا الكلام أم لا. أجاب: معنى الحديث أنّ من عمل بما يعلمه، من واجبات الشّرع ومندوباته، واجتناب مكروهاته ومحرماته؛ أورثه الله من العلم الإلهي ما لم يعلمه من ذلك، كقوله تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [69/ العنكبوت] . هذا هو الظّاهر من الحديث المتبادر إلى الفهم، ولا يجوز حمله على أهل النّظر في علوم الشّرع، لأنّ ذلك تخصيص للحديث بغير دليل، وإذا حمل على ظاهره وعمومه دخل فيه الفقهاء وغيرهم. انتهى. وقال الإمام مالك: علم الباطن لا يعرفه إلّا من عرف علم الظّاهر، فمن علم الظّاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلّا مع فتح قلبه وتنويره. وقال: ليس العلم بكثرة الرّواية، وإنّما العلم نور يقذفه الله في القلب. يشير إلى علم الباطن. قال يحيى بن معاذ: التقى ابن أبي الحواري وأحمد بن حنبل، فقال أحمد: حدّثنا بحكاية سمعتها من أستاذك الدّاراني. فقال: يا أحمد؛ قل: سبحان الله وطوّلها بلا عجب. قال: سبحان الله وطوّلها بلا عجب.   (1) زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 238- «من غشّنا.. فليس منّا» . قال: سمعته يقول: إذا اعتقدت النّفس على ترك الآثام جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علما. فقام أحمد وقعد «ثلاثا» ؛ وقال: ما سمعت في الإسلام بحكاية أعجب من هذه. ثمّ ذكر حديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» . قال التّونسيّ: اجتمع العارف علي وفا والإمام البلقيني، فتكلّم عليّ معه بعلوم بهرت عقله. فقال البلقيني: من أين لك هذا؛ يا علي! قال: من قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [282/ البقرة] فأسكت. انتهى. من شروح «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الطّبراني، وذكره في «الكشف» ، وقال: رواه أبو نعيم؛ عن أنس رضي الله عنه. 238- ( «من غشّنا) - أي: لم ينصحنا وزيّن لنا غير المصلحة- (فليس منّا» ) أي: ليس على طريقتنا ومنهاجنا، لأن طريقتنا الزّهد في الدّنيا، والرّغبة عنها، وعدم الرّغبة والطّمع الباعثين على الغشّ. قال الطّيبي: لم يرد نفيه عن الإسلام، بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين. أي: ليس هو على سنّتنا وطريقتنا من مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه (أنا منك) يريد الموافقة والمتابعة، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [36/ إبراهيم] . وهذا قاله صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها؛ فابتلّت أصابعه. فقال: «ما هذا» ! قال: أصابته السماء. قال: «أفلا جعلته فوق الطّعام ليراه النّاس» ! فذكر الحديث. رواه مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث أبي هريرة بزيادة: «ومن حمل علينا السّلاح فليس منّا» . وفي رواية له أيضا: «من غشّ فليس منّي» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 239- «من فارق الجماعة شبرا.. فقد خلع ربقة الإسلام» . وأخرجه العسكري بلفظ التّرجمة، وزاد «قيل يا رسول الله؛ ما معنى ليس منّا!! - قال- ليس مثلنا» . وعند أبي نعيم والطّبراني في «الكبير» و «الصغير» برجال ثقات؛ عن ابن مسعود رفعه: «من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النّار» ؛ أي: صاحبهما يستحقّ دخول النّار إن لم يعف الله عنه، لأن الداعي إلى ذلك الحرص والشّحّ والرغبة في الدّنيا، وذلك يجرّ إلى النّار. وأخذ الذّهبي أنّ الثلاثة من الكبائر، فعدّها منها. وللدّارقطني بسند ضعيف؛ عن أنس: «من غشّ أمّتي فعليه لعنة الله» انتهى زرقاني على «المواهب» . 239- ( «من فارق) بقلبه ولسانه واعتقاده، أو ببدنه ولسانه (الجماعة) المعهودين؛ وهم جماعة المسلمين. قال العامريّ في «شرح الشهاب» : لفظ الجماعة ينصرف لجماعة المسلمين لما اجتمع فيهم من جميل خصال الإسلام، ومكارم الأخلاق، وترقّي السّابقين منهم إلى درجة الإحسان؛ وإن قلّ عددهم، حتّى لو اجتمع التّقوى والإحسان في واحد كان هو الجماعة. انتهى. (شبرا) أي: قدر شبر. كنى به عن ترك السّنّة والتمسّك بالبدعة؛ ولو بأدنى نوع من أنواع التّرك، أو بأقلّ سبب من أسباب الفرقة؛ (فقد خلع ربقة الإسلام» ) من عنقه، أي: أهمل حدود الله وأوامره ونواهيه، وتركها بالكليّة. قال في «النّهاية» : مفارقة الجماعة ترك السّنّة واتّباع البدعة، والرّبقة- في الأصل-: عروة تجعل في عنق البهيمة أو يدها، تمسكها. فاستعارها للإسلام، يعني: ما يشدّ به المسلم نفسه من عرى الإسلام؛ أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. انتهى. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبو داود والحاكم؛ عن أبي ذرّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 240- «من كثّر سواد قوم.. فهو منهم» . وأخرجه الإمام أحمد؛ عن رجل من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس إلى أن قال: «فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه» الحديث، ورجاله ثقات رجال الصّحيح، خلا عليّ بن إسحاق السّلمي وهو ثقة. ورواه الطّبراني باختصار؛ إلّا أنّه قال «من فارق الجماعة قيد قوس، لم تقبل منه صلاة ولا صيام، وأولئك هم وقود النّار» . ورواه الطّبراني؛ عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الجنّة لا تحلّ لعاص- إلى أن قال- ومن خرج من الجماعة قيد شبر متعمّدا؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ... الحديث. وفي سنده عمرو بن واقد وهو متروك. وأخرجه الطّبراني؛ عن أبي الدّرداء قال: قام فينا رسول الله- إلى أن قال: «ومن خرج من الطّاعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ... الحديث، وفي سنده عمرو بن رويبه. وهو متروك. وأخرجه البزّار والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة قياس- أو قيد- شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ... الحديث. وفي سنده خليد بن دعلج، وهو ضعيف؛ ذكره في «مجمع الزوائد» . 240- ( «من كثّر سواد قوم) ؛ بأن عاشرهم وناصرهم وسكن معهم (فهو منهم» ) وإن لم يكن من قبيلتهم أو بلدهم؛ يعني: أنّ له حكمهم من صلاح وغيره، وفيه تلميح إلى مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والتحرّز عن مخالطتهم، وعن التشبّه بهم إذ صدور ذلك من المسلم دالّ على ضعف إيمانه، لأنّ المشابهة والمشاكلة في الأمور الظّاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، والمشاركة في الهدي الظّاهر توجب مناسبة وائتلاف؛ وإن بعد المكان والزّمان، وهذا أمر محسوس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 241- «من كنت مولاه.. فعليّ مولاه» . فمرافقتهم ومساكنتهم- ولو قليلا- سبب ومظنة لاكتساب أخلاقهم وأفعالهم المذمومة، بل هي سبب لمشابهتهم في نفس الاعتقادات، فيصير مساكن الكافر مثله. وأيضا المشاركة في الظّاهر تورث نوع مودّة ومحبّة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبّة في الباطن تورّث المشابهة، وهذا مما يشهد به الحس، فإن الرّجلين إذا كانا من بلد؛ واجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودّة والائتلاف أمر عظيم بموجب الطبع، وإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورّث المحبّة والموالاة؛ فكيف المشابهة في الأمور الدينية!! انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه أبو يعلى، وعلي بن معبد في «كتاب الطاعة» أنّ رجلا دعا ابن مسعود إلى وليمة، فلما جاء ليدخل سمع لهوا؛ فلم يدخل، فقيل له!! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كثّر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمل» . وهكذا عند الدّيلمي بهذه الزيادة. ولابن المبارك في «الزّهد» ؛ عن أبي ذرّ نحوه موقوفا، وشاهده حديث: «من تشبّه بقوم فهو منهم» وتقدّم. انتهى. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى. 241- ( «من كنت مولاه) أي: وليّه وناصره (فعليّ مولاه» ) . قال الشّافعي: أراد بذلك ولاء الإسلام، لقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) [محمد] انتهى «عزيزي» . وخصّ سيدنا عليّا لمزيد علمه، ودقائق مستنبطاته وفهمه، وحسن سيرته، وصفاء سريرته، وكرم شيمته، ورسوخ قدمه. قيل: سببه أنّ أسامة قال لعلي: لست مولاي، إنّما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 242- «من لا يرحم.. لا يرحم» . فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» . قال ابن حجر: حديث كثير الطّرق جدا استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد؛ منها صحاح، ومنها حسان، وفي بعضها: قال ذلك يوم غدير خمّ. وزاد البزّار في رواية: «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» . ولا حجّة في ذلك على تفضيله على الشّيخين؛ كما هو مقرّر في محلّه من فن الأصول. انتهى مناوي على «الجامع» . وذكره «في كشف الخفا» وقال: رواه الطّبراني، وأحمد، والضياء في «المختارة» ؛ عن زيد بن أرقم وعليّ وثلاثين من الصّحابة بلفظ: «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» . فالحديث متواتر؛ أو مشهور. انتهى. وذكره في «الجامع الصغير» ، وفي «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» للجلال السّيوطي رحمه الله تعالى. 242- ( «من لا يرحم) بالبناء للفاعل ( «لا يرحم» ) بالبناء للمفعول، أي: من لا يكون من أهل الرّحمة لا يرحمه الله، أو من لا يرحم النّاس بالإحسان لا يثاب من قبل الله هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [60/ الرحمن] . قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المعنى: من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه؛ لا يرحمه الله في الآخرة. انتهى. وهو بالرّفع فيها [يرحم؛ يرحم] «1» على الخبر، وبالجزم [يرحم، يرحم] «1» على أنّ «من» موصولة أو شرطيّة، ورفع الأول وجزم الثاني [يرحم، يرحم] «1» وعكسه [يرحم، يرحم] «1» .   (1) إضافة اقتضاها الإيضاح. (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 243- «من لم يكن ذئبا.. أكلته الذّئاب» . 244- «من مزح.. استخفّ به» . قال ابن بطّال: وفيه الحضّ على استعمال الرّحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم، ويدخل في الرّحمة التّعاهد بالإطعام والسّقي، والتّخفيف من الحمل، وترك التعدي بالضرب، انتهى شروح «الجامع الصغير» . والحديث أخرجه الشيخان وغيرهما؛ عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما: البخاري في «كتاب الأدب؛ باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته» ، وفي «باب رحمة النّاس والبهائم» واللّفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل؛ باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصّبيان وتواضعه وفضل ذلك ... الخ وهو حديث متواتر ذكره السّيوطي في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» عن عدّة من الصّحابة رضوان الله عليهم. وسببه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قبّل الحسين، فقال الأقرع بن حابس: لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا! فنظر إليه ... فذكر الحديث. انتهى. وبمعناه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو قوله عليه الصّلاة والسّلام: «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» . وقد ذكرت من أخرجه في رسالتي «إعانة رب البرية على تراجم رجال الحديث المسلسل بالأولية» مع ذكر إسنادي المسلسل به؛ فليراجع ذلك من شاء فيها. والله أعلم. 243- ( «من لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب» ) ؛ أخرجه الطّبراني في «الأوسط» ؛ عن أنس رفعه بلفظ: «يأتي على النّاس زمان هم ذئاب، فمن لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب» . قال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» : وفيه من لم أعرفهم. انتهى. 244- ( «من مزح استخفّ به» ) أي: هان على النّاس، ونظروا إليه بعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 245- «من نوقش الحساب ... الاحتقار والهوان فاحفظ لسانك منه، فإنّه يسقط المهابة، ويريق ماء الوجه، ويستجرّ الوحشة، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللّجاج والغضب والتّضارب، ومغرس الحقد في القلوب، فإن مازحك غيرك! فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره، وكن من الّذين إذا مرّوا باللّغو مروا كراما. انتهى. وقال في الأذكار: المزاح المنهيّ عنه ما فيه إفراط ومداومة، فإنّه يورّث الضّحك والقسوة ويشغل عن الذّكر والفكر في مهمات الدّين؛ فيورّث الحقد، ويسقط المهابة والوقار، وما سلم من ذلك هو المباح الّذي كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يفعله، فإنّه إنّما كان يفعله نادرا لمصلحة، كموانسة وتطييب نفس المخاطب، وهذا لا منع منه قطعا، بل هو مستحبّ. انتهى. والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز ابن عساكر، وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي، في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله عنه؛ لكن بلفظ: «الصّمت سيّد الأخلاق، ومن مزح استخفّ به» . قال المناوي: وتمامه «ومن حمل الأمر على القضاء استراح» . انتهى. وفي كتاب «كشف الخفا» للعجلوني: الصّواب أنّه من قول عمر، وأنّ الأحنف قال: قال لي عمر: يا أحنف؛ من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخفّ به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه. ورواه ابن عساكر وقال: غريب الإسناد والمتن عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «من كثر ضحكه استخفّ بحقّه، ومن كثرت دعابته ذهبت جلالته، ومن كثر مزاحه ذهب وقاره، ومن شرب الماء على الرّيق ذهب بنصف قوّته، ومن كثر كلامه كثرت خطاياه، ومن كثرت خطاياه فالنّار أولى به» . انتهى. 245- ( «من نوقش) بضم النّون وكسر القاف (الحساب) - بالنّصب؛ بنزع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 عذّب» . الخافض، أي: من ضويق في حسابه بحيث سئل عن كل شيء؛ فاستقصي في حسابه حتّى لم يترك منه شيء من الكبائر ولا من الصّغائر إلّا وأوخذ به (عذّب» ) بضمّ أوّله وكسر الذّال المعجمة- أي: تكون تلك المضايقة عذابا، لما فيها من التّوبيخ، أو إنها سبب يفضي إلى العذاب، لأنّ التّقصير غالب على العباد، فمن استقصي عليه ولم يسامح هلك وعذب؛ أي: ومن لم يناقش الحساب لا يعذب، بل يحاسب حسابا يسيرا، أو لا يحاسب أصلا. قال الحكيم التّرمذي: يحاسب المؤمن في القبر ليكون أهون عليه في الموقف فيمحّص في البرزخ؛ فيخرج وقد اقتصّ منه. انتهى مناوي وحفني على «الجامع» . والحديث أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والتّرمذي؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وتمامه: قالت عائشة: فقلت أليس يقول الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق] ؛ أي: سهلا هيّنا بأن يجازى على الحسنات الّتي صدرت منه في حياته، ويتجاوز عن سيئاته!؟ قال: «ذلك- بكسر الكاف- العرض» - بفتح العين المهملة وسكون الرّاء- أي: عرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منّة الله تعالى عليه في سترها عليه عن النّاس في الدّنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، فله الحمد على منّته على عباده المؤمنين وإتحافهم بسعادتهم في الدّارين. وللإمام أحمد من وجه آخر؛ عن عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته «اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف قلت: يا رسول الله؛ ما الحساب اليسير؟! قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنّ من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» انتهى. فعائشة رضي الله عنها فهمت أنّ الحديث معارض للآية!! لأنّ «من» من صيغ العموم، فظنّت أنّ كلّ من حوسب معذّب؛ مع أنّ ظاهر قوله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق] دالّ على أنّ الحساب لا يستلزم العذاب فأزال صلى الله عليه وسلم الإشكال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 246- «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا» . عنها بقوله «ذلك العرض» ، فاقتنعت، مع أنّها رضي الله عنها لو تأمّلت في قوله «من نوقش الحساب» لعلمت أنّ هذا الحديث لا يعارض قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق] ، لأن الآية خاصّة بمن أوتي كتابه بيمينه دون غيره، فلذلك وصف تعالى حسابه بكونه حسابا يسيرا، والحساب غير المناقشة، بل هو العرض الّذي تقدّم معناه، ولذلك أجابها النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله «ذلك العرض» ، هذا ما تبادر للذّهن. قال شيخ مشايخنا في «زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم» قال: وبنحوه ساق الأبّي كيفيّة جوابه صلى الله عليه وسلم لها على مقتضى القواعد المنطقيّة حيث قال في شرح هذا الحديث: فهمت رضي الله عنها أنّ الحديث معارض للآية، لأنّ الحديث في قوّة موجبة كلية؛ أي: كلّ من نوقش الحساب عذّب، والآية في قوة سالبة جزئية، أي: تعطي أنّ من يحاسب ليس بمعذّب. وحاصل جوابه: أنّه لم يتّحد الموضوع، لأنّه في الكلّيّة من نوقش. وفي الجزئيّة من حوسب، والمناقشة غير المحاسبة. انتهى. 246- ( «منهومان) تثنية منهوم، وهو: شديد الشّهوة المنكبّ على الشّيء طلبا لحيازته (لا يشبعان) ، لعدم انتهاء حرصهما وهما: (طالب علم، وطالب دنيا) . فمن كان شديد الشّهوة لجمع المال أو طلب العلم لا يشبع من ذلك، إذ ليس للعلم غاية ينتهي إليها، ولا للمال غاية ينتهي إليها فلهذا لا يشبعان. قال بعضهم: ما استكثر أحد من شيء إلّا ملّه وثقل عليه إلّا العلم والمال، فإنّه كلما زاد اشتهى له، ولكنهما لا يستويان، أمّا صاحب الدّنيا فيتمادى في الطّغيان، وأمّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرّحمن. انتهى شروح «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الطّبراني في «الكبير» والقضاعي؛ عن ابن مسعود رفعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 247- «المؤمن.. مرآة المؤمن» . وهو عند البيهقي في «المدخل» ؛ عن ابن مسعود أنّه قال: «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا؛ ولا يستويان، أمّا صاحب الدّنيا فيتمادى في الطّغيان، وأمّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرّحمن» ثم قرأ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق] ، وقوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] وقال: إنّه موقوف ومنقطع، ثمّ ساقه عن أنس مرفوعا بلفظ: «منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدّنيا لا يشبع منها» . قال: وروي عن كعب الأحبار من قوله، ورواه البزّار، من حديث ليث بن أبي سليم عن طاووس- أو مجاهد- عن ابن عباس مرفوعا بلفظ التّرجمة. وقال: لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا. ورواه العسكري عنه بلفظ: «منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب العلم، ومنهوم في طلب الدّنيا» . وأخرجه العسكريّ أيضا عن أبي سعيد رفعه: «لن يشبع المؤمن من خير سمعه حتّى يكون منتهاه الجنّة» . ورواه أيضا عن الحسن قال: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّها النّاس؛ إنّهما منهومان، فمنهوم في العلم لا يشبع، ومنهوم في المال لا يشبع» . وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وهي؛ وإن كانت مفرداتها ضعيفة؛ فبمجموعها يتقوّى الحديث. انتهى كلام «كشف الخفا» ، ونحوه في «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي. 247- ( «المؤمن مرآة) بهمزة ممدودة (المؤمن» ) ؛ أي: يرى فيه عيوبه كما يراها في المرآة، ثمّ يميطها عنه بوجه حسن، فإذا أبصرت عيبا في أخيك؛ فأخبره به، وانصحه بما يقتضي إذهابه عنه بلطف أو عنف؛ إن اقتضى الحال ذلك. انتهى حفني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 248- «المؤمن.. من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» . 249- «المؤمن.. يسير المؤنة» . ولبعضهم في معنى الحديث: صديقي مرآة أميط بها الأذى ... وعضب حسام إن منعت حقوقي وإن ضاق أمري أو ألمّت ملمّة ... لجأت إليه دون كلّ شقيق والحديث أخرجه الطّبراني في «الأوسط» والضّياء والقضاعي والبزّار؛ عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي هريرة رفعه، والعسكري من طرق؛ عن أبي هريرة، ولفظه في بعضها: «إنّ أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى شيئا فليمطه» . وأخرجه ابن المبارك؛ عن الحسن من قوله، وقال في «اللآلئ» أخرجه أبو داود في «سننه» ؛ عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عنه ضيعته ويحوطه من ورائه» . وفي إسناده كثير بن زيد مختلف في عدالته. انتهى «كشف الخفا» ، ومناوي على «الجامع» . قال المناوي نقلا عن العراقي: إنّ حديث أبي هريرة إسناده حسن. انتهى. 248- ( «المؤمن من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» ) أي: حقه أن يكون متّصفا بذلك، وقال العلقمي: هو محمول على المؤمن الكامل. انتهى «عزيزي» . وتمام الحديث: «والمهاجر من هجر الخطايا والذّنوب» . أخرجه ابن ماجه؛ عن فضالة بن عبيد. قال المناوي: ورواه عنه أيضا التّرمذيّ وحسّنه، وقال في «الكشف» : رواه الدّيلميّ عن أنس رضي الله عنه. انتهى. 249- ( «المؤمن يسير المؤنة» ) أي: قليل الكلفة على إخوانه، والحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 250- «المؤمنون كرجل واحد» . ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال العزيزي: وإسناده ضعيف. وقال في «كشف الخفا» : موضوع؛ كما قاله الصغاني، لكن معناه صحيح. انتهى. 250- ( «المؤمنون كرجل واحد) ؛ إن اشتكى رأسه اشتكى كلّه، وإن اشتكى عينه اشتكى كلّه» . هذا تمام الحديث كما في «الجامع» . قال المناوي: أفاد تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثّهم على التّراحم والتّعاضد في غير إثم ولا مكروه ونصرتهم، والذبّ عنهم وإفشاء السّلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم وغير ذلك. وفيه مراعاة حقّ الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكلّ ما تعلّق بهم بسبب، حتّى الهرة والدّجاجة؛ ذكره الزمخشري. قال ابن عربي: ومع هذا التمثيل فأنزل كلّ أحد منزلته، كما تعامل كلّ عضو منك بما يليق به وما خلق له؛ فتغض بصرك عن أمر لا يعطيه السمع، وتفتح سمعك لشيء لا يعطيه البصر، وتصرف يدك في أمر لا يكون لرجلك، وكذا جميع قواك، فنزّل كلّ عضو منك فيما خلق له، وإذا ساويت بين المسلمين فأعط العالم حقّه من التّعظيم والإصغاء لما يأتي به، والجاهل حقّه من تذكيره وتنبيهه على طلب العلم والسّعادة، والغافل حقّه بأن توقظه من نوم غفلته بالتذكّر لما غفل عنه، ممّا هو عالم له غير مستعمل لعلمه فيه، والسّلطان حقّه من السّمع والطّاعة فيما يباح، والصّغير حقّه من الرّفق به؛ والرّحمة؛ والشّفقة، والكبير حقّه من الشّرف؛ والتّوقير. انتهى. والحديث ذكره في «الجامع» بالزيادة التي ذكرناها، مرموزا له برمز الإمام أحمد، ومسلم؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 251- «من كان آخر كلامه (لا إله إلّا الله) .. دخل الجنّة» . 251- ( «من كان آخر) قال أبو البقاء: بالرفع اسم «كان» ، وكلمة التّوحيد في موضع نصب خبر «كان» ويجوز عكسه. انتهى (كلامه) في الدنيا (لا إله إلّا الله) بأن لم يتكلّم بعدها بشيء (دخل الجنّة» ) أي: مع السابقين. انتهى «حفني» . وقال ابن رسلان: معنى ذلك أنّه لا بدّ له من دخول الجنّة، فإن كان عاصيا غير تائب؛ فهو في أوّل أمره في خطر المشيئة: يحتمل أن يغفر الله له، ويحتمل أن يعاقبه، ويدخل الجنّة بعد العقاب، ويحتمل أن يكون من وفّق لأن يكون آخر كلامه لا إله إلّا الله؛ يكون ذلك علامة على أنّ الله تعالى يعفو عنه، فلا يكون في خطر المشيئة؛ تشريفا له على غيره ممّن لم يوفق أن يكون آخر كلامه ذلك. فنسأل الله أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلّا الله حالا ومقالا، وظاهرا وباطنا، حتى نودّع الدّنيا غير ملتفتين إليها، بل متبرّمين منها ومحبّين للقاء الله تعالى. انتهى شروح «الجامع الصغير» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبي داود في الجنائز، والحاكم فيه؛ كلّهم عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه. وقال الحاكم: صحيح. وأعلّه ابن القطّان! ولكن انتصر له التّاج السبكي؛ وقال: حديث صحيح. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 [ (حرف النّون) ] (حرف النّون) 252- «النّاس بزمانهم.. أشبه منهم بابائهم» . 253- «النّاس.. كأسنان المشط» . 254- «النّاس.. معادن في الخير والشّرّ» . (حرف النّون) 252- ( «النّاس بزمانهم أشبه منهم بابائهم» ) من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما قاله الحافظ الصريفيني، وقال محمد بن أيّوب: ارتحلت إلى يحيى الغسّاني من أجله، وقيل: إنّه من قول علي بن أبي طالب!! قال ملّا علي قاري: وهو الأشهر الأظهر. انتهى «كشف الخفا» . 253- ( «النّاس) - أي: المسلمون في تساوي إجراء الأحكام عليهم- (كأسنان المشط» ) - بضم الميم وتكسر، وقد تفتح، وشينه مثلاثة- وقيل: في تساوي الأخلاق والطّباع وتقاربها، ويؤيّده ما جاء في رواية أخرى: «النّاس سواسية كأسنان المشط؛ لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا فضل لعجميّ على عربيّ، وإنّما الفضل بالتّقوى» . انتهى؛ ملّا علي قاري رحمه الله تعالى. وفي معناه ما نسب للإمام علي كرّم الله وجهه: النّاس في عالم التّمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأمّ حوّاء جسم كجسم وأعضاء مشاكلة ... وأعظم خلقت فيها وأعضاء وقدر كلّ امرىء ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء والحديث ذكره في «الشّفاء» . قال في «شرحه» : أخرجه ابن لال في «مكارم الأخلاق» ؛ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه. 254- ( «النّاس معادن في الخير والشّرّ» ) معدن كلّ شيء: أصله، أي: أصول بيوتهم تعقب أمثالها، ويسري كريم أعراقها إلى فروعها، يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 255- «نحن.. أهل بيت لا يقاس بنا أحد» . 256- «نحن.. بنو عبد المطّلب سادات أهل الجنّة» . بذلك: أنّ بني آدم يختلفون باختلاف أصلهم، فمن كان أصله شريفا أعقب مثله، وسرى طيب عرقه لفرعه، ومن كان دون ذلك؛ كان عقبه مثله، ومن كان خبيثا كان فرعه خبيثا، فهم يختلفون بحسب الطّباع؛ كالمعادن، وهم من الأرض كما إنّ المعادن منها؛ وفيها الطّيب والخبيث، فإنّ منها ما يستعدّ للذّهب الإبريز، ومنها ما يستعد للفضّة، ومنها ما يستعد لغير ذلك، ومنها ما يحصل منه بكدّ وتعب كثير شيء يسير، ومنها ما هو بعكس ذلك، ومنها ما لا يحصل منه شيء أصلا؛ فكذلك بنو آدم، منهم من لا يعي ولا يفقه، ومنهم من يحصل له علم قليل بسعي طويل، ومنهم من أمره عكس ذلك، ومنهم من يفاض عليه من حيث لا يحتسب؛ كما هو معلوم في كثير من الأولياء والصّالحين والعلماء العاملين. انتهى شرح ملّا علي قاري على «الشفا» . والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي، وابن منيع، والحارث، والبيهقي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وتمامه: «خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ؛ قاله في «كشف الخفا» . وفي «الشهاب الخفاجي» ؛ على «الشفاء» : رواه الشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وتمامه: «النّاس معادن كمعادن الذّهب والفضّة؛ خيارهم في الجّاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، أو «الأرواح جنود مجنّدة؛ ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . انتهى. 255- ( «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد» ) ؛ ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . 256- ( «نحن بنو عبد المطّلب سادات أهل الجنّة» ) أي: كبراؤهم وأشرافهم، والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 257- «النّدم.. توبة» . في «الفردوس» . وذكره ابن ماجه؛ في «كتاب الفتن» من حديث أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن ولد عبد المطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة، وعليّ وجعفر، والحسن والحسين والمهديّ» . ورواه الحاكم أيضا. 257- ( «النّدم توبة» ) أي: الحزن على ما فعله؛ أو كراهته له بعد فعله، من حيث كونه تاركا فيه لإجلال الله، ومخالفا أمره ونهيه. أمّا إذا كان النّدم لافتضاح، أو مرض أو عقاب ... ونحو ذلك!! فليس توبة، بل قد يكون معصية، لأنّه لولا مراقبة النّاس لم يكن عنده حرج من فعل المعصية. ثمّ المعنى: أنّ النّدم معظم أركان التّوبة لأنّه شيء يتعلّق بالقلب؛ والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي، فرجعت برجوعه الجوارح. وليس المراد أن النّدم وحده كاف فيها، فهو نحو «الحجّ عرفة» . قال الغزالي رحمه الله تعالى: إنّما نص على أنّ النّدم توبة؛ ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها!! لأنّ النّدم غير مقدور للعبد، لأنّه قد يندم على أمر وهو يريد ألايكون، والتّوبة مقدورة له مأمور بها، فعلم أنّ في هذا الحديث معنى لا يفهم من ظاهره، وهو أنّ النّدم لتعظيم حقوق الله تعالى، وخوف عقابه ممّا يبعث على التّوبة النّصوح، فإذا ذكر مقدّماتها الثّلاث؛ وهي 1- ذكر غاية قبح الذّنب، و 2- ذكر شدّة عقوبة الله تعالى؛ وأليم غضبه، و 3- ذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم، ويحمله النّدم على ترك اختيار الذّنب، وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل، فتحمله على الابتهال والتضرّع، ويجزم بعدم العود، وبذلك تتم شروط التّوبة الأربعة. فلمّا كان النّدم من أسباب التّوبة سمّاه باسمها. انتهى زرقاني على «المواهب» ، ومناوي على «الجامع» . والحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي؛ عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 258- «النّساء.. حبائل الشّيطان» . 259- «نعم الصّهر.. القبر» . أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود الطيالسي؛ عن ابن مسعود- ورجاله ثقات- بل قال الحافظ في «الفتح» : سنده حسن. قال السّخاوي: يعني لشواهده، وإلّا! فأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود. انتهى. وأخرجه الطّبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي سعيد الأنصاري بزيادة: «والتّائب من الذّنب كمن لا ذنب له» وسنده ضعيف. انتهى «زرقاني» . وذكره في «الجامع الصغير» مع الزيادة مرموزا له برمز من ذكرهم الزرقاني. وذكره أيضا بلفظ الترجمة مرموزا برمز بنحو ما تقدّم، وزيادة رمز الإمام أحمد، والبخاري في «التاريخ» ؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. 258- ( «النّساء حبائل الشّيطان» ) أي: مصائده، جمع حبالة- بالكسر-: ما يصاد به من أي شيء كان، والمراد أنّ النّساء آلات الشّيطان يتوصّل بهنّ إلى إغواء الفسقة، فإنهم إذا رأوا النّساء مالت قلوبهم إليهنّ لا سيما المتبرجات، فالنّساء له كالشّبكة التي تصاد بها الوحوش النّافرة، فأرشد صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على أمته إلى الحذر من النّظر إليهنّ، والقرب منهنّ، وكفّ الخاطر عن الالتفات إليهنّ باطنا ما أمكن. انتهى «زرقاني» . والحديث ذكره في «المواهب» مع الشرح بلفظ: «الشّباب شعبة من الجنون، والنّساء حبائل الشّيطان» . وقال: رواه الدّيلمي بتمامه في مسند «الفردوس» ، وكذا القضاعي؛ كلاهما عن عقبة بن عامر الجهني، ورواه الدّيلمي أيضا؛ عن عبد الله بن عامر، وأبو نعيم؛ عن عبد الرحمن بن عابس، وابن لال؛ عن ابن مسعود، والخرائطي والتيمي؛ عن زيد بن خالد وهو حديث حسن. ونحوه في «الجامع» والمناوي. 259- ( «نعم الصّهر) للولي في موليّته (القبر» ) ، لأنّ المرأة عورة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 260- «نيّة المؤمن.. خير من عمله» . ولضعفها بالأنوثة وعدم استقلالها، وكثرة مؤونتها وأثقالها، وقد تجرّ العار، وتجلب الغدر إلى الدار. أخرج ابن أبي الدّنيا؛ عن قتادة: أنّ الحبر ابن عباس ماتت له بنت، فأتاه الناس يعزّونه، فقال: عورة سترت، ومؤونة كفيت، وأجر ساقه الله تعالى. فاجتهد المهاجرون أن يزيدوا فيها حرفا فما قدروا. وفي «الفردوس» عن الحبر: نعم الكفء القبر للجارية. انتهى مناوي؛ على «الجامع» . ولله درّ من قال: لكلّ أبي بنت على كلّ حالة ... ثلاثة أصهار إذا ذكر الصّهر فزوج يراعيها وخدن يصونها ... وقبر يواريها وخيرهم القبر وروى الطّبراني؛ عن ابن عباس مرفوعا: «للمرأة ستران: القبر والزّوج» . قيل: فأيّهما أفضل؟ قال: «القبر» وهو ضعيف جدا. وللدّيلمي؛ عن علي رفعه: «للنّساء عشر عورات، فإذا تزوجّت المرأة ستر الزّوج عورة، فإذا ماتت ستر القبر عشر عورات. انتهى «كشف الخفا» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . وفي «الكشف» : قال بعض العلماء: لم أظفر به بعد التفتيش، وإنّما ذكر صاحب «الفردوس» ممّا لم يسنده ابنه: «نعم الكفء القبر للجارية» وبيّض له في «المسند» . ورواه ابن السّمعاني؛ عن ابن عباس من قوله بلفظ «نعم الأختان القبور» انتهى. 260- ( «نيّة المؤمن خير من عمله» ) لأنّ تخليد الله العبد في الجنّة ليس بعمله، وإنّما هو لنيّته، لأنّه لو كان بعمله كان خلوده فيها بقدر مدّة عمله؛ أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 ......... أضعافه، لكنّه جازاه بنيّته، لأنّه كان ناويا أن يطيع الله أبدا، فلمّا اخترمته المنيّة جوزي بنيّته. وكذا الكافر لأنّه لو جوزي بعمله لم يستحقّ التّخليد في النّار إلا بقدر مدة كفره، لكن جازاه بنيّته لأنّه نوى الإقامة على كفره أبدا؛ فجوزي بنيّته. ذكره بعضهم. ولأن النيّة بانفرادها توصل إلى ما لا يوصله العمل بانفراده، ولأنها هي الّتي تقلب العمل الصّالح فاسدا؛ والفاسد صالحا مثابا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، ويعاقب عليها أضعاف ما يعاقب عليه، فكانت أبلغ وأنفع. ومن النّاس من تكون نيّته وهمّته أجلّ من الدّنيا وما عليها، وآخر نيّته وهمّته من أحسن نيّة وهمّة، فالنيّة تبلغ بصاحبها في الخير والشّرّ ما لا يبلغه عمله، فأين نيّة من طلب العلم وعلّمه ليصلّي الله عليه وملائكته، وتستغفر له دوابّ البرّ، وحيتان البحر، إلى نيّة من طلبه لمأكل، أو وظيفة كتدريس!! وسبحان الله كم بين من يريد بعلمه وجه الله، والنّظر إليه، وسماع كلامه، وتسليمه عليه في جنّة عدن؛ وبين من يطلب حظّا خسيسا، كتدريس أو غيره من العرض الفاني!! انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه العسكري في «الأمثال» ، والبيهقي؛ عن أنس مرفوعا، قال الحافظ ابن دحية: لا يصحّ، والبيهقيّ: إسناده ضعيف. وله شواهد؛ منها ما أخرجه الطّبراني؛ عن سهل بن سعد السّاعدي مرفوعا: «نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيّته، وكلّ عمل يعمل على نيّته، فإذا عمل المؤمن عملا نار في قلبه نور» . وللعسكري بسند ضعيف؛ عن النّوّاس بن سمعان بلفظ: «نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الفاجر شرّ من عمله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 ......... وروى الدّيلمي؛ عن أبي موسى الجملة الأولى وزاد: «وإنّ الله عزّ وجلّ ليعطي العبد على نيّته ما لا يعطيه على عمله» وذلك لأن النيّة لا رياء فيها. قال في «المقاصد» : وهي؛ وإن كانت ضعيفة!! فبمجموعها يتقوّى الحديث، وقد أفردت فيه وفي معناه جزآ. انتهى. وقال في «اللآلي» : حديث «نيّة المؤمن خير من عمله» أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس، وفي إسناده يوسف بن عطية ضعيف؛ كما قاله ابن دحية: وقال النّسائي: متروك الحديث. وروي من طريق النّواس بن سمعان بسند ضعيف. انتهى ملخصا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 [ (حرف الهاء) ] (حرف الهاء) 261- «الهديّة.. تعور عين الحكيم» . 262- «هما.. جنّتك ونارك» يعني: الوالدين. 263- «الهمّ.. نصف الهرم» . (حرف الهاء) 261- ( «الهديّة تعور عين الحكيم» ) أي: تصيّره أعور لا يبصر إلّا بعين الرّضا فقط، وتعمي عين السّخط، ولهذا كان دعاء السّلف: اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة؛ يرعاه بها قلبي. فيصير ذلك كأنّه أعور، أو هو كناية عن كون قبولها يعود عليه بالذّم والعيب؛ أي: إذا كان حاكما. قال ابن الأثير: يقولون للردي من كلّ شيء من الأخلاق والأمور «أعور» . ومنه قول أبي طالب لأبي لهب- لمّا اعترض على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إظهار الدّعوة- يا أعور ما أنت وهذا؟ ولم يكن أبو لهب أعور! انتهى مناوي؛ على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي في مسند «الفردوس» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي سنده عبد الوهاب بن مجاهد. قال الذّهبي: قال النّسائي وغيره: متروك. انتهى مناوي؛ على «الجامع» . 262- ( «هما جنّتك ونارك» يعني الوالدين) - قاله لرجل- قال: يا رسول الله: ما حق الوالدين على ولدهما!؟ فذكره. رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رفعه. انتهى «كشف الخفا» . 263- ( «الهمّ نصف الهرم» ) لأنّ الهرم ضعف ليس وراءه قوّة، أي: مع اليأس من القوة، والهمّ يورّث الضّعف والأسقام، فهو نصفه باعتبار أنهما شيئان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 ......... الضّعف واليأس من القوّة، والهمّ يورّث أحدهما. انتهى «حفني» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ «التّدبير نصف العيش، والتّودّد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلّة العيال أحد اليسارين» . وقال: أخرجه القضاعي؛ عن علي، والدّيلمي في «الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنهما. قال في «العزيزي» : وإسناده حسن. وذكره في «كنوز الحقائق» بلفظ الترجمة؛ مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 [ (حرف الواو) ] (حرف الواو) 264- «وجدت النّاس.. اخبر تقله» ؛ يعني: جرّب تكره. (حرف الواو) 264- ( «وجدت النّاس؛ أخبر) - بضمّ الهمزة والموحّدة وسكون الخاء المعجمة، بينهما أمر بمعنى الخبر (تقله» ) بضمّ اللّام، ويجوز الكسر والفتح لغة، والقلى: البغض، أي: وجدت أكثرهم كذلك، أي: علمتهم مقولا فيهم هذا القول. أي: ما فيهم أحد إلّا وهو مسخوط الفعل عند الاختبار؛ كما قال المصنّف: (يعني: جرّب تكره) أي: جرّب النّاس فإنك إذا جرّبتهم قليتهم، أي: بغضتهم وتركتهم وما زكّيتهم لما يظهر لك من بواطن أسرارهم، وندرة إنصافهم، وفي العيان ما يغني عن البرهان. وفي هذا اللّفظ من البلاغة ما هو غنيّ عن البيان، وقد قيل: اللّفظ الحسن إحدى النفاثات في العقد. قال الغزالي: واحذر- خصوصا- مخالطة متفقّهة هذا الزّمان، لا سيّما المشتغلين بالخلاف والجدل، فإنّهم يتربّصون بك- لحسدهم- ريب المنون، ويقطعون عليك بالظّنون، ويتغامزون وراءك بالعيون، يحصون عليك عثراتك؛ في عشرتهم وفي عشيرتهم، ويجبهونك بها في عصبتهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة، يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرّضون عليك الإخوان بالتّهمة والبهتان، إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب، هذا ما قضت به المشاهدة في أكثرهم؛ إلا من رحم الله، فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان، هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف بمن يجاهرك بالعداوة!!. إلى هنا كلام حجّة الإسلام الغزالي- رحمه الله تعالى-. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 265- «الوحدة.. خير من جليس السّوء» . فإذا كان هذا في زمانه، فما بالك بهذا الزّمان!! ومن نظم أبي الحسين الطائي: نظرت وما كلّ امرىء ينظر الهدى ... إذا اشتبهت أعلامه ومذاهبه فأيقنت أنّ الخير والشّرّ فتنة ... وخيرهما ما كان خيرا عواقبه أرى الخير كلّ الخير أن يهجر الفتى ... أخاه وأن ينأى عن الشّرّ جانبه يعيش بخير كلّ من عاش واحدا ... ويخشى عليه الشّرّ ممّن يصاحبه والحديث أخرجه ابن عدي؛ عن أبي الدّرداء، وفي سنده ضعيف. وقال ابن الجوزي: حديث لا يصحّ، وقال السخاوي: طرقه كلّها ضعيفة، لكن شاهده في الصحيحين «النّاس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» . انتهى «مناوي» ، و «كشف الخفا» . 265- ( «الوحدة خير من جليس السّوء» ) لما في الوحدة من السّلامة، وهي رأس المال، وقد قيل: لا يعدل بالسّلامة شيء، وجليس السّوء يبدي سوءه، والنّفس أمّارة بالسّوء، فإن ملت إليه شاركك، وإن كففت عنه نفسك شغلك، ولهذا كان مالك بن دينار كثيرا ما يجالس الكلاب على المزابل؛ ويقول: هم خير من قرناء السّوء. وفيه حثّ على إيثار الوحدة إذا تعذّرت صحبة الصّالحين، وحجّة لمن فضّل العزلة. وأما الجلساء الصّالحون فقليل مّا هم. وقد ترجم البخاري على ذلك «باب: العزلة راحة من خلّاط السّوء» . قال ابن حجر: هذا أثر أخرجه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن عمر؛ لكنّه منقطع. وأخرج ابن المبارك عن عمر: خذوا حظّكم من العزلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 ......... وما أحسن قول الجنيد «مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطاء» !!. وقال الغزالي: عليك بالتفرّد عن الخلق، لأنّهم يشغلونك عن العبادة. ووجد مع داود الطائي كلب، فقيل: ما هذا الذي تصحبه؟ قال: هذا خير من جليس السوء!. واعلم أنّ خواصّ الخواصّ يرون أنّ كلّ مشتغل بغير الله تعالى؛ ولو مباحا صحبته من قبيل أهل الشّرّ وملحقة به، وإن أهل الجدّ والتشمير ممّن لم يبلغ مرتبة أولئك يرى أنّ صحبة أهل البطالة؛ بل صحبة من لم يشاركهم في التّشمير كصحبة أهل الشّرّ. وقال بعضهم: صحبة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «اللآلي» عن صدقة بن أبي عمران بلفظ: «قال: رأيت أبا ذرّ فوجدته في المسجد محتبيا بكساء أسود وحده. فقلت: يا أبا ذرّ؛ ما هذه الوحدة!. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوحدة خير من جليس السّوء، والجليس الصّالح خير من الوحدة» . وعزاه فيها لأبي الشّيخ؛ عن أبي ذرّ باللّفظ المذكور، وزاد فيه: «وإملاء الخير خير من السّكوت، والسّكوت خير من إملاء الشّرّ» . قال في «كشف الخفا» : وبهذا اللفظ الأخير ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الحاكم في «المناقب» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي ذرّ رضي الله عنه. قال المناوي في شرح «الجامع» : قال الذّهبي: لا يصحّ. ولا صحّحه الحاكم!! وقال ابن حجر: سنده حسن، لكن المحفوظ أنّه موقوف على أبي ذرّ. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 266- «الودّ والعداوة.. يتوارثان» . ورواه أيضا أبو الشّيخ والدّيلمي وابن عساكر في «تاريخه» . انتهى كلام المناوي. وثبت في «صحيح البخاري» وغيره: «لو يعلم النّاس ما في الوحدة ما أعلم؛ ما سار راكب بليل وحده» . وترجم البخاريّ بقوله: «العزلة راحة من خلاط السّوء» وذكر حديث أبي سعيد رفعه: «ورجل في شعب من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه» . وفي لفظ: «يأتي على النّاس زمان خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفرّ بدينه من الفتن» . وما أحسن ما قيل: أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السّرور وأدّبني الزّمان فلا أبالي ... هجرت؛ فلا أزار ولا أزور ولست بسائل ما دمت يوما ... أسار الجيش أم قدم الأمير 266- ( «الودّ) أي: المودّة يعني: المحبّة (والعداوة يتوارثان» ) أي: يرثهما الفروع عن الأصول، جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وهو خير الوارثين، وهذا شيء كالمحسوس. وإطلاق الإرث على غير المال ونحوه من التركة؛ الّتي يخلفها المورّث مجاز. وفيه تنبيه 1- على محبّة المتّقين لنفسك، ليرثه عنك وارثك؛ فينتفع بودّهم في الدّنيا من مواصلتهم والتّعلم منهم، وفي الآخرى، و 2- على بغض الفجرة، لأنّ أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله؛ فينتفع به عاجلا في البعد منهم وآجلا، فيرثه ولدك؛ فينتفع به كما انتفعت. وفيه تحذير عن بغض أهل الصلاح، فإنّه يضرّ في الدّارين، ويرثه الأعقاب فيضرّهم، وقد عدّوا من أنواع التالف والتودّد تالف صديق الصّديق والتودّد إليه، واستأنسوا له بهذا الحديث. انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 267- «الورع.. سيّد العمل» . 268- «الولد.. ثمرة القلب» . 269- «الولد.. مبخلة، مجبنة، محزنة» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ، وفي «الجامع الصغير» ، وفي «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه العسكري؛ عن أبي بكر الصديق رفعه بلفظ: «الودّ الّذي يتوارث في أهل الإسلام» . ورواه الحاكم في «البرّ والصّلة» ؛ عن عفير بلفظ: «الودّ يتوارث والبغض يتوارث» . وروى البيهقي؛ عن أبي بكر أنّه قال لرجل من العرب كان يصحبه؛ يقال له عفير: يا عفير؛ كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الودّ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الودّ: «يتوارث والعداوة تتوارث» وهو معنى ما اشتهر على الألسنة «محبّة في الآباء صلة في الأبناء» . والله أعلم. انتهى. 267- ( «الورع) بفتح الرّاء الّذي هو ترك الشّبهات احتياطا، وحذرا من الوقوع في الحرام! (سيّد العمل» ) الصّالح، لأنّه الأساس للأعمال، ففي الحديث: «لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يدع ما ليس به بأس حذرا ممّا به بأس» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني. 268- ( «الولد ثمرة القلب» ) لأنّ الثّمرة تنتجها الشّجرة، والولد ينتجه الأب. والحديث أخرجه أبو يعلى، والبزّار بسند ضعيف؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بزيادة: «وأنّه مبخلة مجبنة محزنة» . انتهى «كشف الخفا» وذكره في «الجامع» بهذا اللفظ مرموزا له برمز من ذكر. 269- ( «الولد مبخلة) بفتح الميم فيه وفيما بعده، أي: يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه، حتى يبخلا بالمال عن إنفاقه في وجوه القرب؛ لأجله خوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 ......... فقره، (مجبنة) أي: يجبن أباه عن الجهاد خشية ضيعته، فكأنّه أشار إلى التحذير من النّكول عن الجهاد، والنّفقة بسبب الأولاد، بل يكتفى بحسن خلافة الله تعالى فيقدم، ولا يحجم، فمن طلب الولد للهوى عصى مولاه، ودخل في قوله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [14/ التغابن] ، فالكامل لا يطلب الولد إلّا لله فيربّيه على طاعته، ويمتثل فيه أمر ربه رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [74/ الفرقان] (محزنة» ) أي: يحمل أبويه على كثرة الحزن، لكونه إن مرض حزنا، وإن طلب شيئا لا قدرة لهما عليه حزنا، فأكثر ما يفوت أبويه من الفلاح والصّلاح بسببه، فإن شبّ وعقّ؛ فذلك الحزن الدائم، والهمّ السرمدي اللازم. سئل حكيم عن ولده، فقال: ما أصنع بمن إن عاش كدّني وإن مات هدّني. قال الماوردي: أخبر بهذا الحديث أن الحذر على الولد يكسب هذه الأوصاف، ويحدث هذه الأخلاق، وقد كره قوم طلب الولد؛ كراهة لهذه الحالة الّتي لا يقدر على دفعها من نفسه للزومها طبعا، وحدوثها حتما. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إنّ الولد مبخلة مجنبة» . ورمز له برمز ابن ماجه عن يعلى بن مرة. قال المناوي؛ نقلا عن الحافظ العراقي: إسناده صحيح. انتهى. وذكره في «الجامع» أيضا بلفظ: «إنّ الولد مبخلة مجنبة مجهلة محزنة» ورمز له برمز الحاكم في «الفضائل» عن الأسود بن خلف، من مسلمة الفتح رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: قال الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذّهبي. وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح. انتهى. ورمز له أيضا برمز الطّبراني في «الكبير» عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 270- «الولد.. للفراش، وللعاهر.. الحجر» . خولة بنت حكيم، قال المناوي؛ نقلا عن الذّهبي: إسناده قوي. وذكره في «الجامع» أيضا بلفظ: «الولد ثمرة القلب، وإنّه مجبنة مبخلة محزنة» ، ورمز له برمز أبي يعلى، زاد المناوي: وكذا البزار؛ كلاهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: قال الزين العراقي- وتبعه الهيثمي-: فيه عطية العوفي وهو ضعيف. انتهى، وتقدم في الحديث الذي قبل هذا. 270- (الولد) - ذكر وأنثى، مفرد ومتعدد، تابع أو محكوم به- (للفراش) أي: صاحبه؛ زوجا كان أو سيدا، لأنّهما يفترشان المرأة بالاستحقاق، لكن السّيد لا يلحق به الولد إلّا إذا أقرّ بالوطء «1» بخلاف الزّوج فيلحق به من إمكان الاجتماع بعد العقد؛ وإن أنكر الوطء؛ ومحلّ كونه تابعا للفراش إذا لم ينفه بلعان، وإلّا! انتفى. ومثل الزّوج أو السيّد هنا واطئ بشبهة، وليس لزان في نسبه حظّ، إنّما حظّه منه استحقاق الحدّ كما قال: - (وللعاهر) -: الزّاني، يقال (عهر إلى المرأة) ؛ إذا أتاها ليلا للفجور بها، والعهر- بفتحتين- الزّنا (الحجر» ) أي: حظّه ذلك، يعني: الخيبة والحرمان فيما ادعاه من النّسب، لعدم اعتبار دعواه مع وجود الفراش للآخر. انتهى؛ من الزرقاني وشروح «الجامع الصغير» . قال الزرقاني: وأوّل من استلحق في الإسلام ولد الزّنا معاوية؛ استلحق في خلافته زياد بن سميّة أخا، لأنّ أباه كان زنى بها زمن كفره؛ فجاءت به منه. واستلحاقه خلاف إجماع المسلمين. انتهى. ونحوه في المناوي. قال المناوي: وهذا الحديث قد مثل به أصحابنا في الأصول إلى أنّ المقام   (1) بل بالنسب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 271- «ويل للشّاكّين في الله» . الوارد على سبب خاصّ يعتبر عمومه، وصورة السبب قطعيّة الدّخول فلا تخصّ منه باجتهاد كما فعله الحنفيّة، فإنّه وارد في ابن زمعة المختصم فيه عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» . والحديث ذكره في «الجامع» وغيره مرموزا له برمز متفق، وأبي داود، والنّسائي، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وبرمز الإمام أحمد، ومتفق عليه، والتّرمذي، والنّسائي، وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وبرمز أبي داود؛ عن عثمان بن عفان. وبرمز النّسائي؛ عن ابن مسعود وعبد الله بن الزّبير. وبرمز ابن ماجه؛ عن عمر بن الخطاب، وعن أبي أمامة الباهلي. قال المناوي: وفي الباب عن غير هؤلاء أيضا؛ كما بيّنه الحافظ في «الفتح» ، ونقل عن ابن عبد البر أنّه جاء عن بضعة وعشرين صحابيا، ثم زاد عليه. انتهى. وذكره السّيوطي في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» . 271- ( «ويل) كلمة تقال لمن وقع في هلكة؛ ولا يترحم عليه، بخلاف «ويح» ؛ كذا في «التنقيح» ، ذكره المناوي. وقال في موضع آخر: «ويل» كلمة عذاب، أو واد في جهنّم، أو صديد أهل النّار. قال ابن جماعة: لم يجئ في القرآن إلّا وعيدا لأهل الجرائم. (للشّاكّين في الله» ) أي؛ في وجوده، أو في انفراده بالألوهية، أو كل وصف يليق به تعالى، كأن شكّ في قدرته أو علمه تعالى. انتهى «عزيزي وحفني» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 [ (حرف اللّام ألف) ] (حرف اللّام ألف) 272- « (لا إله إلّا الله) .. كنز من كنوز الجنّة» . 273- «لا إيمان.. لمن لا أمانة له» . 274- «لا تجتمع أمّتي.. على ضلالة» . (حرف اللّام ألف) 272- ( «لا إله) مستغن عن كلّ ما سواه، ومفتقر إليه كلّ ما عداه (إلّا الله) بالرفع بدل من محلّ «لا» مع اسمها، وهو الرّفع بالابتداء عند سيبويه، وجملة كلمة التّوحيد مبتدأ قصد لفظها، والخبر ما بعدها. أي؛ هذا اللّفظ الّذي هو كلمة التوحيد (كنز من كنوز الجنّة» ) أي؛ ذخيرة من ذخائرها، أو من محصلات نفائسها، والمعنى أنّ قائلها يحصّل ثوابا نفيسا يدّخر له في الجنّة. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» . 273- ( «لا إيمان) كامل (لمن لا أمانة له» ) فالأمانة لبّ الإيمان، وهي منه بمنزلة القلب من البدن، والأمانة في الجوارح السبعة: العين، والسمع، واللسان، واليد، والرجل، والبطن، والفرج. فمن ضيّع جزآ منها سقم إيمانه، وضعف بقدره. انتهى «مناوي وزرقاني» . وتمام الحديث: «ولا دين لمن لا عهد له» . ذكره في «المواهب» ، و «الجامع الصغير» . وقال: رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى في «مسنديهما» ، والبيهقي في «الشعب» ؛ عن أنس. قال الذّهبي: وسنده قويّ. وصحّحه ابن حبّان. انتهى زرقاني على «المواهب» . 274- ( «لا تجتمع أمّتي) أي؛ علماؤهم (على ضلالة» ) لأنّ العامّة تأخذ عنها دينها، وإليها تفزع في النوازل؛ فاقتضت حكمة الله ذلك. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» وقال: أخرجه ابن أبي عاصم. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ......... وهو في الترمذي؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «إنّ الله تعالى لا يجمع أمّتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار» . ورواه عن ابن عمر أيضا الضّياء في «المختارة» بلفظ: «إنّ الله لا يجمع هذه الأمّة على ضلالة أبدا، وإنّ يد الله مع الجماعة؛ فاتّبعوا السّواد الأعظم، فإنّه من شذّ شذّ في النّار» . قال ابن حجر رحمه الله تعالى في «تخريج المختصر» : حديث غريب؛ أخرجه أبو نعيم في «الحلية» واللالكائي في «السّنّة» ، ورجاله رجال الصحيح؛ لكنّه معلول، فقد قال الحاكم: لو كان محفوظا لحكمت بصحّته على شرط الصحيح! لكن اختلف فيه على معتمر بن سليمان على سبعة أقوال؛ فذكرها، وذلك مقتضى الاضطراب، والمضطرب من أقسام الضعيف. انتهى مناوي على «الجامع» . وذكره في «الكشف» بلفظ المصنّف، وقال: رواه الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، وابن أبي خيثمة في «تاريخه» ؛ عن أبي نضرة الغفاري رفعه في حديث: «سألت ربّي ألاتجتمع أمّتي على ضلالة فأعطانيها» . والطّبراني وحده، وابن أبي عاصم في «السنّة» ؛ عن أبي مالك الأشعري رفعه: «إنّ الله تعالى أجاركم من ثلاث خلال: 1- ألايدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعا، و 2- ألايظهر أهل الباطل على أهل الحقّ، و 3- أن لا يجتمعوا على ضلالة» . ورواه أبو نعيم والحاكم، وأعلّه اللالكائي في «السّنّة» وابن منده. ومن طريقه الضّياء؛ عن ابن عمر رفعه: «إنّ الله لا يجمع هذه الأمّة على ضلالة أبدا، وإنّ يد الله مع الجماعة، فاتّبعوا السّواد الأعظم، فإنّ من شذّ شذّ في النّار» . وكذا هو عند التّرمذي، لكن بلفظ «أمّتي» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 275- «لا تختلفوا.. فتختلف قلوبكم» . 276- «لا تسبّوا الدّنيا.. فإنّها مطيّة المؤمن» . ورواه عبد بن حميد، وابن ماجه؛ عن أنس رفعه: «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسّواد الأعظم» . ورواه الحاكم؛ عن ابن عباس رفعه بلفظ: «لا يجمع الله هذه الأمّة على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» . والجملة الثانية عند التّرمذي وابن أبي عاصم؛ عن ابن مسعود موقوفا في حديث: «عليكم بالجماعة، فإنّ الله لا يجمع هذه الأمّة على ضلالة» زاد غيره: «وإيّاكم والتّلوّن في دين الله» . وبالجملة فالحديث مشهور المتن، وله أسانيد كثيرة، وشواهد عديدة في المرفوع وغيره؛ فمن الأول: «أنتم شهداء الله في الأرض» . ومن الثّاني قول ابن مسعود: اذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجده! ففي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجده فيها! فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلّا! فليجتهد. انتهى كلام «الكشف» . 275- ( «لا تختلفوا) أي: لا يتقدم بعضكم على بعض في الصّلاة (فتختلف) بالنّصب جواب النّهي (قلوبكم» ) أي: هواها وإرادتها، لأنّ تقدّم البعض على البعض مظنّة للكبر المفسد للقلوب، وسبب لتأثّرها النّاشئ عن الحنق والضّغائن، وفيه أنّ القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها. انتهى شروح «الجامع» . والحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنّسائي؛ عن أبي مسعود: عقبة بن عمرو البدري الأنصاري مرفوعا. وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي؛ عن عبد الله بن مسعود الهذلي مرفوعا. وأخرجه أبو داود والنّسائي والإمام أحمد؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه مرفوعا. 276- ( «لا تسبّوا الدّنيا فإنّها مطيّة المؤمن» ) توصله إلى الآخرة لكونه يتزوّد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 277- «لا تصحب.. إلّا مؤمنا، ولا يأكل طعامك.. إلّا تقيّ» . فيها أعمالا صالحة. ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» ؛ أي: عن ابن مسعود رضي الله عنه. 277- ( «لا تصحب إلّا مؤمنا) وكامل الإيمان أولى، لأنّ الطّباع سرّاقة؛ ومن ثمّ قيل: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشرّ؛ كالرّيح إذا مرّت على نتن حملت نتنا، وإذا مرّت على الطّيب حملت طيبا. وقال الشّافعيّ: ليس أحد إلّا له محبّ ومبغض؛ فإذن لا بدّ من ذلك فليكن المرجع إلى أهل طاعة الله. ولذلك قيل: ولا يصحب الإنسان إلّا نظيره ... وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد وصحبة من لا يخاف الله لا تؤمن غائلتها لتغيّره بتغيّر الأعراض، قال تعالى وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [الكهف] ، والطّبع يسرق من الطّبع من حيث لا يدري. ومعهم قد تفسد الأخلاق ... والطّبع من عادته سرّاق (ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ» ) لأنّ المطاعمة توجب الألفة، وتؤدّي إلى الخلطة، بل هي أوثق عرى المداخلة، ومخالطة غير التقي تخلّ بالدّين؛ وتوقع في الشّبه والمحظورات، فكأنّه ينهى عن مخالطة الفجّار، إذ لا يخلو عن فساد، إما بمتابعة في فعل، أو مساومة في إغضاء عن منكر، فإن سلم من ذلك ولا يكاد!! فلا تخطئه فتنة الغير به، وليس المراد حرمان غير التّقي من الإحسان، لأنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أطعم المشركين وأعطى المؤلفة للمئين، بل يطعمه ولا يخالطه. والحاصل: أنّ مقصود الحديث- كما أشار إليه الطّيبي- النّهي عن كسب الحرام وتعاطي ما ينفر منه المتّقي، فالمعنى: لا تصاحب إلّا مطيعا، ولا تخالل إلّا تقيّا. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث أخرجه الإمام أحمد والتّرمذي وأبو داود وابن حبّان والحاكم؛ عن أبي سعيد الخدري، وأسانيده صحيحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 278- «لا خير.. في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له» . 278- ( «لا خير في صحبة من لا يرى لك) أي: من الحقّ (مثل ما ترى له» ) بأن يكون عنده من الرغبة والمودّة والنّفع مثل ما عندك له، كما قال الشاعر: إذا كان لا يدنيك إلّا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع فمن لم يكن يرى لك مثل ما ترى له؛ فلا خير في صحبته. قال المناوي: كجاهل قدّمه المال وبذل الرّشوة في فضائل دينيّة لحاكم ظالم منعها أهلها وأعطاه مكافأة لرشوته، فتصدّر وترأس وتنكّب حتى أن يرى لأحد مثل ما يرى له، وتشبّه بالظّلمة في تبسّطهم وملابسهم ومراكبهم. قال بعضهم: وكأنّه يشير إلى تجنّب صحبة المتكبّرين المتعاظمين في دين أو دنيا، سواء كان فوقه أو دونه، لأنّه إن كان فوقه لم يعرف له حقّ متابعته وخدمته، بل يراه حقّا عليه، وأنّه شرف بصحبته، فإن صحبته في طلب الدّين قطعك بكثرة اشتغاله عن الله، وإن صحبته للدّنيا منّ عليك برزق الله. وإن كان دونك لم يعرف لك حرمة، بل يرى له حقّا بصحبته لك، فإن صحبته في الدّين كدّره عليك بسوء معاشرته، أو للدّنيا لم تأمن من أذيّته وخيانته. انتهى كلام المناوي. والحديث ذكره في «كشف الخفا» ، وقال: رواه الدّيلمي؛ عن أنس رضي الله عنه، ورواه العسكري؛ عن أنس رفعه بلفظ: «المرء على دين خليله؛ ولا خير في صحبة من لّا يرى لك من الخير- أو: من الحقّ- مثل الّذي ترى له» . ورواه ابن عدي في «كامله» بسند ضعيف. وروى اللّيث عن مجاهد أنّه قال: كانوا يقولون «لا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق، مثل ما ترى له» . ولأبي نعيم؛ عن سهل بن سعد رفعه: «لا تصحبنّ أحدا لا يرى لك من الفضل كما ترى له» . انتهى ملخّصا. وذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز ابن عدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 279- «لا ضرر.. ولا ضرار» . 280- «لا طاعة لمخلوق.. في معصية الخالق» . 279- ( «لا ضرر) أي: لا يضر الرّجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه (ولا ضرار» ) : فعال بكسر أوّله؛ أي لا يجازي من ضرّه بإدخال الضّرر عليه؛ بل يعفو. فالضّرر فعل واحد، والضّرار فعل اثنين. أو: الضّرر ابتداء الفعل، والضّرار الجزاء عليه، والأوّل إلحاق مفسدة بالغير مطلقا، والثّاني إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة؛ أي: كل منهما يقصد ضرر صاحبه. وفيه تحريم سائر أنواع الضّرر إلّا بدليل، لأنّ النّكرة في سياق النّفي تعمّ. وفيه حذف أصله؛ لا لحوق أو إلحاق، أو: لا فعل ضرر أو ضرار بأحد في ديننا. أي: لا يجوز شرعا إلّا لموجب خاصّ. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «كشف الخفا» وغيره؛ وقال: رواه مالك والشّافعي. عن يحيى المازنيّ مرسلا، والإمام أحمد وعبد الرّزّاق وابن ماجه والطّبراني؛ عن ابن عباس، وفي سنده جابر الجعفي. وأخرجه ابن أبي شيبة والدّارقطني عنه. وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وجابر وعائشة وغيرهم. انتهى. وفي المناوي: الحديث حسّنه النووي في «الأربعين» ، ورواه مالك مرسلا، وله طرق يقوّي بعضها بعضا. وقال العلائيّ: للحديث شواهد؛ ينتهي مجموعها إلى درجة الصحّة أو الحسن المحتجّ به. انتهى. 280- ( «لا طاعة لمخلوق) من المخلوقين كائنا من كان؛ أبا أو أمّا، أو زوجا أو سيدا (في معصية الخالق» ) بل كلّ حقّ- وإن عظم- ساقط إذا جاء حقّ الله، فهو خبر بمعنى النهي، أي: لا ينبغي ولا يستقيم ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 281- «لا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب.. كحسن الخلق» . وتخصيص ذكر المخلوق والخالق!! يشعر بعلّيّة هذا الحكم «1» . قال الزّمخشري: قال مسلمة بن عبد الملك لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [59/ النساء] قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحقّ بقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59/ النساء] . قال ابن الأثير: يريد طاعة ولاة الأمر إذا أمروا بما فيه إثم كقتل ونحوه. وقيل: معنى الحديث: أنّ الطّاعة لا تسلم لصاحبها، ولا تخلص إذا كانت مشوبة بمعصية. والأوّل أشبه بمعنى الحديث. انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «كشف الخفا» وغيره؛ وقال: رواه الإمام أحمد، والحاكم؛ عن عمران بن حصين. ورواه أبو داود والنّسائي؛ عن علي بلفظ: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنّما الطّاعة في المعروف» . ورواه أحمد؛ عن أنس بلفظ: «لا طاعة لمن لم يطع الله» . انتهى. قال المناوي في حديث عمران: قال الهيثميّ رجال أحمد رجال الصّحيح، ورواه البغوي عن النّواس، وابن حبّان؛ عن علي بلفظ: «لا طاعة لبشر في معصية الله» . وله شواهد في «الصّحيحين» . انتهى. 281- ( «لا عقل كالتّدبير) قال الطّيبي: أراد بالتّدبير العقل المطبوع. وقال القيصري: هو خاطر الرّوح العقلي، وهو خاطر التّدبير لأمر المملكة الإنسانيّة، فالنّظر في جميع الخواطر الواردة عليه من جميع الجهات، ومنه تؤخذ الفهوم والعلوم الربّانيّة، وهذا الشّخص هو الملك، وإليه ترجع أمور المملكة؛ فيختار ما أمره الشّرع أن يختار ويترك ما أمره الشّرع أن يتركه، ويستحسن ما أمره الشّرع أن يستحسنه، ويستقبح ما أمره الشّرع أن يستقبحه، وصفة خاطر هذا الملك   (1) أي: جعل الخلق علّة للطاعة من المخلوق لخالقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 282- «لا فقر.. أشدّ من الجهل، ولا مال.. أعزّ من العقل، ولا وحشة.. أشدّ من العجب» . التثبّت والنّظر في جميع ما يرد عليه من الخواطر، فينفّذ منها ما يجب تنفيذه، ويردّ ما يجب ردّه. وخواطر هذا الجوهر الشّريف؛ وإن كثرت ترجع إلى ثلاثة أنواع: 1- الأمر بالتنزّه عن دنيّ الأخلاق والأعمال والأحوال ظاهرا وباطنا. و 2- الأمر بالاتصاف بمحاسن الأخلاق والأعمال والأحوال وأعاليها كذلك. و 3- الأمر بإعطاء جميع أهل مملكته حقوقهم وتنفيذ الأحكام الشّرعية فيهم. (ولا ورع كالكفّ) أي: كفّ اليد عن تناول ما يضطرب القلب في تحليله وتحريمه. (ولا حسب) أي؛ ولا مجد ولا شرف (كحسن الخلق» ) بالضم، إذ به صلاح الدّنيا والآخرة. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز ابن ماجه، أي؛ وكذا ابن حبّان، والبيهقي في «الشعب» ؛ كلّهم عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه، وإسناده ضعيف؛ كما في شروح «الجامع» . 282- ( «لا فقر أشدّ من الجهل) بالعلم الشّرعي، لأنّ العلم ميراث الأنبياء، فمن حرمه فهو الفقير على الحقيقة. (ولا مال أعزّ من العقل) لأنّ العقل دليل المؤمن، إذ هو عقال لطبعه أن يجري بعجلته وجهله لتقدّم العقل بين يدي كلّ أمر من فعل وترك؛ مسترشدا به في عاقبته، استضاءة بنوره، فمن أعطي العقل فقد حصل على خير كبير. ولله درّ من قال: ... «1»   (1) فراغ في الأصل!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 283- «لا يجني على المرء.. إلّا يده» . 284- «لا يحلّ لمسلم.. أن يروّع مسلما» . (ولا وحشة أشدّ من العجب» ) الّذي هو استعظام العمل غافلا عن منّة الله تعالى فيه. والحديث ذكره في «كشف الخفا» بلفظ: «لا فقر أشدّ من الجهل، ولا مال أكثر من العقل، ولا وحشة أوحش من العجب، ولا ورع كالكفّ عن محارم الله، ولا حسب كحسن الخلق ولا عبادة كالتّفكّر» ، وقال: رواه ابن ماجه، والطّبراني عن أبي ذرّ. وفي الباب عن عليّ بن أبي طالب. انتهى. قال المناوي: أخرج في «الشّعب» عن علي كرّم الله وجهه: «التّوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ميراث، ولا وحشة أشدّ من العجب» قالوا: وذا من جوامع الكلم. انتهى. 283- ( «لا يجني على المرء) أي: الرّجل، والمراد الإنسان فيشمل المرأة، أي لا يوصل إليه مكروها (إلّا يده» ) لأنّه يذنب فيعاقب من الله؛ أو الحاكم، فكأنّه المعاقب لنفسه لتسبّبه في إيصال العقاب لها. وخصّ اليد!! لمباشرتها غالبا الجنايات. انتهى «زرقاني» . والحديث ذكره في «المواهب» ؛ وقال: رواه الشيخان؛ أي: البخاري ومسلم في حديث، ولأحمد وابن ماجه؛ من حديث عمرو بن الأحوص: إنّه شهد حجّة الوداع، وفيه: «لا يجني جان إلّا على نفسه» وقد أراد صلى الله عليه وسلم بهذا أنّه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره؛ إن قتل أو جرح أو زنى، وإنّما يؤخذ بما جنته يده، فيده هي الّتي أدّته لذلك فهو إبطال لأمر الجاهليّة، كانوا يقودون بالجناية من يجدونه؛ من الجاني وأقاربه، الأقرب فالأقرب، وعليه الآن أهل الجفا من سكان البوادي والجفاء. انتهى. 284- ( «لا يحلّ لمسلم أن يروّع) - بالتّشديد أي: يفزّع- (مسلما» ) وإن كان هازلا؛ كإشارته بسيف أو حديدة أو أفعى، أو أخذ متاعه فيفزع لفقده، لما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 285- «لا يزال الرّجال بخير.. ما لم يطيعوا النّساء» . 286- «لا يشكر الله.. من لا يشكر النّاس» . ذلك من إدخال الأذى والضّرر عليه، و «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» . والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد وأبي داود؛ من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجال من الصّحابة: أنّهم كانوا يسيرون مع النّبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه؛ ففزّعه ... فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزين العراقي بعد ما عزاه لأحمد والطّبرانيّ: حديث حسن. وذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه الطّبراني وابن منيع؛ عن النّعمان بن بشير. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. انتهى. 285- ( «لا يزال الرّجال بخير ما لم يطيعوا) أي: مدة عدم إطاعتهم (النّساء» ) ، فإذا أطاعوهنّ قلّ خيرهم، وذلك من أشراط السّاعة. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني. 286- ( «لا يشكر الله من لا يشكر النّاس» ) أي: من كان طبعه وعادته كفران نعمة النّاس وترك الشّكر لمعروفهم كان عادته كفران نعم الله وترك الشّكر له. قال الحافظ ابن حجر كابن العربي: فيه أربع روايات رفع «الله» و «النّاس» ، ونصبهما، ورفع أحدهما ونصب الآخر. وعلى رفعهما؛ معناه: من لا يشكره النّاس لا يشكره الله. وعلى نصبهما معناه: من لا يشكر النّاس بالثّناء بما أولوه لا يشكر الله؛ فإنّه أمر بذلك عبيده، أو من لا يشكر النّاس كمن لا يشكر الله، ومن شكرهم كمن شكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 287- «لا يغني حذر.. من قدر» . وعلى رفع أحدهما ونصب الآخر معناه: لا يكون لله شاكرا إلا من كان شاكرا للنّاس، وشكر الله ثناؤه على المحسن، وإجراؤه النّعم عليه بغير زوال. قال الزّين العراقي: والمعروف المشهور في الرّواية نصبهما، ويشهد له حديث عبد الله بن أحمد: «من لا يشكر النّاس لا يشكر الله» . انتهى «مناوي» . والحديث ذكره في «الكشف» وقال: رواه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات؛ عن الأشعث بن قيس رفعه. وأبو داود والتّرمذي؛ عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه التّرمذي؛ عن أبي هريرة. انتهى. وذكره في «الجامع» بلفظ: «من لم يشكر النّاس لم يشكر الله» . ورمز له برمز الإمام أحمد والتّرمذي والضّياء في «المختارة» ؛ عن أبي سعيد الخدري. قال المناوي: قال التّرمذي: حسن. وقال الهيثميّ: سند أحمد حسن. ولأبي داود وابن حبّان ونحوه؛ من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح. انتهى. وذكره في «الجامع» أيضا بلفظ: «التّحدّث بنعمة الله شكر وتركه كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر النّاس لا يشكر الله، والجماعة بركة والفرقة عذاب» ورمز له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما. قال المناوي: فيه أبو عبد الرحمن الشّامي أورده الذّهبي في الضّعفاء، وقال الأزدي: كذّاب. ورواه عنه أحمد بسند رجاله ثقات، كما بيّنه الهيثمي، فكان ينبغي للمؤلف- يعني السّيوطي- عزوه له. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى. 287- ( «لا يغني حذر من قدر» ) وإنّما يستعمل العبد الحذر!! لأنّه من جملة الأسباب المأمور بمباشرتها؛ فهو يحترز حسب الاستطاعة؛ معتقدا أنّه لا يدفع القضاء المبرم. والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الإمام أحمد، والحاكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 288- «لا يلدغ المؤمن.. من جحر مرّتين» . وصحّحه؛ عن عائشة مرفوعا. وأخرجه الدّيلمي؛ عن عائشة ومعاذ بلفظ: «لا ينفع حذر من قدر، والدّعاء ينفع ممّا نزل» . انتهى. وذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الحاكم، في «كتاب الدّعاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قال المناوي: وتمامه عند الحاكم «والدّعاء ينفع ممّا نزل وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل فيتلقّاه الدّعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» . انتهى. ثم قال المناوي: قال الحاكم: صحيح، وتعقّبه الذّهبي في «التلخيص» بأنّ زكريا بن منصور أحد رجاله مجمع على ضعفه. انتهى. وفي «الميزان» : ضعّفه ابن معين ووهّاه أبو زرعة. وقال البخاري: منكر الحديث، وساق له هذا الخبر، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصحّ. انتهى كلام المناوي. 288- ( «لا يلدغ) - بالمثنّاة التحتيّة المضمومة واللام الساكنة وبالدّال المهملة المفتوحة والغين المعجمة- (المؤمن من جحر) - بضم الجيم فحاء مهملة- (مرّتين» ) . قال الشّهاب الخفاجي: أريد بها التكرار؛ كقوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [3- 4/ الملك] لكنّه اقتصر على الأقل، لأنّه أنسب بالجزم. انتهى. قال المناوي: روي 1- برفع الغين المعجمة نفي؛ معناه المؤمن المتيقّظ الحازم لا يؤتى من قبل الغافلة فيخدع مرة بعد أخرى، و 2- بكسر الغين نهي؛ أي؛ ليكن فطنا كيّسا لئلا يقع في مكروه بعد وقوعه فيه مرة قبلها. وذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم الّتي لم يسبق إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 289- «لا يكون الرّجل من المتّقين.. حتّى يدع ما لا بأس فيه، حذرا ممّا به بأس» . أراد به تنبيه المؤمن على عدم عوده لمحلّ حصول مضرّة سبقت له فيه، وكما أن هذا مطلوب في أمر الدّنيا؛ فكذا في أمور الآخرة، فالمؤمن إذا أذنب ينبغي أن يتألّم قلبه كاللّديغ، ويضطرب ولا يعود. انتهى. وسبب الحديث أنّ أبا عزة الجمحي «1» أسر ببدر فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يهجوه، ولا يحرّض عليه؛ فغدر، ثم أسر بأحد، فقال: يا رسول الله؛ غلبت أقلني. فقال: «لا أدعك تمسح عارضيك بمكّة تقول (خدعت محمّدا مرّتين) ! وإنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين» . ثم أمر بضرب عنقه، فصار الحديث مثلا. ولم يسمع ذلك قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم. نعم ذكر الشّهاب الخفاجي: أنّ من حكم اليونان وأمثالهم قولهم: لا يرمى العاقل بحجر مرتين. فانظر الفرق بين كلام النّبوّة وغيرها!!. وفي «العزيزي» : قيل: المراد بالمؤمن في هذا الحديث الكامل الّذي أوقفته معرفته على غوامض الأمور، حتى صار يحذر مما سيقع، وأمّا المؤمن المغفّل! فقد يلدغ مرارا من جحر. وفيه أدب شريف أدّب به النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّته، ونبّههم كيف يحذرون ممّا يخافون سوء عاقبته. انتهى. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والشّيخين: البخاري ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه كلّهم؛ عن أبي هريرة، وبرمز الإمام أحمد وابن ماجه كلاهما؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 289- ( «لا يكون الرّجل من المتّقين) - أي: لا يبلغ العبد حقيقة التّقوى- (حتّى يدع ما لا بأس فيه حذرا ممّا به بأس» ) أي: يترك فضول الحلال؛ حذرا من   (1) وكان شاعرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 290- «لا يؤمن أحدكم.. حتّى يحبّ ... الوقوع في الحرام، ويسمّى هذا ورع المتّقين. وهذه الدرجة الثانية من درجات الورع. قال عمر: كنّا ندع تسعة أعشار الحلال خوف الوقوع في الحرام. وكان بعضهم يأخذ ما يأخذ بنقصان حبّة، ويعطي ما عليه بزيادة حبّة. ولذلك أخذ عمر بن عبد العزيز بأنفه «1» من ريح المسك الذي لبيت المال، وقال: هل ينتفع إلّا بريحه!! ومن ذلك ترك النّظر إلى تجمّل أهل الدنيا، فإنّه يحرّك داعية الرّغبة فيها. انتهى «عزيزي» . والحديث ذكره في «الجامع» بلفظ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به بأس» ورمز له برمز التّرمذي وابن ماجه والحاكم كلهم؛ عن عطية بن عروة السّعدي رضي الله تعالى عنه، وقال التّرمذي: حسن غريب. انتهى بزيادة من المناوي. 290- ( «لا يؤمن أحدكم) إيمانا كاملا؛ فالمراد بنفيه هنا نفي بلوغ حقيقته ونهايته، كخبر «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان. ولا يرد استلزامه أنّ فاعل ذلك يكمل إيمانه؛ وإن ترك بقيّة الأركان!! لأنّ هذا ورد مورد المبالغة، ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم. وصرّح في رواية ابن حبّان بالمراد، ولفظ «لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان» إذ معنى الحقيقة الكمال ضرورة إن من لم يتّصف بهذه الصّفة لا يكون كافرا. (حتّى يحبّ) - بالنّصب، لأنّ «حتّى» جارّة و «أن» بعدها مضمرة،   (1) أي: يمسك بيده على أنفه لئلا يتمتع بريح المسك. (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 لأخيه ما يحبّ لنفسه» . ولا يجوز الرّفع فتكون «حتّى» عاطفة!! لفساد المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبّة. ذكره الكرماني- (لأخيه) - المسلم كما زاده في رواية الإسماعيلي ولعلّه غالبي، فالمسلم ينبغي حبّه للكافر الإسلام، وما يترتب عليه من خير وأجر- (ما يحبّ لنفسه» ) من الخير؛ كما في رواية النّسائي وابن منده والإسماعيلي والقضاعي، والمراد أن يحبّ لأخيه من الخير نظير ما حصل له من جهة لا يزاحمه فيها. وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه؛ إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلّين محال، قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشّر، ولم يذكره! لأنّ حبّ الشّيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك النصّ عليه اكتفاء. انتهى. وذلك ليكون المؤمنون كنفس واحدة، ومقصود الحديث انتظام أحوال المعاش والمعاد، والجري على قانون السّداد وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [103/ آل عمران] وعماد ذلك كلّه وأساسه السّلامة من الأدواء القلبيّة، فالحاسد يكره أن يفوقه أحد، أو يساويه في شيء، والإيمان يقتضي المشاركة في كل خير؛ من غير أن ينقص على أحد من نصيب أحد شيء. نعم؛ ومن كمال الإيمان تمنّي مثل فضائله الآخروية الّتي فاقه فيها غيره. وقوله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [32/ النساء] نهي عن الحسد المذموم، فإذا فاقه أحد في فضل ديني اجتهد في لحاقه، وحزن على تقصيره، لا حسدا؛ بل منافسة في الخير، وغبطة. انتهى «مناوي وزرقاني» . قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي: جماع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» ، وحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» ، وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وقوله للذي اختصر له في الوصية «لا تغضب» . انتهى عزيزي ك «شرح مسلم» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 291- «لا يؤمن أحدكم.. حتّى يكون هواه ... والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، قال الزّرقاني: أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم، والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله عنه. لكن لفظ رواية مسلم: «حتّى يحبّ لأخيه- أو قال- جاره» . ورواية البخاري وغيره: «لأخيه» بلا شك. انتهى. ونحوه في «الجامع الصغير» مع المناوي رحمهم الله تعالى. 291- ( «لا يؤمن أحدكم) إيمانا كاملا (حتّى يكون هواه) ، بالقصر: ما يهواه أي: تحبّه نفسه وتميل إليه، وجمعه أهواء، والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنّه الميل إلى خلاف الحقّ، وهذا هو الغالب، ومنه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [26/ ص] ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) [النازعات] . ومنه قول ابن دريد: وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا وقول هشام بن عبد الملك: إذا لم تكن تعصي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال وقول آخر: إنّ الهوان من الهوى قصر اسمه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقول آخر: نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريع كلّ هوى صريع هوان وقد يطلق الهوى بمعنى مطلق الميل والمحبّة؛ فيشمل الميل للحقّ وغيره، ويطلب بمعنى محبّة الحقّ خاصّة، والانقياد إليه، ومنه ما في هذا الحديث، ومنه قول عائشة رضي الله عنها لما نزل قوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 لما جئت به» .) تَشاءُ [51/ الأحزاب] قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلّا يسارع في هواك، وقول عمر رضي الله عنه- في قصة المشاورة في أسارى بدر- «فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت» ؛ فتبيّن أنّ للهوى ثلاث إطلاقات: 1- الميل إلى خلاف الحقّ، وهو الغالب. و2- مطلق الميل الشّامل للحقّ وغيره. و 3- الميل إلى الحقّ خاصّة. وهذا كلّه في المقصور؛ أمّا الممدود [الهواء] فهو الجرم الّذي بين السماء والأرض، وكلّ متجوّف، وجمعه أهوية. (تبعا لما جئت به» ) من هذه الشّريعة المطهّرة الكاملة، بأن يميل قلبه وطبعه إليه؛ كميله لمحبوباته الدنيويّة الّتي جبل على الميل إليها من غير مجاهدة وتصبّر، بل يهواها كما يهوى المحبوبات المشتهيات، إذ من أحبّ شيئا أتبعه هواه، ومال عن غيره إليه، ومن ثمّ آثر التعبير بذلك، على نحو «حتّى يأتمر بكلّ ما جئت به» لأنّ المأمور بالشيء قد يفعله اضطرارا. انتهى؛ من شرح ابن حجر الهيتمي على «الأربعين النووية» . وقال الإمام النّووي رحمه الله تعالى: يعني أنّ الشّخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنّة، ويخالف هواه، ويتّبع ما جاء به النّبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نظير قوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [36/ الأحزاب] فليس لأحد مع الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم أمر ولا هوى. وعن إبراهيم بن محمد الكوفيّ قال: رأيت الشّافعي بمكة يفتي النّاس ورأيت إسحاق بن راهواه وأحمد ابن حنبل حاضرين، فقال أحمد لإسحاق: تعال حتّى أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فقال له إسحاق: لم تر عيناي مثله!! قال: نعم. فجاء به فوقفه على الشّافعي. فذكر القصة إلى أن قال: ثمّ تقدّم إسحاق إلى مجلس الشّافعي فسأله عن كراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 ......... بيوت مكة. فقال الشّافعي: هذا عندنا جائز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل ترك لنا عقيل من دار!!» . فقال إسحاق: أخبرنا يزيد بن هارون؛ عن هشام؛ عن الحسن أنّه لم يكن يرى ذلك!، وعطاء وطاووس لم يكونا يريان ذلك!! فقال له الشّافعي: أنت الّذي تزعم أهل خراسان أنّك فقيههم؟!. قال إسحاق: كذلك يزعمون؟! قال الشّافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بفرك أذنيه. أنا أقول: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنت تقول: قال عطاء وطاووس والحسن وإبراهيم؛ هؤلاء لا يرون ذلك» ؟! وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة؟. ثمّ قال الشّافعي: قال الله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [59/ الحشر] أفتنسب الدّيار إلى مالكين؛ أو غير مالكين؟. قال إسحاق: إلى مالكين!. قال الشافعي: فقول الله تعالى أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ؛ وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار الحجلتين!؟ وذكر الشّافعي جماعات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له إسحاق: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج/ 52] !! فقال له الشّافعي: فالمراد به المسجد خاصّة؛ وهو الّذي حول الكعبة، ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد في دور مكّة ضالّة، ولا تحبس فيها البدن، ولا تلقى الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصّة!. فسكت إسحاق ولم يتكلّم. فسكت الشّافعي عنه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ونفعنا بعلومهم آمين. والحديث ذكره النّووي في «الأربعين» ؛ وقال: حديث صحيح روّيناه في كتاب «الحجّة» بإسناد صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 ......... قال ابن حجر: كتاب «الحجّة في اتباع المحجّة» في عقيدة أهل السنّة لتضمّنه ذكر أصول الدّين على قواعد أهل الحديث، وهو كتاب جيد نافع وقدره ك «التنبيه» مرة ونصفا تقريبا، ومؤلفه هو العلامة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني الحافظ؛ كذا قاله بعضهم! وخالفه غيره؛ فقال: إنّه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشّافعي، الفقيه الزاهد نزيل دمشق. انتهى. قال بعضهم: ورواه محيي السّنّة في «المصابيح» و «شرح السنة» . انتهى. قال ابن حجر: وهو على وجازته واختصاره يجمع ما في هذه «الأربعين» وغيرها؛ من دواوين السّنّة، وبيانه أنّه صلى الله عليه وسلم إنّما جاء بالحقّ وصدّق المرسلين، وهذا الحقّ إن فسّر بالدّين شمل الإيمان والإسلام والنّصح لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم، والاستقامة، وهذه أمور جامعة لا يبقى بعدها إلّا تفاصيلها، أو بالتّقوى فهي مشتملة على ما ذكرناه أيضا، فإذا كان كذلك؛ كان هوى الإنسان تبعا لما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الدّين والتّقوى. وعلم من الحديث أنّ من كان هواه تابعا لجميع ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا كاملا، وضدّه؛ وهو من أعرض عن جميع ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم- ومنه الإيمان- فهو الكافر؛ وأما من اتبع البعض؛ فإن كان ما اتّبعه أصل الدّين؛ وهو الإيمان، وترك ما سواه؛ فهو الفاسق، وعكسه المنافق، واستمداد الحديث من قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [65/ النساء] ... الآية، إذ فيها غاية التعظيم لحقّه صلى الله عليه وسلم والتأدّب معه، ووجوب محبّته واتّباعه فيما يأمر به من غير توقّف؛ ولا تلعثم، ومن ثمّ لم يكتف بالتّحكيم، بل عقّبه بقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ولم يكتف بهذا أيضا، بل زاد التأكيد بقوله وَيُسَلِّمُوا [65/ النساء] ، ولم يكتف به أيضا، بل زاد فيه فأتى بالمصدر الرافع لاحتمال التجوّز؛ فقال تَسْلِيماً (65) [النساء] ، وبهذا التسليم تكون النّفس مطمئنّة لحكمه، منشرحة به، لا توقف عندها فيه بوجه. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 292- «لا يؤمن عبد.. حتّى يكون قلبه ولسانه سواء» . 292- ( «لا يؤمن عبد حتّى يكون قلبه ولسانه سواء» ) في كون ما يظهر على لسانه هو ما يكنّه قلبه، من حسن معاملة الخلق والخالق. والحديث ذكره في «كشف الخفاء» ، وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أنس. وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. انتهى. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 [ (حرف الياء) ] (حرف الياء) 293- «يا ابن آدم؛ ارض من الدّنيا.. بالقوت؛ فإنّ القوت لمن يموت كثير» . 294- «يا أبا بكر؛ ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» . قاله له في الغار. (حرف الياء) 293- ( «يا ابن آدم) المراد ب «ابن آدم» الجنس (ارض من الدّنيا بالقوت) ؛ أي: بما يسدّ الرّمق بغير زيادة على ذلك، قيل: سمّي قوتا! لحصول القوة منه؛ ذلك لأن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، والكفاف حالة متوسّطة بين الفقر والغنى، وخير الأمور أوساطها، ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتا» . ومعلوم أنّه لا يسأل [الله] إلّا أفضل الأحوال. (فإنّ القوت لمن يموت كثير» ) هذا مبالغة في التقلّل من الدّنيا، وإلّا! فإن الإنسان لا يستغني عن القوت، إذ هو البلغة، وبه قوام البنية. وأقطاب القوت: الكنّ، والكسوة، والشّبع، والرّيّ؛ فمن توفّرت له فهو مكفيّ، كما جاء ذلك في حديث رواه التّرمذي في «الزّهد» ، والحاكم في «الرّقاق» كلاهما؛ عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: «ليس لابن آدم حقّ فيما سوى هذه الخصال، بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز، والماء» قال التّرمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ. والله أعلم. 294- ( «يا أبا بكر) - الصّدّيق- (ما ظنّك باثنين) - يعني: نفسه وأبا بكر- (الله ثالثهما) بالنّصرة والإعانة. وفي رواية: «اسكت؛ يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما» . وهذا (قاله) النّبيّ صلى الله عليه وسلم (له) ؛ أي: لأبي بكر الصّدّيق وهما ماكثان (في الغار) المعهود؛ وهو غار ثور جبل من جبال مكّة بأسفلها؛ على مسير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 295- «يا أبا ذرّ؛ جدّد السّفينة، فإنّ البحر عميق» . 296- «يا أنس؛ أطب كسبك.. تستجب دعوتك» . ساعتين تقريبا، وذلك في خروجهما متوجّهين إلى المدينة للهجرة، ولمّا بعثت قريش الطّلب في آثارهما؛ وكانا مختفيين في الغار المذكور، ووصلت قريش إلى باب الغار؛ قال سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ! والحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما؛ عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ وفيه منقبة ظاهرة لسيّدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه. 295- ( «يا أبا ذرّ؛ جدّد السّفينة) - أي: أكثر من الأعمال الصّالحة ما دمت في هذه الحياة الدّنيا- (فإنّ البحر عميق» ) يعني: يوم القيامة الّتي تستقلّ فيه الأعمال الصّالحة لما اشتمل عليه من الهول؛ فشبّه الأعمال الصّالحة الكثيرة في تعاضدها؛ إذ يتسبب عنها تخليص صاحبها من الأهوال؛ بالسّفينة الجديدة في قوّتها وتحمّلها ما يطرأ عليها من مصادمات وأخطار المتسبّب ذلك في نجاة ركابها. وشبّه يوم القيامة وما اشتمل عليه من أهوال يشيب فيها الوليد؛ بحيث لا ينجيه من ذلك إلّا كثرة الأعمال الصّالحة؛ شبّهه بالبحر العميق المحاط بالأخطار، بحيث لا ينجيه منه إلّا السّفينة السليمة الآلات، القوية في المعدات، أمّا غيرها! فيخشى عليه الوقوع في الهلاك. وهذا من أبدع الكلام وأحسن الاستعارة. وهذا الحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . 296- ( «يا أنس؛ أطب كسبك) - أي: مطعمك، وكسوتك، وتوابعهما، وأهمّها المطعم بأن يكون ذلك من حلال، سليما من الشّبهة، فإذا فعلت ذلك (تستجب دعوتك» ) أي: دعاؤك إن دعوت الله تعالى في أمر من الأمور، وحاجة من الحاجات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 297- «يا حرملة؛ ائت المعروف واجتنب المنكر» . وهذا كقوله لسعد: «أطب طعمتك تجب دعوتك» . أمّا من كان مطعمه من حرام، وملبسه من حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له!!. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . 297- ( «يا حرملة) - بفتح المهملة وسكون الراء وفتح الميم- ابن عبد الله بن إياس- وربّما نسب إلى جدّه فظنّ أنّه غيره- وهو التميمي العنبري الصحابي، كان من أهل الصّفّة، ونزل البصرة، قال: قلت يا رسول الله؛ ما تأمرني به أعمل!! فقال: (ائت المعروف) أي: افعله. والمعروف: ما عرفه الشّرع، وهو الواجب والمندوب، (واجتنب المنكر» ) ؛ أي: لا تقربه، والمنكر: ما أنكره الشّرع، وهو المكروه والحرام. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّيالسي. وذكره في «الجامع» بلفظ: «ائت المعروف، واجتنب المنكر، وانظر ما يعجب أذنك أن يقول لك القوم إذا قمت من عندهم فأته. وانظر الّذي تكره أن يقول لك القوم إذا قمت من عندهم فاجتنبه» . ورمز له برمز البخاري في «الأدب المفرد» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، وابن سعد، والبغوي في «معجمه» ، والباوردي في «معرفة الصحابة» ؛ كلّهم عن حرملة المذكور وليس له غيره. قال المناوي: يعني لا يعرف له رواية غير هذا الحديث. ثمّ قال المناوي: وكلام الحافظ ابن حجر مصرّح بحسن الحديث، فإنّه قال: حديثه- يعني حرملة- في «الأدب المفرد» للبخاري، «ومسند الطيالسي» وغيرهما بإسناد حسن. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 298- «يا حبّذا كلّ ناطق عالم، وكلّ مستمع واع» . 299- «يا حذيفة؛ عليك بكتاب الله» . 300- «يا عبادة؛ اسمع وأطع في عسرك ويسرك» . 298- (يا) للتنبيه؛ أو للنّداء، والمنادى محذوف أي: يا قوم (حبّذا) : كلمة مدح ركبت من كلمتين «حبّ» فعل ماض، و «ذا» اسم إشارة، وأصله حبّب بضمّ الحاء- وهو مسند إلى اسم الإشارة إلّا أنهما جريا بعد التّركيب مجرى الأمثال الّتي لا تتغيّر؛ أي حبّ هذا الأمر المذكور في قوله (كلّ ناطق عالم) ؛ أي: متكلّم عن علم بما يتكلّم، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك العمل بما يعلمه وبما يقوله، (وكلّ مستمع واع) ؛ أي: حافظ لما يسمعه من العلم، فإنّ هذا هو الّذي يزداد علما كلما طلعت عليه شمس يوم. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . 299- ( «يا حذيفة) بن اليمان (عليك) اسم فعل بمعنى «الزم» ، وقوله (بكتاب الله» ) ! بباء الجر، واستشكاله بتعديته بنفسه في نحو عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة/ 105] !! دفعه الرضيّ بأن أسماء الأفعال؛ وإن كان حكمها في التعدّي واللّزوم حكم الأفعال التي هي بمعناها؛ لكن كثيرا ما تزاد الباء في مفعولها؛ نحو «عليك به» لضعفها في العمل. انتهى «مناوي» . أي: الزم تلاوة كتاب الله تعالى القرآن، وتدبّره، واتّخذه إماما وقائدا، آمن بمتشابهه، واعتبر بأمثاله، واعمل بأحكامه. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد. 300- ( «يا عبادة؛ اسمع وأطع) أميرك في كلّ ما يأمر به؛ وإن شقّ ما لم يكن إثما، وجمع بينهما تأكيدا!! للاهتمام بالمقام؛ أي: اسمع وأطع على كل حال (في عسرك) ؛ أي: ضيقك وشدّتك، (ويسرك» ) - بضمّ أوّله وسكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 301- «يا عقبة؛ صل من قطعك، وأعط من حرمك» . 302- «يا عليّ؛ لا ترج إلّا ربّك، ولا تخف إلّا ذنبك» . 303- «يا عمرو؛ نعمّا بالمال الصّالح للرّجل الصّالح» . السّين المهملة-: نقيض العسر، يعني: في حال فقرك وغناك. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد. 301- ( «يا عقبة؛ صل من قطعك) من ذوي قرابتك وغيرهم، (وأعط من حرمك» ) عطاءه أو مودّته، أو معروفه. والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد. 302- ( «يا عليّ؛ لا ترج) في قضاء حاجتك (إلّا ربّك) ؛ لا غيره من المخلوقين، (ولا تخف) أحدا (إلّا ذنبك» ) يعني؛ إذا وقعت في الذّنب فخف أن يصيبك من الله شيء؛ عقابا لذنبك الّذي ارتكبته. والحديث ذكره المناوي في «الكنوز» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . 303- ( «يا عمرو) بن العاص (؛ نعمّا بالمال) قال في «النّهاية» : أصله «نعم ما» ؛ فأدغم وشدّد، و «ما» غير موصوفة ولا موصولة، كأنّه قال: نعم شيئا المال (الصّالح) . والباء زائدة مثل زيادتها في وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) [الأحزاب] انتهى. (للرّجل الصّالح) الّذي يقيم به أوده، ويستعين به على آخرته. والحديث ذكره في «مجمع الزوائد» عن عمرو بن العاص قال: بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذ عليك ثيابك وسلاحك ثمّ ائتني» ، - قال: فأتيته وهو يتوضّأ فصعّد فيّ البصر ثمّ طأطأ؛ فقال: «إنّي أريد أن أبعثك على جيش فيسلّمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة» ، فقلت: - يا رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 304- «يا عمّ رسول الله؛ أكثر من الدّعاء بالعافية» ، قاله للعبّاس. 305- «يا فاطمة؛ كوني له أمّة.. يكن لك عبدا» . ما أسلمت من أجل المال، ولكنّي أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «يا عمرو نعمّا بالمال الصّالح للمرء الصّالح» رواه أحمد، وقال: كذا في النّسخة «نعمّا» بنصب النّون وكسر العين، وقال أبو عبيدة: بكسر النّون والعين. ورواه الطّبراني في «الأوسط» و «الكبير» وقال فيه: ولكن أسلمت رغبة في الإسلام وأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «نعم ونعمّا بالمال الصّالح للمرء الصّالح» . انتهى كلام «مجمع الزوائد» . 304- (يا عمّ رسول الله؛ أكثر من الدّعاء بالعافية» ) أي: السّلامة من الشّدائد والبلايا والمكاره الدّنيوية والآخرويّة، أي: أكثر من الدّعاء بدوامها واستمرارها عليك، لأنّها جامعة لأنواع خير الدّارين من الصّحة في الدّنيا؛ والسّلامة في العقبى، ومن كملت له العافية علّق قلبه بملاحظة مولاه، وعوفي من التّعلّق بسواه. قال الدّيلمي: وهذا (قاله للعبّاس) عمّه حين قال: يا رسول الله؛ علمني شيئا أسأله الله. فذكره. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن ابن عباس. ورواه عنه الطّبراني باللّفظ المزبور، وفيه راو ضعّفه جمع، وبقيّة رجاله ثقات. وذكره المناوي في «الكنوز» باللفظ المزبور. 305- ( «يا فاطمة؛ كوني له) - أي: زوجها عليّ- (أمة) - أي: مطيعة كالأمة المطيعة لسيّدها- (يكن لك) - أي: بعلك- (عبدا» ) موافقا منقادا، كالعبد الموافق لسيّده في أغراضه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 306- «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه.. وينسى الجذع في عينه» . 307- «يسّروا ... 306- ( «يبصر أحدكم القذى) - جمع: قذاة، وهي ما يقع في العين والماء والشّراب من نحو تراب وتبن ووسخ- (في عين أخيه) - في الإسلام- (وينسى الجذع) - واحد: جذوع النّخل- (في عينه» ) أي: في عين نفسه، كأنّ الإنسان لنقصه وحبّ نفسه يتوفّر على تدقيق النّظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به. وهذا مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب النّاس ويعيّرهم به، وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة، وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح، فرحم الله من حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه، وكفّ عن عرض أخيه، وأعرض عمّا لا يعنيه، فمن حفظ هذه الوصيّة دامت سلامته وقلّت ندامته، فتسليم الأحوال لأهلها أسلم، والله أعلى وأعلم. ولله درّ القائل: أرى كلّ إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الّذي هو فيه فلا خير فيمن لا يرى عيب نفسه ... ويبصر عيبا كائنا بأخيه والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال المناوي في «شرحه» : ورواه القضاعي، وهو حديث حسن. انتهى. وذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أبي هريرة، وابن أبي الدّنيا في «المداراة» ؛ عن بكر بن عبد الله المزني قال: «إذا رأيتم الرّجل موكّلا بذنوب النّاس، ناسيا لذنبه، فاعلموا أنّه قد مكر به» . وروى الدّيلمي؛ عن أنس: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» . انتهى. 307- ( «يسّروا) - بفتح فتشديد-؛ أي: خذوا بما فيه التّيسير على النّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» . بذكر ما يؤلّفهم لقبول الموعظة في جميع الأيّام، لئلا يثقل عليهم فينفروا، وذلك لأن التّيسير في التعليم يورّث قبول الطاعة، ويرغّب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل. (ولا تعسّروا) ؛ لا تشدّدوا، أردفه بنفي التعسير مع أنّ الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحا بما لزم ضمنا للتأكيد. ذكره الكرماني. وأولى منه قول جمع (عقّبه به إيذانا بأن مراده نفي التّعسير رأسا، ولو اقتصر على «يسّروا» لصدق على كل من يسّر مرّة وعسّر كثيرا) ، كذا قرره أئمة هذا الشّأن، ومنهم النّووي وغيره. (وبشّروا) بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، وشمول عفوه ومغفرته؛ من التّبشير، وهو إدخال السّرور، والبشارة: الإخبار بخبر سار. وقوله «بشّروا» بعد قوله «يسّروا» فيه جناس خطيّ «1» ، ولم يكتف به، بل أردفه بقوله: (ولا تنفّروا» ) لما مرّ وهو من التّنفير؛ أي: لا تذكروا شيئا تنهزمون منه، ولا تصدّروا بما فيه الشّدّة. وقابل «2» به «بشّروا» مع أنّ ضد البشارة النّذارة!! لأن القصد من النفارة التّنفير، فصرّح بالمقصود منها. وهذا الحديث- كما قاله الكرماني وغيره- من جوامع الكلم لاشتماله على الدّنيا والآخرة، لأن الدّنيا دار العمل؛ والآخرة دار الجزاء، فأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدّنيا بالتسهيل، وفيما يتعلّق بالآخرة بالوعد الجميل والإخبار بالسّرور؛ تحقيقا لكونه رحمة للعالمين في الدّارين.   (1) وهو المسمّى «جناسا غير تامّ» لعدم اتحاد نوع الحروف. (2) من المقابلة أحد أنواع علم البديع؛ من علوم البلاغة، وهي ذكر المعنى وضدّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 308- «اليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» . وفيه الأمر بالتّيسير بسعة الرّحمة والنّهي عن التّنفير بذكر التّخويف؛ أي: من غير ضمّه إلى التّبشير، وتأليف من قرب عهده بالإسلام، وترك التّشديد عليه والأخذ بالرّفق، وتحسين الظّنّ بالله لكن لا يجعل وعظه كلّه رجاء، بل يشوبه بالخوف. انتهى مناوي على «الجامع» . والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنّسائي؛ كلهم عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال المناوي. ورواه البخاري وغيره؛ عن أبي موسى الأشعري، وذكر أنّه قال ذلك له ولمعاذ لمّا بعثهما إلى اليمن، وزاد- بعد ما ذكر هنا-: «وتطاوعا ولا تختلفا» . قال أبو البقاء: وإنّما قال «يسّروا» بالجمع مع أنّ المخاطب اثنان!! لأن الاثنين جمع في الحقيقة، إذ الجمع ضمّ إلى شيء إلى شيء. أو يقال: إن الاثنين أميران، والأمير إذا قال شيئا توقع قبول الأمر إلى الجمع، أو أراد أمرهما وأمر من يوليانه. انتهى. 308- ( «اليمين الفاجرة) - أي: الكاذبة- (تدع) - أي: تترك- (الدّيار بلاقع» ) بفتح الباء واللّام، وكسر القاف؛ جمع: بلقع؛ وهي الأرض القفراء الّتي لا شيء فيها. يريد أن الحالف كاذبا يفتقر، ويذهب ما في بيته من الرّزق. وقيل: هو أن يفرّق الله شمله، ويغيّر عليه ما أولاه من نعمه. والحديث ذكره في «المواهب» ، وقال: رواه الديلمي في «مسند الفردوس» من حديث أبي هريرة مرفوعا، وذكره في «الجامع» بلفظ: «ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرّحم، وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرّحم، واليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» ورمز له برمز البيهقي في «سننه» ؛ عن أبي هريرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 309- «اليوم.. الرّهان، وغدا.. السّباق، والغاية.. الجنّة، والهالك.. من دخل النّار» . رضي الله تعالى عنه، وإسناده حسن؛ كما في «العزيزي» . 309- ( «اليوم) - أي: الدّنيا- (الرّهان) - بكسر الرّاء- قال المجد: المخاطرة والمسابقة على الخيل. انتهى. استعير للمسابقة على الأعمال في الدنيا، كما قال تعالى سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [21/ الحديد] قال البيضاوي: سابقوا؛ سارعوا مسارعة المتسابقين في المضمار. (وغدا) - أي: يوم القيامة- (السّباق) - بالكسر- مصدر سابق مسابقة وسباقا بمعنى السّبق- بفتحتين-: ما يجعل من المال رهنا على المسابقة، استعير للأعمال التي يلقاها العاملون يوم القيامة. (والغاية) التي يقع عليها الرّهان (الجنّة) ، فيه حذف دلّ عليه المذكور؛ أي: والنّار. فالفائز من دخل الجنّة، (والهالك من دخل النّار» ) . والمعنى: الفائز من عمل الأعمال الصّالحة، وفعل المأمورات، واجتنب المنهيّات؛ فدخل الجنّة، فرفعت له فيها الدّرجات، والهالك من فعل المعاصي، فال إلى استحقاق دخول النّار. وحاصل معنى الحديث: أنّ الدّنيا بتمامها للنّاس كيوم يتسابق فيه المتسابقون على خيلهم إلى غاية معلومة لهم، وقد جعلوا مالا يأخذه السّابق غدا، فمن عمل الصّالحات فاز بذلك الجعل؛ الذي هو الجنّة، بمقتضى الوعد الصادق. ومن عمل السّيئات حرم الجعل واستحقّ النّار، بمقتضى الوعيد ما لم يعف عنه؛ إن كان مسلما. هذا ما ظهر لي، ولم أر أحدا شرحه. وبقيّة الحديث: «أنا الأوّل، وأبو بكر الثّاني، وعمر الثّالث، والنّاس بعد على السّبق الأوّل فالأوّل» . رواه الطّبرانيّ، وابن عديّ، والخطيب؛ عن ابن عبّاس بتمامه مرفوعا، وفيه أصرم بن حوشب: منكر الحديث. انتهى «زرقاني» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 310- «يا أيّها النّاس؛ ألا تستحيون؟! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون» . 311- «يا أيّها النّاس؛ أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا والنّاس نيام.. تدخلوا الجنّة بسلام» . 310- ( «يا أيّها النّاس) ، قال ابن مالك في «شرح الكافية» : إذا قلت «أيّها الرّجل» ف «أيّها» و «الرّجل» كاسم واحد، و «أيّ» مدعوّ، و «الرّجل» : نعت له ملازم، لأنّ «أيّ» مبهم لا يستعمل بغير صلة؛ إلّا في الجزاء والاستفهام. و «ها» حرف تنبيه، فإذا قلت «يا أيّها الرّجل» لم يصحّ في «الرّجل» إلّا الرّفع، لأنّه المنادى حقيقة، و «أيّ» يتوصّل به إليه، وإن قصد به مؤنّث زيدت التّاء، نحو يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) [الفجر] . انتهى «مناوي» . (ألا تستحيون) من الله تعالى!! (تجمعون ما لا تأكلون) أي: ما يزيد على كفايتكم، (وتبنون ما لا تسكنون» ) ؛ بل عن قريب منه راحلون!!. أو المراد ما يزيد على قدر حاجتكم. 311- ( «يا أيّها النّاس؛ أفشوا السّلام) - بقطع الهمزة-، أي: انشروه وأعلنوه بين من تعرفونه، ومن لا تعرفونه من المسلمين الّذين يندب عليهم السّلام. (وأطعموا الطّعام) للبرّ والفاجر، أي: تصدّقوا بما فضل عن حاجة من تلزمكم نفقته. فالمراد: بذل الطّعام والمال ونحوه؛ لا خصوص إطعام الطّعام. (وصلوا) بكسر الصّاد؛ أمر من الصّلة (الأرحام) أي: أحسنوا إلى أقاربكم بالقول والفعل. (وصلّوا) باللّيل (والنّاس نيام) ، جملة حاليّة، أي: تهجّدوا حال نوم غالب النّاس، والأولى من اللّيل السّدس الرّابع والخامس، فإذا فعلتم ما ذكر؛ (تدخلوا الجنّة بسلام» ) ، أي: مع سلامة من الآفات الآخرويّة. والمراد: أنّ فعل المذكورات من الأسباب الموصلة إلى الجنّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 312- «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال: «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، قال: «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، (ثلاثا) ، قال: «ما من عبد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صدقا من قلبه.. إلّا حرّمه الله على النّار» ... والحديث أخرجه التّرمذيّ؛ عن عبد الله بن سلام الإسرائيليّ الصّحابيّ الجليل رضي الله تعالى عنه؛ وقال: حديث صحيح. 312- ( «يا معاذ» ) أي: ابن جبل (قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك) ، اللّبّ بفتح اللّام-: معناه هنا الإجابة، والسّعد: المساعدة، كأنّه قال: لبّا لك وإسعادا لك، ولكنّهما ثنّيا على معنى التّأكيد والتّكثير، أي: إجابة بعد إجابة، وإسعادا بعد إسعاد. وقيل في أصل «لبّيك» واشتقاقها غير ذلك. انتهى «فتح الباري» . (قال: «يا معاذ» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال: «يا معاذ» قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثا) أي: النّداء والإجابة قيلا ثلاثا. (قال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «ما من عبد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صدقا من قلبه) - متعلّق ب «صدقا» ، أي: يشهد بلفظه، ويصدّق بقلبه- (إلّا حرّمه الله على النّار» ) . فإن قلت: إنّ ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشّهادتين النار، لما فيه من التّعميم والتّأكيد، وهو مصادم للأدلّة القطعيّة الدّالّة على دخول طائفة من عصاة الموحّدين النار، ثمّ يخرجون بالشّفاعة؟ أجيب: بأنّ هذا مقيّد 1- بمن قالها تائبا ثمّ مات على ذلك. أو أنّ المراد بالتّحريم هنا: تحريم الخلود؛ لا أصل الدخول. أو أنّه خرج مخرج الغالب؛ إذ الغالب أنّ الموحّد يعمل الطّاعة، ويجتنب المعصية، أو 2- من قال ذلك مؤدّيا حقّه وفرضه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 قال: يا رسول الله؛ أفلا أخبر بها النّاس فيستبشروا؟ قال: «إذا يتّكلوا» . فأخبر بها معاذ- عند موته- تأثّما. رواه الشّيخان: البخاريّ ومسلم. قوله: (تأثّما) أي: خوفا من الإثم في كتم هذا العلم. أو المراد: تحريم النّار على اللّسان النّاطق بالشّهادتين، كتحريم مواضع السّجود. (قال) - أي معاذ- (: يا رسول الله؛ أفلا) - بهمزة الاستفهام، وفاء العطف المحذوف معطوفها، والتّقدير: أقلت ذلك فلا- (أخبر بها النّاس فيستبشروا؟!) نصب بحذف النّون لوقوع الفاء بعد النّفي؛ أو الاستفهام، أو العرض، وهي تنصب في كلّ ذلك، والتّقدير: فأن يستبشروا. (قال) صلى الله عليه وسلم: ( «إذا) - أي: إن أخبرتهم- (يتّكلوا» ) . بتشديد المثنّاة الفوقيّة، وكسر الكاف، أي: يعتمدوا على الشّهادة المجرّدة، وهو جواب وجزاء ونصب. (فأخبر بها معاذ- عند موته-) - أي: موت معاذ (تأثّما) - بفتح المثنّاة الفوقية؛ وفتح الهمزة؛ وتشديد المثلّثة المضمومة؛ أي: تجنّبا عن الإثم- (رواه الشّيخان: البخاريّ) في «كتاب العلم؛ باب: من خصّ بالعلم قوما دون قوم» . (ومسلم) واللّفظ له في «كتاب الإيمان؛ باب: الدّليل على أنّ من مات على التّوحيد دخل الجنّة قطعا» ؛ كلاهما عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرّحل قال: «يا معاذ ... » فذكره. (قوله: «تأثّما» ) ؛ بالتّشديد. (أي: خوفا من) الوقوع في (الإثم في) أي: بسبب- (كتم هذا العلم) الّذي أمر الله بتبليغه، حيث قال وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [187/ آل عمران] ، وليس فيه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ نهيه مقيّد بالاتّكال، إذ كانوا حديثي عهد بالإسلام، فلما زال القيد، وصاروا حريصين على العبادة لم يبق نهي، أو أنّ النّهي لم يكن للتّحريم، بل للتّنزيه، وإلّا! لما كان يخبر به أصلا. قال في «الفتح» : وهذا أوجه، لكون معاذ أخّر ذلك إلى وقت موته. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 [الباب الثّامن في طبّه صلّى الله عليه وسلّم وسنّه، ووفاته، ورؤيته في المنام] الباب الثّامن في طبّه صلّى الله عليه وسلّم وسنّه، ووفاته، ورؤيته في المنام وفيه ثلاثة فصول (الباب الثّامن) من الكتاب وهو آخر الأبواب- (في) بيان الأحاديث الواردة في (طبّه) ؛ بكسر الطّاء: اسم مصدر، من طبّه طبا- بالفتح-: إذا داواه. والمراد: بيان ما يتداوى به (صلى الله عليه وسلم) من الأمراض البدنية. (و) في بيان الأحاديث الواردة في (سنّه) ؛ أي: مقدار عمره الشّريف، (ووفاته) ؛ أي: تمام أجله، (ورؤيته) . الرّؤية التي بالتّاء تشمل: رؤية البصر في اليقظة، ورؤية القلب، ولهذا احتاج المصنّف إلى تقييدها بقوله: (في المنام) أمّا الّتي بالألف! فهي خاصّة برؤية القلب في المنام. وقد تستعمل في رؤية البصر أيضا. ومذهب أهل السّنّة أنّ حقيقة الرّؤيا اعتقادات يخلقها الله في قلب النّائم، كما يخلقها في قلب اليقظان يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة. (وفيه) - أي: هذا الباب- (ثلاثة فصول) ، سيأتي بيانها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 [الفصل الأوّل في طبّه صلّى الله عليه وسلّم] الفصل الأوّل في طبّه صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. نفث على نفسه بالمعوّذات، ومسح عنه بيده. (الفصل الأوّل) من الباب الثّامن (في) ذكر شيء من الأحاديث الواردة في (طبّه صلى الله عليه وسلم) ، الّذي تطبّب به، والّذي وصفه لغيره. قال ابن القيّم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه. انتهى. وكان صلى الله عليه وسلم تارة يرقي بالطّبّ الرّوحانيّ، وتارة بالجسمانيّ؛ كالأجزاء، وتارة بهما. انتهى «حفني» . (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) ، أي: مرض (نفث) - بالمثلّثة-، أي: أخرج الرّيح من فمه مع شيء من ريقه (على نفسه بالمعوّذات) - بالواو المشدّدة- أي: المعوّذتين وسورة الإخلاص، ففيه تغليب. أو المراد: الكلمات المعوّذات بالله من الشّيطان والأمراض؛ أي: قرأها ونفث الرّيح على نفسه. (ومسح عنه بيده) ؛ أي: المحلّ الّذي تصل إليه يده؛ وإن زاد على محلّ الوجع. قال الطّيبيّ: الضّمير في عنه راجع إلى ذلك النّفث، والجارّ والمجرور حال، أي: نفث على بعض جسده، ثمّ مسح بيده متجاوزا عن ذلك النّفث إلى جميع أعضائه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 قوله: (المعوّذات) يعني: المعوّذتين، والإخلاص. وفائدة النّفث: التّبرّك بتلك الرّطوبة؛ أو الهواء الّذي ماسّه الذّكر، كما يتبرّك بغسالة ما يكتب من الذّكر، وفيه تفاؤل بزوال الألم وانفصاله؛ كانفصال ذلك الرّيق. وخصّ المعوّذات! لما فيها من الاستعاذة من كلّ مكروه؛ جملة وتفصيلا، ففي الإخلاص كمال التّوحيد الاعتقاديّ، وفي الاستعاذة من شرّ ما خلق ما يعمّ الأشباح والأرواح. انتهى «مناوي» . وبقيّة الحديث- كما في «البخاريّ» ؛ في آخر المغازي-: فلمّا اشتكى وجعه الّذي توفّي فيه؛ طفقت أنفث على نفسه بالمعوّذات الّتي كان ينفث، وأمسح بيد النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه» . وفي رواية في «الصّحيحين» : وأمسح بيده رجاء بركتها. والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز متّفق عليه- يعني رواه البخاريّ ومسلم- وبرمز أبي داود، وابن ماجه، زاد المناوي: والنّسائي؛ كلّهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها. فائدة: قال القاضي: شهدت المباحث الطّبيّة على أنّ الرّيق له دخل في النّفع وتبديل المزاج، ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصليّ؛ ودفع نكاية المغيّرات، ولهذا ذكروا في تدبير المسافر أنّه يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد غير الماء الّذي تعوّد شربه ووافق مزاجه؛ جعل شيئا منه في سقايته، ويشرب الماء من رأسه ليحفظ عن مضرّة الماء الغريب، ويأمن تغيّر مزاجه بسبب استنشاق الهواء المغاير للهواء المعتاد. ثمّ إن الرّقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. انتهى «مناوي» . و (قوله: المعوّذات) - بالواو المشدّدة المكسورة- (يعني: المعوّذتين) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) [الفلق] ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [الناس] ، (والإخلاص) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. رقاه جبريل؛ قال: باسم الله يبريك، من كلّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، وشرّ كلّ ذي عين. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص] ، فهو من باب التغليب. والله أعلم. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنّها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) - أي: مرض- (رقاه جبريل، قال: باسم الله) - أي: ببركة اسمه- (يبريك) ، أو أنّ لفظ «باسم» مقحم. أي: الله يبريك. من قبيل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) [الأعلى] ، ولفظ «اسم» : عبارة عن الكلمة الدّالّة على المسمّى، والمسمّى هو مدلولها، لكنّه قد يتوسّع فيوضع الاسم موضع المسمّى مسامحة. ذكره القرطبي. انتهى «مناوي» وغيره. (من كلّ داء) جارّ ومجرور متعلّق بقوله (يشفيك. ومن شرّ حاسد) أي: متمنّ زوال النّعمة، (إذا حسد) . وخصّه بعد التّعميم! لخفاء شرّه. (وشرّ كلّ ذي عين) ؛ من عطف الخاصّ على العامّ، لأن كلّ عائن حاسد، ولا عكس. فلمّا كان الحاسد أعمّ؛ كان تقديم الاستعاذة منه أهمّ. وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعيون؛ تصيبه تارة وتخطئه أخرى، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثّرت فيه ولا بدّ، وإن صادفته حذرا شاكي السّلاح؛ لا منفذ فيه للسّهام خابت، فهي بمنزلة الرّمي الحسّيّ، لكن هذا من النّفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح. ولهذا قال ابن القيّم: استعاذ من الحاسد! لأنّ روحه مؤذية للمحسود؛ مؤثّرة فيه أثرا بيّنا لا ينكره إلّا من هو خارج عن حقيقة الإنسانيّة. وهو أصل الإصابة بالعين؛ فإنّ النّفس الخبيثة الحاسدة تتكيّف بكيفيّة خبيثة، تقابل المحسود؛ فتؤثّر فيه بتلك الخاصّيّة. والتّأثير كما يكون بالاتّصال قد يكون بالمقابلة؛ وبالرّؤية، وبتوجّه الرّوح؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. اقتمح كفّا من شونيز، وشرب عليه ماء وعسلا. وبالأدعية؛ والرّقى؛ والتعوّذات، وبالوهم؛ والتّخييل؛ وغير ذلك. وفيه ندب الرّقية بأسماء الله، وبالعوذ الصّحيحة من كلّ مرض وقع أو يتوقّع، وأنّه لا ينافي التّوكّل ولا ينقصه. وإلّا! لكان المصطفى صلى الله عليه وسلم أحقّ النّاس بتحاشيه، فإنّ الله لم يزل يرقّي نبيّه في المقامات الشّريفة والدّرجات الرّفيعة إلى أن قبضه، وقد رقي في أمراضه حتّى مرض موته!! فقد رقته عائشة في مرض موته، ومسحته بيدها ويده وأقرّ ذلك. انتهى «مناوي» . والحديث أخرجه أيضا مسلم والتّرمذيّ وابن ماجه؛ عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد أشتكيت؟ قال: «نعم» . قال: «باسم الله أرقيك من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ نفس وعين حاسد، باسم الله أرقيك والله يشفيك» . (و) في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الخطيب؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه- قال المناوي: ورواه عنه أيضا باللّفظ المزبور الطّبرانيّ في «الأوسط» ، وفي العزيزي أنّه حديث حسن لغيره-: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى اقتمح) أي: استفّ. وفي رواية: «تقمّح» - بتقديم الميم فيها على الحاء المهملة- وأمّا ما في بعض النّسخ من أنه اقتحم أو تقحّم! فتحريف. (كفّا) - أي: ملء كفّ- (من شونيز) بضمّ الشّين المعجمة: هو الحبّة السّوداء. (وشرب عليه) - أي: على أثر استفافه- (ماء وعسلا) : أي: ممزوجا بعسل، لأنّ لذلك سرّا بديعا في حفظ الصّحة لا يهتدي إليه إلّا خاصّة الأطباء. ومنافع العسل لا تحصى، حتى قال «ابن القيّم» : ما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريبا منه، ولم يكن معوّل الأطبّاء إلّا عليه. وأكثر كتبهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 ومعنى (اقتمح) أي: استفّ. و (الشّونيز) : الحبّة السّوداء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب العسل بالماء على الرّيق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابه رمد، أو أحدا من أصحابه.. دعا بهؤلاء الكلمات: ... لا يذكرون فيها السّكّر البتّة. انتهى «مناوي» . (ومعنى اقتمح) - بالقاف فالمثنّاة الفوقيّة، فميم بعدها حاء مهملة- (أي: استفّ) أي: أخذ الدواء غير ملتوت. وكلّ دواء يؤخذ غير معجون؛ فهو سفوف، - بفتح السّين-. (و) معنى (الشّونيز) - بالشّين المعجمة المضمومة- هو (الحبّة السّوداء) المعروفة. وبعض النّاس يسمّيها قحطة. (و) في «زاد المعاد» : (كان) النّبيّ (صلى الله عليه وسلم يشرب العسل) ؛ أي: عسل النّحل، إذ هو المراد لغة وطبّا (بالماء) أي: الممزوج بالماء البارد (على الرّيق) . قال ابن القيّم: وفي هذا من حفظ الصّحّة ما لا يهتدي إلى معرفته إلّا أفاضل الأطبّاء، فإنّ شربه ولعقه على الرّيق يذيب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها «1» . والماء البارد رطب يقمع الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباته الأصليّة، ويردّ عليه بدل ما تحلّل منها، ويرقّق الغذاء، وينفذه في العروق. أي: فجمعه مع العسل غاية في التّعديل، وإنّما يضرّ بالعرض لصاحب الصّفراء!! لحدّته وحدّة الصّفراء. فربّما هيّجها فدفع ضرره لصاحبها بالخلّ. انتهى. مع زيادة من الزّرقاني. (و) أخرج ابن السّنيّ في «الطّبّ النّبويّ» ، والحاكم في «الطّبّ» بسند فيه ضعفاء- كما قال الذّهبيّ-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أصابه رمد) - بفتح الرّاء والميم: وجع عين- (أو) أصاب (أحدا من أصحابه؛ دعا بهؤلاء الكلمات) ؛ أي: لنفسه؛ أو لغيره. لكن يأتي   (1) بضمّ السين المهملة- جمع سدّة، كغرفة وغرف؛ وهي الحاجز بين الشيئين. (هامش الأصل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 «اللهمّ؛ متّعني ببصري، واجعله الوارث منّي، وأرني في العدوّ ثأري، وانصرني على من ظلمني» . قال في «لسان العرب» : (وفي الحديث في دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «اللهمّ؛ أمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي» . قال ابن شميل: ... بعبارة غير هذا تناسب بأن يقول: «اللهمّ متّعه.. الخ» . ويحتمل أنّ المراد: وأمر من أصابه الرّمد أن يدعو بها؛ وهي: ( «اللهمّ؛ متّعني ببصري، واجعله الوارث منّي) كناية عن بقائه إلى الموت. وإلّا! فالوارث يبقى بعد الموت، والبصر لا يبقى بعد الموت. (وأرني في العدوّ ثأري) ؛ أي: مثل ما فعل بي وأعظم منه؛ لينقمع عنّي. (وانصرني على من ظلمني» ) أي: مع بقاء بصري. وهذا من طبّه الرّوحانيّ، فإنّ علاجه صلى الله عليه وسلم للأمراض كان ثلاثة أنواع: بالأدوية الطّبّيّة، وبالأدوية الإلهيّة، وبالمركّب منهما، فكان يأمر بما يليق به ويناسبه. انتهى شروح «الجامع الصغير» . (قال) - أي: ابن منظور- (في) كتابه: ( «لسان العرب» ) في مادة «ورث» : (وفي الحديث) الّذي في «جامع التّرمذيّ» وغيره؛ (في دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «اللهمّ؛ متّعني) - هكذا هو في رواية، وفي سائر الرّوايات: أمتعني- (بسمعي وبصري، واجعلهما) - بالتّثنية- (الوارث منّي» . قال) الإمام أبو الحسن النّضر (ابن شميل) - بضمّ الشّين المعجمة مصغّرا- ابن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عميرة بن عروة المازنيّ البصريّ، الإمام في العربيّة واللّغة، وهو من تابعي التّابعين. سكن «مرو» ، اتّفقوا على توثيقه؛ وفضيلته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 أي أبقهما معي صحيحين سليمين حتّى أموت. وقيل: أراد بقاءهما وقوّتهما عند الكبر وانحلال القوى النّفسانيّة، فيكون السّمع والبصر وارثي سائر القوى، والباقيين بعدها. ثمّ قال: وفي رواية: «واجعله الوارث منّي» ، فردّ الهاء إلى الإمتاع، فلذلك وحّده) اهـ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حمّ.. دعا بقربة من ماء، فأفرغها على قرنه، ... روى له البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، وهو أوّل من أظهر السّنّة بمرو وخراسان، وهو من فصحاء النّاس؛ وعلمائهم بالأدب؛ وأيّام النّاس. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائة، وتوفي سنة أربع ومائتين. وقيل: ثلاث ومائتين- رحمه الله تعالى-. (أي: أبقهما معي صحيحين سليمين حتّى أموت) ؛ أي: فالمراد دوامهما مدّة الحياة. (وقيل: أراد بقاءهما وقوّتهما عند الكبر) - التّقدم في السنّ- (وانحلال القوى النّفسانيّة) - أي: ضعفها- (فيكون السّمع والبصر وارثي سائر القوى، والباقيين بعدها) . وقال غيره: أراد بالسّمع وعي ما يسمع والعمل به، وبالبصر الاعتبار بما يرى؛ ونور القلب الّذي يخرج به من الحيرة والظّلمة إلى الهدى. (ثمّ قال) في «اللّسان» : (وفي رواية: «واجعله) - بإفراد الضّمير- (الوارث منّي» فردّ الهاء) في «اجعله» (إلى الإمتاع) ، المفهوم من أمتع (فلذلك وحّده) - بتشديد الحاء المهملة- فعلى رواية الإفراد معناه: أبقه معي حتى أموت. والله أعلم (انتهى) أي: كلام «لسان العرب» . (و) أخرج الطّبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم في «الطّبّ» ، والبزّار- بسند فيه راو ضعيف- كلّهم؛ عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله) صلى الله عليه وسلم (إذا حمّ) - أي أخذته الحمّى: التي هي حرارة بين الجلد واللّحم- (دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه) - بفتح القاف، أي: رأسه- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 فاغتسل. و (القرن) : الرّأس. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يصيبه قرحة ولا شوكة.. إلّا وضع عليها الحنّاء. وفي «الصّحيحين» : عن أبي حازم: ... (فاغتسل) بها (والقرن) المذكور في الحديث؛ المراد به: (الرّأس) . قال الحفني- تبعا للمناوي-: ومحلّ طلب ذلك إذا كان بقطر حارّ وفي زمن حارّ، ولم تحدث فيه الحمّى ورما، وإلّا! ضرّه الماء. انتهى. (و) أخرج التّرمذيّ وابن ماجه في «سننه» - وهذا لفظه-: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة؛ قال: حدّثنا زيد بن الحباب؛ قال: حدّثنا فايد- مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع-؛ قال: حدّثني مولاي عبيد الله؛ قال: حدّثتني جدّتي سلمى أمّ رافع؛ مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يصيبه قرحة) - بفتح القاف، أو ضمّها-: خراج في البدن، (ولا شوكة) : هي حمرة تعلو الوجه، بلفظ واحدة الشّوك (إلّا وضع عليها الحنّاء) ، لأنّها قابضة يابسة تبرد، فهي في غاية المناسبة للقروح والجروح، وهذا من الطّبّ النّبويّ. (وفي «الصّحيحين» ) : البخاريّ في: «الطّهارة والجهاد والمغازي والطّبّ» ، ومسلم في «المغازي» ، والتّرمذيّ في «الطّبّ» ، وابن ماجه في «الطّبّ» كلّهم؛ (عن أبي حازم) سلمة بن دينار المدنيّ الأعرج، التّابعيّ الزّاهد الفقيه، المشهور بالمحاسن، مخزوميّ «مولى الأسود بن سفيان المخزوميّ» ، وقيل: مولى لبني ليث. سمع سهل بن سعد الساعدي، وأكثر الرّواية عنه في «الصّحيحين» وغيرهما، وسمع خلقا من التّابعين؛ منهم سعيد بن المسيّب؛ وعطاء بن أبي رباح؛ وعطاء بن يسار؛ وأبو سلمة بن عبد الرّحمن؛ وأمّ الدّرداء الصّغرى.   (1) هي زوج أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 أنّه سمع سهل بن سعد يسأل عمّا دووي به جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد؟ ... وروى عنه خلائق لا يحصون؛ منهم ابناه: عبد العزيز؛ وعبد الجبار. والزّهريّ- وهو أكبر من أبي حازم-، ومنهم مالك بن أنس، وابن إسحاق، وسفيان الثّوري؛ وابنا عيينة: سفيان ومحمّد. وأجمعوا على توثيقه وجلالته، وروى له البخاريّ ومسلم. قيل لابن أبي حازم: سمع أبوك أبا هريرة؟! قال: من حدّثك أن أبي سمع أحدا من الصّحابة غير سهل بن سعد؛ فقد كذب. وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة رحمه الله تعالى. واعلم أنّ في هذه المرتبة اثنين يكنّيان أبا حازم؛ أحدهما هذا المشهور بالرّواية عن سهل، والثاني: أبو حازم سلمان- مولى عزّة الأشجعيّة- المشهور بالرّواية عن أبي هريرة رضي الله عنه. قاله النّوويّ في «التّهذيب» . (إنّه) - أي: أبا حازم- (سمع) أبا العبّاس- أو أبا يحيى- (سهل بن سعد) بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ السّاعديّ المدنيّ. كان اسمه حزنا فسمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سهلا. شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين. قال الزّهري: سمع من النّبي صلى الله عليه وسلم، وكان له يوم وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، وتوفّي بالمدينة المنوّرة سنة: ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثمانية وثمانون حديثا؛ اتّفقا منها على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاريّ بأحد عشر. روى عنه الزّهريّ وأبو حازم وغيرهما رضي الله تعالى عنه. (يسأل) - بضمّ أوّله مبنيّا للمفعول- (عمّا دووي) بضمّ الدّال المهملة وسكون الواو الأولى، وكسر الثّانية، بعدها تحتيّة، مبنيا للمفعول؛ قاله القسطلّاني. (به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم) الّذي جرحه (يوم أحد؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 فقال: جرح وجهه، وكسرت رباعيته، وهشّمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة بنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تغسل الدّم، وكان عليّ ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يسكب عليها بالمجنّ، فلّما رأت فاطمة الدّم لا يزيد إلّا كثرة.. أخذت قطعة [من] حصير فأحرقتها، حتّى إذا صارت رمادا ألصقتها بالجرح، فاستمسك الدّم. فقال) - أي سهل- (: جرح وجهه) الشّريف، جرحه عبد الله بن قمئة- أقمأه الله- وقد سلّط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطّعه قطعه قطعة؛ استجابة لدعوة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه الطّبرانيّ. ولمّا جرح النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخذ شيئا فجعل ينشّف به الدّم؛ وقال: «لو وقع منه شيء على الأرض؛ لنزل عليهم العذاب من السّماء» (وكسرت رباعيته) - بفتح الراء وتخفيف الموحّدة-: السّنّ الّذي بين الثّنيّتين والنّاب. والمكسورة هي اليمنى السّفلى، كسرها عتبة بن أبي وقّاص أخو سعد. ومن ثمّ لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم!! أي: مكسور الثّنايا، يعرف ذلك في عقبه، وهذا من شؤم الآباء على الأبناء، ولكنّ حاطب بن أبي بلتعة ضرب عتبة بالسّيف؛ فطرح رأسه- كما في «مستدرك الحاكم» -. (وهشّمت) - أي كسرت- (البيضة) - بفتح الموحدة؛ والضّاد المعجمة؛ بينهما تحتيّة ساكنة: الخوذة، وهي: قلنسوة من حديد- (على رأسه) يوم أحد (وكانت فاطمة) الزّهراء (بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تغسل الدّم) عن وجهه الشّريف؛ ليجمد ببرد الماء. (وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يسكب عليها) الماء (بالمجنّ) - بكسر الميم؛ وفتح الجيم؛ وتشديد النون: بالتّرس- على الجرح (فلمّا رأت فاطمة) رضي الله عنها (الدّم لا يزيد إلّا كثرة؛ أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، حتّى إذا صارت رمادا؛ ألصقتها بالجرح؛ فاستمسك الدّم) - أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتجم على هامته، وبين كتفيه، ويقول: «من أهراق من هذه الدّماء.. فلا يضرّه أن لا يتداوى بشيء لشيء» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم في رأسه، ويسمّيها: أمّ مغيث. انقطع- لأن الرّماد من شأنه القبض؛ لما فيه من التّجفيف. وفيه امتحان الأنبياء لتعظيم أجرهم ويتأسّى بهم من نالته شدّة فلا يجد في نفسه غضاضة. انتهى «قسطلّاني» . (و) أخرج أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن؛ عن أبي كبشة الأنماريّ عمر بن سعد- أو سعد بن عمر- رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم على هامته) - أي: رأسه- (وبين كتفيه، ويقول: «من أهراق) - بالتّحريك؛ أي: أراق- (من هذه الدّماء) - أي: بإخبار من يعرف بأنّ إراقة الدّم نافعة لذلك الشّخص- (فلا يضرّه ألايتداوى بشيء) من الأدوية (لشيء» ) من الأمراض، يعني أنّ الحجامة تغني عن كثير من الأدوية. (و) أخرج الخطيب؛ في ترجمة محمود الواسطي- بسند فيه راو مضعّف- عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) النّبيّ (صلى الله عليه وسلم يحتجم في رأسه) - وفي رواية عند الطبراني: في مقدّم رأسه- (ويسمّيها) - أي: الحجامة- (أمّ مغيث) بصيغة اسم الفاعل، وفي رواية: ويسمّيها المغيثة، وفي أخرى: المنقذة، وفي أخرى: النّافعة. قال ابن جرير: وكان يأمر من شكا إليه وجعا في رأسه بالحجامة وسط رأسه، ثمّ أخرج بسنده؛ عن ابن أبي رافع؛ عن جدّته سلمى قالت: ما سمعت أحدا قطّ يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع رأسه إلا قال: «احتجم» . انتهى مناوي على «الجامع» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وكان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. (و) أخرج التّرمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، والطّبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال التّرمذيّ: حسن غريب. وقال الحاكم: على شرطهما، وأقرّه الذّهبي في موضع، لكنّه قال في آخر: لا صحّة له. وفي العزيزي أنّه حديث حسن. (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين) ؛ عرقين في محل الحجامة من العنق، (والكاهل) - بكسر الهاء-؛ وهو مقدّم أعلى الظّهر مما يلي العنق، وهو الثّلث الأعلى، وفيه ستّ فقرات، وقيل: ما بين الكتفين. (وكان يحتجم لسبع عشرة) تمضي من الشّهر، لأنّ القمر حينئذ في النّقصان، بخلاف الحجامة لثلاث عشرة مثلا، فإنّ الحجامة والقمر في الزّيادة مذمومة؛ قاله الحفني. (و) يحتجم ل (تسع عشرة) من الشّهر، (وإحدى وعشرين) منه، وعلى ذلك درج أصحابه، فكانوا يستحبّون الحجامة لوتر من الشهر، لأفضليّة الوتر عندهم، ومحبّتهم له لحبّ الله له. ثم إنّ ما ذكر من احتجامه في الأخدعين والكاهل لا ينافيه ما قبله من احتجامه في رأسه وهامته، لأنّ القصد بالاحتجام طلب النّفع، ودفع الضّر. وأماكن الحاجة من البدن مختلفة باختلاف العلل؛ كما بيّنه ابن جرير. انتهى «مناوي» وغيره. وأفضل أوقات الحجامة: يوم الاثنين إذا وافق سبع عشرة؛ أو تسع عشرة؛ أو إحدى وعشرين، كما دلّت عليه الأحاديث، ومنها ما رواه أبو داود؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «من احتجم لسبع عشرة؛ أو تسع عشرة؛ وإحدى وعشرين، كان شفاء من كلّ داء» . انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 و (الأخدعان) : عرقان في جانبي العنق. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكتحل كلّ ليلة، ويحتجم كلّ شهر، ويشرب الدّواء كلّ سنة. وفي «الصّحيحين» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم احتجم وأعطى الحجّام أجره. (والأخدعان) بخاء معجمة؛ ودال وعين مهملتين. قال في «النّهاية» : هما (عرقان في جانبي العنق) . وفي «القاموس» : الأخدع: عرق في المحجمتين، وهو شعبة من الوريد، وهما أخدعان؛ كما في «الصّحاح» . وهما عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق. قال الجوهري وربّما وقعت الشّرطة على أحدهما، فينزف صاحبه. أي: لأنّه شعبة من الوريد. انتهى بزيادة من الشرح. (و) أخرج ابن عدي- بسند قال فيه: إنّه منكر، وقال الحافظ العراقي: فيه سيف بن محمّد! كذّبه أحمد وابن معين-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يكتحل كلّ ليلة) بالإثمد، ويقول: «إنّه يجلو البصر، وينبت الشّعر» . وخصّ اللّيل! لأنّ الكحل عند النّوم يلتقي عليه الجفنان، ويسكّن حرارة العين، وليتمكّن الكحل من السّراية في تجاويف العين وطبقاتها، ويظهر تأثيره المقصود من الانتفاع. (ويحتجم كلّ شهر) مرّة (ويشرب الدّواء كلّ سنة) مرّة، فإن عرض له ما يوجب شربه أثناء السّنة شربه أيضا، فشربه كلّ سنة مرّة كان لغير علّة، بخلاف ما يعرض في أثنائها، ولم أقف على تعيين الشّهر الّذي كان يشربه فيه في حديث ولا أثر؛ قاله المناوي. (وفي «الصّحيحين» : البخاريّ في «البيوع والإجارة والطّب» ومسلم في «البيوع» . وكذا رواه أبو داود في «البيوع» ، والتّرمذيّ في «الشّمائل» كلّهم؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجّام أجره) ولو كان حراما لم يعطه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وفي «الصّحيحين» أيضا: عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجمه أبو طيبة؛ فأمر له بصاعين من طعام، وكلّم مواليه، ... قال النّوويّ في «شرح مسلم» : اختلف العلماء في كسب الحجّام؟. فقال الأكثرون من السّلف والخلف: لا يحرم كسب الحجّام، ولا يحرم أكله؛ لا على الحرّ ولا على العبد. وهو المشهور من مذهب أحمد. وقال في رواية عنه قال بها فقهاء المحدّثين-: يحرم على الحرّ دون العبد! وحجّتهم أحاديث النّهي عن كسب الحجّام، وكونه خبيثا، ومن شرّ الكسب- كما جاء ذلك في «صحيح مسلم» وغيره-. واحتجّ الجمهور بحديث ابن عبّاس المذكور، وحملوا أحاديث النّهي على التنزيه، والارتفاع عن دنيء الكسب؛ والحثّ على مكارم الأخلاق؛ ومعالي الأمور. ولو كان حراما لم يفرّق بين الحرّ والعبد. فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبده ما لا يحلّ. انتهى بتصرف قليل. (وفي «الصّحيحين» أيضا) : البخاري في «البيوع والإجارة والطّبّ» ومسلم في «البيوع» ، وكذا رواه أبو داود والتّرمذيّ في «الشّمائل» و «الجامع» في «البيوع» كلّهم؛ (عن أنس) - أي: ابن مالك- (رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة) - بفتح الطّاء المهملة، وسكون التحتية، وبعد الموحّدة تاء- اسمه: نافع على الصّحيح، وحكاية ابن عبد البرّ أنّه دينار!! وهّموه فيها، بأنّ دينارا الحجّام تابعيّ، روى عن أبي طيبة، وحديثه عند ابن منده، لا أنّه أبو طيبة نفسه. وعند البغويّ بإسناد ضعيف. أنّ اسمه ميسرة. وقال العسكريّ: الصّحيح أنّه لا يعرف اسمه. انتهى «قسطلّاني» . (فأمر له بصاعين من طعام) - أي: تمر، وفي رواية: بصاع؛ أو مدّ؛ أو مدّين-. (وكلّم) صلى الله عليه وسلم (مواليه) - هم بنو حارثة على الصّحيح، ومولاه منهم: محيّصة بن مسعود. وإنّما جمع الموالي مجازا، كما يقال: بنو فلان قتلوا رجلا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 فخفّفوا عنه من ضريبته، وقال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة» . وروى ابن ماجه في «سننه» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صدّع ... ويكون الفاعل منهم واحدا. وحديث جابر أنّه مولى بني بياضة وهم! فإنّ مولى بني بياضة آخر؛ يقال له: أبو هند- أن يخفّفوا عنه من خراجه. (فخفّفوا عنه من ضريبته) التي كانت عليه لمواليه، وهي الخراج المضروب عليه. وكان خراجه ثلاثة آصع من تمر، فوضعوا عنه صاعا، بشفاعته صلى الله عليه وسلم؛ كما في «الشّمائل» . قال النّوويّ في «شرح مسلم» وحقيقة المخارجة: أن يقول السّيد لعبده: تكتسب وتعطيني من الكسب كلّ يوم درهما مثلا، والباقي لك، أو في كلّ أسبوع كذا وكذا. ويشترط رضاهما. (وقال) صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل الحجاز، ومن بلادهم حارّة، أو عامّا: ( «خير ما تداويتم به) من هيجان الدّم (الحجامة» ) لأنّ دماء أهل الحجاز؛ ومن في معناهم رقيقة تميل إلى ظاهر أجسادهم، لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح البدن، فالحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، وقد تغني عن كثير من الأدوية. قال في «زاد المعاد» : الحجامة في الأزمان الحارّة؛ والأمكنة الحارّة؛ والأبدان الحارّة التي دم أصحابها في غاية النّضج أنفع، والفصد بالعكس. ولذا كانت الحجامة أنفع للصّبيان؛ ولمن لا يقوى على الفصد. انتهى «قسطلّاني» . (وروى ابن ماجه في «سننه» ؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صدّع) - بتشديد الدّال- مبنيّ للمفعول. قال المجد: صدّع بالضمّ تصديعا، ويجوز في الشّعر صدع ك: عني، فهو مصدوع، فقصر التخفيف على الشّعر. انتهى «زرقاني» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 غلّف رأسه بالحنّاء، ويقول: «إنّه نافع بإذن الله تعالى من الصّداع» . وذكر أبو داود في «سننه» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم استعط. (غلّف) - بفتح الغين المعجمة، واللّام مخفّفة ومثقّلة؛ أي: ضمّخ- (رأسه بالحنّاء) - بالكسر والمد- (ويقول: «إنّه نافع بإذن الله تعالى من الصّداع» ) قال في «المواهب» : وفي صحّته نظر، وهو علاج خاصّ بما إذا كان الصّداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن عن مادّة يجب استفراغها!! وإذا كان كذلك- أي: حارا- لم ينشأ عن مادّة نفع فيه الحنّاء نفعا ظاهرا. قالوا: وإذا دقّ وضمّدت به الجبهة مع الخل سكّن الصّداع!. وهذا لا يختصّ بوجع الرّأس، بل يعمّ جميع الأعضاء. أي: وجعها كلها. أمّا إذا كان ناشئا عن مادّة؟ فلا ينجع فيه إلّا استفراغ هذه المادّة، وإذا كان من برد، لم ينفع فيه الحنّاء، بل يزيده لبردها. انتهى مع زيادة من الزرقاني. (وذكر أبو داود في «سننه» ) في «كتاب الطّبّ» ، وكذا في «الصحيحين» في «الطّبّ» كلّهم؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعط) ، أي: استعمل السّعوط- بفتح السّين المهملة- بأن استلقى على ظهره، وجعل بين كتفيه ما يرفعهما؛ لينحدر رأسه الشّريف، وقطّر في أنفه ما تداوى به ليصل إلى دماغه؛ ليخرج ما فيه من الدّاء بالعطاس. قاله القسطلّاني. ولفظ «الصحيحين» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه احتجم وأعطى الحجّام أجره، واستعط. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 [ استطراد: ] استطراد: قد خطر لي أن أذكر هنا جملة أحاديث من طبّه صلّى الله عليه وسلّم الّذي وصفه لغيره؛ لتتمّ بذلك الفائدة. وجلّها من «الهدي النّبويّ» للعلّامة ابن القيّم: روى مسلم في «صحيحه» : ... (استطراد) هو- لغة-: مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب؛ بأن يفرّ من بين يديه يوهمه الانهزام، ثمّ يعطف عليه على غرّة منه؛ مكيدة له. واصطلاحا: الانتقال من معنى إلى معنى آخر متّصل به، ولم يقصد بذكر الأوّل التّوصّل إلى الثاني. قاله الشّهاب الخفاجي رحمه الله تعالى. وقال الباجوري: الاستطراد: ذكر الشّيء في غير محلّه لمناسبة، أي كما هنا، فإنّ المقام لذكر طبّ النّبي صلى الله عليه وسلم الّذي استعمله بنفسه، لكن المصنّف ذكر طبّ غيره، وذكر ما جاء في مطلق التّداوي لمناسبة ذكر الطّبّ، ولكون ذلك من طبّه صلى الله عليه وسلم أيضا. (قد خطر لي) قال في «المصباح» : الخاطر ما يخطر في القلب من تدبير أمر، يقال: خطر ببالي، وعلى بالي؛ خطرا وخطورا. انتهى. وفي «شرح القاموس» : ومن المجاز: خطر فلان بباله وعليه يخطر بالكسر- ويخطر- بالضّمّ- خطورا؛ إذا ذكره بعد نسيان. انتهى. (أن أذكر هنا) - في هذا الفصل- (جملة أحاديث من طبّه صلى الله عليه وسلم الّذي وصفه لغيره) من أصحابه (لتتمّ بذلك الفائدة) للمطالع. (وجلّها) ؛ أي: معظم هذه الأحاديث مأخوذ (من الهدي النّبويّ) المسمّى «زاد المعاد في هدي خير العباد» (للعلّامة) الحافظ محمد بن أبي بكر (ابن القيّم) الحنبلّي رحمه الله تعالى. آمين. وتقدمت ترجمته في أوّل الكتاب. (روى مسلم في «صحيحه» ) ؛ في «كتاب الطّبّ» ، وكذا الإمام أحمد ابن حنبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لكلّ داء.. دواء، فإذا أصيب دواء الدّاء.. برأ بإذن الله عزّ وجلّ» . وفي «الصّحيحين» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنزل الله من داء.. إلّا أنزل له شفاء» . كلاهما؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري، الصّحابي ابن الصّحابيّ (رضي الله تعالى عنهما؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لكلّ داء) - بفتح الدّال ممدود، وقد يقصر- (دواء) - بفتح الدّال أي: شيء مخلوق مقدّر له- (فإذا أصيب دواء الدّاء) - بالبناء للمفعول-. والأصل: فإذا أصاب المريض دواء الدّاء المناسب له؛ سواء أصابه بتجربة، أو إخبار عارف، واستعمله على القدر الّذي ينبغي؛ في الوقت الّذي ينبغي- (برأ بإذن الله عزّ وجلّ» ) لأنّ الشّيء يداوى بضدّه غالبا، لكن قد يدقّ حقيقة المرض، وحقيقة طبع الدّواء، فيقلّ الفقه بالمتضادّين، ومن ثمّ أخطأ الأطبّاء، فمن كان مانعا- بخطأ أو غيره- تخلّف البرء، فإن تمت المضادّة حصل البرء لا محالة، فصحّت الكلية واندفع التّدافع. انتهى «زرقاني» . وقال القسطلّاني في «المواهب» معلّقا على هذا الحديث؛ ما نصّه: فالشّفاء متوقّف على إصابة الدّاء الدواء بإذن الله تعالى، وكذلك أنّ الدّواء قد يحصل معه مجاوزة الحدّ في الكيفيّة، أو الكمّيّة، فلا ينجع، بل ربّما أحدث داء آخر. وفي رواية عليّ- عند الحميدي في كتابه المسمّى ب «طبّ أهل البيت» -: «ما من داء إلّا وله دواء» ، فإذا كان كذلك بعث الله عزّ وجلّ ملكا؛ ومعه ستر فيجعله بين الدّاء والدّواء، فكلّما شرب المريض من الدّواء لم يقع على الدّاء، فإذا أراد الله برأه أمر الملك فرفع السّتر، ثمّ يشرب المريض الدّواء فينفعه الله تعالى به. انتهى. (وفي «الصّحيحين» ) من حديث عطاء بن أبي رباح؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء) - أي: مرضا- (إلّا أنزل له شفاء» ) - أي: دواء- وجمعه: أشفية، وجمع الجمع: آشاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 ولي «مسند الإمام أحمد» : عن أسامة بن شريك ... وشفاه يشفيه: أبرأه وطلب له الشّفاء كأشفاه؛ قاله القسطلّاني: وهو صريح في أنّ الشّفاء اسم للدّواء. وقال بعضهم: أي أنزل له دواء يكون سببا للشّفاء، فإذا استعمله المريض، وصادف المرض حصل له الشّفاء؛ سواء كان الدّاء قلبيّا أو بدنيّا. انتهى. قال الكرماني: أي ما أصاب الله أحدا بداء إلّا قدّر له دواء. أو المراد بإنزالهما الملائكة الموكّلين بمباشرة مخلوقات الأرض من الدّواء والدّاء. انتهى. قال القسطلّاني: فعلى الأوّل المراد بالإنزال التّقدير، وعلى الثّاني المراد إنزال علم ذلك على لسان الملك للنّبيّ مثلا، أو إلهام لغيره. انتهى. وقيام عامّة الأدوية والأدواء بواسطة إنزال الغيث الّذي تتولّد به الأغذية والأدوية وغيرهما، وهذا من تمام لطف الرّبّ بخلقه، كما ابتلاهم بالأدواء أعانهم عليها بالأدوية، وكما ابتلاهم بالذّنوب أعانهم عليها بالتّوبة؛ والحسنات الماحية. انتهى «زرقاني» . قال في «المواهب» : وهذا الحديث أخرجه- أيضا- النّسائي وصحّحه ابن حبّان والحاكم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: «إنّ الله لم ينزل داء إلّا أنزل له شفاء!! فتداووا» . وعند أحمد من حديث أنس مرفوعا: «إنّ الله حيث خلق الدّاء خلق الدّواء، فتداووا» . انتهى. (وفي «مسند الإمام أحمد» ) ابن حنبل، وأخرجه أصحاب «السّنن الأربعة» ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، وصحّحه التّرمذيّ وابن خزيمة والحاكم؛ (عن أسامة بن شريك) الثّعلبي- بمثلّثة ومهملة- الذبيانيّ، صحابيّ له ثمانية أحاديث، روى عنه زياد بن علاقة؛ وعلي بن الأقمر. انتهى «خلاصة» . وقال «الزرقاني» : تفرّد بالرّواية عنه زياد بن علاقة- على الصّحيح-. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم؛ يا عباد الله، تداووا، فإنّ الله عزّ وجلّ لم يضع داء.. إلّا وضع له شفاء، غير داء واحد» ، قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» . وفي لفظ: ... (رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب) : سكّان البادية (فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم، يا عباد الله، تداووا) وصفهم بالعبودية إيذانا بأنّ التّداوي لا يخرجهم عن التّوكل الّذي هو من شرطها، أي: تداووا؛ ولا تعتمدوا في الشّفاء على التّداوي؛ بل كونوا عباد الله؛ متوكّلين عليه- (فإنّ الله عزّ وجلّ لم يضع داء إلّا وضع له شفاء) وهو سبحانه لو شاء لم يخلق داء، وإذ خلقه لو شاء لم يخلق له دواء، وإذ خلقه لو شاء لم يأذن في استعماله! لكنّه أذن، فمن تداوى فعليه أن يعتقد حقّا، ويوقن يقينا، بأنّ الدّواء لا يحدث شفاء، ولا يولده، كما أنّ الدّاء لا يحدث سقما ولا يولّده، لكن الباري سبحانه يخلق الموجودات واحدا عقب آخر على ترتيب هو أعلم بحكمته (غير داء واحد!!» ) قال أبو البقاء: لا يجوز في غير هنا إلا النّصب على الاستثناء من داء؛ قاله الزّرقاني على «المواهب» . (قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» ) - بفتحتين، أي: الكبر-. (وفي لفظ) «إلّا السّام» ، وهو- بمهملة مخفّفا- الموت. يعني: إلّا داء الموت. أي: المرض الذي قدّر على صاحبه الموت فيه. واستثناء الهرم في الرّواية الأولى!! إمّا لأنّه جعله شبيها بداء الموت، وداء الموت لا دواء له؛ فكذا الهرم، لمشابهته له في نقص الصّحة، أو لقربه من الموت؛ وإفضائه إليه. لأن الموت يعقبه كما يعقب الدّاء. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا. والمعنى: لكنّ الهرم لا دواء له؛ فلا ينجع فيه التّداوي. انتهى «زرقاني» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 «إنّ الله تعالى لم ينزل داء.. إلّا أنزل له شفاء؛ علمه من علمه، وجهله من جهله» . وفي «المسند» و «السّنن» : عن أبي خزامة قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت رقى نسترقيها، ودواء ... وأخرج النّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان و «الحاكم» وصحّحاه؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رفعه: ( «إنّ الله تعالى لم ينزل داء إلّا أنزل له شفاء) - قال بعضهم: الدّاء علّة تحصل بغلبة بعض الأخلاط، والشّفاء رجوعها إلى الاعتدال. وذلك بالتّداوي، وقد يحصل بمحض لطف الله بلا سبب- (علمه من علمه) بإلهام الله تعالى له واطّلاعه عليه (وجهله من جهله» ) بإخفاء الله تعالى عنه إياه. فإذا شاء الله الشفاء يسّر ذلك الدّواء، ونبّه مستعمله بواسطة؛ أو دونها، فيستعمله على وجهه وفي وقته؛ فيبرأ. وإذا أراد إهلاكه أذهله عن دوائه، وحجبه بمانع فهلك، وكلّ ذلك بمشيئته وحكمه، كما سبق في علمه. ولقد أحسن القائل: والنّاس يلحون الطّبيب وإنّما ... غلط الطّبيب إصابة المقدور وفي الحديث إشارة إلى أنّ بعض الأدوية لا يعلمها كلّ أحد، لقوله: «جهله من جهله» . انتهى زرقاني مع «المواهب» . (و) أخرج الإمام أحمد (في «المسند» و) التّرمذيّ وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في ( «السّنن» ) كلّهم؛ (عن أبي خزامة) عن أبيه رضي الله تعالى عنه (قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت) - أي: أخبرني عن هذه الأشياء- (رقى) بضم الرّاء، وفتح القاف: جمع رقية اسم للمرّة من التعويذ- ( [نسترقيها] ودواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 نتداوى به، وتقاة نتّقيها.. هل تردّ من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله» . وذكر البخاريّ في «صحيحه» : عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم. نتداوى به، وتقاة) - وزنه فعلة، ويجمع على تقى كرطبة ورطب، وأصله وقية، لأنه من الوقاية، فأبدلت الوّاو تاء، والياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها- أي: ما نتّقي به ما يرد علينا من الأمور الّتي لا نريد وقوعها بنا. وفي رواية «المسند» وابن ماجه: بالجمع: تقى (نتّقيها، هل تردّ من قدر الله شيئا؟ قال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «هي من قدر الله» ) يعني: أنّ الله تعالى قدّر الأسباب والمسبّبات، وربط المسبّبات بالأسباب، فحصول المسبّبات عند حصول الأسباب من جملة القدر. (وذكر) الإمام (البخاريّ في «صحيحه» ) تعليقا (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) وبيّن الحافظ ابن حجر أنّه جاء من طرق صحيحة إليه. (إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم) من الأمراض القلبيّة والنفسيّة، أو الشّفاء الكامل المأمون الغائلة (فيما حرّم) - بالبناء للفاعل، ويجوز للمفعول- (عليكم) فلا يجوز التّداوي بالحرام؛ لأنّه سبحانه وتعالى لم يحرّمه إلا لخبثه عناية بعباده؛ وحمية لهم؛ وصيانة عن التّلطّخ بدنسه، وما حرم عليهم شيئا إلّا عوّضهم خيرا منه!! فعدولهم عمّا عوّضه لهم إلى ما منعهم منه يوجب حرمان نفعه. ومن تأمّل ذلك هان عليه ترك المحرّم المردي، واعتاض عنه النّافع المجدي. والمحرّم؛ وإن فرض أنّه أثّر في إزالة المرض لكنّه يعقبه بخبثه سقما قلبيا أعظم منه، فالمتداوي به ساع في إزالة سقم البدن بسقم القلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 ......... وبه علم أنّه لا تدافع بين الحديث وآية «إنّ في الخمر منافع» «1» . انتهى زرقاني على «المواهب» . ويحرم التّداوي بالخمر- أي: شربها لأجل التّداوي بها- وكذا يحرم شربها للعطشان، وأمّا إذا غصّ بلقمة؛ ولم يجد ما يسيغها إلّا خمرا؟؟ فيلزمه الإساغة بها، لأنّ حصول الشّفاء بها حينئذ محقّق، بخلاف التّداوي. أمّا التّداوي بالخمر على ظاهر الجسم؛ بقصد المداواة عند الحاجة!! فذلك جائز. قال «النّوويّ» في «فتاويه» : مسألة: إنسان به مرض؛ وصف له من يجوز اعتماده من الأطبّاء المسلمين أن يتضمّد بالتّرياق الفاروق، ويبقى عليه أيّاما، وقال: لا تحصل المداواة إلّا بذلك، وهذا التّرياق فيه خمر ولحم الحيّات!! هل يجوز له ذلك؟ ويصلّي على حسب حاله؟؟ الجواب: يجوز، وتلزمه إعادة الصّلاة. انتهى. وعلم من ذلك أنّ خطر التّداوي بالمحرّمات؛ إنّما هو في الحالات العاديّة لدى وجود وتيسّر الدّواء المباح النّاجع، أمّا عند الاضطرار! فالحكم كما قال الله عزّ وجلّ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [119/ الأنعام] . ويكون استعمال ذلك المحرّم- في حال الاضطرار- مع وجود ضرر فيه، لدفع ضرر أشدّ- عملا بقاعدة: تعارض المفسدتين فيرتكب أخفّها ضررا. هذا؛ وفي عصرنا الحاضر يسعى الأطبّاء دوما لدى علاجهم المريض إلى اختيار العلاج الملائم للعلّة، وحالة أجهزة الجسم المعلول، ويختارون من الأدوية المفيدة- في تلك العلّة- أكثرها فائدة وأقلّها أعراضا جانبيّة وضررا، وإذا كان الدّواء مفيدا وخاليا من الأعراض الجانبيّة؛ فإنه يحوز رضى الأطبّاء أكثر، ويقع اختيارهم عليه أوّلا لدى توفّره.   (1) هكذا في الأصل وهي بالمعنى؛ والتلاوة قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 وفي «السّنن» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدّواء الخبيث. ولا شكّ أنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرّم شيئا على هذه الأمّة؛ إلا وفيه ضرر جسمي أو خلقيّ؛ نفسيّ أو روحيّ، فلا يليق بالمسلم طبيبا كان؛ أو مريضا أن يقرب تلك المحرّمات لفوائد صحيّة فيها؛ مع أنّ لها أضرارا جانبيّة. فإذا ساقت الضّرورة إلى استعمال المحرّم لفقدان العلاج الحلال الملائم؛ وكان ما يتوخّى في المحرّم من فائدة علاجية يفوق ما يسبّب من أعراض جانبيّة غير مرغوب فيها؛ فعلى المريض والطّبيب أن يستشعر أنّ التّداوي بذلك المحرّم إنّما هو للضّرورة، ولارتكاب أهون الأمرين ضررا. وعلى الطّبيب: أن يستشعر خشية الله تعالى، وأن يسعى لتعديل الآثار الجانبيّة الضّارّة بما يلائم من دواء؛ أو غذاء؛ أو إرشادات صحيّة. وعلى المريض أن يحسّن نيّته في استعمال المحرّم عند الاضطرار؛ فلا يقصد لذّة، أو هوى؟؟. وعليه أن يأخذ بوسائل تعديل آثاره الضّارة على النّفس والقلب بما يلائم من الدّعاء؛ والالتجاء إلى الله العليّ القدير، وعدم التّجافي في استعمالها إلى إثم ولا بغي ولا عدوان على حدود الله باتّخاذ حادثة الضّرورة سلّما إلى المعصية، والله على ما نقول وكيل. (و) أخرج الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه (في «السّنن» ) والحاكم- وقال: على شرطهما، وأقره الذّهبيّ. وفي «المهذّب» : إسناده صحيح- كلّهم؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدّواء الخبيث) - يعني: السّم أو النّجس أو الخمر ولحم غير المأكول، وروثه، وبوله، فلا تدافع بينه وبين حديث العرنيّين وقيل: أراد الخبيث المذاق لمشقّته على الطّباع، والأدوية؛ وإن كانت كلّها كريهة لكنّ بعضها أقلّ كراهة. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وفي «صحيح مسلم» : عن طارق بن سويد الجعفيّ رضي الله تعالى عنه: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنّما أصنعها للدّواء، فقال: «إنّ ذاك ليس بدواء؛ ولكنّه داء» . قال الشّوكانيّ: ظاهره تحريم التّداوي بكلّ خبيث، والتّفسير بالسّمّ مدرج؛ لا حجّة فيه. ولا ريب أنّ الحرام والنّجس خبيثان. قال «الماورديّ» وغيره: السّموم على أربعة أضرب: منها: ما يقتل كثيره وقليله؛ فأكله حرام للتّداوي ولغيره، لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [195/ البقرة] . ومنها ما يقتل كثيره؛ دون قليله، فأكل كثيره الّذي يقتل حرام للتّداوي وغيره، والقليل منه إن كان ينفع في التّداوي جاز أكله تداويا. ومنها ما يقتل في الأغلب، وقد يجوز ألايقتل، فحكمه كما قبله. ومنها ما لا يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن يقتل، فذكر الشّافعي في موضع إباحة أكله، وفي موضع تحريم أكله! فجعله بعض أصحابه على حالين؛ فحيث أبيح أكله فهو إذا كان للتّداوي. وحيث حرم أكله: فهو إذا كان غير منتفع به في التّداوي. انتهى. من «بلوغ الأماني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشّيباني» رحمه الله تعالى. (وفي) «مسند الإمام أحمد» و ( «صحيح مسلم» ) في «الأشربة» ، وأبي داود، وابن ماجه كلّهم؛ (عن) وائل الحضرميّ؛ عن (طارق بن سويد الجعفيّ) ؛ أو الحضرميّ (رضي الله تعالى عنه أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن) صنع (الخمر؟ فنهاه؛ أو كره أن يصنعها. فقال) - أي: طارق- (: إنّما أصنعها للدّواء) ؛ ظنّا منه أنّ ذلك جائز. (فقال) - أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم له (: «إنّ ذاك ليس بدواء) - كما تظنّ- (ولكنّه داء» ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وفي «السّنن» : أنّه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء؟ فقال: «إنّها داء، وليست بالدّواء» . ويذكر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من تداوى بالخمر.. فلا شفاه الله تعالى» . وذكّر الضمير! باعتبار كون الخمر شرابا. قال الإمام النّووي في «شرح مسلم» : هذا دليل لتحريم اتّخاذ الخمر وتخليلها. وفيه التّصريح بأنّها ليست بدواء، فيحرم التّداوي بها؛ لأنّها ليست بدواء، فكأنّه يتناولها بلا سبب، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا: أنه يحرم التّداوي بها. وكذا يحرم شربها للعطش، وأمّا إذا غصّ بلقمة؛ ولم يجد ما يسيغها به إلّا خمرا؟ فيلزمه الإساغة بها، لأن حصول الشّفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التّداوي. والله أعلم. انتهى. وفي قوله (حصول الشّفاء مقطوع به) نظر. (و) أخرج التّرمذيّ وأبو داود (في «السّنن» أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء) - أي: مع شيء آخر، ويحتمل أن يراد أنّها تستعمل دواء- (فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «إنّها داء، وليست بالدّواء» ) . وروى الطبرانيّ في «الكبير» ؛ وأبو يعلى عن أمّ سلمة. قالت: نبذت نبذا في كوز، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: «ما هذا» ؟! قلت: اشتكت ابنة لي فنقعت لها هذه؟. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» . (ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من تداوى بالخمر فلا شفاه الله تعالى» ) ؛ ذكره ابن القيّم. وقال عقبه: المعالجة بالمحرّمات قبيحة عقلا وشرعا؛ أمّا الشّرع؛ فما ذكرناه من هذه الأحاديث وغيرها، وأما العقل؛ فهو أنّ الله سبحانه إنّما حرّمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 ......... لخبثه، فإنّه لم يحرّم على هذه الأمّة طيّبا؛ عقوبة لها، كما حرّمه على بني إسرائيل بقوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [160/ النساء] . وإنّما حرّم على هذه الأمّة ما حرّم! لخبثه، وتحريمه له حمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشّفاء من الأسقام والعلل، فإنّه؛ وإن أثّر في إزالتها لكنّه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوّة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب. وأيضا؛ فإنّ تحريمه يقتضي تجنّبه؛ والبعد عنه بكلّ طريق، وفي اتّخاذه دواء حضّ على التّرغيب فيه، وملابسته. وهذا ضدّ مقصود الشّارع. وأيضا؛ فإنّه داء، كما نصّ عليه صاحب الشّريعة، فلا يجوز أن يتّخذ دواء. وأيضا؛ فإنه يكسب الطّبيعة والرّوح صفة الخبث، لأنّ الطّبيعة تنفعل عن كيفية الدّواء انفعالا بيّنا، فإذا كانت كيفيّته خبيثة؛ اكتسبت الطّبيعة منه خبثا، فكيف إذا كان خبيثا في ذاته؟! ولهذا حرّم الله سبحانه على عباده الأغذية؛ والأشربة؛ والملابس الخبيثة لما تكتسب النّفس من هيئة الخبث وصفته. وأيضا؛ فإنّ في إباحة التّداوي به- ولا سيّما إذا كانت النّفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشّهوة؛ واللّذة. لا سيّما إذا عرفت النّفوس أنّه نافع لها، مزيل لأسقامها، جالب لشفائها؛ فهذا أحبّ شيء إليها، والشّارع سدّ الذّريعة إلى تناوله بكلّ ممكن. ولا ريب أنّ بين سدّ الذّريعة إلى تناوله وفتح الذّريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا. وأيضا؛ فإنّ في هذا الدّواء المحرّم من الأدواء ما يزيد على ما يظنّ به من الشفاء. ولنفرض الكلام في أمّ الخبائث الّتي ما جعل الله لنا فيها شفاء قطّ؛ فإنّها شديدة المضرّة بالدّماغ؛ الّذي هو مركز العقل عند الأطبّاء وكثير من الفقهاء والمتكلمين!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وروى البخاريّ: ... قال بقراط في أثناء كلامه في «الأمراض الحادّة» : ضرر الخمر بالرأس شديد، لأنّه يسرع الارتفاع إليه، ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضرّ بالذّهن. وقال صاحب «الكامل» : إنّ خاصّيّة الشّراب الإضرار بالدّماغ والعصب. وأمّا غيره من الأدوية المحرّمة! فنوعان: أحدهما: تعافه النّفس، ولا تنبعث لمساعدته الطّبيعة على دفع المرض به؛ كالسّموم، ولحوم الأفاعي، وغيرها من المستقذرات، فيبقي كلّا على الطّبيعة مثقلا لها، فيصير حينئذ داء لا دواء. والثّاني: ما لا تعافه النّفس؛ كالشّراب الّذي تستعمله الحوامل مثلا، فهذا ضرره أكثر من نفعه، والعقل يقضي بتحريم ذلك، فالعقل والفطرة مطابق للشّرع في ذلك. وههنا سرّ لطيف في كون المحرّمات لا يستشفى بها، فإنّ شرط الشّفاء بالدّواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشّفاء، فإنّ النّافع هو المبارك. وأنفع الأشياء أبركها. والمبارك من النّاس أينما كان هو الّذي ينتفع به حيث حلّ. ومعلوم أنّ اعتقاد المسلم تحريم هذه العين ممّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها؛ وبين حسن ظنّه بها؛ وتلقّي طبعه لها بالقبول، بل كلّما كان العبد أعظم إيمانا؛ كان أكره لها، وأسوأ اعتقادا فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال؛ كانت داء له لا دواء، إلّا أن يزول اعتقاد الخبث فيها، وسوء الظّنّ والكراهة لها بالمحبّة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قطّ إلا على وجه داء. والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى. (وروى البخاريّ) ، ومسلم، وابن ماجه في «الطّبّ» كلّهم؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى مريضا، أو أتي به.. قال: «أذهب الباس ربّ النّاس، اشف وأنت الشّافي، لا شفاء إلّا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» . (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضا) عائدا له (أو) قال: (أتي) بالبناء للمفعول (به) إليه (قال) في دعائه له: ( «أذهب) بفتح الهمزة بعدها ذال معجمة- (الباس) - بغير همز للمؤاخاة، أي: المناسبة لما بعده. وأصله الهمز، أي: الضرر والمرض- (ربّ النّاس) وغيرهم، بحذف حرف النّداء، (اشف) بحذف المفعول (وأنت) - وفي رواية بحذف الواو- (الشّافي) . أخذ منه جواز تسميته تعالى بما ليس في القرآن؛ بشرط ألايوهم نقصا، وأن يكون له أصل في القرآن، وهذا منه، فإن فيه وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) [الشعراء] . (لا شفاء) - بالمدّ؛ مبنيّ على الفتح، والخبر محذوف، تقديره: حاصل لنا أوله- (إلّا شفاؤك) بالرّفع؛ بدل من محلّ «لا شفاء» . (شفاء) - مصدر منصوب بقوله: اشف- (لا يغادر) - بغين معجمة، أي: لا يترك- (سقما» ) بضمّ فسكون، وبفتحتين، والتّنوين للتّقليل. وفائدة التّقييد بذلك: أنّه قد يحصل الشّفاء من ذلك المرض؛ فيخلفه مرض آخر!!. فكان دعاء له بالشّفاء المطلق، لا بمطلق الشّفاء. واستشكل الدّعاء بالشّفاء؛ مع ما في المرض من كفّارة وثواب، كما تظافرت الأحاديث بذلك!! والجواب عن ذلك: أنّ الدّعاء عبادة، ولا ينافي الثّواب والكفّارة، لأنهما يحصلان بأوّل المرض، وبالصّبر عليه. والدّاعي بين حسنيين: إمّا أن يحصل له مقصوده، أو يعوّض عنه بجلب نفع؛ أو دفع ضرر. وكلّ ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى. انتهى «عزيزي» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ أهله الوعك.. أمر بالحساء فصنع، ثمّ أمرهم فحسوا. وكان يقول: «إنّه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السّقيم، كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» . وقوله: (الوعك) : هو الحمّى، أو ألمها. (و) أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «الطّبّ» ؛ وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه والحاكم في «الأطعمة» وقال: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ كلّهم؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله) ؛ أي: أحدا من أهل بيته (الوعك) ؛ أي: حرارة الحمّى، ومثلها بقيّة الأمراض، فما ذكر نافع لجميع الأمراض (أمر بالحساء) - بالفتح والمدّ: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن- (فصنع) بالبناء للمفعول (ثمّ أمرهم فحسوا) ؛ أي: شربوا وتناولوه. (وكان يقول: «إنّه ليرتو) - بفتح المثنّاة التحتيّة وراء ساكنة، فمثنّاة فوقيّة- أي: يشدّ ويقوّي (فؤاد الحزين) - قلبه- (ويسرو) - بسين مهملة وراء- (عن فؤاد السّقيم) - أي: يكشف عن فؤاده الألم، ويزيله- (كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» ) أي: تكشفه وتزيله. قال «ابن القيّم» : هذا ماء الشّعير المغليّ، وهو أكثر غذاء من سويقه، نافع للسّعال، قامع لحدّة الفضول، مدرّ للبول جدّا، قامع للظّمأ، مطف للحرارة. وصفته أن يرضّ ويوضع عليه من الماء العذب خمسة أمثاله، ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى خمساه. انتهى. «مناوي وعزيزي» . (وقوله: الوعك) - بفتحتين- (هو الحمّى، أو ألمها) ؛ كما قاله المناوي وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 و (الحساء) - بالفتح والمدّ-: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن. و (يرتو) : يشدّ ويقوّي. و (يسرو) : يكشف الألم ويزيله. وفي «السّنن» عنها [رضي الله تعالى عنها] أيضا: «عليكم بالبغيض النّافع: التّلبين» . (والحساء بالفتح) - للحاء والسّين المهملتين- (والمدّ) لا بالقصر (: طبيخ يتّخذ من دقيق) ؛ أي: دقيق الشّعير (وماء، ودهن) . قال الحفني: وهو أن يضع قدرا من الشّعير بلا طحن، ويزن قدره من الماء خمس مرّات، ويوقد عليه بنار لطيفة حتّى يذهب ثلاثة أخماس الماء، فإنه يسكّن العطش والحرارة، وينفع من كلّ داء؛ لأنّ الشّعير بارد. وفيه كيفيّة أخرى وهي: أن يطحنه؛ ويأخذ دقيقه، ويضيف له شيئا من دهن اللّوز؛ أو الورد؛ أو نحوهما وشيئا من الماء؛ ويطبخه. انتهى. (ويرتو) - بفتح المثنّاة التحتيّة، وراء ساكنة فمثناة فوقيّة- أي: (يشدّ ويقوّي) ؛ بتشديد الواو من التّقوية (ويسرو) بفتح أوله؛ فسين مهملة ساكنة، فراء بوزن: يعرو. قال المناوي: معناه (يكشف) عن فؤاده (الألم ويزيله) . انتهى. (و) أخرج الإمام أحمد في «المسند» في الطّبّ وابن ماجه (في «السّنن» ) في «الطّبّ» أيضا، والحاكم وصحّحه؛ وأقرّه الذّهبيّ، كلّهم؛ (عنها) - أي: عائشة- (أيضا) رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «عليكم بالبغيض) - أي: المبغوض بالطّبع- (النّافع) من حيث الواقع، أي: كلوه أو لازموا استعماله، قالوا: وما البغيض النّافع يا رسول الله؟ قال: (التّلبين» ) . وفي ابن ماجه التّلبينة يعني: الحسو، وهو دقيق يعجن بالماء إلى أن يصير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى أحد من أهله.. لم تزل البرمة على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه- يعني: يبرأ- أو يموت. وعنها أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع.. لا يطعم الطّعام، قال: «عليكم بالتّلبينة، فأحسوه إيّاها» ، ويقول: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها ... كاللّبن، ويشرب، لا سيّما دقيق الشّعير، فإنّه بارد. وهذا من الطّبّ النّبويّ الّذي لا شكّ فيه، وإنّما يكون التّخلف من سوء حال المستعمل. انتهى «حفني» . (قالت) ؛ أي: عائشة (: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) ؛ أي: مرض (أحد من أهله لم تزل البرمة) - بضمّ الموحّدة، وسكون الرّاء: إناء- (على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه. يعني:) أنّهم كانوا يحرصون على هذا الطعام دائما لخفّته على المريض مع تغذيته، وعدم الإضرار به إلى أن (يبرأ) من مرضه، (أو يموت) إذا انقضى أجله. (و) أخرج الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وصحّحه، وأقرّه الذّهبي، كلّهم؛ (عنها) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها (أيضا) قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع) - بكسر الجيم، أي-: مريض (لا يطعم الطّعام؟ قال: «عليكم بالتّلبينة) - بفتح فسكون-: حساء يعمل من دقيق، أو نخالة، فيصير كاللّبن بياضا ورقّة، وقد يجعل فيه عسل. وسمّيت بذلك!! تشبيها باللّبن لبياضها ورقّتها (فأحسوه) ؛ أي: أشربوه وأطعموه (إيّاها» ) لأنّها غذاء فيه لطافة، سهل التّناول للمريض، فإذا استعمله اندفعت عنه الحرارة الجوعيّة، وحصلت له القوّة الغذائيّة بغير مشقّة. انتهى «مناوي» . (ويقول) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها) ؛ أي: التّلبينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكنّ وجهها من الوسخ» . و (التّلبين والتّلبينة) : الحساء الرّقيق الّذي هو في قوام اللّبن. قال الهرويّ: سمّيت تلبينة؛ لشبهها باللّبن لبياضها ورقّتها، وهذا هو الغذاء النّافع للعليل، وهو الرّقيق النّضيج، لا الغليظ النّيء، (تغسل بطن أحدكم) من الدّاء (كما تغسل إحداكنّ) - كذا في «زاد المعاد» - (وجهها) - وفي «المسند» : «كما يغسل أحدكم وجهه بالماء» - (من الوسخ» ) تحقيق لوجه الشّبه: قال الموفّق البغداديّ: إذا شئت [معرفة] منافع التلبينة؛ فاعرف منافع ماء الشّعير، سيّما إذا كان نخالة، فإنّه يجلو وينفذ بسرعة، ويغذّي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا. انتهى «مناوي» . (والتّلبين والتّلبينة) - بهاء- قال ابن القيّم: هو (الحساء) بالفتح والمدّ (الرّقيق) - بالرّاء- (الّذي) يعمل من دقيق أو نخالة، و (هو في قوام اللّبن) ، وربّما جعل فيها عسل. (قال) الإمام اللّغويّ أحمد بن محمّد بن عبد الرّحمن الباشاني: أبو عبيد (الهرويّ) نسبة إلى «هراة» المتوفّى في رجب سنة: إحدى وأربعمائة هجرية، قرأ على جماعة منهم: أبو سليمان الخطّابي. وكان اعتماده وشيخه الّذي يفتخر به أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري صاحب كتاب «التّهذيب» في اللّغة، وله من المؤلّفات كتاب «الغريبين» أي: «غريب القرآن» ، و «غريب الحديث» ، وهو السّابق إلى الجمع بينهما- فيما علمنا-، وله كتاب «ولاة هراة» رحمه الله تعالى. قال في كتاب «الغريبين» : (سمّيت تلبينة لشبهها باللّبن؛ لبياضها ورقّتها) ، وهي تسمية بالمرّة من التّلبين؛ مصدر لبّن القوم: إذا سقاهم اللّبن. (وهذا) التّلبين (هو الغذاء) بكسر الغين المعجمة؛ مثل كتاب: ما يغتذى به من الطّعام والشّراب (النّافع للعليل) ؛ أي: المريض، (وهو الرّقيق) - بالرّاء- (النّضيج) لأنّه ينفذ بسرعة، ويغذّي غذاء لطيفا، (لا الغليظ النّيء) مهموز وزان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة.. فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها حساء يتّخذ من دقيق الشّعير. وفي «الصّحيحين» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها ... «حمل» : كلّ شيء شأنه أن يعالج بطبخ أو شيّ ولم ينضج. (وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة) ؛ أي: امتيازها على غيرها في التّغذية؛ (فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها) ؛ أي: التّلبينة (حساء) - بالحاء والسّين المهملتين- (يتّخذ) ؛ أي: يصنع (من دقيق الشّعير) بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشّعير: أنّه يطبخ صحاحا، والتّلبينة تطبخ منه مطحونا، وهي أنفع منه؛ لخروج خاصيّة الشّعير بالطّحن. وللعادات تأثير في الانتفاع بالأدوية والأغذية، ومن أمثلتهم: داووا الأجساد بما تعتاد. وكانت عادة القوم أن يتّخذوا ماء الشّعير منه مطحونا؛ لا صحاحا وهو أكثر تغذية؛ وأقوى فعلا؛ وأعظم جلاء. وإنّما اتّخذه أهل المدن صحاحا!! ليكون أرقّ وألطف. فلا يثقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها وثقل ماء الشّعير المطحون عليها. والمقصود: أنّ ماء الشّعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا، ويجلو جلاء ظاهرا، ويغذّي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارّا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزيّة أكثر. انتهى «زاد المعاد» . (و) أخرج البخاريّ ومسلم (في «الصّحيحين» ) : كتاب «الأطعمة والطّبّ» ؛ (عن) أمّ المؤمنين (عائشة) الصّدّيقة بنت الصّدّيق؛ زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم (رضي الله تعالى عنها) أنّها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النّساء. ثمّ تفرّقن إلّا أهلها وخاصّتها أمرت ببرمة من تلبينة؛ فطبخت، ثم صنع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «التّلبينة: مجمّة لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن» . وروى التّرمذيّ وابن ماجه: عن عقبة بن عامر الجهنيّ ... ثريد؛ فصبّت التّلبينة عليها، ثمّ (قالت:) كلن منها فإنّي (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التّلبينة) - بفتح المثنّاة الفوقيّة، وسكون اللّام، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانيّة، ثم نون ثمّ هاء- (مجمّة) - بفتح الميمين، والجيم، والميم الثّانية مشدّدة، وتكسر الجيم، وبضمّ الميم وكسر الجيم؛ اسم فاعل، والأوّل أشهر، أي: مريحة- (لفؤاد المريض) - أي: تريح قلبه، وتسكّنه؛ وتقوّيه، وتزيل عنه الهمّ، وتنشّطه بإخمادها للحمّى؛ من الإجمام وهو الرّاحة، فلا حاجة لما تكلّفه بعض الأعاجم من تأويل الفؤاد، برأس المعدة. فتدبّر!! (تذهب) - بفتح الفوقيّة، والهاء- (ببعض الحزن) - بضمّ الحاء المهملة وسكون الزّاي- فإنّ فؤاد المريض يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته؛ لقلّة الغذاء، وهذا الطّعام يرطّبها، ويقوّيها. ولذا كانت عائشة تفعله لأهل الميت؛ لتسكين حزنهم. (وروى) الإمام أحمد و (التّرمذيّ وابن ماجه) في «الطّبّ» ، وقال التّرمذيّ: حسن غريب. وقال في «الأذكار» : فيه بكر بن يونس بن بكير، وهو ضعيف. وفي «الزوائد» : إسناده حسن، لأنّ بكر بن يونس مختلف فيه. وباقي رجال الإسناد ثقات. انتهى. وكذا رواه الحاكم كلّهم؛ (عن) أبي حمّاد (عقبة بن عامر) بن عبس بن عمرو (الجهنيّ) نسبة لجهينة الصّحابيّ الجليل. كان من أحسن النّاس صوتا بالقرآن. وشهد فتوح الشّام، وكان هو البريد إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يبشّره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يطعمهم ويسقيهم» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهل بيته.. بفتح دمشق. ووصل المدينة في سبعة أيّام، ورجع منها إلى الشّام في يومين ونصف، بدعائه عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشفعّه به؛ في تقريب طريقه. وسكن دمشق وكانت له دار في ناحية قنطرة «سنان» من «باب توما» وسكن مصر ووليها لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربع وأربعين. وتوفّي بها سنة ثمان وخمسين هجرية. روي له عن النّبي صلى الله عليه وسلم خمسة وخمسون حديثا. اتّفقا منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة. روى عنه جابر بن عبد الله؛ وابن عبّاس؛ وغيرهما من الصّحابة وخلائق من التّابعين (رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على) تناول (الطّعام والشّراب) إذا عافوه للمرض الذّي قام بهم. قال الموفّق: ما أكثر فوائد هذه الكلمة النّبوية للأطّبّاء!! لأنّ المريض إذا عاف الطّعام أو الشّراب؛ فذلك لاشتغال طبيعته بمجاهدة مادّة المرض، أو سقوط شهوته لموت الحارّ الغريزيّ. وكيفما كان فإعطاء الغذاء في هذه الحالة غير لائق. انتهى شروح «الجامع الصّغير» . ولفظ: الشّراب ليس في رواية التّرمذيّ. (فإنّ الله عزّ وجلّ يطعمهم ويسقيهم» ) . قال «المناوي» : أي يحفظ قواهم، ويمدّهم بما يقع موقع الطّعام والشّراب في حفظ الرّوح، وتقويم البدن. وقال العلقمي: أي: يشبعهم ويرويهم؛ من غير تناول طعام وشراب. انتهى. (و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته) - وفي رواية لمسلم: «من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 نفث عليه بالمعوّذات. وفي «الصّحيحين» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم، ... أهله» - (نفث) ؛ أي: نفخ (عليه) نفخا لطيفا، بلا ريق (بالمعوّذات) - بكسر الواو- وإنما خصّ المعوّذات!! لأنّهنّ جامعات للاستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلا، ففيها الاستعاذة من شرّ ما خلق؛ فيدخل فيه كلّ شيء، ومن شرّ النّفّاثات في العقد؛ وهنّ السّواحر، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ الوسواس الخنّاس. وفائدة التّفل: التّبرّك بتلك الرّطوبة؛ أو الهواء المباشر لريقه. قال النّووي فيه استحباب النّفث في الرّقية، وعليه الجمهور من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم، وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الرّقية بالحديد؛ والملح؛ والّذي يعقد؛ والّذي يكتب «خاتم سليمان» ؛ والعقد عنده أشدّ كراهة، لما في ذلك من مشابهة السّحر. وفيه ندب الرّقية بنحو القرآن، وكرهه البعض بغسالة ما يكتب منه، أو من الأسماء. انتهى شروح «الجامع الصّغير» . (و) أخرج البخاريّ ومسلم (في «الصّحيحين» ) من رواية نافع؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم» ) كذا في «المواهب» وتعقّبه الزرقاني: بأنّه لم يجده في واحد من «الصحيحين» بهذا اللّفظ!! وإنّما الّذي في البخاريّ في «الطّبّ» ؛ من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: «الحمّى من فيح جهنّم، فأطفئوها بالماء» . وفيه في «صفة جهنّم؛ من بدء الخلق» من رواية عبيد الله؛ عن نافع؛ عن ابن عمر مرفوعا: «الحمّى من فيح جهنّم، فابردوها بالماء» بدل قوله «فأطفئوها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 ......... وكذا رواه مسلم؛ من طريق يحيى بن سعيد؛ عن عبيد الله؛ عن نافع، بلفظ: «فابردوها» . رواه من طريق مالك؛ عن نافع؛ باللّفظ الأوّل- وهو «فأطفئوها» - ورواه من وجه آخر؛ عن عبيد الله؛ عن نافع؛ عن ابن عمر؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ شدّة الحمّى من فيح جهنّم، فأطفئوها بالماء» . انتهى. وعندي أنّ الأمر سهل، ومراد المصنّف كالقسطلّاني: أنّ هذا اللّفظ موجود في «الصحيحين» ، من رواية ابن عمر بن الخطّاب؛ سواء كان من وجه واحد، أو متعدّد فتعقّب الزّرقاني وارد على تعيين رواية مخصوصة بهذا اللّفظ. والله أعلم. وقوله: «من فيح جهنّم» !! بفتح الفاء؛ وسكون التحتيّة؛ فحاء مهملة آخره. وفي رواية ل «الصحيحين» «من فور» - بالرّاء، بدل الحاء- وفي رواية للبخاري: «من فوح» - بالواو، بدل التّحتيّة- وكلّها بمعنى، والمراد: سطوع حرّها ووهجه. قال في «المواهب» : اختلف في نسبتها إلى جهنّم!؟ فقيل: حقيقة. واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنّم. وقدّر الله ظهورها في الدّنيا!! - بأسباب تقتضيها؛ نذيرا للجاحدين، وبشيرا للمقرّبين، ليعتبر العباد بذلك. فالتّعذيب بها يختلف باختلاف محلّه، فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه، وزيادة في أجوره، وللكافر عقوبة؛ وانتقاما. كما أنّ أنواع الفرح واللّذة من نعيم الجنّة؛ أظهرها الله سبحانه في هذه الدّار الدّنيا عبرة ودلالة على ما عنده تعالى. وإنّما طلب ابن عمر كشف العذاب الحاصل بالحمّى- كما في البخاري؛ عقب الحديث، قال نافع: وكان عبد الله يقول: اللهم اكشف عنا الرّجز؛ أي: العذاب- مع ما فيه من الثّواب!! لمشروعيّة طلب العافية من الله، إذ هو قادر على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 فابردوها بالماء» . وقد ذكر أبو نعيم وغيره: من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ... أن يكفّر السّيئات لعبده، ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشقّ عليه. انتهى كلام «المواهب» مع الزرقاني. (فابردوها بالماء» ) بهمزة وصل، والرّاء مضمومة على المشهور في الرّواية؛ من بردت والحمّى أبردها بردا؛ بوزن قتلتها أقتلها قتلا، أي: أسكنت حرارتها. وحكي كسر الراء؛ مع وصل الهمزة، وحكى عياض: رواية بهمزة قطع مفتوحة، وكسر الرّاء؛ من أبرد الشيّء: إذا عالجه فصيّره باردا، مثل: أسخنته إذا صيّرته سخنا. وهي لغة رديئة. وفي «المواهب» ؛ عن الخطّابي: أولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمّى بالماء: ما صنعته أسماء بنت الصّدّيق رضي الله تعالى عنها المرويّ في «الموطأ» و «الصحيحين» ؛ عن أسماء: أنّها كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمّت تدعو لها؛ أخذت الماء فصبّته بينها وبين جيبها، قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء. والصّحابيّ؛ ولا سيّما مثل أسماء الّتي كانت ممّن يلازم بيت النّبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها. والله أعلم. والّذي يظهر لي أن ذلك لا يتعيّن، فإنّ الإبراد بالماء يحصل بأيّ كيفيّة كانت، كما هو إطلاق الحديث، وذلك بحسب ما يراه المحموم نافعا لإطفاء حرارة الحمّى، وقد كنت إذا اشتدّت بي الحمّى أذهب فأنغمس في الماء، فأجد ذلك يخفّف عنّي حرارة الحمّى؛ خصوصا إذا كان الماء باردا طبيعيا، فإنّه أنفع في تبريد الحمّى. والله أعلم. (وقد ذكر أبو نعيم وغيره) ؛ كالطّبرانيّ والحاكم بسند قوي (من حديث أنس رضي الله تعالى عنه يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 «إذا حمّ أحدكم.. فليرشّ عليه الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» . وفي «السّنن» لابن ماجه: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحمّى كير من كير جهنّم، فنحّوها عنكم بالماء البارد» . وفي «المسند» وغيره: عن سمرة ... «إذا حمّ أحدكم) - بالضّمّ والتّشديد-: أصابته الحمّى (فليرشّ عليه) ؛ أي: على نفسه (الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» ) ؛ أي: قبيل الصّبح. فهذا الحديث المرفوع يؤيّد فعل أسماء، فيكون المراد بالإبراد الرّشّ؛ لا الاغتسال. قال الزّرقانيّ: وقد علمت أنّ ذلك غير متعيّن. (وفي «السّنن» ) في «كتاب الطّبّ» (لابن ماجه) - بالهاء وصلا ووقفا- (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) - وفي «الزّوائد» : إسناده صحيح؛ ورجاله ثقات- (يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمّى كير) - بكسر الكاف؛ وسكون المثنّاة التّحتيّة-: زقّ ينفخ فيه الحدّاد (من كير جهنّم) فيه: تشبيه، أي: حرارتها الواصلة للبدن كحرارة جهنّم الواصلة بالكير الآلة المعروفة للحداد، وفيه من المبالغة ما لا يخفى. انتهى «حفني» . (فنحّوها عنكم بالماء البارد» ) شربا وغسل أطراف، لأنّ البارد رطب ينساغ لسهولته. فيصل للطافته إلى أماكن العلّة، من غير حاجة إلى معاونة الطّبيعة. انتهى «زرقاني» . (وفي «المسند» ) للإمام أحمد (وغيره) ؛ من حديث الحسن البصريّ. (عن) أبي سعيد (سمرة) بن جندب- بضمّ الدّال وفتحها- ابن هلال الفزاري. توفّي أبوه وهو صغير؛ فقدمت به أمّه المدينة، فتزوّجها أنصاريّ، وكان في حجره حتّى كبر. قيل: أجازه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المقاتلة يوم أحد، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات، ثمّ سكن البصرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحمّى قطعة من النّار، فأبردوها عنكم بالماء البارد» . وفي «السّنن» : من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ذكرت الحمّى عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسبّها رجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب، كما تنفي النّار خبث الحديد» . روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثا؛ اتّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأربعة. روى عنه خلق منهم: الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ. وتوفّي بالبصرة سنة تسع- وقيل: ثمان- وخمسين. قال البخاريّ: توفي سمرة بعد أبي هريرة. يقال: آخر سنة تسع وخمسين، ويقال: سنة ستّين (رضي الله تعالى عنه. يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمّى قطعة من النّار) ؛ أي: نار جهنّم: جعلها الله في الدنيا (فابردوها عنكم بالماء البارد» ) ؛ شربا وغسل أطراف، أو جميع الجسد، على ما يليق بالزّمان والمكان. انتهى «زرقاني» . وقال السّيوطي: قد تواتر الأمر بإبرادها بالماء، وأصحّ كيفيّاته: أن يرشّ بين الصّدر والجيب. انتهى نقله المناوي. (وفي «السّنن» ) لابن ماجه- وفي سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف- (من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ذكرت الحمّى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّها رجل!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب) ؛ أي: تكفّر خطايا المؤمنين (كما تنفي النّار خبث) - بفتحتين أي: وسخ- (الحديد» ) لمّا كانت الحمّى يتبعها حمية عن الأغذية الرّديئة، وتناول الأغذية والأدوية النّافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 ......... ونفي أخباثه وفضوله، وتصفيته من موادّه الرّديئة، وتفعل فيه كما تفعل النّار في الحديد؛ من نفي خبثه، وتصفية جوهره؛ كانت أشبه الأشياء بنار الكير الّتي تصفّي جوهر الحديد، وهذا القدر هو المعلوم عند أطبّاء الأبدان. وأمّا تصفيتها القلب من وسخه ودرنه، وإخراجها خبائثه! فأمر يعلمه أطبّاء القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه العلاج. فالحمّى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة؛ فسبّه ظلم وعدوان. انتهى. من «زاد المعاد» . وقال السّيوطي: هي طهور من الذّنوب، وتذكرة للمؤمن بنار جهنّم كي يتوب. ولها منافع بدنيّة، وماثر سنيّة؛ فإنّها تنقّي البدن، وتنفي عنه العفن، وربّ سقم أزليّ؛ ومرض عولج منه زمانا- وهو ممتلئ- فلمّا طرأت عليه أبرأته، فإذا هو منجل، وربّما صحّت الأجساد بالعلل. وذكروا أنّها تفتح كثيرا من السّدد وتنضح من الأخلاط والموادّ ما فسد، وتنفع من الفالج، واللّقوة «1» ؛ والتّشنج الامتلائيّ؛ والرّمد. انتهى. نقله المناوي. ولما نظر جماعة من السّلف ما في الحمّى من الفوائد؛ دعوا على أنفسهم بملازمة الحمّى لهم إلى توفيهم. وممّن دعا بذلك سعد بن معاذ، وكذا أبي «2» دعا على نفسه ألايفارقه الوعك حتى يموت، ولا يشغله عن حجّ؛ ولا عمرة؛ ولا جهاد؛ ولا صلاة جماعة، فما مسّ رجل جلده بعدها إلّا وجد حرّها حتّى مات.   (1) داء في الوجه. اه (مختار الصحاح) . (2) الكلام للمناوي؛ لا للشارح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وروى التّرمذيّ في «جامعه» : من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى؛ فإنّ الحمّى قطعة من النّار، فليطفئها عنه بالماء، ... وقد قال بعض من اقتفى آثارهم، وتدثر دثارهم: زارت محمّصة الذّنوب لصبّها ... أهلا بها من زائر ومودّع قالت- وقد عزمت على تر حالها-: ... ماذا تريد؟ فقلت: ألاتقلعي انتهى «مناوي» . (وروى التّرمذيّ في «جامعه» ) في «الطبّ» بسند فيه راو لم يسمّ، وراو مختلف في تضعيفه وتوثيقه، وقال: حديث غريب. (من حديث) أبي عبد الله، - أو أبي عبد الرّحمن- (ثوبان) - بضم المثلّثة وفتحها- ابن بجدد- بموحّدة مضمومة ثم جيم ساكنة، ثمّ دال مهملة مكّررة؛ الأولى مضمومة- ويقال: ابن جحدر الهاشميّ، مولاهم من أهل «السّراة» : موضع بين «مكّة» و «اليمن» . أصابه سباء؛ فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه. ولم يزل معه في الحضر والسّفر، فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشّام، فنزل «الرّملة» . ثمّ انتقل إلى حمص وابتنى بها دارا. وتوفي بها سنة: خمس وأربعين- وقيل: سنة أربع وخمسين-. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث؛ وسبعة وعشرون حديثا، روى له مسلم منها عشرة أحاديث. روى عنه جماعة من كبار التّابعين (رضي الله تعالى عنه. عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى، فإنّ الحمّى قطعة من النّار) حقيقة أو مجازا- (فليطفئها عنه بالماء) - لأنّ الماء يطفئ النّار، ثمّ بيّن كيفيّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 فليستقبل نهرا جاريا ليستقبل جرية الماء، فيقول: (باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك، وصدّق رسولك) بعد صلاة الصّبح قبل طلوع الشّمس، فليغتمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث.. فخمس، فإن لم يبرأ في خمس.. فسبع، فإن لم يبرأ في سبع.. فتسع؛ فإنّها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» . الإطفاء، فقال: - (فليستنقع نهرا) - بفتحتين؛ على الأفصح- (جاريا، ليستقبل جرية الماء، فيقول: باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك) لم يقل: اشفني لأنّ المقام مقام استعطاف وتذلّل، ولا وصف أصدق من وصف العبوديّة. (وصدّق رسولك) فيما أخبر أنّه شفاء من الحمّى. (بعد صلاة الصّبح، قبل طلوع الشّمس) ظرف لقوله «يستنقع» . (فليغتمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث؛ فخمس) ينغمس فيها، ف «خمس» : خبره محذوف (فإن لم يبرأ في خمس؛ فسبع، فإن لم يبرأ في سبع؛ فتسع) من الأيّام، (فإنّها) أي: الحمى (لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» ) . وهذا يحتمل أن يكون لبعض الحمّيات دون بعض، ويحتمل أنّه خارج عن قواعد الطّبّ، داخل في قسم المعجزات الخارقة للعادات. ألا ترى كيف قال فيه «صدّق رسولك» ، و «بإذن الله» ؟؟. وقد شوهد وجرّب؛ فوجد كما نطق به الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ قاله الطّيبيّ. وقال الزّين العراقيّ: عملت بهذا الحديث؛ فانغمست في بحر «النّيل» ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وفي «الصّحيحين» : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه- وفي رواية: استطلق بطنه- فقال: «اسقه عسلا» ، فذهب، ثمّ رجع، فقال: قد سقيته عسلا؛ فلم يغن عنه شيئا؟ ... فبرئت منها! قال ولده الولّي العراقيّ: ولم يحمّ بعدها، ولا في مرض موته!!. انتهى «زرقاني» . (وفي «الصّحيحين» ) : البخاريّ ومسلم، وكذا التّرمذيّ والنّسائي كلّهم في (الطب) ؛ من حديث سعيد بن أبي عروبة؛ عن أبي المتوكّل النّاجيّ. (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدريّ) الصّحابيّ ابن الصّحابيّ (رضي الله تعالى عنه) وعن والده. (أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنّ أخي) - قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم واحد منهما- (يشتكي بطنه) ؛ أي: وجع بطنه، من إسهال حصل له من تخمة. (وفي رواية) للشّيخين أيضا؛ من حديث قتادة؛ عن أبي المتوكّل النّاجي؛ عن أبي سعيد فقال: إنّ أخي (استطلق) - بفتح الفوقيّة واللّام- (بطنه) بالرّفع، وضبطه في «الفتح» مبنيّا للمفعول؛ أي: تواتر إسهال بطنه؛ قاله القسطلّاني. وكذا قال القرطبيّ في «المفهم» : هو بضمّ التاء مبنيّا للمفعول، فهو الرّواية الصّحيحة، فيكون أصله استطلق هو بطنه، فالسّين زائدة؛ لا للطّلب قال الحافظ ابن حجر: استطلق- بضمّ المثنّاة؛ وسكون الطّاء المهملة؛ وكسر اللّام بعدها قاف- أي: كثر خروج ما فيه يريد الإسهال. (فقال: «اسقه عسلا) صرفا، أو ممزوجا، وعند الإسماعيليّ: «اسقه العسل» ، واللّام عهديّة، والمراد: عسل النّحل، لكونه المشهور عندهم؛ قاله الحافظ «ابن حجر» . (فذهب، ثمّ رجع؛ فقال: قد سقيته عسلا فلم يغن عنه شيئا؟!) ؛ أي: لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وفي لفظ: فلم يزده إلّا استطلاقا (مرّتين أو ثلاثا) - كلّ ذلك يقول له: «اسقه عسلا» ، فقال له في الثّالثة أو الرّابعة: «صدق الله، وكذب بطن أخيك» ، ثمّ سقاه، فبرأ بإذن الله تعالى. يبرأ. (وفي لفظ) : فسقاه العسل، فلم ينجع، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي سقيته (فلم يزده إلّا استطلاقا؟!) بعد السّقيّ؛ لجذبه الأخلاط الفاسدة، وكونه أقلّ من كميّة تلك الأخلاط، فلم يدفعها بالكلية (مرّتين أو ثلاثا) يترّدد إليه (كلّ ذلك يقول له: «اسقه عسلا» . فقال له في) المرّة (الثّالثة أو الرّابعة: «صدّق الله) في قوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] (وكذب) ؛ أي: أخطأ (بطن أخيك» ) . حيث لم يصلح لقبول الشّفاء، لكثرة المادّة الفاسدة التي فيه، ولذا أمره بمعاودة شرب العسل، لاستفراغها، فلمّا كرّر ذلك برأ. وفي رواية لمسلم: فقال له ثلاث مرّات: إنّي سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا؟! ثمّ جاء الرّابعة فقال: «اسقه عسلا» . فقال: سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا؟! فقال: «صدق الله، وكذب بطن أخيك!!» ففي هذه الرّواية: أنه قال ذلك بعد الرّابعة! قال الحافظ «ابن حجر» : والأرجح أنّه قاله بعد الثّالثة. (ثمّ سقاه فبرأ) - بفتح الرّاء والهمزة- بوزن: قرأ، وهي: لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: برىء بكسر الراء؛ بوزن علم؛ كما في «الفتح» . (بإذن الله تعالى» ) لأنّه لما تكرّر استعمال الدّواء قاوم الدّاء فأذهبه. قال في «المواهب» : وفي قوله: «وكذب بطن أخيك» إشارة إلى أنّ هذا الدّواء نافع، وأنّ بقاء الدّاء ليس لقصور الدّواء في الشّفاء، ولكن لكثرة المادّة الفاسدة، فمن ثمّ أمره بمعاودة شرب العسل، لاستفراغها!! فشفي لمّا استفرغت، فاعتبار مقادير الأدوية، وكيفيّاتها، ومقدار قوّة المرض والمريض من أكبر قواعد الطّبّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وفي «سنن ابن ماجه» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من لعق العسل ثلاث غدوات كلّ شهر.. لم يصبه عظيم من البلاء» . قال في «زاد المعاد» : وليس طبّه صلى الله عليه وسلم كطبّ الأطبّاء؟؟ فإنّ طبّه عليه الصّلاة والسّلام متيقّن قطعيّ إلهيّ؛ صادر عن الوحي، ومشكاة النّبوّة، وكمال العقل، وطبّ غيره حدس وظنون وتخمين وتجارب. انتهى بزيادة من «شرح البخاري» . (وفي «سنن ابن ماجه» ) في كتاب «الطّبّ» قال: حدّثنا محمود بن خداش؛ قال: حدّثنا سعيد بن زكريا القرشيّ؛ قال: حدّثنا الزّبير بن سعيد الهاشميّ؛ عن عبد الحميد بن سالم. (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال في «الميزان» ؛ عن البخاري: لا يعرف لعبد الحميد سماع من أبي هريرة؟! وفي «الزّوائد» : إسناده ليّن!! ومع ذلك هو منقطع! وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» وقال: الزّبير ليس بثقة. وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل. ولم يتعقّبه السّيوطيّ سوى بأنّ له شاهدا، وهو ما رواه أبو الشّيخ في «الثّواب» ؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «من شرب العسل ثلاثة أيّام في كلّ شهر على الرّيق عوفي من الدّاء الأكبر: الفالج، والجذام والبرص» . انتهى. «مناوي» مع زيادة. (مرفوعا) إلى النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ( «من لعق) بابه فهم؛ كما في «المختار» أي: لحس (العسل) النّحل- وهو يذكّر ويؤنّث. وأسماؤه تزيد على المائة- (ثلاث غدوات) - بضمّ فسكون «1» - (كلّ شهر) . قال الطّيبيّ: صفة ل «غدوات» أي: غدوات كائنة في كلّ شهر، أي: ثلاثة أيّام في كلّ شهر. (لم يصبه عظيم من البلاء» ) ، لما في العسل من المنافع الدّافعة للأدواء، إذ   (1) الذي في «المختار» و «الأساس» : بفتحتين سواء كان جمع غداء أو غدا؟! (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وفي أثر آخر: «عليكم بالشّفاءين: العسل، ... هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة!، وحلوى من الحلاوات!، وطلاء من الأطلية!، ومفرح من المفرحات!! فيطلب لعق العسل النّحل في كلّ شهر ثلاثة أيّام منه؛ في أوّله، أو أثنائه. وتخصيص الثّلاث!! لسرّ علمه الشّارع. انتهى شروح «الجامع الصّغير» . (وفي أثر آخر) أخرجه ابن ماجه، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن ابن مسعود مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم- وقال الحاكم: إنّه على شرط الشّيخين- وأخرجه ابن أبي شيبة، والحاكم أيضا مرقوفا على ابن مسعود، ورجاله رجال الصّحيح. وقال البيهقيّ في «الشّعب» : الصّحيح أنّه موقوف على ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. ( «عليكم) ؛ أي: الزموا التّداوي (بالشّفاءين) ، قال تعالى في العسل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] وقال في القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [82/ الإسراء] فالشّفاء ثابت لكلّ بنصّ القرآن. (العسل) النحل وهو لعابها. وله منافع كثيرة، منها: أنه ينفع البشرة وينعّمها، وإن اكتحل به جلا البصر، وإذا استنّ به بيّض الأسنان؛ وصقلها؛ وحفظ صحّتها؛ وصحّة اللّثّة؛ وإذا تغرغر به نفع من أورام الحلق، ومن الخنّاق، ويوافق السّعال البلغميّ، ويدرّ البول، ويليّن البطن، ويفتح سددها، ويفتح أفواه العروق، ويدرّ الطّمث، وينفع من لسع العقرب، ومن نهش الهوام ذوات السّموم، ومن عضّة الكلب، ولعقه على الرّيق يذيب البلغم، ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة، ويشدّها، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها، ويفعل مثل ذلك بالكبد؛ والكلى؛ والمثانة. وقد كان النّبي صلى الله عليه وسلم يشرب كلّ يوم قدح عسل ممزوجا بالماء على الرّيق. فهذه حكمة عجيبة في حفظ الصّحّة؛ لا يعقلها إلّا العالمون!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 والقرآن» وقد كان بعد ذلك يغتذي بخبز الشّعير مع الملح، أو الخلّ؛ أو نحوه، ويصابر شظف العيش، فلا يضرّه!! لما سبق له من الإصلاح. وقد كان عليه الصّلاة والسّلام يراعي في حفظ صحّته أمورا فاضلة جدّا، منها، تقليل الغذاء، وتجنّب التّخم، ومنها شرب بعض المنقوعات يلطّف بها غذاءه، كنقيع التّمر؛ أو الزّبيب؛ أو الشّعير؛ ومنها استعمال الطّيب، وجعل المسك في مفرقه، والادّهان والاكتحال. وكان عليه الصّلاة والسّلام يغذّي روح الدّماغ والقلب بالمسك، وروح الكبد والقلب بماء العسل، فما أتقن هذا التدبير، وما أفضله!!. انتهى «عزيزي» . وقال «الزّرقاني» : أصلح العسل الرّبيعيّ، ثمّ الصّيفي. وأمّا الشّتائي فرديء، وما يؤخذ من الجبال والشّجر أجود ممّا يؤخذ من الخلايا. وهو بحسب مرعاه. ومن العجيب أنّ النّحل يأكل من جميع الأزهار، ولا يخرج منه إلا حلو مع أنّ أكثر ما يجنيه مرّ. انتهى. (والقرآن» ) جمع بين الطّبّ البشريّ والطّبّ الإلهيّ، وبين الفاعل الطّبيعيّ والفاعل الرّوحانيّ، وبين طبّ الأجساد وطبّ الأرواح، وبين السّبب الأرضيّ والسّبب السّماويّ. وشفاء القرآن بحسب إزالته للرّيب، وكشف غطاء القلب؛ لفهم المعجزات، والأمور الدّالّة على الله المقرّرة لشرعه. قال «ابن القيّم» : جماع أمراض القلب الشّبهات والشّهوات. والقرآن شفاء لهما، ففيه من البيّنات؛ والبراهين القطعيّة؛ والدّلالة على المطالب العالية ما لم يتضمّنه كتاب سواه، فهو الشّفاء بالحقيقة، لكنّ ذلك موقوف على فهمه وتقرير المراد منه. ويحتمل أن يريد بالشّفاء: نفعه من الأمراض بالرّقى والتّعويذ ونحوه، كما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّاعون ... الرّقية ب «فاتحة الكتاب» وب «المعوّذتين» وغير ذلك. وممّا جرّب نفعه للاستشفاء أن يكتب آيات الشّفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) [التوبة] . وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [57/ يونس] . يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82/ الإسراء] . وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) [الشعراء] . قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [44/ فصّلت] . ثم يكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص] ، إي والله، إي والله، إي والله اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الإخلاص] ، إي والله، إي والله، إي والله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) [الإخلاص] ، لا والله، لا والله، لا والله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص] ، لا والله، لا والله، لا والله. ربّ النّاس أذهب الباس، اشف أنت الشّافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، وصلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه وسلّم في إناء نظيف، ويسقى للمريض. انتهى. من شروح «الجامع الصّغير» . (و) أخرج البخاريّ في «ذكر بني إسرائيل والطّبّ وترك الحيل» ، ومسلم في «الطّبّ» وكذا النّسائي كلّهم؛ (عن أسامة بن زيد) الحبّ بن الحبّ (رضي الله تعالى عنهما قال) ؛ وقد سأله سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ قال أسامة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطّاعون) بوزن فاعول؛ من الطّعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالّا على الموت العامّ كالوباء. ويقال: طعن؛ فهو مطعون وطعين؛ إذا أصابه الطّاعون، وإذا أصابه الطّعن بالرّمح. والطّاعون: ورم رديء قتّال، يخرج معه تلهّب شديد مؤلم جدّا يتجاوز المقدار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، ... في ذلك، ويصير ما حوله- في الأكثر- أسود، أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التّقرّح سريعا. وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأربيّة «1» ، وفي اللّحوم الرّخوة. ويحصل معه خفقان وغثيان وقيء، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وأردؤه: ما حدث في الإبط، وخلف الأذن. والأسود منه قلّ من يسلم منه!! وأسلمه الأحمر، ثمّ الأصفر. (رجز) - بالزّاي على المعروف. - أي: عذاب. قال النّووي في «شرح مسلم» : وهذا الوصف بكونه عذابا مختصّ بمن كان قبلنا. وأمّا هذه الأمّة! فهو لها رحمة وشهادة، ففي «الصّحيحين» قوله صلى الله عليه وسلم: «المطعون شهيد» ، وفي حديث آخر في غير «الصّحيحين» : «إنّ الطّاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطّاعون؛ فيمكث في بلده صابرا يعلم أنّه لن يصيبه إلّا ما كتب الله له؛ إلّا كان له مثل أجر شهيد» . وفي حديث آخر: «الطّاعون شهادة لكلّ مسلم، وإنّما يكون شهادة لمن صبر» ؛ كما بيّنه في الحديث المذكور. انتهى كلام «النّوويّ» . (أرسل على طائفة من بني إسرائيل) لمّا كثر طغيانهم، (وعلى من كان قبلكم) كذا في نسخ المصنّف: بالواو تبعا ل «المواهب» . قال الزّرقاني: والّذي في «الصّحيحين» : إنما هو ب «أو» قال الحافظ ابن حجر: بالشّكّ من الرّاوي.   (1) أصل الفخذ، أو ما بين أعلاه وأسفل البطن «قاموس» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 ......... وفي رواية ابن خزيمة بالجزم؛ بلفظ: «رجز سلّط على طائفة من بني إسرائيل» . والتّنصيص عليهم أخصّ، فإن كان ذلك المراد؛ فكأنّه أشار بذلك إلى ما جاء في قصّة «بلعام» ، فأخرج الطّبريّ من طريق سليمان التّيمي- أحد صغار التّابعين- عن سيّار: أن رجلا كان يقال له «بلعام» كان مجاب الدّعوة، وإنّ موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها «بلعام» !!، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم!! فقال: أؤآمر ربّي! فمنع، فأتوه بهديّة؛ فقبلها!! وسألوه ثانيا. فقال: حتّى أؤآمر ربّي؟ فلم يرجع إليه بشيء!؟ فقالوا: لو كره لنهاك فدعا عليهم؛ فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك؟ فقال: سأدلّكم على ما فيه هلاكهم: أرسلوا النّساء في عسكرهم، ومروهنّ لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا؛ فيهلكوا؟ فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها بعض الأسباط، وأخبرها بمكانه؛ فمكّنته من نفسها!! فوقع في بني إسرائيل الطّاعون، فمات منهم سبعون ألفا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرّمح فطعنها، وأيّده الله فانتظمها جميعا» . وهذا مرسل جيّد، وسيار شاميّ موثّق. وذكر الطّبريّ- أيضا- هذه القصّة؛ عن محمّد بن إسحاق؛ عن سالم أبي النّضر بنحوه، وسمّى المرأة «كشتاء» - بفتح الكاف؛ وسكون المعجمة؛ وفوقية- والرجل «زمري» - بكسر الزّاي، وسكون الميم، وكسر الرّاء- رأس سبط شمعون. والّذي طعنهما «فنحاص» - بكسر الفاء، وسكون النون؛ ثمّ مهملة؛ فألف؛ فمهملة- ابن هارون. وقال في آخره: فحسب من هلك من الطّاعون سبعون ألفا!! والمقلّل يقول: عشرون ألفا! وهذه الطّريق تعضد الأولى. وذكر ابن إسحاق في «المبتدأ» : أنّ بني إسرائيل لما كثر عصيانهم؛ أوحى الله إلى داود فخيّرهم بين ثلاث: إمّا أن أبتليهم بالقحط سنتين؟، أو العدوّ شهرين؟ أو الطّاعون ثلاثة أيّام؟؟ فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا. فاختار الطّاعون، فمات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فإذا سمعتم به بأرض.. فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها.. فلا تخرجوا منها فرارا منه» . منهم- إلى أن زالت الشّمس- سبعون ألفا؟! وقيل: مائة ألف. فتضرّع داود إلى الله؛ فرفعه. وورد وقوع الطّاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أنّه المراد بقوله «أو من كان قبلكم» . من ذلك ما أخرجه الطّبريّ وابن أبي حاتم؛ عن سعيد بن جبير، قال: أمر موسى بني إسرائيل: أن يذبح كلّ رجل منهم كبشا، ثمّ يخضب كفّه في دمه، ثم يضرب به على بابه!! ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك؟ فقالوا: إنّ الله يبعث عليكم عذابا، وإنّنا ننجو منه لهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا!! فقال فرعون- عند ذلك- لموسى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ.. الآية [134/ الأعراف] . فدعا؛ فكشفه عنهم. وهذا مرسل جيّد الإسناد. وأخرج عبد الرزّاق في «تفسيره» ، وابن جرير عن الحسن؛ في قوله تعالى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [243/ البقرة] قال: فرّوا من الطّاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثمّ أحياهم؛ ليكملوا بقيّة آجالهم. فأقدم من وقفنا عليه- في المنقول- ممّن وقع الطّاعون به من بني إسرائيل في قصّة «بلعام» ، ومن غيرهم: في قصّة فرعون، وتكرّر بعد ذلك لغيرهم. انتهى. (فإذا سمعتم به بأرض؛ فلا تدخلوا عليه) لأنّه تهوّر؛ وإقدام على خطر، وإلقاء إلى التّهلكة، كمن أراد دخول دار؛ فرأى فيها حريقا تعذّر طفؤه، فعدل عن دخولها لئلّا يصيبه، وليكون ذلك أسكن للنّفس، وأطيب للعيش، ولئلا يقعوا في اللّوم المنهيّ عنه، بلوم أنفسهم؛ فيما لا لوم فيه، لأن الباقي والنّاهض لا يتجاوز واحد منهم أجله. (وإذا وقع بأرض؛ وأنتم بها فلا تخرجوا منها، فرارا منه» ) لأنّه فرار من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 ......... القدر، فالأوّل تأديب وتعليم، والثّاني تفويض وتسليم. قال ابن عبد البرّ: النّهي عن الدّخول لدفع ملامة النّفس، وعن الخروج للإيمان بالقدر. انتهى. والأكثر على أنّ النّهي عن الفرار منه للتّحريم. وقيل: للتّنزيه. ومفهوم الحديث جوازه لشغل عرض غير الفرار، وحكي عليه الاتفاق. قال الحافظ ابن حجر: ولا شكّ أنّ الصّور ثلاث: 1- من خرج لقصد الفرار محضا، فهذا يتناوله النّهي؛- لا محالة-. و2- من خرج لحاجة متمحّضة، لا لقصد الفرار أصلا، ويتصوّر ذلك فيمن تهيّأ للرّحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته- مثلا- ولم يكن الطّاعون وقع؛ فاتّفق وقوعه أثناء تجهّزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي. الثّالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها، وانضمّ إلى ذلك أنه قصد الرّاحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطّاعون؟ فهذا محلّ النّزاع، كأن تكون الأرض الّتي وقع بها وخمة والأرض الّتي يتوجّه إليها صحيحة؛ فتوجّه بهذا القصد إليها!!. فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة. ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحّض القصد للفرار، وإنّما هو لقصد التّداوي. انتهى. وقد ذكر العلماء في النّهي عن الخروج حكما: منها أنّ الطّاعون يكون في الغالب عامّا في البلد- الّذي يقع فيه، فإذا وقع؟ فالظّاهر مداخلة سببه لمن هو بها؛ فلا يفيده الفرار، لأنّ المفسدة إذا تعيّنت حتّى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا؛ فلا يليق بالعاقل. ومنها أنّ النّاس لو تواردوا على الخروج؛ لصار من عجز عنه بالمرض المذكور، أو بغيره، أو الكبر ضائع المصلحة، لفقد من يتعهّده حيّا وميتا وأيضا لو شرع الخروج فخرج، الأقوياء؛ لكان في ذلك كسر قلوب الضّعفاء الّذين لا يقدرون على الخروج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وروي هذا الحديث ... ومنها ما ذكره بعض الأطبّاء: أن المكان الّذي يقع به الوباء؛ تتكيّف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة؛ فتألفها، ويصير لهم كالأهوية الصّحيحة لغيرهم. فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة؛ لم توافقهم! بل ربّما إذا استنشقوا هواءها، استصحب معه إلى القلب؛ من الأبخرة الرّديّة، الّتي حصل تكيّف بدنها بها، فأفسدته!؟ فمنع من الخروج لهذه النّكتة. ومنها أنّ الخارج يقول: لو أقمت لأصبت بالطّاعون!! والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت! فيقع في «اللّو» المنهيّ عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم: «إيّاك» و «لو» ؛ «فإنّ لو من الشّيطان» . رواه مسلم. انتهى. من «المواهب» وشرحها. فإن قيل: ظاهر الحديث ليس فيه طبّ من الطّاعون؟ وإنّما فيه نهيه عن الخروج والدّخول؟ والجواب: أنّه نهي شرعيّ، مشتمل على طبّ بدنيّ، لأن النّبي صلى الله عليه وسلم جمع للأمّة في نهيه عن الدّخول إلى الأرض، الّتي هجر بها، ونهيه عن الخروج منها، بعد وقوعه جمع لها كمال التّحرّز منه، لأن في الدّخول في الأرض الّتي هو بها تعرّضا للبلاء، وتجنّب الدّخول من باب الحمية الّتي أرشدنا الله إليها، وهي حمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية، كما أنّ نهيه عن الخروج من بلده؛ فيه حمل النّفوس على الثّقة بالله والتّوكّل عليه، والصّبر على أقضيته؛ والرّضا بها. فظهر المعنى الطّبّي من الحديث النّبويّ، وما فيه من علاج القلب والبدن، وصلاحهما؛ كما ذكره ابن القيّم رحمه الله تعالى. (و) قد (روي) - ببناء المجهول- (هذا الحديث) ؛ أي: حديث الطّاعون، الّذي رواه أسامة المذكور؛ وليس المراد بصيغة التّمريض الإشارة إلى ضعف الحديث؟ بل القصد بها الاختصار بحذف راويه، لأنّ الحديث صحيح؛ رواه البخاريّ في «الطّبّ والحيل» ، ومسلم في «الطّبّ» ، وأبو داود في «الجنائز» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 عن عبد الرّحمن بن عوف أيضا رضي الله تعالى عنه. (عن عبد الرّحمن بن عوف) الزّهري (أيضا رضي الله تعالى عنه) ، ولفظه كما في مسلم؛ عن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- أنّ عمر بن الخطّاب خرج إلى الشّام، حتّى إذا كان ب «سرغ» لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجّراح وأصحابه، فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشّام، قال ابن عبّاس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأوّلين. فدعوتهم؛ فاستشارهم؛ وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشّام! فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه؟! وقال بعضهم: معك بقيّة النّاس، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء!! فقال: ارتفعوا عنّي. ثمّ قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم!! فقال: ارتفعوا عنّي!! ثمّ قال: ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش؛ من مهاجرة الفتح!! فدعوتهم؛ فلم يختلف عليه رجلان!! فقالوا: نرى أن ترجع بالنّاس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في النّاس: إنّي مصبح على ظهر؛ فأصبحوا عليه!. فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: أفرارا من قدر الله!؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! - وكان عمر يكره خلافه- نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان: إحداهما خصبة، والآخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟؟! وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟؟!. قال: فجاء عبد الرّحمن بن عوف- وكان متغيّبا في بعض حاجته- فقال: إنّ عندي من هذا علما!! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه!! قال: فحمد الله عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ثمّ انصرف. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 وفي «سنن أبي داود» مرفوعا: «إنّ من القرف التّلف» . قال ابن قتيبة: (القرف) مداناة الوباء، ومداناة المرضى. وفي «صحيح البخاريّ» : ... (وفي «سنن أبي داود» ) السّجستانيّ في كتاب «الطّبّ» (مرفوعا) ولفظه: حدّثنا مخلد بن خالد، وعبّاس العنبري؛ قالا: حدّثنا عبد الرّزاق؛ قال: أخبرنا معمر؛ عن يحيى بن عبد الله بن بحير، قال: أخبرني من سمع فروة بن مسيك رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض «أبين» هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبيئة، أو قال: وباؤها شديد؟؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «دعها عنك ف (إنّ من القرف) - بفتحتين-: ملابسة الدّاء، ومداناة المرض» ، كما سيأتي تفسيره في المتن عن المصنّف: (التّلف» ) ؛ أي: الهلاك، وليس هذا من باب العدوى؟! وإنّما هو: من باب الطّبّ، فإنّ استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحّة الأبدان، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام؛ قاله في «النّهاية» . (قال) الإمام أبو محمّد عبد الله بن مسلم (بن قتيبة) الدّينوري. ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد، وسكن الكوفة، ثمّ ولي قضاء «الدّينور» مدة فنسب إليها، وتوفّي ببغداد سنة: ستّ وسبعين ومائتين، وهو من المصنّفين المكثرين؛ له كتاب «أدب الكاتب» ، و «تأويل مختلف الحديث» ، و «مشكل القرآن» ، و «المشتبه من الحديث والقرآن» وغيرها رحمه الله تعالى قال: (القرف) - بفتح القاف والرّاء آخره فاء هو: (مداناة الوباء) ؛ أي: مقاربته، وكلّ شيء قاربته؛ فقد قارفته (ومداناة المرضى) جمع مريض، أي: القرب منهم، ومخالطتهم؛ وملاصقتهم. والله أعلم. (وفي «صحيح) الإمام (البخاريّ» ) رحمه الله تعالى، وكذا رواه الإمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشّفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار. وأنهى أمّتي عن الكيّ» . أحمد، وابن ماجه (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الشّفاء في ثلاث) الحصر المستفاد من تعريف المبتدأ «ادّعائيّ» . بمعنى: أنّ الشّفاء في هذه الثّلاثة بلغ حدّا كأنّه انعدم به من غيرها، ولم يرد الحصر الحقيقيّ!! فإنّ الشّفاء قد يكون في غيرها! وإنّما نبّه بها على أصول العلاج: (شربة) - بالجرّ؛ بدل من سابقه- (عسل) نحل، لأنّه مسهّل للأخلاط البلغميّة، (وشرطة محجم) يتفرّغ بها الدّم الّذي هو أعظم الأخلاط عند هيجانه؛ لتبريد المزاج، والمحجم- بكسر الميم؛ وسكون المهملة؛ وفتح الجيم-: الآلة التي يجمع فيه دم الحجامة عند المصّ، ويراد به هنا: الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة. يقال: شرطة الحاجم: إذا ضرب موضع الحجامة، لإخراج الدّم وقد تتناول الفصد. وأيضا: الحجامة في البلاد الحارّة أنفع من الفصد، والفصد في البلاد الّتي ليست بحارّة أنجح من الحجم. انتهى «قسطلّاني» . (وكيّة نار) تستعمل في الخلط الباغي، الّذي لا تنحسم مادّته إلّا به، فهو خاصّ بالمرض المزمن، لأنّه يكون من مادّة باردة قد تفسد مزاج العضو! فإذا كوي خرجت منه. وآخر الدّواء الكيّ. و «كيّة» مضافة لتاليها. (وأنهى أمّتي) نهي تنزيه (عن الكيّ» ) لما فيه من الألم الشّديد، والخطر العظيم. وكانوا يبادرون إليه قبل حصول الاضطرار إليه؛ يستعجلون بتعذيب الكيّ لأمر مظنون! فنهى صلى الله عليه وسلم أمّته عنه لذلك، وأباح استعماله على جهة طلب الشّفاء من الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وفي «سنن ابن ماجه» : عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما مررت ليلة أسري بي بملأ.. إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة» ... وأخذ من إثباته الشّفاء في الكيّ، وكراهته له؛ أنه لا يترك مطلقا، ولا يستعمل مطلقا، بل عند تعيّنه طريقا إلى الشّفاء، مع مصاحبة اعتقاد أنّ الشّفاء بإذن الله تعالى وعلى هذا التّفصيل يحمل حديث المغيرة: «من اكتوى واسترقى برىء من التّوكّل» والله أعلم. انتهى شروح «الجامع الصّغير» . (وفي «سنن ابن ماجه) محمد بن يزيد القزويني رحمه الله تعالى قال: حدّثنا جبارة بن المغلّس؛ قال: حدّثنا كثير بن سليم؛ (عن أنس) ؛ أي: ابن مالك لأنّه المراد عند إطلاق لفظ «أنس» ، فإذا أريد غيره قيّد (رضي الله تعالى عنه) ، وهو حديث منكر، لأنّ فيه كثير بن سليم الضّبيّ ضعّفوه- كما في «الميزان» وعدّوا من مناكيره هذا-؛ قاله المناوي. ورواه التّرمذيّ؛ عن ابن مسعود بمخالفة يسيرة، وفي سنده راو مضعّف، وقال التّرمذيّ: حسن غريب، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. (قال) ؛ أي: أنس: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت ليلة أسري بي) إلى السّماء (بملأ) ؛ أي: جماعة (إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة) ؛ لأنهم من بين الأمم كلّهم أهل يقين، فإذا اشتعل نور اليقين في القلب ومعه حرارة الدّم؛ أضرّ بالقلب وبالطّبع. وقال التّوربشّتي: وجه مبالغة الملائكة في الحجامة سوى ما عرف منها من المنفعة العائدة على الأبدان: أنّ الدّم مركّب من القوى النّفسانيّة الحائلة بين العبد؛ وبين التّرقّي إلى الملكوت الأعلى، والوصول إلى الكشوف الرّوحانية وغلبته تزيد جماح النّفس وصلابتها، فإذا نزف الدّم أورثها ذلك خضوعا وجمودا ولينا ورقّة، وبذلك تنقطع الأدخنة المنبعثة عن النّفس الأمّارة، وتنحسم مادّتها؛ فتزداد البصيرة نورا إلى نورها. انتهى «مناوي» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 ورواه التّرمذيّ: عن ابن عبّاس بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» . وقد روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة والفصد» . وفي حديث: «خير الدّواء.. الحجامة والفصد» . (ورواه) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ) مطوّلا، وابن ماجه، والحاكم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، وفي سنده عبّاد بن منصور النّاجي: ضعّفه أبو حاتم، وليّنه أبو زرعة، وفي «التقريب» : إنّه صدوق رمي بالقدر، وكان يدلّس، وتغيّر بأخرة. وفي «الخلاصة» : قال القطّان: ثقة؛ لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه. يعني: القدر. انتهى. ولذلك قال التّرمذيّ فيه: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث عبّاد بن منصور. وقال الحاكم: صحيح. وأقرّه الذّهبيّ. (بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» ) ؛ أي: الزمها ومر أمّتك بها. كما تقدّم-. وذلك دلالة على عظيم فضلها، وبركة نفعها، وإعانتها على التّرقّي في الملكوت الأعلى- كما تقدم آنفا-. (وقد روي) بسند ضعيف، وفي «العزيزي» : أنّه حديث حسن لغيره، رواه أبو نعيم في «الطّبّ النّبويّ» ؛ عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «خير ما) ؛ أي: دواء (تداويتم به: الحجامة) سيّما في البلاد الحارّة، (والفصد) والحجامة أنفع لأهل البلاد الحارّة، والفصد لغيرهم أنفع. (وفي حديث) آخر رواه أبو نعيم أيضا بسند ضعيف في كتاب «الطّبّ النّبويّ» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه بلفظ: ( «خير الدّواء الحجامة والفصد» ) لمن لاق به ذلك وناسب حاله مرضا؛ وسنا؛ وقطرا؛ وزمنا، وغير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وروى التّرمذيّ في «جامعه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يرفعه: «إنّ خير ما تحتجمون فيه يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فأصابه بياض، أو برص.. فلا يلومنّ إلّا نفسه» . (وروى) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ في «جامعه» ) كتاب «الطّبّ» ، والحاكم في «المستدرك» كلّهم؛ من طريق عبّاد بن منصور المذكور قريبا. وما قيل فيه سابقا يقال هنا، لأنّه حديث واحد، ذكر هنا قطعة منه حيث قال: (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يرفعه) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( «إنّ خير ما تحتجمون فيه: يوم سابع عشرة) من الشّهر، (أو تاسع عشرة) منه، (ويوم إحدى وعشرين) منه لا سيّما إذا وافق يوم الإثنين!! فإنّه أجود أيّام الحجامة. و «عشرين» في هذه الرّواية- بالنّصب- والجيّد أن يكون مرفوعا، لأنّه خبر، فيتكلّف له تقدير ناصب، مثل: وترى الأخيرية إحدى وعشرين؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» . (و) روى الخلّال؛ عن أبي سلمة، وأبي سعيد المقبري؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( «من احتجم يوم الأربعاء؛ أو يوم السّبت، فأصابه بياض؛ أو برص، فلا يلومنّ إلّا نفسه» ) فإنّه الّذي عرّض جسده لذلك، وتسبّب فيه. روى الدّيلمي؛ عن أبي جعفر النّيسابوري؛ قال: قلت يوما «هذا الحديث غير صحيح» ، فافتصدت يوم الأربعاء؛ فأصابني برص!! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّوم فشكوت إليه؟! فقال: «إيّاك والاستهانة بحديثي» .. فذكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وروى الدّارقطنيّ ... وقد كره الإمام أحمد الحجامة يوم السّبت والأربعاء لهذا الحديث. والظّاهر أنّ الفصد مثل الحجامة في اجتنابه في الأيّام المنهيّ عنها. والله أعلم. ورواه أيضا الحاكم، والبيهقي في «سننه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فرأى في جسده وضحا «1» !؟ فلا يلومنّ إلا نفسه» . قال الحاكم: صحيح، وردّه الذّهبيّ؛ بأنّ فيه سليمان بن أرقم؛ متروك!! وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ؛ قاله المناوي. (وروى) الإمام الحافظ؛ وحيد دهره؛ وفريد عصره: عليّ بن عمر بن مهدي: أبو الحسن (الدّارقطنيّ) - بفتح الدّال المهملة، وبعد الألف راء مفتوحة، ثمّ قاف مضمومة، وبعدها طاء مهملة ساكنة، ثمّ نون مكسورة آخره ياء، نسبة إلى «دار القطن» محلّة كبيرة ببغداد-. الشّافعيّ. ولد سنة: ست وثلثمائة ب «دار القطن» ، وكان عالما؛ حافظا؛ فقيها على مذهب الإمام الشّافعي، أخذ الفقه عن أبي سعيد الاصطخريّ، وانفرد بالإمامة في علم الحديث في عصره؛ فلم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه، وتصدّر في آخر أيّامه للإقراء ببغداد، وكان عارفا باختلاف الفقهاء، وأخذ عنه الحافظ أبو نعيم صاحب «الحلية» وجماعة. وكانت وفاته سنة: خمس وثمانين وثلثمائة؛ وقد قارب الثّمانين. وكان متفنّنا في علوم كثيرة؛ وإماما في علوم القرآن، تصدّر في آخر أيّامه للإقراء ببغداد. وله من المصنّفات: كتاب «السنن» ، وكتاب «العلل» الواردة في الأحاديث   (1) الوضح- بفتحتين-: الضوء والبياض؛ وقد يكنّى به عن البرص ا. هـ «مختار» . (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 من حديث نافع قال: لي عبد الله بن عمر: تبيّغ بي الدّم، فأبغني حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحجامة.. تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا، ... النّبويّة: ثلاث مجلّدات، و «المجتبى من السّنن المأثورة» و «المؤتلف والمختلف في الحديث» ، وكتاب «الضّعفاء» . وتوفي ببغداد، وصلى عليه الشّيخ أبو حامد الإسفرائينيّ الفقيه المشهور رحمهم الله تعالى. آمين. روى هذا الحديث في كتاب «الأفراد» ؛ (من حديث) أبي عبد الله (نافع) بن هرمز- ويقال ابن كاوس- سبي وهو صغير فاشتراه عبد الله بن عمر. وهو تابعيّ جليل سمع سيّده ابن عمر؛ وأبا هريرة؛ وأبا سعيد الخدري؛ وعائشة؛ وغيرهم من الصّحابة والتّابعين. روى عنه أبو إسحاق السّبيعيّ والزّهريّ، وصالح بن كيسان؛ وغيرهم من التابعين ومن تابع التابعين، سمع منه مالك؛ وابن جريج؛ والأوزاعيّ؛ واللّيث، وخلائق لا يحصون. وأجمعوا على توثيقه وجلالته. وكان ثقة كثير الحديث. مات بالمدينة المنورة سنة: سبع عشرة ومائة رحمه الله تعالى. (قال) ؛ أي: نافع: (قال لي عبد الله بن عمر) بن الخطّاب «مولاه» : (تبيّغ) - بمثنّاة فوقيّة فموحّدة؛ مفتوحتين، فمثنّاة تحتيّة مشدّدة مفتوحة، فغين معجمة آخره؛ من باب التّفعّل- أي: هاج (بي الدّم) وغلب، وذلك حين تظهر حمرته في البدن. (فأبغني) يقال: أبغني كذا- بهمزة القطع-؛ أي: أعنّي على الطّلب، وبهمزة الوصل-: أي: اطلب لي (حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحجامة تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 فاحتجموا على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة، والسّبت، والأحد. واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» . وقد روى أبو داود في «سننه» : من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنّه كان يكره الحجامة يوم الثّلاثاء. وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم الثّلاثاء.. يوم الدّم، فاحتجموا) معتمدين (على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة؛ والسّبت؛ والأحد؛ واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام، ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» ) . قال الدّارقطني: تفرّد بهذا الحديث زياد بن يحيى، وقد رواه أيّوب عن نافع، وقال فيه: «واحتجموا يوم الاثنين والثّلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء» . ذكره ابن القيّم قال: (وقد روى أبو داود في «سننه» ) ؛ كتاب «الطّبّ» بسند فيه بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، قال ابن معين: ليس بشيء، وابن عدي: هو من جملة الضّعفاء الذين يكتب حديثهم. وقال الذّهبيّ: إسناده ليّن، وأمّا زعم ابن الجوزيّ وضعه؟ فلم يوافقوه عليه. انتهى «مناوي» . (من حديث أبي بكرة) - بفتح الموحّدة-: واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة (رضي الله تعالى عنه: أنّه) ؛ أي: أبا بكرة (كان يكره الحجامة يوم الثّلاثاء) لفظ أبي داود: كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثّلاثاء- (وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الثّلاثاء) - بالمدّ- (يوم الدّم) برفع «يوم» وإضافته إلى الدّم، أي: يوم غلبة الدّم وهيجانه، أي: يفور فيه الدّم، فيحذر من إخراجه فيه بفصد أو غيره؛ لئلّا يصادف وقت فوران الدّم، فلا ينقطع فيموت. ويحتمل أن يكون المراد «يوم الدّم» : أي: أوّل يوم أريق فيه الدّم بغير حقّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وفيه ساعة لا يرقأ» . فإنّه اليوم الذّي قتل فيه قابيل أخاه هابيل. (وفيه) ؛ أي: يوم الثلاثاء (ساعة) ؛ أي: لحظة (لا يرقأ) - بهمز آخره- أي: لا ينقطع فيها دم من احتجم أو افتصد، وربما هلك الإنسان فيها بسبب عدم انقطاع الدّم. قال ابن جرير: قال زهير: مات عندنا ثلاثة ممّن احتجم. وأخفيت هذه السّاعة!! لتترك الحجامة فيه كلّه؛ خوفا من مصادفتها، كما أخفيت ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر. وأخرج الدّيلمي؛ عن أنس مرفوعا: «الحجامة على الرّيق دواء، وعلى الشّبع داء، وفي سبعة عشر من الشّهر شفاء، ويوم الثّلاثاء صحّة للبدن» . وأخرج ابن سعد، والبيهقيّ- وضعّفه- عن معقل بن يسار؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحجامة يوم الثّلاثاء لسبع عشرة مضت من الشّهر دواء لداء سنة» . ويجمع بين هذا الاختلاف بحمل طلب الحجامة في الثّلاثاء؛ على ما إذا كان موافقا السّابع عشر من الشّهر. وبحمل التّحذير منها فيه؛ على ما إذا لم يوافق السّابع عشر من الشّهر. والله أعلم. روى أبو يعلى؛ من حديث الحسين بن علي مرفوعا: «في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل يحتجم فيها إلّا مات» . قال المناوي: يحتمل أنّ المراد به يوم الجمعة، فيكون كيوم الثّلاثاء في ذلك، ويحتمل أنّ المراد الجمعة كلّها يعني: الأسبوع. وأنّ الحديث المشروح عيّن تلك السّاعة، في يوم الثّلاثاء، والأوّل أقرب، ولم أر من تعرّض له. انتهى. وفي «فتاوي ابن حجر الفقهيّة» قبيل باب «المسابقة والمناضلة» ما نصّه: وسئل رحمه الله تعالى: هل ورد النّهي عن الحجامة في بعض الأيّام؛ والأمر بها في البعض؟ فأجاب بقوله: نعم، ورد- بل صحّ- النّهي عنها يوم الجمعة؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وروى التّرمذيّ في «جامعه» وابن ماجه في «سننه» : عن أسماء بنت عميس ... والسّبت؛ والأحد؛ والأربعاء،!! وفي روايات أخر: «إنّ يوم الثّلاثاء يوم الدّم، وإنّ فيه ساعة لا ينقطع فيها الدّم، وإنّه يخشى منها يوم الأربعاء والسّبت البرص، وأنّ في يوم الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلّا مات» . وصح الأمر بها يوم الخميس والإثنين. والله سبحانه أعلم. انتهى. قال الباجوري؛ على «الشّمائل التّرمذيّة» : وأفضل الأيّام لها: يوم الإثنين، وأفضل السّاعات لها: السّاعة الثانية والثالثة من النّهار. وينبغي ألاتقع عقب استفراغ؛ أو حمّام؛ أو جماع، ولا عقب شبع؛ ولا جوع، ومحلّ اختيار الأوقات المتقدّمة عند عدم هيجان الدّم. وإلّا وجب استعمالها وقت الحاجة إليها. انتهى. (وروى التّرمذيّ في «جامعه» ) وقال: غريب، (وابن ماجه في «سننه» ) ، والإمام أحمد، والحاكم. وقال الذّهبي: صحيح. كلّهم في «الطّبّ» ؛ (عن أسماء بنت عميس) - بعين مهملة مضمومة، ثمّ ميم مفتوحة مخفّفة، ثمّ ياء مثنّاة من تحت ساكنة، ثمّ سين مهملة آخره مصغرا الخثعميّة-. كانت تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ثمّ قتل عنها يوم مؤتة، وولدت له عبد الله؛ ومحمّدا؛ وعونا. ثم تزوّجها أبو بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه فمات عنها، وولدت له محمّد ابن أبي بكر. ثمّ تزوجها عليّ رضي الله عنه وولدت له يحيى. روى عنها من الصّحابة: عمر بن الخطّاب، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن عبّاس، وابنها عبد الله بن جعفر. ومن غير الصّحابة: عروة بن الزّبير؛ وعبد الله بن شدّاد. وأسماء المذكورة أخت ميمونة بنت الحارث «زوج النبي صلى الله عليه وسلم» ، وأخت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بماذا كنت تستمشين؟» ، قالت: بالشّبرم، قال: «حارّ.. حارّ» ، ثمّ قالت: استمشيت بالسّنى ... أمّ الفضل امرأة العبّاس وأخت أخواتها لأمّهنّ، وكنّ عشر أخوات لأمّ، وقيل: تسع. وكانت أسماء المذكورة أكرم النّاس أصهارا، فمن أصهارها: رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة، والعبّاس وغيرهم. أسلمت أسماء قديما، قال ابن سعد: أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها بعد عليّ بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنها) وعنهم أجمعين. (قالت) ؛ أي: أسماء (: قال) لي (رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا) ؛ أي: بأيّ دواء (كنت تستمشين؟!» ) - أي: تطلبين مشي بطنك- أي: إخراج ما فيه. (قالت: بالشّبرم) - بضمّ الشّين المعجمة والرّاء بينهما موحّدة ساكنة وآخره ميم، وقد يفتح أوّله- (قال: «حارّ حارّ» ) ؛ أي: شديد الحرارة، فالثّاني تأكيد لفظي، ويحتمل أن الثّاني بجيم، وشدّ الرّاء إتباع ل «حارّ» بمهملتين؛ كما في «النّهاية» ، يقال: حار جار، ويقال: حار يار- بمثنّاة تحتيّة- على الإتباع أيضا. (ثمّ قالت) ؛ أي: أسماء (: استمشيت بالسّنى) - بفتح السّين والنّون، والقصر وقد يمدّ-: نبت معروف أجوده ما يكون بمكّة. وشرب مائه مطبوخا أصلح من شرب «1» مدقوقا، ومقدار الشّربة منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم. وله منافع كثيرة؛ منها أنه إذا طبخ في زيت، وشرب نفع من أوجاع الظّهر والوركين.   (1) لعلها: شربه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 فقال: «لو كان شيء يشفي من الموت.. كان السّنى» . و (الشّبرم) : قشر عرق شجرة. (فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «لو كان شيء يشفي من الموت؛ كان السّنى» ) مبالغة في كثرة منافعه. وذكر المحاسبيّ في كتابه المسمّى ب «المقصد والرّجوع إلى الله» : أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم شرب السّنا بالتّمر، أي: وضعهما في الماء، وشربه، أي: ليبس الطّبيعة، وبوضعهما في الماء، يندفع اجتماع حارّين، المنهيّ عنه عند الأطبّاء لضرره؛ ذكره الزرقاني مع «المواهب» . وذكر في «المواهب» أيضا: أن الحميديّ ذكر في كتاب «الطّبّ النّبويّ» له: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والشّبرم!! فإنّه حارّ حارّ، وعليكم بالسّنى، فتداووا به، فلو دفع الموت شيء، لدفعه السّنى» !! انتهى. قال العلماء: (والشّبرم) - بالشّين المعجمة المضمومة، والموحّدة السّاكنة، والرّاء المهملة المضمومة، وآخره ميم؛ كقنفذ- هو: (قشر عرق شجرة) . وفي «النّهاية» : حبّ يشبه الحمّص؛ يطبخ ويشرب ماؤه للتّداوي. وقال أبو حنيفة: الشّبرم شجرة حارّة تسمو على ساق؛ كقعدة الصّبيّ أو أعظم، لها ورق طوال رقاق، وهي شديدة الخضرة، وزعم بعض الأعراب: أن لها حبّا صغارا كجماجم الحمر!! وقيل: الشّبرم: نبات آخر سهليّ، له ورق طوال كورق الحرمل، وله حبّ كالعدس، أو شبه الحمّص، وله أصل غليظ ملآن لبنا، والكلّ مسهل. واستعمال لبنه خطر جدّا، وإنّما يستعمل أصله مصلحا؛ بأن ينقع في الحليب يوما وليلة، ويجدّد اللّبن ثلاث مرات، ثمّ يجفّف وينقع في عصير الهندباء والرازيانج، ويترك ثلاثة أيام، ثمّ يجفّف، وتعمل منه أقراص مع شيء من التّربد؛ والهليلج؛ والصّبر، فإنّه دواء فائق. انتهى. «شرح القاموس» «1» .   (1) بل هو بتمامه في «القاموس» . (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وفي «سنن ابن ماجه» : عن عبد الله بن أمّ حرام [رضي الله تعالى عنه]- وكان ممّن صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القبلتين- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عليكم بالسّنى والسّنّوت، فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ» ، قيل: يا رسول الله؛ وما السّامّ؟ قال: «الموت» . قال في «المواهب» : وهو من الأدوية الّتي منع الأطبّاء من استعمالها، لخطرها وفرط إسهالها، وإنّما أجازوه بالتّدبير الّذي رأيت عن «القاموس» . (وفي «سنن ابن ماجه) و «مستدرك الحاكم» كلاهما في «الطّبّ» ؛ من حديث عمرو بن بكر السّكسكي؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن أبي عبلة. (عن عبد الله بن أمّ حرام) وهو عبد الله بن عمرو، وقيل: بن كعب الأنصاريّ. نزل بيت المقدس، وهو آخر من مات من الصّحابة بها، وزعم ابن حبّان: أن اسمه سمعون، له هذا الحديث، قال الحاكم: إنّه حديث صحيح، وردّه الذّهبيّ بأنّ عمرو بن بكر السّكسكي المذكور اتّهمه ابن حبّان! وقال ابن عديّ: له مناكير! انتهى. (وكان) ؛ أي: عبد الله ابن أمّ حرام (ممّن صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين) ؛ أي: إليها، أي: الكعبة، وبيت المقدس (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسّنى) قال ابن الأثير: يروى بضمّ السّين؛ والفتح أفصح، أي: وبالقصر: نبت معروف. (والسّنّوت) - بوزن التّنّور والسّنّور، وسيأتي معناه- (فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ) - بمهملة من غير همز-. (قيل يا رسول الله: وما السّامّ؟ قال: «الموت» ) فيه أنّ الموت داء من جملة الأدواء، قال الشّاعر: ... كذاك الموت ليس له دواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 و (السّنى) : نبت حجازيّ، أفضله المكّيّ. واختلف في معنى (السّنّوت) على أقوال، وأقربها إلى الصّواب: أنّه ... (والسّنا) - بفتح السّين والقصر، وبعضهم يرويه بالمدّ-: (نبت) ذو ورق رقيق، واحدته سناة، ومنه (حجازيّ) ؛ أي: نبت في الحجاز. ومنه ما يأتي من نواحي صعيد مصر، و (أفضله المكّيّ) ؛ أي: الّذي يأتي من مكّة. وهو دواء شريف، مأمون الغائلة، قريب الاعتدال، يسهّل الصّفراء؛ والسّوداء؛ والبلغم؛ والدّم؛ كيف استعمل فهو موافق للأخلاط الأربعة، بعضها بالطّبع، وبعضها بالخاصّيّة على زعم الأطبّاء، وما طبخ منه أجود ممّا لم يطبخ، فيشرب من مائة خمسة دراهم إلى سبعة دراهم، ولا يزاد عليها!. قال في «الهدي» : شرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا، ومقدار الشّرب منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم، وإذا أغلي بالزّيت نفع لوجع الظهر والوركين، وينفع للحكّة والجرب. (واختلف في معنى السّنّوت) - بالفتح؛ كتنّور على المشهور، ويروى بضمّ السّين، فلا عبرة بمن أنكره، وفيه لغة على مثال سنّور وأفصحها الفتح- (على أقوال) . فقيل: هو الزّبد «1» ، وقيل: هو الجبن المعروفان وقيل: هو الرّب «2» بضمّ الرّاء- أي: ربّ عكّة السّمن يخرج خطوطا سودا على السّمن، فتلك الخطوط هي السّنّوت. وقيل: حبّ يشبه الكمّون؛ وليس به. وقيل: هو الكمّون الكرماني. وقيل إنّه الرّازيانج، وهو الشّمار بلغة اليمن، أو الشّمر بلغة مصر، وقيل: ضرب من التّمر. (وأقربها إلى الصّواب) في تفسير قوله «عليكم بالسّنى والسّنّوت» (أنّه) ؛   (1) الزّبد: ما يستخرج في اللبن بالمخض. القطعة منه: زبدة. (عبد الجليل) . (2) الرّبّ: هو الطلاء الخاثر. وزنجبيل. اهـ مختار. الرّبّ: عصارة التمر المطبوخة وما يطبخ في التمر والعنب. (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 العسل الّذي يكون في زقاق السّمن. وروى التّرمذيّ: عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت» . أي: السّنّوت: (العسل) النّحل (الّذي يكون في زقاق السّمن) - بكسر الزّاي-، أي: السّقاء الّذي يجعل فيه، أي: يخلط السّنى حال كونه مدقوقا بالعسل المخالط للسّمن، ثمّ يلعق؛ فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما في العسل والسّمن من إصلاح السّنى، وإعانته على الإسهال، لأنّ رطوبتهما تقاوم اليبس الّذي في السّنى؛ فتصلحه. (وروى) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ) ، وابن ماجه، والحاكم- وصحّحه- كلّهم؛ (عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تداووا من ذات الجنب) المراد بها هنا: رياح غليظة تحتقن تحت الجلد الّتي في الصدر والأضلاع؛ فتحدث وجعا. وليس المراد ذات الجنب الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه الأطبّاء!! لأنّه من الأمراض المخوفة- كما سيأتي-. (بالقسط) - بضمّ القاف- وفي لغة: بالكاف بدل القاف (البحريّ) قال المازري: القسط صنفان: بحريّ وهنديّ، والبحريّ هو القسط الأبيض، ويؤتى به من بلاد المغرب، وهو أفضل من الهنديّ. وأقلّ حرارة منه. وقيل: هما حارّان يابسان، والهنديّ أشدّ حرّا. وتعقّبه القرطبيّ: بأنّ البحريّ الأبيض أحد نوعي العود الهندي، فكيف يؤتى به من بلاد المغرب. والفرض أنّه هندي؟! إلا أن يعني بالمغرب: المغرب من بلاد الهند. انتهى. وبذلك يعلم أنّ المراد بالبحري أحد نوعي الهنديّ، وهو الأبيض البحريّ. لكن في «شرح القسطلّاني» : أنّ البحريّ يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب. (والزّيت) المسخّن بأن يدقّا ناعما ويخلط به، ويدلك به محلّه، أو يلعق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 و (ذات الجنب) : ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن للأضلاع، وألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب. فإنّه نافع له، محلّل لمادّته، مقوّ للأعضاء الباطنة؛ يفتح للسّدد، وغير ذلك. قال بعض العلماء: على المريض والطّبيب أن يعمل على أنّ الله أنزل الدّاء والدّواء، وأنّ المرض ليس بالتخليط؛ وإن كان معه، وأنّ الشّفاء ليس بالدّواء؛ وإن كان عنده، وإنّما المرض بتأديب الله، والبرء برحمته، حتى لا يكون كافرا بالله؛ مؤمنا بالدّواء، كالمنجّم إذا قال: «مطرنا بنوء كذا» ، ومن شهد الحكمة في الأشياء، ولم يشهد مجريها، صار بما علم منها أجهل من جاهلها؛ قاله الزّرقاني. (وذات الجنب: ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن) ؛ أيّ: الدّاخل (للأضلاع) ؛ أي: فيها بحيث جعل كالبطانة، وهذا هو ذات الجنب الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه الأطبّاء. ويحدث بسببه خمسة أمراض: الحمّى؛ والسّعال؛ والنّخس؛ وضيق النّفس؛ والنّبض المنشاري، أي: أنّ العروق تحرّك تحركا شديدا لأعلى ولأسفل، حركة تشبه حركة المنشار؛ وهو من الأمراض المخوفة. وهو من سيّء الأسقام، ولذا قال صلى الله عليه وسلم- لمّا لدّوه في مرضه؛ ظنّا منهم أنّ به ذات الجنب-: «ما كان الله ليسلّطها عليّ» . أي: ما كان الله مريدا لأن يسلّطها عليّ رحمة بي، ورأفة عليّ. (و) قد تطلق «ذات الجنب» على ما ذكره بقوله: (ألم يشبهه) ؛ أي: يشبه الورم الحارّ، الّذي هو ذات الجنب الحقيقيّ (يعرض) ذلك الألم (في نواحي الجنب) من رياح غليظة؛ مؤذية، تحتقن بين الصّفاقات «1» والعضل «2» الّتي في   (1) الصفاقات- بكسر الصاد وتخفيف الفاء-: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر. انتهى «زرقاني» . (هامش الأصل) . (2) العضل؛ جمع عضلة- بفتح المهملة والمعجمة-: كل عصبة معها لحم غليظ. انتهى «زرقاني» . (هامش الأصل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 و (القسط البحريّ) هو: العود الهنديّ. وفي «الصّحيحين» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة، والقسط البحريّ، ... الصّدر والأضلاع، يداوي به الرّيح الغليظة. وقد تطلق «ذات الجنب» على وجع الخاصرة (والقسط) - بضمّ القاف- (البحريّ هو: العود الهنديّ) الّذي يتبخّر به. وقال اللّيث: عود يجاء به من الهند؛ يجعل في البخور والدّواء. وقال بعضهم: العود خشب يأتي من قمار من الهند، ومن مواضع أخر، وأجوده القماريّ الرّزين؛ الأسود اللّون؛ الذّكي الرّائحة، الذّائب إذا ألقي على النّار، الرّاسب في الماء، ومزاجه حارّ يابس. انتهى «شرح القاموس» . (وفي «الصّحيحين» ) - كذا في النّسخ الّتي بأيدينا؛ وهو كذلك في «زاد المعاد» ، ولم أجده في «مسلم» بهذا اللّفظ!! وأمّا البخاري فلفظه: «إنّ أمثل ما تداويتم به: الحجامة والقسط البحريّ، ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط» . والحديث باللّفظ الّذي أورده المصنّف مذكور في «الجامع الصّغير» قال العزيزي: حديث صحيح، ورمز له في «الجامع الصّغير» برمز الإمام أحمد والنّسائي؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: ( «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة) لا سيّما في البلاد الحارّة، (والقسط) - بضمّ القاف- (البحريّ) وهو الأبيض. قال العلقمي: القسط ضربان: أحدهما الأبيض الّذي يقال له البحريّ، والآخر الهنديّ؛ وهو أشدّهما حرّا، والأبيض ألينهما ومنافعهما كثيرة جدا، وهما حارّان يابسان ينشّفان البلغم، ويقطعان الزّكام. وإذا شربا نفعا من ضعف الكبد والمعدة، ومن بردها، ومن حمّى الرّبع والورد، وقطعا وجع الجنب، ونفعا من السّموم. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة» . وفي «السّنن والمسند» عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ يسيل منخراه دما- فقال: «ما هذا؟» ، قالوا: به العذرة، أو: وجع في رأسه، ... وقال القرطبّي: البحريّ الأبيض أحد نوعي العود الهندي- كما تقدّم-. (ولا تعذّبوا صبيانكم) ؛ أي: أطفالكم (بالغمز) - بالغين المعجمة، والزّاي آخره- بأن يدخل أحدكم نحو الإصبع في حلق الطّفل، ويغمز محلّ الوجع؛ فينفجر منه دم أسود (من العذرة) - بضمّ المهملة، وسكون المعجمة-: وجع في الحلق يعتري الأطفال غالبا. وقيل: قرحة تخرج بين الأذن والحلق، سمّيت به!! لأنها تخرج عند طلوع العذراء؛ كوكب تحت الشّعراء، وطلوعها يكون في الحرّ. والمراد عالجوا العذرة بالقسط، بأن يسحق ويجعل في زيت، ويسخّن يسيرا على النّار، ويسقى الطّفل، ولا تعذّبوهم بالغمز، لأنّ مادّة العذرة دم يغلب عليه بلغم. وفي القسط تخفيف للرّطوبة، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن الغمز وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال. وأسهل عليهم. (وفي «السّنن والمسند» ) للإمام أحمد؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ رضي الله تعالى عنهما (قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ) صغير (يسيل منخراه) ؛ تثنية منخر، وفيه خمس لغات نظمها بعضهم؛ فقال: افتح لميم منخر وخائه ... واكسرهما، وضمّ أيضا معلنا وزد كمجلس وعصفور وقل ... خمس ب «قاموس» أتت فأتقنا (دما، فقال: «ما هذا؟» ) الّذي بهذا الصّبيّ. (قالوا: به العذرة، أو وجع في رأسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 فقال: «ويلكنّ؛ لا تقتلن أولادكنّ، أيّما امرأة أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه.. فلتأخذ قسطا هنديّا، فتحكّه بماء، ثمّ تسعطه فقال: «ويلكنّ) كلمة تقال لمن وقع في هلكة ولا يترحّم عليه، بخلاف «ويح» (لا تقتلن أولادكنّ) ؛ أي: لا تفعلن ما يكون سببا لقتلهم. (أيّما امرأة) - بزيادة «ما» ، لإفادة التّعميم- (أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه؛ فلتأخذ قسطا) - بضمّ القاف وبالطّاء، قال «البخاري» وهو الكست. يعني: بالكاف والفوقية- قال: مثل الكافور والقافور، ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله بن مسعود [قشطت] «1» قال «القرطبي» : وهذا من التّعاقب بين الحرفين. (هنديّا) يجلب من الهند. وهو نوعان: أسود وأبيض، ويقال له: بحريّ، وهو المراد هنا، لحديث زيد بن أرقم: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ، والزّيت» . هذا مفاد كلام القرطبي. وقال القسطلّاني في «شرح البخاري» : البحريّ ما يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، وزاد بعضهم ثالثا يسمّى ب «القسط المرّ» ، وهو كثير ببلاد الشّام؛ خصوصا السّواحل. قال في «نزهة الأفكار» : وأجودها البحري، وخياره الأبيض الخفيف الطّيب الرّائحة، وبعده الهندي؛ وهو أسود خفيف، وبعده الثّالث؛ وهو ثقيل، ولونه كالخشب البقس ورائحته ساطعة، وأجود ذلك كلّه: ما كان جديدا ممتلئا غير متاكل يلذع اللّسان. وكلّ دواء مبارك نافع. (فتحكّه بماء) ؛ أي: تحكّه على حجر بالماء، كذا في «المرقاة» . وقال «القرطبي» : أي: يدقّ ناعما. (ثمّ تسعطه) - بفتح التّاء والعين، وبضمّ العين؛ من سعط: كمنع ونصر،   (1) من قوله تعالى وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ [11/ التكوير] . وأما قراءة ابن مسعود رضي الله عنه [قشطت] فهي قراءة شاذّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 إيّاه» ، فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ. و (العذرة) : تهيّج في الحلق من الدّم. وقيل: قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق، وتعرض للصّبيان غالبا. و (القسط البحريّ) : هو العود الهنديّ، وهو الأبيض منه، وفيه منافع عديدة، ... وبضمّ التّاء وكسر العين؛ من أسعط (إيّاه» ) ؛ أي: تصبّه في أنفه. قال القرطبي: وهل يسعط به مفردا أو مع غيره؟! يسأل عن ذلك أهل المعرفة والتّجربة. ولا بدّ من النفع به، إذ لا يقول صلى الله عليه وسلم إلّا حقّا. (فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ) . قال في «المرقاة» : وقد حصل هذا المرض لولدي؛ وألحّ به، فأرادوا أن يغمزوا حلقه على طريقة النّساء فمنعتهنّ من ذلك تمسّكا بالحديث، واستعملت له القسط؛ فشفي منه سريعا، ولم يعاوده بعد ذلك، ووصفته لجماعة فبرأوا؛ مصداق قوله صلى الله عليه وسلم. (والعذرة) - بضمّ العين المهملة، وسكون الذّال المعجمة- (تهيّج) ؛ أي: ثوران ورم (في الحلق من الدّم) الّذي يغلب عليه البلغم. (وقيل) هي: (قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق) ، أو تخرج في الخرم الّذي بين الأنف والحلق، وهو الّذي يسمّى سقوط اللهاة. (وتعرض للصّبيان غالبا) في زمن الحرّ. (والقسط) - بضم القاف وبالطّاء- (البحريّ: هو العود الهنديّ) الّذي يجلب من الهند، (وهو) نوعان: أسود وأبيض، والمراد هنا (الأبيض منه، وفيه منافع عديدة) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة، وبالعلاق؛ وهو شيء يعلّقونه على الصّبيان، فنهاهم صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم. و (السّعوط) : ما يصبّ في ... يدرّ الطّمث والبول، ويقتل ديدان الأمعاء، ويدفع السّمّ وحمّى الرّبع، وحمّى الورد، ويسخّن المعدة، ويحرّك شهوة الجماع. ويذهب الكلف طلاء. (وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة) - بفتح اللّام-: اللّحمة الّتي في أقصى الحلق، ويجمع على لهى ولهيات؛ مثل: حصاة وحصى وحصيات، وعلى لهوات أيضا- على الأصل- كما في «المصباح» . (و) يعالجونهم (بالعلاق) - بكسر العين المهملة وفتحها- (وهو: شيء يعلّقونه على الصّبيان) كالعوذة، وهذا بيان للمراد، وإلّا فالعلاق- لغة-: ما يعلق به الشّيء، ثمّ تفسيره بذلك مخالف لما في «شرح البخاريّ» حيث قال: أعلقت عليه من العذرة؛ أي: رفعت حنكه بأصبعها ففجّرت الدّم. وفي «الفتح» و «النهاية» وغيرهما: أنّه كانت عادة النّساء إذا أصاب الصّبيّ العذرة تعمد المرأة إلى خرقة تفتلها فتلا شديدا، وتدخلها في أنفه، وتطعن ذلك الموضع، فينفجر منه دم أسود وربّما أقرحه، وكانوا بعد ذلك يعلّقون عليه علاقا كالعوذة. (فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال، وأسهل عليهم) ، فإنّ القسط يشدّ اللهاة، ويرفعها إلى مكانها؛ لأنّه حارّ يابس. (والسّعوط) المراد هنا- بفتح السّين، وضمّ العين المهملتين-. أمّا بضمّ السّين؛ فهو الفعل الّذي هو صبّ الدّواء في الأنف. وليس مرادا هنا بل المراد الأوّل وهو: (ما يصبّ في) الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة ومركّبة تدقّ؛ وتنخل؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعهما؛ لينخفض رأسه فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه، ويستخرج ما فيه من الدّاء بالعطاس. وقد مدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر أن يسترقى من العين. وروى مسلم في «صحيحه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر ... وتعجن، وتجفّف؛ ثم تحلّ عند الحاجة، ويسعط بها في (أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه) ؛ أي: تحتهما (ما يرفعهما) من نحو مخدّة؛ (لينخفض رأسه، فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه) يعني أنه بهذه الكيفيّة يسهل انحدار السّعوط إلى الدّماغ (ويستخرج ما فيه) ؛ أي: الدمّاغ (من الدّاء بالعطاس) ؛ ذكره ابن القيّم قال: (وقد مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه) . وذكر أبو داود في «سننه» أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعط. انتهى. (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يسترقى) - بالبناء للمفعول- (من العين) بنحو (ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله. أخرجه مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وفي رواية له؛ عنها أيضا: كان يأمرني أن أسترقي من العين. (وروى مسلم في) «الطّبّ» ؛ من ( «صحيحه» ) ، والإمام أحمد كلاهما؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين حقّ) ؛ أي: أنّ الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، وهو من جملة ما تحقّق وجوده بالفعل، (ولو كان شيء سابق القدر) - بفتحتين-: أي: لو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 لسبقته العين» . فرض أنّ لشيء قوّة بحيث يسبق القدر (لسبقته العين) لكنّها لا تسبق القدر، فكيف غيرها؟! فإنه تعالى قدّر المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة. قال القرطبي: «فلو» . مبالغة في تحقيق إصابة العين، جرى مجرى التّمثيل، إذ لا يردّ القدر شيء، فإنّه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته، ولا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه، فهو كقولهم: لأطلبنّك؛ ولو تحت الثّرى، ولو صعدت السّماء؟!. قال المازري: وقد أخذ الجمهور بظاهر الحديث من تأثيرها بإرادة الله وخلقه، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأنّ كلّ شيء ليس محالا في نفسه، ولا يؤدّي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل!! فهو من مجوّزات العقول، وكلّ ما جوّزته وأخبر الشّارع بوقوعه وجب قبوله والأخذ بظاهره؛ ولم يكن لإنكاره معنى سوى العناد والمكابرة. وهل من فرق بين إنكارهم إصابة العين؛ وبين إنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة!؟ وقد اشتكى بعض النّاس هذه الإصابة؛ فقال: كيف تعمل العين من بعد، حتّى يحصل الضّرر للمعيون؟ وأجيب: بأنّ طبائع النّاس تختلف، فقد يكون ذلك من سمّ يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون؛ فيحصل الضّرر بتقدير الله. وقد نقل عن بعض من كان معيانا، أنّه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني!! ويقرّب ذلك: بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللّبن فيفسد!! ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد!! وكذا تدخل البستان، فتضرّ بكثير من الغروس من غير أن تمسّها! ومن ذلك: أنّ الصّحيح قد ينظر إلى العين الرّمداء فيرمد!!. قال المازري: وزعم بعض الطّبائعييّن أنّ العائن ينبعث من عينه قوة سمّيّة تتّصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 ......... بالمعيون؛ فيهلك أو يفسد جسمه أو عقله، وهو كإصابة السّمّ من نظر الأفعى. وأشار المازري إلى منع الحصر في ذلك. أي: خروج سمّيّة من عين العائن، مع تجويز المازريّ خروجها؛ لا على سبيل القطع. وإنّ الّذي يتمشّى على طريقة أهل السّنّة: أنّ العين إنّما تضرّ عند نظر العائن، بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضّرر عند مقابلة شخص آخر. وهل ثمّ جواهر خفيّة تخرج من العين أو لا؟! هو أمر محتمل؛ لا يقطع بإثباته ولا نفيه، إذ لا مستند لذلك. ومن قال ممّن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطّبائع بالقطع؛ بأنّ ثمّ جواهر لطيفة غير مرئيّة تنبعث من العائن فتتّصل بالمعيون؛ وتتخلّل مسامّ جسمه، فيخلق الباري الهلاك عندها؛ كما يخلق الهلاك عند شرب السّمّ!! فقد أخطأ بدعوى القطع، إذ لا دليل عليه، ولكنّه جائز أن يكون عادة ليس ضرورة؛ ولا طبيعة. انتهى كلام المازري. وهو كلام سديد لموافقته مذهب أهل السّنّة. وليس المراد بالتّأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة من أنّ إصابة العين صادرة عن تأثير النّفس بقوّتها فيه، فأوّل ما تؤثّر في نفسها؛ ثمّ تؤثّر في غيرها!!. بل المراد ما أجرى الله به العادة من حصول الضّرر للمعيون بخلق الله تعالى. وقد أخرج البزّار، والبخاريّ في «التّاريخ» والطّيالسي، والحكيم التّرمذي بسند حسن، وصحّحه «الضّياء» - عن جابر رفعه «أكثر من يموت من أمّتي بعد قضاء الله وقدره بالنّفس» . قال الرّاوي: يعني بالعين. وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواصّ في الأجسام والأرواح؛ كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل؛ فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك! وكذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من النّاس يسقم بمجرّد النّظر إليه؛ وتضعف قواه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وفي «سنن أبي داود» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ، ... وكلّ ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدّة ارتباطها بالعين، وليست هي المؤثّرة! وإنّما التأثير للرّوح، والأرواح مختلفة في طبائعها، وكيفيّاتها؛ وخواصّها. فمنها ما يؤثّر في البدن بمجرّد الرّؤية؛ من غير اتّصال به، لشدّة خبث تلك الرّوح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل أنّ التّأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتّصال الجسمانيّ، بل يكون تارة به؛ وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرّد الرّؤية، وأخرى بتوجّه الرّوح؛ كالذي يحدث في البدن من الشّفاء من المرض ونحوه بسبب الأدعية والرّقى والالتجاء إلى الله تعالى. وتارة يقع ذلك بالتّوهّم والتخيّل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنويّ، إن صادف البدن لا وقاية له أثّر فيه الضّرر بخلق الله تعالى، وإلّا! لم ينفذ فيه السّهم، بل ربّما ردّ على صاحبه، كالسّهم الحسّيّ سواء. انتهى ملخّصا من «فتح الباري» وغيره. نقله في «المواهب» وشرحها. وتمام الحديث: «وإذا استغسلتم فاغسلوا» أي: إذا طلب منكم أيّها المتّهمون بإصابة العين- غسل الأعضاء الآتي بيانها فاغسلوا. (وفي «سنن أبي داود» ) في كتاب «الطّبّ» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ) ولم يبيّن في حديث ابن عباس صفة الاغتسال؛ ولا في حديث عائشة صفة الوضوء؟! قال المحقّق محمد بن سليمان الكردي في «حواشي شرح بافضل» «1» : الّذي   (1) في كتابه المسمى «الحواشي المدنية على المقدمة الحضرمية في فقه السادة الشافعية» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 ثمّ يغتسل منه المعين. قال الزّهريّ: ... يفهمه كلام أئّمتنا تصريحا وتلويحا: أنّ وضوء العائن كغيره، المراد به الوضوء الشّرعيّ؛ لكن الموجود في كتب الحديث أنّه غيره. (ثمّ يغتسل منه) ؛ أي الوضوء، أي: ماءه (المعين) - اسم مفعول-؛ من عانه إذا أصابه بالعين، تقول: - كما في «الفتح» -: عنت الرّجل؛ أصبته بعينك؛ فهو معين ومعيون. انتهى. (قال) الإمام الحافظ المحدّث؛ محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي: أبو بكر القرشي. (الزّهريّ) ؛ نسبة إلى بني زهرة بن كلاب المذكور. تابعيّ من أهل المدينة، نزل الشّام واستقرّ بها، ويقولون تارة الزّهري، وتارة ابن شهاب ينسبونه إلى جدّ جدّه. وهو أحد أفراد الدّنيا؛ علما وعملا وجلالة. سمع أنس بن مالك؛ وسهل بن سعد؛ والسّائب بن يزيد؛ وعبد الرحمن بن أزهر؛ ومحمود بن الرّبيع؛ وأبا أمامة أسعد بن سهل بن حنيف؛ وأبا الطّفيل. وهؤلاء كلهم صحابة. وسمع من خلائق؛ من كبار التّابعين وأئمّتهم. روى عنه خلائق من كبار التّابعين وصغارهم، ومن أتباع التّابعين. وحفظ القرآن في ثمانين ليلة!. قال الشّافعيّ: لولا الزّهريّ ذهبت السّنن من المدينة. ومناقبه؛ والثّناء عليه؛ وعلى حفظه أكثر من أن يحصر. توفي ليلة الثّلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة: أربع وعشرين ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وتوفي بقرية بأطراف الشّام يقال لها: «سغبدا» رحمه الله تعالى. قال في صفة الاستغسال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 يؤمر الرّجل العائن بقدح، فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض، ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ يغسل وجهه في القدح، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى، ثمّ يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثمّ يصبّ ... (يؤمر الرّجل العائن بقدح) فيه ماء؛ (فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض) بغرفة منه؛ (ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ) يأخد منه ماء (يغسل وجهه في القدح) مرّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى) في القدح؛ (فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى) واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن) في القدح واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى) في القدح واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى) في القدح، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى) صبّة واحدة فيها، (ثمّ يغسل داخلة إزاره) . قال المازري: المراد ب «داخلة إزاره» : الطّرف المتدلّي الّذي يلي حقوه الأيمن. وقال القاضي عياض: إنّ المراد ما يلي جسده من الإزار. وقيل غير ذلك. (ولا يوضع القدح في الأرض) حتّى يفرغ (ثمّ يصبّ) ذلك الماء الّذي في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة. القدح (على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة) يجري على جسده، ويكون غسل الأطراف المذكورة كلّها؛ وداخلة الإزار في القدح. هكذا روي عن الزّهري، وقال: إنّه من العلم. قال ابن عبد البرّ: وهو أحسن ما فسّر به الحديث، لأنّ الزّهريّ راويه. قال القاضي عياض: إنّ الزّهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل. انتهى. قال مقيّده غفر الله ذنوبه: هذه الكيفية الّتي ذكرها غير متعيّنة، بل يحصل النّفع بالاستغسال الآتي في حديث سهل بن حنيف، وبأيّ كيفيّة كانت؛ إذا غسل أطرافه، وصبّ غسالته على المعيون؛ حصل النّفع بإذن الله تعالى، ولذلك لم يبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كيفيّة الاستغسال، بل أطلق؛ إشارة إلى ذلك. والله أعلم. قال الزّرقاني: وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النّظرة. أمّا عند الإصابة؛ وقبل الاستحكام؛ فقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يدفعه، بقوله: «ألا بركت عليه» !!. قال أبو عمر: أي: قلت: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. فيجب على كلّ من أعجبه شيء أن يبارك، فإذا دعا بالبركة، صرف المحذور لا محالة. وللنّسائيّ وابن ماجه؛ عن أبي أمامة، وابن السّنيّ؛ عن عامر بن ربيعة، كلاهما مرفوعا: «إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه؛ فليدع بالبركة» . وروى ابن السّنّي؛ عن سعيد بن حكيم؛ قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئا بعينه، قال: «اللهمّ؛ بارك فيه ولا تضرّه» . انتهى. قال المازري: وهذا المعنى- يعني الاغتسال بالصّفة المذكورة- لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه من جهة العقل، وليس في قوّة العقل الاطّلاع على أسرار جميع المعلومات!! فلا يردّ لكونه لا يعقل معناه!. وقال ابن القيّم: هذه الكيفيّة لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر منها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 ......... ولا من شكّ فيها، أو فعلها مجرّبا غير معتقد، وإذا كان في الطّبيعة خواصّ لا يعرف الأطبّاء عللها؛ بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصيّة؛ فما الّذي ينكره جهلتهم من الخواصّ الشرعيّة؟ هذا مع أنّ في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصّحيحة، فهذا ترياق سمّ الحيّة يؤخذ من لحمها! وهذا علاج النّفس الغضبيّة، بوضع اليد على بدن الغضبان، فيسكن! فكان أثر تلك العين، كشعلة نار، وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشّعلة. ثمّ لمّا كانت هذه الكيفيّة الخبيثة تظهر في المواضع الرّقيقة من الجسد لشدّة النّفوذ فيها ولا شيء أرقّ من المغابن؛ فكان في غسلها إبطال لعملها. ولا سيّما أن للأرواح الشّيطانيّة في تلك المواضع اختصاصا. وفيه أمر آخر: وهو وصول أثر الغسل إلى القلب، من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتطفأ تلك النّار التي أثارتها العين بهذا الماء؛ فيشفى المعين. انتهى. وقال ابن القيّم أيضا: والغرض العلاج النّبويّ الوارد في الأحاديث؛ من الرّقى بالأدعية، ونحوها لعلّة الإصابة بالعين. فمن التّعوّذات والرّقى الإكثار من قراءة المعوّذتين، لحديث عائشة السّابق: كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث. ولحديثها أيضا: كان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه؛ ثمّ نفث فيها، ثمّ يقرأ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ، ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده؛ يفعل ذلك ثلاث مرات. رواه البخاري. ومنها الإكثار من قراءة «الفاتحة» ؛ لحديث «الصحيحين» في الّذي رقى اللّذيغ بالفاتحة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «وما أدراك أنّها رقية» ؟. وروى البيهقيّ في «الشّعب» ؛ عن جابر رفعه: «ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن؟» قلت: بلى. قال: «فاتحة الكتاب» . قال راويه: وأحسبه قال «فيها شفاء من كلّ داء» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 ......... وللبيهقيّ ولسعيد بن منصور؛ عن أبي سعيد مرفوعا «فاتحة الكتاب شفاء من السّمّ» . ومنها قراءة آية الكرسي. روى الدّيلميّ؛ عن أبي أمامة: سمعت عليا يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام؛ يبيت حتّى يقرأ هذه الآية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [255/ البقرة] ، إلى قوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة] فلو تعلمون ما هي أو ما فيها؛ لما تركتموها على حال!! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبيّ قبلي» . قال عليّ: فما بتّ ليلة منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أقرأها. قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من عليّ، ثمّ سلسله الباقون. «الدّيلميّ» . وفي خبر: «سيّد البقرة آية الكرسيّ، أما إنّ فيها خمس آيات، في كلّ كلمة خمسون بركة» . ومنها التّعوّذات النّبويّة؛ نحو: «أعوذ بكلمات الله التّامّة، من كلّ شيطان وهامّة. ومن كلّ عين لامّة» . ونحو «أعوذ بكلمات الله التّامّات، الّتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، من شرّ ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شرّ ما ينزل من السّماء، ومن شرّ ما يعرج فيها، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرّ ما يخرج منها، ومن شرّ فتن اللّيل والنّهار، ومن شرّ طوارق اللّيل والنّهار، إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» . وإذا كان الشّخص يخشى ضرر عينه؛ وإصابتها للمعين! فليدفع شرّها بقوله «اللهم بارك عليه» ، كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة: لمّا عان سهل بن حنيف: «ألا برّكت عليه» ؛ أي: قلت (بارك الله فيك) . انتهى من «المواهب» و «شرحها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 ......... وحديث سهل بن حنيف الّذي أشار إليه هو ما أخرجه الإمام أحمد، والنّسائي، وصححه ابن حبّان؛ من طريق الزّهري؛ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أنّ أباه سهل بن حنيف حدّثه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتّى إذا كان بشعب الخرّار من الجحفة؛ اغتسل سهل بن حنيف. وفي رواية مالك؛ عن محمّد بن أبي أمامة؛ عن أبيه: فنزع سهل جبّة كانت عليه؛ وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبّأة!!؟ وفي رواية: مالك المذكورة: ولا جلد عذراء، فلبط سهل- أي: صرع وسقط إلى الأرض-. وفي رواية مالك: فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، زاد في رواية: حتّى ما يعقل لشدّة الوجع!! فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- زاد مالك؛ عن ابن شهاب؛ عن أبي أمامة- فقيل له: يا رسول الله: هل لك في سهل بن حنيف؟ والله ما يرفع رأسه؟! فقال: «هل تتّهمون من أحد!» . قالوا: عامر بن ربيعة. وفي رواية «مالك» ؛ عن محمّد بن أبي أمامة؛ عن أبيه: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أنّ سهلا وعك، وأنّه غير رائح معك، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالّذي كان من شأن عامر بن ربيعة، فدعا عامرا؛ فتغيّظ عليه، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه!؟» - زاد في رواية: - «وهو غنيّ عن قتله؟؟ هلّا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟!» . ثمّ قال: «اغتسل له» . ولمالك؛ عن محمّد: «توضّأ له» . فغسل عامر وجهه ويديه- وفي رواية- وظاهر كفّيه ومرفقيه. زاد في رواية: وغسل صدره وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح. زاد في رواية: قال: وحسبته قال: وأمره فحسا منه حسوات، ثمّ صبّ ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه؛ وظهره؛ ثمّ كفأ القدح، ففعل ذلك؛ فراح سهل مع النّاس؛ ليس به بأس. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وممّا يدفع إصابة العين: قول: (اللهمّ بارك عليه) . وقول: (ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله) . (وممّا يدفع إصابة العين قول: اللهمّ بارك عليه) ، فإنّ ذلك يبطل ما يخاف من العين، ويذهب تأثيره. ذكره الباجيّ. (و) ممّا يدفعها أيضا (قول: ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله) كما قال تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [39/ الكهف] . وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئا. فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله، لم يضرّه» . رواه البزّار؛ وابن السّنّي؛ عن أنس. ففيهما استحباب هذا الذّكر عند رؤية ما يعجب. واستدلّ مالك بالآية على استحبابه لكلّ من دخل منزله؛ كما قاله ابن العربي. وأخرج ابن أبي حاتم؛ عن مطرّف قال: كان مالك إذا دخل بيته قال: «ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله» . قلت له: لم تقول هذا؟ قال: ألا تسمع الله تعالى يقول ... وتلا الآية. وأخرج عن الزّهري مثله. وممّا يدفع إصابة العين أيضا رقية جبريل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في «الطّبّ» عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد: أشتكيت؟ قال: «نعم» . قال: باسم الله أرقيك، من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ ذي نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» . وعند مسلم أيضا في «الطّبّ» ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان جبريل يرقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قال: باسم الله يبريك، ومن كلّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ كلّ ذي عين. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 [الفصل الثّاني في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته] الفصل الثّاني في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، (الفصل الثّاني) من الباب الثّامن؛ (في) ما جاء في (سنّه صلى الله عليه وسلم) أي: مقدار عمره الشّريف، والسّنّ بهذا المعنى مؤنّثة، لأنّها بمعنى المدّة. (و) في ما جاء في (وفاته) أي: تمام أجله الشّريف، فإنّ الوفاة- بفتح الواو-: مصدر وفى يفي بالتخفيف- أي: تمّ أجله. وهذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان. أخرج البخاريّ في «الهجرة، والمغازي، وفضائل القرآن» ، ومسلم في «الفضائل» ، والتّرمذيّ في «الجامع» ؛ في «كتاب المناقب» ، وأخرجه في «الشّمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث) - بفتح الكاف وضمّها- أي: لبث (النّبيّ صلى الله عليه وسلم) بعد البعثة (بمكّة) الّتي هي أفضل الأرض عند الشّافعي؛ حتى على المدينة المنوّرة، وعكس مالك الإمام. وسمّيت مكة: لأنّها تمكّ الذّنوب؛ أي: تذهبها، ولها أسماء كثيرة. (ثلاث عشرة سنة) هذا هو الأصحّ، وغيره! محمول عليه (يوحى إليه) ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وبالمدينة عشرا، وتوفّي وهو ابن ثلاث وستّين. وفي رواية عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّي وهو ابن خمس وستّين. أي: باعتبار مجموعها، لأنّ مدّة فترة الوحي ثلاث سنين، من جملتها، وروي: عشر سنين، وهو محمول على ما عدا مدّة فترة الوحي، وروي أيضا خمس عشرة سنة؛ في سبعة منها يرى نورا ويسمع صوتا؛ ولم ير ملكا. وفي ثمانية منها يوحى إليه. وهذه الرّواية مخالفة للأولى من وجهين: الأوّل في مدّة الإقامة بمكّة بعد البعثة؛ هل هي ثلاثة عشر؟ أو خمسة عشر. والثّاني: في زمن الوحي: هل هو ثلاث عشرة؛ أو ثمانية. (وبالمدينة عشرا) ؛ أي: عشر سنين باتّفاق، فإنّهم اتّفقوا على أنّه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين، كما اتّفقوا على أنّه أقام بمكّة قبل البعثة أربعين سنة، وإنّما الخلاف في قدر إقامته بمكّة بعد البعثة!! والصّحيح أنه ثلاث عشرة سنة. (وتوفّي) - بالبناء للمجهول- أيّ: توفّاه الله تعالى؛ أي: مات (وهو ابن ثلاث وستّين) سنة، واتّفق العلماء على أنّ هذه الرّواية أصحّ الرّوايات الثّلاث الواردة في قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وقد رواها مسلم؛ من رواية عائشة، وأنس؛ وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم. والثّانية: أنّه توفّي وهو ابن ستّين سنة، وهي محمولة على أنّ راويها اقتصر على العقود وألغى الكسر. والثّالثة: أنّه توفّي وهو ابن خمس وستين سنة، وهي محمولة على إدخال سنة الولادة وسنة الوفاة، أو حصل فيها اشتباه. والله أعلم. (وفي رواية عنه) ؛ أي: ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي وهو ابن خمس وستّين) سنة، أي: بحسبان سنتي الولادة والوفاة كما تقدّم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة. وعن جرير بن حازم الأسديّ، عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أنّه سمعه يخطب، قال: ... التّنبيه عليه آنفا؛ على أنّه قد أنكر عروة بن الزّبير على ابن عبّاس قوله: خمس وستّين، ونسبه إلى الغلط، وأنّه لم يدرك أوّل النّبوّة، ولا كثرة صحبته، بخلاف الباقين. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة) ؛ أي: بإلغاء الكسر، فلا ينافي رواية أنّه توفّاه الله تعالى وهو ابن ثلاث وستّين سنة، الّتي هي أصحّ الرّوايات؛ وأشهرها رواها البخاريّ من رواية ابن عبّاس؛ ومعاوية، ومسلم من رواية عائشة؛ وابن عبّاس؛ ومعاوية أيضا رضي الله تعالى عنهم. (و) أخرج مسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة) قد علمت أن هذه الرّواية أصحّ الرّوايات وأشهرها. (و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن جرير بن حازم الأسديّ) حضر جنازة أي الطّفيل بمكّة، وسمع رجاء العطارديّ، والحسن. وعنه ابنه، وابن مهدي. ثقة؛ لكنّه اختلط، فحجبه أولاده؛ مات سنة: سبعين ومائة. (عن معاوية) بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة (رضي الله تعالى عنه) (أنّه) ؛ أي: جرير (سمعه) ؛ أي معاوية (يخطب) ؛ أي: حال كونه خطيبا (قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وستّين، وأبو بكر وعمر. وأنا ابن ثلاث وستّين سنة. قوله: (أنا ابن ثلاث وستّين) المراد: أنّه كان كذلك وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه، بل عاش حتّى بلغ نحو ثمانين سنة. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستّين) ؛ أي: والحال أنّه ابن ثلاث وستّين سنة. (وأبو بكر وعمر) مرفوعان بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: كذلك. أمّا أبو بكر! فمتفّق عليه أنّه مات وعمره ثلاث وستّون. وأما عمر؛ فعلى الأصحّ أنّه عمره ثلاث وستّون. ولم يذكر عثمان رضي الله تعالى عنه! لأنّه قتل وله من العمر ثنتان وثمانون سنة، وقيل: ثمان وثمانون. ولم يذكر عليا رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه! مع أنّ الأصحّ أنّه قتل وله من العمر ثلاث وستّون. وقيل: خمس وستّون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمان وخمسون!! للاختلاف الواقع فيه، أو لعدم معرفته بعمره، بسبب تعدّد الرّوايات. والله أعلم. ثم استأنف معاوية رضي الله تعالى عنه؛ فقال: (وأنا ابن ثلاث وستّين سنة) أي: أنا متوقع أن أموت في هذا السّن؛ موافقة لهم، لكنّه لم ينل مطلوبه ومتوقّعه، بل مات وهو قريب من ثمانين، كما سيأتي للمصنّف. (قوله) ؛ أي: معاوية (أنا ابن ثلاث وستّين: المراد) بهذا الكلام (أنّه) ؛ أي معاوية (كان كذلك) ؛ أي: كان عمره ثلاثا وستّين سنة (وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه) ؛ أي: في هذا السّن، (بل عاش) ؛ أي: طال عمره (حتّى بلغ نحو ثمانين سنة) قيل: بلغ ثمانيا وسبعين، وقيل: ستّا وثمانين، وقيل: ثمانين سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وأمّا وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ف وأحسن العمر: ثلاث وستّون، كعمره صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولهذا لمّا بلغ بعض العارفين هذا السّنّ، هيّأ له أسباب مماته؛ إيماء إلى أنّه لم يبق لذّة في بقيّة حياته. والله أعلم. (وأمّا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ف) هي مصيبة الأوّلين والآخرين من المسلمين، ولمّا كان الموت مكروها بالطّبع، لما فيه من الشّدة والمشقة العظيمة؛ لم يمت نبيّ من الأنبياء حتّى يخيّر. وأول ما أعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله؛ بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [النصر] فإنّ المراد من هذه السّورة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: إنّك يا محمّد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل النّاس في دينك، الّذي دعوتهم إليه أفواجا؛ فقد اقترب أجلك، فتهيّأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنّه قد حصل منك مقصود ما أمرت به؛ من أداء الرّسالة والتّبليغ، وما عندنا خير لك من الدّنيا، فاستعدّ للنّقلة إلينا. وكان عليه الصّلاة والسّلام يعرض القرآن كلّ عام على جبريل مرّة، فعرضه ذلك العام مرّتين في رمضان؛ كما في «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. وكان عليه الصّلاة والسّلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان كلّ عام؛ فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر معهن الذكر والاستغفار. وروى الشيخان؛ من حديث عقبة بن عامر الجهني؛ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد؛ صلاته على الميت بعد ثمان سنين، كالمودّع للأحياء والأموات، ثمّ طلع المنبر؛ فقال: «إنّي بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنّي لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإنّي قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنّي لست الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كشف السّتارة يوم الإثنين، ... أخشى عليكم أن تشركوا بعدي!!، ولكنّي أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوا فيها!!» . وما زال صلى الله عليه وسلم يعرّض باقتراب أجله في آخره عمره، فإنه لما خطب في حجّة الوداع؛ قال للنّاس: «خذوا عنّي مناسككم، فلعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا!» . وطفق يودّع النّاس، فقالوا: هذه «حجة الوداع» . واختلف في مدّة مرضه، والأكثر أنّها ثلاثة عشر يوما، وهو المشهور. وكان ابتداء مرضه في بيت ميمونة؛ كما ثبت في «الصحيحين» ، واشتداد مرضه في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها. وابتدأ به المرض يوم الاثنين، وقيل: يوم السّبت، وقيل: يوم الأربعاء. وشدّة مرضه الّتي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة كانت سبعة أيّام، وما زاد عليها؛ فهو قبل اشتداده الّذي انقطع به. وفي البخاريّ ومسلم: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ وجعه استأذن أزواجه أن يمرّض في بيتي، فأذنّ له ... الحديث. وأخرج ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف) أي: رفع (السّتارة) المعلّقة على باب بيته الشّريف، أي: أمر برفعها. وهي- بكسر السّين المهملة-: ما يستر به، فقوله «آخر نظرة» مبتدأ، وخبره ما دلّ عليه «كشف» ، وجملة «كشف السّتارة» في محلّ نصب على الحال، بتقدير «قد» ؛ أي: آخر نظري إلى وجهه حال كونه قد كشف السّتارة (يوم الاثنين) - منصوب على الظّرفية-. وقيل: إنّه مرفوع على أنه خبر، مع تقدير مضاف قبل المبتدأ، والتّقدير: زمن آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يوم الاثنين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 فنظرت إلى وجهه كأنّه ورقة مصحف، والنّاس خلف أبي بكر، فكاد النّاس أن يضطربوا، فأشار إلى النّاس: أن اثبتوا وأبو بكر يؤمّهم، وألقى السّجف، وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من آخر ذلك اليوم. (فنظرت إلى وجهه) الشّريف (كأنّه ورقة) - بفتح الرّاء- (مصحف) - مثلّث الميم، والأشهر ضمّها-، وهو كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة، وصفاء الوجه، واستنارته؛ قاله الزّرقاني. (والنّاس خلف أبي بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه؛ قد اقتدوا به في صلاة الصّبح بأمره صلى الله عليه وسلم، (فكاد النّاس أن يضطربوا) في صلاتهم بأن يخرجوا منها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لاعتقادهم خروجه صلى الله عليه وسلم ليصلّي بهم، (فأشار) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى النّاس: أن اثبتوا) مكانكم في صلاتكم. و «أن» تفسيريّة لمعنى الإشارة؛ لما في الإشارة من معنى القول، فهو نظير قوله فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ [27/ المؤمنون] . (وأبو بكر يؤمّهم) ؛ أي: يصلّي بهم إماما في صلاة الصّبح بأمره، حيث قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . (وألقى) ؛ أي: أرخى (السّجف) - بكسر السّين وفتحها- أي: السّتر، وهو الّذي عبر عنه أولا بالسّتارة. (وتوفّي) - بصيغة المجهول- (رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر ذلك اليوم) ؛ وهو يوم الاثنين، وكان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم من صداع عرض له، ثمّ اشتدّ به؛ حتّى صار يقول: «أين أنا غدا.. أين أنا غدا؟» ثمّ استأذن أزواجه أن يمرّض في بيت عائشة لمحبّته لها؛ مع علمه بأنّ بيتها مدفنه، فأذنّ له أن يمرّض عندها، وامتدّ به المرض، حتّى مات في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل، وكان يوم الاثنين. وكونه توفّي آخر ذلك اليوم لا ينافي جزم أهل السّير بأنّه مات حين اشتدّ الضّحى!! بل حكى صاحب «جامع الأصول» : الاتّفاق عليه، لأنّ المراد بقولهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 ......... «توفّي ضحى» : أنّه فارق الدّنيا، وخرجت نفسه الشّريفة في وقت الضّحى، والمراد بكونه توفّي في آخر اليوم أنّه تحقّق وفاته عند النّاس في آخر اليوم. وذلك أنّه بعد ما توفّي حصل اضطراب واختلاف بين الصّحابة في موته، فأنكر كثير منهم موته؛ حتّى قال عمر: من قال «إنّ محمّدا قد مات؛ قتلته بسيفي هذا» ؟! فما تحقّقوا وفاته إلّا في آخر النّهار، حتّى جاء الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وأعلمهم كما سيأتي. وفي الحديث أنّ الصّدّيق استمرّ خليفة على الصّلاة؛ حتّى مات المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا كما زعمت الشّيعة أنّه عزله بخروجه!! والله أعلم. وقد روى البخاريّ هذا الحديث أيضا؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، لكن بلفظ: إنّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر يوم الاثنين؛ وأبو بكر يصلّي بهم لم يفجأهم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف سجف حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، فنظر إليهم وهم صفوف في الصّلاة ثمّ تبسّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصلّ بالصّف، فظنّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصّلاة. قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم؛ فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار إليهم بيده: أن أتمّوا صلاتكم، ثمّ دخل الحجرة، وأرخى السّتر. وفي رواية له: فتوفّي في يومه. وفي رواية أخرى للبخاريّ ومسلم؛ عن أنس أيضا: لم يخرج إلينا ثلاثا، فذهب أبو بكر يتقدّم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاب، فلمّا وضح لنا وجهه ما نظرنا منظرا قطّ كان أعجب إلينا منه، حين وضح لنا؛ فأومأ إلى أبي بكر أن يتقدّم وأرخى الحجاب ... الحديث. ولفظ مسلم؛ عن أنس أيضا: إنّ أبا بكر كان يصلّي بهم، حتّى إذا كانوا يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة؛ كشف صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظرنا إليه؛ وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثمّ تبسّم ضاحكا ... الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 و (السّجف) : السّتارة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري- فدعا بطست؛ ليبول فيه، ثمّ بال، فمات صلّى الله عليه وسلّم. (والسّجف) - بكسر السّين المهملة-: (السّتارة) الّتي على الحجرة الشّريفة. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة) - بصيغة اسم الفاعل؛ من الإسناد- (النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري-) بفتح الحاء المهملة وكسرها-: حضني؛ وهو- بكسر الحاء-: ما دون الإبط إلى الكشح. (فدعا بطست) - بفتح أوّله- أصله «طسّ» . فأبدل أحد المضعّفين تاء لثقل اجتماع المثلين، ويقال: طسّ على الأصل- بغير تاء-، وهي كلمة أعجمية معرّبة مؤنّثة؛ عند الأكثر، وحكي تذكيرها، ولذلك قال: (ليبول فيه) - بتذكير الضّمير، لكنّ التّأنيث أكثر في كلام العرب؛ كما قال الزّجاج- (ثمّ بال، فمات صلى الله عليه وسلم) ولحق بالرّفيق الأعلى. وظاهره أنّه مات في حجرها، ويوافقه ما رواه البخاريّ عنها: توفّي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي؛ أي: كان رأسه بين حنكها وصدرها. ولا يعارضه ما رواه الحاكم وابن سعد؛ من طرق: أنّ رأسه كان في حجر علي رضي الله عنه؟ لأنّ كلّ طريق منها، لا يخلو من شيء؛ كما ذكره الحافظ ابن حجر. وعلى تقدير صحّتها! يحمل على أنّه كان في حجره قبل الوفاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ أعنّي على سكرات الموت» . وفي الحديث حلّ الاستناد للزّوجة، والبول في الطّست بحضرتها. (و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «الجامع» ؛ و «الشمائل» - وقال في «الجامع» : حديث حسن غريب- وأخرجه ابن ماجه: كلّهم؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت) - أي: مشغول به، ومتلبّس به- (وعنده قدح فيه ماء؛ وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء) ، لأنّه كان يغمى عليه من شدّة المرض ثم يفيق. قال «المناوي» : وفيه أنه يسنّ فعل ذلك لمن حضره الموت، لأنّ فيه نوع تخفيف؛ فإن لم يفعله فعل به. أي: ما لم يظهر كراهته. (ثمّ يقول: «اللهمّ أعنّي على سكرات الموت» ) : شدائده. قال بعض العلماء: فيه أنّ ذلك من شدّة الآلام والأوجاع؛ لرفعة منزلته، وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدّة الموت لأحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الشّيخ أبو محمد المرجاني: تلك السّكرات سكرات الطّرب، ألا ترى إلى قول بلال لمّا قال له أهله- وهو في السّياق-: واكرباه!! ففتح عينيه؛ وقال: واطرباه!! غدا ألقى الأحبّة؛ محمدا وحزبه. فإذا كان هذا طربه وهو في حال السّياق بلقاء محبوبه؛ وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحزبه، فما بالك بلقاء النّبيّ لربّه تعالى!! فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [17/ السجدة] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط أحدا بهون موت بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط) - بكسر الموحّدة- من الغبطة وهي: أن يتمنّى أن يكون له مثل ما للغير؛ من غير أن تزول عنه. وفي رواية: ما أغبط (أحدا بهون موت) ؛ أي: بسهولته (بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومرادها بذلك إزالة ما تقرّر في النّفوس من تمنّي سهولة الموت، لأنّها لما رأت شدّة موته صلى الله عليه وسلم علمت أنّها ليست علامة رديئة؛ بل مرضيّة، فليست شدّة الموت علامة على سوء حال الميت، كما قد يتوهّم، وليست سهولته علامة على حسن حاله؛ كما قد يتوهم أيضا. والحاصل: أنّ الشّدّة ليست أمارة على سوء؛ ولا ضدّه، والسّهولة ليست أمارة على خير؛ ولا ضدّه. وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيان الشّدّة الحاصلة بالموت، فقد روى الإمام أحمد بإسناد حسن؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لم يلق ابن آدم شيئا قطّ منذ خلقه الله أشدّ عليه من الموت، ثمّ إنّ الموت لأهون ممّا بعده» . وأخرج الخطيب البغداديّ في «تاريخ بغداد» ؛ عن أنس: «لمعالجة ملك الموت أشدّ من ألف ضربة بالسّيف» انتهى. اللهمّ؛ خفّف عنّا سكرات الموت، والطف بنا عند نزع أرواحنا، وارحمنا إذا صرنا من أصحاب القبور؛ يا عزيز يا غفور. (و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، وقال في «الجامع» : إنّه حديث غريب، وعبد الرّحمن بن أبي بكر المليكي يضعّف من قبل حفظه؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا ما نسيته؛ قال: «ما قبض الله نبيّا إلّا في الموضع الّذي يحبّ أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه» . (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؟) ؛ أي في أصل دفنه، هل يدفن أو لا؟ وفي محلّ دفنه: هل يدفن في مسجده؟ أو البقيع عند أصحابه؟ أو في الشّام؛ عند أبيه إبراهيم الخليل؟ أو في بلده مكّة المكرمة؟ فالاختلاف من وجهين: أصل الدّفن، ومحلّ الدّفن؟ كذا في «الباجوري» . قال بعضهم: هذا أوّل اختلاف وقع بين الصّحابة بعد موته، حتى أخبرهم أبو بكر وعليّ بما عندهما من العلم- كما سيأتي-؛ ذكره المناوي. (فقال أبو بكر) جوابا عن كلّ من السّؤالين: (سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته) ؛ إشارة إلى كمال استحضاره وحفظه. (قال: «ما قبض الله نبيّا؛ إلّا في الموضع الّذي يحبّ) الله؛ أو النّبيّ (أن يدفن) - بصيغة المجهول- (فيه» ) . ولا ينافيه نقل موسى ليوسف عليهما الصّلاة والسّلام من مصر إلى آبائه بفلسطين!؟ لاحتمال أن محبّة دفنه بمصر مؤقّتة بفقد من ينقله، على أن الظّاهر أن موسى إنّما فعله بوحي. وورد أن عيسى يدفن بجنبه صلى الله عليه وسلم؛ في السّهوة الخالية بينه صلى الله عليه وسلم وبين الشّيخين. وأخذ منه بعضهم أنّ عيسى يقبض هناك في ذلك المحلّ المكرّم. (ادفنوه) - بكسر الفاء- (في موضع فراشه) ؛ أي: في المحلّ الّذي هو تحت فراشه، الّذي مات فيه من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 وعن عائشة أيضا وابن عبّاس: أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما مات. وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على ساعديه، ... (و) أخرج البخاري؛ عن عائشة، والتّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» ، وابن ماجه؛ (عن عائشة أيضا وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهم قال التّرمذيّ في «الجامع» : وفي الباب عن ابن عباس؛ وجابر؛ وعائشة، قالوا: (إنّ أبا بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم) بين عينيه تبرّكا واقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ حيث قبّل عثمان بن مظعون (بعد ما مات) . فتقبيل الميت سنّة اقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبالصّدّيق رضي الله تعالى عنه. قال المحقّق ابن حجر المكّيّ في «فتح الإله شرح المشكاه» : إذا كان الميت صالحا سنّ لكلّ أحد تقبيل وجهه؛ التماسا لبركته، واتّباعا لفعله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون- كما سيأتي-. وإن كان غير صالح؟ جاز ذلك بلا كراهة، لنحو أهله وأصدقائه، لأنّه ربّما كان مخفّفا لما وجده من ألم فقده. ومع الكراهة لغير أهل الميت، إذ قد لا يرضى به لو كان حيّا من غير قريبه وصديقه. ومحلّ ذلك كلّه ما لم يحمل التّقبيل فاعله على جزع أو سخط؛ كما هو الغالب من أحوال النّساء، وإلّا حرم أو كره. انتهى كلام «ابن حجر» ؛ نقله ابن علّان في «شرح الأذكار» . (و) أخرج التّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها أنّ أبا بكر) الصّدّيق (دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه) وقبّله، (ووضع يديه على ساعديه) - الأقرب ما في «المواهب» : على صدغيه. لأنّه هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وقال: وانبيّاه، واصفيّاه، واخليلاه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.. أضاء منها كلّ شيء، فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه.. أظلم منها كلّ شيء، ... المناسب للعادة- (وقال) من غير انزعاج وقلق وجزع وفزع، بل بخفض صوت (: وانبيّاه؛ واصفيّاه؛ واخليلاه) بهاء سكت في الثّلاثة، تزاد ساكنة لإظهار الألف الّتي أتى بها ليمتدّ الصوت به. وهذا يدلّ على جواز عدّ أوصاف الميت بلا نوح، بل ينبغي أن يندب، لأنّه من سنّة الخلفاء الرّاشدين، والأئمّة المهديين. وقد صار ذلك عادة في رثاء العلماء، بحضور المحافل العظيمة، والمجالس الفخيمة. قال في «جمع الوسائل» : وفي رواية أحمد أنّ أبا بكر أتاه من قبل رأسه فحدر فاه؛ فقبّل جبهته، ثمّ قال: وانبيّاه. ثمّ رفع رأسه وحدر فاه؛ وقبّل جبهته، ثمّ قال: وا صفيّاه. ثمّ رفع رأسه وحدر فاه؛ وقبّل جبهته، وقال: واخليلاه. وفي رواية ابن أبي شيبة: فوضع فمه على جبينه؛ فجعل يقبّله ويبكي، ويقول: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميتا. انتهى. (و) أخرج ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) الشّريفة (أضاء) أي: استنار (منها) ؛ أي: المدينة الشّريفة (كلّ شيء) نورا حسّيّا ومعنويا، لأنّه صلى الله عليه وسلم نور الأنوار، والسّراج الوهّاج، ونور الهداية العامّة، ورفع الظلمة الطّامة. (فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه) صلى الله عليه وسلم (أظلم منها كلّ شيء) لفقد النّور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وما نفضنا أيدينا من التّراب، وإنّا لفي دفنه حتّى أنكرنا قلوبنا. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين. وعن محمّد الباقر رضي الله تعالى عنه- وهو من التّابعين- قال: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، فمكث ذلك اليوم، وليلة الثّلاثاء، ودفن من اللّيل. والسّراج منها؛ فذهب ذلك النّور بموته. (و- ما-) نافية (نفضنا أيدينا من التّراب) ؛ أي: تراب قبره الشّريف، ونفض الشّيء: تحريكه ليزول عنه الغبار (وإنّا) - بالكسر، أي: والحال إنّا- (لفي) معالجة (دفنه حتّى أنكرنا) بصيغة الماضي (قلوبنا) أي: تغيّرت حالها بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمّا كانت عليه من الرّقّة والصّفاء؛ لانقطاع ما كان يحصل لهم منه صلى الله عليه وسلم من التعليم، وبركة الصّحبة، وليس المراد أنّهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من التّصديق!!، لأنّ إيمانهم لم ينقص بوفاته صلى الله عليه وسلم. (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ؛ والتّرمذي في «الشّمائل» كلّهم؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أنّها (قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؛ أي: توفّاه الله تعالى بقبض روحه (يوم الاثنين) كما هو متفق عليه بين أرباب النّقل. (و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» قال: حدّثنا محمّد بن أبي عمر؛ قال: حدّثنا سفيان بن عيينة؛ (عن) جعفر الصّادق؛ عن أبيه (محمّد الباقر) بن عليّ زين العابدين ابن سيدنا الحسين السّبط (رضي الله تعالى عنه) وعنهم أجمعين؛ (وهو) أي: محمّد الباقر (من التّابعين) فالحديث مرسل؛ (قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فمكث) - بضمّ الكاف؛ وفتحها، أي: لبث بلا دفن- (ذلك اليوم) الذي هو يوم الاثنين (وليلة الثّلاثاء) بالمدّ (ودفن من اللّيل) ؛ أي في ليلة الأربعاء وسط اللّيل، وقيل: دفن ليلة الثلاثاء، وقيل: يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 وعن سالم بن عبيد رضي الله تعالى عنه- وكانت له صحبة- قال: أغمي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ... الثّلاثاء، والأوّل عليه الأكثر. وأما غسله وتكفينه، ففعلت يوم الثّلاثاء؛ كما في «المواهب» . وإنّما أخّر دفنه صلى الله عليه وسلم مع أنّه يسنّ تعجيله!! لعدم اتّفاقهم على دفنه، ومحلّ دفنه، ولدهشتهم من ذلك الأمر الهائل، الّذي لم يقع قبله ولا بعده مثله. وذلك لأنّه لمّا وقعت هذه المصيبة العظمى والبليّة الكبرى؛ وقع الاضطراب بين الأصحاب، كأنّهم أجساد بلا أرواح!! وأجسام بلا عقول!! حتّى إنّ منهم من صار عاجزا عن النّطق! ومنهم من صار ضعيفا نحيفا! وبعضهم صار مدهوشا! وشكّ بعضهم في موته، وكان محلّ الخوف من هجوم الكفّار، وتوهّم وقوع المخالفة في أمر الخلافة بين الأبرار، فاشتغلوا بالأمر الأهمّ؛ وهو البيعة لما يترتّب على تأخيرها من الفتنة، وليكون لهم إمام يرجعون إليه فيما ظهر لهم من القضيّة؛ فنظروا في الأمر، فبايعوا أبا بكر، ثمّ بايعوه من الغد بيعة أخرى، وكشف الله به الكربة، من أهل الرّدّة، ثمّ رجعوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فغسّلوه، وصلّوا عليه ودفنوه، بملاحظة رأي الصّدّيق رضي الله تعالى عنه. والله وليّ التّوفيق؛ قاله في «جمع الوسائل» . (و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ قال: حدّثنا نصر بن علي الجهضمي؛ قال: حدّثنا عبد الله بن داود؛ قال: حدّثنا سلمة بن نبيط؛ قال: أخبرنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط؛ (عن سالم بن عبيد) - بالتّصغير- الأشجعيّ: صحابيّ من أهل الصّفّة (رضي الله تعالى عنه) ، خرّج له الأربعة، ومسلم، ولذلك قال المصنّف تبعا ل «الشّمائل» : (وكانت له صحبة؛ قال: أغمي) - بصيغة المجهول- (على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه) لشدّة ما حصل له من الضّعف، وفتور الأعضاء، فالإغماء جائز على الأنبياء، لأنّه من المرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف- أي: حزين- ... وقيّده الغزاليّ بغير الطويل، وجزم به البلقيني، بخلاف الجنون، فليس جائزا عليهم؛ لأنّه نقص، وليس إغماؤهم كإغماء غيرهم! لأنّه إنّما يستر حواسّهم الظّاهرة؛ دون قلوبهم، لأنّه إذا عصمت عن النّوم فعن الإغماء أولى. (فأفاق) من الإغماء بأن رجع إلى الشّعور؛ (فقال: «حضرت الصّلاة؟» ) ؛ أي: صلاة العشاء الآخرة؛ كما ثبت عند البخاري وهو استفهام بحذف الهمزة، أي: أحضر وقتها؟. (فقالوا: نعم) أي: حضرت الصّلاة. (فقال: «مروا بلالا) ؛ أي: بلّغوا أمري بلالا (فليؤذّن) - بفتح الهمزة، وتشديد الذّال- من التّأذين، أي: فليناد بالصّلاة. (ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ) ؛ إماما لهم. (قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» فقالوا: نعم. فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر؛ فليصلّ بالنّاس» . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف) فعيل بمعنى فاعل؛ من الأسف؛ وهو شدّة الحزن، (أي حزين) ؛ أي: يغلب عليه الحزن والبكاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 إذا قام ذلك المقام.. بكى، فلا يستطيع، فلو أمرت غيره. قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب- أو صواحبات- يوسف» ؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ. ولا يطيق أن يشاهد محلّ المصطفى صلى الله عليه وسلم خاليا منه، فلا يتمكّن من الإمامة، والقراءة، وهذا معنى قولها: (إذا قام ذلك المقام) الّذي هو مقام الإمامة (بكى) ؛ حزنا عليك (فلا يستطيع) ؛ أي: لا يقدر على الصّلاة بالنّاس، لغلبة البكاء عليه (فلو أمرت غيره؟!) لكان حسنا فجواب «لو» محذوف إن كانت شرطية، ويحتمل أنّها للتمنّي فلا جواب لها. (قال) ؛ أي: سالم بن عبيد (: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب) - جمع صاحبة- (أو صواحبات) جمع صواحب؛ فهو جمع الجمع- (يوسف؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ) - بتشديد النون- حتّى يصلن إلى أغراضهنّ، فالخطاب؛ وإن كان بلفظ الجمع لكنّ المراد به واحدة؛ وهي عائشة، وكذلك الجمع في قوله «صواحب» المراد به: امرأة العزيز، فهو من قبيل التّشبيه البليغ. ووجه الشّبه: أنّ زليخا استدعت النّسوة، وأظهرت لهنّ الإكرام بالضّيافة؛ وأضمرت زيادة على ذلك، وهي: أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه الصّلاة والسّلام فيعذرنها في حبّه. وعائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أنّ سبب محبّتها صرف الإمامة عن أبيها، أنّه رجل أسيف، وأنه لا يستطيع ذلك، وأضمرت زيادة على ذلك هي ألايتشاءم النّاس به. فقد روى البخاريّ عنها: لقد راجعته، وما حملني على كثرة المراجعة إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحبّ النّاس رجلا قام مقامه أبدا، وأنّه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم النّاس به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 قال: فأمر بلال فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد خفّة فقال: «انظروا لي من أتّكىء عليه» ، فجاءت بريرة ورجل آخر؛ ... قال في «جمع الوسائل» : وقد يقال: الخطاب لعائشة وحفصة، وجمع إمّا تعظيما لهما، أو تغليبا لمن معهما من الحاضرات؛ أو الحاضرين، أو بناء على أنّ أقلّ الجمع اثنان. ويعضده أنّ هذا الحديث أي «أغمي ... » إلى آخره روى الشّيخان بعضه، ومنه قوله: «مروا أبا بكر، فليصلّ بالنّاس» ، وأنّ عائشة أجابته، وأنّه كرّر ذلك؛ فكرّرت الجواب، وأنّه قال: «إنّكنّ صواحب يوسف، أو صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . وفي البخاريّ: «فمر عمر فليصلّ بالنّاس» . وأنّها قالت لحفصة: أنّها تقول له ما قالته عائشة، فقال لها: «مه إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف! مروا أبا بكر. فليصلّ بالنّاس» . فقالت لها حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرا. انتهى. (قال) ؛ أي سالم بن عبيد (فأمر بلال) - بصيغة المجهول- (فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس) تلك الصّلاة، واستمرّ يصلّي بهم إلى تمام سبع عشرة صلاة؛ كما نقله الحافظ الدّمياطيّ أولاها عشاء ليلة الجمعة، وآخرها صبح يوم الاثنين الّذي توفّي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كذا قاله الباجوري كالمناوي. (ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفّة) من مرضه؛ (فقال: «انظروا لي) ؛ أي أحضروا لي (من أتّكىء) ؛ أي: أعتمد (عليه» ) لآخرج للصّلاة. (فجاءت بريرة) - بفتح الموحّدة، وكسر الرّاء المهملة الأولى مكبّرا؛ وهي: بنت صفوان مولاة عائشة قبطيّة، أو حبشيّة، لها حديث واحد. (ورجل آخر) جاء في رواية: أنّه نوبة- بضمّ النّون، وسكون الواو- وهو عبد أسود، ووصف باخر!! للإيضاح. وفي رواية الشيخين: فخرج بين رجلين؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 فاتّكأ عليهما، فلمّا رآه أبو بكر ذهب لينكص؛ فأومأ إليه أن يثبت مكانه حتّى قضى أبو بكر صلاته. أحدهما العبّاس، ورجل آخر، وفسّر بعلي. وفي طريق آخر: ويده على الفضل بن عباس، ويده على رجل آخر. وجاء في غير مسلم: بين رجلين؛ أحدهما أسامة. وفي رواية مسلم: العبّاس وولده الفضل، وفي أخرى: العبّاس وأسامة. وجمعوا بين هذه الرّوايات على تقدير ثبوت جميعها بتعدّد خروجه. وخصّوا بذلك، لأنّهم من خواصّ أهل بيته؛ كذا في شروح «الشّمائل» . (فاتّكأ) ؛ أي: اعتمد (عليهما) كما يعتمد على العصا (فلمّا رآه أبو بكر ذهب) ؛ أي: طفق (لينكص) ؛ أي: ليرجع إلى ورائه القهقرى. يقال: نكص على عقبيه: رجع. وبابه: دخل؛ وجلس، فيصحّ قراءة ما هنا بضمّ الكاف وكسرها، والأولى أن تضبط بكسرها، لأنّه المطابق لما في القرآن، حيث قال تعالى عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) [المؤمنون] بالكسر لا غير. (فأومأ) - بالهمز- على الصّحيح أي: أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم (إليه) ؛ أي: إلى أبي بكر (أن يثبت مكانه) ليبقى على إمامته، ولا يتأخّر عن مكانه فثبت (حتّى قضى أبو بكر صلاته) أي: أتمّها، فهو مرتبط بمحذوف كما قدرته. وظاهر ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم اقتدى بأبي بكر، وقد صرّح به بعض الرّوايات، لكن الّذي في رواية «الصحيحين» : كان أبو بكر رضي الله عنه يصلّي قائما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنّاس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه. والمراد أنّ أبا بكر كان رابطة مبلّغا عنه صلى الله عليه وسلم، فبعد أن أخرج نفسه من الإمامة، صار مأموما. وهذا يدلّ لمذهب الشافعيّ؛ من جواز إخراج الإمام نفسه من الإمامة، واقتدائه بغيره؛ فيصير مأموما بعد أن كان إماما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض، فقال عمر: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا. قال: وكان النّاس أمّيّين؛ لم يكن فيهم نبيّ قبله، ويمكن الجمع بين هاتين الرّوايتين بتعدّد الواقعة. انتهى؛ قاله الباجوري، ومثله في المناوي على «الشمائل» . وفيه إشكال لما تقدّم نقله؛ عن الدّمياطي أن أبا بكر صلّى بهم تلك الصّلاة؛ وما بعدها ... إلى تمام سبع عشرة صلاة. ورواية الشيخين صريحة في أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الّذي صلّى بهم تلك الصّلاة؛ وأبو بكر كان مقتديا به، فهي أولى بالاعتماد من غيرها. (ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض) أي: مات؛ وأبو بكر الصّدّيق غائب بالعالية عند زوجته بنت خارجة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن له في الذّهاب. (فقال عمر) وقد سلّ سيفه (: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا!!؟» ) . والحامل له على ذلك ظنّه عدم موته، وأنّ الّذي عرض عليه غشي أو استغراق وتوجّه للذات العلية، ولذلك كان يقول أيضا: إنما أرسل إليه صلى الله عليه وسلم كما أرسل إلى موسى صلى الله عليه وسلم فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله؛ إنّي لأرجو أن يقطع أيدي رجال، وأرجلهم، أي: من المنافقين، أو المرتدّين. (قال) سالم (: وكان النّاس) أي: العرب، بقرينة السّياق (أمّييّن) ، لقوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [2/ الجمعة] . قال جمهور المفسّرين: الأمّيّ: من لا يحسن الكتابة والقراءة. أي: لا يقرؤون ولا يكتبون. هذا هو معنى الأمّييّن في الأصل، والمراد بهم هنا: من لم يحضر موت نبيّ قبله، فقوله (لم يكن فيهم نبيّ قبله!!) تفسير وبيان للمراد بالأمّييّن؛ بأنّهم لم يشاهدوا موت نبيّ ولا عرفوه من كتاب. وسبب العلم بموته: إمّا دراية كتب الأنبياء، أو مشاهدة موته، وكلاهما منفيّ عن العرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فأمسك النّاس. فقالوا: يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فادعه، فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه- وهو في المسجد- فأتيته أبكي دهشا؟ فلمّا رآني.. قال لي: أقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض.. إلّا ضربته بسيفي هذا، فقال لي: انطلق، فانطلقت معه، فجاء هو والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا لي، ... (فأمسك النّاس) ألسنتهم عن النّطق بموته؛ خوفا من عمر لما حصل لهم من الذهول، والحيرة الّتي ضلّت بها معلوماتهم الّتي من جملتها نطق التّنزيل على أنه ميّت؛ (فقالوا) ؛ أي: النّاس (يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الّذي هو أبو بكر، فإنّه متى أطلق انصرف إليه، لكونه كان مشهورا به بينهم (فادعه) ليحضر فيبيّن الحال. (فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وهو في المسجد) ؛ أي: مسجد محلّته التي كان فيها؛ وهو بالعوالي، كما في رواية البخاري: جاء من السّنح- بضمّ السّين المهملة؛ بوزن فعل-: موضع بأدنى عوالي المدينة بينه وبين مسجده الشّريف ميل، ولعله كان في ذلك المسجد، لصلاة الظّهر، (فأتيته) كررّه للتّأكيد (أبكي) أي: حال كوني أبكي (دهشا) - بفتح فكسر أي: حال كوني دهشا-: أي متحيّرا (فلمّا رآني؛ قال لي: أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) لما فهمه من حاله. (قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا!؟ فقال لي: انطلق؛ فانطلقت معه، فجاء هو) ؛ أي: أبو بكر (والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا) - بقطع الهمزة، أي: أوسعوا (لي) لأجل أن أدخل. ولا ينافي هذا رواية البخاري: أقبل أبو بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 فأفرجوا له، فجاء حتّى أكبّ عليه ومسّه فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، فعلموا أن قد صدق. رضي الله تعالى عنه فلم يكلّم النّاس، لأنّ المراد لم يكلّمهم بغير هذه الكلمة. (فأفرجوا له) ؛ أي: انكشفوا عن طريقه (فجاء حتّى أكبّ عليه) فوجده مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه الشّريف. (ومسّه) أي: قبّله بين عينيه، ثمّ بكى، وقال: بأبي أنت وأمّي؛ لا يجمع الله عليك موتتين، أمّا الموتة الّتي كتبت عليك فقد متّها؛ كذا في البخاريّ. وقصد بذلك الردّ على عمر فيما قال، إذ يلزم منه أنّه إذا جاء أجله يموت موتة أخرى، وهو أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعها على الّذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [243/ البقرة] . (فقال) ؛ أي: قرأ استدلالا على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] يعني: قد أخبر الله عنك في كتابه: أنّك ستموت، وأنّ أعداءك أيضا سيموتون، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر] فقوله حقّ، ووعده صدق فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [32/ الزمر] وقد قال المفسرون- في قوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر] : - إنّ الجائي بالصّدق هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والمصدّق أبو بكر، ولذا سمّي ب «الصّدّيق» رضي الله تعالى عنه. (ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم!! قال: نعم. فعلموا أن) ؛ أي: أنّه (قد صدق) في إخباره بموته، لاستدلاله بالآية الّتي ذكرها، لما عنده من نور اليقين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى على رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس. (قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى) - بالبناء للمفعول- (على رسول الله؟) إنّما سألوه لتوهّم أنّه مغفور له، فلا حاجة له إلى الصّلاة المقصود منها الدّعاء والشّفاء للميت. (قال: نعم) أي: يصلّى عليه لمشاركته لأمّته في الأحكام، إلّا ما خرج من الخصوصيات لدليل. (قالوا: وكيف) يصلّى عليه؟ أمثل صلاتنا على آحاد أمّته؟ أم بكيفية مخصوصة تليق برتبته العليّة؟. (قال: يدخل قوم، فيكبّرون) ؛ أي: أربع تكبيرات، (ويصلّون) على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ (ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس) ؛ أي: وهكذا حتّى يصلّي عليه النّاس جميعا. روى الحاكم في «المستدرك» ، والبزّار: أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم حين جمع أهله في بيت عائشة، قالوا: فمن يصلّي عليك؟ قال: «إذا غسّلتموني وكفّنتموني فضعوني على سرير، ثمّ اخرجوا عنّي ساعة، فإنّ أوّل من يصلّي عليّ جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنوده، ثمّ ادخلوا عليّ فوجا بعد فوج، فصلّوا عليّ، وسلّموا تسليما» . قال الحاكم: فيه عبد الملك بن عبد الرّحمن؛ مجهول، وبقيّة رجاله ثقات. وروى ابن ماجه أنّهم لمّا فرغوا من جهازه يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته، ثمّ دخل النّاس أرسالا؛ أي: قوما بعد قوم، يصلّون عليه، حتّى إذا فرغوا دخلت النّساء، حتّى إذا فرغن؛ دخل الصّبيان، ولم يؤمّ النّاس عليه أحد، وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن قد صدق. روي عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: لا يؤمّ أحدكم عليه، لأنّه إمامكم حال حياته، وحال مماته. وورد في بعض الرّوايات أنّه صلى الله عليه وسلم أوصى على الوجه المذكور، ولذا وقع التّأخير في دفنه، لأنّ الصّلاة على قبره صلى الله عليه وسلم لا تجوز؛ قاله ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» . قال الباجوري: وجملة من صلّى عليه من الملائكة ستّون ألفا، ومن غيرهم ثلاثون ألفا. انتهى. هذا أمر توقيفيّ؛ يحتاج إلى دليل. والله أعلم. (قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) ؛ أي: أو يترك بلا دفن؟ لسلامته من التّغيّر، أو لانتظار رفعه إلى السّماء؟ (قال: نعم) ؛ أي: يدفن في الأرض، لقوله تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) [طه] ، ولأنّه من سنن الأنبياء والمرسلين (قالوا: أين) يدفن؟ كما تقدّم من الخلاف في دفنه. (قال:) يدفن (في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن) ؛ أي: أنّه (قد صدق) فيما قال. وورد مثل هذا عن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه، فقد أخرج ابن الجوزيّ في «الوفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؟ فقال لي عليّ رضي الله عنه: إنّه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيّه صلى الله عليه وسلم. قال الشّريف السّمهوديّ: فهذا أصل الإجماع على تفضيل البقعة التي ضمّت أعضاءه على جميع الأرض، حتّى من الكعبة!. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه. واجتمع المهاجرون يتشاورون، ... (ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه) ؛ أي: أمر النّاس أن يمكّنوا بني أبيه من غسله، ولا ينازعوهم فيه، ولذلك لم يقل: أمر بني أبيه أن يغسّلوه، مع أنّه الظّاهر؟ لأنّ المأمور بالغسل هم؛ لا النّاس. ومراده: ب «بني أبيه» : عصبته من النّسب، فغسّله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لخبر ابن سعد والبزّار والبيهقيّ وابن الجوزي في «الواهيات» ؛ عن عليّ قال: أوصاني النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألايغسّله أحد غيري، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه» . زاد «ابن سعد» : قال عليّ: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء السّتر- وهما معصوبا العين- قال عليّ: فما تناولت عضوا، إلا كأنّما يقلّبه معي ثلاثون رجلا، حتّى فرغت من غسله. وكان العبّاس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء وأعينهم معصوبة من وراء السّتر. (واجتمع المهاجرون يتشاورون) في أمر الخلافة، والواو لمطلق الجمع، لأنّ القضيّة واقعة قبل الدّفن، فقد ذكر الطبريّ «1» في «الرّياض النّضرة» : أنّ الصّحابة أجمعوا على أنّ نصب الإمام بعد انقراض زمن النّبوة من واجبات الأحكام، بل جعلوه أهمّ الواجبات، حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وواجب نصب إمام عدل ... بالشّرع فاعلم؛ لا بحكم العقل واختلافهم في التعيين لا يقدح في الإجماع. ولتلك الأهميّة لمّا توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر خطيبا؛ فقال: يا أيّها   (1) هو المحب الطبري من علماء القرن السابع الهجري، لا المؤرخ المفسر المحدث المشهور. وقد تقدمت ترجمته مع شيء عن عائلته في الجزء الثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 فقالوا: انطلق «1» بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير، ... النّاس؛ من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات! ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت، ولا بدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به، فانظروا، وهاتوا رأيكم! فقالوا صدقت. واجتمع المهاجرون، (فقالوا) لأبي بكر (: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار) ولعلّهم لم يطلبوا الأنصار إلى مجلسهم!! خوفا أن يمتنعوا من الإتيان إليهم؛ فيحصل اختلاف وفتنة، وقوله: (ندخلهم) - بالجزم؛ في جواب الأمر- (معنا في هذا الأمر) ؛ أي: التّشاور في الخلافة، وكان من جملة القائلين: عمر رضي الله تعالى عنه حيث صرّح بالعلّة بقوله: مخافة إن فارقنا القوم؛ ولم تكن لهم بيعة معنا، أن يحدثوا بعدنا بيعة؟ فإمّا أن نبايعهم على ما لا نرضى، أو نخالفهم؛ فيكون فساد. (فقالت الأنصار) - مرتّب على محذوف، والتّقدير: فانطلقوا إليهم- وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة- فتكلّموا معهم في شأن الخلافة، فقال قائلهم الحباب بن المنذر (: منّا أمير، ومنكم أمير!!) على عادتهم في الجاهلية، قبل تقرّر الأحكام الإسلامية، فإنّه كان لكلّ قبيلة شيخ ورئيس يرجعون إليه في أمورهم وسياستهم. ولهذا كانت الفتنة مستمرّة فيهم إلى أن جاء النّبي صلى الله عليه وسلم وألّف بين قلوبهم، وعفا الله عمّا سلف من ذنوبهم. ولمّا قالوا ذلك ردّ عليهم أبو بكر الصّدّيق، وقال: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فكونوا معنا واستدلّ بقوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) [الحشر] مع   (1) في «وسائل الوصول» : انطلقوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له مثل هذه الثّلاثة؟ ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] من هما؟. قال: ثمّ بسط يده فبايعه، وبايعه النّاس، بيعة حسنة جميلة. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة] فقال لهم: نحن الصّادقون؛ فكونوا معنا. فأذعنوا لقوله. واحتجّ بحديث: «الأئمّة من قريش» وهو حديث صحيح؛ ورد من طريق نحو أربعين صحابيا. وفي رواية أحمد والطّبرانيّ؛ عن عقبة بن عبد بلفظ: «الخلافة لقريش» . واستغني بهذا عن الرّدّ عليهم بالدّليل العقلي؛ وهو أنّ تعدّد الأمير يفضي إلى التّعارض والتّناقض؛ فلا يتمّ النّظام، ولا يلتئم الكلام. (فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له) أي: من ثبت له (مثل هذه) الفضائل (الثّلاثة؟!) التي ثبتت لأبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه، وهو استفهام إنكاريّ، قصد به الرّدّ على الأنصار، حيث توهّموا أنّ لهم حقا في الخلافة، وهذه الثّلاثة مذكورة في قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) هذه الأولى، والثّانية قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) ، والثّالثة قوله (إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) فبعد ما تلا عليهم عمر بن الخطّاب هذه الآية، قال: (من هما!؟) أي: من هذان الاثنان المذكوران في هذه الآية؟ والاستفهام للتّعظيم والتّقرير!! (قال) ؛ أي: الرّاوي (ثمّ بسط) أي: مدّ عمر رضي الله عنه (يده) أي: كفّه (فبايعه) ؛ أي: بايع عمر أبا بكر الصّدّيق (وبايعه النّاس) أي: الموجودون في ذلك المحل (بيعة حسنة جميلة) لوقوعها عن ظهور واتفاق من أهل الحلّ والعقد، ولم يحضر هذه البيعة عليّ والزّبير؛ ظنّا منهما أنّ الشيخين لم يعتبراهما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 ......... المشاورة؛ لعدم اعتنائهما بهما، مع أنّه ليس الأمر كذلك؟ بل كان عذرهما في عدم التّفتيش على من كان غائبا في هذه الوقت عن هذا المجلس، خوفهما من الأنصار أن يعقدوا البيعة لواحد منهم؛ فتحصل الفتنة، مع ظنّهما أنّ جميع المهاجرين خصوصا عليّا والزّبير لا يكرهون خلافة أبي بكر. ولذلك قال عليّ والزّبير: ما أغضبنا إلّا أنّا أخّرنا عن المشورة، وأنّا نرى أبا بكر أحقّ النّاس بها، وأنّه لصاحب الغار، وأنّا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّي بالنّاس؛ وهو حيّ، وأنّه رضيه لديننا؛ أفلا نرضاه لدنيانا. ولمّا حصلت تلك المبايعة في سقيفة بني ساعدة يوم الاثنين؛ الّذي مات فيه النّبي صلى الله عليه وسلم وأصبح يوم الثّلاثاء، واجتمع النّاس في المسجد النّبويّ بكثرة وحضر عليّ والزّبير، وجلس الصّدّيق على المنبر، وقام عمر، فتكّلم قبله، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله تعالى قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايعوه بيعة عامّة، حتّى عليّ والزّبير بعد بيعة السّقيفة. ثمّ تكلّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد؛ أيّها النّاس قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضّعيف فيكم قويّ عندي حتى أريح عليه حقّه إن شاء الله تعالى، والقويّ فيكم ضعيف عندي؛ حتّى آخذ الحقّ منه إن شاء الله، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله، إلّا ضربهم الله بالذّلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلّا عمّهم الله تعالى بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، وإذا عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم؛ رحمكم الله. وأخرج موسى بن عقبة؛ في «مغازيه» ، والحاكم وصحّحه؛ عن عبد الرّحمن بن عوف قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 قال الباجوريّ: (الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40] . الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التوبة: 40] . خطب أبو بكر؛ فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما وليلة قطّ، ولا كنت راغبا، ولا سألتها الله؛ في سرّ ولا علانية، ولكنّي أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، فلقد قلّدت أمرا عظيما؛ مالي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله. ولما فرغوا من المبايعة يوم الثّلاثاء اشتغلوا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم. (قال) شيخ الإسلام؛ إبراهيم (الباجوريّ) - نسبة إلى «بيجور» قرية بمصر؛ من المنوفيّة، ويقال لها: باجور، ولعلّها لغة فيها!! رحمه الله تعالى قال في تقرير الفضائل الثلاث الّتي ثبتت للصّدّيق رضي الله تعالى عنه: (الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى) في سورة التّوبة (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) [40/ التوبة] المعهود بمكّة وقت الهجرة وهو غار ثور، إذ مكثا فيه ثلاث ليال، فذكر في الآية أبا بكر الصّدّيق مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بضمير التّثنية، وناهيك بذلك. (الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة، في قوله تعالى إِذْ يَقُولُ) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (لِصاحِبِهِ) أبي بكر الصّدّيق، وقد قال له لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصارنا؟! (لا تَحْزَنْ) مقول قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الصّدّيق قد حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا على نفسه؟ فقال له: يا رسول الله: إذا متّ أنا، فأنا رجل واحد، وإذا متّ أنت؛ هلكت الأمّة والدّين!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 فسمّاه الله (صاحبه) ، فمن أنكر صحبته.. كفر؛ لمعارضته القرآن. الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] . (فسمّاه الله «صاحبه» ) ولم يشرّف غيره من الصّحابة بتنصيصه على الصّحبة، (ف) لهذه الخصوصية، قال العلماء: (من أنكر صحبته كفر، لمعارضته القرآن) أي: لكون إنكار صحبته يتضمّن إنكار الآي القرآنية، بخلاف سائر الصّحابة، ولعلّ هذه الإضافة المشرّفة بالكتاب، صارت سببا لصحبته المستمرّة له في الحياة والممات، والخروج إلى العرصات، والدّخول في الجنّات!! فبهذه الصّحبة المخصوصة فارق الصّدّيق سائر الأصحاب، كما شهد به الكتاب. (الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) [40/ التوبة] والمراد بالمعيّة: الولاية الدائمة، الّتي لا يحوم حول صاحبها شيء من الحزن. وفي العدول عن «معي» إلى «معنا» : دلالة واضحة على اشتراك الصّدّيق معه في هذه المعيّة، بخلاف قول موسى عليه الصّلاة والسّلام كما أخبر سبحانه عنه بقوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) [الشعراء] . وقد ذكرت الصّوفيّة هنا شيئا من النّكت العليّة؛ وهي: أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام كان في مقام التّفرقة، وأنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم كان في حالة الجمعيّة الجامعة، المعبّر عنها، بمقام «جمع الجمع» . فهذه المعيّة المقرونة بالجمعية مختصّة بالصّدّيق؛ دون الأصحاب. فانظر إلى خصوصيّته رضي الله عنه بهذه الأسرار، من موافقته في الغار، ومرافقته في الأسفار، وملازمته في موضع القرار؛ حيا وميتا، وخروجا من القبر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 فثبوت هذه الفضائل له.. يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كرب الموت ما وجد.. قالت فاطمة رضي الله [تعالى] عنها: واكرباه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم؛ ... ودخولا في الجنّة؛ مقدّما على جميع الأبرار. (فثبوت هذه الفضائل له) دليل ظاهر على أفضليّته، وتقدّمه على سائر الصّحابة، وذلك (يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) وفي هذه القضيّة من الإشارة الخفيّة أنّه أفضل المهاجرين، لأنّ هجرته مقرونة بهجرته صلى الله عليه وسلم، بخلاف هجرة غيره؛ مقدّما أو مؤخّرا. ومن المعلوم أنّ المهاجرين أفضل من الأنصار، وقد أشار إليه سبحانه بقوله: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [100/ التوبة] . فهذا دليل على أن الصّدّيق أفضل الأصحاب كما فهمه عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهم. أجمعين. (و) أخرج البخاريّ بعضه، وابن ماجه والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: لمّا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت) أي: شدّة سكراته، لأنّه كان يصيب جسده الشّريف الآلام البشريّة، ليزداد ترقية في المراتب العليّة، و «من» تبعيضيّة، أو بيانيّة، لقوّة (ما وجد، قالت فاطمة) الزّهراء (رضي الله عنها) - لمّا رأت من شدّة كرب أبيها- (: وا كرباه!!) - بألف الندبة، وفتح الكاف، وسكون الرّاء، وهاء ساكنة في آخره للوقف-، فقد حصل لها من التّألّم والتّوجّع مثل ما حصل لأبيها. (فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم) تسلية لها (: «لا كرب على أبيك بعد اليوم!!) ، لأنّ الكرب كان بسبب العلائق الجسمانيّة، وبعد اليوم تنقطع تلك العلائق الحسّية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 إنّه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة» . قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» : (قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق، فنظر إلينا، فدمعت عيناه صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: ... للانتقال حينئذ إلى الحضرة القدسيّة، فكربه سريع الزّوال؛ ينتقل بعده إلى أحسن النّعيم، ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمحن الدّنيا فانية، ومنح الآخرة باقية. (إنّه) ؛ أي: الحال والشّأن (قد حضر من أبيك) ؛ أي: نزل به (ما) أي: شيء عظيم- (ليس) الله (بتارك منه) من الوصول إليه (أحدا) وذلك الأمر العظيم، هو (: الموافاة يوم القيامة» ) أي: الحضور ذلك اليوم المستلزم للموت. والقصد تسليتها، بأنّه لا كرب عليه بعد اليوم، وأمّا اليوم فقد حضره ما هو مقرّر عامّ لجميع الأنام، فينبغي أن ترضي وتسلّمي؛ كذا قرره المناوي. (قال الإمام) حجّة الإسلام محمّد بن محمّد بن محمّد: أبو حامد (الغزاليّ) بتخفيف الزّاي؛ في المشهور- منسوب إلى «غزالة» : قرية من قرى طوس، وحكي عن بعض أسباط الغزالي: أنّه أخطأ النّاس في تثقيل جدّنا. وإنّما هو مخفّف رحمه الله تعالى. (في) كتاب ( «الإحياء» ) ؛ أي: «إحياء علوم الدّين» ؛ في «ربع المنجيات؛ كتاب ذكر الموت» (قال) عبد الله (بن مسعود) الهذليّ (رضي الله تعالى عنه: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق) للدّنيا (فنظر إلينا؛ فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 «مرحبا بكم، حيّاكم الله، آواكم الله، نصركم الله، وأوصيكم بتقوى الله، وأوصي بكم الله، إنّي لكم منه نذير مبين؛ ألاتعلوا على الله في بلاده وعباده، وقد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة المأوى، وإلى الكأس الأوفى، فاقرؤوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي منّي السّلام ورحمة الله» . «مرحبا بكم) - أي: لقيتم رحبا؛ أي: سعة- (حيّاكم الله) - معناه: الدّعاء لهم بالحياة في الطّاعة، على ما هو اللّائق في مقام الدّعاء- (آواكم الله) - بالمدّ والقصر، والمدّ أشهر، أي: ضمّكم إلى رحمته ورضوانه، وإلى ظلّ عرشه يوم القيامة- (نصركم الله) ؛ أي: أعانكم. (وأوصيكم بتقوى الله) ؛ أي: بمخافته، والحذر من مخالفته، (وأوصي بكم الله) ؛ أي: أستخلفه عليكم، (إنّي لكم منه نذير مبين) بيّن الإنذار؛ (أن لا تعلو) تتكبّروا (على الله في بلاده) بترك ما أمركم به، وفعل ما نهاكم عنه (وعباده) بظلمهم (وقد دنا) : قرب (الأجل) : الموت، (والمنقلب) : الرّجوع (إلى الله، وإلى سدرة المنتهى) الّتي ينتهي إليها علم الخلائق، (وإلى جنّة المأوى) : الإقامة، (وإلى الكأس الأوفى، فاقرأوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي منّي السّلام، ورحمة الله» ) أي: أنالكم الله رحمته الّتي وسعت كلّ شيء. قال في «شرح الإحياء» : قال العراقيّ: رواه البزّار، وقال: هذا الكلام قد روي [عن] مرّة عن عبد الله من غير وجه، وأسانيدها متقاربة. قال: وعبد الرّحمن بن الأصبهانيّ لم يسمع هذا من مرّة، وإنّما هو عمّي أخبره عن مرّة، قال: ولا أعلم أحدا رواه عن عبد الله غير مرّ. قلت: وروي من غير ما وجه؛ رواه ابن سعد في «الطّبقات» من رواية ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 وروي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السّلام عند موته: «من لأمّتي من بعدي؟» ، فأوحى الله تعالى إلى جبريل: أن بشّر حبيبي أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض إذا بعثوا، وسيّدهم إذا جمعوا، ... عون؛ عن ابن مسعود. ورويناه في «مشيخة القاضي أبي بكر الأنصاريّ» من رواية الحسن العرني؛ عن ابن مسعود، ولكنّهما منقطعان وضعيفان، والحسن العرنيّ، إنّما يرويه عن مرّة، كما رواه ابن أبي الدّنيا، والطّبرانيّ في «الأوسط» . انتهى. (وروي) بإسناد ضعيف؛ في حديث طويل جدّا- كما قال العراقيّ- رواه الطبرانيّ في «الكبير» من حديث جابر؛ وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم. (أنّه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السّلام عند موته: «من لأمّتي) المصطفاة (من بعدي؟» . فأوحى الله تعالى إلى جبريل) عليه السّلام (أن بشّر حبيبي، أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض) ؛ أي: من قبره. فقد روى مسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنا سيّد ولد آدم، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» . ورواه أبو داود أيضا وغيره. (إذا بعثوا) ؛ أي: أثيروا من قبورهم، وهذا من كمال عناية ربّه به، حيث منحه هذا السّبق، (وسيّدهم إذا جمعوا) في أرض المحشر يوم القيامة ويظهر سؤدده لكلّ أحد عيانا. أخرج التّرمذيّ بسند فيه راو ليّن؛ عن أنس رضي الله عنه: «أنا أوّل النّاس خروجا؛ إذا بعثوا، وأنا خطيبهم؛ إذا وفدوا، وأنا مبشّرهم؛ إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي؛ ولا فخر» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته، فقال [صلّى الله عليه وسلّم] : «الآن قرّت عيني» . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة آبار، ... وأخرج مسلم وأبو داود كلاهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» . (وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته. فقال) ؛ أي صلى الله عليه وسلم (: «الآن قرّت عيني» ) ؛ أي: سررت بهذه البشارة. (وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) فيما رواه الدّارميّ بهذا السّياق في «مسنده» - وفيه: إبراهيم بن المختار؛ مختلف فيه- عن محمّد بن إسحاق- وهو مدلّس، وقد رواه بالعنعنة؛ كما قاله العراقيّ-. (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة آبار) هذه زيادة على رواية البخاري وغيره، فيحتمل أنّها معيّنة، ويحتمل أنّها غير معيّنة، وإنّما يراد تفرّقها خاصّة. فعلى الأوّل: في تلك الآبار المعيّنة خصوصيّة، ليست في غيرها. وعلى الثّاني: الخصوصيّة في تفرّقها. والله أعلم. وقد ذكر العلماء الآبار الّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ منها، ويشرب من مائها؛ ويغتسل، وهي سبعة: 1- بئر أريس؛ ويقال لها «بئر الخاتم» ، و 2- بيرحاء، و 3- بئر رومة، و 4- بئر غرس، و 5- بئر بضاعة، و 6- بئر بصّة، و 7- بئر السّقيا؛ أو 7- بئر جمل. السّابعة فيها تردّد!!. وقد أخرج ابن ماجه في «السّنن» ؛ من حديث عليّ بإسناد جيّد: «إذا أنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 ففعلنا ذلك، فوجد راحة، فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار، فقال: «أمّا بعد: يا معشر المهاجرين؛ فإنّكم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم، وإنّ الأنصار عيبتي الّتي أويت إليها، ... متّ، فاغسلوني بسبع قرب من بئري: بئر غرس» . انتهى «شرح الإحياء» . (ففعلنا ذلك؛ فوجد راحة) ؛ أي: خفّة من المرض (فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم) كالمودّع للأحياء والأموات، (وأوصى بالأنصار) أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وفي البخاريّ؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا دخل بيتي واشتدّ وجعه؛ قال: «أهريقوا عليّ من سبع قرب؛ لم تحلل أوكيتهنّ، لعلّي أعهد إلى النّاس!» . فأجلسناه في مخضب لحفصة «زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم» ثمّ طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب، حتّى طفق يشير إلينا بيده: أن قد فعلتنّ. قالت: ثمّ خرج إلى النّاس؛ فصلّى بهم، وخطبهم؛ (فقال: «أمّا بعد؛ يا معشر المهاجرين، فإنّكم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم) بل ينقصون- كما في البخاري- حتّى يكونوا كالملح في الطّعام» . وقد وقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإنّ الموجودين الآن ممّن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه- ممّن يتحقّق نسبته إليه- أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج، ممّن يتحقّق نسبه!! وقس على ذلك. ولا التفات إلى كثرة من يدّعي أنّه منهم من غير برهان؛ قاله في «الفتح» . (وإنّ الأنصار عيبتي) - بعين مهملة مفتوحة، وتحتيّة ساكنة، وموحّدة مفتوحة، وتاء تأنيث- وهي: ما يحرز فيها الرّجل نفيس ما عنده، يعني: أنّهم موضع سرّه (الّتي أويت إليها) فإنّهم آووه ونصروه، وهذا أمر قد انقضى زمانه؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 فأكرموا كريمهم- يعني: محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» . ثمّ قال [صلّى الله عليه وسلّم] : «إنّ عبدا خيّر بين الدّنيا وبين ما عند الله.. فاختار ما عند الله» ، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ أنّه يريد نفسه. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «على رسلك يا أبا بكر،.. لا يلحقهم فيه اللّاحق، ولا يدرك شأوهم السّابق (فأكرموا كريمهم» - يعني: محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» ) في غير الحدود. (ثمّ قال: «إنّ عبدا خيّر) - من التّخيير- (بين الدّنيا وبين ما عند الله) في الآخرة؛ (فاختار) ذلك العبد (ما عند الله» . فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ) ؛ أي: فهم (أنّه) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (يريد) بهذا الكلام (نفسه) صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه: فديناك بابائنا وأمّهاتنا. قال الرّاوي: فعجبنا لبكائه! وقال النّاس: متعجّبين: انظروا إلى هذا الشّيخ؛ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيّره بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا؛ وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمّهاتنا!؟. قال الرّاوي: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به؛ ذكره في البخاري. (فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلك؛ يا أبا بكر) تسلية له، إذ خفي المعنى على كثير ممّن سمع كلامه، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصّيص به؛ ثاني اثنين إذ هما في الغار، وكان أعلم الأمّة بمقاصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا فهم المقصود من هذه الإشارة بكى؛ وقال «بل نفديك بأموالنا؛ وأنفسنا؛ وأولادنا» . فسكّن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه، وأخذ في مدحه، والثّناء عليه على المنبر، ليعلم النّاس كلّهم فضله؛ فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: «إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر؛ فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصّحبة من أبي بكر» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( «سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر) الصّدّيق؛ إكراما له، وتنويها بأنّ أبا بكر هو الخليفة والإمام بعده، فإنّ الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد، والاستطراق فيه، بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلّين؛ فإبقاؤه مصلحة عامّة. ثمّ صرّح بأفضليّته على غيره؛ حيث قال: (فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصّحبة من أبي بكر» ) الصّدّيق، فهو أفضل الأصحاب على الإطلاق. ثمّ أكّد هذا المعنى بأمره صريحا: أن يصلّي بالنّاس أبو بكر، فروجع في ذلك، وهو يقول: «مروا أبا بكر أن يصلّي بالنّاس» . فولّاه إمامة الصّلاة، ولذا قال الصّحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟! وفيه إشارة قويّة إلى استحقاقه الخلافة، لا سيّما وقد ثبت أنّ ذلك كان في الوقت الّذي أمرهم فيه أنّ لا يؤمّهم إلّا أبو بكر. نعم جاء في سدّ الأبواب أحاديث؛ يخالف ظاهرها حديث الباب!!؛ فروى الإمام أحمد، والنّسائيّ بإسناد قويّ؛ عن سعد بن أبي وقّاص: أمر صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب الشّارعة في المسجد، وترك باب عليّ زاد الطّبرانيّ في «الأوسط» برجال ثقات: فقالوا: يا رسول الله؛ سددت أبوابنا؟! فقال: «ما سددتها!!، ولكنّ الله سدّها!» . وروى الإمام أحمد، والنّسائيّ، والحاكم برجال ثقات؛ عن زيد بن أرقم: كان لنفر من الصّحابة أبواب شارعة في المسجد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «سدّوا هذه الأبواب، إلّا باب عليّ» رضي الله عنه، فتكلّم ناس في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّي والله ما سددت شيئا، ولا فتحته! ولكن ولكن أمرت بشيء، فاتّبعته» . وروى الإمام أحمد، والنّسائيّ برجال ثقات؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 ......... عنهما قال: أمر صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدّت؛ غير باب عليّ. فكان يدخل المسجد وهو جنب؛ ليس له طريق غيره. وروى الطّبرانيّ عن جابر بن سمرة قال: أمر بسدّ الأبواب كلّها؛ غير باب عليّ، فربّما مرّ فيه وهو جنب. وروى الإمام أحمد بإسناد حسن؛ عن ابن عمر قال: لقد أعطي عليّ ثلاث خصال؛ لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم: زوّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابنته؛ وولدت له، وسدّ الأبواب؛ إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الرّاية يوم خيبر. وهذه أحاديث يقوّي بعضها بعضا، وكلّ طريق منها صالح للحجّة؛ فضلا عن مجموعها. وأوردها ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وأعلّها بما لا يقدح!! وبمخالفتها للأحاديث الصّحيحة في باب أبي بكر!! وزعم أنّها من وضع الزّنادقة؛ قابلوا بها الحديث الصّحيح!! فأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فاحشا، فإنّه سلك يردّ الأحاديث الصّحيحة بتوهّمه المعارضة!! مع أنّ الجمع بين القضيّتين ممكن؛ كما أشار إليه البزّار، بما دلّ عليه حديث أبي سعيد؛ عند الترمذيّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: «لا يحلّ لأحد، أن يطرق هذا المسجد جنبا، غيري وغيرك» . والمعنى: أنّ باب عليّ كان إلى جهة المسجد؛ ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدّه. ويؤيّده ما أخرجه إسماعيل القاضي؛ عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمرّ في المسجد وهو جنب؛ إلّا لعليّ بن أبي طالب، لأنّ بيته كان في المسجد. ومحصّل الجمع أنّه أمر بسدّ الأبواب مرّتين. ففي الأولى: استثنى باب عليّ لما ذكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقبض صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، ... وفي الآخرى: باب أبي بكر، لكن إنّما يتمّ بحمل باب عليّ على الباب الحقيقي، وباب أبي بكر الباب المجازيّ؛ أي الخوخة- كما في بعض طرقه- وكأنّهم لما أمروا بسدّها سدّوها، وأحدثوا خوخا يستقربون الدّخول إلى المسجد منها؛ فأمروا بعد ذلك بسدّها، فهذا لا بأس به في الجمع. وبه جمع الطّحاويّ والكلاباذيّ، وصرّح بأنّ بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد؛ وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت عليّ لم يكن له باب إلّا من داخل المسجد. انتهى. ملخّصا من «فتح الباري» رحم الله مؤلّفه. آمين. (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما ذكره في «الإحياء» . وقال العراقي: متّفق عليه- (فقبض صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي) الّذي كان يدور عليّ فيه (وبين سحري) - بفتح السّين، وسكون الحاء المهملتين-: هو الصّدر، (ونحري) - بفتح النّون، وسكون الحاء المهملة-: موضع القلادة من الصّدر؛ كما في «الصّحاح» . وفي رواية عنها: مات بين حاقنتي وذاقنتي. والحاقنة- بالحاء المهملة، والقاف المكسورة، والنّون المفتوحة-: أسفل من الذّقن. والذّاقنة: طرف الحلقوم. وقيل: غير ذلك. والحاصل: أنّ ما بين الحاقنة والذّاقنة، هو: ما بين السّحر والنّحر. والمراد أنّه صلى الله عليه وسلم توفّي ورأسه بين عنقها وصدرها. وهذا الحديث الصّحيح لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد؛ من طرق: أنّه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر عليّ!! لأنّ طريقا منها؛ كما قال الحافظ ابن حجر: لا يخلو عن مقال في إسناده؛ من جهة ضعف رواته؛ فلا يلتفت لمعارضته الحديث الصّحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ أخي عبد الرّحمن وبيده سواك، فجعل ينظر إليه، فعرفت أنّه يعجبه ذلك، فقلت له: آخذه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فناولته إيّاه، فأدخله في فيه، فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فليّنته، وكان بين يديه ركوة ماء، فجعل يدخل فيها يده ويقول: «لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» ، ثمّ نصب يده يقول: «الرّفيق الأعلى ... (وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ) - بتشديد الياء- (أخي عبد الرّحمن) بن أبي بكر (وبيده سواك) ؛ وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فجعل ينظر إليه!! فعرفت أنّه يعجبه ذلك؛ فقلت له: آخذه لك!؟ فأومأ برأسه؛ أي: نعم) . فيه العمل بالإشارة عند الحاجة، وقوّة فطنة عائشة رضي الله تعالى عنها (فناولته إيّاه، فأدخله في فيه؛ فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه، أي: نعم. فليّنته) بالماء، (وكان بين يديه ركوة ماء) - بفتح الرّاء؛ من جلد- (فجعل يدخل فيها يده) ويمسح بها وجهه، (ويقول: «لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» .) جمع سكرة؛ وهي الشّدّة. (ثمّ نصب يده يقول: «الرّفيق الأعلى) أي: أسأل الله الرّفيق الأعلى. والرّفيق الأعلى هو: جماعة الأنبياء الّذين يسكنون أعلى علّيّين. والمراد الأنبياء؛ ومن ذكر في الآية. والمراد بمرافقتهم: المحلّ الّذي يحصل فيه مرافقتهم في الجملة؛ على اختلاف درجاتهم، فلا يقال: إنّ محلّه صلى الله عليه وسلم فوقهم؛ فكيف يسأل اللّحاق بهم؟. وقيل: المراد بالرّفيق الأعلى: الله، لأنّه من أسمائه تعالى- كما في مسلم؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 الرّفيق الأعلى» . فقلت: إذا- والله- لا يختارنا. وروى سعيد بن عبد الله، عن أبيه ... عن عائشة: «إنّ الله رفيق؛ يحبّ الرّفق» -. وقيل: المراد بالرّفيق الأعلى: حظيرة القدس، أي: الجنّة، وقيل غير ذلك. (الرّفيق الأعلى» ) ولا زال يكرّر ذلك صلى الله عليه وسلم حتّى قبض، ومالت يده. وفي «المواهب» : الحكمة في اختتام كلامه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة كونها تتضمّن التّوحيد، أي: لدلالتها على قطع العلائق، عن غيره سبحانه وتعالى حيث قصر نظره على طلب الرّفيق الأعلى على كلّ تفسيراته. وتتضمّن الذّكر بالقلب، فهو وإن لم يذكر باللّسان؛ فهو مستحضر بالقلب، حتّى يستفاد منها الرّخصة لغيره، أنّه لا يشترط أن يكون الذّكر باللّسان عند الموت، لأنّ بعض النّاس قد يمنعه من النّطق مانع؛ كعقل اللّسان عنه، فلا يضرّه ذلك إذا كان قلبه عامرا بالذّكر. انتهى من الزّرقاني. (فقلت: إذا؛ والله لا يختارنا) من الاختيار، وفي رواية: لا يجاورنا. قالت: فعرفت أنّه حديثه الّذي كان يحدّثنا به؛ وهو صحيح حيث كان يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ، حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يخيّر» . وما فهمته عائشة رضي الله عنها من قوله عليه الصّلاة والسّلام: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» أنّه خيّر بين الدّنيا، والارتحال إلى الآخرة، نظير فهم أبيها رضي الله عنه؛ من قوله عليه الصّلاة والسّلام «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» أنّ العبد المراد هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم- كما تقدّم-. (و) في كتاب «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (روى سعيد بن عبد الله) بن ضرار (عن أبيه) عبد الله بن ضرار بن الأزور؛ تابعيّ روى عن ابن مسعود، قال أبو حاتم فيه، وفي ابنه سعيد: ليس بالقوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 قال: لمّا رأت الأنصار أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزداد ثقلا.. أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم. انتهى. وقال الذّهبيّ: سعيد بن عبد الله بن ضرار؛ عن أبيه؛ وغيره. قال يحيى: لا يكتب حديثه. انتهى من «شرح الإحياء» . وحديثه هذا قال فيه العراقيّ: مرسل ضعيف، وفيه نكارة، ولم أجد له أصلا!!. لكن قال في «شرح الإحياء» : أسنده سيف بن عمر التّميمي- ويقال الضّبي- الكوفيّ في كتاب «الفتوح» هكذا. وسيف بن عمر ضعيف الحديث عمدة في التّاريخ، أفحش ابن حبّان القول فيه، مات زمن الرّشيد، روى له التّرمذيّ؛ قاله الحافظ ابن حجر. نقله الزّرقانيّ، وقال: ذكر هذا الحديث الفاكهانيّ في «الفجر المنير» ؛ من طريق سيف بن عمر التّميمي المذكور رحمه الله تعالى. (قال: لمّا رأت الأنصار) جمع ناصر؛ كالأصحاب: جمع صاحب، وسمّوا بذلك!! لما فازوا به دون غيرهم؛ من نصرته صلى الله عليه وسلم وإيوائه، وإيواء من معه، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم. والأنصار هم: قبيلتا الأوس والخزرج، وحلفاؤهم أبناء حارثة بن ثعلبة، وهو اسم إسلاميّ، واسم أمّهم قيلة- بالقاف المفتوحة، والتّحتية السّاكنة-. وفي البخاري؛ عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمّون به، أم سمّاكم الله به؟ قال: بلى سمّانا الله به. أي: كما في قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [100/ التوبة] انتهى. من القسطلّاني» . (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلا) من مرضه (أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم) : خوفهم عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 ثمّ دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك. ثمّ دخل عليه عليّ رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله، فمدّ يده، وقال: «ها» فتناولوه، فقال: «ما يقولون؟» ، قالوا: يقولون: نخشى أن تموت. وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فخرج متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معصوب الرّأس يخطّ برجليه، حتّى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثاب النّاس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني أنّكم تخافون عليّ الموت، كأنّه استنكار منكم للموت؟! وما تنكرون من موت نبيّكم؟ ألم أنع إليكم، وتنعى إليكم أنفسكم؟! الفقد، (ثمّ دخل عليه الفضل) بن عبّاس [رضي الله تعالى عنه] (فأعلمه بمثل ذلك، ثمّ دخل عليه عليّ) بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله) أي: ذكر له حال الأنصار. (فمدّ يده) صلى الله عليه وسلم (وقال: «ها» ) ؛ أي: خذوا بيدي لأنهض، (فتناولوه، فقال: «ما يقولون؟» قالوا: يقولون: نخشى أن تموت) من مرضك هذا (وتصايح نساؤهم) ؛ أي: رفعن أصواتهنّ بالبكاء (لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) من فراشه (فخرج) حال كونه (متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه) : قدّامه، (ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب الرّأس) من الوجع (يخطّ) - بضمّ الخاء- (برجليه حتّى جلس على أسفل مرقاة) : درجة (من المنبر، وثاب) : اجتمع (النّاس إليه) في المجلس، (فحمد الله وأثنى عليه) بما هو أهله، (وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني) من الثّلاثة المذكورين (أنّكم تخافون عليّ) - بتشديد الياء التحتيّة- (الموت؟! كأنّه استنكار منكم للموت؟!) أن ينزل بي، (وما تنكرون من موت نبيّكم!؟ ألم أنع إليكم؟ وتنعى إليكم أنفسكم؟!) في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث.. فأخلّد فيكم؟ ألا وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به. وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا، وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإنّ الله عزّ وجلّ قال: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 1- 3] ... إلى آخرها. قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] (هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث) إليهم (فأخلّد؟!) - بالنّصب- (فيكم!!) وفيه تسلية لهم، وتذكير بقوله تعالى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [34/ الأنبياء] ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] ، (ألا) - بالفتح والتّخفيف- (وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به) ؛ أي: ميّتون لا محالة، (وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا) بأن تعرفوا حقّهم، وتنزلوهم منزلتهم، (وأوصي المهاجرين فيما بينهم) بالدّوام على التّقوى وعمل الصّالحات، (فإنّ الله عزّ وجلّ قال (وَالْعَصْرِ) (1) - الدّهر، أو: ما بعد الزّوال إلى الغروب، أو صلاة العصر- (إِنَّ الْإِنْسانَ) - الجنس- (لَفِي خُسْرٍ) (2) ؛ أي: خسران، ومعناه: النّقصان، وذهاب رأس المال، والتّنكير في الخسر، يفيد التّعظيم، أي: إنّ الإنسان لفي خسر عظيم، لا يعلم كنهه إلّا الله، فقد جعل الإنسان مغمورا في الخسر للمبالغة، وأنّه أحاط به من كلّ جانب، لأنّ كلّ ساعة تمرّ بالإنسان، فإن كانت مصروفة إلى المعصية؛ فلا شكّ في الخسر، وإن كانت مشغولة بالمباحات؛ فالخسران أيضا حاصل، وإن كانت مشغولة بالطّاعات؛ فهي غير متناهية، وترك الأعلى والاقتصار على الأدنى نوع خسران. والألف واللّام في «الإنسان» للجنس، فيشمل المؤمن والكافر، بدليل الاستثناء في قوله- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا - أي: فليسوا كذلك، وتلاها (إلى آخرها) . أو أنّه قال: «إلى آخرها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وإنّ الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله.. غلبه، ومن خادع الله.. خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] . وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤوا الدّار والإيمان (وإنّ الأمور تجري) ؛ أي: تقع (بإذن الله) أي: بإرادته، (فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله؟!، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يعجل لعجلة) ؛ أي: لأجل عجلة (أحد) ، فلا فائدة في الاستعجال، بل فيه الهمّ والغمّ والنّكال، (ومن غالب الله غلبه) الله، (ومن خادع الله خدعه) . والمفاعلة فيهما ليست مرادة، بل هي نحو «عافاك الله» . وإنّما عبّر بالمفاعلة!! تشبيها بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [9/ البقرة] ؛ تشبيها لفعل المنافقين بفعل المخادع. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) - فهل يتوقّع منكم- (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - أمور النّاس، وتأمّرتم عليهم، أو أعرضتم وتولّيتم عن الإسلام- (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [22/ محمد] ؛ تشاجرا على الدّنيا، وتجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من التّغاور ومقاتلة الأقارب. والمعنى: أنّهم لضعفهم في الدّين وحرصهم على الدّنيا؛ أحقّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم، ويقول لهم: هل عسيتم؛ قاله البيضاوي. ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام. (وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤا الدّار) ؛ أي: اتّخذوا المدينة وطنا، سمّيت دارا!! لأنّها دار الهجرة (والإيمان) ؛ أي: ألفوه، فنصب بعامل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 من قبلكم؛ أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثّمار؟! ألم يوسّعوا عليكم في الدّيار؟! ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟!. ألا.. فمن ولّي أن يحكم بين رجلين.. فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم. ألا.. ولا تستأثروا عليهم. ألا.. وإنّي فرط لكم، وأنتم لاحقون بي. ألا.. وإنّ موعدكم الحوض، حوضي أعرض ممّا بين بصرى خاصّ، أو بتضمين «تبوؤا» معنى «لزموا» ، أو بجعل الإيمان منزلا مجازا لتمكّنهم فيه، فجمع في «تبوؤا» بين الحقيقة والمجاز. (من قبلكم، أن تحسنوا إليهم) بدل من «خيرا» . ثمّ بيّن أنّ أمره به لمكافأتهم بقوله: (ألم يشاطروكم في الثّمار؟) بإعطائكم نصف ثمارهم. والاستفهام للتّقرير!! (ألم يوسّعوا لكم في الدّيار؟ ألم يؤثروكم) : يقدّموكم (على أنفسهم، وبهم الخصاصة) : الحاجة إلى ما يؤثرون به، (ألا فمن ولّي أن يحكم بين رجلين) منهم؛ (فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم) في غير الحدود. وعبّر بالجمع!! إشارة إلى أنّ المراد جنس رجلين، أو على أنّ أقل الجمع اثنان. (ألا) - بالفتح مخفّفا- (ولا تستأثروا عليهم) بتقديم أنفسكم، وتميّزكم بالأمور الدّنيوية دونهم، (ألا؛ وإنّي فرط) - بفتحتين: سابق- (لكم) أهيّء لكم حوائجكم، (وأنتم لاحقون بي، ألا وإنّ موعدكم الحوض) في القيامة، (حوضي أعرض ممّا بين بصرى) ؛ كحبلى: بلد بالشّام، بين دمشق والمدينة، أوّل بلاد الشّام فتوحا سنة ثلاث عشرة، وحقّق شرّاح «الشّفاء» أنّها حوران، أو قيساريّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 الشّام وصنعاء اليمن، يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء، أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد، من شرب منه.. لم يظمأ أبدا، ... وإنما قال: «بصرى (الشّام» ) بالإضافة!! احترازا من بصرى بغداد؛ قرية قرب عكبر، ذكرها ياقوت في «المعجم» «1» (وصنعاء) - بالمدّ، ويقصر للضّرورة-: بلد باليمن، قاعدة ملكها، ودار سلطنتها، كثير الأشجار والمياه، حتّى قيل: إنّها تشبه دمشق الشّام في المروج والأنهار، ويقال: إنّ اسم مدينة صنعاء في الجاهلية: أزال. ويروى: أنّ صنعاء كانت امرأة ملكة، وبها سمّيت صنعاء، وفي كتاب «المعجم» لأبي عبيد البكري: أنّ صنعاء كلمة حبشيّة، ومعناها: وثيق حصين. وإنّما قال «صنعاء (اليمن» ) !! بالإضافة، احترازا من صنعاء الشّام بباب دمشق. والمراد أنّ مسافة عرضه كالمسافة بين بصرى وصنعاء، وهو مربّع؛ لا يزيد طوله ولا عرضه. قال القاضي عياض: الحوض على ظاهره عند أهل السّنّة، فيجب الإيمان به. وقال القرطبي: أحاديث الحوض متواترة، فقد رواه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين، ورواه عنهم من التّابعين أمثالهم، ثمّ لم تزل تلك الأحاديث تتوالى؛ وتشير الرّواة إليها في جميع الأعصار إلى أن انتهى ذلك إلينا، وقامت به حجّة الله علينا، فأجمع عليه السّلف والخلف. (يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء) والكوثر: نهر في الجنّة؛ حافّتاه من الذّهب، ومجراه على الدّرّ والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه (أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد) ؛ أي: العسل، وكيزانه عدد نجوم السّماء. (من شرب منه) شربة (لم يظمأ) بعدها (أبدا) ؛ أي: لم يعطش عطشا   (1) أي: «معجم البلدان» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه المسك، من حرمه في الموقف غدا.. حرم الخير كلّه. ألا.. فمن أحبّ أن يرده عليّ غدا.. فليكفف لسانه ويده إلّا مّما ينبغي. فقال العبّاس: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش. فقال: «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا؛ والنّاس تبع لقريش، يتأذّى به (حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه) - أي: ترابه- (المسك) ، وريحه أطيب من ريح المسك، وخصّه!! لأنّه أطيب الطّيب. (من حرمه) ؛ أي: منع من الشّرب منه (في الموقف غدا) أي: يوم القيامة (حرم الخير كلّه، ألا فمن أحبّ أن يرده عليّ) - بتشديد الياء- (غدا) . عبّر به!! لأنّ كلّ ما هو آت قريب، (فليكفف لسانه ويده إلّا فيما ينبغي» ) . وخصّهما!! لأنّهما أغلب ما يحصّل الفعل، وإلّا! فباقي الأعضاء كذلك. (فقال العبّاس) بن عبد المطّلب (: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش) ؛ بالصّرف على الأصحّ- على إرادة الحيّ، ويجوز عدمه؛ على إرادة القبيلة- وهم ولد النّضر ابن كنانة، وهو الصّحيح، أو ولد فهر بن مالك بن النّضر، وهو قول الأكثر «1» . وأوّل من نسب إلى قريش قصيّ بن كلاب، وقيل: غير ذلك. وقيل: سمّوا باسم دابّة في البحر؛ من أقوى دوابّه!! لقوّتهم، والتّصغير للتّعظيم. (فقال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا، والنّاس تبع لقريش) - لفضلهم على غيرهم، قيل: وهو خبر بمعنى الأمر، ويدلّ له قوله في حديث آخر: «قدّموا قريشا، ولا تقدّموها» . أخرجه عبد الرّزاق بإسناد صحيح،   (1) والصواب في هذه المسألة ما ذكره المؤلف في كتابه هذا (1/ 131) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 برّهم لبرّهم، وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا- آل قريش- بالنّاس خيرا. يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس.. برّهم أئمّتهم، وإذا فجر النّاس.. عقّوهم. ولكنّه مرسل، وله شواهد (برّهم تبع لبرّهم) - فلا يجوز الخروج عليهم- (وفاجرهم تبع لفاجرهم) . وفي «الصحيحين» ؛ عن أبي هريرة: «النّاس تبع لقريش، في هذا الشّأن؛ مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» ... الحديث. قال الكرمانيّ: هو إخبار عن حالهم في متقدّم الزّمان، يعني: أنّهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر، وكانت العرب تقدّم قريشا وتعظّمهم. وزاد في «فتح الباري» : لسكناها الحرم، فلما بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله تعالى توقّف غالب العرب عن اتّباعه، فلمّا فتحت مكّة، وأسلمت قريش تبعتهم العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا. انتهى. ذكره «القسطلّاني» . (فاستوصوا) يا (آل قريش بالنّاس خيرا) بأن تحكموا فيهم بالعدل، وتجتنبوا الجور والظّلم. (يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم) كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [11/ الرعد] (وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس؛ برّهم أئمّتهم) وأمراؤهم، (وإذا فجروا) ؛ بأن عصوا الله ولم يراقبوه (عقّوهم) ؛ أي: عقّهم أئمّتهم وأمراؤهم؛ بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان إليهم، وغير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 قال الله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» [الأنعام: 129] . وروى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ... (قال الله تعالى) في سورة الأنعام (وَكَذلِكَ) - كما متّعنا عصاة الإنس والجنّ؛ بعضهم ببعض- (نُوَلِّي) - من الولاية؛ أي الإمارة، أي: نؤمّر ونسلّط (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) - أي: على بعض- (بِما) - أي: لسبب ما- (كانُوا) أي: البعض الثّاني- (يَكْسِبُونَ» ) من المعاصي. قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية: هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولّى عليهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرّا ولّى عليهم شرارهم، فعلى هذا القول إنّ الرّعيّة متى كانوا ظالمين؛ سلّط الله عزّ وجلّ عليهم ظالما مثلهم. فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظّالم فليترك الظّلم. انتهى. وفي الحديث: «كما تكونوا يولّى عليكم» ؛ ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ؛ عن أبي بكرة، وبرمز البيهقيّ في «سننه» ؛ عن أبي إسحاق السّبيعي مرسلا؛ أي: فإن اتّقيتم الله وخفتم عقابه؛ ولّى عليكم من يخافه فيكم، وعكسه؛ حكمه كحكم عكسه، ولهذا الحديث؛ لمّا سمع إنسان آخر يسبّ الحجّاج؛ قال له: لا تفعل!. وذكر الحديث، بل ينبغي الدّعاء، بنحو «اللهمّ لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك؛ ولا يرحمنا» ، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم فإذا تولّى عليكم ظالم فارجعوا لأنفسكم، ولوموها، فإنّه بسبب ظلمكم لبعضكم. والله أعلم. (و) في «الإحياء» : (روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) . قال العراقيّ: رواه ابن سعد في «الطبقات» ، عن محمّد بن عمر (هو الواقديّ) ؛ بإسناد ضعيف؛ إلى ابن عون؛ عن ابن مسعود، وهو مرسل ضعيف كما تقدّم-. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «سل يا أبا بكر» . فقال: يا رسول الله؛ دنا الأجل؟ فقال: «قد دنا الأجل، وتدلّى» . فقال: ليهنك يا نبيّ الله ما عند الله، فليت شعري عن منقلبنا؟ فقال: «إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى، والفردوس الأعلى، والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش المهنّا» . فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟ قال: «رجال من أهل بيتي؛ الأدنى فالأدنى» . وكذا رواه الطّبرانيّ في «الدّعاء» ، والواحديّ في «التّفسير» بسند واه جدّا، إلى ابن مسعود؛ مع مخالفة في اللّفظ بالزّيادة والنّقص؛ كما في «شرح الإحياء» وغيره. (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «سل يا أبا بكر» . فقال: يا رسول الله دنا) ؛ أي: قرب (الأجل؟! فقال) ؛ أي المصطفى صلى الله عليه وسلم (: «قد دنا الأجل، وتدلّى!» ) وهو عبارة عن غاية القرب. (فقال: ليهنك يا نبيّ الله؛ ما عند الله) من النّعيم المقيم بمجاورة الكريم، (فليت شعري عن منقلبنا!!) ؛ أي: رجوعنا. (فقال: «إلى الله) فيكرم مثوانا، (وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى) : الإقامة الدّائمة (والفردوس الأعلى) : صفة كاشفة، لأنّ الفردوس هو أعلى الجنّة وأوسطها، (والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش) : الحياة الدّائمة (المهنّى» ) الّذي لا ينغّصه شيء. (فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟) بعد موتك (قال) يلي غسلي (: «رجال من أهل بيتي، الأدنى فالأدنى) : الأقرب فالأقرب، وقد غسّله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 قال: يا رسول الله؛ فيم نكفّنك؟ قال: «في ثيابي هذه، وفي حلّة يمانية، وفي بياض مصر» . عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لحديث عليّ: أوصاني النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يغسّلني إلّا أنت، فإنّه لا يرى أحد عورتي، إلّا طمست عيناه» . رواه البزّار والبيهقي. وأخرج البيهقيّ؛ عن الشّعبي، قال: غسّل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول وهو يغسّله: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميّتا. وأخرج أبو داود، وصحّحه الحاكم؛ عن عليّ قال: غسّلته صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميّت- أي: من الفضلات- فلم أر شيئا، وكان طيّبا حيّا وميّتا. وكان العبّاس وابنه الفضل يعينانه في تقليب جسمه الشّريف، وقثم وأسامة بن زيد وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء، وأعينهم جميعا معصوبة؛ من وراء السّتر. وغسّل صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات: الأولى بالماء القراح، والثّانية: بالماء والسّدر، والثّالثة: بالماء والكافور. وجعل عليّ على يده خرقة، وأدخلها تحت القميص، ثمّ اعتصر قميصه، وحنّطوا مساجده ومفاصله، ووضّؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفّيه وقدميه، وجمّروه عودا وندا. وذكر ابن الجوزي أنّه روي عن جعفر الصّادق؛ قال: كان الماء يستنقع في جفون النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فكان عليّ يحسوه. (قلنا: يا رسول الله: فيم نكفّنك؟ قال: «في ثيابي هذه) الّتي عليّ، (و) إن شئتم (في حلّة) - بضمّ الحاء المهملة، وشدّ اللّام-: ضرب من برود اليمن، وهي إزار ورداء، ولا تسمّى «حلّة» ، حتّى تكون ثوبين (يمانية) - بالألف وخفّة الياء؛ على الأفصح- لأنّ الألف بدل من ياء النّسب، فلا يجتمعان. انتهى. «زرقاني» . (وفي) ثياب (بياض مصر» ) أي: في الثّياب البيض الّتي جاءته من مصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا، وبكى ... ثمّ قال: «مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا. إذا غسّلتموني ... روى ابن عبد الحكم أن المقوقس أهدى له عليه الصّلاة والسّلام عشرين ثوبا من قباطي مصر، وأنّها بقيت حتّى كفّن في بعضها. وفي حديث عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة. أخرجه النّسائي من رواية عبد الرزّاق؛ عن معمر؛ عن الزّهريّ؛ عن عروة؛ عنها. واتّفق عليه الأئمّة السّتّة؛ من طريق هشام بن عروة؛ عن أبيه؛ عن عائشة، بزيادة: من كرسف؛ ليس فيها قميص ولا عمامة. وليس قوله «1» : «من كرسف» عند الترمذيّ، ولا ابن ماجه، وزاد مسلم في رواية عن عائشة: أما الحلّة! فإنما شبّه على النّاس فيها، أنّها اشتريت له ليكفّن فيها؛ فتركت الحلّة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر الصّدّيق، فقال: لأحبسنّها حتّى أكفّن فيها نفسي. ثمّ قال: لو رضيها الله لنبيّه؛ لكفّنه فيها!! فباعها وتصدّق بثمنها. وهذا من عائشة يدلّ على أن قولها «ثلاثة أثواب» عن علم وإيقان؛ لا عن تخمين وحسبان. وجاء في «طبقات ابن سعد» عن الشّعبيّ: بيان الثّلاثة الأثواب؛ بأنّها إزار ورداء ولفافة. وقال التّرمذيّ: روي في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصحّ الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ من الصّحابة، وغيرهم. (فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا) ؛ حزنا على فراقه (وبكى) لبكائنا، (ثمّ قال: «مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا، إذا غسّلتموني   (1) الأحسن «قولها» عائد على عائشة. وإن ذكّر الضمير على إرادة «الراوي» فلا بأس به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 وكفّنتموني.. فضعوني على سريري هذا، في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عنّي ساعة- فإنّ أوّل من يصلّي عليّ الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] . ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ، فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ.. جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنود كثيرة، ثمّ الملائكة بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين، ... وكفّنتموني؛ فضعوني على سريري هذا في بيتي هذا، هذا على شفير) - بشين معجمة وفاء- أي: حرف (قبري، ثمّ اخرجوا عنّي ساعة) : قدرا من الزّمان، (فإنّ أوّل من يصلّي عليّ) - بتشديد الياء- (الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) : يرحمكم (وَمَلائِكَتُهُ) [43/ الأحزاب] يستغفرون لكم. قال السّدّي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلّي ربّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى الله إليه: أن قل لهم: إنّي أصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء. ذكره البغويّ. (ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ. فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت؛ مع جنود) جماعة (كثيرة. ثمّ الملائكة) المأذون لها في الحضور للتّشييع (بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 ثمّ أنتم؛ فادخلوا عليّ أفواجا، فصلّوا عليّ أفواجا؛ زمرة زمرة، وسلّموا تسليما، ولا تؤذوني بتزكية ولا صيحة ولا رنّة، وليبدأ منكم الإمام، وأهل بيتي الأدنى.. فالأدنى، ثمّ زمرة النّساء، ثمّ زمرة الصّبيان. ثمّ أنتم فادخلوا) للصلاة ( [عليّ] أفواجا) جمع فوج- بفتح فسكون- وجمع الجمع: أفاويج. (فصلّوا عليّ أفواجا) ؛ أي: جماعات (زمرة زمرة) ؛ أي: جماعة بعد جماعة (وسلّموا تسليما، ولا تؤذنوا بتزكية) غير لائقة بي، ممّا هو من أوصاف الرّبّ جلّ وعلا، (ولا صيحة ولا رنّة) بنياحة. (وليبدأ) بالصّلاة عليّ (منكم الإمام) ؛ أي: الخليفة وهو أبو بكر الصّدّيق. (وأهل بيتي) : عليّ والعبّاس، و (الأدنى فالأدنى) ؛ أي: الأقرب فالأقرب يتقدّم. (ثمّ زمرة النّساء) من أهل بيت النّبوّة، ثمّ نساء غيرهم. (ثمّ زمرة الصّبيان) وفي حديث ابن عبّاس- عند ابن ماجه- لمّا فرغوا من جهازه صلى الله عليه وسلم يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته، ثمّ دخل النّاس عليه صلى الله عليه وسلم أرسالا، يصلّون عليه، حتّى إذا فرغوا، دخل النّساء، حتى إذا فرغن؛ دخل الصّبيان، ولم يؤمّ النّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. قال ابن كثير: هذا أمر مجمع عليه. واختلف في أنّه تعبّد لا يعقل معناه، أو ليباشر كلّ واحد الصّلاة عليه، منه إليه؟. وقال السّهيلي: قد أخبر الله أنّه وملائكته يصلّون عليه، وأمر كلّ واحد من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 ......... المؤمنين أن يصلّي عليه، فوجب على كلّ أحد أن يباشر الصّلاة عليه منه إليه، والصّلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضا؛ فإنّ الملائكة لنا في ذلك أئمّة. انتهى. وقال الشّافعيّ في «الأمّ» : وذلك لعظم أمره صلى الله عليه وسلم وتنافسهم فيمن يتولّى الصّلاة عليه، وروي أنّه لمّا صلّى أهل بيته، لم يدر النّاس ما يقولون؟ فسألوا ابن مسعود؛ فأمرهم أن يسألوا عليّا!! فقال لهم: قولوا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [56/ الأحزاب] الآية، لبّيك اللهمّ ربّنا وسعديك، صلوات الله البرّ الرّحيم؛ والملائكة المقرّبين، والنّبييّن والصّدّيقين، والشّهداء والصّالحين؛ وما سبّح لك من شيء يا ربّ العالمين على محمّد بن عبد الله: خاتم النّبييّن، وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين، الشّاهد البشير، الدّاعي إليك بإذنك السّراج المنير، وعليه السّلام. ذكر ذلك الشّيخ زين الدّين بن الحسين المراغي في كتابه «تحقيق النّصرة لمعالم دار الهجرة» . انتهى زرقانيّ على «المواهب» . وظاهر هذا: أنّ المراد ما ذهب إليه جماعة؛ أنّه لم يصلّ عليه الصّلاة المعتادة، وإنّما كان النّاس يأتون فيدعون. قال الباجيّ: ووجهه: أنّه صلى الله عليه وسلم أفضل من كلّ شهيد، والشّهيد يغنيه فضله عن الصّلاة عليه!!. فهو صلى الله عليه وسلم أولى. قال: وإنّما فارق الشّهيد في الغسل!! حذرا من إزالة الدّم عن الشّهيد، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه، ولأنّه عنوان لشهادته في الآخرة، وليس على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما تكره إزالته؛ فافترقا. انتهى. لكن قال القاضي عياض: الصّحيح الّذي عليه الجمهور: أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية؛ لا مجردّ الدّعاء فقط. انتهى. وأجيب عمّا اعتلّ به الأوّلون بأنّ المقصود من الصّلاة عليه عود التّشريف على المسلمين، مع أنّ الكامل يقبل زيادة التّكميل، نعم؛ لا خلاف أنّه لم يؤمّهم أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي ... الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة لا ترونهم؛ وهم يرونكم، ... - كما مرّ- لقول عليّ: هو إمامكم حيّا وميتا، فلا يقوم عليه أحد ... الحديث. رواه ابن سعد. وأخرج التّرمذيّ أنّ النّاس قالوا لأبي بكر: أيصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالوا: وكيف نصلّي؟ قال: يدخل قوم فيكبّرون ويصلّون ويدعون، ثمّ يدخل قوم فيصلّون ويكبّرون ويدعون فرادى. انتهى. (قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي) : أقاربي (الأدنى.. فالأدنى) منهم، (مع ملائكة كثيرة لا ترونهم، وهم يرونكم» ) . وقد اختلف فيمن أدخله قبره؟. وأصحّ ما روي أنّه نزل في قبره عمّه العبّاس، وعليّ، وقثم بن العبّاس، والفضل بن العبّاس، وكان آخر النّاس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العبّاس؛ أي: أنّه تأخّر في القبر حتّى خرجوا قبله. وروي أنّه بني في قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانيّة؛ كان يتغطّى بها ويجلس عليها، وهي كساء له خمل؛ أي: أهداب فرشها شقران مولاه صلى الله عليه وسلم في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك. قال النّوويّ: وقد نصّ الشّافعيّ وجميع أصحابه؛ وغيرهم من العلماء: على كراهة وضع قطيفة؛ أو مضريّة؛ أو مخدّة، ونحو ذلك تحت الميّت في القبر. وشذّ البغويّ من أصحابنا؛ فقال في كتابه «التّهذيب» : لا بأس بذلك، لهذا الحديث. والصّواب كراهة ذلك؛ كما قاله الجمهور. وأجابوا عن هذا الحديث: بأنّ شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصّحابة، ولا علموا بذلك، وإنّما فعله شقران! لما ذكرنا عنه؛ من كراهته أن يلبسها أحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام النّوويّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 قوموا فأدّوا عنّي إلى من بعدي» . وقال عبد الله بن زمعة [رضي الله تعالى عنه] : جاء بلال في أوّل شهر ربيع الأوّل، فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ... وفي كتاب «تحقيق النّصرة» : قال ابن عبد البرّ: ثمّ أخرجت يعني: القطيفة من القبر لمّا فرغوا من وضع اللّبنات التّسع، حكاه ابن زبالة. قال العراقيّ في «ألفية السّيرة» : وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل: أخرجت، وهذا أثبت (قوموا فأدّوا عنّي) - ما سمعتم منّي- (إلى من بعدي» ) من أمّتي. (و) في «الإحياء» : (قال عبد الله بن زمعة) بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى القرشي؛ الأسديّ، «ابن أخت أم سلمة، زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم» واسم أمّه: قريبة بنت أبي أمية. قال القاضي عياض في «المشارق» : زمعة بسكون الميم. وضبطناه عن ابن بحر: بفتح الميم؛ حيث وقع، وكلاهما قال الحافظ في «الفتح» : ووقع في «الكاشف» للذّهبيّ أنّه أخو سودة أمّ المؤمنين. وهو وهم؛ يظهر صوابه من سياق نسبها. قال البغويّ: كان يسكن المدينة وله أحاديث، ويقال: إنّه كان يأذن على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتل يوم الدّار سنة: خمس وثلاثين. وبه جزم أبو حسّان الزيادي، روى له الجماعة. انتهى ذكره في «شرح الإحياء» . والحديث المذكور قال العراقي: رواه أبو داود بإسناد جيّد مختصرا؛ دون قوله «فقالت عائشة: إنّ أبا بكر رجل رقيق ... الخ» ولم يقل في أوّل ربيع الأوّل!؟ وقال: «مروا من يصلّي بالنّاس» . وقال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، مرّتين» . انتهى. ذكره في «شرح الإحياء» . (جاء بلال) رضي الله عنه (في أوّل شهر ربيع الأوّل) قد علمت أنّ هذا ليس في رواية أبي داود (فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 «مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس» . فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر، فقلت: قم يا عمر فصلّ بالنّاس، فقام عمر، فلمّا كبّر- وكان رجلا صيّتا- سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته بالتّكبير.. فقال: «أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» قالها ثلاث مرّات: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ، فقالت عائشة رضي الله [تعالى] عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام في مقامك غلبه البكاء. «مروا) - بضمّتين؛ بوزن: كلوا، أي: بلّغوا أمري- (أبا بكر) الصّدّيق. وفي رواية أبي داود: «مروا من (يصلّي بالنّاس» ) ؛ أي: يؤمّهم. قال: (فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (في رجال ليس فيهم أبو بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (؛ فقلت: قم يا عمر؛ فصلّ بالنّاس، فقام عمر) واصطفّ النّاس. (فلمّا كبّر) للصّلاة؛ (وكان رجلا صيّتا) ؛ أي: جهير الصّوت، (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالتّكبير) لقرب الحجرة الشّريفة من المسجد؛ (فقال: «أين أبو بكر!؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» !! قالها ثلاث مرّات) رواية أبي داود: «يأبى الله ذلك والمؤمنون» مرّتين. (مروا أبا بكر فليصلّ) - بسكون اللّام الأولى، ويروي بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة- (بالنّاس» ) إماما، وفي رواية لأبي داود، فقال: «لا.. لا، ليصلّ للنّاس ابن أبي قحافة» يقول ذلك تغضّبا. (فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق) بقافين- (إذا قام في مقامك غلبه البكاء؟!) لرقّة قلبه وغلبة دمعه، ولما يلاحظ من فقده صلى الله عليه وسلم وما كان يجد من فقد أنسه وأنواره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 فقال: «إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . قال: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر. فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك، ماذا صنعت بي؟ والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك.. ما فعلت، فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك. (فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة (: «إنّكنّ صويحبات يوسف) النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إظهار خلاف ما في الباطن. والخطاب؛ وإن كان بلفظ الجمع؛ فالمراد به واحدة فقط؛ وهي عائشة رضي الله تعالى عنها كما أنّ «صويحبات» جمع؛ والمراد به زليخا فقط، على أن في رواية عند البخاريّ: أنّها قالت لحفصة: أن تقول ما قالت: أي: مر عمر فليصلّ بالنّاس، فقالت حفصة ذلك، فحينئذ قال ما قال!! وأقلّ الجمع اثنان، وقد تقدّم ( «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ) . وفيه: ألايقدّم للإمامة؛ إلّا أفضل القوم فقها وقراءة وورعا وغيرها. وفي تكرار أمره بتقديمه الدّلالة الظّاهرة عند من له إيمان على أنّ أبا بكر أحقّ النّاس بخلافته، وقد وافق على ذلك عليّ، وغيره من أهل البيت. (قال) ؛ أي الرّاوي (: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر) بالنّاس سبع عشرة صلاة- كما نقله الدّمياطيّ- (فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك؛ ماذا صنعت بي؟! والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك، ما فعلت! فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك.) والحديث من قوله «فقالت عائشة ... الخ» في «الصّحيح» بلفظ: فقالت عائشة: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع النّاس من البكاء!!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك ولا صرفته عن أبي بكر إلّا رغبة به عن الدّنيا، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة وفي رواية: إذا قرأ القرآن؛ لا يملك دمعه؟. قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فعاودته مثل مقالتها، فقال: «إنّكنّ صواحبات يوسف! مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» رواه الشّيخان. وفي رواية للشّيخين: إنّ أبا بكر رجل أسيف. وفي رواية عند البخاري في «الصّلاة، والاعتصام» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فقالت عائشة: إنّ أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر، فليصلّ بالنّاس!. فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس قالت: قلت لحفصة: قولي له «إنّ أبا بكر؛ إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر، فليصلّ بالنّاس» ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه! إنكن أنتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا!!. وفي «مسند الدّارمي» من وجه آخر: أنّ أبا بكر هو الّذي أمر عائشة أن تشير على النّبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر عمر بالصّلاة. قال الحافظ ابن حجر: لم يرد أبو بكر ما أرادت عائشة؛ بل قاله لعذره برقّة قلبه، أو لفهمه منها الإمامة العظمى، وعلم ما في تحمّلها من الخطر، وعلم قوّة عمر على ذلك؛ فاختاره، والظّاهر أنّه لم يطّلع على المراجعة، أو فهم من أمره بذلك تفويضه؛ سواء باشر بنفسه، أو استخلف. (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك) الكلام (ولا صرفته) صلى الله عليه وسلم (عن) اختيار (أبي بكر) للإمامة (إلّا رغبة به) ؛ أي: أبي بكر (عن الدّنيا، و) أيضا (لما في الولاية من) الدّخول في (المخاطرة و) أسباب (الهلكة) - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 إلّا من سلّم الله، وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو حيّ أبدا- إلّا أن يشاء الله- فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى، وعصمه الله تعالى من كلّ ما تخوّفت عليه من أمر الدّنيا والدّين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ... محرّكة؛ بوزن قصبة-: الهلاك (إلّا من سلّم) هـ (الله) وحفظه بعنايته السّابقة. (وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو) صلى الله عليه وسلم (حيّ أبدا، إلّا أن يشاء الله؛ فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون) - بشين معجمة والمد- (به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى) نفذ باختيار الصّدّيق؛ أي: اختاره الله تعالى، وجمع به كلمة المسلمين (وعصمه الله تعالى) ؛ أي: حفظه (من كلّ ما تخوّفت عليه؛ من أمر الدّنيا والدّين) . رواه البخاريّ في «باب الوفاة» ، ومسلم في «الصّلاة» بلفظ: فلقد راجعته في ذلك؛ وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحبّ النّاس بعده رجلا قام مقامه أبدا، وما حملني على ذلك؛ إلّا أنّي كنت أرى أنّه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم النّاس به؛ فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر. وفي رواية لمسلم: قالت: والله ما بي إلّا كراهية أن يتشاءم النّاس بأوّل من يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم، فراجعته مرّتين؛ أو ثلاثا. (و) في «الإحياء» للغزالي رحمه الله تعالى: (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما رواه الطّبرانيّ في «الكبير» ؛ من حديث جابر، وابن عبّاس، مع اختلاف في حديث طويل- في نحو ورقتين كبار- وهو منكر؛ فيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان؛ عن أبيه؛ عن وهب بن منبّه، قال أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه، وأبوه إدريس أيضا متروك؛ قاله الدارقطني. وقد رواه أبو نعيم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. رأوا منه خفّة في أوّل النّهار؛ فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين، وأدخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك- لم نكن على مثل حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اخرجن عنّي؛ هذا الملك يستأذن عليّ» . فخرج من في البيت غيري، ورأسه في حجري، فجلس، وتنحّيت في جانب البيت، فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة: «ادخلن» ، فقلت: ما هذا بحسّ جبريل عليه السّلام؟ ... «الحلية» عن الطّبراني بطوله؛ قاله في «شرح الإحياء» . - وذكر الحديث بطوله: (فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؛ وهو يوم الاثنين (رأوا منه خفّة في أوّل النّهار) ؛ أي: أنّه أصبح يوم الاثنين خفيف المرض. (فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم؛ مستبشرين) بظهور علامة الشّفاء. وقال له أبو بكر: أراك يا رسول الله قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحبّ، واليوم يوم ابنة خارجة. أفاتيها؟! قال: «نعم» ، فذهب. (وأخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك، لم نكن على مثل حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك) ؛ إذ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) للنّساء (: «أخرجن عنّي، هذا الملك) ؛ أي: ملك الموت (يستأذن عليّ» ) ؛ أي: يطلب الإذن بالدّخول عليّ. (فخرج من في البيت) من النّسوة (غيري، ورأسه في حجري، فجلس) مستعدّا للقاء الملك، (وتنحّيت في جانب البيت) ؛ أي: صرت في ناحية منه، (فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة: «ادخلن» . فقلت:) يا رسول الله؛ (ما هذا بحسّ جبريل عليه السّلام؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أرسلني، وأمرني أن لا أدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي.. أرجع، وإن أذنت لي.. دخلت، وأمرني ألاأقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك؟ فقلت: «اكفف عنّي، حتّى يأتيني جبريل عليه السّلام، فهذه ساعة جبريل» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا وكأنّما ضربنا بصاخّة- أي: بصيحة- ما نحير إليه شيئا، وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أرسلني) إليك، (وأمرني ألاأدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي، أرجع، وإن أذنت لي دخلت، وأمرني ألا أقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك» ؟؟) زاد في رواية: قال: «وتفعل ذلك يا ملك المو؟» قال: نعم، أمرت أن أطيعك في كلّ ما أمرتني. ( «فقلت: اكفف عنّي حتّى يأتيني جبريل عليه السّلام، فهذه ساعة جبريل» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا) ؛ أي: اندهشنا (وكأنّما ضربنا بصاخّة) - بتشديد الخاء المعجمة-: وهي المصيبة الشّديدة، وقال المصنّف: (أي: بصيحة، ما نحير إليه شيئا) ؛ أي: ما نرجع، (وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 قالت: وجاء جبريل في ساعته فسلّم، فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السّلام، ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالّذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق، وأن تكون سنّة في أمّتك، فقال: «أجدني وجعا» . فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك، فقال: «يا جبريل؛ إنّ ملك الموت استأذن عليّ..» وأخبره الخبر. فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق، ألم يعلمك الّذي يريد بك؟! لا والله قالت) ؛ أي عائشة (: وجاء جبريل) عليه السّلام (في ساعته، فسلّم؛ فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل؛ فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السّلام؛ ويقول: كيف تجدك) ؛ أي: تجد نفسك في هذا الوقت- (وهو أعلم بالّذي تجد منك- ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق) ؛ تخصيصا لك، (وأن تكون سنّة في أمّتك) ؛ أي: إذا دخلوا على المريض فيقولون كذلك. (فقال: «أجدني وجعا» ) - بكسر الجيم- أي: مريضا متألّما. (فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك) من الكرامة. (فقال: «يا جبريل: إنّ ملك الموت استأذن عليّ» ... وأخبره الخبر. فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق) . قال البيهقي: معنى اشتياق الله إليه إرادة لقائه، بأن يردّه من دنياه إلى معاده؛ زيادة في قربه وكرامته، وذلك لاستحالة المعنى الحقيقيّ الّذي هو نزوع النّفس إلى الشّيء في حقّه تعالى. (ألم يعلمك) ؛ أي: ملك الموت بالأمر (الّذي يريد بك!! لا والله؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 ما استأذن ملك الموت على أحد قطّ ولا يستأذن عليه أبدا، ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق. قال: «فلا تبرح إذا حتّى يجيء» . وأذن للنّساء، فقال: «يا فاطمة؛ ادني» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تدمع؛ وما تطيق الكلام، ثمّ قال: «أدني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا، فسألتها بعد ذلك ... ما استأذن ملك الموت على أحد) قبلك (قطّ) ؛ أي: فيما مضى، (ولا يستأذن عليه) ؛ أي: على أحد بعدك (أبدا) ، فهو تخصيص لك على الجميع. (ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق. قال) ؛ أي النّبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل (: «فلا تبرح إذا) - أي: امكث عندي- (حتّى يجيء» ) ؛ أي: ملك الموت (وأذن) صلى الله عليه وسلم (للنّساء) فدخلن، وفيهنّ ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها. (فقال: «يا فاطمة؛ ادني» ) ، أي: اقربي منّي (فأكبّت عليه) لازم، وثلاثيّة كبّ: متعدّ، عكس المشهور من قواعد التصريف؛ فهو من النّوادر. (فناجاها) أي سارّها بشيء، (فرفعت رأسها وعيناها تذرفان) ؛ أي: تسيلان دموعا، (وما تطيق الكلام) من شدّة الحزن. (ثمّ قال) لها (: «ادني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا) من البكاء والضّحك في ساعة واحدة، (فسألتها بعد ذلك) ؛ أي: بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 فقالت: أخبرني، وقال: «إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت، ثمّ قال: «إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت. وأدنت ابنيها منه فشمّهما. (فقالت: أخبرني) أوّلا؛ (وقال: «إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت) حزنا على فراقه (ثمّ قال) ثانيا (: «إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت) ؛ فرحا للحوقي به، (وأدنت) ؛ أي: قرّبت (ابنتها) أمّ كلثوم (منه) صلى الله عليه وسلم (فشمّها) وبرّك عليها. وفي البخاري، ومسلم، والنّسائي؛ من طريق عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الّتي قبض فيها، فسارّها بشيء فبكت، ثمّ دعاها فسارّها بشيء فضحكت! فسألناها عن ذلك؟ فقالت: سارّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه يقبض في وجهه الّذي توفّي فيه. فبكيت، ثمّ سارّني؛ فأخبرني أنّي أوّل أهله يتبعه، فضحكت. وفي رواية «الصّحيحين» والنّسائي؛ عن مسروق؛ عن عائشة، قالت: أقبلت فاطمة تمشي، كأنّ مشيتها مشية النّبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها: «مرحبا بابنتي» ثمّ أجلسها عن يمينه؛ أو عن شماله، ثمّ أسرّ إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين!؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!! فسألتها عمّا قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى قبض، فسألتها؟ فقالت: أسرّ إليّ «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن، كلّ سنة مرّة، وإنّه عارضني الآن مرّتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي، وإنّك أوّل أهلي لحاقا بي» . فبكيت. فقال: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة؟ أو نساء المؤمنين؟» . فضحكت لذلك. اتّفقت الرّوايتان على أنّ الّذي سارّها به أوّلا فبكت، هو إعلامه إيّاها؛ بأنّه يموت من مرضه ذلك؛ كما في المتن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 ......... واختلفت فيما سارّها به فضحكت؟ ففي رواية عروة: أنّه إخباره إيّاها بأنّها أوّل أهله لحوقا به، وهي موافقة لما في المتن، وفي رواية مسروق: أنّه إخباره إيّاها أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، وجعل كونه أوّل أهله لحاقا به مضموما إلى الأوّل، وهو إخباره بأنّه ميّت من وجعه. وحديث مسروق هو الرّاجح، فإنّه يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة. ومسروق من الثّقات الضّابطين، وزيادته مقبولة. وفي رواية عروة الجزم أنّه ميّت من وجعه ذلك، وهي توافق ما في المصنف، بخلاف رواية مسروق، ففيها أنّه ظنّ ذلك؛ بطريق الاستنباط ممّا ذكره من معارضته القرآن مرّتين. ويحتمل تعدّد القصّة؛ جمعا بين روايتي مسروق وعروة. وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين؛ إلّا بالزّيادة. ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقا به سببا لبكائها وضحكها معا؛ باعتبارين: فباعتبار أسفها على بقائها بعده مدّة بكت؛ وهو ما رواه مسروق، وباعتبار سرعة لحاقها به ضحكت؛ وهو ما رواه عروة، فذكر كلّ من الرّاويين ما لم يذكره الآخر، وهذا الجمع أولى من احتمال التّعدد؛ لأنّ الأصل عدمه. وقد روى النّسائي؛ من طريق أبي سلمة بن عبد الرّحمن؛ عن عائشة في سبب البكاء: أنّه ميّت، وفي سبب الضّحك: الأمرين الأخيرين: أنها أوّل أهله لحاقا به، وأنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، وهذا يؤيّد الجمع الثّاني. وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع؛ فوقع كما قال، فإنّهم اتّفقوا على أنّ فاطمة أوّل من مات من أهل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعده بستّة أشهر- على الصّحيح- حتّى من أزواجه عليه الصّلاة والسّلام. انتهى من «المواهب اللدنية» للعلّامة القسطلّاني رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له، فقال الملك: ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الآن» ، فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك. وخرج. قالت: وجاء جبريل فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبدا، طوي الوحي وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك، ثمّ لزوم موقفي. (قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له) فدخل؛ (فقال:) السّلام عليك أيّها النّبيّ، ورحمة الله وبركاته؛ إنّ ربّك يقرئك السّلام، ثمّ قال (الملك: ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الآن» . فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك. وخرج، قالت: وجاء جبريل؛ فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض) ؛ أي: بالوحي (أبدا، طوي الوحيّ وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك) ؛ أي: الحضور عندك بالوحي (ثمّ لزوم موقفي) فالمنفيّ نزوله بالوحي المتجدّد، فلا ينافي ما ورد في أحاديث: أنّه ينزل ليلة القدر، ويحضر قتال المسلمين مع الكفّار، ويحضر من مات على طهارة من المسلمين، ويأتي مكّة والمدينة بعد خروج الدّجال؛ ليمنعه من دخولها، وفي زمن عيسى عليه السّلام؛ لا بشرع جديد، وتفصيل ذلك يطول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 لا والّذي بعث محمّدا بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة، ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما يسمع من حديثه، ووجدنا وإشفاقنا. قالت: فقمت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه حتّى يغلب، وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق، وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق: بأبي أنت وأمّي، ونفسي وأهلي؛ ما تلقى جبهتك من الرّشح؟ ... (لا والّذي بعث محمّدا) صلى الله عليه وسلم (بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة) ؛ أي: يعيدها، (ولا يبعث إلى أحد من رجاله؛ لعظم ما يسمع من حديثه، و) ل (وجدنا) ؛ أي: حزننا، (وإشفاقنا) : خوفنا. (قالت) ؛ أي: عائشة (: فقمت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه) ؛ أي: يعتريه الغشيان (حتّى يغلب) ؛ لشدّة ما يحصل له من فتور الأعضاء عن تمام الحركة. وفيه جواز الإغماء على الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام! قال ابن حجر في «شرح الشّمائل» : لكن قيّده الشّيخ أبو حامد- من أئمّتنا- بغير الطّويل، وجزم به البلقيني. قال السّبكيّ: ليس كإغماء غيرهم!؟ لأنّه إنّما يستر حواسّهم الظّاهرة؛ دون قلوبهم، لأنّها إذا عصمت من النّوم الأخفّ؛ فالإغماء أولى!! وقد تقدم الكلام على ذلك. (وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق) ؛ أي: أزيله وأمسحه. (وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق) من غشيته (: بأبي أنت وأمّي؛ ونفسي وأهلي، ما تلقى جبهتك من الرّشح!؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار» . فعند ذلك ارتعنا، وبعثنا إلى أهلنا، فكان أوّل رجل جاءنا- ولم يشهده- أخي، بعثه إليّ أبي، فمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يجيء أحد، وإنّما صدّهم الله عنه؛ لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل، وجعل إذا أغمي عليه.. قال: ... فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن) أي: روحه (تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقه؛ كنفس الحمار» ) . فالرّشح من علامات الخير؛ روى الطّبراني في «الكبير» ، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث ابن مسعود: «نفس المؤمن تخرج رشحا، وإنّ نفس الكافر تسيل، كما تسيل نفس الحمار» . ورواه في «الأوسط» بلفظ: «نفس المؤمن، تخرج رشحا، ولا أحبّ موتا كموت الحمار؛ موت الفجاءة، وروح الكافر تخرج من أشداقه» . وفي رواية له قيل له: وما موت الحمار؟ قال: «روح الكافر تخرج من أشداقه» . وروى التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من حديث أبي هريرة: «المؤمن يموت بعرق الجبين» . (فعند ذلك ارتعنا) ؛ أي: خفنا (وبعثنا إلى أهلنا؛ فكان أوّل رجل جاءنا؛ ولم يشهده- أخي) عبد الرّحمن بن أبي بكر (بعثه إليّ أبي) لينظر الحال. (فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء أحد) من أهلي، (وإنّما صدّهم الله عنه، لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل) عليهما السّلام، (وجعل) صلى الله عليه وسلم (إذا أغمي عليه؛ قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 «بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة تعاد عليه، فإذا أطاق الكلام.. قال: «الصّلاة.. الصّلاة؛ إنّكم لا تزالون متماسكين ما صلّيتم جميعا، الصّلاة.. الصّلاة» ، كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول: «الصّلاة.. الصّلاة» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ... «بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة) بين البقاء في الدّنيا والارتحال إلى الآخرة (تعاد عليه) مرة بعد أخرى. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يحيا أو يخيّر، فلمّا اشتكى، وحضره القبض؛ ورأسه على فخذي، غشي عليه، فلمّا أفاق؛ شخص بصره نحو سقف البيت، ثمّ قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنّه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح. رواه «البخاري» . وفي رواية له: «لا يموت نبيّ حتّى يخيّر بين الدّنيا والآخرة» . (فإذا أطاق الكلام؛ قال: «الصّلاة الصّلاة) - أي: الزموها- (إنّكم لا تزالون متماسكين ما صلّيتم جميعا) ؛ أي: مع الجماعة (الصّلاة الصّلاة» كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول: «الصّلاة الصّلاة» ) . روي ذلك من حديث أنس؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الصّلاة.. وما ملكت أيمانكم، الصّلاة.. وما ملكت أيمانكم» . رواه أحمد، وعبد بن حميد، والنّسائي، وابن ماجه، وابن سعد، وأبو يعلى، وابن حبّان، والطّبرانيّ، والضّياء. ورواه ابن سعد أيضا والطّبرانيّ؛ من حديث أمّ سلمة، ورواه الطّبراني أيضا؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - كما في «الإحياء» -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الإثنين. قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: ما لقيت من يوم الإثنين، والله لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة. وقالت أمّ كلثوم ... (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الاثنين) . قال العراقي: رواه ابن عبد البرّ. انتهى. وجزم موسى بن عقبة؛ عن الزّهري بأنّه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشّمس، وكذا لأبي الأسود؛ عن عروة. وروى ابن سعد؛ من طريق ابن أبي مليكة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين» ؛ قاله في «شرح الإحياء» . (قالت فاطمة) الزّهراء (رضي الله تعالى عنها) - كما في «الإحياء» -: (ما لقيت من يوم الاثنين! والله؛ لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة) !! أي: بمصيبة شديدة. (و) في «الإحياء» للغزالي أيضا: (قالت أمّ كلثوم) ابنة عليّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنهم. ولدت في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر ابن عبد البرّ: ولدت قبل وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وروى ابن أبي عمر المدنيّ في «مسنده» قال: حدّثني سفيان؛ عن عمر؛ عن محمّد بن عليّ: أنّ عمر خطب من عليّ بنته أمّ كلثوم!! فذكر له صغرها، فقيل له: إنّه ردّك؛ فعاوده!! فقال له عليّ: أبعث بها إليك، فإن رضيت؛ فهي امرأتك فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها، فقالت: مه!! لولا أنّك أمير المؤمنين لطمت عينك!!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 - يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه ... وقال ابن وهب؛ عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم؛ عن أبيه؛ عن جدّه: تزوّج عمر أمّ كلثوم على مهر أربعين ألفا، وقال الزّبير: ولدت لعمر ابنيه: زيدا ورقيّة. وماتت أم كلثوم وولدها في يوم واحد. وذكر الدّارقطنيّ في كتاب «الأخوة» : أنّه تزوّجها بعد موت عمر عون بن جعفر بن أبي طالب؛ فمات عنها، فتزوّجها أخوه محمّد؛ ثمّ مات عنها، فتزوّجها أخوه عبد الله بن جعفر؛ فماتت عنده. قال ابن سعد: ولم تلد لأحد من بني جعفر. (يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه) . سئل العلّامة نور الدّين: الشّيخ عليّ الشّبراملسي الشّافعيّ رحمه الله تعالى بما نصّه: ما حكمة استعمال «كرّم الله وجهه» في حقّ عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دون غيره؛ عوضا عن التّرضّي؟! وهل يستعمل ذلك لغيره من الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. آمين؟؟. فأجاب بقوله: حكمة ذلك: أنّ عليا رضي الله تعالى عنه، وكرّم وجهه، لم يسجد لصنم قطّ؛ فناسب أن يدعى له بما هو مطابق لحاله من تكرمة الوجه، والمراد به حقيقته أو الكناية عن الذّات؛ أي: حفظه عن أن يتوجّه لغير الله تعالى في عبادته. ويشاركه في ذلك الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه، فإنّه لم يسجد لصنم أيضا؛ كما حكي فناسب أن يدعى له بذلك أيضا، وإنّما كان استعمال ذلك في حقّ عليّ أكثر!! لأنّ عدم سجوده لصنم أمر مجمع عليه، لأنّه أسلم وهو صبيّ مميّز، وصحّ إسلامه حينئذ؛ على خلاف ما هو مقرّر في مذهبنا، لأنّ الأحكام وقت إسلامه كانت منوطة بالتّمييز، ثمّ بعد ذلك نسخ ذلك الأمر، فأنيطت بالبلوغ؛ كما بينّه البيهقيّ وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 بالكوفة- ... فإن قلت: كثير من الصّحابة لم يوجد منهم سجود لصنم، كالعبادلة ابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزّبير، وغيرهم، ومع ذلك لا يقول النّاس فيهم ذلك؟ بل التّرضي كغيرهم!!. قلت: هؤلاء ونظراؤهم إنّما ولدوا بعد اضمحلال الشّرك، وخمود نار الضّلالة والفتنة، فلم يشابهوا ذينك الإمامين؛ من تركهما أكبر فتن الشّرك من السّجود للصّنم، مع دعاية أهله للنّاس لذلك، ومبالغتهم في إيذاء من ترك ذلك، وكان في التّرك حينئذ مع مخالفة الآباء والأقارب، وتحمّل المشاقّ الّتي لا تطاق من الدّلالة على الصّدق؛ ما ليس فيه بعد ظهور الإسلام وزهوق الضّلال؛ فناسب حالهما أن يميّزا عن بقيّة الصّحابة بهذه الخصوصيّة العظمى رضي الله تعالى عنهما وكرّم وجهيهما. انتهى؛ نقلته من هوامش كتاب «إرشاد المهتدي إلى كفاية المبتدي» للشّيخ العلّامة عبد الحميد بن محمّد علي قدس المكيّ رحمه الله تعالى. آمين. (بالكوفة) : مدينة كبرى بالعراق؛ وهي قبّة الإسلام، ومركز العلم، ودار هجرة المسلمين. قيل: مصّرها سعد بن أبي وقّاص، وبنى مسجدها، وكانت قبل ذلك منزل نوح عليه السلام، ويقال لها: كوفان. ويقال لها: كوفة الجند!! لأنّها اختطّت فيها خطط العرب أيام عثمان رضي الله عنه أو أيّام عمر رضي الله عنه. تولّى تخطيطها السّائب بن الأقرع بن عوف الثّقفي رضي الله عنه، وهو الّذي شهد فتح نهاوند مع النّعمان بن مقرّن. قال ياقوت: لما بنى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة صعد المنبر؛ وقال: يا أهل الكوفة؛ إنّي قد بنيت لكم مسجدا لم يبن على وجه الأرض مثله، وقد أنفقت على كلّ أسطوانة: سبع عشر مائة، ولا يهدمه إلّا باغ؛ أو حاسد. ويقال: إنّ مقدار الكوفة ستّة عشر ميلا وثلثا ميل، وأنّ فيها خمسين ألف دار للعرب؛ من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستّة وثلاثين ألف دار لليمن، والحسناء لا تخلو من ذامّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 مثلها: ما لقيت من يوم الإثنين، مات فيه جدّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه قتل عمر، وفيه قتل أبي، فما لقيت من يوم الإثنين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اقتحم النّاس حين ارتفعت الرّنّة وسجّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثوبي؛ ف ... والمسافة ما بين الكوفة والمدينة نحو عشرين مرحلة. انتهى ملخّصا من «شرح القاموس» . (مثلها) ؛ أي: مثل هذه المقالة (ما) ؛ أي: أمر عظيم (لقيت من) الأحزان في (يوم الاثنين؟! مات فيه جدّي) أبو أمّي، وهو (رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قتل عمر) بن الخطّاب: بعلي، (وفيه قتل) عليّ بن أبي طالب (أبي) رضي الله تعالى عنهم. (فما لقيت من يوم الاثنين!؟) هكذا روي عنها، ولكن في قتل عمر اختلاف، فروى سالم بن أبي الجعد؛ عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر أصيب يوم الأربعاء؛ لأربع بقين من ذي الحجّة سنة: ثلاث وعشرين. وكذا قال: أبو معشر وغيره؛ عن زيد بن أسلم، وزاد إسماعيل بن محمّد بن سعد؛ عن زيد: أنّه دفن يوم الأحد؛ مستهلّ سنة: أربع وعشرين. وقال اللّيث وجماعة: قتل يوم الأربعاء، لأربع بقين من ذي الحجّة؛ ذكره في «شرح الإحياء» . (وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) فيما ذكره في «الإحياء» . وقال الوليّ العراقي فيه: إنّ هذا السّياق بطوله منكر؛ لم أجد له أصلا، لكن قال في «شرح الإحياء» : إنّه رواه ابن أبي الدّنيا؛ من حديث ابن عمر بن الخطّاب بسند ضعيف. انتهى. قالت: (لمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحم النّاس) ؛ أي: دخلوا (حين ارتفعت الرّنّة) ؛ أي: صوت البكاء، (وسجّي) ؛ أي: غطّي (رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبي ف) - طاشت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 اختلفوا، فكذّب بعضهم بموته، وأخرس بعضهم، فما تكلّم إلّا بعد البعد، وخلّط آخرون؛ فلاثوا الكلام بغير بيان، وبقي آخرون معهم عقولهم، وأقعد آخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته، وعليّ فيمن أقعد، وعثمان فيمن أخرس، ... العقول، ووقع الصحابة في حيرة، و (اختلفوا!! ف) منهم من خبّل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس؛ فلم يطق الكلام، ومنهم من أضني. و (كذّب بعضهم بموته) كعمر بن الخطّاب، (وأخرس) ؛ أي: منع من النّطق (بعضهم) كعثمان بن عفّان، (فما تكلّم إلّا بعد البعد. وخلّط آخرون) منهم؛ (فلاثوا الكلام) ؛ أي: لووا كلامهم (بغير بيان) ؛ أي: إفصاح، أي: لم يبيّنوا كلامهم، ولم يوضّحوه بالإيضاح المعهود عنهم. (وبقي آخرون) من الصّحابة (معهم عقولهم. وأقعد آخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته) روى الإمام أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سجّيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا؛ فأذنت لهما، وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه؛ فقال: واغشيتاه!! ثمّ قام، فقال المغيرة: يا عمر؛ مات. فقال: كذبت! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتّى يفني الله المنافقين ... الحديث. (و) كان (عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (فيمن أقعد) ؛ فلم يستطع حراكا. (و) كان (عثمان) بن عفّان رضي الله تعالى عنه (فيمن أخرس) يذهب ويجيء؛ ولا يستطيع كلاما، وأضني- أي: مرض- عبد الله بن أنيس فمات كمدا. وكان أثبتهم أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وهو المحبّ الأكبر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 فخرج عمر على النّاس؛ وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يمت، وليرجعنّه الله عزّ وجلّ، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنّون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموت، إنّما واعده الله عزّ وجلّ كما واعد موسى؛ وهو آتيكم. وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّه لم يمت، والله لا أسمع أحدا يذكر ... (فخرج عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (على النّاس) - وقد سلّ سيفه- (وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت) ، وتوعّد بالقتل من يقول: مات؟ قال: (وليرجعنّه الله عزّ وجلّ، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من المنافقين) . زاد في رواية: وألسنتهم. وهذا قاله بناء على ما قام عنده، وأدّاه إليه اجتهاده؛ أنّه لا يموت حتّى يشهد على أمّته. وفي «سيرة ابن إسحاق» ؛ عن ابن عبّاس، أنّ عمر قال له: إنّ الحامل له على هذه المقالة قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143/ البقرة] فظنّ أنّه صلى الله عليه وسلم يبقى في أمّته حتّى يشهد عليها. قال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلّا ذلك، وليبعثه الله، فليقطّعنّ أيدي رجال من المنافقين وأرجلهم؛ (يتمنّون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت) . وكانوا أظهروا الاستبشار، وفرحوا بموته، ورفعوا رؤوسهم؛ كما عند ابن أبي شيبة. وكان يقول: (إنّما واعده الله عزّ وجلّ كما واعد موسى) عليه الصّلاة والسّلام؛ فلبث عن قومه أربعين ليلة (وهو آتيكم) وهذا قاله اجتهادا بالقياس، ثمّ رجع عنه. (وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن) الكلام في موت (رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يمت) وأشهر سيفه قائلا: (والله لا أسمع أحدا؛ يذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات.. إلّا علوته بسيفي هذا. وأمّا عليّ: فإنّه أقعد فلم يبرح في البيت. وأمّا عثمان: فجعل لا يكلّم أحدا؛ يؤخذ بيده فيجاء به، ويذهب به. ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعبّاس، فإنّ الله عزّ وجلّ أيّدهما بالتّوفيق والسّداد، وإن كان النّاس لم يرعووا إلّا بقول أبي بكر، حتّى جاء العبّاس فقال: ... أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلّا علوته) - أي: ضربته- (بسيفي هذا) لما حصل له من الدّهشة والحزن. (وأمّا عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (فإنّه أقعد؛ فلم يبرح في البيت) ولم يستطع حراكا. (وأمّا عثمان) بن عفّان رضي الله عنه؛ (فجعل لا يكلّم أحدا) ، وإنّما (يؤخذ بيده؛ فيجاء به، ويذهب به) ، وهو لا يستطيع الكلام لعظم المصيبة الّتي نزلت بهم. (ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر) الصّدّيق ثباتا؛ وهو المحبّ الأكبر!! وذلك أدلّ دليل على شجاعة الصّدّيق، فإنّ الشّجاعة حدّها: ثبات القلب عند حلول المصائب. ولا مصيبة أعظم من موت النّبي صلى الله عليه وسلم!!. (و) لم يكن أحد من المسلمين في مثل حال (العبّاس) بن عبد المطلب في الثّبات؛ بعد أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنهما (فإنّ الله عزّ وجلّ أيّدهما بالتّوفيق والسّداد) أي: الصّواب في القول (وإن كان النّاس لم يرعووا) ؛ أي: لم ينكفّوا (إلّا بقول أبي بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (حتّى) إنّه (جاء العبّاس؛ فقال) لهم: إنّه مات، فلم ينكفّوا إلّا بقول الصّدّيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30- 31] . وبلغ أبا بكر الخبر- وهو في بني الحارث بن الخزرج- ... وكان من جملة ما قال العبّاس رضي الله عنه: (والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم) - أي: في حال حياته- (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ) ؛ أي: ستموت ويموتون؛ فلا شماتة بالموت، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (31) [الزمر] . وروى ابن إسحاق وعبد الرزّاق والطّبراني: أنّ العبّاس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: لا. قال: فإنّه قد مات، ولم يمت حتّى حارب وسالم، ونكح وطلّق، وترككم على محجّة واضحة!!. وهذا من موافقات العبّاس للصّدّيق رضي الله تعالى عنهما. وأخرج البيهقي وأبو نعيم؛ من طريق الواقدي عن شيوخه: أنّهم شكّوا في موته صلى الله عليه وسلم؛! فقال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت. فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه؛ فقالت: قد توفّي. قد رفع الخاتم من بين كتفيه. وأخرجه ابن سعد؛ عن شيخه الواقدي أيضا، وذكر مغلطاي في «الزّهد» : أنّ الحاكم روى في «تاريخه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها لمست الخاتم حين توفّي صلى الله عليه وسلم؛ فوجدته قد رفع. قال الشّامي: ولا إخاله صحيحا. قال الزّرقانيّ: وكان هذا من جملة ما عرف به موته صلى الله عليه وسلم وعرفه الصّدّيق بشمّ ريح الموت من فمه صلى الله عليه وسلم. (وبلغ أبا بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (الخبر؛ وهو) غائب بالسّنح (في بني الحارث بن الخزرج) قبيلة من الأنصار؛ كانت مساكنهم بالسّنح أي: بالعوالي قرب المدينة المنوّرة؛ على ميل من المسجد النّبويّ، وكان أبو بكر قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 فجاء، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه، فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين، فقد- والله- توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ خرج إلى النّاس فقال: أيّها النّاس؛ من ... تزوّج حبيبة بنت خارجة بن زيد بن زهير بن مالك بن امرىء القيس بن مالك الأغرّ الأنصاريّة الخزرجيّة. صحابيّة بنت صحابيّ، وكان قد سكن بها هناك، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الاثنين خفيف المرض؛ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذّهاب إليها فذهب، فمات النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غيبته. (فجاء) على فرس لمّا بلغه خبر الوفاة (ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه؛ فقبّله) بين عينيه وبكى. (ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله) الباء متعلّقة بمحذوف؛ أي: أنت مفديّ بأبي، فهو مرفوع: مبتدأ وخبر، أو [تفدى] «1» فعل، فما بعده نصب، أي: فديتك. (ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين) قيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرّدّ على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنّه لو صحّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، إذ لا بدّ من الموت قبل يوم القيامة، فأخبر أنّه أكرم على الله أن يجمع عليه موتتين؛ كما جمعهما على غيره، كالّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وهم قوم من بني إسرائيل؛ وقع الطّاعون ببلادهم ففرّوا، فقال لهم الله: موتوا فماتوا، ثمّ أحياهم بعد ثمانية أيّام؛ أو أكثر، بدعاء نبيّهم حزقيل، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت؛ لا يلبسون ثوبا إلّا عاد كالكفن! واستمرّت في أسباطهم، وهذا أظهر الأجوبة، وأسلمها من الاعتراض. (فقد والله؛ توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ خرج إلى النّاس؛ فقال: أيّها النّاس؛ من   (1) أضفتها للإيضاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت. قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] . فكأنّ النّاس لم يسمعوا هذه الآية إلّا يومئذ. كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات!! ومن كان يعبد ربّ محمّد؛ فإنّه حيّ لا يموت) . وقال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ، و (قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) ؛ أي: مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) رجعتم إلى الكفر. والجملة الأخيرة محلّ الاستفهام الإنكاريّ، أي: ما كان معبودا فترجعوا، نزلت لمّا أشيع يوم أحد أنّه صلى الله عليه وسلم قتل، وقال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم (.. الآية) اختصار من المصنّف، وإلّا؛ فهي متلوّة كلّها عند البخاريّ؛ فقال: مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنّما يضرّ نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران] نعمه بالثّبات. وفي حديث ابن عبّاس عند البخاري: إنّ أبا بكر خرج وعمر بن الخطّاب يكلّم النّاس؛ فقال فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس!! فأقبل النّاس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أمّا بعد؛ فمن كان يعبد محمّدا فإن محمّدا قد مات؟! ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت. قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] ، زاد في رواية البخاريّ إلى قوله الشَّاكِرِينَ قال ابن عبّاس: والله؛ لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ الله أنزل هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، فتلقّاها النّاس منه كلّهم، فما أسمع بشرا من النّاس إلّا يتلوها، كما قال المصنّف: (فكأنّ) - بتشديد النّون- (النّاس لم يسمعوا هذه الآية إلّا يومئذ!!) أي: يوم إذ تلاها أبو بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 ......... قال الكرمانيّ: فإن قلت: ليس فيها أنّه صلى الله عليه وسلم قد مات؟ وأجاب: بأنّ أبا بكر تلاها لأجل أنّه صلى الله عليه وسلم قد مات. وفي حديث ابن عمر؛ عند ابن أبي شيبة: أنّ أبا بكر مرّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، حتّى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار وفرحوا بموته؛ ورفعوا رؤسهم. فقال أبو بكر لعمر: أيّها الرّجل؛ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) [الأنبياء] ثمّ أتى أبو بكر المنبر فصعد عليه، فحمد الله، وأثنى عليه، فذكر خطبته: أمّا بعد؛ من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] الآية. وفي البخاري أنّ عمر قال: والله؛ ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت، حتّى ما تقلّني رجلاي، وحتّى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات.. وفي هذا أدلّ دليل على شجاعة الصّدّيق، فإنّ الشّجاعة حدّها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ قال أكثر النّاس: لم يمت رسول الله. واضطرب الأمر فكشفه الصّدّيق بهذه الآية، وكشف عن النّاس اضطرابهم. ففيه قوّة جأشه، وكثرة علمه، وثباته، وهو المحبّ الأكبر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه على ذلك العبّاس- كما تقدّم- ووافقه المغيرة؛ كما رواه ابن سعد، وابن أمّ مكتوم كما في «مغازي أبي الأسود» ؛ عن عروة، قال: إنّ ابن أمّ مكتوم كان يتلو إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ، والنّاس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصّحابة على خلاف ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وفي رواية: أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر.. دخل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعيناه تهملان، وغصصه ترتفع كقصع الجرّة. و (الجرّة- بالكسر-) : ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه. و (قصعها) : إخراجها مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ. فيؤخذ منه: أنّ الأقلّ عددا في الاجتهاد قد يصيب؛ ويخطئ الأكثر، فلا يتعيّن التّرجيح بالأكثر، ولا سيّما إن ظهر أنّ بعضهم قلّد بعضا؛ قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. (وفي رواية) - ذكرها في «الإحياء» ، قال العراقي: رواها ابن أبي الدّنيا في كتاب «القراء» ؛ من حديث ابن عمر بسند ضعيف-. (أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر) ؛ أي: خبر وفاته صلى الله عليه وسلم جاء ف (دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وعيناه تهملان) - بضمّ الميم- أي: تسيلان بالدّموع وزفراته تتردّد، (وغصصه) - جمع غصّة بالضمّ؛ كغرف وغرفة- وهي: ما يغصّ به الإنسان من طعام أو غيظ؛ على التّشبيه، (ترتفع) ؛ أي: تتصاعد وتكثر (كقصع الجرّة، والجرّة- بالكسر-) ؛ أي: بكسر الجيم، وتشديد الرّاء (: ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه) أي: تمضغه مرّة بعد أخرى (وقصعها) هو: إخراج الجرّة من الجوف إلى الشّدق؛ ومتابعة بعضها بعضا، وقد قصعت النّاقة بجرّتها: ردّتها إلى جوفها، أو مضغتها، أو قصع الجرّة: هو شدّة المضع، وضمّ بعض الأسنان على بعض؛ نقله الجوهريّ عن أبي عبيد، وبكلّ ما ذكر فسّر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، وإنّها لتقصع بجرّتها. وقال أبو سعيد الضّرير: قصع النّاقة الجرّة: (إخراجها) من الجوف إلى الشّدق (؛ مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وهو في ذلك جلد الفعل والمقال، فأكبّ عليه، فكشف عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمّي ونفسي وأهلي، طبت حيّا وميتا، ... وإنّما تفعل النّاقة ذلك إذا كانت مطمئنّة ساكنة لا تسير، فإذا خافت شيئا قطعت الجرّة؛ ولم تخرجها، قال: وأصل هذا من: تقصّع اليربوع التّراب، فجعل هذه الجرّة إذا دسعت بها الناقة بمنزلة التّراب الّذي يخرجه اليربوع من قاصعائه. انتهى؛ من «شرح القاموس» وغيره. (وهو) ؛ أي: أبو بكر الصّدّيق (مع ذلك جلد الفعل والمقال) ؛ أي: ثابت العقل فيها، (فأكبّ عليه) وهو مسجّى (فكشف) الثّوب (عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه، وجعل) يقبّله و (يبكي، ويقول: بأبي أنت؛ وأمّي؛ ونفسي؛ وأهلي، طبت حيّا وميتا) . فيه جواز التّفدية بالأب والأمّ، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها، ولا تقصد معناها الحقيقيّ، إذ حقيقة التّفدية- بعد الموت- لا تتصوّر؛ قاله الحافظ ابن حجر. ووقع في حديث ابن عبّاس؛ وعائشة عند البخاري: أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما مات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ففيه- كتقبيله [صلى الله عليه وسلم] لعثمان بن مظعون بعد موته- جواز تقبيل الميت تعظيما وتبرّكا. وفي رواية غير البخاري كذلك. ووقع في رواية الإمام أحمد؛ عن عائشة: أنّ أبا بكر أتاه من قبل رأسه فحدر فاه؛ فقبّل جبهته، ثمّ قال: وانبيّاه!! ثمّ رفع رأسه فحدر فاه ثانيا؛ وقبّل جبهته، ثمّ قال: واصفيّاه!، ثمّ رفع رأسه فحدر فاه ثالثا؛ وقبّل جبهته، وقال: واخليلاه!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصّفة، وجللت عن البكاء، وخصّصت حتّى صرت مسلاة، وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء، ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك؛ لجدنا لحزنك بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا عليك ماء العيون. وعند ابن أبي شيبة؛ عن ابن عمر: فوضع أبو بكر فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقبّله، ويبكي، يقول: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميتا. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبيّاه، واصفيّاه، واخليلاه!! أخرجه الحسن بن عرفة بن يزيد العبديّ؛ أبو علي البغداديّ، الصّدوق؛ المتوفّى سنة: سبع وخمسين ومائتين؛ وقد جاوز المائة. ذكره الطّبريّ في «الرّياض النّضرة» قال: ولا تخالف بين هذا- على تقدير صحّته- وبين ما تقدّم؛ ممّا تضمّن ثبات أبي بكر الصّدّيق، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق؛ خافتا بها صوته، ثمّ التفت إليهم وقال ما قال. (انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء) قبلك، وهو النّبوّة والرّسالة، لأنك آخر الأنبياء، (فعظمت عن الصّفة) ؛ أي: النّعت، أي: إنّ كلّ صفة تقصر عنك، (وجللت عن البكاء) لأنّه لا يوازيك، (وخصّصت حتّى صرت مسلاة) ؛ أي: بحيث يتسلّون بك، (وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء. ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك) إذ خيّرت بينه وبين الخلد (لجدنا- لحزنك- بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا) : أفنينا (عليك ماء الشّؤون) ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا.. فكمد وادّكار محالفان لا يبرحان، اللهمّ فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليك- عند ربّك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة.. لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا، واحفظه فينا. وعن ابن عمر أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت وصلّى وأثنى.. عجّ أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى؛ كلّما ذكر شيئا.. ازدادوا، ... أي: مدامع العيون (فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا) ؛ أي: لا نقدر على إزالته! (فكمد) - بفتح الكاف والميم- أي: حزن (وادّكار محالفان) أي: ملازمان (لا يبرحان. اللهمّ؛ فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليك- عند ربّك) تعالى، (ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة، لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا؛ واحفظه فينا) ؛ ذكره الغزاليّ في «الإحياء» . (و) أخرج سيف بن عمر التّميميّ في كتاب «الرّدة» له- كما في «شرح الإحياء» - عن سعيد بن عبد الله؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما. (أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت) أي: حجرة عائشة رضي الله عنها (وصلّى وأثنى؛ عجّ أهل البيت عجيجا) أي: رفعوا صوتا (سمعه أهل المصلّى) ؛ وهم خارج المدينة المنوّرة، باعتبار ما كان في الزّمن النّبويّ. (كلّما ذكر شيئا) من الثّناء (ازدادوا) نحيبا وبكاء. أخرج ابن عساكر؛ عن أبي ذؤيب الهذليّ؛ الشّاعر المشهور، واسمه: خويلد بن خالد، كان فصيحا كثير الغريب، عاش في الجاهليّة دهرا، وأدرك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل على الباب صيّت جلد؛ قال: السّلام عليكم يا أهل البيت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] . إنّ في الله خلفا من كلّ أحد، ودركا لكلّ رغبة، ... الإسلام؛ فأسلم، وعامّة شعره في حال إسلامه، قال: بلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليل، فأوجس أهل الحيّ خيفة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبتّ بليلة طويلة، حتّى إذا كان قرب السّحر نمت، فهتف بي هاتف في منامي؛ وهو يقول: خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النّخيل ومقعد الآطام قبض النّبيّ محمّد فعيوننا ... تذري الدّموع عليه بالتّسجام قال: فوثبت من نومي فزعا، فنظرت إلى السّماء، فلم أر إلّا سعد الذّابح، فعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبض؛ أو هو ميّت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج؛ إذا أهلّوا بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ثمّ حضر أبو ذؤيب سقيفة بني ساعدة، وسمع خطبة أبي بكر الصّدّيق، ورثى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقصيدة منها: كسفت لمصرعه النّجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح (فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل) . ولفظ الحديث- كما في «شرح الإحياء» -: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء أبو بكر حتّى دخل عليه، فلمّا رآه مسجّى قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ صلّى عليه، فرفع أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى، فلمّا سكن ما بهم سمعوا تسليم رجل (على الباب صيّت) ؛ أي: جهير الصّوت (جلد) قويّ؛ (قال: السّلام عليكم يا أهل البيت) ورحمة الله وبركاته، فرددنا عليه مثل ذلك، فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) : جزاء أعمالكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) [185/ آل عمران] ... (الآية) . إنّ في الله خلفا من كلّ أحد) هالك (ودركا لكلّ رغبة) ؛ أي: مرغوب فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا، فاستمعوا له وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء.. فقد صوته؛ فاطّلع أحدهم فلم ير أحدا، ثمّ عادوا فبكوا، فناداهم مناد آخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال.. تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا. فقال أبو بكر: هذا الخضر واليسع عليهما السّلام؛ قد حضرا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فائت، (ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا) : اعتمدوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب. (فاستمعوا له، وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء فقد صوته. فاطّلع أحدهم) إلى الباب (فلم ير أحدا. ثمّ عادوا فبكوا؛ فناداهم مناد آخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال؛ تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء) : تسلية (من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا) . في شرح «الإحياء» بدله: وعوضا من كلّ هلكة؛ فبالله فثقوا، وإيّاه فأطيعوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب. (فقال أبو بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (: هذا الخضر) - بفتح الخاء، وكسر الضّاد المعجمتين- واسمه: بليا بن ملكان، (واليسع) . قال العراقيّ: لم أجد فيه ذكر اليسع!!. وفي «شرح الإحياء» : هذا الخضر وإلياس (عليهما السّلام قد حضرا) وفاة (النّبيّ صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 ......... قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ؛ بعد أن أورده: وسيف فيه مقال، وشيخه لا يعرف. انتهى. قال «شارح الإحياء» قلت: هو سعيد بن عبد الله بن ضرار بن الأزور، روى عن أبيه وعن غيره، وفيه وفي أبيه مقال، وقد تقدّم قريبا. ثمّ قال العراقيّ: وأمّا ذكر الخضر في التّعزية!! فأنكر النّوويّ وجوده في كتب الحديث، وقال: إنّما ذكره الأصحاب. قلت «1» : بل قد رواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أنس، ولم بصحّحه، ولا يصحّ. انتهى. قلت: وجدت بخطّ الشّمس الداودي ما نصّه: قول الشّيخ «إنّ الحاكم لم يصحّحه» صحيح، لكنّه مشعر بكونه لم يضعّفه!! وليس كذلك، فإنّه ساقه من رواية عبّاد بن عبد الصّمد، ثمّ قال: وعباد ليس من شرط هذا الكتاب!. انتهى ملخّصا من «شرح الإحياء» فراجعه فيه، فإنّه ساق الحديث من وجوه عديدة من طريق أنس؛ وعليّ بن أبي طالب مرفوعا؛ ومرسلا بألفاظ مختلفة. وما في هذا الحديث يدلّ على حياة الخضر، وقد أنكره جماعة؛ منهم ابن الجوزي، وقال: إنّه لو كان حيّا لاجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو اجتمع به لورد!! وقد ردّ النّاس على من أنكر ذلك. قال ابن الصّلاح: الخضر حيّ عند جماهير العلماء والصّالحين، وإنّما شذّ بإنكاره بعض المحدّثين. وقال النّوويّ في «شرح مسلم» : جمهور العلماء أنّه حيّ موجود بين أظهرنا، وذلك متّفق عليه عند الصّوفيّة، وأهل الصّلاح والمعرفة. انتهى. وألّف غير واحد كتبا في ذلك، آخرهم شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر   (1) الكلام للعراقي. والتي بعدها للمؤلف الشارح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 واستوفى القعقاع بن عمرو [رضي الله تعالى عنه] حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس عبراتهم بخطبة جلّها الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال، ... العسقلاني رحمه الله تعالى «1» . وقد ذكر الخضر في «الإصابة» وبسط الكلام فيه بما لا يوجد لغيره. وقد ورد في عدّة أحاديث اجتماعة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم! وعندي أنّها وإن كانت ضعيفة؛ فكثرة الطّرق والأخبار تقوّيها، وتعزيته للصّحابة عند موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقول عليّ بن أبي طالب «هذا الخضر» ، وسكوت الصّحابة على ذلك يكاد يكون إجماعا، وقصّة اجتماعه بعمر بن عبد العزيز: إسنادها صحيح. انتهى كلام السّيوطيّ في كتاب «تأييد الحقيقة العليّة وتشييد الطريقة الشاذلية» ص (88) رحمه الله تعالى. قال في «الإحياء» : (واستوفى القعقاع بن عمرو) التّميميّ أخو عاصم (حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه) ، وكان القعقاع من الفرسان الشّجعان، قيل: إنّ أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل! وله في قتال الفرس بالقادسيّة وغيرها بلاء عظيم، وهو الّذي غنم في فتح المدائن أدراع كسرى، وكان فيها درع لهرقل، ودرع لخاقان، ودرع للنّعمان، وسيفه، وسيف كسرى، فأرسلها سعد إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما. قال ابن عساكر: يقال: إنّ له صحبة! وكان أحد فرسان العرب وشعرائهم، شهد فتح دمشق، وأكثر فتوح العراق، وله في ذلك أشعار مشهورة. وقال ابن السّكن: ويقال: هو القعقاع بن عمرو بن معبد التّميمي. (فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس عبراتهم بخطبة جلّها) ؛ أي: معظمها (الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم) ثمّ بيّن نصّ الخطبة، فقال: (فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال) من الأحوال في السّرّاء والضّراء،   (1) بل ألف بعده: ملّا علي قاري رحمه الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وقال: أشهد ألاإله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد وحده. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، وأشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الدّين كما شرع، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ القول كما قال، وأنّ الله هو الحقّ المبين. (وقال: أشهد ألاإله إلّا الله) أعلم وأعتقد بقلبي، وأبيّن لغيري ألامعبود بحقّ في الوجود إلّا الله (وحده) حال كونه منفردا، (صدق وعده) بإظهار دينه، (ونصر عبده) محمّدا رسوله صلى الله عليه وسلم، (وغلب الأحزاب) : جماعات الكفّار الّذين تجمّعوا يوم الخندق لاستئصال النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فهزمهم الله (وحده) بدون عدّة ولا عدد، (فلله الحمد وحده. وأشهد) : أعلم وأعتقد بقلبي، وأبيّن لغيري (أنّ) سيّدنا (محمّدا عبده) إنّما قدّم الوصف بالعبودية على الوصف بالرّسالة!! امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن قولوا: عبد الله ورسوله» . ومعنى العبودية: التّذلّل والخضوع، وهي: وصف شريف جليل، ولذا وصف بها في أشرف المقامات؛ كمقام الإسراء، فقال تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [1/ الإسراء] ومقام إنزال الكتاب قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [1/ الكهف] (ورسوله) أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، (وخاتم أنبيائه) ورسله، قال تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [40/ الأحزاب] ويلزم من ختم الأعمّ ختم الأخصّ. (وأشهد أنّ الكتاب) القرآن (كما نزل) لم يقع فيه تغيير، ولا تبديل؛ بل هو كما أنزله الله حقّ وصدق، (وأنّ الدّين كما شرع) الله، وهو دين صحيح سماويّ، (وأنّ الحديث كما حدّث) ممّا تضمّنه القرآن، (وأنّ القول كما قال) ، فهو مطابق للواقع، (وأنّ الله هو الحقّ) المتحقّق الثّابت وجوده (المبين) : البيّن الظّاهر الّذي لا خفاء فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 اللهمّ؛ فصلّ على محمّد عبدك، ورسولك، ونبيّك، وحبيبك، وأمينك وخيرتك، وصفوتك.. بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك. اللهمّ؛ واجعل صلواتك، ومعافاتك، ورحمتك، وبركاتك.. على سيّد المرسلين، وخاتم ... (اللهمّ) - بميم مشدّدة مزيدة آخرا؛ عوضا من حرف النّداء، إذ أصله: يا الله- قال الفاسي: هو توجّه للمطلوب، وطلب لحصول المرغوب بالتّوسّل بالاسم الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. وإنما جعل هذا الاسم العظيم في أوائل الأدعية غالبا!! لأنّه جامع لجميع معاني الأسماء الكريمة، وهو أصلها. (فصلّ) ؛ أي: أثن عليه عند ملائكتك، أو شرّف وكرّم، أو عظّم أو اعتن وزد الخير، أو اجعل اللّطف والرّحمة المقترنة بالتّعظيم المنبعثة عن العطف والحنان (على محمّد عبدك؛ ورسولك؛ ونبيّك؛ وحبيبك؛ وأمينك) على وحيك، (وخيرتك) من خلقك، (وصفوتك) من عبادك (بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك. اللهمّ؛ واجعل صلواتك) جمع صلاة؛ أي: حنانك ورحمتك وعطفك، (ومعافاتك ورحمتك) بإفراد لفظ «رحمة» و «معافاة» ؛ وجمع ما سواهما. وفيه دليل للدّعاء له صلى الله عليه وسلم بالرّحمة، لكن بالتّبع لغيرها؛ كما هنا. (وبركاتك) جمع بركة؛ أي: خيراتك النّامية نازلة ومتوالية. (على سيّد المرسلين) ؛ أي: رئيسهم وأفضلهم، أي: أفرغ وأحلل عليه، فيعمّه ويشمله من كلّ وجه، ويكون محلّا لهذه الفضائل. (وخاتم) ؛ بفتح التّاء وكسرها، وقد قرىء بهما معا في قوله تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [40/ الأحزاب] فبالفتح: اسم لما يختم به، فهو كالخاتم والطابع، الّذي هو آلة للختم الّذي يكون عند التّمام والانتهاء. وبالكسر: بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 النّبيّين وإمام المتّقين، محمّد قائد الخير، وإمام الخير، ورسول الرّحمة. أنّه ختم (النّبيّين) ؛ أي: جاء آخرهم، فلم يبق بعده نبيّ ولا معه. (وإمام المتّقين) ؛ أي: قدوتهم. وأصل الإمام: المتّبع والهادي لمن اتّبعه، والمتقدّم بين يدي القوم، والشّفيع لمن خلفه. والمتّقين: جمع متّق؛ وهو: الممتثل لأوامر الله تعالى المجتنب لنواهيه، ثم يتّقي الشّبهات، ثمّ الشهوات والفضلات، وكلّ ما يوجب النّقص؛ أو البعد عن الله، ثمّ يتّقي غير الله أن يساكنه باعتماد؛ أو ميل؛ أو استناد. وهو صلّى الله عليه وسلم أتقى الخلق لله، وأعرفهم به، وأشدّهم له خشية، وأكثرهم له طاعة، وأجهدهم في عبادته، وتقواه لا تدرك؛ ولا يبلغها التّعبير، ولا تدرى نهاية ما إليه بها يشير، فهو المتقدّم عليهم وقدوتهم وقائدهم إلى الصّراط المستقيم. (محمّد قائد) ؛ اسم فاعل من قاده يقوده: جذبه من أمام، بسبب حسّي أو معنويّ ليتبعه (الخير) هو: كلّ أمر محمود لموافقته للغرض، والمراد: أنّه صلى الله عليه وسلم قائد إلى الصّراط المستقيم؛ الموصل إلى الأغراض؛ الموافقة في الآخرة، حيث النّفع الذي لا ضرر فيه، والحسن الّذي لا قبح معه، والمحبوب الّذي لا مكروه عنده، فكأنّ الإضافة على معنى اللّام، أي قائد إلى الخير. (وإمام الخير) الإضافة على معنى «في» أي: إمام في الخير، أو بمعنى: اللّام؛ أي: إمام موصل إلى الخير. (ورسول الرّحمة) قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] وقال تعالى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة] وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا رحمة مهداة» ، وقال: «إنّما بعثت رحمة، ولم أبعث عذابا» فبعثه الله تعالى رحمة لأمّته؛ ورحمة للعالمين، حتّى للكفّار بتأخير العذاب، وللمنافقين بالأمان، فمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 اللهمّ؛ قرّب زلفته، وعظّم برهانه، وكرّم مقامه، وابعثه مقاما محمودا ... اتّبعه رحم به في الدّنيا بنجاته فيها من العذاب؛ والخسف والقذف والمسخ والقتل وذلّة الكفر والجزية؛ ورحم قلبه بالإيمان بالله، ونجا من صلاء نيران القطيعة عن الله. وفي الآخرة بنجاته فيها من العذاب المخلّد؛ والخزي المؤبّد، وبتعجيل الحساب؛ وتضعيف الثّواب، وحصوله على الخير الكثير والملك الكبير. (اللهمّ) يا الله؛ (قرّب زلفته) ؛ أي: زده قربا، (وعظّم برهانه) : أي حجّته، أي: زدها عظاما. وتقوية وبهورا، (وكرّم مقامه) ؛ أي: زده تكريما ورفعة، (وابعثه) هو فعل دعاء؛ من بعثه يبعثه- مفتوح العين فيهما- بعثا، وهو: إثارة ساكن في حالة أو وصف أو حكم؛ كنوم أو موت أو أيّ حالة ووصف كان، وتحريكه نحو حالة ووصف آخر؛ كاليقظة والحياة والقيام ونحوها (مقاما) بفتح الميم الأولى-: اسم مصدر القيام، أو اسم مكانه. وعلى الأوّل: يكون منصوبا على المفعول المطلق، لأنّ البعث والإثارة والإقامة بمعنى واحد. وعلى الثّاني! فقيل: إنّه منصوب على الظّرفية بتقدير: ابعثه يوم القيامة؛ فأقمه. والقيام هنا بمعنى: الوقوف، أو بتضمين «ابعثه» معنى: أقمه. وعلى كليهما!! يصحّ أن يكون منصوبا على أنّه مفعول به؛ على تضمين «ابعثه» معنى: أعطه، ويجوز أن يكون حالا، أي: ابعثه ذا مقام. (محمودا) نعت للمقام، وهو من الإسناد المجازيّ؛ أي: محمودا صاحبه، أو القائم فيه، وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم لاختصاص الوصف بالحمد بذوي العلم، ولما جاء في الحديث: أنّه صلى الله عليه وسلم يحمده في هذا المقام الأوّلون والآخرون. ونكّر «مقاما محمودا» !! قال الطّيبي: لأنّه أفخم وأجزل، كأنّه قيل: مقاما محمودا بكلّ لسان، وهو مطلق في كلّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 يغبطه به الأوّلون والآخرون، وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة، واخلفه فينا في الدّنيا ... وقيّدوه بأنّه: الشّفاعة العظمى في فصل القضاء؛ أي: تعجيل الحساب، يحمده فيه الأوّلون والآخرون، وادّعوا على ذلك الإجماع!! ويشهد لذلك الأحاديث الصّحيحة الصّريحة، والآثار عن الصّحابة والتّابعين. (يغبطه) صلى الله عليه وسلم؛ من غبطه يغبطه: كضربه يضربه. وقال في «القاموس» : كضربه وسمعه. والاسم: الغطبة- بكسر الغين-؛ وهو تمنّي حصول مثل النّعمة الحاصلة للمنعم عليه؛ من غير زوالها عنه. وقد نظم بعضهم هذا المعنى؛ فقال: وقد غبطت المرء في أحواله ... أغبطه- بالكسر- في أعماله أعني: تمنّيت لنفسي مثل ما ... له، ولا يسلب تلك النّعما وقد يراد بالغبطة لازمها؛ وهو المحبّة والسّرور بما رآه فقط. (به) أي: فيه، أي: في هذا المقام (الأوّلون) : جمع أوّل، (والآخرون) : جمع آخر، يعني: من الحاضرين في ذلك اليوم. والأوّل: ما يترتّب عليه غيره، ويستعمل في التّقدّم الزّمانيّ؛ والرّياسيّ؛ والوضعيّ؛ والنّسبيّ؛ والنّظم الصّناعيّ. والآخر: ما يترتّب على غيره، ويستعمل في جميع ذلك، لكن في التّأخّر. (وانفعنا بمقامه المحمود) ؛ بتخفيف الهول والحساب، وتقصير مدّة المقام، وإدخال الجنّة دار السّلام (يوم القيامة) معمول ل «انفعنا» . وسمّي «يوم القيامة» ! لقيام السّاعة فيه، وقيام الخلق فيه من قبورهم، وقيامهم لربّ العالمين ما شاء الله، وقيامهم للحساب وقيام الحجّة لهم وعليهم، وله نحو مائة اسم! انظرها- إن شئت- في «البدور السّافرة» و «الإحياء» . وأوّله من النّفخة الثّانية إلى استقرار الخلق في الدّارين: الجنّة والنّار. (واخلفه فينا) بأحسن الخلف؛ (في الدّنيا) بملازمة الطّاعة، والتّمسّك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 والآخرة، وبلّغه الدّرجة والوسيلة في الجنّة. اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، ... بالشّريعة، (والآخرة) بأن تقرّ عينه بنا إذ نوافيه سالمين من التّغيير والتّبديل. (وبلّغه الدّرجة) ؛ أي: المنزلة، وهي على حذف النّعت؛ أي: الرّفيعة، وهي الرّتبة الزّائدة على سائر الخلائق: العالية الشّأن، السّامية المكانة والمكان. (والوسيلة) هي: أعلى درجة في الجنّة. هكذا في الحديث، وفي آخر- عند ابن عساكر- عن الحسن بن علي: «فإنّ وسيلتي عند ربّي شفاعة لكم» . وقيل: الوسيلة هي القربة. وقال الشيخ أبو محمد عبد الجليل القصري في «شعب الإيمان» : إنّ وسيلته صلى الله عليه وسلم هو: أن يكون في الجنّة، في قربه من الله تعالى بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل؛ لا يصل لأحد شيء إلّا بواسطته. انتهى. وهو موافق لما تقدّم من تفسيرها بالشّفاعة لأمّته، ويفسّر العلوّ؛ في أنّها أعلى درجة في الجنّة بالعلوّ المعنويّ. ومقتضى ما لابن كثير: أنّه فسّره بالعلوّ الحسّيّ؛ وهو قوله: الوسيلة علم على أعلى منزلة في الجنّة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنّة، وهي أقرب أمكنة الجنّة إلى العرش. انتهى. وكلاهما صحيح. والله أعلم؛ قاله الفاسي. (في الجنّة) هي دار الثّواب في الآخرة. (اللهمّ) ؛ أي: يا الله (صلّ على محمّد) ؛ أي: ارحمه رحمة مقرونة بالتّعظيم، (وعلى آل محمّد) هم: بنو هاشم وبنو المطّلب عند الشّافعي. ويحتمل أنّه أراد ب «آله» كلّ تقيّ، كما اختاره جماعة من العلماء، وقيل: إنّ آله جميع أمّته. وفي إعادة كلمة «على» ردّ على الشّيعة في قولهم «إنّ جمع الآل مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة بكلمة- على- لا يجوز، ويجب ترك الفصل بينه وبين آله» ؟! وينقلون في ذلك حديثا لا يصحّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم، ... (وبارك) أي: أفض بركات الدّين والدّنيا، أو أدم ما أعطيت من التّشريف؛ والكرامة والبركة، وكثرة الخير والكرامة، ونمائهما، والزّيادة منهما. أو هي: الثّبات على ذلك، أو هي: التّطهير والتّزكية من المعائب، أو هي: الزّيادة في الدّين والذّريّة (على محمّد، وعلى آل محمّد. كما) - الكاف للتّشبيه، وقيل: للتعليل. و «ما» : مصدريّة؛ أو موصولة- (صلّيت) جملة هي صلة الموصول، فلا محلّ لها. (وباركت) معطوف على «صلّيت» (على إبراهيم) الخليل عليه الصّلاة والسّلام بالتّشبيه بإبراهيم عليه السلام. وهنا سؤال يورده العلماء قديما وحديثا. وهي: أنّ القاعدة أنّ المشبّه بالشّيء أعلى رتبة أن يكون مثله، وقد يكون أدنى، وأما أعلى! فلا يكون. ومن المعلوم المقرّر في القواعد: أنّ نبيّنا محمّدا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام، فكيف يخرج عن ظاهر هذه الصّيغة الواردة في الحديث على القاعدة المقرّرة!؟ وقد أجابوا عن ذلك بأجوبة كثيرة؛ نذكر منها ما رأيناه أقرب. منها أنّه: إنّما قيل ذلك لتقدّم الصّلاة على إبراهيم عليه السلام، وقول الملائكة في بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) [هود] ، أي: كما تقدّمت منك الصّلاة على إبراهيم عليه السلام، فنسأل منك الصّلاة على محمّد عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، لأنّ الّذي ثبت للفاضل ثبت للأفضل؛ بطريق الأولى، ولذلك ختم بما ختم الآية؛ وهو قوله: «إنّك حميد مجيد» . والتّشبيه إنّما هو لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة؛ لا للقدر بالقدر. فهو كقوله تعالى* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [163/ النساء] ، وقوله تعالى كُتِبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 ......... عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [183/ البقرة] ، وقوله تعالى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [77/ القصص] . ومنها أنّه قال ذلك تواضعا وشرعة لأمّته؛ ليكتسبوا به الفضيلة والثّواب. ومنها أنّ الدّعاء للاستقبال، فما كان من خير قد أعطيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الدّعاء لم يقع في التّشبيه، وإنّما وقع في التّشبيه الزائد على ما كان عنده، فطلب أن يكون له مثل ما كان لإبراهيم؛ زيادة على ما خصّه الله تعالى به قبل السّؤال. ومنها دفع المقدّمة المذكورة أوّلا؛ وهي: أنّ المشبّه به يكون أرفع من المشبّه: بأنّ ذلك ليس مطّردا؟! بل قد يكون التّشبيه بالمثل؛ بل بالدّون!! كما في قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [35/ النور] ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى!؟ ولكن لمّا كان المراد من المشبّه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسّامع؛ حسن تشبيه النّور بالمشكاة، وكذا هنا: لمّا كان تعظيم إبراهيم عليه السلام وآل إبراهيم بالصّلاة عليهم واضحا مشهورا عند جميع الطّوائف؛ حسن أن يطلب لمحمّد وآل محمّد بالصّلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم عليه السلام وآل إبراهيم عليه السلام. ويؤيّد ذلك ختم الطّلب المذكور بقوله: في العالمين؛ كما جاء في رواية الصّلاة الإبراهيميّة، أي: كما أظهرت الصّلاة على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين. فالتّشبيه المذكور ليس من باب إلحاق النّاقص بالكامل، لكن من إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. وقالوا أيضا؛ في خصوص التّشبيه بإبراهيم دون غيره من الأنبياء- على جميعهم الصّلاة والسّلام-: إنّ ذلك لأبوّته، فكان أقرب إليه من غيره. ولأن التّشبيه بالآباء والفضائل مرغوب فيه، ولرفعة شأنه في الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، ولما هو معروف لهم في هذه الملّة الشّريفة؛ ممّا لا يحتاج إلى تعريف به، ولا بيان له؛ الّذي منه موافقته في معالم الملّة. وكأنّ هذا يلاحظ قوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [78/ الحج] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 إنّك حميد مجيد. يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا.. فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله.. فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله قد تقدّم إليكم في أمره فلا تدعوه ... ولأنّه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى ذلك كلّه إلى يوم الدّين، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين، كما جعله لإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام؛ مقرونا بما وهب الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولمشاركته له في التأذين بالحجّ وإجابة لدعائه بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) [الشعراء] ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به. وممّا يعزى للشيخ أبي محمد المرجاني أنّه قال: سرّ التشبيه بإبراهيم؛ دون موسى عليهما السّلام!! لأنه كان التجلّي له بالجلال؛ فخرّ موسى صعقا، والخليل إبراهيم كان التجلي له بالجمال، لأنّ المحبّة والخلّة من آثار التجلّي بالجمال، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلّوا عليه كما صلى على إبراهيم، ليسألوا له التجلّي بالجمال؛ لا التسوية فيه، فيتجلّى لكل منهما بحسب مقامه ورتبته عنده. (إنّك حميد) ؛ فعيل بمعنى مفعول، لأنّه حمد نفسه وحمده عباده. أو بمعنى فاعل، لأنه الحامد لنفسه؛ ولأعمال الطّاعات من عباده. (مجيد) من المجد؛ وهو الشرف والرفعة وكرم الذات والفعال التي منها كثرة الأفضال، والمعنى إنّك أهل الحمد والفعل الجميل والكرم والإفضال؛ فأعطنا سؤلنا ولا تخيّب رجاءنا. (يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله تقدّم إليكم في أمره) ، أي: قدّم لكم في كلامه إذ قال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [34/ الأنبياء] ، (فلا تدعوه) : تتركوا العمل به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 جزعا، فإنّ الله عزّ وجلّ قد اختار لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فمن أخذ بهما.. عرف، ومن فرّق بينهما.. أنكر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] . ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم، ولا يفتننّكم عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير تعجزوه، ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم. (جزعا) ؛ لأجل الجزع، أي: شدّة الحزن الذي أصابكم بموته. (فإنّ الله عزّ وجلّ قد اختار لنبيّه صلى الله عليه وسلم ما عنده) من الكرامة في الآخرة؛ (على ما عندكم) من متاع الحياة الدنيا، (وقبضه إلى ثوابه) وجنّته؛ بعد أن ترككم على المحجّة البيضاء. (وخلّف فيكم كتابه) القرآن، (وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم) ؛ أي: جعلهما يخلفانه في استفادة الأحكام الشرعية فتمسّكوا بهما، (فمن أخذ) ؛ أي: تمسّك (بهما) ؛ أي: الكتاب والسنّة وعمل بما فيهما (عرف) ؛ أي: فعل أمرا معروفا في الشرع وصار من العارفين. (ومن فرّق بينهما أنكر) أي: أتى أمرا منكرا، لأن السنة بيان للكتاب، فهما متلازمان في تطبيق الأحكام الشرعية لا تناقض بينهما ولا تخالف. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) ؛ أي مديمين القيام (بِالْقِسْطِ) [135/ النساء] : بالعدل، فمن عدل مرة أو مرتين لا يكون قوّاما. (ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم) عن الاستقامة على الحقّ، (ولا يفتننّكم) الشيطان بالرجوع (عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير) ؛ أي: تحصنوا منه بعمل الخير (تعجزوه) ؛ أي: يندفع عنكم، (ولا تستنظروه) : تمهلوه حتى يتمكّن منكم (فيلحق بكم ويفتنكم) . رواه بطوله سيف بن عمر التميمي في كتاب «الفتوح» له؛ عن عمرو بن تمام؛ عن أبيه؛ عن القعقاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وقال ابن عبّاس: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته.. قال: يا عمر؛ أنت الّذي بلغني أنّك تقول: (ما مات نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم؟!) أما ترى أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا، وقال الله تعالى في كتابه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . فقال: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا، أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت، ... قال ابن أبي حاتم: سيف متروك. وأخرجه ابن السّكن من طريق إبراهيم بن سعد؛ عن سيف بن عمر؛ عن عمرو عن أبيه. وقال: سيف بن عمر ضعيف. قلت: هو من رجال الترمذي! وهو؛ وإن كان ضعيفا في الحديث؛ فهو عمدة في التاريخ مقبول النقل؛ قاله في «شرح الإحياء» . (و) في «الإحياء» للغزالي: (قال ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته؛ قال: يا عمر؛ أنت الّذي بلغني) عنك (أنّك تقول: ما مات نبيّ الله صلى الله عليه وسلم!! أما ترى [أنّ] نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا!! وقال الله تعالى في كتابه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ) . فأخبر بأنه سيموت فكيف تنكره؟!!. (فقال) أي: عمر رضي الله عنه (: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها!!) ؛ أي: هذه الآية (في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا) من الدّهشة والحيرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وصلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ جلس إلى أبي بكر. إنّا لله) ملكا وعبيدا؛ يفعل بنا ما يشاء. (وإنّا إليه راجعون) في الآخرة فيجازينا. (وصلوات الله) تعالى متتابعة (على رسوله) صلى الله عليه وسلم، (وعند الله نحتسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ جلس إلى أبي بكر) الصديق. ثم رجع عمر عن مقالته التي قالها؛ كما ذكره أبو نصر: عبد الله الوائلي؛ في كتاب «الإبانة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبره؛ تشهّد عمر ثم قال: أمّا بعد؛ فإنّي قلت لكم أمس مقالة، وإنّها لم تكن كما قلت، وإنّي والله، ما وجدت المقالة الّتي قلت لكم في كتاب الله؛ ولا في عهد عهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنّي كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى يدبرنا- أي: يكون آخرنا موتا- فاختار الله عزّ وجلّ لرسوله الّذي عنده على الّذي عندكم. وهذا الكتاب الّذي هدى الله به رسوله؛ فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفي آخر هذا الخبر عند ابن إسحاق: فبايع النّاس أبا بكر البيعة العامّة بعد بيعة السّقيفة، ثمّ تكلّم أبو بكر» ... الحديث؛ قال أبو نصر الوائلي: المقالة التي قالها عمر ثم رجع عنها هي قوله «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتّى يقطع أيدي وأرجل رجال من المنافقين» . وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين. فلما شاهد عمر قوّة يقين الصدّيق الأكبر، وتفوّهه بقول الله عز وجل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185/ آل عمران] . وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30/ الزمر] ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة المنوّرة؛ كأنّها لم تنزل قطّ إلّا ذلك اليوم؛ رجع عن تلك المقالة، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 ......... قال في «المواهب» : ولما تحقّق عمر بن الخطاب موته صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر الصديق، ورجع إلى قوله؛ قال عمر وهو يبكي: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد كان لك جذع تخطب النّاس عليه، فلمّا كثروا واتّخذت منبرا لتسمعهم فحنّ الجذع لفراقك؛ حتّى جعلت يدك عليه فسكن، فأمّتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عند ربّك أن جعل طاعتك طاعته، فقال مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [80/ النساء] . بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أوّلهم؛ فقال تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [7/ الأحزاب] . بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عنده أنّ أهل النّار يودّون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسول. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار، فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء؛ صلّى الله عليك. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله ريحا غدوّها شهر ورواحها شهر، فما ذاك بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السّماء السّابعة؛ ثمّ صلّيت الصّبح من ليلتك بالأبطح، صلّى الله عليك. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، فما ذاك بأعجب من الشّاة المسمومة حين كلّمتك وهي مسمومة؛ فقالت: لا تأكلني؛ فإنّي مسمومة. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد دعا نوح على قومه؛ فقال: ربّ لا تذر على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا اجتمعوا لغسله.. قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟ قالت: فأرسل الله عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما، ثمّ قال قائل لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا، ففعلوا ذلك، الأرض من الكافرين ديّارا. ولو دعوت مثلها علينا لهلكنا عن آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك؛ فأبيت أن تقول إلّا خيرا، فقلت: اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد اتّبعك في أحداث سنّك وقصر عمرك ما لم يتّبع نوحا في كبر سنّه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير؛ وما آمن معه إلّا قليل. بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لو لم تجالس إلّا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلّا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلّا كفؤا ما آكلتنا؛ ولبست الصّوف، وركبت الحمير، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك؛ تواضعا منك، صلّى الله عليك. انتهى. الحديث بطوله وتتمته من «المدخل» لابن الحاج المالكي رحمه الله تعالى. (وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما رواه البيهقي في «دلائل النبوة» -: (لمّا اجتمعوا لغسله) صلى الله عليه وسلم؛ (قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟!. قالت: فأرسل الله) ؛ أي: ألقى (عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما. ثمّ قال قائل) أي: كلّمهم مكلّم من ناحية البيت؛ (لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا) من النوم (ففعلوا ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 فغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قميصه؛ حتّى إذا فرغوا من غسله.. كفّن. وقال عليّ كرّم الله وجهه: أردنا خلع قميصه فنودينا: لا تخلعوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثيابه، فأقررناه، فغسّلناه في قميصه كما نغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه.. إلّا قلب لنا حتّى نفرغ منه، وإنّ معنا لحفيفا في البيت كالرّيح الرّخاء، ويصوّت بنا: ارفقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّكم ستكفون. فغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه) ؛ يضعون الماء فوق القميص ويد لكونه بالقميص، (حتّى إذا فرغوا من غسله كفّن) ؛ أي: في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، ليس فيها قميص ولا عمامة. قال البيهقي في «الخلافيات» : قال أبو عبد الله- يعني الحاكم-: تواترت الأخبار عن علي وابن عبّاس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغافل؛ في تكفين النّبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب؛ ليس فيها قميص ولا عمامة. انتهى. (و) في «الإحياء» : (قال عليّ «كرّم الله وجهه» ) - تقدم الكلام قريبا على الحكمة في تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقولهم «كرم الله وجهه» (: أردنا خلع قميصه) حال الغسل (فنودينا) من ناحية البيت: (لا تخلعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابه، فأقررناه) ، أي: لم نجرّده عن القميص، (فغسّلناه في قميصه كما تغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه؛ إلّا قلب لنا) بسهولة (حتّى نفرغ منه) . ثمّ عند تكفينه نزع منه ذلك القميص الذي غسّل فيه، (وإنّ معنا لحفيفا) ؛ أي: شيئا خفيفا (في البيت كالرّيح الرّخاء) - بضمّ الرّاء-: الريح اللينة؛ قاله في «القاموس» ، وفي «الأساس» : هي طيبة الهبوب؛ (ويصوّت) ذلك الشيء الخفيف الشبيه بالريح الرّخاء (بنا) ؛ أي: يكلّمنا بصوت مسموع قائلا: (ارفقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّكم ستكفون) قال في «شرح الإحياء» : وقد صح أنه غسل صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 فهكذا كانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يترك سبدا ولا لبدا إلّا دفن معه. قال أبو جعفر: فرش لحده بمفرشه وقطيفته، وفرشت ثيابه الّتي كان يلبس يقظان على القطيفة والمفرش، ثمّ وضع عليها في أكفانه. ثلاث غسلات: الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور؛ وغسله عليّ، والعبّاس وابنه الفضل يعينانه؛ وقثم وأسامة وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء؛ وأعينهم معصوبة من وراء السّتر، لحديث علي: «لا يغسّلني إلّا أنت، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلّا طمست عيناه» . رواه البزار والبيهقي. (فهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك سبدا) ؛ السّبد- بفتحتين-: القليل من الشّعر؛ (ولا لبدا) اللّبد- بفتحتين-: الصوف، ومن ذلك قولهم «فلان ما له سبد ولا لبد» ؛ محركان، أي: لا قليل ولا كثير؛ وهذا قول الأصمعي، وهو مجاز؛ أي لا شيء له، وفي «اللّسان» ، أي: ماله ذو وبر ولا صوف متلبّد، يكنّى بهما عن الإبل والغنم. وكان مال العرب الخيل، والإبل، والغنم، والبقر، فدخلت كلّها في هذا المثل؛ وقوله: (إلّا دفن معه) . كذا في «الإحياء» ، ولم يتكلّم عليه شارحه بشيء!! (قال أبو جعفر) محمد الباقر بن علي «زين العابدين» بن الحسين «السّبط» بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم (: فرش لحده بمفرشه وقطيفته) - بفتح القاف وكسر الطاء المهملة وسكون التّحتيّة ففاء-: كساء له خمل؛ أي: أهداب: أطراف. فرشها شقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» ، وقال: «والله لا يلبسها أحد بعدك» ؛ وهي النجرانيّة الحمراء التي كان يتغطّى بها ويجلس عليها. (وفرشت ثيابه الّتي كان) صلى الله عليه وسلم (يلبس) وهو (يقظان) ؛ أي: في حال حياته (على القطيفة والمفرش) أي: فوقهما، (ثمّ وضع عليها) ؛ أي: على القطيفة والمفرش والثياب، وهو ملفوف (في أكفانه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 ......... لكن حديث عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كفّن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحوليّة بيض» ... الذي أخرجه النّسائي؛ من رواية عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن الزهري؛ عن عروة؛ واتفق عليه الأئمة السّتة من طريق: هشام بن عروة؛ عن أبيه؛ عن عائشة بزيادة: «من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة» ، وليس قوله «من كرسف» عند الترمذي، ولا ابن ماجه. زاد مسلم: أمّا الحلّة! فإنّما تشبه على النّاس؛ إنّها اشتريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلّة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر الصّديق؛ فقال: لأحبسنّها حتّى أكفّن فيها نفسي، ثمّ قال: لو رضيها الله لنبيّه لكفّنه فيها!! فباعها، فتصدّق بثمنها. هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة على أنّ القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه؛ قال النّووي في «شرح مسلم» : وهذا هو الصّواب الذي لا يتّجه غيره، لأنّه لو أبقي مع رطوبته؛ لأفسد الأكفان!! قال: وأمّا الحديث الذي في «سنن أبي داود» ؛ عن ابن عباس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثواب وقميصه الّذي توفّي فيه!! فضعيف؛ لا يصحّ الاحتجاج به، لأنّ يزيد بن زياد- أحد رواته- مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثّقات. انتهى. كما أنّ حديث عائشة المذكور يدلّ على نفي ما عدا الثّلاثة الأثواب!! قال الترمذي: روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة؛ وحديث عائشة أصحّ الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. انتهى. ونقل الزّين المراغي في «تحقيق النصرة» ؛ عن ابن عبد البر أنّه قال: أخرجت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 ......... - يعني: القطيفة- من القبر لما فرغوا من وضع اللّبنات التّسع؛ حكاه ابن زبالة «1» . قال العراقي في «ألفيّة السيرة» : وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل: أخرجت. وهذا أثبت وحفر أبو طلحة لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع فراشه حيث قبض. وقد اختلف فيمن أدخله قبره!! وأصحّ ما روي أنه نزل في قبره عمّه العبّاس، وعلي، وقثم بن العبّاس؛ وكان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العبّاس؛ أي: أنّه تأخّر حتى خرجوا قبله؛ وروي أنّه وضع في قبره تسع لبنات. قال رزين: ورشّ قبره صلى الله عليه وسلم، رشّه بلال بن رباح بقربة؛ بدأ من قبل رأسه؛ حكاه ابن عساكر، وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء، وبيضاء، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر. ولما توفي عليه الصلاة والسلام قالت فاطمة: يا أبتاه؛ أجاب ربّا دعاه؛ يا أبتاه؛ من جنّة الفردوس مأواه، يا أبتاه؛ من إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه من أفراده. زاد الطبراني والإسماعيلي: يا أبتاه؛ من ربّه ما أدناه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يؤخذ منه أنّ تلك الألفاظ إذا كان الميت متّصفا أنّه لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا؛ وهو في الباطن بخلافه، أو لا يتحقّق اتصافه بها؛ فتدخل في المنع. انتهى. قال البخاريّ؛ في حديث أنس المذكور بعد ما سبق: فلمّا دفن قالت فاطمة: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التّراب!!.   (1) كذبوه، مات سنة 200، قيل: كنيته أبو الحسن المدني، وهو مخزومي. (هامش الأصل) . قلت: وهو محمد بن الحسن؛ إخباري مشهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 فلم يترك بعد وفاته مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة؛ ... قال الحافظ: هذا من رواية أنس عن فاطمة؛ وأشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك، لأنه يدلّ على خلاف ما عرفته منهم من رقّة قلوبهم عليه لشدّة محبّتهم له؛ وسكت أنس عن جوابها!! رعاية لها؛ ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلّا أنّا قهرنا على فعله! امتثالا لأمره. انتهى. وأخذت فاطمة رضي الله عنها من تراب القبر الشريف، ووضعتها على عينيها وبكت، ثم أنشأت تقول: ماذا على من شمّ تربة أحمد ... ألايشمّ مدى الدّهور غواليا صبّت عليّ مصائب لو أنّها ... صبّت على الأيّام عدن لياليا وروي أنّها قالت: اغبرّ آفاق السّماء وكوّرت ... شمس النّهار وأظلم العصران والأرض من بعد النّبيّ كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرّجفان فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكلّ يماني وقد عاشت فاطمة بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة!! وحقّ لها ذلك. على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا (فلم يترك بعد وفاته) صلى الله عليه وسلم (مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة) . أخرج ابن حبان في «الثقات» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن الحسن مرسلا: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة؛ قاله الحافظ العراقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 ففي وفاته عبرة تامّة، ... (ففي وفاته عبرة تامّة) للناظرين، وتبصرة للمستبصرين؛ إذ لم يكن أحد أكرم على الله منه، إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيّه، وكان صفيّة ورسوله ونبيّه؛ فانظر، هل أمهله ساعة عند انقضاء مدته!؟ وهل أخّره لحظة بعد حضور منيّته!؟ لا؛ بل أرسل إليه الملائكة الكرام، الموكّلين بقبض أرواح الأنام؛ فجدّوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها، وعالجوها ليرحلوا بها عن جسده الطاهر إلى رحمة ورضوان، وخيرات حسان، بل إلى مقعد صدق في جوار الرحمن، فاشتدّ مع ذلك في النزع كربه؛ وظهر أنينه، وترادف قلقه؛ وارتفع حنينه، وتغيّر لونه وعرق جبينه، واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه، حتى بكى لمصرعه من حضره، وانتحب لشدّة حاله من شاهد منظره؛ فهل رأيت منصب النّبوّة دافعا عنه مقدورا!! وهل راقب الملك فيه أهلا وعشيرا! وهل سامحه إذ كان للحق نصيرا؛ وللخلق بشيرا ونذيرا!!؟ هيهات؛ بل امتثل ما كان به مأمورا، واتّبع ما وجده في اللوح مسطورا، فهذا كان حاله وهو عند الله ذو المقام المحمود، والحوض المورود، وهو أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وهو صاحب الشفاعة يوم العرض، فالعجب أنّا لا نعتبر به، ولسنا على ثقة فيما نلقاه، بل نحن أسراء الشّهوات، وقرناء المعاصي والسّيّئات، فما بالنا لا نتّعظ بمصرع محمّد سيّد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين!!. لعلنا نظنّ أنّنا مخلّدون! أو نتوهّم أنّا مع سوء أفعالنا عند الله مكرّمون!! هيهات هيهات؛ بل نتيقّن أنّا جميعا على النّار واردون، ثم لا ينجو منها إلّا المتّقون، فنحن للورود مستيقنون؛ وللصدور عنها متوهّمون. لا؛ بل ظلمنا أنفسنا أن كنّا كذلك لغالب الظّن منتظرين، فما نحن والله من المتقين، وقد قال الله ربّ العالمين وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) [مريم] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 وللمسلمين أسوة حسنة) انتهى. فلينظر كلّ عبد إلى نفسه أنّه إلى الظالمين أقرب أم إلى المتّقين!! فانظر إلى نفسك بعد أن تنظر إلى سيرة السّلف الصالحين، فلقد كانوا مع ما وفّقوا له من الخائفين، ثم انظر إلى سيّد المرسلين؛ فإنه كان من أمره على يقين، إذ كان سيّد النبيين، وقائد المتقين. واعتبر كيف كان كربه عند فراق الدنيا، وكيف اشتدّ أمره عند الانقلاب إلى جنّة المأوى؟!. (و) اتّبع من القول أحسنه، وتأسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه (للمسلمين أسوة حسنة. انتهى) ؛ أي: كلام الإمام الغزالي في «الإحياء» . قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه؛ وقال: يا عبد الله؛ اتق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة. أخرج ابن ماجه في «سننه» ؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «أيّها النّاس؛ إن أحد من النّاس- أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة الّتي تصيبه بغيري، فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي» . وروى بقيّ بن مخلد، والباوردي، وابن شاهين، وابن قانع، وأبو نعيم؛ كلهم في «المعرفة» ؛ عن عبد الرحمن بن سابط عن أبيه رفعه: «من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها أعظم المصائب» . ولله درّ القائل: اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد ... واعلم بأنّ المرء غير مخلّد واصبر كما صبر الكرام فإنّها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد ويرحم الله تعالى القائل: تذكّرت لمّا فرّق الدّهر بيننا ... فعزّيت نفسي بالنّبيّ محمّد وقلت لها: إنّ المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 ......... وقد رثي صلى الله عليه وسلم بمراث كثيرة؛ منها: قول عمّته صفيّة بنت عبد المطّلب، رضي الله تعالى عنها: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برّا ولم تك جافيا وكنت رحيما هاديا ومعلّما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكي النّبيّ لفقده ... ولكنّني أخشى من الهجر آتيا كأنّ على قلبي لذكر محمّد ... وما خفت من بعد النّبيّ المكاويا أفاطم؛ صلّى الله ربّي بحمده ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدى لرسول الله أمّي وخالتي ... وعمّي وخالي، ثمّ نفسي وماليا فلو أن ربّ النّاس أبقى نبيّنا ... سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السّلام تحيّة ... وأدخلت جنّات من العدن راضيا أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكّي ويدعو جدّه اليوم نائيا ورثاه ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فقال: أرقت، فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول وأسعدني البكاء، وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيل: قد قبض الرّسول وأضحت أرضنا ممّا عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس النّاس أو كادت تسيل نبيّ كان يجلو الشّكّ عنّا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهديناا، فلا نخشى ضلالا ... علينا؛ والرّسول لنا دليل أفاطم؛ إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السّبيل فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد النّاس الرّسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 ......... ورثاه سيّدنا أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه بقوله: لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا ... ضاقت عليّ بعرضهنّ الدّور فارتاع قلبي عند ذاك لهلكه ... والعظم منّي ما حييت كسير أعتيق؛ ويحك إنّ حبّك قد توى ... فالصّبر عنك لما بقيت يسير يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيّبت، في جدث عليّ صخور فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور ورثاه الصدّيق رضي الله تعالى عنه أيضا بقوله: ودعنا الوحي إذ ولّيت عنّا ... فودّعنا من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينا ... تضمّنه القراطيس الكرام ولقد أحسن حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه بقوله يرثيه: بطيبة رسم للرّسول ومعهد ... مبين، وقد تعفو الرّسوم وتهمد «1» ولا تنمحي الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادي الّذي كان يصعد واضح آيات وباقي معالم ... وربع له فيه مصلّى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآي منها تجدّد «2» عرفت بها رسم الرّسول وعهده ... وقبرا بها واراه في التّرب ملحد ظللت بها أبكي الرّسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجنّ تسعد تذكّرت آلاء الرّسول وما أرى ... لها محصيا نفسي، فنفسي تبلد مفجّعة قد شقّها فقد أحمد ... فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد وما بلغت من كلّ أمر عشيره ... ولكن لنفسي بعد هذا توجّد أطالت وقوفا تذرف الدّمع جهدها ... على طلل القبر الّذي فيه أحمد   (1) أي: تبلى. (2) أي: تتجدد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 ......... فبوركت يا قبر الرّسول، وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرّشيد المسدّد وبورك لحد منك ضمّن طيّبا ... عليه بناء من صفيح منضّد تهيل عليه الترب أيد وأعين ... تباكت، وقد غارت بذلك أسعد لقد غيّبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علّوه الثّرى لا يوسّد وراحوا بحزن ليس فيهم نبيّهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد يبكّون من تبكي السّماوات موته ... ومن قد بكته الأرض فالنّاس أكمد فهل عدلت يوما رزيّة هالك ... رزيّة يوم مات فيه محمّد تقطّع فيه منزل الوحي عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد يدلّ على الرّحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد إمام لهم يهداهم الحقّ جاهدا ... معلّم صدق، إن يطيعوه يسعدوا عفوّ عن الزّلّات؛ يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا، فالله بالخير أجود وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدّد! فبينا هم في نعمة الله بينهم ... دليل به نهج الطّريقة يقصد عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا عطوف عليهم لا يثنّي جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم ويمهد فبيناهم في ذلك النّور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت يقصد فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... تبكّيه جفن المرسلات ويجمد وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد قفارا سوى معمورة اللّحد ضافها ... فقيد يبكّيه بلاط وغرقد ومسجده كالموحشات لفقده ... خلاء له فيه مقام ومقعد فيا جمرة الكبرى له ثمّ أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد فبكّي رسول الله يا عين جهرة ... ولا أعرفنك الدّهر دمعك يجمد وما لك لا تبكين ذا النّعم الّتي ... على النّاس منها سابغ يتغمّد فجودي عليه بالدّموع وأعولي ... لفقد الّذي لا مثله الدّهر يوجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 ......... وما فقد الماضون مثل محمّد ... ولا مثله حتّى القيامة يفقد أعفّ وأوفى ذمّة بعد ذمّة ... وأقرب منه قائلا لا ينكّد وأبذل منه للطّريف وتالد ... إذا ضنّ ذو مال بما كان يتلد وأكرم بيتا في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدّا أبطحيّا يسوّد وأمنع ذروات وأثبت في العلا ... دعائم عزّ شامخات تشيّد وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا ... وعودا كعود المزن فالعود أغيد رباه وليدا فاستتمّ تمامه ... على أكرم الخيرات ربّ ممجّد تناهت وصاة المسلمين بكفّه ... فلا العلم محبور ولا الرّأي يفند أقول ولا يلقى لقولي عائب ... من النّاس إلا عازب العقل مبعد وليس هواي نازعا عن ثنائه ... لعلّي به في جنّة الخلد أخلد مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد ورثاه حسّان رضي الله عنه أيضا بقوله: كنت السّواد لناظري ... فعمي عليك النّاظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ولا يرد على هذا كلّه ما رواه ابن ماجه- وصحّحه الحاكم-؛ عن ابن أبي أوفى: أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المراثي!! لأن المراد مراثي الجاهلية، وهي ندبهم الميت بما ليس فيه؛ نحو «والهفاه، واجبلاه» لا مطلقا. فقد رثى حسّان حمزة وجعفرا وغيرهما في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينهه!! قاله الزرقاني؛ على «المواهب» . (و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وقال في الجامع: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن بارق، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة-: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان له فرطان من أمّتي.. أدخله الله تعالى بهما الجنّة» ، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟ قال: «ومن كان له فرط يا موفّقة» ، قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟ قال: «فأنا فرط لأمّتي، ... (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له فرطان) - بفتح الفاء والراء-؛ أي: ولدان صغيران يموتان قبله، فإنّهما في القيامة يهيّئان له ما يحتاج إليه من ماء بارد وظلّ ظليل ومأكل ومشرب، (من أمّتي أدخله الله تعالى بهما الجنّة» . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟) أي: ما حكمه هل هو كذلك! (قال: «ومن كان له فرط) - أي: يدخله الله الجنة بسببه كالذي له فرطان- (يا موفّقة» ) ؛ أي: لاستكشاف المسائل الدينيّة؛ وهذا تحريض منه صلى الله عليه وسلم لها على كثرة السّؤال، فلذلك كرّرته حيث (قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟) ؛ أي: فما حكمه. (قال: «فأنا فرط لأمّتي) : أمة الإجابة، فهو صلى الله عليه وسلم سابق مهيّء لمصالح أمّته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» . أي: سابقكم لأرتاد لكم الماء، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بأمّة خيرا قبض نبيّها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمّة عذّبها؛ ونبيّها حيّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقرّ عينه بهلكها حين كذّبوه وعصوا أمره» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 لن يصابوا بمثلي» . و (الفرط- في الأصل-) : السّابق من القوم المسافرين ليهيّىء لهم الماء والكلأ وما يحتاجونه، والمراد به هنا: الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه، فإنّه يشبهه في تهيئة ما يحتاج إليه يوم القيامة من المصالح. ثم استأنف بقوله: (لن يصابوا بمثلي» ؛) على وجه التّعليل لقوله: «أنا فرط لأمّتي» . أي: لم يبلغوا مصيبة مثل مصيبتي، فإنّي عندهم أحبّ من كلّ والد وولد، فمصيبتي عليهم أشدّ من جميع المصائب، فأكون أنا فرطهم؛ وهو شامل لمن أدرك زمانه ومن لم يدركه، كما يدلّ عليه تعبيره ب «أمّتي» . قال الباجوري؛ في «حاشية الشمائل» : (والفرط) - بفتحتين- والفارط (في الأصل) ؛ أي: أصل معناه في اللغة هو (: السّابق) ؛ أي: المتقدم (من القوم المسافرين ليهيّىء لهم) الأرشاء «1» والدّلاء ويمدر الحياض؛ ويستقي لهم (الماء، و) يهيء لدوابّهم (الكلأ) - مهموز: العشب؛ رطبا كان أو يابسا، فإن كان رطبا! يقال له: خلاء، واليابس يقال له: حشيش؛ والكلأ يعمّهما- (و) يهيّىء لهم (ما يحتاجونه) من منزل ونزل، ويزيل ما يخافون منه، ويأخذ الأمن فيه للمتأخّر عنه؛ فهو فعل بمعنى فاعل؛ كتبع بمعنى تابع، يقال: رجل فرط وقوم فرط. (والمراد به هنا) في الحديث: الولد (الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه، فإنّه) أي: الولد الصغير (يشبهه) ؛ أي: يشبه فرط المسافرين (في تهيئة ما يحتاج) - بضمّ أوّله مبنيّا للمفعول-؛ أي: ما يحتاج (إليه) أبواه، فكما أنّ فرط القافلة يتقدّمهم إلى المنازل فيعدّ لهم ما يحتاجونه من سقي الماء وضرب الخيمة ونحوهما؛ كذلك الطفل الصغير الذي يموت قبل أحد أبويه فإنه يهيء لهما (يوم القيامة) ما يحتاجان (من المصالح) ؛ وهو نزل ومنزل في الجنّة.   (1) جمع رشاء؛ وهو الحبل، وأفصح من هذه الصيغة للجمع: أرشية!!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 وعن عمرو بن الحارث- أخي جويرية أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنهما- قال: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة. (و) أخرج البخاريّ، والنّسائيّ، والترمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عمرو بن الحارث) المصطلقي (أخي جويرية) - بالتصغير- (أمّ المؤمنين) له صحبة، خرّج له الجماعة (رضي الله تعالى عنهما) ؛ أي: عمرو وجويرية. (قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا) الحصر في الثلاثة المذكورة في هذا الخبر إضافيّ؛ فقد ترك ثيابه ومتاع بيته، ولكنها لما كانت بالنسبة للمذكورات يسيرة لم تذكر. وقال ابن سيّد الناس: وترك صلى الله عليه وسلم يوم مات ثوبي حبرة وإزارا عمانيّا، وثوبين صحاربين، وقميصا صحاريا، وآخر سحوليّا، وجبّة يمنيّة، وخميصة وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطية «ثلاثا؛ أو أربعا» وملحفة مورّسة، أي: مصبوغة بالورس. (1- سلاحه) الذي كان يختصّ بلبسه واستعماله؛ من نحو: سيف ورمح ودرع ومغفر وحربة. (و 2- بغلته) البيضاء واسمها «دلدل» ، وعاشت بعده صلى الله عليه وسلم حتى كبرت وذهبت أسنانها، وكان يجرش لها الشعير، وماتت في ينبع، ودفنت في جبل رضوى، وكان له بغال غيرها. (و 3- أرضا) لم يضفها له، لعدم اختصاصها به كسابقتها، لأنّ غلّتها كانت عامّة له ولعياله ولفقراء المسلمين، وهي نصف أرض فدك، وثلث أرض وادي القرى، وسهمه من خمس خيبر، وحصّة من أرض بني النضير؛ (جعلها) ؛ أي: الأرض (صدقة) في حياته على أهله وزوجاته وخدمه وفقراء المسلمين، وليس المراد أنّها صارت صدقة بعد موته كبقية مخلّفاته؛ فإنّها صارت كلّها صدقة بعد وفاته على المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم ... وقد أغنى الله قلبه كلّ الغنى، ووسّع عليه غاية السّعة؛ وأيّ غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض فأباها!! وجاءت إليه الأموال فأنفقها كلّها؛ وما استأثر منها بشيء!! ولم يتّخذ عقارا، ولا ترك شاة، ولا بعيرا، ولا عبدا، ولا أمة، ولا دينارا، ولا درهما غير ما ذكر؛ كذا في الباجوري؛ على «الشمائل» . (وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم) ؛ وهو حديث متواتر، قال السيوطي؛ في «الأزهار المتناثرة» : حديث «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» ؛ أخرجه الشيخان؛ عن عمر وعثمان وعليّ وسعد بن أبي وقّاص والعبّاس. وأخرجه مسلم؛ عن أبي بكر الصدّيق وعبد الرحمن بن عوف، والزّبير بن العوّام وأبي هريرة. وأخرجه أبو داود؛ عن عائشة. وأخرجه النّسائي؛ عن طلحة. وأخرجه الطّبراني؛ عن حذيفة وابن عبّاس؛ فقد رواه من العشرة المشهود لهم بالجنة ثمانية نظير حديث: «من كذب عليّ» . انتهى. وذكره في «كنز العمال» بلفظ «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» . ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ، والثلاثة؛ عن عمر، وعن عثمان وسعد وطلحة والزّبير وعبد الرحمن بن عوف. ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ؛ عن عائشة. ورمز له برمز مسلم. والترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وذكره في «كنز العمال» أيضا بلفظ: «لا نورث؛ ما تركناه صدقة، وإنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» . ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 ......... وأبي داود والنسائي؛ عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. وذكره في «كنز العمال» أيضا بلفظ: «إنّا لا نورث؛ ما تركناه صدقة» . ورمز له برمز الإمام أحمد؛ عن عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد رضي الله تعالى عنهم. وفي «تلخيص الحبير» للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: أمّا حديث «إنّ الأنبياء لا يورثون» !! فمتفق عليه؛ من حديث أبي بكر الصديق؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» . وللنّسائي في أوائل الفرائض من «السنن الكبرى» : «إنّا معشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة» . وإسناده على شرط مسلم. ورواه النسائي؛ عن عائشة رضي الله عنها: أنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر؛ فيسألنه ميراثهنّ من رسول الله!! فقالت لهنّ عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يورث نبيّ؛ ما تركنا صدقة» !!. لكن رواه في الفرائض من «السنن الكبرى» بلفظ: «لا نورث، ما تركنا صدقة» . ليس فيه «نبيّ» ؛ فالله أعلم!. وكذا هو في «الصحيحين» . وفي «الصحيحين» مثل حديث أبي بكر عن عمر أنّه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعلي والعباس: أنشدكم بالله ... فذكره؛ وفيه أنهم قالوا: «نعم» . زاد النّسائي فيهم طلحة. وأخرجه الحميدي في «مسنده» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة» . وذكر الدارقطنيّ في «العلل» حديث الكلبي عن أبي صالح؛ عن أم هانىء؛ عن فاطمة أنّها دخلت على أبي بكر فقالت: لو متّ من يرثك؟ قال: ولدي وأهلي؛ قالت: فما لنا لا نرث النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: «إنّ الأنبياء لا يورثون؛ ما تركوه فهو صدقة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ وفي الباب عن حذيفة؛ أخرجه أبو موسى في كتاب له اسمه «براءة الصدّيق» ؛ من طريق فضيل بن سليمان؛ عن أبي مالك الأشجعي؛ عن ربعي عنه. وهذا إسناد حسن. انتهى كلام الحافظ ابن حجر في «التلخيص» . (قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «نحن) - نقل الزرقاني؛ في «شرح المواهب» عن الحافظ ابن حجر ما نصّه: والحاصل أنه لم يوجد بلفظ «نحن» ووجد بلفظ «إنّا» ، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره ذكره بالمعنى؛ وهو في «الصحيحين» ؛ عن أبي بكر رضي الله عنه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة» . بحذف «إنّا» . وكذا في «السنن الثلاث» . انتهى- (معاشر الأنبياء) نصب على الاختصاص؛ أو المدح. والمعشر: كلّ جمع أمرهم واحد، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر؛ وهو معنى قول جمع: المعشر، الطائفة الذين يشمهلم وصف. (لا نورث) - بضم النون وسكون الواو وفتح الراء- قال القرطبي: جميع رواة هذه اللفظة في «الصحيحين» وغيرهما يقولون «لا نورث» بالنّون، وهي نون جماعة الأنبياء؛ أي: ما تركناه إنّما نتركه صدقة، لا يختصّ به الورثة. والمراد: المال وما في حكمه؛ فلا يعارضه قوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي [5- 6/ مريم] الآية؛ ولا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [16/ النمل] !! لأنه وارثه نبوّة وعلما. وليس لك أن تقول معنى «لا نورث» من النّبوة!! لأنّ الصّحابة فهموا أنّ المراد المال، وهم أعلم بالحال، فلا مجال لهذا الاحتمال. قال في «جمع الوسائل» : والحكمة في أنّ الأنبياء لا يورثون: 1- أن لا يتمنّى بعض الورثة موتهم؛ فيهلك. و 2- ألايظنّ بهم أنّهم راغبون في الدنيا ويجمعون المال لورثتهم. و 3- ألايرغب الناس بجمعها؛ بناء على ظنّهم أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 ما تركناه صدقة» . الأنبياء كانوا كذلك!! و 4- لئلّا يتوهّموا أن فقر الأنبياء لم يكن اختياريا. انتهى. (ما) موصولة: مبتدأ؛ أي: الذي (تركناه) من المال (صدقة) بالرفع: خبر المبتدأ الذي هو «ما تركنا» ، ودخلته الفاء! [كما في بعض طرقه- «ما تركنا فهو صدقة» ] «1» ؛ لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط. والجملة جواب سؤال مقدّر تقديره: إذا لم تورثوا؛ فما يفعل بمخلّفكم؟ فأجاب بقوله: «ما تركناه صدقة» . والكلام حينئذ جملتان: الأولى فعلية، وهي قوله «لا نورث» ، والثانية اسمية، وهي قوله «ما تركناه» . قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : ويؤيّده وروده في بعض طرق «الصّحيح» : «ما تركنا فهو صدقة» ؛ وحرّفه الإماميّة- أي: الروافض فقالوا: لا يورث، - بالمثنّاة التحتية بدل النّون- و: صدقة نصب على الحال. و «ما تركنا» : مفعول لما لم يسم فاعله، فجعلوا الكلام جملة واحدة، ويكون المعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث. وهذا تحريف يخرج الكلام عن نمط الاختصاص الذي دلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الطرق: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث» . ويعود الكلام بما حرّفوه إلى أمر لا يختصّ به الأنبياء، لأن آحاد الأمّة إذا وقفوا أموالهم أو جعلوها صدقة انقطع حقّ الورثة عنها، فهذا من تحاملهم أو تجاهلهم. وقد أورده بعض أكابر الإماميّة على القاضي شاذان «صاحب القاضي أبي الطيب» ، فقال القاضي شاذان- وكان ضعيف العربيّة؛ قويّا في علم الخلاف-: لا أعرف نصب «صدقة» من رفعها!! ولا أحتاج إلى علمه؛ فإنه لا خفاء بي وبك: أنّ فاطمة وعليّا من أفصح العرب لا تبلغ أنت ولا أمثالك إلى ذلك منهما، فلو كانت لهما حجّة فيما لحظته لأبدياها حينئذ لأبي بكر؟! فسكت، ولم يحر جوابا.!   (1) أضفتها للإيضاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 ......... وإنّما فعل الإمامية ذلك!! لما يلزمهم على رواية الجمهور من فساد مذهبهم، لأنهم يقولون ب «أنه صلى الله عليه وسلم يورث كما يورث غيره من المسلمين» لعموم الآية الكريمة. وذهب النّحاس إلى أنه يصحّ النّصب في «صدقة» على الحال، وأنكره القاضي عياض لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدر ابن مالك «ما تركناه- متروك- صدقة» فحذف الخبر وبقي الحال كالعوض منه؛ ونظيره قراءة بعضهم وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [14/ يوسف]- بالنصب «1» -. انتهى. من «شرح القسطلاني على البخاري» . قال الزرقاني؛ في «شرح المواهب» متعقبا: لكن في التوجيه نظر، إذ لم تأت رواية بالنصب حتى توجّه، بل الذي توارد عليه أهل الحديث؛ في القديم والحديث: بالنون ورفع «صدقة» ، ولأنّه لم يتعين حذف الخبر، بل يحتمل ما قاله الإمامية، ولذا أنكره عياض؛ وإن صحّ في نفسه. انتهى. تنبيه: قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده من جنس الأوقاف المطلقة ينتفع بها من يحتاج إليها وتقرّ تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان له عند سهل قدح، وعند أنس قدح آخر، وعند عبد الله بن سلام قدح آخر، وكان الناس يشربون منها تبرّكا، وكانت جبّته عند أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها ... إلى غير ذلك مما هو معروف. انتهى. نقله المناوي؛ في «شرح الشّمائل» رحمه الله تعالى.   (1) وهي قراءة شاذّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 [الفصل الثّالث في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام] الفصل الثّالث في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ... (الفصل الثّالث) ؛ من الباب الثّامن (في) ما جاء في (رؤيته صلى الله عليه وسلم) الرؤية- التي بالتاء- تشمل رؤية البصر في اليقظة، ورؤية القلب في المنام، ولهذا احتاج المصنّف إلى تقييدها بقوله (في المنام) . و [الرؤيا] الّتي بالألف خاصّة برؤية القلب في المنام، وقد تستعمل في رؤية البصر أيضا، قال المازري: مذهب أهل السّنّة: أنّ حقيقة الرّؤيا خلق الله تعالى في قلب النّائم اعتقادات كخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء؛ لا يمنعه نوم ولا يقظة، وخلق هذه الاعتقادات في النائم علم على أمور أخر يلحقها في ثاني الحال؛ كالغيم علما على المطر. انتهى؛ ذكره في «جمع الوسائل» . وإنّما أورد المصنّف باب الرؤية في المنام آخر الكتاب بعد بيان صفاته الظاهرة وأخلاقه المعنوية!! إشارة إلى أنّه ينبغي أوّلا ملاحظة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصافه الشريفة وأخلاقه المنيفة ليسهل تطبيقه الرؤية بعد في المنام عليها، والإشعار بأنّ الاطلاع على طلائع صفاته الصّوريّة، وعلى بدائع نعوته السّريّة بمنزلة رؤيته البهية. انتهى «باجوري» . (عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما) كذا في النّسخ الّتي بأيدينا، وهو كذلك في نسخة «الشّمائل» التي كتب عليها المناوي، وكذلك في المطبوعة مع «حاشية الباجوري» ، لكن في نسخة «الشمائل» التي كتب عليها الشرّاح الثلاثة: ملا علي قاري، وجسّوس المغربي، والباجوري في «حاشيته» ؛ «عن عبد الله» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رآني في المنام.. فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» . فقط، وفسّره هؤلاء الثلاثة ب «ابن مسعود» ، قالوا- كما في نسخة-: وذلك يوافق ما في «سنن ابن ماجه» ، والترمذي في «الجامع» بسند «الشّمائل» وقال: حديث حسن صحيح، فإنّ ابن ماجه رواه من طريق وكيع عن سفيان، والتّرمذيّ رواه في «الجامع» و «الشمائل» ؛ من طريق عبد الرّحمن بن مهدي، عن سفيان؛ عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص؛ عن عبد الله رضي الله تعالى عنه. (عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني في المنام) ؛ أي: في حال النّوم، (فقد رآني) ، أي: فليبشّر بأنّه رآني حقيقة، أي: رأى حقيقتي كما هي؛ لا شبهة ولا ريب فيما رآه، فلم يتّحد الشّرط والجزاء. أو هو في معنى الإخبار؛ أي: من رآني فأخبره بأنّ رؤيته حقّ ليست بأضغاث أحلام، ولا من تمثيل الشّيطان، بل هي من قبل الله تعالى. ثمّ أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى وتعليل للحكم؛ فقال: (فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» ) . وفي رواية لمسلم: «فإنّ الشّيطان لا ينبغي له أن يتشبّه بي» . وفي أخرى له: «لا ينبغي أن يتمثّل في صورتي» . وفي رواية لغير مسلم: «لا يتكوّنني» أي: لا يستطيع ذلك لئلّا يتذرّع بالكذب على لسانه في النّوم؛ كما استحال تصوّره بصورته يقظة؛ إذ لو وقع اشتبه الحقّ بالباطل؛ ومنه أخذ أنّ جميع الأنبياء كذلك. وظاهر الحديث أنّ رؤياه صحيحة؛ وإن كانت على غير صفته المعروفة، وبه صرّح النّوويّ، مضعّفا لتقييد الحكيم التّرمذيّ وعياض وغيرهما؛ بما إذا رآه على صورته المعروفة في حياته، وتبعه عليه بعض المحقّقين. قال المناوي- على «الشمائل» ؛ في شرح قول المصنّف «فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» -: أي: لا يستطيع ذلك، سواء رآه الرائي على صفته المعروفة؛ أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ... غيرها، على المنقول المقبول عند أهل العقول، لأنّه سبحانه وتعالى جعله رحمة للعالمين؛ هاديا للضّالّين؛ محفوظا من وسواس الشّياطين. وإذا تنوّر العالم بنور وجوده، ورجمت الشّياطين لميلاده، وهدمت بنيان الكهنة لظهوره؛ فكيف يتصوّر أن يتمثّل الشّيطان بصورته!! ولو قدر أن يتمثّل بصورته لتمثّل في الخارج كذلك، فرؤياه حقّ على أيّ صورة كانت. ثمّ إن كانت بصورته الحقيقة في وقت مّا، سواء كان في شبابه؛ أو رجوليّته؛ أو كهوليّته؛ أو أواخر عمره، لم تحتج لتأويل، وإلّا احتيجت لتعبير متعلق بالرّائي. ومن ثمّ قيل: من رآه شيخا، فهو في غاية سلم، أو شابا؛ فهو في غاية حرب، أو متبسما؛ فهو متمسك بسنّته، أو على حالته وهيئته؛ فهو دليل على صلاح حال الرّائي وكمال وجاهته وظفره. وعكسه؛ لأنّه كالمرآة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها، وإن كان ذاتها على أحسن حال. وبه علم صحّة رؤية جمع له؛ في آن واحد؛ في أقطار متباعدة؛ بأوصاف متخالفة. وكما أنّ الشّمس يراها كلّ إنسان في الشّرق والغرب في ساعة واحدة وبصفات مختلفة؛ فكذلك هو صلّى الله عليه وسلّم. وحكي عن البارزيّ واليافعيّ والجيليّ والشّاذليّ والمرسيّ وعلي وفاء والقطب القسطلّانيّ وغيرهم أنّهم رأوه يقظة. قال ابن أبي جمرة: ومنكر ذلك!! إن كان ممّن يكذّب بكرامات الأولياء؛ فلا كلام معه، وإلّا! فهذه منها؛ إذ يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالم العلويّ والسفليّ. انتهى. وسبقه لنحوه حجّة الإسلام؛ فقال في كتاب «المنقذ» : وهم- يعني: أرباب القلوب- في يقظتهم، يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى. (و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام.. فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتصوّر- أو قال لا يتشبّه- بي» . قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام) - بصفتي الّتي أنا عليها، أو بغيرها؛ على ما تقدّم- (فقد رآني) - أي: رأى حقيقتي على كمالها- (فإنّ الشّيطان لا يتصوّر) بي، لا مناما ولا يقظة؛ حفاظا للشّريعة المعلومة بالكتاب والسّنّة. ثمّ إن رآه الرّائي على صورته كان الرّائي كاملا، وإلّا! فهو ناقص، فتكون الرّؤية حينئذ تنبيها له ليتوب، فمن رآه ميتا دلّ على موت الشّريعة في الرّائي، فإن كان مستقيما! دلّ على موت الشّريعة في ذلك المكان. (أو قال) - شكّ من الرّاوي- (: «لا يتشبّه بي» ) ، التصوّر: قريب من التّمثّل، وكذا التشبّه. قال بعض شرّاح «المصابيح» : ومثله في ذلك جميع الأنبياء والملائكة. انتهى. وما ذكره احتمالا جزم به البغويّ في «شرح السّنّة» ؛ قال: وكذلك حكم القمرين، والنّجوم، والسّحاب الذي ينزل منه الغيث: لا يتمثّل الشّيطان بشيء منها. لكن ذكر المحقّقون أنّه خاصّ به صلى الله عليه وسلم؛ ذكره العزيزي على «الجامع الصغير» وغيره. والحديث رواه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود؛ من حديث أبي هريرة بلفظ: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثّل الشّيطان بي» . ورواه الطّبراني؛ وزاد: «ولا بالكعبة» . وقال: لا تحفظ هذه اللّفظة إلّا في هذا الحديث. ولمسلم؛ من حديث جابر: «من رآني في المنام فقد رآني، فإنّه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 ......... لا ينبغي للشّيطان أن يتمثّل في صورتي» . وفي رواية: «فإنّه لا ينبغي للشّيطان أن يتشبّه بي» . وفي حديث أبي سعيد الخدريّ؛ عند البخاري: سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من رآني فقد رأى الحقّ، فإنّ الشّيطان لا يتكوّنني» ، أي: لا يتكوّن كوني، أي: لا يتصور تصوّرا كصورتي، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل. وفي حديث أبي قتادة؛ عند «البخاري ومسلم» بلفظ: «من رآني فقد رأى الحقّ، فإنّ الشّيطان لا يتراءى بي» - بالرّاء-؛ بوزن: يتعاطى، ومعناه لا يستطيع أن يتمثّل بي، ووقع عند الإسماعيلي؛ في «مستخرجه» : «من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة، فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» . ومثله عند ابن ماجه، وصحّحه التّرمذيّ؛ من حديث ابن مسعود المتقدّم. والحاصل: أنّ هذا الحديث متواتر، وقد ذكره السّيوطيّ في «الأزهار المتناثرة» وقال: أخرجه الشّيخان؛ عن أنس، وأبي سعيد، وأبي قتادة، وأبي هريرة. ومسلم، عن جابر. والتّرمذيّ؛ عن ابن مسعود. وابن ماجه؛ عن ابن عباس، وأبي جحيفة. وأحمد؛ عن أبي قتادة، وأبي مالك الأشجعيّ. والطّبرانيّ؛ عن أبي سعيد، وابن عمرو، وأبي بكرة، ومالك بن عبد الله الخثعميّ. والبخاريّ في «التّاريخ» ؛ عن طارق بن أمية الأشجعيّ. انتهى. فائدة: سئل شيخ الإسلام؛ زكريّا الأنصاريّ رحمه الله تعالى: عن رجل زعم أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول له: «مر أمّتي بصيام ثلاثة أيّام، وأن يعيّدوا بعدها، ويخطبوا» ، فهل يجب الصّوم، أو يندب، أو يجوز، أو يحرم؟! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 ......... وهل يكره أن يقول أحد للنّاس: أمركم النّبيّ عليه الصلاة والسلام، بصيام أيام لأنّه كذب عليه، ومستنده الرّؤيا الّتي سمعها من غير رائيها، أو منه. وهل يمتنع أن يتسمّى إبليس باسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقول للنّائم: إنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويأمره بطاعته، ليتوصّل بذلك إلى معصيته؛ كما يمتنع عليه التّشكّل في صورته الشّريفة أم لا!! [وبم] تتميّز الرؤية له صلى الله عليه وسلم الصادقة من الكاذبة، وهل يثبت شيء من أحكام الشّرع بالرؤية في النّوم؟ وهل المرئيّ ذاته صلى الله عليه وسلم، أو روحه، أو مثل ذلك. أجاب- رحمه الله تعالى- بقوله: لا يجب على أحد الصّوم؛ ولا غيره من الأحكام بما ذكر، ولا مندوب. بل قد يكره؛ أو يحرم، لكن إن غلب على الظّنّ صدق الرّؤيا فله العمل بما دلّت عليه؛ ما لم يكن فيه تغيير حكم شرعيّ. ولا يثبت بها شيء من الأحكام؛ لعدم ضبط الرّائي، لا للشّكّ في الرّؤيا. ويحرم على الشّخص أن يقول: أمركم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكذا؛ فيما ذكر، بل يأتي بما يدلّ على مستنده من الرّؤيا، إذ لا يمتنع عقلا أن يتسمّى إبليس باسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليقول للنّائم: إنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويأمره بالطّاعة؛ والرّؤيا الصّادقة هي الخالصة من الأضغاث. والأضغاث أنواع: الأوّل: تلاعب الشّيطان ليحزن الرّائي؛ كأن يرى أنّه قطع رأسه. الثّاني: أن يرى أنّ بعض الأنبياء يأمره بمحرّم؛ أو محال. الثّالث: ما تتحدّث به النّفس في اليقظة تمنّيا؛ فيراه كما هو في المنام. ورؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك لذاته؛ ورؤيته بغير صفته إدراك لمثاله، فالأولى: لا تحتاج إلى تعبير، والثّانية: تحتاج إليه. ويحمل على هذا قول النّوويّ «الصّحيح أنّه يراه حقيقة؛ سواء كانت صفته المعروفة أو غيرها» . وللعلماء في ذلك كلام كثير ليس هذا محلّ ذكره، وفيما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وعن يزيد الفارسيّ- وكان يكتب المصاحف- قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام زمن ابن عبّاس، فقلت لابن عبّاس: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النّوم، فقال ابن عبّاس: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «إنّ الشّيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي، فمن رآني في النّوم.. فقد رآني» ، ... ذكرته كفاية. انتهى بنصّه؛ ذكره المناوي؛ في «كبيره» . (و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ من حديث عوف بن أبي جميلة؛ (عن يزيد الفارسيّ) ابن هرمز المدنيّ الليثيّ، «مولاهم؛ ومولى ابن عثمان أو غيره» ، تابعيّ، خرّج له مسلم؛ وأبو داود؛ والنّسائيّ. وقال الذّهبيّ: كان رأس الموالي يوم الحرّة. وهو والد عبد الله الفقيه، بقي إلى سنة مائة؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى. لكن قال في «جمع الوسائل» : الصّحيح أنّه غيره، فإنّ يزيد بن هرمز مدنيّ من أوساط التّابعين؛ ويزيد الفارسيّ بصريّ مقبول، من صغار التّابعين- كما يعلم من «التقريب» و «تهذيب الكمال» -. انتهى. (وكان يكتب المصاحف) فيه إشارة إلى بركة عمله، ولذلك رأى هذه الرّؤيا العظيمة، لأنّ رؤياه صلى الله عليه وسلم في صورة حسنة تدلّ على حسن دين الرّائي، بخلاف رؤيته في صورة شين أو نقص في بعض البدن، فإنّها تدلّ على خلل في دين الرّائي، فبها يعرف حال الرّائي، فلذلك لا يختصّ برؤيته صلى الله عليه وسلم الصّالحون. (قال) ؛ أي: يزيد (: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام زمن ابن عبّاس) ؛ أي: في زمن وجوده، أي: في حياته؛ (فقلت لابن عبّاس: إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّوم!! فقال ابن عبّاس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ الشّيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي، فمن رآني في النّوم فقد رآني» ) ؛ أي: فليبشّر بأنّه رآني حقيقة، أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 هل تستطيع أن تنعت هذا الرّجل الّذي رأيته في النّوم؟ قال: نعم، أنعت لك رجلا بين الرّجلين؛ جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، أكحل العينين، حسن الضّحك، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته ما بين هذه إلى هذه؛ ... رأى حقيقتي كما هي، فلم يتّخذ الشّرط والجزاء، أو هو في معنى الإخبار؛ أي: من رآني فأخبره بأنّ رؤياه حقّ، لا أضغاث أحلام وتخيّل شيطان. (هل تستطيع أن تنعت هذا الرّجل الّذي رأيته في النّوم) ؛ أي: تصفه بما فيه من حسن، فالنّعت وصف الشّيء بما فيه من حسن، ولا يقال في القبيح إلّا بتجوّز، والوصف يقال في الحسن والقبيح؛ كما في «النهاية» . (قال) أي: الرائي؛ وهو يزيد الفارسي (: نعم؛ أنعت لك رجلا) بالنّصب على أنّه مفعول «أنعت» - (بين الرّجلين) ؛ في القصر والطّول، لا بائن ولا قصير، كما سبق، وقوله «بين رجلين» خبر مقدّم، وقوله (جسمه ولحمه) مبتدأ مؤخّر، أو هو فاعل بالظرف، والجملة صفة ل «رجلا» ، يريد أنّه متوسط في القصر والطّول والسّمن ومقابله. (أسمر) ؛ أي: أحمر مائل (إلى البياض) ؛ لأنّه كان أبيض مشربا بحمرة كما تقدّم-، فالسّمرة تطلق على الحمرة، وقوله «أسمر» بالرفع: على أنّه خبر مبتدأ مقدّر، وبالنّصب: على أنّه نعت ل «رجلا» ، أو خبر ل «كان» مقدّرة؛ ومثله قوله: (أكحل) ؛ من الكحل وهو سواد (العينين) خلقة، (حسن الضّحك) ؛ لأنّه كان يتبسّم في غالب أحواله، (جميل دوائر الوجه) ؛ أي: حسن أطراف الوجه، فالمراد بالدّوائر: الأطراف، فلذلك صحّ الجمع، وإلّا! فالوجه له دائرة واحدة؛ (قد ملأت لحيته ما بين هذه) الأذن (إلى هذه) الأذن الآخرى، وكان الأظهر في التعبير أن يقول «ما بين هذه وهذه» لأنّ «ما بين» لا تضاف إلّا إلى متعدّد. أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 قد ملأت نحره. فقال ابن عبّاس: لو رأيته في اليقظة.. ما استطعت أن تنعته فوق هذا. وعن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني- يعني في النّوم- فقد رأى الحقّ» . يقول «من هذه إلى هذه» لأن «من» الابتدائيّة تقابل ب «إلى» الانتهائيّة. وأشار بذلك إلى أنّ لحيته الكريمة عريضة عظيمة؛ (قد ملأت نحره) أي: كانت مسترسلة إلى صدره، كثّة، وهو إشارة إلى طولها. (فقال ابن عبّاس) ليزيد الرّائي- لما أخبره بنعت من رآه في النّوم- (: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا) أي: فما رأيته في النّوم موافق لما عليه الواقع. (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «التعبير» ، ومسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أبي قتادة) الحارث بن ربعي، أو عمرو، أو النّعمان الأنصاريّ. شهد أحدا وما بعدها- وتقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني- يعني في النّوم-) : تفسير مدرج من بعض الرواة (فقد رأى الحقّ» .) أي: رؤيته حقّ، أي: رأى الرّؤيا الصّادقة الصّحيحة، وهي الّتي يريها الملك الموكّل بضرب أمثال الرّؤيا بطريق الحكمة لبشارة أو نذارة أو معاتبة، ليكون على بصيرة من أمره. وأبعد بعضهم فقال: يمكن أن يراد بالحقّ هو الله مبالغة؛ تنبيها على أنّ من رآه على وجه المحبّة والاتّباع كأنّه رأى الله تعالى كقوله: «من أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله» . انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام.. فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتخيّل بي» . وردّ بأنّه يأباه قوله «فإنّ الشّيطان لا يتزيّا بي» - بالزّاي المعجمة- أي: لا يظهر في زيّي؛ أي: لا يستطيع ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى؛ وإن مكّنه من التصوّر في أيّ صورة أراد؛ فإنّه لا يمكّنه من التّصوّر في صورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. (و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ، والتّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» : (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام) أي: في حال النّوم- (فقد رآني) حقيقة؛ أي: رأى حقيقتي كما هي، (فإنّ الشّيطان لا يتخيّل بي» ) . أي: لا يمكنه أن يظهر لأحد بصورتي، فمعنى التخيّل يقرب من معنى التصوّر. فإن قيل: كيف يكون ذلك وهو في المدينة المنوّرة؛ والرائي في المشرق أو المغرب مثلا!؟ أجيب: بأنّ الرّؤية أمر يخلقه الله تعالى، ولا يشترط فيها عقلا مواجهة؛ ولا مقابلة؛ ولا خروج شعاع؛ ولا غيره. ولذا جاز أن يرى أعمى الصّين بقّة أندلس!!. فإن قلت: كثيرا يرى على خلاف صورته المعروفة، ويراه شخصان في حالة واحدة في مكانين؛ والجسم الواحد لا يكون إلّا في مكان واحد؟! أجيب: بأنّه يعتبر في صفاته؛ لا في ذاته، فتكون ذاته عليه الصلاة والسلام مرئيّة وصفاته متخيّلة غير مرئيّة، فالإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار، ولا قرب المسافة، فلا يكون المرئيّ مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها، وإنّما يشترط كونه موجودا، ولو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله!! كان هذا من صفاته المتخيّلة؛ لا المرئيّة. كذا قاله القسطلّاني في «شرح البخاري» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 قال: «ورؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة» . (قال:) ؛ أي: أنس- على ما هو ظاهر صنيع المصنّف- وإلّا لقال «وقال» ! لكنّه موقوف في حكم المرفوع! ولا يبعد أن يكون الضّمير له صلى الله عليه وسلم، بل هو الأقرب، لأنّ الأشهر أنّ هذا مرفوع في البخاري وغيره. ( «ورؤيا) - مصدر؛ كالرّجعى- (المؤمن) والمؤمنة الصالحين، والمراد غالب رؤياهما، وإلّا! فقد تكون رؤياهما أضغاث أحلام؛ أي: أخلاط أحلام فلا يصحّ تأويلها لاختلاطها؛ (جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة» ) . وجه ذلك- على ما قيل-: أنّ زمن الوحي ثلاثة وعشرون سنة، وأوّل ما ابتدئ به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة، وكان زمنها ستّة أشهر، ونسبة ذلك إلى سائر المدّة المذكورة جزء من ستة وأربعين جزآ، ولا حرج على أحد في الأخذ بظاهر ذلك. لكن لم يرد أثر أنّ زمن الرؤيا ستّة أشهر!! مع كون هذا التوجيه لا يظهر في بقية الرّوايات غير هذه الرّواية؟! فإنّ [هـ] ورد في رواية: «من خمس وأربعين» ، وفي رواية «من أربعين» ، وفي رواية «من خمسين» ... إلى غير ذلك، واختلاف الرّوايات يدلّ على أنّ المراد التكثير؛ لا التحديد. ولا يبعد أن يحمل اختلاف الأعداد المذكورة على اختلاف أحوال الرّائي في مراتب الصّلاح، وأظهر ما قيل في معنى كون الرؤيا جزآ من أجزاء النّبوّة: أنّها جزء من أجزاء علم النّبوّة، لأنّها يعلم بها بعض الغيوب، ويطلع بها على بعض المغيّبات، ولا شكّ أنّ علم المغيّبات من علم النّبوّة، ولذلك قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل: أيعبّر الرّؤيا كلّ أحد؟ قال: أبالنّبوّة يلعب!! ثمّ قال: الرّؤيا جزء من النّبوّة. وليس المراد أنّها نبوّة باقية حقيقة. ويؤيّد ذلك الحديث الّذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: «لم يبق من النّبوّة إلّا المبشّرات» ، قالوا: وما المبشّرات؟ قال: «الرّؤيا الصّالحة؛ يراها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وقوله [صلّى الله عليه وسلّم] : (من رآني في المنام فقد رآني) قال الباجوريّ: أي: من رآني في حال النّوم.. فقد رآني حقّا، أو.. فكأنّما رآني في اليقظة. فهو على التّشبيه والتّمثيل؛ وليس المراد رؤية جسمه الشّريف وشخصه المنيف، بل مثاله على التّحقيق. الرّجل المسلم، أو ترى له» . أخرجه البخاريّ. والتعبير بالمبشّرات للغائب، وإلّا! فقد تكون من المنذرات. وبالجملة: فلا ينبغي أن يتكلّم في تعبير الرّؤيا بغير علم، لما علمت من أنّها جزء من أجزاء النّبوّة. (وقوله) في الحديث: ( «من رآني في المنام فقد رآني» !! قال:) شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) - رحمه الله تعالى؛ في «حاشية الشّمائل» -: (أي: من رآني في حال النّوم) بأيّ صفة كانت؛ (فقد رآني حقّا) ؛ أي: رأى حقيقتي على كمالها؛ لا شبهة ولا ريب فيما رأى، (أو فكأنّما رآني في اليقظة، فهو على التّشبيه والتّمثيل) ، لأنّ ما رآه في النّوم مثاليّ، وما يرى في عالم الحسّ حسّيّ، فهو تشبيه خياليّ بحسيّ. (و) قال الغزاليّ: (ليس المراد) بقوله: «فقد رآني» (رؤية جسمه الشّريف وشخصه المنيف، بل) رؤية (مثاله) الّذي صار آلة يتأدّى بها المعنى الذي في نفس الأمر إليه، وكذلك قوله: «فسيراني في اليقظة» !! ليس المراد أنّه يرى جسمي وبدني؛ بل المثال. قال: والآلة تارة تكون حقيقيّة، وتارة تكون خيالية، والنّفس غير المثال المتخيّل، فما رآه من الشّكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ولا شخصه، بل مثال له (على التّحقيق) . قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإنّ ذاته تعالى منزّهة عن الشّكل والصّورة، ولكن تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور؛ أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 وقوله [صلّى الله عليه وسلّم] : (فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي) أي: لا يستطيع ذلك؛ لأنّه سبحانه وتعالى جعله صلّى الله عليه وسلّم محفوظا من الشّيطان في الخارج، فكذلك في المنام، ... غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقّا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرّائي «رأيت الله عزّ وجل في المنام» لا يعني أنّي رأيت ذات الله؛ كما يقول في حقّ غيره. وقال الغزاليّ أيضا؛ في بعض فتاويه: من رأى الرّسول صلى الله عليه وسلم- يعني: في المنام لم ير حقيقة شخصه المودع روضة المدينة المنوّرة، وإنّما رأى مثاله؛ لا شخصه. ثمّ قال: وذلك المثال مثال روحه المقدّسة عن الصّورة والشّكل. انتهى. (وقوله: «فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» ) ؛ أي: لا يحصل للشّيطان مثال صورتي، ولا يتشبّه بي، (أي: لا يستطيع ذلك، لأنّه سبحانه وتعالى جعله صلى الله عليه وسلم محفوظا من الشّيطان في الخارج) ؛ أي: في حال اليقظة، (فكذلك في المنام) ؛ أي: فكما منعه الله أن يتصوّر بصورته في اليقظة منعه ذلك في النّوم؛ لئلّا يشتبه الحقّ بالباطل. وأورد الشّيخ أكمل الدّين «1» في «شرح المشارق» : إنّ عظمة الله تعالى أتمّ من عظمة كلّ عظيم، مع أنّ إبليس تراءى لكثير وخاطبهم بأنّه الحقّ ليضلّهم، فضلّ جمع حتّى ظنّوا أنّهم رأوا الحقّ وسمعوا خطابه. وأجاب: بأنّ كلّ عاقل يعلم بأنّ الحقّ لا صورة له معيّنة توجب الاشتباه، بخلاف النّبيّ فصورته معيّنة معلومة؛ وبأنّ مقتضى حكمة الحقّ أنّه يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء، بخلاف النّبيّ؛ فإنّه متّصف بالهداية ظاهر بصورتها، ورسالته   (1) البابرتي الحنفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 سواء رآه على صفته المعروفة أو غيرها على المنقول المقبول عند ذوي العقول، وإنّما ذلك يختلف باختلاف حال الرّائي، كالمرآة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها؛ ... إنّما هي لذلك؛ لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتة، فوجب عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان. وقال القاضي عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحّة رؤية الله تعالى في النّوم، وإن رؤي على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام؛ لتحقّق أنّ المرئيّ غير ذات الله، إذ لا يجوز عليه التّجسيم؛ ولا اختلاف الحالات، بخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فكانت رؤياه تعالى في النّوم من باب التّمثيل والتّخييل. وقال ابن العربي: رؤيا الله في النّوم أوهام وخواطر في القلب؛ لا تليق به الحقيقة، ويتعالى عنها، وهي دلالات للرّائي على أمر كان؛ أو يكون كسائر المرئيّات. وقال غيره: رؤياه تعالى مناما حقّ وصدق؛ لا كذب فيها في قول ولا فعل. انتهى «مناوي وزرقاني» رحمهما الله تعالى. ورؤياه صلى الله عليه وسلم في المنام حقّ، (سواء رآه على صفته المعروفة؛ أو غيرها على المنقول المقبول عند ذوي العقول) ، كما هو ظاهر الحديث، وبه صرّح النّوويّ، مضعّفا لتقييد الحكيم التّرمذيّ والقاضي عياض وغيرهما بما إذا رآه على صورته المعروفة في حياته، وتبعه عليه بعض المحقّقين. (وإنّما ذلك يختلف باختلاف حال الرّائي) ، فإن كانت رؤيته بصورته الحقيقيّة في وقت ما؛ سواء كان في شبابه، أو رجولته، أو كهولته، أو أواخر عمره؛ لم تحتج لتأويل، وإلّا! احتيجت لتعبير متعلّق بالرّائي، ومن ثمّ قيل: من رآه شيخا؛ فهو في غاية سلم، أو شابّا فهو في غاية حرب، أو متبسّما فهو متمسّك بسنّته، أو على حالته وهيئته؛ فهو دليل على صلاح حال الرّائي وكمال وجاهته وظفره، لأنّه صلى الله عليه وسلم (كالمرآة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها) ، وإن كان ذاتها على أحسن حال؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 فقد رآه جمع بأوصاف مختلفة، ... قاله المناوي رحمه الله تعالى. وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة الّتي كان عليها إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإنّ الصّواب أنّ الأنبياء لا تغيّرهم الأرض، ويكون إدراك الذّات الكريمة حقيقة، وإدراك الصّفات إدراك المثال؛ لا الحقيقة. أي: فالأولى لا تحتاج إلى تعبير، والثّانية تحتاجه. وللصّوفيّة ما يوافق معنى هذا؛ وإن اختلف اللّفظ، حيث قالوا: هنا ميزان يجب التّنبّه له؛ وهو: أنّ الرّؤيا الصّحيحة أن يرى بصورته الثّابتة بالنّقل الصّحيح، فإن رآه بغيرها كطويل أو قصير؛ أو شيخ؛ أو شديد السّمرة!! لم يكن رآه. وحصول الجزم في نفس الرّائي بأنّه رآه غير حجّة، بل ذلك المرئيّ صورة الشّرع «1» بالنّسبة لاعتقاد الرّائي، أو حاله، أو صفته، أو حكم من أحكام الإسلام، أو بالنّسبة للمحل الّذي رأى فيه تلك الصّورة. قال القونويّ كابن عربي الحاتمي: وقد جرّبناه فوجدناه لم ينخرم. انتهى «زرقاني» . (وقد) علم من ذلك صحّة أن (يراه جمع) ؛ في آن واحد؛ في أقطار متباعدة؛ (بأوصاف مختلفة) ، لأنّه صلى الله عليه وسلم سراج ونور، والشّمس في هذا العالم مثال نوره في العوالم كلّها، فكما أنّ الشّمس يراها كلّ إنسان في الشّرق والغرب في ساعة واحدة؛ وبصفات مختلفة؛ فكذلك هو صلى الله عليه وسلم، والاختلافات إنّما ترجع إلى اختلاف الرّائين؛ لا المرئيّ- كما تقدّم-. قال أبو سعيد؛ أحمد بن محمّد نصر: من رأى نبيّا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرّائي، وكمال جاهه، وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغيّر   (1) يفهم هذا مما ذكره في «سعادة الدارين» ص 426. (هامش الأصل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 ومثله في ذلك جميع الأنبياء والملائكة. كما جزم به البغويّ في «شرح السّنّة» . الحال عابسا مثلا؛ فذلك دليل على سوء حال الرّائي. وقال العارف ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: من رآه بصورة حسنة؛ فذلك حسن في دين الرّائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص؛ فذلك خلل في الرّائي من جهة الدّين. قال: وهذا هو الحقّ؛ فقد جرّب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبيّن للرّائي: هل عنده خلل؛ أم لا! لأنّه عليه الصلاة والسلام نورانيّ مثل المرآة الصّقيلة؛ ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصوّر فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال؛ لا نقص فيها، أي: فكذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، هو على صفته الّتي ليس شيء أحسن منها، والتغير إنّما هو في صفة الرّائي، قال: وكذلك يقال في كلامه عليه الصلاة والسلام في النّوم: إنّه يعرض على سنّته؛ فما وافقها فهو حقّ، وما خالفها؛ فالخلل في سمع الرّائي. فرؤيا الذّات الكريمة حقّ، والخلل إنّما هو في سمع الرّائي؛ أو بصره. قال: وهذا خبر ما سمعته في ذلك. انتهى كلام ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى. (ومثله) صلى الله عليه وسلم (في ذلك جميع الأنبياء والملائكة. كما) ذكره بعض شرّاح «المصابيح» احتمالا، و (جزم به) ركن الدّين محيي السّنّة، أبو محمّد: الحسين بن مسعود بن محمد؛ المعروف ب «الفرّاء» ، (البغويّ) نسبة إلى «بغشور» ؛ على غير قياس، ويقال: «بغ» ؛ بلدة من بلاد خراسان بين مرو وهراة- الفقيه الشّافعي المحدّث المفسّر، صاحب المصنّفات، المبارك له فيها لقصده الصّالح، المتعبّد النّاسك الرّبّانيّ، المتوفّى ب «مرو» في شوّال سنة: خمسمائة وستة عشر هجرية. رحمه الله تعالى آمين. (في) كتاب ( «شرح السّنّة» ) ، وهو كتاب في الحديث مرتّب على الأبواب الفقهيّة مشتمل على السّنن، وما هو في حيّزها؛ أو له تعلّق بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وكذلك حكم القمرين والنّجوم والسّحاب الّذي ينزل فيه الغيث، فلا يتمثّل الشّيطان بشيء منها. قال مؤلّفه في مقدّمته: هذا كتاب يتضمّن كثيرا من علوم الأحاديث وفوائد الأخبار المرويّة عن النّبي صلى الله عليه وسلم؛ من حلّ مشكلها، وتفسير غريبها، وبيان أحكامها، وما يترتّب عليها من الفقه واختلاف العلماء، وجمل لا يستغنى عن معرفتها، وهو المرجوع إليه في الأحكام، ولم أودع فيه إلّا ما اعتمده أئمّة السّلف الّذين هم أهل الصّنعة المسلّم لهم الأمر، وما أودعوه كتبهم، وأمّا ما أعرضوا عنه؛ من المقلوب والموضوع والمجهول واتّفقوا على تركه؛ فقد صنت هذا الكتاب عنه ... إلى آخر ما قال. ثمّ بدأ بكتاب الإيمان. لكن ذكر المحقّقون أنّ ذلك خاصّ به صلى الله عليه وسلم، دون غيره من الأنبياء. وقالوا في حكمة ذلك: إنّه صلى الله عليه وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحقّ وصفاته تخلّقا وتحقّقا؛ فإنّ من مقتضى مقامات رسالته ودعوته الخلق إلى الحقّ: أن يكون الأظهر فيه؛ حكما وسلطنة، من صفات الحقّ وأسمائه صفة الهداية، والاسم الهادي؛ فهو صلى الله عليه وسلم صورة الاسم الهادي ومظهر صفة الهداية. والشّيطان مظهر اسم المضلّ والظّاهر بصفة الضّلالة؛ فهما ضدّان، ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، ولو ظهر إبليس بصفته لالتبس على النّاس فضلّوا بما يلقيه إليهم لظنّهم أنّه الرّسول صلى الله عليه وسلم، فعصم الله صورته من أن يتصوّر بها شيطان. انتهى. والحكمة المذكورة تقتضي عمومه في جميع الأنبياء والملائكة. قال البغويّ: (وكذلك حكم القمرين) : الشّمس والقمر، فهو من باب التّغليب، (والنّجوم) المضيئة، (والسّحاب الّذي ينزل فيه الغيث، فلا يتمثّل الشّيطان بشيء منها) . قال: ورؤية الأنبياء والملائكة بمكان نصرة لأهله وفرج إن كانوا في كرب. وخصب إن كانوا في جدب. ورؤية الأنبياء شرف في الدّنيا، ورؤية الملائكة شرف فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 ونقل ابن علّان: إنّ الشّيطان لا يتمثّل بالله تعالى كما لا يتمثّل بالأنبياء، وهذا هو قول الجمهور. وقال بعضهم: يتمثّل بالله، فإن قيل: كيف لا يتمثّل بالنّبيّ ويتمثّل بالله على هذا القول؟ وشهادة في العقبى، لأنّ الأنبياء كانوا يخاطبون النّاس والملائكة لا تراهم النّاس لأنّهم عند ربهم. وقال تعالى في الشّهداء فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [277/ البقرة] . قال: ومن رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرا في المنام لم يزل خفيف المال مقلّا من الدّنيا من غير حاجة. انتهى. (ونقل) العلّامة المحقّق المحدّث المفسّر؛ محمد بن علي. (ابن علّان:) - بفتح العين المهملة، وتشديد اللّام، وآخره نون- ابن إبراهيم بن محمد علّان البكري الصدّيقي. حافظ عصره وإمام وقته. فارس التّفسير وجهبذ الحديث، وفخر علماء مكة المكرمة في القديم والحديث. ولد في حدود: الثّمانين وتسعمائة هجريّة تقريبا، ومات سنة ثمان وخمسين وألف هجريّة. له المؤلّفات النافعة الّتي بلغت أكثر من أربعمائة مؤلّف ما بين مطوّل ومختصر، فهو سيوطيّ زمانه، ودفن بالمعلاة في مقبرة آبائه رحمه الله تعالى. ترجمه الشيخ. حسن العجيمي في «خبايا الزوايا» . (إنّ الشّيطان لا يتمثّل بالله تعالى كما لا يتمثّل بالأنبياء، وهذا) القول (هو قول الجمهور. وقال بعضهم: يتمثّل بالله) بمعنى أنّه يتراءى للنّاس؛ ويخاطبهم بأنّه الحقّ ليضلّهم. (فإن قيل:) عظمة الحقّ سبحانه أتمّ من عظمة كلّ عظيم ف (كيف لا يتمثّل) إبليس (بالنّبيّ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا يستطيع أن يظهر بصورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (ويتمثّل) اللّعين (بالله على هذا القول؛) الّذي قاله بعضهم- بمعنى أنّ الشّيطان تراءى لكثيرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 أجيب: بأنّ النّبيّ بشر، فلو تمثّل به لا لتبس الأمر، والباري جلّ وعلا منزّه عن الجسميّة والعرضيّة؛ فلا يلتبس الأمر بتمثّله به؛ كما في «درّة الفنون في رؤية قرّة العيون» . ولا تختصّ رؤية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصّالحين، بل تكون لهم ولغيرهم. وخاطبهم بأنّه الحقّ؛ طلبا لإضلالهم، وقد أضلّ جماعة بمثل هذا حتّى ظنّوا أنّهم رأوا الحقّ وسمعوا خطابه؟!. (أجيب) عن ذلك (ب) أمرين: أحدهما: ب (أنّ النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (بشر) له صورة معيّنة معلومة مشهودة، (فلو تمثّل به لالتبس الأمر) على النّاس فضلوا بما يلقيه لهم، لظنّهم أنّه الرّسول، فعصم الله صورته من أن يتصوّر بها شيطان. (والباري جلّ وعلا) كلّ عاقل يعلم أنّه ليست له صورة معيّنة توجب الاشتباه؛ وهو (منزّه عن) صفات المخلوقين؛ ك (الجسميّة والعرضيّة) واختلاف الحالات، (فلا يلتبس الأمر بتمثّله به) . ثانيهما: أنّ من مقتضى حكمة الحقّ أنّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، بخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّه متّصف بالهداية؛ ظاهر بصورتها، ورسالته إنّما هي لذلك؛ لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتّة، فوجب عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان لبقاء الاعتماد وظهور حكم الهداية فيمن شاء الله تعالى هدايته به، عليه الصّلاة والسلام، ولولا ذلك لم يظهر سر قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى] ولم تحصل فائدة البعثة؛ (كما في) كتاب ( «درّة الفنون في رؤية قرّة العيون» :) كتاب مختصر في الرّؤية؛ على ستّة فصول، وهو للشّيخ العلّامة المؤرّخ الصّوفي: عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن محمد البسطامي؛ زين الدين الأنطاكي الحنفي. ولد بإنطاكية، وتعلم في القاهرة، وسكن بروسة، وتوفي بها سنة: ثمان وخمسين وثمانمائة. رحمه الله تعالى. (ولا تختصّ رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم) في المنام (بالصّالحين؛ بل تكون لهم ولغيرهم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 وحكي عن بعض العارفين- كالشّيخ الشّاذليّ وسيّدي عليّ وفا-: أنّهم رأوه صلّى الله عليه وسلّم يقظة، ولا مانع من ذلك، فيكشف لهم عنه صلّى الله عليه وسلّم في قبره، فيروه بعين البصيرة، ... - كما علم مما مر-. (وحكي) ؛ أي: حكى ابن أبي جمرة، والقاضي شرف الدّين البارزي، وعفيف الدين اليافعيّ وغيرهم؛ (عن بعض) الصّالحين (العارفين) بالله تعالى: (كالشّيخ) أبي الحسن (الشّاذليّ) - كما حكاه عنه التّاج بن عطاء الله السّكندري- (وسيّدي) أبي العباس المرسي، والقطب القسطلّاني، والشّيخ عبد القادر الجيلاني، وسيّدي (علي وفا) بن سيّدي محمد وفاء، وغيرهم: (أنّهم رأوه صلى الله عليه وسلم يقظة) - بفتح القاف-. وذكر ابن أبي جمرة عن جمع أنّهم حملوا على ذلك رواية «فسيراني في اليقظة» . وأنّهم رأوه نوما فرأوه يقظة بعد ذلك، وسألوه عن تشويشهم في أشياء فأخبرهم بوجوه تفريجها، فكان كذلك بلا زيادة ولا نقصان. (ولا مانع من ذلك) عقلا؛ ولا شرعا؛ ولا عادة، ومنكر ذلك إن كان ممن يكذّب بكرامات الأولياء فلا كلام معه، وإلّا! فهذه منها. إذ يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالم العلويّ والسّفليّ. وجرى على ذلك الغزالي؛ فقال في كتابه «المنقذ من الضّلال» : وهم يعني: أرباب القلوب- في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد. انتهى. (فيكشف لهم) - وهم بأقصى المشرق؛ أو المغرب- (عنه صلى الله عليه وسلم) بأن لا يجعل بينهم وبين الذّات الشّريفة وهي (في) محلّها من (قبره) الشّريف ساترا؛ ولا حاجبا، بأن يجعل تلك الحجب كالزّجاج الّذي يحكي ما وراءه. (فيروه بعين البصيرة) ، وهي قوّة القلب المنوّر بنور اليقين؛ ترى حقائق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 ولا أثر للقرب؛ ولا للبعد في ذلك، ... الأشياء، (ولا أثر للقرب؛ ولا للبعد في ذلك) ، ونحن نعلم أنّه صلى الله عليه وسلم حيّ في قبره يصلّي، فإذا أكرم الإنسان برؤيته يقظة فلا مانع من أن يكرم بمحادثته ومكالمته وسؤاله عن الأشياء، وإنّه يجيبه عنها.!! وهذا كلّه غير منكر شرعا؛ ولا عقلا. قال السّيوطي: وأكثر من يقع له ذلك إنّما يقع له قرب موته؛ أو عند الاحتضار، ويكرم الله بها من يشاء. انتهى. وأنكر رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة؛ أنكرها جماعة؛ منهم العلّامة بدر الدين السّيّد: حسين بن عبد الرّحمن الأهدل، مؤلّف «تحفة الزّمن» رحمه الله تعالى، فقال في مسألة الرّؤية له: إنّ وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار، وصار العلم بذلك قويّا؛ انتفى عنه الشّكّ، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة. ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة وحسّ وغموض طرف لمورود حال؛ لا تكاد تضبطها العبارة، ومراتبهم في الرّؤية متفاوتة. وكثيرا ما يغلط فيها رواتها، فقلّما تجد رواية متّصلة صحيحة عمّن يوثق به. وأمّا من لا يوثق!! به فقد يكذب، وقد يرى مناما؛ أو في غيبة حسّ فيظنّه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورا؛ فيظنّه الرّسول صلى الله عليه وسلم، وقد يلبس عليه الشّيطان فيجب التّحرّز في هذا الباب. وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرّأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول؛ لاستلزامه خروجه من قبره، ومشيه في الأسواق، ومخاطبته للنّاس، ومخاطبتهم له، وخلوّ قبره عن جسده الشّريف؛ فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرّد القبر؛ ويسلّم على غائب. انتهى. ومنهم: أبو العباس القرطبيّ في «المفهم» في الرّد على من قال «بأنّ الرّائي له في المنام رؤيا حقيقيّة يراه بعد ذلك في اليقظة» . قال: وهذه جهالات لا يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 فمن كرامات الأولياء: خرق الحجب لهم، فلا مانع عقلا ولا شرعا أنّ الله تعالى يكرم وليّه؛ بأن لا يجعل بينه وبين الذّات الشّريفة ساترا ولا حاجبا) . بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شيء من ذلك مختلّ مخبول. انتهى. وهذه الإلزامات كلّها ليس شيء منها بلازم، وقد أشار للجواب عنها بقوله: (فمن كرامات الأولياء: خرق الحجب لهم) ؛ يعني: أنّ رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لا تستلزم خروجه من قبره؛ لأنّ من كرامات الأولياء- كما مرّ- أنّ الله تعالى يخرق لهم الحجب، (فلا مانع عقلا؛ ولا شرعا) ؛ ولا عادة: (أنّ الله تعالى يكرم وليّه بأن لا يجعل بينه وبين الذّات الشّريفة ساترا؛ ولا حاجبا) بأن يجعل تلك الحجب كالزّجاج الّذي يحكي ما وراءه، وحينئذ يقع بصره عليه صلى الله عليه وسلم. وإذا أكرم الإنسان بوقوع بصره على ذاته الشّريفة؛ فلا مانع أن يكرم بمحادثته ومكالمته، وسؤاله عن أشياء، وأنّه يجيب عنها، وهذا كلّه غير منكر شرعا؛ ولا عقلا. وممن أنكرها صاحب «فتح الباري» العلّامة الحافظ؛ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني- رحمه الله تعالى- حيث قال: وهذا مشكل جدّا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصّحبة إلى يوم القيامة!!. ويردّ بأنّ الشّرط في الصّحابي أن يكون رآه في حياته، حتى اختلفوا فيمن رآه بعد موته؛ وقبل دفنه: هل يسمى صحابيا، أم لا؟! على أنّ هذا أمر خارق للعادة، والأمور التي كذلك لا تغيّر لأجلها القواعد الكلّيّة. ونوزع أيضا بأنّه لم يحك ذلك عن أحد من الصّحابة، ولا من بعدهم، وبأنّ فاطمة اشتدّ حزنها عليه صلى الله عليه وسلم حتّى ماتت كمدا بعده بستّة أشهر، وبيتها مجاور لضريحه الشّريف صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنها رؤيته تلك المدّة!!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 ......... ويردّ أيضا: بأنّ عدم نقله لا يدلّ على عدم وقوعه، فلا حجّة في ذلك كما هو ظاهر، وكذلك موت فاطمة كمدا؛ لأنّه قد يكرم المفضول بما لا يكرم به الفاضل. وتأوّل الأهدل وغيره ما وقع للأولياء من ذلك: بأنّه إنّما هو في حال غيبتهم فيظنّونه يقظة، وفيه إساءة ظنّ بهم حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة، وهذا لا يظنّ بأدون العقلاء فكيف بالأكابر!!. قاله ابن حجر- رحمه الله تعالى-. وتعقّبه العلّامة علي القاري رحمه الله تعالى: بأنّ هذا ليس من باب إساءة الظّنّ، بل من باب التّأويل الحسن؛ جمعا بين المنقول والمشاهد المعقول، فإنّه لو حمل على الحقيقة؛ لكان يجب العمل بما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي وإثبات ونفي. ومن المعلوم أنّه لا يجوز ذلك إجماعا، كما لا يجوز بما يقع حال المنام؛ ولو كان الرّائي من أكابر الأنام. وقد صرح المازريّ: بأنّ من رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصّفات المتخيّلة؛ لا المرئيّة، فيتعيّن أن تحمل هذه الرّؤية أيضا على رؤية عالم المثال؛ أو عالم الأرواح- كما تقدّم تحقيقه عن الإمام حجّة الإسلام الغزالي؛ رحمه الله تعالى-. وبعد حملنا على عالم المثال؛ فيزول الإشكال على كل حال، فإن الأولياء في عالم الدّنيا مع ضيقها قد يحصل لهم أبدان مكتسبة وأجسام متعدّدة، تتعلّق حقيقة أرواحهم بكلّ واحد من الأبدان؛ فيظهر كلّ في خلاف الآخر من الأماكن والأزمان، وحينئذ لا نقول: بأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم مضيّق عليه في عالم البرزخ بكونه محصورا في قبره، بل نقول: إنّه يجول في العالم السّفلي والعالم العلوي، فإنّ أرواح الشّهداء- مع أن مرتبتهم دون مرتبة الأنبياء- إذا كانت في أجواف طير خضر تسرح في رياض الجنّة، ثمّ تعود إلى قناديل معلّقة تحت العرش؛ كما هو مقرّر في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 ......... محلّه محرر، مع أنّه لم يقل أحد أنّ قبورهم خالية من أجسادهم؛ وأرواحهم غير متعلّقة بأجسامهم، لا يسمعوا سلام من يسلّم عليهم. وكذا ورد أنّ الأنبياء يلبّون ويحجّون، فنبينا صلى الله عليه وسلم أولى بهذه الكرامات، وأمّته مكرّمة بحصول خوارق العادات، فيتعيّن تأويل الأهدل وغيره، فتأمّل. ومن جملة تأويلاته قوله في قول العارف أبي العبّاس المرسي «لو حجب عني رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي مسلما» بأنّ هذا فيه تجوّز؛ أي: لو حجب عنّي حجاب غفلة، ولم يرد أنّه لم يحجب عن الرّوح الشّخصيّة طرفة عين؛ فذلك مستحيل!! أي: عرفا وعادة، إذ لا يعرف استمرار خرق العادة أصلا؛ لا شرعا؛ ولا عقلا. فاندفع قول ابن حجر «لا استحالة فيه بوجه أصلا» . انتهى كلام ملّا علي قاري؛ في «جمع الوسائل» . وفي «الفتاوي الحديثيّة» للإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى؛ عن «المدخل» لابن الحاجّ المالكي: رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيّق؛ قل من يقع له ذلك إلّا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزّمان، بل عدمت غالبا، مع أنّنا لا ننكر من يقع له هذا من الأكابر الّذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم، قال: وقد أنكر بعض علماء الظّاهر ذلك، محتجّا بأنّ العين الفانية لا ترى العين الباقية، وهو صلى الله عليه وسلم في دار البقاء؛ والرّائي في دار الفناء!! وردّ بأنّ المؤمن إذا مات يرى الله، وهو سبحانه لا يموت، والواحد منهم يموت في كلّ يوم سبعين مرّة!! وأشار البيهقي إلى ردّه بأنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم رأى جماعة من الأنبياء ليلة المعراج. قال البارزي: وقد سمع من جماعة من الأولياء في زماننا وقبله أنّهم رأوا النّبي صلى الله عليه وسلم يقظة؛ حيّا بعد وفاته!! قال ابن حجر رحمه الله تعالى: والحكايات في ذلك عن أولياء الله تعالى كثيرة جدّا، ولا ينكر ذلك إلّا معاند أو محروم، وعلم ممّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 ......... مرّ عن ابن العربي أنّ أكثر ما تقع رؤيته صلى الله عليه وسلم بالقلب، ثمّ بالبصر، لكنّها به ليست كالرّؤية المتعارفة، وإنّما هو جمعيّة لحالية وحالة برزخيّة، وأمر وجدانيّ، فلا يدرك حقيقته إلّا من باشره؛ كذا قيل. ويحتمل أنّ المراد الرّؤية المتعارفة؛ بأن يرى ذاته صلى الله عليه وسلم طائفة في العالم، أو تكشف الحجب بينه وبين النّبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو في قبره، فينظره حيّا فيه رؤية حقيقيّة، إذ لا استحالة، لكن الغالب أنّ الرّؤية إنّما هي لمثاله؛ لا لذاته، وعليه يحمل قول الغزالي «ليس المراد أن يرى جسمه وبدنه، بل مثالا له صار ذلك المثل آلة يتأدّى بها المعنى الّذي في نفسه ... » إلى آخر ما تقدّم. قال ابن حجر: ثمّ رأيت ابن العربي صرّح بما ذكرته من أنّه لا يمتنع رؤية ذات النّبي صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده؛ لأنّه وسائر الأنبياء أحياء ردّت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم، والتصرّف في الملكوت العلويّ والسّفلي!! ولا مانع من أن يراه كثيرون في وقت واحد؛ لأنّه كالشّمس. وإذا كان القطب يملأ الكون- كما قاله التّاج ابن عطاء الله- رحمه الله تعالى- فما بالك بالنّبي صلى الله عليه وسلم!!! ولا يلزم من ذلك أنّ الرّائي صحابي؛ لأنّ شرط الصّحبة الرّؤية في عالم الملك، وهذه رؤية؛ وهو في عالم الملكوت، وهي لا تفيد صحبة، وإلّا! لثبتت لجميع أمّته لأنّهم عرضوا عليه في ذلك العالم؛ فرآهم ورأوه، كما جاءت به الأحاديث. انتهى كلام ابن حجر مقتطفا. وقال العفيف اليافعي في «روض الرّياحين» : أخبرني بعضهم أنّه يرى حول الكعبة الملائكة والأنبياء وأكثر ما يراهم ليلة الجمعة، وليلة الاثنين، وليلة الخميس. وعدّ لي جماعة كثيرة من الأنبياء، وذكر أنّه يرى كلّ واحد منهم في موضع معيّن؛ يجلس فيه حول الكعبة، ويجلس معه أتباعه من أهله وقرابته وأصحابه. وذكر أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم يجتمع عليه من أولياء الله تعالى خلق لا يحصي عددهم إلّا الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 ......... تعالى، ولم تجتمع على سائر الأنبياء. وذكر أنّ إبراهيم وأولاده يجلسون بقرب الكعبة بحذاء مقامه المعروف، وموسى وجماعة من الأنبياء بين الرّكنين اليمانيّين، وعيسى وجماعة معه في جهة الحجر، ورأى نبيّنا صلى الله عليه وسلم جالسا عند الرّكن اليماني مع أهل بيته وأصحابه وأولياء أمّته. انتهى. وحكي عن بعض الأولياء أنّه حضر مجلس فقيه، فروى ذلك الفقيه؛ حديثا، فقال له الولي: هذا باطل. فقال الفقيه: من أين لك هذا!؟ فقال: هذا النّبي صلى الله عليه وسلم واقف على رأسك؛ يقول: «إنّي لم أقل هذا الحديث» . وكشف للفقيه فرآه. انتهى. وقد ألّف الإمام الحافظ جلال الدّين السّيوطي رحمه الله تعالى رسالة سمّاها «تنوير الحلك في رؤية النّبي والملك» قال فيها- زيادة على ما تقدّم؛ ما ملخصه-: وفي بعض المجاميع أنّ سيدي أحمد الرّفاعي رحمه الله تعالى لما وقف تجاه الحجرة النّبويّة الشّريفة أنشد: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبّل الأرض عنّي وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي فخرجت اليد الشّريفة من القبر فقبّلها؛ قال: وزاد بعض من روى هذه الحكاية ورآها كلّ من حضر-؛ قال: ولا تمتنع رؤية ذاته الشّريفة بجسده وروحه؛ وذلك لأنّه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء أحياء؛ ردّت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من القبور، والتصرّف في الملكوت العلوي والسّفلي. وقد ألّف البيهقي جزآ في «حياة الأنبياء» «1» ؛ وقال في «دلائل النّبوّة» : الأنبياء أحياء عند ربّهم كالشّهداء. وقال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن   (1) مطبوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 ......... طاهر البغدادي: المتكلّمون المحقّقون من أصحابنا على أنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم حيّ بعد وفاته، وأنّه يسرّ بطاعة أمّته، ويحزن بمعاصي العصاة منهم؛ وأنّه تبلغه صلاة من يصلّي عليه من أمّته، وقال: الأنبياء لا يبلون، ولا تأكل الأرض منهم شيئا؛ وقد مات موسى في زمانه، وأخبر نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنّه رآه في السّماء الرّابعة، ورأى آدم وإبراهيم!! وإذا صحّ لنا هذا الأصل؛ قلنا: نبينا قد صار حيّا بعد وفاته، وهو على نبوّته. انتهى. وقال القرطبيّ في «التّذكرة» في حديث الصّعقة؛ نقلا عن شيخه: «الموت ليس بعدم محض، وإنّما هو انتقال من حال إلى حال» . ويدلّ على ذلك أنّ الشّهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدّنيا، وإذا كان هذا في الشّهداء؛ فالأنبياء أحقّ بذلك وأولى!!. وقد صحّ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنّه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس؛ وفي السماء، ورأى موسى قائما يصلّي في قبره!. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّه يردّ السّلام على كلّ من يسلم عليه ... إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأنّ موت الأنبياء إنّما هو راجع إلى أنهم غيّبوا عنّا بحيث لا ندركهم؛ وإن كانوا موجودين أحياء، وكذلك الحياة في الملائكة، فإنّهم موجودون أحياء، ولا يراهم أحد إلّا من خصّه الله تعالى بكرامة. انتهى. وأخرج أبو يعلى في «مسنده» ، والبيهقي في كتاب «حياة الأنبياء» ؛ عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» . وأخرج البيهقي؛ عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الأنبياء لا يتركون بعد أربعين ليلة، ولكنّهم يصلّون بين يدي الله تعالى حتّى ينفخ في الصّور» . وروى سفيان الثّوري في «الجامع» قال: قال شيخ لنا: عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبيّ في قبره أكثر من أربعين ليلة حتّى يرفع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 ......... قال البيهقي: فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله تعالى. وروى عبد الرّزّاق في «مصنفه» ؛ عن الثّوري؛ عن أبي المقدام؛ عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوما. وأبو المقدام: هو ثابت بن هرمز الكوفي؛ شيخ صالح. وأخرج ابن حبّان في «تاريخه» ، والطّبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيّ يموت ويقيم في قبره إلّا أربعين صباحا» . وقال إمام الحرمين في «النّهاية» ؛ ثمّ الرّافعي في «الشرح» : روي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربّي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» . زاد إمام الحرمين: «أكثر من يومين» . وزاد أبو الحسن الزّاغوني الحنبلي؛ في بعض تصانيفه حديث: «إنّ الله تعالى لا يترك نبيّا في قبره أكثر من نصف يوم» . وقال الإمام بدر الدين بن الصّاحب في «تذكرته» ؛ فصل في حياته صلى الله عليه وسلم بعد موته في البرزخ: وقد دلّ على ذلك تصريح المشايخ وإيماؤهم. ومن القرآن قوله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران] . فهذه الحالة؛ وهي الحياة في البرزخ بعد الموت حاصلة لآحاد الموتى من الشّهداء، وحالهم أعلى وأفضل ممّن لم تكن لهم هذه المرتبة؛ لا سيّما في البرزخ. ولا تكون رتبة أحد من الأمّة أعلى من مرتبة النّبي صلى الله عليه وسلم، بل إنّما حصلت لهم هذه الرّتبة بتزكيته وتبعيّته. وأيضا فإنّما استحقّوا هذه الرّتبة بالشّهادة، والشّهادة حاصلة للنّبي صلى الله عليه وسلم على أتمّ الوجوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 ......... وقال عليه الصلاة والسلام: «مررت على موسى عليه الصّلاة والسّلام ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر؛ وهو قائم يصلّي في قبره» . وهذا صحيح «1» في إثبات الحياة لموسى؛ فإنّه وصفه بالصّلاة، وأنّه كان قائما، ومثل هذا لا توصف به الرّوح، وإنّما يوصف به الجسد. وفي تخصيصه بالقبر، فإنّ أحدا لم يقل: أرواح الأنبياء مسجونة في القبر مع الأجساد، وأرواح الشّهداء والمؤمنين في الجنّة. وفي حديث ابن عبّاس: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكّة والمدينة، فمررنا بواد؛ فقال: «أيّ واد هذا؟» . فقلنا: وادي الأزرق، فقال: «كأنّي أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله تعالى بالتّلبية، مارّا بهذا الوادي» . ثمّ سرنا حتّى أتينا على ثنيّة؛ فقال: «كأنّي أنظر إلى يونس على ناقة حمراء؛ عليه جبّة صوف، مارّا بهذا الوادي ملبّيا!!» . وسئل هنا: كيف ذكر حجّهم وتلبيتهم، وهم أموات، وهم في الآخرى، وليست دار عمل؟!. فأجيب بأن الشّهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجّوا ويصلّوا ويتقرّبوا بما استطاعوا، وأنّهم؛ وإن كانوا في الآخرى؛ فإنّهم في هذه الدّنيا الّتي هي دار العمل، حتّى إذا فنيت وأعقبتها الآخرى الّتي هي دار الجزاء انقطع العمل، هذا لفظ القاضي عياض؛ رحمه الله تعالى. فإذا كان القاضي عياض يقول: إنّهم يحجّون بأجسادهم؛ ويفارقون قبورهم، فكيف يستنكر مفارقة النّبي صلى الله عليه وسلم لقبره!! فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إذا كان حاجّا، وإذا كان مصلّيا بجسده في السّماء؛ فليس مدفونا في القبر. قال الإمام الحافظ السّيوطي- رحمه الله تعالى-: فحصل من مجموع هذه النّقول والأحاديث: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم حيّ بجسده وروحه،   (1) لعلها: صريح!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 ......... وأنّه يتصرّف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت، وهو بهيئته الّتي كان عليها قبل وفاته؛ لم يتبدّل منه شيء، وأنّه مغيّب عن الأبصار؛ كما غيّبت الملائكة، مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمّن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته الّتي هو عليها؛ لا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التّخصيص برؤية المثال. انتهى كلام السّيوطي في كتاب «تنوير الحلك» ملخّصا. قال المصنّف الشّيخ يوسف النّبهاني رحمه الله تعالى: وقد رأيت رسالة في حجم كرّاسة منسوبة للشّيخ نور الدّين علي الحلبي؛ سمّاها «تعريف أهل الإسلام والإيمان بأنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه مكان ولا زمان» . فممّا قاله فيها؛ بعد نقل كثير من كلام السّيوطي: قلت: وأمّا كلامنا والّذي نقوله- إن شاء الله تعالى-: إنّ الأمر كما قاله الجلال السّيوطي، وأخصّ من ذلك أنّ الّذي أراه أنّ جسده الشّريف لا يخلو منه زمان؛ ولا مكان، ولا محل، ولا إمكان، ولا عرش؛ ولا لوح، ولا كرسي؛ ولا قلم، ولا بحر؛ ولا بر، ولا سهل؛ ولا وعر، ولا برزخ؛ ولا قبر، كما أشرنا إليه أيضا. وأنّه امتلأ الكون الأعلى به كامتلاء الكون الأسفل به، وكامتلاء قبره به، فتجده مقيما في قبره؛ طائفا حول البيت؛ قائما بين يدي ربه لأداء الخدمة؛ تامّ الانبساط بإقامته في درجة الوسيلة. ألا ترى أنّ الرّائين له يقظة؛ أو مناما في أقصى المغرب يوافقون في ذلك الرّائين له كذلك في تلك السّاعة بعينها في أقصى المشرق!!؟ فمتى كان كذلك مناما كان في عالم الخيال والمثال، ومتى كان يقظة كان بصفتي الجمال والإجلال، وعلى غاية الكمال، كما قال القائل: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وأطال في ذلك بذكر الأدلّة. فراجعه في تلك الرّسالة، فهي بكمالها قد تضمنّها كتاب «جواهر البحار في فضائل النّبيّ المختار» للمصنّف الشّيخ يوسف النّبهاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 .. انتهى. وقد بسطت الكلام على رؤية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كتابي «أفضل الصّلوات على سيّد السّادات» فمن شاء الزّيادة فليرجع إليه. رحمه الله تعالى آمين. (انتهى) . أي: كلام الباجوريّ رحمه الله تعالى ملخّصا. (وقد بسطت الكلام على رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم) يقظة ومناما (في كتابي) : «سعادة الدّارين في الصلاة على سيّد الكونين» ، وفي كتابي ( «أفضل الصّلوات على سيّد السّادات» ) في موضعين منه: الأوّل: قبيل الفصل الخامس. والثّاني: في الكلام على الصّلاة السّادسة والأربعين؛ في ترجمة الشّيخ أبي المواهب الشّاذليّ رحمه الله تعالى. (فمن شاء الزّيادة) على ما هنا؛ (فليرجع إليه) ، أي: إلى كتاب «أفضل الصّلوات» ، وكذلك «سعادة الدّارين» ؛ فإنّه أتى فيها بما يشفي العليل، ويروي الغليل، واستوعب نقول العلماء في ذلك بما لم يوجد قبله مجموعا في كتاب، فجزاه الله خير الجزاء، ورحمه رحمة الأبرار. آمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 [ الخاتمة ] الخاتمة تشتمل على سبعين حديثا، أكثرها صحاح وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم. (الخاتمة) ، وهي- لغة-: آخر شيء، واصطلاحا-: اسم لألفاظ مخصوصة، دالّة على معان مخصوصة، جعلت آخر كتاب أو باب، (تشتمل) ؛ أي: تحتوي (على سبعين) - بتقديم السّين على الموحّدة- (حديثا) . الحديث- لغة-: ضدّ القديم، واصطلاحا-: ما أضيف إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قول؛ أو فعل؛ أو تقرير؛ أو وصف خلقيّ. (أكثرها) أحاديث (صحاح) : جمع صحيح؛ ككريم وكرام. والحديث الصّحيح هو: ما اتّصل سنده بنقل العدل الضّابط ضبطا تامّا؛ عن العدل الضّابط ضبطا تامّا ... وهكذا إلى منتهاه؛ من غير شذوذ، ولا علّة قادحة. (وحسان) : جمع حسن؛ كجبل وجبال. والحديث الحسن هو: ما اتّصل سنده بنقل العدل الضّابط؛ عن العدل الضّابط إلى منتهاه، من غير شذوذ؛ ولا علّة قادحة. فهو على هذا مساو للصّحيح في شروطه، إلّا في الحفظ والضّبط، فإنّ رجال الصّحيح في غاية الحفظ والضّبط؛ وإن كان رجال الحسن يشترط فيهم الحفظ والضّبط، ولكن دون ضبط رجال الصحيح. (من أدعيته صلى الله عليه وسلم) ، وهذه الخاتمة مشرع الظمان إلى موارد الكرم العذبة، ومفزع الحيران إذا ألمت به الضّائقة وحصرته الكربة، فبالدّعاء يتوسّل إلى الله تعالى في مطالب الدّنيا والآخرة، ويتوصّل إلى النّعم الوافية والخيرات الوافرة، كيف لا؛ وقد أمرنا الرّبّ العظيم بالدّعاء والإنابة!! ووعدنا؛ وهو الوافي الكريم بالقبول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 ......... والإجابة!! وترادفت بفضله الأخبار الصّحيحة، وجاءت بشرفه الآثار الصّريحة؛ على ما ستقف على ذلك إن شاء الله تعالى واضحا، وتعوّل عليه مقيما وظاعنا؛ وغاديا ورائحا، فلازمه في سائر أحوالك، وتعاهده في بكرك وآصالك، فستجني منه إن شاء الله تعالى ثمار غرسك، وتجد حلاوة ذلك في قلبك، وأنسه في نفسك. تقبّل الله منّا ومنك؛ وفينا وفيك صالح الدّعوات، وجعلنا وإيّاك ممن اعتمد على كرمه ومنّته في الحركات والسّكنات، ووفّقنا للتّضرّع والسّكون إلى فضله، وعاملنا بما هو من أهله؛ لا ما نحن من أهله. آمين. واعلم- رحمك الله تعالى- أنّه عندنا معاشر أهل السّنّة: أنّ الدّعاء ينفع الأحياء والأموات؛ إن دعوت لهم، ويضرّهم إن دعوت عليهم؛ وإن صدر من كافر- على الرّاجح- لحديث أنس رضي الله تعالى عنه: «دعوة المظلوم مستجابة؛ ولو كافرا» . وأمّا قوله تعالى وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (50) [غافر] . فمعناه أنّه لا يستجاب لهم في خصوص الدّعاء بتخفيف عذاب جهنّم عنهم يوم القيامة. وروى الحاكم- وصحّحه- أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغني حذر من قدر، والدّعاء ينفع ممّا نزل؛ وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل ويتلقّاه الدّعاء فيتعالجان إلى يوم القيامة» . والدّعاء ينفع في القضاء المبرم والقضاء المعلق. أمّا الثّاني: فلا استحالة في رفع ما علّق رفعه منه على الدّعاء، ولا في نزول ما علّق نزوله منه على الدّعاء. وأمّا الأوّل: فالدّعاء؛ وإن لم يرفعه؛ لكنّ الله تعالى ينزل لطفه بالدّاعي، كما إذا قضى عليه قضاء مبرما؛ بأنّه ينزل عليه صخرة، فإذا دعا الله تعالى حصل له اللّطف؛ بأن تصير الصّخرة متفتّتة كالرّمل وتنزل عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 ......... وانقسام القضاء؛ إلى مبرم ومعلّق!! ظاهر بحسب اللّوح المحفوظ. وأمّا بحسب العلم!! فجميع الأشياء مبرمة، لأنّه إن علم الله حصول المعلّق عليه حصل المعلّق؛ ولا بدّ. وإن علم الله عدم حصوله لم يحصل؛ ولا بدّ. لكن لا يترك الشّخص الدّعاء اتّكالا على ذلك، كما لا يترك الأكل اتّكالا على إبرام الله الأمر في الشّبع. واعلم: أنّ للدّعاء شروطا وآدابا؛ فمن شروطه: 1- أكل الحلال، و 2- أن يدعو؛ وهو موقن بالإجابة، و 3- ألايكون قلبه غافلا، و 4- ألايدعو بما فيه إثم؛ أو قطيعة رحم؛ أو إضاعة حقوق المسلمين، و 5- ألايدعو بمحال؛ ولو عادة، لأنّ الدّعاء به يشبه التّحكّم على القدرة القاضية بدوامها، وذلك إساءة أدب على الله تعالى. ومن آدابه: 1- أن يتخيّر الأوقات الفاضلة؛ كأن يدعو في السّجود، وعند الأذان والإقامة، ومنها: 2- تقديم الوضوء؛ والصّلاة، و 3- استقبال القبلة، و 4- رفع الأيدي إلى جهة السّماء، و 5- تقديم التّوبة، و 6- الاعتراف بالذّنب، و 7- الإخلاص، و 8- افتتاحه بالحمد، و 9- الصّلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم، و 10- ختمه بها، و 11- جعلها في وسطه أيضا. قال ابن عطاء الله السّكندري: واعلم أنّ للدّعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا. قال: فإن وافق أركانه: قوي، وإن وافق أجنحته: طار في السّماوات، وإن وافق مواقيته: فاز، وإن وافق أسبابه: نجح. فأركانه: 1- حضور القلب، و 2- الرّقة، و 3- الاستكانة، و 4- الخشوع، و 5- تعلّق القلب بالله، و 6- قطعه من الأسباب. وأجنحته: الصّدق. ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصّلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 وقد ذكرت في الخطبة أنّها خمسون، وظهرت لي الزّيادة بعد فزدتها، وذكرت أسماء مخرّجيها برمز «الجامع الصّغير» ؛ لأنّ أكثرها موجودة فيه، وفي «كتاب المصابيح» . وقد قسمتها قسمين: واعلم أنّ الإجابة: تتنوّع؛ 1- فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، و 2- تارة يقع؛ ولكن يتأخّر لحكمة فيه، و 3- تارة تقع الإجابة بغير المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة؛ وفي ذلك الغير أصلح منها. على أنّ الإجابة مقيّدة بالمشيئة، كما يدلّ عليه قوله تعالى، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [41/ الأنعام] فهو مقيّد لإطلاق الآيتين الآخريين، وهما قوله تعالى وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] وقوله تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [186/ البقرة] . فالمعنى: ادعوني أستجب لكم إن شئت، وأجيب دعوة الدّاع إن شئت، والله أعلم. (وقد ذكرت في الخطبة) المتقدّمة في أوّل هذا الكتاب (أنّها خمسون) حديثا، (وظهرت لي الزّيادة بعد) - بالبناء على الضمّ؛ لنيّة معنى المضاف-؛ أي: بعد ذلك، (فزدتها) إلى أن بلغت سبعين حديثا، (وذكرت أسماء مخرّجيها) ؛ أي: رواتها، مرموزا لهم (برمز: «الجامع الصّغير» ) ؛ أي: إشاراته الدّالة على رواة الحديث من أهل الأثر، فإنّ الرّمز: الإشارة بعين أو حاجب أو غيرها، وأصله التّحرّك، ثمّ توسّع فيه المصنّف؛ فاستعمله في الإشارة بالحروف الّتي اصطلح عليها في العزو إلى المخرجين؛ تبعا لغيره. وإنّما اختار رموز «الجامع الصّغير» !! (لأنّ أكثرها) أي: هذه الأحاديث السبعين (موجودة فيه) ؛ أي: في «الجامع الصغير» (و) موجودة (في كتاب «المصابيح» ) للإمام محيي السّنّة البغويّ- رحمه الله تعالى-. (وقد قسمتها قسمين) ؛ أي: رتّبتها على قسمين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الأوّل: استعاذات. والثّاني: دعوات. معتبرا أوّل الحديث: إن كان استعاذة.. جعلته في القسم الأوّل، وإن كان دعاء.. جعلته في القسم الثّاني، ... القسم (الأوّل: استعاذات) جمع «استعاذة» ، وهي مصدر «استعاذ» ، بزيادة السّين والتّاء اللّتين هما للطّلب؛ والاستعاذة؛ والتعوّذ، وما تصرّف منها كلّها معناها واحد: وهو الالتجاء والاعتصام. (و) القسم (الثّاني: دعوات) - بفتح الدّال، والعين، المهملتين- جمع دعوة- بفتح أوّله-: مصدر يراد به الدّعاء، وهو هنا السّؤال، يقال: دعوت الله، أي: سألته. وفي «شرح الأسماء الحسنى» للقشيري ما ملخّصه: الدّعاء جاء في القرآن على وجوه: 1- منها العبادة؛ نحو وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [106/ يونس] . و2- منها الاستعانة؛ نحو وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ [23/ البقرة] . و3- منها السّؤال؛ نحو ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] . و4- منها القول؛ نحو دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [10/ يونس] . و5- منها النّداء؛ نحو يَوْمَ يَدْعُوكُمْ [52/ الإسراء] . و6- منها الثّناء؛ نحو قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [110/ الإسراء] . انتهى. (معتبرا) ؛ أي: مراعيا في كونها دعوة؛ أو استعاذة (أوّل الحديث) ، أي: الحرف الأول منه. (إن كان) أوّل الحديث (استعاذة؛ جعلته في القسم الأوّل) ، أي: قسم الاستعاذات؛ ولو كان مشتملا على دعاء بعد الاستعاذة، فإنّ الاعتبار إنّما هو بأوّل الحديث. (وإن كان) أوّل الحديث (دعاء؛ جعلته في القسم الثّاني) أي: قسم الدّعوات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وافتتحتها بالدّعوات القرآنيّة؛ لأنّها كلام الله تعالى. وتقدّم أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن، ... (وافتتحتها) أي: هذه الأدعية؛ أي: ابتدأتها (بالدّعوات القرآنيّة) ؛ أي: الأدعية الّتي في القرآن، (لأنّها كلام الله تعالى) . و «القرآن» : يطلق على كلّ من النّفسي واللّفظي؛ والأكثر إطلاقه على اللّفظي. وأمّا «كلام الله تعالى» فيطلق أيضا على كلّ من اللّفظي والنّفسي؛ والأكثر إطلاقه على النّفسي، بمعنى أنّه صفة قديمة قائمة بذاته تعالى. وإطلاقه على اللّفظي؛ بمعنى أنّه ليس لأحد في تركيبه كسب. وعلى الإطلاق اللّفظي يحمل قول السّيّدة عائشة «ما بين دفّتي المصحف كلام الله تعالى» . وإطلاق «كلام الله» عليهما!! قيل: بالاشتراك، وقيل: حقيقيّ في النّفسي، مجاز في اللّفظي «1» ، وعلى كلّ؛ من أنكر أنّ ما بين دفّتي المصحف كلام الله تعالى فقد كفر. إلّا أنّ يريد أنّه ليس هو الصّفة القائمة بذاته تعالى؛ ومع كون اللّفظ الّذي نقرؤه حادثا لا يجوز أن يقال «القرآن حادث» إلّا في مقام التّعليم، لأنّه يطلق على الصّفة القائمة بذاته تعالى أيضا مجازا- على الرّاجح- «2» ، فربّما يتوهّم من إطلاق أنّ القرآن حادث أنّ الصّفة القائمة بذاته حادثة، ولذلك ضرب الإمام أحمد ابن حنبل؛ وحبس على أن يقول بخلق القرآن فلم يرض؛ قاله الباجوري، رحمه الله تعالى. (وتقدّم) في الباب الخامس (أنّه صلى الله عليه وسلم كان خلقه) - بضمتين- (القرآن) يرضى لرضاه ويغضب لغضبه.   (1) فيه نظر، لأن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان، والمجاز هنا لا يصحّ نفيه. ولا يقال بعموم المجاز!!. والتحقيق ههنا أن يقال: إن «كلام الله تعالى» اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، وبين اللفظي الحادث المؤلف من الآيات والسور. فتنبه (عبد الجليل) . (2) وقيل: الراجح خلافه. فتنبه (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وهي خارجة عن العدد المذكور. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] . رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ... رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قال البيضاوي: أي: خلقه كان جميع ما حصل في القرآن، فإنّ كلّ ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه قد تحلّى به صلى الله عليه وسلم؛ وكلّ ما استهجنه ونهى عنه تجنّبه وتخلّى عنه، فكأنّ القرآن بيان خلقه. انتهى. (وهي) ، أي: الدّعوات القرآنية (خارجة) ؛ أي: زائدة (عن العدد المذكور) ؛ أي: غير داخلة في حساب السّبعين حديثا. * قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (رَبَّنا) ؛ أي: يا ربنا (تَقَبَّلْ مِنَّا) ما عملنا لك، وتقبّل طاعتنا إياك وعبادتنا لك (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بنيّاتنا، وهذا وإن كان واردا في بناء إبراهيم الكعبة؛ لكنّه يطلب الإتيان به بعد كلّ عمل صالح يفعله المسلم. قال الإمام النوويّ في «الأذكار» : يستحبّ لمن دفع زكاة، أو صدقة، أو نذرا، أو كفارة أو نحو ذلك، أن يقول رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) [البقرة] . فقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك عن إبراهيم وإسماعيل صلّى الله عليهما وسلم، وعن امرأة عمران. انتهى. * وقال تعالى في سورة البقرة أيضا (رَبَّنا) يا ربنا (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) نعمة؛ كالعافية، والزّوجة الحسنة، والدّار الواسعة، وغير ذلك مما يعين على الدّار الآخرة؛ فكلّ أمر في الدّنيا يوافق الطّبع ويعين على الدّار الآخرة فهو من حسنات الدنيا (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) هي الجنّة؛ أي: دخولها بسلام، بحيث يموت على الإسلام، ولا يلحقه حساب ولا عذاب، ويرى وجه الله الكريم. وهذا أحسن ما فسّر به حسنة الدّنيا والآخرة، وهو معنى قوله في الحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: 201] . رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 250] . لعائشة: «سلى الله العافية في الدّارين» . (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بعدم دخولها أصلا، فلا ندخلها ولا نراها. وهو من عطف اللّازم على الملزوم. قال الشّيخ عماد الدّين ابن كثير: الحسنة في الدّنيا تشمل كلّ مطلوب دنيويّ؛ من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، وولد بارّ، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيّ، وثناء جميل ... إلى غير ذلك مما شملته عباراتهم؛ فإنّها كلّها مندرجة في الحسنة في الدّنيا. وأما الحسنة في الآخرة!! فأعلاها دخول الجنّة وتوابعه؛ من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة. وأمّا الوقاية من عذاب النّار!! فهو يقتضي تيسير أسبابه من اجتناب المحارم وترك الشّبهات. انتهى ذكره ابن علان في «شرح الأذكار» . * وقال تعالى في سورة البقرة (رَبَّنا أَفْرِغْ) : اصبب (عَلَيْنا صَبْراً) كصبّ الماء على الأرض الجرز (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) بتقوية قلوبنا على الجهاد، فالمراد ب «تثبيت الأقدام» كمال القوّة، والرّسوخ عند المقارعة، وعدم التّزلزل عند المقاومة، وليس المراد تقرّرها في مكان واحد (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) : أعنّا عليهم. وفيه ترتيب بليغ؛ حيث وقع أوّلا سؤال إفراغ الصّبر على القلوب الّذي هو ملاك الأمر، ثمّ ثبات القدم في مداحض الحرب المسبّب عنه، ثمّ النّصر على العدوّ المترتّب عليهما غالبا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] . رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ... * وقال تعالى في سورة البقرة (سَمِعْنا) ما أمرنا به سماع قبول، وفيه تعريض بالردّ على من قال: سمعنا وعصينا. (وَأَطَعْنا) ؛ أي: انقدنا للطّاعة؛ ولو بالعزم عليها. نسألك (غُفْرانَكَ) . ومعنى الغفران: ستر الذّنوب؛ كبيرها وصغيرها، جليّها وخفيّها. فالإنسان يطلب المغفرة؛ ولو في حالة الطّاعة؛ بسبب ما يطرأ عليها من العجب وحبّ المحمدة، وغير ذلك من الآفات الّتي تذهبها، فالعارف لا يعتمد على أعماله أبدا، وعلامة ذلك كونه يجدّد التّوبة والاستغفار، ولو كان متلبّسا بأكبر الطّاعات. * (رَبَّنا) ؛ أي: يا ربّنا منك مبدؤنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (285) : المرجع بالبعث. (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) : لا تعاقبنا، وهو تعليم من الله لعباده كيفيّة الدّعاء، وهذا من غاية الكرم حيث يعلمهم الطّلب ليعطيهم المطلوب. وجاء بالمفاعلة، وهو فعل واحد؛ وهو الله!! لأنّ المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السّبيل إليها بفعله، فكأنّه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه؛ فحسنت المفاعلة. (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ؛ أي: تركنا الصّواب لا عن عمد؛ كتأخير الصّلاة عن وقتها في حال الغيم؛ جهلا بالوقت، وكقتل الخطأ، فلا تؤاخذنا يا ربّنا بذلك كما آخذت به من قبلنا. قيل: كان بنو إسرائيل إذا نسو شيئا مما أمروا به أو أخطأوا؛ عجّلت لهم العقوبة، فيحرم عليهم شيء ممّا كان حلالا لهم؛ من مطعم، أو مشرب- على حسب ذلك الذّنب- فأمر الله المؤمنين أن يسألوا رفع مؤاخذتهم بالخطأ والنّسيان، وقد رفع الله ذلك عن هذه الأمّة المحمّدية، كما ورد في الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمّتي الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا ... فالقصد من سؤال هذا الرّفع وطلبه الإقرار والاعتراف بهذه النّعمة، أي: إظهارها والتّحدّث بها على حدّ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [الضحى] . (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا) معطوف على لا تُؤاخِذْنا، وتوسيط النّداء [ربنا] «1» بين المتعاطفين!! لإظهار مزيد الضّراعة والالتجاء إلى الرّب الكريم، وكذا يقال في قوله وَلا تُحَمِّلْنا؛ فهو معطوف على لا تُؤاخِذْنا إلى آخر ما تقدّم. (إِصْراً) : أمرا يثقل علينا حمله. وفي «أبي السّعود» : الإصر: العناء الثّقيل الّذي يأصر صاحبه؛ أي: يحبسه مكانه، والمراد به: التّكاليف الشّاقة. وفي «السّمين» : الإصر- في الأصل-: الثّقل والشّدّة، ويطلق على العهد والميثاق لثقلهما، كقوله تعالى وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [81/ آل عمران] ؛ أي: عهدي وميثاقي وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [157/ الأعراف] ؛ أي: التّكاليف الشّاقة، ويطلق على كل ما يثقل على النّفس؛ كشماتة الأعداء. (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ؛ أي: بني إسرائيل. ومن الإصر الّذي حملوه قتل النّفس في التّوبة، فإنّهم لمّا عبدوا العجل كانت توبتهم قتل طائعهم العاصي منهم، وأما توبتنا؛ فالنّدم. ومن ذلك إخراج ربع المال في الزّكاة ... وأمّا الزّكاة في هذه الأمّة؛ فربع العشر في النّقدين، والعشر؛ أو نصفه في الحبوب. ومن ذلك قرض «2» موضع النّجاسة من الثّوب والبدن.   (1) للإيضاح (عبد الجليل) . (2) قطعه بالمقراض وهو المقصّ (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] . ومن ذلك أنّ من ارتكب منهم الخطيئة تصبح خطيئته مكتوبة على بابه، وغير ذلك من التّكاليف الشّاقة الّتي رفعها الله عن هذه الأمّة بفضله ورحمته، فله الحمد والمنّة. (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ) : قدرة (لَنا بِهِ) من التّكاليف والبلاء، فلم يكلّفنا بالحجّ من غير استطاعة؛ مثلا، ولا بالصّلاة من قيام، مع كونه مريضا لا يقدر عليه، ولا باستعمال الماء مع عدم القدرة عليه، وقد كان ينزل بمن قبلنا الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم والصّيحة والخسف والمسخ، وغير ذلك من أنواع البلايا العامة الّتي لا تبقي ولا تذر. (وَاعْفُ عَنَّا) : امح ذنوبنا من الصّحف (وَاغْفِرْ لَنا) ؛ أي: استر ذنوبنا عن أعين المخلوقات، (وَارْحَمْنا) في الرّحمة زيادة عن المغفرة؛ لأنّ الرّحمة الإحسان، وهي تشمل المغفرة الّتي هي غفر الذّنوب، وإيصال النّعم في الدّنيا والآخرة. (أَنْتَ مَوْلانا) : سيدنا، ومتولّي أمورنا، (فَانْصُرْنا) . أتى هنا بالفاء!! إعلاما بالسّببيّة، لأنّ الله تعالى لما كان مولاهم ومالك أمورهم، وهو مدبّرهم، تسبّب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم، كقولك «أنت الجواد فتكرّم علي» و «أنت البطل؛ فاحم حومتك» . (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) [البقرة] ) ، بإقامة الحجّة والغلبة في قتالهم، فإنّ من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء. والحكمة في زيادة قوله «القوم» ولم يقل «الكافرين» !! لأنّه لا يلزم من النّصرة على أفراد الكفّار النّصرة على الهيئة المجتمعة؛ لأنّ الشّخص قد يكون غالبا على كلّ أحد؛ ولا يكون غالبا على المجموع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] . رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 16] . رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ ... وفي الحديث: لمّا نزلت هذه الآية؛ فقرأها صلى الله عليه وسلم، قيل له عقب كلّ كلمة: قد فعلت. رواه مسلم، أي: قال الله له عقب كل كلمة من كلمات الدّعوات، وهي سبع، أوّلها: لا تؤاخذنا، وآخرها: فانصرنا على القوم الكافرين، فيكون قوله: «قد فعلت» وقع سبع مرّات، والمراد: قد أجبت دعاءك ومطلوبك. * وقال تعالى في سورة آل عمران (رَبَّنا لا تُزِغْ) : لا تمل (قُلُوبَنا) عن الحقّ (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ؛ أي: أرشدتنا إليه، أي: بعد وقت هدايتك إيّانا (وَهَبْ لَنا) ؛ أي: أعطنا (مِنْ لَدُنْكَ) : من عندك (رَحْمَةً) ؛ تثبيتا على الحقّ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الّذي تعطي النّوال قبل السّؤال. وفيه دليل على أنّ الهدى والضّلال من الله تعالى، وأنّه متفضّل بما ينعم به على عباده؛ أي: لا يجب عليه شيء. أي: لأنّه وهّاب. * وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) : صدّقنا بك وبرسولك؛ إجابة لدعوتك، (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ؛ إنجازا لوعدك، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بفضلك. وفي ترتيب هذا السّؤال على مجرّد الإيمان دليل على أنّه كاف في استحقاق المغفرة، وفيه ردّ على أهل الاعتزال، لأنّهم يقولون: إنّ استحقاق المغفرة لا يكون بمجرّد الإيمان. * وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا (رَبَّنا آمَنَّا) : صدّقنا (بِما أَنْزَلْتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] . رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آل عمران: 147] . رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ... وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) ؛ أي: امتثلنا ما أتى به منك إلينا (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، لك بالوحدانيّة، ولرسولك بالصّدق؛ أي: أثبت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به. * وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) صغائرنا (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) ؛ أي: تجاوزنا الحدّ في ارتكاب الكبائر. (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا، وإمدادنا بالمدد الرّوحاني من عندك، (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بالغلبة؛ وقدّم الدّعاء بالمغفرة على طلب تثبيت الأقدام، وعلى طلب النّصر على الأعداء!! تقريبا له إلى حيّز القبول، فإنّ الدّعاء المقرون بالخضوع الصّادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة. * وقال تعالى في أواخر سورة آل عمران (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الإشارة إلى السّماوات والأرض، لما أنّهما باعتبار تعلّق الخلق بهما في معنى المخلوق. والعدول عن الضّمير إلى اسم الإشارة!! للإشارة إلى أنّها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتنى بكمال تمييزها؛ استعظاما لها. (باطِلًا) : عبثا، كأنّه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب عبثا وضائعا؛ من غير حكمة، بل خلقته لحكم عظيمة، من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسببا لمعاشه، ودليلا يدلّه على معرفتك، ويحثّه على طاعتك، لينال الحياة الأبديّة، والسّعادة السّرمديّة في جوارك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191] . رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ... وقوله «باطلا» ، حال من المفعول به، وهو هذا، وهو الأحسن في إعرابه، وهي حال لا يستغنى عنها، إذ لو حذفت للزم نفي الخلق؛ وهو لا يصحّ، كما في قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) [الدخان] . (سُبْحانَكَ) ؛ تنزيها لك عن الوصف بخلق الباطل؛ (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ؛ تعليم لعباده كيفية الدّعاء، فمن أراد أن يدعو فليقدّم الثّناء على الله أوّلا، ويدلّ عليه قوله سُبْحانَكَ، وبعد ذلك الثّناء يأتي بالدّعاء، ويدلّ عليه قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ. * (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) ؛ أي: داعيا، وهو على حذف مضاف؛ أي: نداء مناد (يُنادِي) : يدعو النّاس (لِلْإِيمانِ) . قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وأكثر المفسّرين: المنادي هو محمّد صلى الله عليه وسلم. ويدلّ على صحّة هذا قوله تعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [125/ النحل] . وقوله وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [46/ الأحزاب] . وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي هو القرآن؛ قال: إذ ليس كلّ أحد لقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ووجه هذا القول: أنّ كلّ أحد يسمع القرآن ويفهمه، فإذا وفّقه الله تعالى للإيمان به فقد فاز به، وذلك لأنّ القرآن مشتمل على الرّشد والهدى وأنواع الدّلائل الدّالة على الوحدانيّة؛ فصار كالدّاعي إليها، فعلى القول الأوّل: إسناد النّداء إليه حقيقيّ، وعلى القول الثّاني: إسناد النّداء إليه مجازي، واللّام في لِلْإِيمانِ بمعنى «إلى» ؛ يعني: ينادي إلى الإيمان. (أَنْ) ؛ أي: بأن آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ؛ أي: صدّقوا بأنّه يجب له كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: 193- 194] . رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ... كمال، ويستحيل عليه كلّ نقص، (فَآمَنَّا) به. (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ؛ أي: كبائر ذنوبنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) : صغائر ذنوبنا، (وَتَوَفَّنا) : اقبض أرواحنا (مَعَ) : في جملة (الْأَبْرارِ) : الأنبياء والصّالحين، أي: احشرنا معهم واجعلنا في زمرتهم، (رَبَّنا) حقّق لنا ما ذكر، (وَآتِنا) : أعطنا (ما وَعَدْتَنا) به (عَلى) ألسنة (رُسُلِكَ) من الرّحمة والفضل، أي: ربّنا اجعلنا ممّن يستحقّ ثوابك، وتؤتيهم ما وعدتهم به على ألسنة رسلك، لأنّا لم نتيقّن استحقاقنا لتلك الكرامة، فنسألك أن تجعلنا مستحقّين لها. وتكرير لفظ رَبَّنا مبالغة في التّضرّع، ولما قيل: إنّه الاسم الأعظم. وعن جعفر الصّادق: من حزبه أمر؛ فقال خمس مرّات «ربّنا» ، أنجاه الله ممّا يخاف، وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك!؟ قال: اقرأوا قوله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .... وهي من أوراد الصّالحين تقرأ إلى آخر السّورة عند الاستيقاظ من النّوم، فمن لازم عليها تحقّق بما فيها، وحصل له ثواب من قام اللّيل؛ قاله الصّاوي. (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لقوله وَلا تُخْزِنا؛ أي: لا تفضحنا في ذلك اليوم؛ لأنّ الإنسان ربّما يظن أنّه على عمل ويبدو له في الآخرة ما لم يكن في حسبانه؛ فيفتضح، فلا تكرار فيه مع قوله وَقِنا عَذابَ النَّارِ. (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) مصدر بمعنى الوعد بالبعث والجزاء. * وقال تعالى في سورة الأعراف (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) : أضررناها بمخالفة أمرك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] . رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف: 89] . رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126] . رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ... وطاعة عدوّنا وعدوّك، فإن لم تتب علينا نستمرّ عاصين (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) : تمح ما عملناه عينا وأثرا، (وَتَرْحَمْنا) فتعلي درجاتنا؛ (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) في الأرض. * وقال تعالى في سورة الأعراف أيضا (رَبَّنَا افْتَحْ) : احكم (بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا) : الكفّار؛ (بِالْحَقِّ) : بالعدل الّذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) : الحاكمين. * (رَبَّنا أَفْرِغْ) : اصبب (عَلَيْنا صَبْراً) كاملا تامّا، (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف] ) ؛ أي: اقبضنا على دين الإسلام ثابتين عليه غير مفتونين. وفي الآية فوائد؛ الأولى: أنّ التعبير ب أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أكمل من التّعبير ب «أنزل علينا صبرا» ؛ لأنّ إفراغ الإناء هو صبّ ما فيه بالكليّة، فكان المطلوب من الله تعالى كلّ الصّبر؛ لا بعضه. الثانية: أنّ لفظ صَبْراً مذكور بصيغة التّنكير، وذلك يدلّ على تمام الكمال، أي: صبرا تامّا كاملا. الثّالثة: أنّ ذكر الصّبر من قيل الدّاعي ومن أعماله، ثمّ إنّه مطلوب من الله تعالى؛ وذلك يدلّ على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه. * وقال تعالى في سورة يونس (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ؛ أي: لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنّهم على الحقّ فيفتتنوا بنا، لأنّك لو سلّطتهم علينا لوقع في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [يونس: 85- 86] . رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [هود: 47] . فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ... قلوبهم أن لو كنا على الحقّ لما سلّطهم الله علينا؛ فيصير ذلك شبهة قويّة في إصرارهم على كفرهم؛ فيصير تسلّطهم علينا فتنة لهم. (وَنَجِّنا) : خلصنا (بِرَحْمَتِكَ) ؛ أي: إحسانك وإنعامك، (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الجاحدين لآياتك. * وقال تعالى في سورة هود (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) من (أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) بصحّته، هل هو صواب أو لا!! (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط منّي، (وَتَرْحَمْنِي) برحمتك الّتي وسعت كلّ شيء (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا. * وقال تعالى في سورة يوسف (فاطِرَ) ؛ أي: يا فاطر (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي: خالقهما، (أَنْتَ وَلِيِّي) ؛ أي: متولّي مصالحي (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) ؛ أي: اقبضني إليك مسلما (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) بعامّتهم في الرّتبة والكرامة. * وقال تعالى في سورة إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) : مواظبا عليها بشروطها وأركانها وآدابها، وَاجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِي) ، من يقيمها؛ (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) بإثبات الياء وصلا ووقفا، وحذفها كذلك، قراءتان سبعيتان، أي: استجب دعائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 40- 41] . رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نوح: 28] . ورَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء: 24] . رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ... (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) : أبي وأمي (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ) : يوجد (الْحِسابُ) . * وقال تعالى (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) ؛ هذا مأخوذ من [28] سورة نوح، وهو توطئة لقوله: (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما) رحماني حين (رَبَّيانِي صَغِيراً) ؛ لأنه مأخوذ من سورة الإسراء. ولفظ الآية في الإسراء* وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) انتهى. والمصنف قدّم قوله رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ. المأخوذ من سورة نوح توطئة؛ ليكون عود الضّمير على مذكور؛ وعطف على ذلك آية الإسراء، وهو صنيع حسن. * وقال تعالى في سورة الإسراء (رَبِّ أَدْخِلْنِي) في كلّ مقام تريد إدخالي فيه، حسّيّ ومعنويّ؛ دنيا وأخرى (مُدْخَلَ صِدْقٍ) يستحقّ الدّاخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، فإنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها. (وَأَخْرِجْنِي) من كلّ ما تخرجني منه، (مُخْرَجَ صِدْقٍ) والمدخل والمخرج- بالضمّ- مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، فهما كالمجرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الإسراء: 80] . رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف: 10] . قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 25- 26] . والمرسى، ومعنى إضافة «المدخل» و «المخرج» إلى الصدق مدحهما؛ كأنّه سأل الله تعالى إدخالا حسنا، وإخراجا حسنا لا يرى فيهما ما يكره. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) ؛ أي: عندك، (سُلْطاناً نَصِيراً) : حجّة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالف الحقّ. قال الألوسي: المراد من السّلطان كلّ ما يفيد الغلبة على أعداء الله تعالى، ويفيد ظهور دينه جلّ شأنه، هذا هو الحقّ ووصف السّلطان ب «نصيرا» للمبالغة. انتهى. * وقال تعالى في سورة الكهف (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو، وفي ذلك مِنْ لَدُنْكَ إيماء إلى أنّ ذلك من باب التّفضّل؛ لا الوجوب، فكأنّهم قالوا ربنا تفضّل علينا برحمة؛ (وَهَيِّئْ) : أصلح أو يسّر (لَنا مِنْ أَمْرِنا) الّذي نحن عليه. (رَشَداً) هداية وتثبيتا على الإيمان، وتوفيقا للأعمال الصّالحة، وانقطاعا عن الاشتغال بالدّنيا، وزهدا فيها. * وقال تعالى في سورة طه (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ؛ أي: وسّعه للحقّ وتحمّل المشاقّ؛ بأن تجعله بحيث لا أضجر ولا أقلق ممّا يقتضي بحسب البشريّة؛ الضّرّ والقلق من الشّدائد. وفي الرّاغب: إنّ شرح الصّدر بسطه بنور إلهيّ، وسكينة من جهة الله تعالى، وروح منه عزّ وجلّ. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) : ما أمرتني به، والتّعبير بذلك آكد من: اشرح صدري ويسّر أمري. لأنّه تكرير للمعنى من طريقي الإجمال والتّفصيل؛ لأنّه يقول: اشرح لي ويسر لي، علم أنّ «ثمّ» مشروحا وميسّرا. ثمّ رفع الإبهام بذكر الصّدر والأمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] . لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] . * وقال تعالى في سورة طه أيضا (رَبِّ) أيّها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ؛ (زِدْنِي عِلْماً) ، فإنّه الموصل إلى المطلوب. أخرج التّرمذي وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كلّ حال» . وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد؛ عن ابن مسعود أنّه كان يدعو: «اللهمّ؛ زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما» . وما هذا إلّا لزيادة فضل العلم. وفضله أظهر من أن يذكر؛ نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزّيادة فيه، ويوفّقنا للعمل بما يقتضيه. آمين. * وقال تعالى في سورة الأنبياء (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) : الشّدّة (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ؛ أي: أنت أعظم رحمة من كلّ من يتّصف بالرّحمة في الجملة، وإلّا فلا راحم في الحقيقة سواه؛ جلّ شأنه وعلاه. ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرّحمة بعد ما ذكر الدّاعي نفسه بما يوجبها؛ مكتفيا بذلك عن التّضرع بالمطلوب من استمطار سحائب الرّحمة على ألطف وجه، وكونه سبحانه «ضارّا» لا ينافي كونه «نافعا» ، بل هو الضّار النّافع، فإضراره ليس لدفع مشقّة، ونفعه ليس لجلب منفعة، بل لا يسأل عمّا يفعل. * وقال تعالى في سورة الأنبياء أيضا (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) ؛ أي: تنزّهت عن كلّ نقص (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بتعريضها للهلكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: 89] . رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ... فاعف عنّي؛ كما هي سيرة القادرين، وهو اعتراف بالذّنب، وإظهار للتّوبة. وهذا دعاء عظيم جدّا لاشتماله على التّهليل أوّلا، ثمّ التّسبيح ثانيا، ثمّ الإقرار بالذّنب ثالثا، ولذا ورد في فضل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد، والتّرمذي، والنّسائي، والحكيم التّرمذي؛ في «نوادر الأصول» ، والحاكم وصحّحه، وابن جرير، والبيهقي في «الشّعب» ، وجماعة؛ عن سعد بن أبي وقّاص؛ عن النّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «دعوة ذي النّون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين؛ لم يدع بها مسلم ربّه في شيء قطّ إلّا استجاب له» . وأخرج ابن أبي حاتم؛ عن الحسن: أنّ ذلك اسم الله تعالى الأعظم. وأخرج ذلك الحاكم؛ عن سعد مرفوعا. وقد شاهدت أثر الدّعاء به- ولله تعالى الحمد- حين أمرني بذلك من أظنّ ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب، وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به؛ قاله الألوسي في «روح المعاني» . * وقال تعالى في سورة الأنبياء أيضا (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) : وحيدا بلا ولد يرثني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ، أي: وأنت خير حيّ يبقى بعد ميّت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء؛ وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عزّ وجلّ. * وقال تعالى في آخر سورة الأنبياء (رَبِّ) أيّها المحسن إليّ؛ (احْكُمْ) : اقض بيني وبين أعدائي (بِالْحَقِّ) : بالعدل، والله سبحانه وتعالى يحكم بالحقّ طلب أو لم يطلب، ومعنى الطّلب: ظهور الرّغبة من الطّالب في حكمه الحقّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [الأنبياء: 112] . رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون: 29] . رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 94] . وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ... (وَرَبُّنَا) ؛ أي: المحسن إلينا أجمعين (الرَّحْمنُ) العامّ الرّحمة لنا وللأعداء، ولولا عموم رحمته لأهلكنا جميعا؛ وإن كنّا طائعين، لأنّا لا نقدّره حقّ قدره، وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [45/ فاطر] (الْمُسْتَعانُ) : المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) : تقولون أيّها الأعداء من الكذب والباطل. * وقال تعالى في سورة المؤمنين (رَبِّ أَنْزِلْنِي) في كلّ منزل تنزلني به (مُنْزَلًا مُبارَكاً) : يبارك لي فيه، وأعطى الزّيادة في خير الدّارين، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ؛ لأنّك تكفي نزيلك كل ملمّ، وتعطيه كلّ حاجة. وإنما أشفع الدّعاء بالثّناء عليه المطابق للمسألة؛ توسّلا به إلى الإجابة، فإنّ الثّناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه، وقد قالوا: الثّناء على الكريم يغني عن سؤاله. * وقال تعالى في سورة المؤمنين (رَبِّ) يا رب (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، أي: قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب، فأهلك بهلاكهم؛ لأن شؤم الظّالم قد يعمّ غيره، كقوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25/ الأنفال] . * (رَبِّ) ؛ أيّها المحسن إليّ (أَعُوذُ) : أعتصم (بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) ؛ أي: وساوسهم المغرية، على خلاف ما أمرت به؛ جمع همزة، والهمز: النّخس والدّفع بيد أو غيرها، ومنه: «مهماز الرّائض» ؛ لحديدة تربط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97- 98] . رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 109] . رَبِّ اغْفِرْ ... على مؤخّر رحله ينخس بها الدّابّة لتسرع، أو لتثبت. وإطلاق ذلك على الوسوسة لما بينهما من الشّبه الظّاهر، فإنّ الشّياطين يحثّون النّاس على المعاصي، كما تهمز الرّاضة الدّواب؛ حثّا لها على المشي، وجمع الهمزات!! لتنوّع الوساوس، أو لتعدّد الشّياطين. والمعنى: أتحصّن بك من وساوس الشّياطين. (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ، في شيء من أموري؛ خصوصا حال الصّلاة والقراءة وحلول الأجل؛ لأنّها أحرى الأحوال، وهم إنّما يحضرون بسوء. وفي التعوّذ من الحضور بعد التعوّذ من همزاتهم مبالغة في التّحذير من ملابستهم، فإنّ بعدهم بركة وخير؛ وإعادة الفعل والنّداء لإظهار كمال الاعتناء بهذه الاستعاذة وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء، ويسنّ التعوّذ من همزات الشّياطين وحضورهم عند إرادة النّوم. فقد أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائي، والتّرمذي وحسّنه؛ عن عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهنّ عند النّوم من الفزع: «باسم الله؛ أعوذ بكلمات الله التّامّة من غضبه وعقابه، وشرّ عباده، ومن همزات الشّياطين، وأن يحضرون» . * وقال تعالى في سورة المؤمنون أيضا (رَبَّنا) يا ربّنا (آمَنَّا) بك وبكتابك وبرسولك وجميع ما جاءتنا به الرّسل، (فَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَارْحَمْنا) : افعل بنا فعل الرّاحم؛ (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ؛ لأنّك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان. * وقال تعالى في آخر سورة المؤمنين (رَبِّ) ؛ أي: يا رب (اغْفِرْ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 118] . رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: 65- 66] . الذّنوب، (وَارْحَمْ) عبادك المؤمنين. وفي الرّحمة زيادة؛ وهي إيصال الإحسان زيادة على غفران الذّنب، فذكر الرّحمة بعد المغفرة تحلية بعد تخلية، ففي الغفران محو السّيّئات، وفي الرّحمة رفع الدّرجات، وأيضا الغفران قد يكون من غير إحسان، الّذي هو معنى الرّحمة. (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) : أفضل راحم. وطلب كلّ من المغفرة والرّحمة أعمّ من طلب أصل الفعل والمداومة عليه. وفي تخصيص هذا الدّعاء بالذكر ما يدلّ على أهمّيّة ما فيه. وقد علّم النّبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته، فقد أخرج البخاريّ، ومسلم، والتّرمذي، والنّسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وجماعة؛ عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه أنّه قال: يا رسول الله؛ علّمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهمّ؛ إنّي ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم» . * وقال تعالى في سورة الفرقان (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) : هلاكا لازما لزوما كلّيّا في حقّ الكفّار، ولزوما بعده إطلاق إلى الجنّة في حقّ عصاة المؤمنين. (إِنَّها) ؛ أي: جهنم (ساءَتْ) في حكم «بئست» ، وفيها ضمير مبهم يفسّره مُسْتَقَرًّا، والمخصوص بالذّمّ محذوف، معناه: ساءت (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) هي، أي: موضع استقرار وإقامة، وهذا الضّمير هو العائد على اسم «إنّ» فهو الرّابط للجملة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] . رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 83- 85] . * وقال تعالى في سورة الفرقان أيضا (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا) الّلاتي قرنتهنّ بنا (وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) بتوفيقهم للطّاعة وحيازة الفضائل، فإنّ المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سرّ بهم قلبه، وقرّت بهم عينه، لما يرى من مساعدتهم له في الدّين، وتوقّع لحوقهم به في الجنّة، فقرّة العين هو سرورها، والمراد: ما يحصل به السّرور؛ والمعنى: اجعل أزواجنا وذرّيّاتنا صالحين؛ لكي نسرّ بهم. (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في الخير، أي: اجعلنا أئمّة يقتدى بنا في أمر الدّين بإفاضة العلم علينا، والتّوفيق للعمل الصّالح؛ ولفظ «إمام» يستوي فيه الجمع وغيره، والمراد هنا: الجمع، ليطابق المفعول الأوّل «اجعل» . واختير لفظ «إمام» على «أئمّة» !! لأنّه أوفق بالفواصل السّابقة واللّاحقة. * وقال تعالى في سورة الشّعراء (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) : كمالا في العلم والفهم. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) : وفّقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصّلاح، الّذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره. (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) - من إضافة الموصوف للصّفة، أي: ثناء حسنا من باب تسمية الشّيء باسم آلته- (فِي الْآخِرِينَ) الّذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة، (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) ، أي: ممن يعطاها بلا تعب ومشقّة، كالإرث الحاصل للإنسان من غير تعب؛ وإضافة الجنّة إلى النّعيم!! من إضافة المحلّ للحالّ فيه؛ و «من» تبعيضيّة، أي: اجعلني بعض الّذين يرثون جنّة النّعيم، أي: اجعلني مندرجا فيهم، ومن جملتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87- 89] . رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 169] . رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] . (وَلا تُخْزِنِي) ؛ من الخزي، بمعنى: الهون، أو من الخزاية- بفتح الخاء- بمعنى: الحياء، أي: لا تفضحني بأن تكشف عيوبي بين خلقك. (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) ؛ أي: النّاس، أي: يوم القيامة. قال تعالى في شأنه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ) يكن (أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشّرك والنّفاق؛ وهو قلب المؤمن، فإنّه ينفعه ذلك. * وقال تعالى في سورة الشّعراء (رَبِّ) ؛ أي: يا رب (نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) ؛ أي: من عذاب ما يعملون. * وقال تعالى في سورة النّمل (رَبِّ أَوْزِعْنِي) : ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) : أؤدّي شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أدرج ذكر والديه!! تكثيرا للنّعمة ليزداد في الشّكر عليها، فإنّ النّعمة عليهما نعمة عليه، والنّعمة عليه يرجع نفعها إليهما، لا سيّما الدّينيّة، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) خالصا، وقيّده بقوله (تَرْضاهُ) ؛ أي: تقبله؛ لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل: إذا كان المحبّ قليل حظّ ... فما حسناته إلّا ذنوب (وَأَدْخِلْنِي) الجنّة (بِرَحْمَتِكَ) ؛ لا بصالح عملي، إذ لا يدخل الجنّة أحد إلّا برحمته؛ كما جاء في الحديث، (فِي) جملة (عِبادِكَ) ، فهو على حذف مضاف، أو «في» بمعنى «مع» عبادك، (الصَّالِحِينَ) : القائمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] . رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] . رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت: 30] . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] . رَبِّ أَوْزِعْنِي ... بحقوق الله تعالى وحقوق العباد؛ والمراد: الكاملون في الصّلاح؛ لأنّ الصّلاح مقول بالتّشكيك، فما من مقام إلّا وفوقه أعلى منه، والكامل يقبل الكمال. * وقال تعالى في سورة القصص: (رَبِّ) ؛ يا رب، (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [16] ) زلتي. * وقال تعالى في سورة القصص أيضا (رَبِّ) ؛ أي: يا رب، (إِنِّي لِما) : لأيّ شيء، (أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) ؛ قليل أو كثير، (فَقِيرٌ) : محتاج؛ فقوله لِما أَنْزَلْتَ متعلّق ب فَقِيرٌ، وهو خبر «إنّ» و «أنزلت» بمعنى: تنزل؛ والمعنى: إنّي فقير ومحتاج لما تنزله إليّ من أيّ شيء كان؛ قليلا أو كثيرا. * وقال تعالى في سورة العنكبوت (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) : العاصين. * وقال تعالى في سورة الصّافات (رَبِّ هَبْ لِي) ولدا (مِنَ الصَّالِحِينَ) ؛ بعض الصالحين ليعينني على الدّعوة والطّاعة، ويؤنسني في الغربة؛ ويرثني. ولفظ الهبة غالب في الولد؛ وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم] !!. * وقال تعالى في سورة الأحقاف (رَبِّ) ؛ يا رب (أَوْزِعْنِي) : ألهمني؛ من أوزعته بكذا؛ أي: جعلته مولعا به؛ راغبا في تحصيله. فالمعنى: رغّبني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف: 15] . رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ... ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وهي نعمة التّوحيد والهداية، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) ؛ بأن يكون سالما من غوائل عدم القبول؛ كالرّياء والعجب وغيرهما، أي: اجعل عملي على وفق رضاك. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) ؛ أي: اجعل الصّلاح ساريا في ذرّيّتي؛ راسخا فيهم. ونزّل الإصلاح منزلة اللّازم؛ فعدّي ب «في» ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصّلاح فيهم، وكونهم كالظّرف له؛ لتمكّنه فيهم، وإلّا فكان الظّاهر: «وأصلح لي ذرّيّتي» ، كما في قوله تعالى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [90/ الأنبياء] . وقيل: عدّي ب «في» لتضمّنه معنى اللّطف؛ أي: الطف بي في ذرّيّتي، والأوّل أحسن. (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عمّا لا ترضاه، وعن كلّ ما يقدح في الإقبال عليك، (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ؛ أي: الّذين أسلموا بظواهرهم وبواطنهم؛ فانقادوا أتمّ انقياد. * وقال تعالى في سورة الحشر (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) في الدّين؛ (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ؛ كلّ واحد من قائلي هذا القول يقصد بمن سبقه من انتقل قبله من غير فاصل، وينتهي إلى عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيدخل في إخوانه الّذين سبقوه بالإيمان جميع من تقدّمه من المسلمين، ولا يقصد بالّذين سبقوه خصوص المهاجرين والأنصار لقصوره؛ وإن كان أصل سبب النزول. (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) : حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ؛ أي: مطلق المؤمنين أيّا كانوا في أدنى درجاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] . رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة: 4- 5] . رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ... وقيّدوا بالقلب!! لأنّ رذائل النّفس قلّ أن تنفكّ، وأنّها إن كانت مع صحّة القلب. أو شك ألاتؤثر. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ) : راحم أشدّ الرّحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير، (رَحِيمٌ) ؛ مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن له بك وصلة، فأنت جدير بأن تجيبنا لأنّا بين أن تكون لنا وصلة؛ فنكون من أهل الرّأفة، أو لا، فنكون من أهل الرّحمة. * وقال تعالى في سورة الممتحنة (رَبَّنا) ؛ أي: يا ربنا (عَلَيْكَ) ؛ لا على غيرك (تَوَكَّلْنا) : اعتمدنا، (وَإِلَيْكَ) وحدك (أَنَبْنا) : رجعنا بالاعتراف من ذنوبنا، (وَإِلَيْكَ) وحدك (الْمَصِيرُ) : المرجع في الآخرة. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ أي: لمّا تظهرهم علينا؛ فيظنّوا أنّهم على الحقّ؛ فيفتتنوا. أي: لا تذهب عقولهم بنا، ومعنى ذهابها: ميلها عن الحقّ وخطؤها. (وَاغْفِرْ لَنا) ؛ أي: استر ما وقع منّا من الذّنوب، (رَبَّنا) يا ربنا؛ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) : الّذي يغلب كلّ شيء ولا يغلبه شيء. (الْحَكِيمُ) : الّذي يضع الأشياء في أوفق محالّها؛ فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطي من أمّله ما طلب. * وقال تعالى في سورة التّحريم (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا) على الصّراط (نُورَنا) الّذي مننت به علينا؛ حتّى يكون في غاية التّمام، وهذا النّور من صور أعمالهم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ [التحريم: 8] . رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [نوح: 28] . الدّنيا، لأنّ الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء، وتتبع الصّور معانيها، وهو شرع الله الّذي شرعه؛ وهو الصّراط الّذي يضرب بين ظهراني جهنّم، لأنّ الفضائل في الدّنيا متوسّطة بين الرّذائل؛ فكلّ فضيلة يكتنفها رذيلتان: إفراط وتفريط؛ فالفضيلة: هي الصّراط المستقيم؛ والرذيلتان: ما كان من جهنّم على يمينه وشماله؛ فمن كان يمشي في الدّنيا على ما أمر به سواء؛ من غير إفراط ولا تفريط؛ كان نوره تامّا، ومن أمالته الشّهوات طفىء نوره في بعض الأوقات، واختطفته كلاليب، هي صورة الشّهوات، فتميل به في النّار بقدر ميله إليها؛ والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التّوحيد؛ فإذا مشى طفئ، لأنّ إقراره لا حقيقة له. (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (إِنَّكَ) وحدك (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) يمكن دخول المشيئة فيه (قَدِيرٌ) (8) : بالغ القدرة. * وقال تعالى في سورة نوح (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) : منزلي، وقيل: مسجدي، والمتبادر: المنزل (مُؤْمِناً) ؛ أي: مصدّقا بالله تعالى وهو حال، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [28] من كلّ أمّة إلى يوم القيامة؛ فهو دعاء عامّ في كلّ مؤمن آمن بالله وصدّق الرّسل. وإنّما بدأ بنفسه!! لأنّها أولى بالتّخصيص والتّقديم، ثمّ ثنّى بالمتّصلين به؛ لأنّهم أحقّ بدعائه من غيرهم، ثمّ عمّم جميع المؤمنين والمؤمنات؛ ليكون ذلك أبلغ في الدّعاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 1- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بوجهك الكريم واسمك العظيم؛ من الكفر والفقر» (طب؛ عن عبد الرّحمن ابن أبي بك) . 2- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من العجز ... 1- ( «اللهمّ) - الميم عوض من «يا» ، ولذا لا يجتمعان، وهو من خصائص هذا الاسم؛ لدخولها عليه مع لام التّعريف، كما خصّ بالباء في القسم، وقطع همزته في «يا ألله» ، وقيل: أصل «يا ألله» آمنا بخير، فخفّف بحذف حرف النّداء؛ ذكره القاضي البيضاوي. وقد كثر استعمال كلمة «اللهمّ» في الدّعاء. وجاء عن الحسن البصري: «اللهمّ» مجتمع الدّعاء. وعن النّضر بن شميل: من قال «اللهمّ» ؛ فقد سأل الله بجميع أسمائه-. (إنّي أعوذ) : أعتصم (بوجهك الكريم) قال البيضاوي: وجه الله مجاز عن ذاته عزّ وجلّ، تقول العرب «أكرم الله وجهك» ، بمعنى: أكرمك؛ والكريم: الشّريف النّافع الّذي لا ينفد عطاؤه. (واسمك العظيم) ؛ أي: الأعظم من كلّ شيء؛ (من الكفر) بجميع أنواعه، (والفقر» ) ؛ أي: فقر المال، أو فقر النّفس. وذا تعليم لأمّته. قيل: وهذا يعارض «لا يسأل بوجه الله إلّا الجنّة» !! وأجيب بأنّ الاستعاذة من الكفر سؤال الجنة. (طب) ؛ أي: أخرجه الطّبراني في كتاب «السّنّة» له؛ (عن عبد الرّحمن بن أبي بكر) الصّدّيق «شقيق عائشة رضي الله تعالى عنهما» ، حضر بدرا مع الكفّار، ثمّ أسلم، وكان من أشجع قريش وأرماهم بسهم، تأخّر إسلامه إلى قبيل الفتح؛ قال الحافظ الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم؛ 2- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من العجز) - بسكون الجيم-: عدم القدرة على الخير، وقيل: ترك ما يجب فعله؛ والتّسويف به. وقال المناوي: سلب القوّة؛ وتخلّف التّوفيق، إذ صفة العبد العجز، وإنّما يقوى بقوّة يحدثها الله، فكأنّه استعاذ به أن يكله إلى أوصافه، فإنّ كل من رد إليه فقد خذل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 والكسل، والجبن والبخل والهرم، والقسوة والغافلة والعيلة، والذّلّة والمسكنة، ... (والكسل) : التّثاقل والتّراخي عمّا لا ينبغي التّثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النّفس للخير وقلّة الرّغبة فيه مع إمكانه؛ والعاجز معذور، والكسلان غير معذور. (والجبن) - بضمّ فسكون-: الضّعف عن تعاطي القتال؛ خوفا على المهجة. (والبخل) ؛ وهو- في الشّرع-: منع الواجب، وفي اللّغة-: منع السّائل المحتاج عمّا يفضل عن الحاجة. (والهرم) - كبر السّنّ المؤدّي إلى تساقط القوى، وذهاب العقل، وتخبّط الرّأي- وقال العلقمي: قال شيخنا: هو الردّ إلى أرذل العمر؛ لما فيه اختلال العقل والحواسّ والضّبط والفهم، وتشويه بعض المنظر، والعجز عن كثير من الطّاعات، والتّساهل في بعضها. قال الموفّق البغداديّ: هو اضمحلال طبيعيّ وطريق للفناء ضروريّ، فلا شفاء له. (والقسوة) : غلظ القلب وصلابته، (والغافلة) : غيبة الشّيء المهمّ عن البال، وعدم تذكّره، واستعمل في تاركه إهمالا وإعراضا؛ كما في قوله تعالى وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) [الأنبياء] . (والعيلة) - بالفتح-: الفقر، وهو مصدر «عال؛ يعيل؛ عيلة» : إذا افتقر، من باب باع، فهو عائل والجمع عالة؛ وهي على تقدير فعله، مثل: كافر وكفره، وفي نسخة شرح عليها العزيزي: والقلّة بدل العيلة؛ وهي بكسر القاف: قلّة المال بحيث لا يجد كفافا. (والذّلّة) - بالكسر-: الهوان على النّاس بحيث يستخفّون به؛ وينظرون إليه بعين الاحتقار. (والمسكنة) ؛ أي: قلّة المال مع سوء الحال، وأما قلّة المال مع الصّبر؛ فممدوح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشّقاق، والنّفاق والسّمعة والرّياء، وأعوذ بك من الصّمم والبكم والجنون والجذام، ... (وأعوذ بك من الفقر) ؛ أي: فقر النّفس، لا ما هو المتبادر من معناه من إطلاقه على الحاجة الضّروريّة، فإنّ ذلك يعمّ كلّ موجود* يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) [فاطر] . (والكفر) عنادا؛ أو جحودا؛ أو نفاقا، وأورده عقب الفقر!! لأنّ الفقر قد يفضي إليه. (والفسوق) : الخروج عن الاستقامة والجور، ومنه قيل للعاصي: فاسق. (والشّقاق) ؛ أي: التّخاصم المؤدّي إلى أن يصير كلّ من المتخاصمين في شقّ؛ أي: جهة، كأنّ كلّ فريق يحرص على ما يشقّ الآخر، فيؤدّي إلى عدم الألفة. (والنّفاق) الحقيقي؛ أو المجازي، (والسّمعة) - بضمّ السّين وسكون الميم-: إعلام بالعبادة بعد فعلها ليقال بصلاحه. (والرّياء) - بكسر الرّاء، وتخفيف التّحتيّة، والمد-: فعل العبادة؛ والنّاس يطّلعون ليقولوا بصلاحه. فالسّمعة: أن يعمل لله خفية، ثمّ يتحدّث بها تنويها. والرّياء: أن يظهر العبادة بقصد رؤية النّاس لها ليحمدوه. وقال ابن عبد السّلام: الرّياء أن يعمل لغير الله تعالى. وذكر هذه الخصال!! لكونها أقبح خصال النّاس، فاستعاذته منها إبانة عن قبحها، وزجر النّاس عنها بألطف وجه، وأمر بتجنّبها بالالتجاء إلى الله. (وأعوذ بك من الصّمم) : بطلان السّمع أو ضعفه، (والبكم) - بالتّحريك-: الخرس، أو: أن يولد لا ينطق ولا يسمع، والخرس: أن يخلق بلا نطق. (والجنون) : زوال العقل. (والجذام) : هو علّة يحمرّ منها العضو، ثمّ يسودّ، ثمّ يتقطّع ويتناثر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 والبرص وسيّء الأسقام» . (ك، هق؛ عن أنس) . 3- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ... قال المناوي: علّة تسقط الشّعر وتفتّت اللّحم، وتجري الصّديد منه. (والبرص) : هو بياض شديد يبقّع الجلد ويذهب دمويّته. (وسيّء الأسقام» ) : الأمراض الفاحشة الرّديئة المؤدّية إلى فرار الحميم «1» ، وقلّة الأنيس أو فقده؛ كالاستسقاء والسّل والمرض المزمن؛ وهذا من إضافة الصّفة للموصوف، أي: الأسقام السّيّئة. قال التوربشتي: ولم يستعذ من سائر الأسقام!! لأنّ منها ما إذا تحامل الإنسان فيه على نفسه بالصّبر خفّت مؤنته؛ كحمّى وصداع ورمد. وإنّما استعاذ من السّقم المزمن؛ فينتهي صاحبه إلى حال يفرّ منه الحميم، ويقلّ دونه المؤانس والمداوي مع ما يورث من الشّين. وهذه الأمراض لا تجوز على الأنبياء، بل يشترط في النّبي سلامته من كل منفّر؛ وإنّما ذكرها تعليما للأمّة كيف تدعو. (ك هق) ؛ أي: أخرجه الحاكم، والبيهقي في «السّنن» في «كتاب الدّعاء» ؛ (عن أنس) ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهمّ ... » إلى آخره. قال الحاكم: صحيح. وأقرّه الذّهبي. 3- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع) : هو 1- ما لم يأذن في تعلّمه شرعا؛ كعلم الفلسفة، أو 2- ما لا يصحبه عمل، أو 3- ما لا يهذّب الأخلاق الباطنة فيسري منها إلى الأفعال الظّاهرة؛ ويفوز بها إلى الثّواب الآجل، وأنشد: يا من تقاعد عن مكارم خلقه ... ليس التّفاخر بالعلوم الزّاخرة من لم يهذّب علمه أخلاقه ... لم ينتفع بعلومه في الآخرة   (1) الصّديق، لا المصاب بالحمى المسمّى «المحموم» . (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، ومن الجوع فإنّه بئس الضّجيع، ومن الخيانة فإنّها بئست البطانة، ... (وقلب لا يخشع) لذكر الله سبحانه، ولا لاستماع كلامه، وهو القلب القاسي الّذي هو أبعد القلوب من حضرة علّام الغيوب. وإنّ أبعد قلوب النّاس ... من ربّنا الرّحيم قلب قاسي (ودعاء لا يسمع) سماع قبول؛ أي: لا يستجاب ولا يعتدّ به، فكأنّه غير مسموع. (ونفس لا تشبع) من جمع المال، أو من كثرة الأكل؛ الجالبة لكثرة الأبخرة؛ الموجبة لكثرة النّوم، المؤدّية إلى فقر الدّنيا والآخرة. ويؤخذ من الحديث جواز السّجع في الأدعية؛ ومحلّه إذا لم يكن بتكلّف واستعمال فكره، وإلّا كره؛ لما فاته في مقام الدّعاء من الخضوع والذّلّة والخشوع. (ومن الجوع) ؛ حقيقته: أنّه الألم الحاصل من خلوّ المعدة من المأكول؛ ولا ينافي ذلك قول أهل الطّريق: إنّ الجوع مطلوب لرياضة النّفس، لأنّ المستجار منه هو الّذي ليس فيه مصلحة شرعيّة، أو يضرّ بالجسد. (فإنّه بئس الضّجيع) : المضاجع لي في فراشي. استعاذ منه، لأنّه يمنع استراحة البدن، ويحلّل المواد المحمودة بلا بدل، ويشوّش الدّماغ، ويورث الوسواس، ويضعف البدن عن القيام بوظائف العبادات؛ لا سيّما قيام التّهجّد. (ومن الخيانة) : مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ، سواء كانت خيانة للغير؛ كالخيانة في الوديعة، أو خيانة للنّفس؛ كأن لا يمتثل المأمورات والمنهيّات، فمن ضيّع شيئا ممّا أمر الله به؛ أو ارتكب شيئا ممّا نهى الله عنه فقد خان نفسه، إذ جلب إليها الذّم في الدّنيا والعقاب في الآخرة. (فإنّها بئست البطانة) - بكسر الباء؛ ضد الظهارة- وهي في الأصل: الثّوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 ومن الكسل والبخل والجبن، ومن الهرم، وأن أردّ إلى أرذل العمر، ومن فتنة الدّجّال وعذاب القبر، ... الملاصق للجسد، والجهة الّتي لا تلاصقه تسمّى «ظهارة» ، فاستعيرت لكلّ شيء ملازم، يقال: بطانة الرّجل: أهله وعياله؛ والمراد هنا: الصّفة الملازمة للشّخص؛ أي: بئست الخصلة الّتي يحرص عليها الشّخص ويخفيها؛ فشبّهها ببطانة الثّوب الملاصق للجسد الّتي لها ظهارة؛ بجامع الخفاء. (ومن الكسل) : عدم انبعاث النّفس لفعل الخير، (والبخل) : منع السّائل المحتاج عمّا يفضل عن الحاجة. (والجبن) - بضم فسكون-: الخور عن تعاطي الحرب؛ خوفا على المهجة «1» . (ومن الهرم) : الكبر المؤدّي إلى ترك الأعمال الصّالحة والتخبّط في العقل. (وأن أردّ إلى أرذل العمر) أي: العمر الأرذل؛ أي: الرّدي بأن يسلب صفة التّمييز، فيعود كالطّفل. قال الطّيبيّ: المطلوب عند المحققين من العمر التفكّر في آلاء الله تعالى ونعمائه تعالى من خلق الموجودات؛ قياما بواجب الشّكر بالقلب والجوارح؛ والفاقد لذلك كالشّيء الّذي لا ينتفع به، فينبغي أن يستعاذ منه. (ومن فتنة الدّجّال) : محنته، وهي أعظم فتن الدّنيا. والدّجال: فعّال بالتّشديد- وهو من الدّجل؛ بمعنى التّغطية، لأنّه يغطّي الحقّ بباطله، ولهذا سمّي الكذّاب «دجّالا» . (وعذاب القبر) : عقوبته. ومصدره التّعذيب، فهو مضاف للفاعل مجازا، أو هو من إضافة المظروف لظرفه، فهو على تقدير «في» ؛ أي: من عذاب في القبر.   (1) القلب. أو النفس أو الروح. وكلها بمعنى. (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 ومن فتنة المحيا والممات. اللهمّ؛ إنّا نسألك قلوبا أوّاهة مخبتة منيبة في سبيلك. اللهمّ؛ إنّا نسألك عزائم مغفرتك ومنجيات أمرك، ... وفيه إثبات عذاب القبر، والإيمان به واجب؛ وأضيف العذاب إلى القبر!! لأنّه الغالب، وإلّا! فكلّ ميّت أراد الله تعذيبه أناله ما أراد به قبر أو لم يقبر، ولو صلب أو غرق في البحر، أو أكلته السّباع، أو حرق حتّى صار رمادا، أو ذرّي في الرّيح. وهو- أي: عذاب القبر- على الرّوح والبدن جميعا باتّفاق أهل السّنّة، وكذا القول في النّعيم؛ قال ابن القيم: ثمّ عذاب القبر قسمان: دائم؛ وهو عذاب الكفّار وبعض العصاة. ومنقطع؛ وهو عذاب من خفّت جرائمهم من العصاة، فإنّه يعذب بحسب جريمته، ثمّ يرفع عنه، وقد يرفع بدعاء أو صدقة أو نحو ذلك. انتهى. (ومن فتنة المحيا) - بفتح الميم- أي: ما يعرض للإنسان مدّة حياته من الافتتان بالدّنيا والشّهوات والجهالات؛ وأعظمها- والعياذ بالله تعالى- أمر الخاتمة عند الموت. (و) من فتنة (الممات) ؛ أي: الفتنة الواقعة قرب الموت؛ أضيفت إليه لقربها منه، فهي في الحياة، فعطفها من عطف الخاصّ اهتماما بها. (اللهمّ؛ إنّا نسألك) ؛ أي: نطلب منك (قلوبا أوّاهة) : كثيرة الدّعاء والتضرّع؛ ليترتّب عليها إظهار الاحتياج. (مخبتة) : خاشعة مطيعة منقادة، (منيبة) : راجعة إليك بالتّوبة، مقبلة عليك (في سبيلك) ؛ أي: الطّريق إليك. (اللهمّ؛ إنّا نسألك عزائم مغفرتك) ؛ أي: أسباب مغفرتك المؤكّدة؛ لأنّ العزم: التّصميم، (ومنجيات أمرك) ؛ أي: ما ينجّي من عقابك ويصون عن عذابك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 والسّلامة من كلّ إثم، والغنيمة من كلّ برّ، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» . (ك؛ عن ابن مسعود) . 4- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ... (والسّلامة من كلّ إثم) معصية، (والغنيمة من كلّ برّ) - بكسر الموحّدة-: خير وطاعة، (والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» ) : عذابها، وهذا ذكره للتّشريع والتّعليم. وفيه دليل على ندب الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرء أنّه يتمسّك فيه بالحقّ، لأنّها قد تفضي إلى وقوع ما لا يحترز من وقوعه. قال ابن بطّال: وفيه ردّ للحديث الشّائع: «لا تستعيذوا بالله من الفتن، فإنّ فيها حصاد المنافقين» ؛ أي: هلاكهم. قال ابن حجر: قد سئل عنه قديما ابن وهب فقال: إنّه باطل؛ وقال الحفني على «الجامع» : إنّه حديث موضوع لا أصل له. (ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «الدّعاء» ؛ (عن) عبد الله (بن مسعود) رضي الله تعالى عنه، وقال: صحيح الإسناد؛ قال الحافظ العراقي: وليس كما قال، إلّا أنّه ورد في أحاديث جيدة الإسناد، ذكره المناوي رحمه الله تعالى. 4- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم) - بفتح الميم، وإسكان الهمزة، وفتح المثلّثة-: الإثم كبيرا أو صغيرا. (والمغرم) - بفتح الميم وإسكان الغين وفتح الراء-: كلّ ما فيه خسارة دين؛ أو دنيا. وفي حديث صحيح: قال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله!! قال: «الرّجل إذا غرم حدّث فكذب، ووعد فأخلف» . أي: وهذا من الخسارة في الدّين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النّار وعذاب النّار، ومن شرّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، ومن فتنة المسيح الدّجّال. وخسارة الدّنيا كالخسارة في التّجارة والقرض مع عدم القدرة على الوفاء؛ واستعاذته صلى الله عليه وسلم تعليم لأمّته وإظهار للعبوديّة والافتقار. (ومن فتنة القبر) التّحير في جواب منكر ونكير (وعذاب القبر) - عطف عام على خاص- فعذابه قد ينشأ عن الفتنة بأن يتحيّر فيعذّب لذلك، وقد يكون لغير الفتنة؛ كأن يجيب بالحقّ ولا يتحيّر، ثمّ يعذب على تفريطه في بعض المأمورات أو المنهيّات كإهمال التّنزّه عن البول ونحو ذلك. فتنبّه. (ومن فتنة النّار) هي سؤال الخزنة على جهة التّوبيخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) [الملك] (وعذاب النّار) ؛ أي: إحراقها بعد فتنتها. (ومن شرّ فتنة الغنى) ؛ أي: البطر والطّغيان والتّفاخر به، وصرف المال في المعاصي. (وأعوذ بك من فتنة الفقر) : حسد الأغنياء، والطّمع في مالهم، والتّذلّل لهم بما يدنّس العرض ويثلم الدّين، وعدم الرّضا بالمقسوم. وذكر لفظ «شرّ» في الفقرة الأولى؛ دون الثّانية هو ما وقع في هذه الرّواية، وجاء في رواية إثباتها فيهما، وفي رواية أخرى حذفها فيهما. (ومن فتنة المسيح) - بفتح الميم، وخفّة السّين، وبحاء مهملة-. سمّي به!! لكون إحدى عينيه ممسوحة، أو لمسح الخير منه؛ فعيل بمعنى مفعول، أو لمسحه الأرض، أو قطعها في أمد قليل؛ فهو بمعنى فاعل، أي: مصيبة أو اختبار المسيح. (الدّجّال) ؛ وذكر الدّجال بعد المسيح!! لئلّا يتوهّم المسيح سيدنا عيسى عليه الصّلاة والسّلام، وإنّما استعاذ منه؛ مع كونه لا يدركه!! نشرا لخبره بين أمّته جيلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 اللهمّ؛ اغسل عنّي خطاياي بالماء والثّلج والبرد، ونقّ قلبي من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، وباعد بيني وبين خطاياي؛ ... بعد جيل؛ لئلّا يلتبس كفره على مدركه. (اللهمّ؛ اغسل) : أزل (عنّي خطاياي) ؛ أي: ذنوبي، لو فرض أن لي ذنوبا، أو ذكره للتّشريع. (بالماء والثّلج والبرد) - بفتحتين-: حب الغمام، وجمع بينهما!! مبالغة في التّطهير، أي: طهّرني منها بأنواع مغفرتك. وخصّها!! لأنّها لبردها أسرع لإطفاء حرّ عذاب النّار الّتي هي غاية الحرّ، وجعل الخطايا بمنزلة جهنّم؛ لكونها سببها، فعبّر عن إطفاء حرّها بذلك، وبالغ باستعمال المبرّدات؛ مترقّيا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثمّ إلى أبرد منه وهو البرد، بدليل جموده، ومصيره جليدا، والثّلج يذوب؛ قاله المناوي. وفي «حواشي الحفني» : شبّه الخطايا بالدّنس الحسّي الّذي يتباعد عنه، والغسل تخييل، والماء والثلج والبرد ترشيح باق على معناه، أو مستعار لعمل البرّ المطهر من الدّنس؛ بجامع إزالة ما يكره. فالمراد من الغسل المذكور المغفرة، وقال ابن دقيق العيد: عبّر بذلك عن غاية المحو، فإنّ الثّوب الّذي يتكرّر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النّقاء. انتهى. (ونقّ) - بفتح النّون وشدّ القاف- (قلبي) الّذي هو ملك الأعضاء، واستقامتها باستقامته. (من الخطايا) تأكيد للسّابق، ومجاز عن إزالة الذّنوب ومحو أثرها، (كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس) - بفتح الدّال والنّون- أي: الوسخ، ولما كان الدّنس في الثّوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التّشبيه به. (وباعد) ؛ أي: أبعد. وعبّر بالمفاعلة مبالغة (بيني وبين خطاياي) كرّر (بين) هنا دون ما بعده؛ لأنّ العطف على الضّمير المجرور يعاد فيه الخافض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 كما باعدت بين المشرق والمغرب» (ق، ت، ن، هـ. عن عائشة) . 5- اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من التّردّي والهدم، والغرق ... (كما باعدت) ؛ أي: كتبعيدك (بين المشرق) : موضع الشّروق، وهو مطلع الأنوار، (والمغرب» ) أي: محل الأفول. وهذا مجاز؛ لأنّ حقيقة المباعدة، إنّما هي في الزّمان والمكان، أي: امح ما حصل من ذنوبي، وحل بيني وبين ما يخاف من وقوعها حتّى لا يبقى لها اقتراب مني بالكلّيّة، ف «ما» مصدريّة، والكاف للتّشبيه. وموقع التّشبيه أنّ التقاء المشرق والمغرب محال، فشبّه بعد الذّنب عنه ببعد ما بينهما، والثّلاثة إشارة لما يقع في الأزمنة الثّلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتّنقية للحال، والغسل للماضي؛ والنّبي معصوم، وإنّما قصد تعليم الأمّة وإظهار العبوديّة. (ق) ؛ أي: متّفق عليه، أي: رواه البخاري ومسلم في «الدعوات» . (ت) ؛ أي: ورواه التّرمذي بتقديم وتأخير. (ن، هـ) ؛ أي: ورواه النّسائي وابن ماجه مختصرا: كلّهم؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، وخرّجه الحاكم بزيادة: 5- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من التردّي) ؛ أي: السّقوط من مكان عال كشاهق جبل، أو السّقوط في بئر. والتّردّي: تفعّل، من الرّدى، وهو الهلاك. (والهدم) - بسكون الدّال؛ أي: سقوط البناء، ووقوعه على الإنسان، وروي بالفتح، وهو: اسم لما انهدم منه، (والغرق) . قال المناوي: - بكسر الرّاء؛ كفرح-: الموت بالغرق، وقيل: بفتح الرّاء، قال العلقمي: بفتح الرّاء مصدر، وهو الّذي غلبه الماء وقوي عليه فأشرف على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 والحرق، وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا» . (ن، ك؛ عن أبي اليسر) . الهلاك؛ ولم يغرق، فإذا غرق فهو غريق. (والحرق) - بفتح الحاء والرّاء-: الالتهاب بالنّار، وإنّما استعاذ من الهلاك بهذه الأسباب؛ مع ما فيه من نيل الشّهادة!! لأنّها مجهدة مقلقة، لا يكاد الإنسان يصبر عليها، ويثبت عندها، فربّما استزلّه الشّيطان فحمله على ما يخلّ بدينه. (وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان) التخبّط: الصّرع، والمراد هنا: غلبة الشّيطان، قال القاضي: تخبّط الشّيطان: مجاز عن إضلاله وتسويله. انتهى. وقال المناوي: أي: يصرعني ويلعب بي ويفسد عليّ ديني. (عند الموت) ، بنزغاته الّتي تزلّ بها الأقدام، وتصرع العقول والأحلام، وقد يستولي على المرء عند فراق الدّنيا فيضلّه، أو يمنعه التّوبة، أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة قبله، أو يؤيّسه من الرّحمة، أو يكرّه له الرّحمة فيختم له بسوء والعياذ بالله-! وهذا تعليم للأمّة، فإنّ شيطانه أسلم، ولا تسلّط له؛ ولا لغيره عليه بحال من الأحوال، بل سائر الأنبياء على هذا المنوال. (وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا) عن الحقّ، أو عن قتال الكفّار حيث حرم الفرار، وهذا وما أشبهه تعليم للأمّة، وإلّا! فرسول الله صلى الله عليه وسلم آمن من ذلك كله، ولا يجوز له الفرار مطلقا. (وأعوذ بك أن أموت لديغا» ) فعيل: بمعنى مفعول، واللّدغ- بدال مهملة، وغين معجمة- يستعمل في ذوات السّمّ؛ كحيّة وعقرب، وبعين مهملة وذال معجمة- يستعمل في الإحراق بنار كالكيّ، والأول هو المراد هنا. (ن، ك) ؛ أي: أخرجه النّسائي، والحاكم، وكذا أخرجه أبو داود في «الصّلاة» كلّهم؛ (عن أبي اليسر) - بفتح المثنّاة التّحتيّة والسّين المهملة المفتوحة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 6- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك» . (م، د، ت؛ عن ابن عمر) . وراء آخره-، واسمه: كعب بن عمرو الأنصاري السّلمي- بفتحتين- مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة وبدرا، وله فيها آثار كثيرة. وهو الّذي أسر العبّاس يوم بدر، وكان قصيرا دحداحا؛ عظيم البطن. ومات بالمدينة المنوّرة سنة خمس وخمسين رضي الله تعالى عنه. 6- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك) ؛ أي: ذهابها، مفرد في معنى الجمع، يعمّ النّعم الظّاهرة والباطنة؛ والنّعمة: كلّ ملائم تحمد عاقبته، ومن ثمّ قالوا: لا نعمة لله على كافر، بل ملاذّه استدراج. والاستعاذة من زوال النّعم تتضمّن الحفظ عن الوقوع في المعاصي؛ لأنّها تزيلها، ألا تسمع قوله: إذا كنت في نعمة فارعها ... فإنّ المعاصي تزيل النّعم وحافظ عليها بشكر الإله ... فإنّ الإله سريع النّقم (وتحوّل عافيتك) ؛ أي: تبدّلها. قال العلقمي: فإن قلت: ما الفرق بين الزّوال والتّحول؟! قلت: الزّوال يقال في كلّ شيء كان ثابتا في شيء ثمّ فارقه. والتّحوّل: تغيّر الشّيء وانفصاله عن غيره، فكأنّه سأل دوام العافية، وهي السّلامة من الآلام والآثام. (وفجاءة) - بالضّمّ والمدّ، و [فجأة] بالفتح والقصر-: بغتة (نقمتك) بكسر فسكون- أي: غضبك، (وجميع سخطك» ) - بالتحريك- أي: سائر الأسباب الموجبة لذلك، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها، وهو تعميم بعد تخصيص. (م، د، ت) ؛ أي: أخرجه مسلم، وأبو داود، والتّرمذي: كلّهم؛ (عن ابن عمر) بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 7- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء» . (ت، طب؛ ك؛ عن عمّ زياد بن علاقة [رضي الله تعالى عنه] ) . 8- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ سمعي، ومن شرّ بصري، ومن شرّ لساني، ... 7- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من منكرات الأخلاق) ؛ كحقد وبخل، وحسد وعجب، ولؤم وكبر ونحوها. (والأعمال) ؛ أي: منكرات الأعمال، وهي الكبائر؛ كقتل وزنا، وشرب مسكر وسرقة، ونحوها؛ وهو من إضافة الصّفة للموصوف، أي: الأعمال المنكرات والأخلاق المنكرات؛ وذكر ذلك مع عصمته تعليما لأمّته، (و) منكرات (الأهواء) ؛ وهي الزّيغ والانهماك في الشّهوات، جمع هوى، مقصور هوى النّفس، وهو ميلها إلى المستلذّات والمستحسنات عندها، لأنّه يشغل عن الطّاعة، ويؤدّي إلى الأشر والبطر؛ قاله المناوي. (والأدواء» ) - جمع داء- كجذام، وبرص، وسلّ، واستسقاء، وذات جنب، ونحوها، فهذه كلّها بوائق الدّهر. (ت، طب، ك) ؛ أي: أخرجه التّرمذي، والطّبراني في «الكبير» ، والحاكم، كلّهم؛ (عن عمّ زياد بن علاقة) - بكسر العين المهملة- هو: قطبة بن مالك، قال التّرمذي: حسن غريب. 8- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ سمعي) ؛ أن أسمع به ما لا يحلّ سماعه، (ومن شرّ بصري) ؛ أن أنظر به إلى محرّم، (ومن شرّ لساني) ؛ أي: نطقي، فإنّ أكثر الخطايا منه، وهو الّذي يورد المرء في المهالك. وخصّ هذه الجوارح!! لما أنّها مناط الشّهوة ومثار اللّذة. قال ابن رسلان: فيه الاستعاذة من شرور هذه الجوارح الّتي هي مأمور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 ومن شرّ قلبي، ومن شرّ منيّي» . (د، ك؛ عن شكل [رضي الله تعالى عنه] ) . 9- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من يوم السّوء، ... بحفظها، كما قال وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) [المؤمنون] . فالسّمع أمانة، والبصر أمانة، واللّسان أمانة، وهو مسئول عنها، قال تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) [الإسراء] فمن لم يحفظها، ويتعدّى فيها الحدود؛ عصى الله تعالى، وخان الأمانة، وظلم نفسه، فكلّ جارحة ذات شهوة لا يستطيع دفع شرّها؛ إلّا بالالتجاء إلى الله تعالى، لكثرة شرّها وآفاتها، وللّسان آفات كثيرة، غالبها الكذب، والغيبة، والمماراة، والمدح، والمزاح. (ومن شرّ قلبي) ؛ يعني: نفسي؛ والنّفس مجمع الشّهوات والمفاسد بحبّ الدّنيا والرّهبة من الخلق، وخوف فوت الرّزق، والأمراض القلبيّة؛ من نحو حسد وحقد، وطلب رفعة، وغير ذلك، ولا يستطيع الآدميّ دفع شرّها إلّا بالإعانة والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى. (ومن شرّ منيّي» ) ؛ أي: شهوتي المحرّكة لمنيّي، أي: من شرّ شدّة الغلمة، وسطوة الشّبق إلى الجماع الّذي إذا أفرط ربّما أوقع في الزّنا أو مقدّماته؛ لا محالة، فهو حقيق بالاستعاذة من شرّه. وخصّ هذه الأشياء بالاستعاذة؛ لأنّها أصل كلّ شرّ، قاعدته ومنبعه. كما تقرّر؛ قاله المناوي. (د، ك) ؛ أي: أخرجه أبو داود، والحاكم، وكذا أخرجه التّرمذي: كلّهم؛ (عن شكل) - بشين معجمة، وكاف، مفتوحتين- ابن حميد العبسي، له صحبة، ولم يرو عنه إلّا ابنه؛ قال البغوي: ولا أعلم له غير هذا الحديث!. قال شكل: قلت يا رسول الله؛ علّمني تعوّذا أتعوّذ به، فأخذ بكفّي ... فذكره، قال التّرمذي: حسن غريب. 9- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من يوم السّوء) ؛ أي: اليوم الّذي يقع فيه منّي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 ومن ليلة السّوء، ومن ساعة السّوء، ومن صاحب السّوء، ومن جار السّوء في دار المقامة» . (طب؛ عن عقبة بن عامر [رضي الله تعالى عنه] ) . 10- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ برضاك من سخطك، ... سوء وفحش، أو الذي يحصل لي فيه ضرر في بدني أو مالي، أو الّذي يحصل فيه غفلة بعد المعرفة، ولا مانع من إرادة الكلّ. (ومن ليلة السّوء، ومن ساعة السّوء) كذلك، (ومن صاحب السّوء) ؛ أي: أصحاب السّوء؛ لأنّه مفرد مضاف بأن لا يرى منهم إلّا الأذى، وصاحب: فاعل، وجمعه: صحابة- بفتح الصاد- ولم ينقل جمع فاعل على «فعالة» إلّا هذا، أي: فهو من الجموع الشّاذّة، أو هو اسم جمع. (ومن جار السّوء) الّذي إذا رأى خيرا كتمه وإذا رأى شرّا أذاعه؛ (في دار المقامة» ) ، فإنّ الضّرر فيها يدوم بخلاف السّفر. زاد في رواية: «فإنّ جار البادية يتحوّل» . والمقامة- بالضّمّ-: الإقامة، كما في «الصّحاح» ؛ قال: وقد تكون بمعنى القيام، لأنّك إذا جعلته من: قام يقوم؛ فمفتوح، أو من: أقام يقيم؛ فمضموم. وقوله تعالى لا مُقامَ لَكُمْ «1» ؛ أي: لا موضع لكم، وقرئ لا مُقامَ لَكُمْ- بالضمّ-، أي: لا إقامة لكم. انتهى؛ ذكره المناوي. (طب) أي: أخرجه الطّبراني في «الكبير» ؛ (عن عقبة بن عامر) ؛ قال الحافظ نور الدّين الهيثمي: رجاله ثقات، وأعاده في موضع آخر؛ وقال: رجاله رجال الصّحيح؛ غير بشر بن ثابت، وهو ثقة. 10- (اللهمّ، إنّي أعوذ برضاك من سخطك) ؛ أي: بما يرضيك عمّا يسخطك، فقد خرج العبد هنا عن حظّ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله، ثمّ الّذي لنفسه من هذا الباب قوله:   (1) قرأ حفص بضم الميم الأولى، وباقي القراء بفتحها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ... (وبمعافاتك من عقوبتك) استعاذ بمعافاته بعد استعاذته برضاه!! لأنّه يحتمل أن يرضى عنه من جهة حقوقه ويعاقبه على حقوق غيره. (وأعوذ بك منك) ؛ أي: برحمتك من عقوبتك، فإنّ ما يستعاذ منه صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه، فهو الّذي سبّب الأسباب التي يستعاذ منها خلقا وكونا، وهو الّذي يعيذ منها ويدفع شرّها خلقا وكونا، فمنه السّبب والمسبّب، وهو الّذي حرّك الأنفس والأبدان، وأعطاها قوى التّأثير، وهو الّذي أوجدها وأعدّها وأمدّها، وهو الّذي يمسكها إذا شاء، ويحول بينها وبين قواها وتأثيرها، فتأمل ما تحت قوله «أعوذ بك منك» من محضر التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره، وتكميل التوكّل عليه، وإفراده بالاستعانة وغيره!!. (لا أحصي ثناء عليك) في مقابلة نعمة واحدة من نعمك، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [18/ النحل] . والغرض منه الاعتراف بتقصيره عن أداء ما أوجب عليه من حقّ الثّناء عليه تعالى. (أنت كما أثنيت على نفسك» ) بقولك فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) [الجاثية] . وغير ذلك مما حمدت به نفسك، وهذا اعتراف بالعجز عن التّفصيل، وأنّه غير مقدور؛ فوكّله إليه سبحانه، وكما أنّه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثّناء عليه، إذ الثّناء تابع للمثنى عليه، فكلّ ثناء أثني عليه به؛ وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم، وسلطانه أعزّ، وصفاته أجلّ؛ ذكره القاضي. والمعنى: إن أردت أن أثني عليك في مقابلة نعمة لم أطق، فحينئذ أنت موصوف بالثّناء الّذي مثل ثنائك على نفسك. قال العلماء: ولو حلف «أن يثني عليه تعالى أجلّ الثّناء» برّ بقوله: «سبحانك؛ لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ؛ لأنّ أحسن الثّناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 (م، 4؛ عن عائشة) . 11- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك ... وأجلّه ثناء الله تعالى على نفسه. وأمّا مجامع الحمد وأجلّه فهو قوله: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، فلو حلف «ليحمدن الله بمجامع الحمد أو: بأجلّ التّحاميد» !! فطريقه: أن يقول ذلك. يقال: إنّ جبريل عليه السّلام قاله لآدم عليه الصّلاة والسّلام، وقال: قد علّمتك «مجامع الحمد» . ومعنى قوله: يوافي نعمه؛ أي: يلاقيها فتحصل معه، ويكافئ مزيده؛ أي: يساويه فيقوم بشكر ما زاد من النّعم. وقد تقدّم الكلام على ذلك في شرح خطبة المصنّف. (م، 4) ؛ أي: أخرجه مسلم، والأربعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته؛ فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو بالمسجد. وهما منصوبتان، وهو يقول ذلك. 11- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك) ، استعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور الّتي عصم منها إنّما هو ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدي به الأمّة، وليبين لهم صفة الدّعاء؛ والمهم منه. و «أعوذ» : لفظه لفظ الخبر؛ ومعناه الدّعاء. قالوا: وفي ذلك تحقيق الطّلب؛ كما قيل في «غفر الله» بلفظ الماضي، والباء للإلصاق المعنويّ للتخصيص، كأنّه خصّ الرّبّ بالاستعاذة، وقد جاء في الكتاب والسّنّة «أعوذ بالله» ، ولم يسمع: بالله أعوذ؛ لأنّ تقديم المعمول تفنّن وانبساط، والاستعاذة حال خوف وقبض، بخلاف «الحمد لله» ، و «لله الحمد» ؛ لأنّه حال شكر، وتذكير إحسان ونعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 من شرّ ما عملت؛ ومن شرّ ما لم أعمل» . (م، د، ن، هـ؛ عن عائشة) . 12- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الفقر والقلّة والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم، أو أظلم» . (د، ن، هـ، ك؛ ... (من شرّ ما عملت) ؛ أي: من شرّ ما اكتسبته ممّا يقتضي عقوبة في الدنيا؛ أو نقصا في الآخرة. (ومن شرّ ما لم أعمل» ) ؛ أي: بأن تحفظني منه في المستقبل؛ وهذا تعليم للأمّة؛ أو المراد: شرّ عمل غيري، فإنّ عمل الشّر من شخص ينزل وبالا عليه وعلى غيره، فأعوذ بك من شرّ عموم وباله بالنّاس، قال تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [52/ الأنفال] . أو المراد: ما ينسب إليّ افتراء؛ ولم أعمله. وتقديم الميم على اللّام فيهما هو ما في «مسلم» وغيره، وعكسه الواقع لحجة الإسلام في «الإحياء» متعقّب بالردّ، نعم؛ جاء في خبر مرسل. (م، د، ن، هـ) أي: أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه: كلهم؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، ولم يخرّجه البخاري!!. 12- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الفقر والقلّة) - بكسر القاف- أي: قلّة المال التي يخشى منها، وقلّة الصبر على الإقلال، وتسلّط الشيطان عليه بوسوسته؛ بذكر تنعّم الأغنياء وما هم فيه، (والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم) - بفتح الهمزة وكسر اللام مبنيّا للفاعل- أي: أظلم أحدا من المسلمين والمعاهدين. ويدخل فيه ظلم نفسه بمعصية الله تعالى. (أو أظلم) - بضم الهمزة وفتح اللام؛ بالبناء للمفعول- أي: يظلمني أحد. وفي الحديث: ندب الاستعاذة من الظّلم والظّلمة، وأراد بهذه الأدعية تعليم أمته. (د، ن، هـ، ك) ؛ أي: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 13- «اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّك أنت الرّبّ وحدك لا شريك لك. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم عبدك ورسولك. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّ العباد كلّهم إخوة. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. اجعلني مخلصا لك وأهلي في كلّ ساعة في الدّنيا والآخرة، ... والحاكم؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، وسكت عليه أبو داود، ولم يعترضه المنذري!!. 13- ( «اللهمّ؛ ربّنا) يا ربنا (وربّ كلّ شيء أنا شهيد) ؛ أي: شاهد على (أنّك أنت الرّب) ؛ أي: الإله الخالق المتفرّد بالإيجاد والإمداد (وحدك) ؛ أي: منفردا في ذاتك (لا شريك لك) في صفاتك وأفعالك. (اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء، أنا شهيد) على (أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك) إلى كافّة الخلق. (اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء، أنا شهيد) على (أنّ العباد) ؛ أي: المؤمنين منهم (كلّهم إخوة) ؛ أي: متّصفون بصفة واحدة؛ وهي الإيمان، قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10/ الحجرات] . (اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء، اجعلني مخلصا لك) ؛ أي: متّصفا بصفة الإخلاص في أعمالي وعباداتي، بأن أقصد بها التقرّب إليك؛ لا رياء ولا سمعة. (وأهلي) : أتباعي، معطوف على ضمير المتكلم في «اجعلني» ، أي: اجعلني وإيّاهم مخلصين (في كلّ ساعة في) أمور (الدّنيا والآخرة) ، بحيث لا توجد ساعة- سواء كانت تلك الساعة في أمر الدنيا أو العقبى- إلا أن تكون في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 يا ذا الجلال والإكرام» . (ن، حب؛ عن أبي أمامة [رضي الله تعالى عنه] ) . 14- «اللهمّ؛ أنت ربّي لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ... صرف طاعة مقرونة بالإخلاص (يا ذا الجلال والإكرام» ) معنى الجلال- كما دلّ عليه كلام القشيري-: استحقاق أوصاف العلوّ، وهي الأوصاف الثّبوتية والسلبية، وعليه: فالإكرام المقابل له إكرام العباد بالإنعام عليهم، وعلى هذا جرى الغزالي في «المقصد الأسنى» ، وفسّر بغير ذلك. (ن، حب) ؛ أي: أخرجه النسائي، وابن حبّان؛ (عن أبي أمامة) الباهليّ: صديّ بن عجلان، وأخرجه أبو داود؛ عن زيد بن أرقم، وفي إسناده داود الطفاوي!! قال يحيى بن معين: ليس بشيء. 14- ( «اللهمّ؛ أنت ربّي) ؛ أي: وربّ كلّ شيء، فقد ربّيت الوجود وأهله بالإيجاد ثم بالإمداد، فوجب عليّ وعلى سائر العباد العود إلى ساحتك العليّة بلسان الاعتذار، والقيام في حال الذلّ والانكسار. (لا إله إلّا أنت) ؛ أي: فلا يطلب من غيرك شيء؛ لأنه مقهور لا ينفع نفسه؛ ولا يدفع الضّرّ عنها، وما أحسن قول العارف الكبير أبي الحسن الشاذلي قدس سره: أيست من نفع نفسي لنفسي؛ فكيف لا آيس من نفع غيري لنفسي!! ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي!!. (خلقتني) شرح لبيان التربية المدلول عليها بقوله: «أنت ربي» (وأنا عبدك) ؛ أي؛ مخلوقك ومملوكك- جملة حالية-، وكذا جملة (وأنا على عهدك ووعدك) ؛ قيل: عهدك، أي: ما عاهدتني بالإيمان المأخوذ يوم «ألست بربّكم» ، أي: أنا مقيم على ما عاهدتني في الأزل من الإقرار بربوبيّتك. وقيل: عهدك، أي: على ما عاهدتني، أي: أمرتني به في كتابك وبلسان نبيك من القيام بالتكاليف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي؛ ... (ووعدك) ؛ أي: مستنجز وعدك في المثوبة والأجر في العقبى على هذه العهود، وأنا موقن بما وعدت به من البعث والنشور؛ وأحوال القيامة، فالمصدر مضاف لفاعله. وقيل: ما عاهدتك عليه في الأزل من الإقرار بالوحدانية المأخوذ يوم «ألست بربّكم» ، ووعدك، أي: ما وعدتك به من الوفاء بذلك، فالمصدر مضاف للمفعول. وسئل الإمام جلال الدين السيوطي عن ذلك؛ فقال: العهد: ما أخذ عليهم وهم في عالم الذر يوم «ألست بربكم» ، والوعد: ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة» . انتهى ذكره في «الحاوي» . قيل: ولا يبعد أن يراد الجميع من الكلمة الجامعة لما ذكر، وغير ذلك مما لا يخطر ببال. (ما استطعت) ؛ أي: مدّة دوام استطاعتي، ومعناه: الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب في حقّه تعالى. (أعوذ بك من شرّ ما صنعت) «ما» : فيه مصدرية؛ أو موصولة، أي: أعوذ بك من صنعي، أو مما لم أستطع على كفّ نفسي عنه، من الأعمال التي تؤدّي بصاحبها إلى الهلاك الأبديّ، والعذاب السرمديّ. (أبوء) - بهمزة مفتوحة فموحدة مضمومة، وبعد الواو همزة- أي: أقرّ وأعترف (لك بنعمتك) التي أنعمت بها (عليّ، وأبوء بذنبي) معناه الإقرار بالذّنب والاعتراف به أيضا، لكن فيه معنى ليس في الأول؛ لأن العرب تقول «باء فلان بذنبه» ؛ إذا احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه. ولذا عبّر في الرواية الصحيحة التي هي رواية البخاري بقوله: «أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» ، بإثبات «لك» مع النّعمة، وبحذفها في ذنبي، وهو أدب حسن. قال الشيخ ابن حجر في «شرح المشكاة» : وأبوء بذنبي؛ أي: الذنب العظيم الموجب للقطيعة لولا واسع عفوك وهامع فضلك. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت» . (خ؛ عن شدّاد بن أوس) . وتعقّبه في «المرقاة» بأنه ذهول وغفلة منه، أنّ هذا لفظ النبوّة وهو معصوم عن الزّلة. انتهى. ولك أن تقول: ليس في هذا إثبات وقوع الذنب منه صلى الله عليه وسلم حتى ينافي العصمة؛ إنما المقصود أنه لكمال فضله وخضوعه لربّه يرى ذلك، وكلّما كمل الإنسان زاد اتهامه لنفسه. ومثاله في الشاهد: أن البريء من الذنب المقرّب مثلا، إذا قال للملك «أنا مسيء في حقّك» ... ونحو ذلك، عدّ منه تواضعا وسببا لترقّيه عند ذلك الملك، وليس فيه إثبات للذنب، والله أعلم. وقال الطّيبيّ: اعترف أولا بأنه تعالى أنعم عليه، ولم يقيّده!! ليشمل كلّ الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، وعدّ [ذلك] ذنبا!! مبالغة في التقصير وهضم النفس. انتهى؛ ذكره في «شرح الأذكار» . (فاغفر لي) ذنوبي، (فإنّه) ؛ أي: الشأن (لا يغفر الذّنوب) ؛ أي: جميعها (إلّا أنت» ) وفائدة الإقرار بالذنب: أنّ الاعتراف يمحو الاقتراف، كما قيل: فإنّ اعتراف المرء يمحو اقترافه ... كما أنّ إنكار الذّنوب ذنوب (خ) ؛ أي: أخرجه البخاري في «صحيحه» ؛ (عن شدّاد بن أوس) بن ثابت الأنصاريّ الخزرجيّ «ابن أخي حسان بن ثابت» . كنيته أبو يعلى، قيل: هو يدري!! وغلط قائله. إنما البدري أبوه رضي الله تعالى عنهما. قال عبادة بن الصّامت وأبو الدّرداء: كان شدّاد من أولي العلم والحكمة. سكن بيت المقدس وأعقب بها، وتوفي سنة ثمان وخمسين، أو: إحدى وأربعين، أو: أربع وستين، وعمره خمس وسبعون سنة، ودفن بها، وقبره بظاهر باب الرّحمة باق إلى الآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 15- «اللهمّ؛ إنّي ظلمت نفسي ... روي له خمسون حديثا؛ انفرد مسلم منها بواحد، وهو حديث: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ... » . وانفرد البخاريّ بهذا الحديث، الذي هو حديث سيّد الاستغفار، أي: سيّد ألفاظه، أي: أفضل أنواع الذكر التي تطلب بها المغفرة، هذا الذكر الجامع لمعاني التوبة كلّها. قال ابن أبي جمرة: جمع الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ، ما يحقّ له أن يسمّى «سيّد الاستغفار» ، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية، ولنفسه بالعبوديّة، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرّجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرّ ما جنى على نفسه، وإضافة النعم إلى موجدها، وإضافة الذّنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنّه لا يقدر على ذلك إلّا هو. وكلّ ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة؛ لأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان عون من الله. انتهى. والحديث أخرجه عن شدّاد أيضا الإمام أحمد، والنّسائي في «السّنن» ؛ و «عمل اليوم والليلة» . وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائي، وابن ماجه، وابن السّنّي، والطبراني في كتاب «الدعاء» ، والبزّار؛ كلّهم من حديث بريدة بن الحصيب، رضي الله تعالى عنه. 15- ( «اللهمّ؛ إنّي ظلمت نفسي) بملابسة ما يوجب العقوبة أو ينقص حظّي. وأصل الظلم: وضع الشيء في غير محلّه، وهو على مراتب؛ أعلاها الشرك. والنّفس تذكّر وتؤنّث. واختلف هل النفس هي الروح أم لا؟! قال ابن الملقّن: الظاهر أنّ المراد بالنفس هنا الذات المشتملة على الروح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 ظلما كثيرا ولا يغفر الذّنوب إلّا أنت ... أي: ظلمتها بوضع المعاصي موضع الطاعات، وجزم به البرماويّ؛ قاله في «شرح الأذكار» . (ظلما كثيرا) قال النووي: هكذا ضبطناه «ظلما كثيرا» - بالثاء المثلاثة- في معظم الروايات، وفي بعض روايات مسلم «كبيرا» - بالباء الموحدة- وكلاهما حسن، فينبغي أن يجمع بينهما فيقال: ظلما كثيرا كبيرا. انتهى. وأكّد بالمصدر؛ ووصفه!! تحقيقا لدفع المجاز. وفي الحديث دليل على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحقّ اسم الإيمان إلا من كان لا خطيئة له ولا جرم، وزعموا أنّ أهل الإجرام غير مؤمنين، وأنّ سائر الذّنوب كبائر، وذلك أنّ الصّدّيق أفضل الصّدّيقين من أهل الإيمان؛ وقد أمره الشارع أن يقول «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» !. وفيه دليل على أنّ الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربّه في كلّ أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد في عبادته في أقصى غاية، إذ كان الصّدّيق مع موضعه في الدين؛ لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربّه منه. انتهى «شرح الأذكار» . (ولا يغفر) : من الغفر؛ وهو الستر (الذّنوب) : جمع ذنب؛ وهو: الجرم مثل فلس وفلوس، يقال أذنب يذنب، والذّنب: اسم مصدر، والإذناب: مصدر؛ لكنه لا يستعمل، والمعنى أنه سأل أن يجعل بينه وبين الذنب ساترا. (إلّا أنت) فيه إقرار بالوحدانيّة له تعالى، واستجلاب المغفرة، وهذا كقوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [135/ آل عمران] . وفي الآية الحثّ على الاستغفار، قيل: كلّ شيء أثنى الله على فاعله؛ فهو أمر به، وكلّ شيء ذمّ فاعله؛ فهو نهي عنه. انتهى «شرح الأذكار» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم» . (فاغفر لي) قال بعضهم: هو أرجح في الاستغفار من قوله أستغفرك؛ لأنه إذا قال ذلك؛ ولم يكن متّصفا به كان كاذبا. وضعّف بأنّ السين فيه للطلب، فكأنه قال: أطلب مغفرتك، وليس المراد الإخبار، بل الإنشاء للطلب، فكأنه قال: اغفر لي؛ لا سيما وقد ورد في الشرع صيغة «استغفر» أمرا وفعلا، فيتلقى ما جاء عن الشارع بالقبول. انتهى «شرح الأذكار» . (مغفرة من عندك) معناه: هب لي المغفرة تفضّلا؛ وإن لم أكن أهلا له بعملي، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي أنت. قال الطّيبيّ: ودلّ التنكير في قوله «مغفرة» على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرى كنهه، ووصفه بكونه «من عنده» سبحانه!! لأن الذي يكون من عنده لا يحيط به وصف، وتبعه الكرمانيّ. وحاصله: أن طلب مغفرة خاصّة في غاية الجلالة والعظمة ترفعه إلى أعلى ما يليق به من مقامات القرب، ومن حضرة الحقّ، ولذا عقّبه بطلب الرحمة العامة الشاملة لكل ما يلائم النفس، حيث قال: (وارحمني) ؛ أي: رحمة من عندك، وحذف!! اكتفاء بوصف قرينه به (إنّك أنت الغفور الرّحيم» ) بكسر همزة «إنّ» على الاستئناف البياني المشعر بتعليل ما قبله، ويجوز الفتح. و «أنت» لتأكيد الكاف، ويجوز أن يكون للفصل، والاسمان وصفان للمبالغة، وذكرا!! ختما للكلام على جهة المقابلة لما تقدّم، فالغفور لقوله «اغفر لي» والرحيم لقوله: «ارحمني» . قال ابن حجر في «شرح المشكاة» : يؤخذ منه أنّ من أدب الدعاء أن يختم بما يناسبه من أسمائه تعالى؛ لما فيه من التفاؤل بحصول المطلوب، والتّوسّل بما يوجب تعجيل إجابته وحصول طلبته. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 (ق، حم، 4؛ عن أبي بكر الصّدّيق) . 16- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه» ... وفي «الحرز» : هذا الدّعاء من الجوامع، لأنّ فيه الاعتراف بغاية التّقصير، وطلب غاية الإنعام. فالمغفرة: ستر الذّنوب ومحوها، والرّحمة: إيصال الخيرات، ففي الأوّل طلب الزّحزحة عن النّار، وفي الثّاني طلب إدخال الجنّة، وهذا هو الفوز العظيم. (ق، حم، 4) يعني أنّ الحديث متّفق عليه، أي: رواه البخاريّ، ومسلم، ورواه الإمام أحمد، والأربعة أصحاب «السنن» : أبو داود، والتّرمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه: كلهم؛ (عن أبي بكر الصّدّيق) عبد الله بن عثمان «أبي قحافة» بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي، القرشيّ التّيميّ؛ الصدّيق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره «1» ، ورفيقه في الغار، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، رضي الله تعالى عنه. يقول الفقير: لكنّي لم أجد الحديث في «أبي داود» !!. والله أعلم. 16- ( «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي كلّه) توكيد للإحاطة والشمول، أتى به!! لدفع توهّم أنّ المراد به ذنب مخصوص، ولبيان أنّ العموم المفاد من إضافته مراد. (دقّه) - بكسر الدال المهملة- أي: صغيره، وقدّم!! سلوكا للتّرقي في السؤال، الدالّ على التدريج في ترجّي الإجابة، أو إشارة إلى أنّ الكبائر إنّما تنشأ غالبا عن الصغائر، أو الإصرار عليها وعدم المبالاة بها؛ فهي وسيلة، والوسيلة من حقّها التقدّم. (وجلّه) - بكسر الجيم- أي: كبيره، (وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه» )   (1) في استعمالهم على عكس ما نستعمله اليوم. (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 (م، د؛ عن أبي هريرة) . 17- «اللهمّ؛ إنّي أسألك العفّة والعافية في دنياي وديني، وأهلي ومالي. (م، د) أي: أخرجه مسلم، وأبو داود في «باب ما يقال في الركوع والسجود» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه: 17- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك العفّة) - بالكسر-: العفاف عن كلّ حرام ومكروه، ولذّة وشهوة. (والعافية) ؛ أي: السلامة من الآفات الدينيّة، والنقائص الحسيّة والمعنويّة، والحادثات الدنيويّة، أي: عدم الابتلاء بها والصبر بقضائها. ولجمع العافية ذلك، كان الدعاء بها أجمع الأدعية، وكأنّه السبب في قوله صلى الله عليه وسلم للعبّاس لما سأله أن يعلّمه دعاء: «يا عمّ؛ سل الله العافية في الدّنيا والآخرة» . وفي «بهجة المجالس» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها «قلت: يا رسول الله؛ ما العافية؟ قال: «العافية في الدّنيا: القوت، وصحّة الجسم، وستر العورة، والتّوفيق للطّاعة، وأمّا في الآخرة: فالمغفرة، والنّجاة من النّار، والفوز بالجنّة» . قال الإمام النّوويّ في «شرح مسلم» : العافية من الألفاظ العامّة المتناولة لدفع جميع المكروهات؛ في البدن والباطن، في الدنيا والآخرة. انتهى. ولذا استعملها في قوله: (في دنياي) ، إذ هو متعلّق بها وحدها، وما بعده معطوف عليه؛ فيكون كذلك. والعافية في الدنيا: سلامته من النّكبات المكدّرة، والمعيشة المنغّصة. (و) في (ديني) بدوام التّرقّي في كمالات الدّين، والسّلامة من نقص يهوي بالعبد إلى دركاته. (وأهلي ومالي) بأن لا يرى فيهما ما يسيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 اللهمّ؛ استر عورتي وأمّن روعتي، واحفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي؛ وأعوذ بك أن أغتال من تحتي» ... ولا يخفى أنّ الأنبياء دعوا الله بالعافية، ولا شكّ أنّ دعوتهم مجابة!! ومع هذا أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الأمثال.. فالأمثل، فيتعيّن أن تقيّد الأسقام بسيّئها؛ كالبرص، والجنون، والجذام مما تنفر عنه طباع العوامّ. ولذا ورد التعوّذ من سيّىء الأسقام، وكذا يقيّد في الأمور الدينيّة أو الدنيويّة بالشاغلة عن الأحوال الآخرويّة. وفي «لطائف المنن» لابن عطاء الله السّكندري: أنّ بعض الناس دخل على الشّيخ أبي العبّاس المرسي وهو مريض؛ فقال له: عافاك الله، فسكت عنه، ثمّ قال ذلك ثانيا وثالثا، فقال له: يا هذا، وأنا سألت الله العافية قبلك، وما أنا فيه هو العافية، لأنّ العافية على ما يعلم الله. انتهى «شرح الأذكار» . (اللهمّ؛ استر عورتي) : عيوبي وخللي وتقصيري. قال الشيخ أبو الغيث بن جميل: عورة كلّ مخلوق شهوة نفسه، وخير الملابس عندنا: ما ستر العورة، ولا يسترها سوى الموت عن كلّ مباح ومحظور بحكم الضرورة، والله بكل شيء عليم خبير، وخير ملابس التقوى: ما يستر العورة، وشر ملابس التقوى: ما أشهر العورة. انتهى. والمعنى: استر عورتي التي يسؤني كشفها، (وأمّن) - بتشديد الميم- (روعتي) - بفتح الراء- أي: فزعتي التي تخيفني؛ أي: ارفع عنّي كلّ خوف يقلقني ويزعجني. (واحفظني) أي: ادفع عنّي البلاء من جهاتي الستّ التي تضمّنها قوله: (من بين يديّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال) - بضم الهمزة مبنيّا للمفعول- أي: أوخذ غيلة (من تحتي» ) أي: أدهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 (البزّار؛ عن ابن عبّاس) . من تحتي بالخسف أو غيره. واستوعب الجهات الستّ بحذافيرها لأنّ ما يلحق الإنسان من نحو نكبة وفتنة إنّما يصله من أحدها، وبالغ في جهة السفل لرداءة آفتها. (البزّار) في «مسنده» (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما. قال الحافظ الهيثمي: فيه يونس بن حبّان، وهو ضعيف. انتهى. قال المناوي: وظاهر صنيع المصنّف «1» أنّه لا يوجد في أحد دواوين السنّة، وإلّا! لما عدل عنه، وهو تقصير أو قصور، فقد خرّجه أبو داود، وابن ماجه وكذا الحاكم وصححه من حديث ابن عمر قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي؛ وحين يصبح» . انتهى. فاقتصار المصنّف «1» على البزّار خلاف اللائق. انتهى كلام المناوي. ومثله يقال في حقّ المصنّف «2» التابع ل «الجامع الصغير» . وقد ذكره النوويّ في «الأذكار» بمخالفة يسيرة في اللّفظ، وقال: رواه أبو داود، والنّسائي، وابن ماجه؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال شارحه ابن علّان: ورواه الحاكم أيضا في «المستدرك» ؛ وقال: صحيح الإسناد، وابن حبان في «صحيحه» . وقال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه: حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من حديث عبادة بن مسلم، ولا عنه؛ إلّا بهذا السند!!، أي: جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم: أنّه كان جالسا عند ابن عمر؛ فقال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ... الخ. قال: وأخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم؛ كلهم عن عبادة المذكور. قال: ووجدت له شاهدا من حديث ابن عباس؛ أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» ، وفي سنده راو ضعيف. انتهى.   (1) أي السيوطي في «الجامع الصغير» . (2) أي النبهاني في «وسائل الوصول» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 18- «اللهمّ؛ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم.. نعوذ بك من النّار» . (طب، ك؛ عن والد أبي المليح [رحمه الله] ) . وقد ذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام» ؛ عن ابن عمر مع زيادة ومخالفة يسيرة؛ وقال: أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وصحّحه الحاكم. انتهى. 18- ( «اللهمّ؛ ربّ) أي: يا ربّ (جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد صلى الله عليه وسلم؛ نعوذ) ؛ أي: نعتصم (بك من النّار» ) ؛ أي: من عذابها. وخصّ الأملاك الثلاثة!! لأنّها أشرف الملائكة، وأنّها الموكّلة بالحياة، وعليها مدار نظام هذا الوجود؛ فجبريل موكّل بالوحي؛ الذي هو حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات؛ الذي هو حياة الأرض والحيوان، وإسرافيل بالنّفخ في الصور؛ الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى الأشباح، فالتوسّل إليه سبحانه بربوبيّة هذه الأرواح الموكّلة بالحياة له تأثير كبير في حصول المطلوب. وجبريل أفضل الملائكة مطلقا- على المعتمد-. وقيل: إسرافيل أفضل منه. والمعتمد: أنّه بعده، ثمّ بعد إسرافيل ميكائيل، ثمّ ملك الموت. (طب، ك) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم في (المناقب) ، وكذا ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» ؛ (عن والد أبي المليح) - بفتح الميم مكبرا- واسم أبي المليح: عامر بن أسامة بن عمير بن عامر بن الأقيشر، الهذليّ، البصريّ. وهو تابعيّ من أوساط التابعين، مات سنة: ثمان وتسعين، وقيل: ثمان ومائة، وقيل بعد ذلك، خرّج عنه أصحاب «السنن الأربعة» ، ووالده صحابيّ تفرّد عنه ولده. وروى له أصحاب «السنن الأربعة» ؛ قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر؛ فسمعته يقول: «اللهمّ ... » إلى آخره ثلاثا، أي: فيتأكّد قول ذلك بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 19- «اللهمّ؛ إنّك لست بإله استحدثناه، ولا بربّ ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه فيك؛ تباركت وتعاليت» . (طب؛ عن صهيب [رضي الله تعالى عنه] ) . 20- «اللهمّ؛ إنّك تسمع كلامي، وترى مكاني، ... سنّة الصبح وقبل الفرض، وإن كان يطلب قول ذلك في أيّ وقت كان، لكنّ ذاك آكد. قال الحفني: قال الحافظ الهيثميّ: وفيه من لم أعرفه. انتهى. ذكره المناوي. 19- ( «اللهمّ؛ إنّك لست بإله استحدثناه) أي: طلبنا حدوثه، أي: تجدّده بعد أن لم يكن، (ولا بربّ ابتدعناه) أي: اخترعناه على غير مثال سبق، فهو أخصّ مما قبله؛ لأن الحدوث: التجدد؛ سواء كان على مثال سابق أو لا. (ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك) أي: نتركك، (ولا أعانك على خلقنا) : إيجادنا من العدم (أحد) غيرك (فنشركه فيك) أي: في عبادتك والالتجاء إليك، فإنّك المنفرد بالخلق والإيجاد والتقدير. ولما نزّهه صلى الله عليه وسلم عن صفات النّقص تعالى ناسب أن يذكر صفات الكمال؛ فقال: (تباركت) أي: تقدّست (وتعاليت» ) : تنزّهت. قال المناوي: وكان نبيّ الله داود يدعو به. (طب) أي: أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن صهيب) - بالتصغير-. قال الحافظ الهيثمي: وفيه عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو متروك. وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. انتهى. 20- ( «اللهمّ؛ إنّك تسمع) بغير جارحة (كلامي) أي: لا يعزب عنك مسموع؛ وإن خفي، (وترى مكاني) إن كنت في ملاء أو خلاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 وتعلم سرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقرّ المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير؛ ... (وتعلم سرّي) : ما أخفي (وعلانيتي) : ما أظهر؛ (لا يخفى عليك شيء من أمري) . تأكيد لما قبله لدفع توهّم المجاز والتخصيص. قال الحرّاني: الإخفاء: تغييب الشيء، وألايجعل عليه علم يهتدى إليه من جهته، والغرض من ذلك الإجابة والقبول. (وأنا البائس) الذي اشتدّت ضرورته، (الفقير) أي: المحتاج إليك في سائر أحواله وجميع أموره؛ فهو أعمّ من البائس. (المستغيث) : المستعين المستنصر بك، فاكشف كربتي وأزل شدّتي: يقال: أغاثه الله إذا أعانه، واستغاث به فأغاثه، وأغاثهم الله كشف شدّتهم. (المستجير) - بالجيم-: الطالب منك الأمان من عذابك، (الوجل) : الخائف، (المشفق) : الكثير الخوف، فهو أخصّ من الوجل، (المقرّ المعترف بذنبه) عطف تفسير. (أسألك مسألة المسكين) - بكسر الميم وفتحها لغة قليلة- أي: الخاضع الضعيف. سمّي مسكينا!! لسكونه إلى الناس. (وأبتهل إليك ابتهال المذنب) أي: أتضرّع إليك تضرّع من أخجلته مقارفة الذنوب. (الذّليل) : المستهان به، (وأدعوك دعاء الخائف الضّرير) المضطر. بيّن بهذا أنّ العبد؛ وإن علت منزلته فهو دائم الاضطرار، لأن الاضطرار تعطيه حقيقة العبد؛ إذ هو ممكن؛ وكل ممكن مضطر إلى ممدّ يمدّه. وكما أنّ الحقّ هو الغنيّ أيضا، فالعبد مضطر إليه أبدا، ولا يزايله هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذلّ لك جسمه، ورغم لك أنفه. الاضطرار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى لو دخل الجنّة فهو محتاج إليه فيها، غير أنّه غمس اضطراره في المنّة التي أفرغت عليه ملابسها، وهذا هو حكم الحقائق: ألايختلف حكمها؛ لا في الغيب ولا في الشهادة، ولا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن اتّسعت أنواره لم يتوقّف اضطراره. وقد عيّب الله قوما اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار، فلمّا زالت زال اضطرارهم. ولمّا لم تقبل عقول العامة إلى ما تعطيه حقيقة وجودهم؛ سلّط الله عليهم الأسباب المثيرة للاضطرار؛ ليعرفوا قهر ربوبيّته، وعظمة إلهيّته. (من خضعت) أصل الخضوع التطامن والميل، والمراد هنا: الذّلّة؛ أي: من ذلّت (لك) أي: لأجلك، أي: لأجل الخوف منك. (رقبته) ؛ أي: ذاته، وكذا الكلام في ذلك فيما يأتي للتعليل على تقدير الخوف منك. (وفاضت) : سالت (لك) أي: لأجل الخوف منك (عبرته) - بفتح العين المهملة وسكون الموحدة-: البكاء؛ أي: سالت من شدّة بكائه لأجل الخوف منك دموعه. وفي «القاموس» : العبرة- بالفتح-: الدمعة قبل أن تفيض، وتردّد البكاء في الصدر. (وذلّ) أي: انقاد (لك) أي: لأجلك، أي: لأجل الخوف منك (جسمه) أي: جميع أركانه الظاهرة والباطنة. (ورغم لك أنفه) ؛ أي: التصق أنفه بالرغام؛ أي: التراب، والمراد لازم ذلك؛ وهو الخضوع، ورغم- بفتح الغين- قال في «المختار» : ورغم فلان- من باب قطع- رغما- بالحركات الثلاث في راء المصدر- إذا لم يقدر على الانتصاف. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 اللهمّ؛ لا تجعلني بدعائك شقيّا، وكن بي رؤوفا رحيما؛ يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» . (طب؛ عن ابن عبّاس) . 21- «اللهمّ؛ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين. إلى من تكلني؟ إلى عدوّ يتجهّمني؟! ( «اللهمّ؛ لا تجعلني بدعائك شقيّا) ؛ أي: خائبا متعبا نفسه بسبب عدم الإجابة، (وكن بي رؤوفا رحيما) ؛ أي: عطوفا شفوقا. (يا خير المسؤولين) في معنى التعليل لما قبله، ومثله قوله: (ويا خير المعطين» ) ؛ أي: يا خير من طلب منه، ويا خير من أعطى. (طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما قال: كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع عشيّة عرفة: «اللهمّ» ... إلى آخر ما ذكر. قال ابن الجوزي: حديث لا يصحّ. وقال الحافظ العراقيّ: سنده ضعيف، وبيّنه تلميذه الحافظ الهيثميّ؛ فقال: فيه يحيى بن صالح الآملي، قال العقيلي: له مناكير. وبقيّة رجاله رجال الصحيح. انتهى «مناوي» . 21- ( «اللهمّ؛ إليك أشكو ضعف قوّتي) قدّم «إليك» !! ليفيد الاختصاص، أي: أشكو إليك؛ لا إلى غيرك، فإنّ الشكوى إلى الغير لا تجدي، والشكوى إليه تعالى لا تنافي الصبر. (وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس) ؛ أي: احتقارهم إيّاي واستهانتهم بي، (يا أرحم الرّاحمين) ؛ يا موصوفا بكمال الإحسان؛ (إلى من تكلني) : تفوّض أمري؟! (إلى عدوّ) من كفّار قريش أو غيرهم (يتجهّمني) - بالتحتيّة والفوقيّة، المفتوحتين، فالجيم فالهاء المفتوحتين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 أم إلى قريب ملّكته أمري؟! إن لم تكن ساخطا عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الّذي أضاءت له السّماوات والأرض، وأشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة.. أن تحلّ عليّ غضبك، أو تنزل عليّ سخطك، ... وتشديد الهاء- أي: يلقاني بالغلظة والوجه الكريه. (أم إلى قريب ملّكته أمري!!) أي: جعلته متسلّطا على إيذائي؛ ولا أستطيع دفعه. (إن لم تكن ساخطا عليّ) - في رواية: «إن لم يكن بك سخط عليّ» - (فلا أبالي) بما يصنع بي أعدائي وأقاربي من الإيذاء؛ طلبا لمرضاتك. (غير أنّ عافيتك) : التي هي السلامة من البلايا والمحن والمصائب (أوسع لي) . فيه: أنّ الدّعاء بالعافية مطلوب محبوب، وقد تقدّم!. (أعوذ بنور وجهك) ؛ أي: ذاتك (الكريم) ؛ أي: الشّريف (الّذي أضاءت له السّماوات والأرض) !! جمع السموات وأفرد الأرض؛ لأنّها طبقات متفاصلة بالذات؛ مختلفة بالحقيقة. (وأشرقت له الظّلمات) . قال المناوي: ببناء «أشرقت» للمفعول من أشرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصّت، وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبّقها عدلا؛ ذكره كلّه الزّمخشريّ. قال في «الحكم العطائيّة» : الكون كلّه ظلمة، وإنّما أناره ظهور الحقّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده؛ فيه، أو قبله، أو عنده، أو بعده؛ فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار. (وصلح) - بفتح اللّام وتضمّ- أي: استقام وانتظم (عليه أمر الدّنيا والآخرة، أن تحلّ عليّ غضبك) ؛ أي: تنزله بي أو توجبه عليّ، (أو تنزل عليّ سخطك) ؛ أي: غضبك، فهو من عطف المرادف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 ولك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك» . (طب؛ عن عبد الله بن جعفر) . (ولك العتبى) - بضم المهملة آخره ألف مقصورة- أي: أسترضيك (حتّى ترضى) ، يقال: استعتبته فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني. (ولا حول ولا قوّة إلّا بك» ) ؛ أي: لا تحوّل عن فعل المعاصي، ولا قوّة على فعل الطاعات إلّا بتوفيقك. واستعاذ بهذا بعد الاستعاذة بذاته تعالى!! إشارة إلى أنّه لا يوجد في الكون حركة ولا سكون؛ في خير أو شر؛ إلّا بأمر الله ومشيئته. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] . وهذا يسمّى «دعاء الطائف» ، وذلك لأنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لمّا مات عمّه أبو طالب اشتدّ أذى قومه له؛ فخرج إلى الطائف، رجاء أن يؤوه وينصروه، فاذوه أشدّ من قومه، ورماه سفهاؤهم بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد مولاه يقيه بنفسه، حتى انصرف راجعا إلى مكة محزونا؛ فدعا بهذا، فعند ذلك أرسل إليه ربّه ملك الجبال، فسأله أن يطبق على قومه الأخشبين، فقال: «بل أستأني؛ لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» . (طب) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ؛ (عن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب، أبي جعفر القرشيّ الهاشميّ؛ الصحابيّ ابن الصحابيّ ابن الصحابيّة، والجواد بن الجواد. أمّه أسماء بنت عميس الخثعميّة، وكان أبوه جعفر هاجر بأمّه إلى أرض الحبشة؛ فولدت عبد الله هناك، وهو أوّل مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة باتّفاق العلماء. وقدم مع أبيه من الحبشة مهاجرين إلى المدينة، وهو أخو محمد بن أبي بكر الصديق، وأخو يحيى بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، أمّهم أسماء بنت عميس، تزوّجها جعفر، ثم أبو بكر، ثم عليّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 22- «اللهمّ؛ إنّي أسألك من الخير كلّه عاجله وآجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم، [وأعوذ بك من الشّرّ كلّه عاجله وآجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم] . اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيّك، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ به عبدك ونبيّك. اللهمّ؛ إنّي أسألك الجنّة وما قرّب إليها من ... وكان عبد الله بن جعفر كريما، جوادا، حليما، وكان يسمّى «بحر الجود» ، قيل: لم يكن في الإسلام أسخى منه. وأخبار أحواله في السخاء والجود والحلم مشهورة لا تحصى. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثا؛ اتّفق البخاريّ ومسلم منها على حديثين، روى عنه بنوه الثلاثة: إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية. وروى عنه القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، والشّعبيّ وغيرهم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره عشر سنين، وكانت وفاة عبد الله بن جعفر بالمدينة سنة: ثمانين من الهجرة؛ وهو ابن ثمانين سنة. هذا هو الصحيح وقول الجمهور رضي الله تعالى عنه؛ ذكره النوويّ رحمه الله. آمين. 22- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك من الخير كلّه) ؛ بالجر على أنّه تأكيد للخير، و «من» للبيان؛ أي: أسألك مسؤولا هو الخير كلّه (عاجله وآجله، ما علمت منه؛ وما لم أعلم) منه. [وأعوذ بك من الشّرّ كلّه عاجله وآجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم] . (اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيّك، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ به عبدك ونبيّك) - يعني نفسه-. (اللهمّ؛ إنّي أسألك الجنّة وما قرّب) - بتشديد الراء- أي: قربني (إليها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 قول أو عمل، وأعوذ بك من النّار وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كلّ قضاء قضيته لي خيرا» . (هـ؛ عن عائشة) . 23- «اللهمّ؛ إنّي أسألك باسمك الطّاهر الطّيّب، المبارك الأحبّ إليك، الّذي إذا دعيت به.. أجبت، وإذا سئلت به.. أعطيت، قول أو عمل) بيان للموصول أي: سواء كان بالجوارح؛ أو بالقلب ف «أو» للتنويع. (وأعوذ بك من النّار؛ وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كلّ قضاء قضيته لي خيرا» ) بأن ترضّيني به وتصبّرني عليه. وهذا من جوامع الكلم وأحبّ الدعاء إلى الله، وأعجله إجابة، والقصد به طلب دوام شهود القلب: أنّ كلّ واقع فهو خير. وينشأ عن ذلك الرّضا، ومن جعل الرضا غنيمته في كلّ كائن من أوقاته- وافق النفس؛ أو خالفها- لم يزل غانما بما هو فيه راض بما أوقع الله له، وأقام من حكمته. (هـ) ؛ أي: أخرجه ابن ماجه؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك يا عائشة؛ بالجوامع الكوامل ... قولي: اللهمّ» ... إلى آخره. ورواه عنها أيضا البخاريّ في «الأدب» ، والإمام أحمد في «مسنده» ، وابن حبّان، والحاكم وصحّحه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. 23- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك باسمك الطّاهر) المنزّه عن كلّ نقص، (الطيّب) النفيس، (المبارك) الزائد خيره، العميم فضله، (الأحبّ إليك) من سائر الأسماء لقربه من الإجابة. وإن كانت أسماؤه تعالى كلّها طاهرة طيّبة محبوبة. وهذا الحديث ترجم له بعض المحدّثين ب «باب: اسم الله الأعظم» (الّذي إذا دعيت به أجبت) الداعي إلى ما سأله، (وإذا سئلت به أعطيت) السائل سؤله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 وإذا استرحمت به.. رحمت، وإذا استفرجت به.. فرّجت» . (هـ؛ عن عائشة) . 24- «اللهمّ؛ لك الحمد كالّذي نقول وخيرا ممّا نقول، اللهمّ؛ لك صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، وإليك مابي، ولك ربّ تراثي. (وإذا استرحمت به) ؛ أي: طلب أحد منك أن ترحمه وأقسم عليك به (رحمت) ؛ أي: رحمته، (وإذا استفرجت به) ؛ أي: طلب منك الفرج (فرّجت) عمّن استفرج به، ولم تردّه خائبا. وهذا خرج جوابا لسائل سأله أن يعلّمه دعاء جامعا يدعو به. (هـ) ؛ أي: أخرجه ابن ماجه؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، وبوّب عليه (باب اسم الله الأعظم) . 24- ( «اللهمّ؛ لك الحمد كالّذي نقول) - بالنّون- أي: كالذي نحمدك به من المحامد، (وخيرا ممّا نقول) - بالنّون- أي: ممّا حمدت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. وذلك لأنّه تعالى متّصف بصفات كمال لا يحيط بها ما نحمده به. (اللهمّ لك) ؛ لا لغيرك (صلاتي ونسكي) - بضمتين-: عبادتي، فهو عطف عام، أو المراد ذبائحي في الحج والعمرة، فهو عطف مغاير. (ومحياي) ؛ أي: حياتي، أي: لك لا لغيرك الأعمال الواقعة في حياتي. (ومماتي) : موتي، أو المراد: لك، أي: منك إحيائي وإماتتي، أي: بقدرتك، أي: هما طوع إرادتك وقدرتك. والجمهور على فتح ياء «محياي» ؛ وسكون ياء «مماتي» ، ويجوز الفتح والسكون فيهما. (وإليك مابي) ؛ أي: منقلبي ومرجعي، (ولك ربّ تراثي) بمثنّاة ومثلاثة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصّدر، وشتات الأمر. اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما تجيء به الرّياح، وأعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّيح» . (ت، هب؛ عن عليّ) . أي: إرثي: وهو ما يخلفه الإنسان لورثته، أي: إرثي ومالي كلّه لك، إذ ليس لأحد معك ملك. وفي شروح «الجامع الصغير» : أي: مورثي لك لا لغيرك، لأنّه صلى الله عليه وسلم كبقيّة الأنبياء لا يورث، فهو صدقة لله تعالى. وفي الخبر: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» . وقد تقدّم الكلام عليه. (اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر) . استعاذ منه!! لأنّه أوّل منزل من منازل الآخرة، فسأل الله تعالى ألايتلقّاه في أوّل قدم يضعه في الآخرة في قبره عذاب ربّه. (ووسوسة الصّدر) ؛ أي: حديث النفس بما لا ينبغي، وأضافها للصدر!! لأن الوسوسة في القلوب التي في الصدور. (وشتات) - بفتح الشين المعجمة- (الأمر) ، أي: تفرقة الخواطر في أمر الدّين؛ بالاشتغال بأمور الدّنيا، لأنّ ذلك يتعب القلب. (اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما تجيء به الرّياح، وأعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّيح» ) سأل الله خير المجموعة!! لأنّها للرّحمة، وتعوّذ به من شرّ المفردة!! لأنّها للعذاب، على ما جاء به الأسلوب في كلام علّام الغيوب؛ وهذا أغلبيّ، والمستعاذ منه؟! قيل: العذاب. وقيل: إنّ ذلك كناية عن سوء القضاء والقدر. (ت، هب) ؛ أي: أخرجه التّرمذي، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ (عن عليّ) أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال: كان أكثر ما دعا به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 25- «اللهمّ.. إنّي أسألك الثّبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك لسانا صادقا، وقلبا سليما، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، ... رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيّة عرفة في الموقف: «اللهمّ..» إلى آخره. قال الترمذي: غريب، وليس إسناده بالقويّ. وأخرجه ابن خزيمة؛ وقال: خرّجته؛ وإن لم يكن ثابتا من جهة النقل!! لأنّه من الأمر المباح. 25- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك الثّبات في الأمر) ؛ أي: الدوام على الدين والاستقامة، بدليل خبر: أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يقول «ثبّت قلبي على دينك» . أراد الثبات عند الاحتضار؛ أو السؤال، بدليل خبر: أنّه كان يقول إذا دفن الميّت قال: «سلوا له التّثبيت، فإنّه الآن يسأل» . ولا مانع من إرادة الكلّ، ولهذا قال الوليّ: الثبات: التمكّن في الموضع الذي شأنه الاستزلال. (وأسألك عزيمة الرّشد) ؛ أي: حسن التصرف في أمر الدين والإقامة عليه. (وأسألك شكر نعمتك) ؛ أي: التّوفيق لشكر إنعامك، (وحسن عبادتك) : إيقاعها على الوجه الحسن المرضيّ شرعا، وذلك باستيفاء شروطها وأركانها ومستحبّاتها. (وأسألك لسانا صادقا) ؛ أي: محفوظا من الكذب؛ لأنّ تعوّد اللسان للكذب سبب في الهلاك. (وقلبا سليما) ؛ أي: خاليا من الحقد والحسد والكبر، ومن العقائد الفاسدة، والميل إلى اللّذّات والشّهوات العاجلة، ويتبع ذلك الأعمال الصالحة؛ إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح، كما أنّ صحة البدن عبارة عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاح والتركيب، ومرضه عبارة عن زوال أحدها. (وأعوذ بك من شرّ ما تعلم) ؛ أي: ما تعلمه أنت؛ ولا أعلمه أنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك ممّا تعلم، إنّك أنت علّام الغيوب» . (ت، ن؛ عن شدّاد ابن أوس) . 26- «اللهمّ؛ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهمّ؛ إنّي أعوذ بعزّتك لا إله إلّا أنت أن ... (وأسألك من خير ما تعلم) وهذا سؤال جامع للاستعاذة من كلّ شرّ، وطلب كلّ خير. وختم هذا الدعاء- الذي هو من جوامع الكلم- بالاستغفار الذي عليه المعوّل والمدار فقال: (وأستغفرك ممّا تعلم) ؛ أي: أطلب منك أن تغفر لي ما علمته منّي من تقصير؛ وإن لم أحط به علما. (إنّك أنت علّام الغيوب» ) ؛ أي: الأشياء الخفيّة، أي: عالم بواطن الأمور كما تعلم ظواهرها. (ت، ن) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ، والنسائي؛ (عن شدّاد بن أوس) رضي الله تعالى عنه، ورواه عنه أيضا الحاكم وصحّحه، وقال الحافظ العراقيّ: قلت: بل هو منقطع، وهو ضعيف. 26- ( «اللهمّ؛ لك أسلمت) ؛ أي: لك؛ لا لغيرك انقدت. (وبك آمنت) ؛ أي: بك لا بغيرك صدّقت. قال النوويّ: فيه إشارة إلى الفرق بين الإسلام والإيمان. (وعليك توكّلت) ؛ أي: عليك لا على غيرك اعتمدت في تفويض أموري. (وإليك أنبت) ؛ أي: رجعت وأقبلت بهمّتي. (وبك خاصمت) ؛ أي: بك أحتجّ وأدفع من يريد مخاصمتي. (اللهمّ؛ إنّي أعوذ بعزّتك) ؛ أي: بقوّة سلطانك، (لا إله إلّا أنت أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 تضلّني، أنت الحيّ القيّوم الّذي لا يموت، والجنّ والإنس يموتون» . (م؛ عن ابن عبّاس) . 27- «اللهمّ؛ عافني في بدني. اللهمّ؛ عافني في سمعي. اللهمّ؛ عافني في بصري. اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر. تضلّني) ؛ أي: أعتصم بك من أن تهلكني بعدم التوفيق للرشاد، (أنت الحيّ القيّوم) ؛ أي: الدائم القائم بتدبير الخلق، (الّذي لا يموت) ؛ بلفظ الغائب للأكثر وفي بعض الروايات [تموت] بلفظ الخطاب؛ أي: الحيّ الحياة الحقيقيّة التي لا يجامعها الموت بحال. (والجنّ والإنس يموتون» ) عند انقضاء آجالهم. (م) ؛ أي: أخرجه مسلم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما. قال المناوي: وقضيّة كلام المصنّف: أنّ هذا من مفردات مسلم عن صاحبه!! وليس كذلك، فقد رواه البخاريّ في «التوحيد» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. انتهى. 27- ( «اللهمّ؛ عافني في بدني) من الأسقام والآلام. (اللهمّ؛ عافني في سمعي) ؛ أي: القوّة المودعة في الجارحة. (اللهمّ؛ عافني في بصري) . خصّهما بالذكر بعد ذكر البدن!! لأنّ العين هي التي تنظر آيات الله المنبثة في الآفاق، والسمع يعي الآيات المنزلة، فهما جامعان لدرك الآيات؛ العقلية والنقلية. وإليه سرّ قوله في حديث آخر: «اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا» . (اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر) ذكره بعد الكفر!! «إشارة» إلى أنّه قد يترتّب عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلّا أنت» . (د، ك؛ عن أبي بكرة) . 28- «اللهمّ؛ اجعلني من الّذين إذا أحسنوا.. استبشروا، ... (اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلّا أنت» ) فلا يستعاذ من جميع المخاوف والشدائد إلّا بك أنت. والقصد باستعاذته من الكفر- مع استحالته من المعصوم- أن يقتدى به في أصل الدعاء. (د، ك) ؛ أي: أخرجه أبو داود، والحاكم؛ (عن أبي بكرة) : نفيع بن الحارث بن كلدة- بكاف ولام مفتوحتين- الثقفيّ البصريّ. وأمّه سميّة أمة للحارث بن كلدة، وهي أيضا أمّ زياد بن أبيه. وإنّما كنّي «أبا بكرة» ! لأنّه تدلّى من حصن الطائف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أسلم وعجز عن الخروج من الطائف إلّا هكذا. ثمّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى البصرة، وكان من أعيان البصرة، ومن الفضلاء الصالحين، ولم يزل على كثرة العبادة حتى توفي. وكان أولاده أشرافا بالبصرة في كثرة العلم والمال والولايات. وتوفي بالبصرة سنة: إحدى وخمسين، أو: اثنتين وخمسين هجرية؛ رضي الله تعالى عنه. ورواه عنه أيضا النسائي في «عمل اليوم والليلة» وقال- أعني النسائي-: فيه جعفر بن ميمون: ليس بقوي. 28- ( «اللهمّ؛ اجعلني من الّذين إذا أحسنوا استبشروا) ؛ أي: إذا أتوا بعمل حسن قرنوه بالإخلاص؛ فيترتب عليه الجزاء، فيستحقون عليه الجنّة؛ فيستبشرون بها، كما قال تعالى وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) [فصلت] . فهو كناية تلويحيّة؛ قاله المناوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 وإذا أساؤوا.. استغفروا» . (هـ، هب؛ عن عائشة) . 29- «اللهمّ؛ ارزقني حبّك، وحبّ من ينفعني حبّه عندك. اللهمّ؛ ما رزقتني ممّا أحبّ ... (وإذا أساؤا) ؛ أي: فعلوا سيّئة (استغفروا) ؛ أي: طلبوا من الله تعالى مغفرة ما فرط منهم. ومن ثمّ قال بعضهم: خير الذنوب ذنب أعقب توبة. وشرّ الطاعات طاعة أورثت عجبا. معصية أورثت افتقارا ... خير من الطّاعة واستكبارا والمصطفى صلى الله عليه وسلم معصوم عن الإساءة! وإنّما هذا تعليم للأمّة؛ أرشدهم إلى أن يأتي الواحد منهم بهذا الدعاء الذي هو عبارة عن ألايبتليه بالاستدراج ويرى عمله حسنا فيهلك. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [8/ فاطر] . وقوله «من الذين» أبلغ من أن يقول: «اجعلني أستبشر إذا أحسنت، وأستغفر إذا أسأت» . كما تقول «فلان من العلماء» ، فيكون أبلغ من قولك «فلان عالم» ؛ لأنّك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعرفة مساهمته لهم في العلم؛ ذكره الزّمخشريّ. (هـ، هب) ؛ أي: أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها. وفيه عليّ بن زيد بن جدعان!! مختلف فيه. 29- ( «اللهمّ؛ ارزقني حبّك) بأن لا أشتغل بشيء غير طاعتك ومراقبتك. ولما كانت محبّة المقرّبين وسيلة إلى حبّ الله تعالى، وأن محبّتهم لا تنافي محبّة الله تعالى أشار إلى طلب التعلّق بذلك بقوله: (وحبّ من ينفعني حبّه عندك) ؛ كالملائكة، والأنبياء، والأصفياء؛ لأنّه لا سعادة للقلب ولا لذّة ولا نعيم؛ إلّا بأن يكون الله أحبّ إليه ممّا سواه. (اللهمّ؛ ما رزقتني ممّا أحبّ) من المال والسمع والبصر، والقوى الجسمانيّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 فاجعله قوّة لي فيما تحبّ، وما زويت عنّي ممّا أحبّ.. فاجعله فراغا لي فيما تحبّ» . (ت؛ عن عبد الله بن يزيد الخطميّ [رضي الله تعالى عنه] ) . 30- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي، ووسّع لي في داري، ... والروحانيّة؛ (فاجعله قوّة لي) ؛ أي: وفّقني لأصرفه (فيما تحبّ) من الطاعات. (وما زويت) ؛ أي: صرفت ونحّيت (عنّي ممّا أحبّ) من المال ونحوه؛ (فاجعله فراغا لي فيما تحبّ) ؛ أي: اجعله سببا لتفرّغي لطاعتك، ولا تشغل به قلبي فيشغلني عن عبادتك. وذلك لأنّ الفراغ خلاف الشغل، فإذا زوي عنه الدنيا كان ذلك الفراغ؛ عونا له على الاشتغال بطاعة الله تعالى. وقد حرّر الله أسرار نبيّنا؛ كالأنبياء من رقّ الأغيار، وصانهم بوجود عنايته من الركون إلى الآثار، لا يحبّون إلا إيّاه، ولا يشتغلون بسواه؛ قاله المناوي. (ت) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «كتاب الدعاء» ؛ (عن عبد الله بن يزيد) بمثنّاتين تحتيّتين: من الزيادة (الخطمي) - بفتح المعجمة وسكون المهملة: نسبة إلى بني خطمة: قبيلة معروفة، صحابيّ صغير، شهد الحديبية ابن سبع عشرة، وولي الكوفة لابن الزبير. قال الترمذيّ: حديث حسن غريب، قال ابن القطّان: ولم يصحّحه!! لأنّ رواته ثقات إلّا سفيان بن وكيع؛ فمتّهم بالكذب، وترك الرازباني حديثه بعد ما كتبناه، وقيل لأبي زرعة: أكان يكذب؟ قال: نعم. انتهى «مناوي» . 30- ( «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي) ، هذا من باب التشريع والتعليم للأمّة. (ووسّع لي في داري) ؛ أي: محلّ سكني في الدنيا، لأنّ ضيق مرافق الدار يضيّق الصدر، ويجلب الهمّ، ويشغل البال. والمراد التوسعة بما يقتضيه الحال؛ لا توسعة كثيرة مؤدّية للترفّة والتبسّط في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 وبارك لي في رزقي» . (ت؛ عن أبي هريرة) . 31- «اللهمّ؛ إنّي أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، الدنيا، بل إنّما يسأل حصول قدر الكفاية؛ لا زيادة ولا نقص، وكذا يقال فيما بعده وهو قوله (وبارك لي في رزقي» ) ؛ أي: اجعله مباركا محفوفا بالخير، وفقني للرضا بالمقسوم منه، وعدم الالتفات لغيره. وهذا كان يقوله بعد الوضوء عقب دعاء الوضوء. (ت) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: ورمز السيوطيّ في «الجامع» لصحّته، ورواه الإمام أحمد، والطبرانيّ عن رجل من الصحابة، وزاد: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهنّ، فقال: «وهل تركت من شيء؟!» . ورواه النسائيّ، وابن السّنّيّ في كتابيهما: «عمل اليوم والليلة» ؛ عن أبي موسى قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء؛ فتوضّأ، فسمعته يدعو يقول ... فذكره. وترجم عليه ابن السّنّيّ ب «باب: ما يقوله بين ظهراني وضوئه» ، وترجم عليه النسائيّ ب «باب: ما يقول بعد فراغ وضوئه» . قال في «الأذكار» : إسناده صحيح. انتهى. 31- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك) ؛ أي: أطلب منك (رحمة من عندك) ؛ أي: ابتداء من غير سبب. وقال القاضي: نكّر الرحمة تعظيما لها؛ دلالة على أنّ المطلوب رحمة عظيمة لا يكتنه كنهها، ووصفها بقوله: «من عندك» مزيدا لذلك التعظيم، لأنّ ما يكون من عنده لا يحيط به وصفه، لقوله تعالى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) [الكهف] . (تهدي) : ترشد (بها قلبي) إليك، وتقرّبه لديك. وخصّه!! لأنّه محلّ العقل؛ فباستقامته تستقيم سائر الأعضاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكّي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وتردّ بها ألفتي، (وتجمع بها أمري) ؛ أي: تضمّه بحيث لا أحتاج إلى أحد غيرك. (وتلمّ بها شعثي) ؛ أي: تجمع بها ما تفرّق من أمري، فهو معنى ما قبله، لكنه غير معيب، لكون الدعاء مقام خضوع وتذلّل؛ فينبغي فيه الإطناب. (وتصلح بها غائبي) ؛ أي: باطني بكمال الإيمان والأخلاق الحسان. (وترفع بها شاهدي) ؛ أي: ظاهري بالأعمال الصالحة. فالمراد تعميم الباطن وإصلاح الظاهر. وفيه حسن مقابلة بين الغائب والمشاهد. (وتزكّي بها عملي) ؛ أي: تزيده: وتنمّيه، وتطهّره من أدناس الرياء والسمعة. (وتلهمني بها رشدي) ؛ أي: تهديناي بها إلى ما يرضيك ويقرّبني إليك زلفى. والإلهام: أن يلقي الله في النفس أمرا يبعثه على فعل أو ترك، وهو نوع من الوحي، يختصّ الله به من يشاء من عباده. قال الراغب: رشد الله تعالى للعبد: تسديده ونصرته يكون بما يخوّله من الفهم الثاقب، والسمع الواعي، والقلب المراعي، وتقييض المعلّم الناصح، والرفيق الموافق، وإمداده 1- من المال بما لا يقعد به عن مغزاة قلبه، ولا يشتغل عنه كثرته. و2- من العشيرة والعزّ بما يصونه عن سفاهة السّفهاء وعن الغضّ منه. و3- من جهة الأغنياء أن يخوّله من كبر الهمة وقوّة العزيمة؛ ما يحفظه من التسبّب بالأسباب الدّنيئة، والتأخّر عن بلوغ كلّ منزلة سنيّة. (وتردّ بها ألفتي) - بضم الهمزة وكسرها-: مصدر بمعنى اسم المفعول، أي: مألوفي، أي: تردّ عليّ كل ما فارقني من مألوفاتي التي فيها رضاك، لا سيّما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 وتعصمني بها من كلّ سوء. اللهمّ؛ أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدّنيا والآخرة. اللهمّ؛ إنّي أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشّهداء، وعيش السّعداء، والنّصر على الأعداء. الأعمال الصالحة؛ إذا حصل لي عنها فتور أسألك أن تردّها عليّ. (وتعصمني) ؛ أي: تمنعني وتحفظني (بها من كلّ سوء) ؛ بأن تصرفني عنه وتصرفه عنّي. وطلب ذلك صلى الله عليه وسلم مع أنّه ثابت له بالنصّ!! إظهارا للعبودية الدالّة على افتقار العبد للطلب من مولاه. (اللهمّ؛ أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر) ؛ أي: جحد لدينك، فإنّ القلب إذا تمكّن منه نور اليقين انزاحت عنه ظلمات الشكوك، واضمحلّت منه غيوم الريب. (ورحمة) ؛ أي: عظيمة جدّا بحيث (أنال بها شرف كرامتك) ؛ أي: إكرامك لي (في الدّنيا) ؛ بأن أقوم بحقوقك وحقوق العباد. (والآخرة) ؛ بأن أنال النعيم الدائم. والمراد علوّ القدر في الدارين، ورفع الدرجات فيهما. (اللهمّ؛ إنّي أسألك الفوز) باللّطف (في القضاء، ونزل) - بضم النون والزاي- (الشّهداء) ؛ أي: منزلتهم في الجنة، أو درجتهم في القرب منك؛ لأنّه محل المنعم عليهم. وهو وإن كان أعظمهم منزلة وأعلى منهم مرتبة؛ لكنه ذكر للتشريع لأمّته. (وعيش) ؛ أي: حياة (السّعداء) في الآخرة، (والنّصر على الأعداء) في الدين؛ بالظفر بهم وقمعهم ليزول ظلمهم عن العباد. قال المناوي: النصر من الله معونة الأنبياء والأولياء وصالحي العباد بما يؤدّي إلى صلاحهم؛ عاجلا وآجلا، وذلك يكون؛ تارة 1- من خارج بمن يقيضه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 اللهمّ؛ إنّي أنزل بك حاجتي، فإن قصّر رأيي، وضعف عملي.. افتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور، ويا شافي الصّدور؛ كما تجير بين البحور.. أن تجيرني من عذاب السّعير، ومن دعوة الثّبور، ومن فتنة القبور. فيعينه، وتارة 2- من داخل بأن يقوّي قلب الأنبياء؛ أو الأولياء، أو يلقي الرّعب في قلوب الأعداء، وعليه قوله تعالى إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) [غافر] . انتهى. (اللهمّ؛ إنّي أنزل بك) ؛ أي: بساحة فضلك، أي: أسألك قضاء (حاجتي) ؛ أي: جميع ما أحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة، لأنّه مفرد مضاف فيعمّ. (فإن قصّر) - بتشديد الصاد- (رأيي) ؛ أي: عجز عن إدراك ما هو الأنجح الأصلح، أو [قصر] بتخفيف الصّاد المضمومة. ضبط بالضّبطين، ولعلّهما روايتان. والمراد بالرأي: ما ثلج في الصدر مما يريده الإنسان. (وضعف عملي) ، أي: عبادتي عن بلوغ مراتب الكمال (افتقرت) ؛ أي: احتجت في بلوغ ذلك (إلى رحمتك) ؛ أي: إلى شمولي برحمتك التي وسعت كلّ شيء. (فأسألك) ؛ أي: فبسبب ضعفي وافتقاري أطلب منك (يا قاضي الأمور) ؛ أي: حاكمها ومحكمها. وفيه جواز إطلاق «القاضي» على الله تعالى. (ويا شافي) ؛ أي: مداوي (الصّدور) يعني: القلوب التي في الصدور من أمراضها التي إن توالت عليها أهلكتها هلاك الأبد. (كما تجير) ؛ أي: تفصل وتحجز (بين البحور) ، وتمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر مع الاتصال (أن تجيرني) : تمنعني (من عذاب السّعير) ؛ بأن تحجزه عنّي وتمنعه منّي. (ومن دعوة الثّبور) ، أي: النداء بالهلاك، (ومن فتنة القبور) فتنة سؤال منكر ونكير؛ بأن ترزقني الثبات عند السؤال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 اللهمّ؛ ما قصر عنه رأيي، ولم تبلغه نيّتي، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحدا من خلقك، أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك.. فإنّي أرغب إليك فيه، وأسألكه برحمتك يا ربّ العالمين. اللهمّ؛ يا ذا الحبل الشّديد، والأمر الرّشيد.. أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنّة يوم الخلود، مع المقرّبين الشّهود، ... (اللهمّ؛ ما قصر عنه رأيي) ؛ أي: اجتهادي في تدبيري، (ولم تبلغه نيّتي؛ ولم تبلغه مسألتي) إيّاك، (من) كلّ (خير وعدته أحدا من خلقك) أن يفعله مع أحد من مخلوقاتك؛ من إنس وجنّ وملك، (أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك) من غير سابقة وعد له بخصوصه. فلا يعدّ مع ما قبله تكرارا. (فإنّي أرغب إليك فيه) ؛ أي: أطلبه منك بجدّ واجتهاد، وأجتهد في حصوله منك لي، (وأسألكه برحمتك) التي لا نهاية لسعتها؛ (يا ربّ العالمين) : الخلق كلهم. وذكره تتميما لكمال الاستعطاف والابتهال. (اللهمّ؛ يا ذا الحبل) - بموحدة- (الشّديد) ، والمراد القرآن أو الدّين. ووصفه بالشدّة!! لأنها من صفات الحبال. والشدّة في الدين: الثبات والاستقامة. (والأمر الرّشيد) السديد الموافق لغاية الصواب. (أسألك الأمن) من الفزع والأهوال (يوم الوعيد) ، أي: يوم التهديد وهو يوم القيامة. (والجنّة) ؛ أي: وأسألك الفوز بها (يوم الخلود) ؛ أي يوم: إدخال عبادك دار الخلود، أي: خلود أهل الجنة في الجنة، وخلود أهل النار في النار، وذلك بعد فصل القضاء وانقضاء الأمر. (مع المقرّبين) إلى الحضرات القدسيّة (الشّهود) ؛ أي: الناظرين إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 والرّكّع السّجود، الموفين بالعهود، إنّك رحيم ودود، وإنّك تفعل ما تريد. اللهمّ؛ اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالّين ولا مضلّين، سلما لأوليائك وعدوّا لأعدائك، نحبّ بحبّك من أحبّك، ونعادي بعداوتك من خالفك. ربّهم، المشاهدين لكمال جماله، (والرّكّع السّجود) ، أي: المكثرين للصلاة ذات الركوع والسجود في الدنيا (الموفين) - بالتخفيف- (بالعهود) بما عاهدوا الله عليه، (إنّك رحيم) موصوف بكمال الإحسان بدقائق النعم، (ودود) شديد الحبّ لمن والاك. (وإنّك تفعل ما تريد) فتعطي من تشاء سؤله؛ وإن عظم، لا مانع لما أعطيت. (اللهمّ؛ اجعلنا هادين) : دالّين الخلق على ما يوصلهم إلى الحقّ، (مهتدين) : واصلين إلى إصابة الصواب؛ قولا وعملا. ومعلوم أنّ الشخص لا يتّصف بكونه هاديا إلّا بعد اتّصافه بكونه مهتديا، ولم يوجد هنا ترتيب!! فحينئذ المعنى: اجعلنا هادين بسبب كوننا مهتدين. (غير ضالّين) عن الحقّ، وهو لازم لما قبله. (ولا مضلّين) أحدا من الخلق، (سلما) - بكسر السين المهملة فسكون اللام- أي: صلحا (لأوليائك) الذين هم حزبك المفلحون، (وعدوّا) - لفظ رواية البيهقي: «حربا» بدل «عدوّا» - (لأعدائك) ؛ ممّن اتّخذ لك شريكا؛ أو ندّا، أو فعل معك ما لا يليق بكمالك. (نحبّ بحبّك) ؛ أي: بسبب حبّنا لك (من أحبّك) حبّا خالصا، ف «من» مفعول «نحب» (ونعادي بعداوتك) - أي: بسبب عداوتك- (من خالفك) ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 اللهمّ؛ هذا الدّعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التّكلان. اللهمّ.. اجعل لي نورا في قلبي، ونورا في قبري، ونورا بين يديّ، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي، ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي. أي: خالف أمرك، وهو مفعول «نعادي» ، وهذا ناظر إلى أنّ من كمال الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله. (اللهمّ؛ هذا الدّعاء) ، أي: ما أمكننا من الدعاء قد أتينا به. (وعليك الإجابة) ؛ فضلا منك لا وجوبا، (وهذا الجهد) - بالضم-: الوسع والطاقة، (وعليك التّكلان) - بضم المثنّاة الفوقيّة- أي: الاعتماد. (اللهمّ؛ اجعل لي نورا في قلبي) ؛ أي: نورا عظيما، فالتنوين للتعظيم. وقدّم القلب!! لأنّه مقرّ التفكّر في آلاء الله ومصنوعاته، والنور: ما يتبيّن به الشيء. (ونورا في قبري) أستضيء به في ظلمة اللّحد، (ونورا بين يديّ) ؛ أي: يسعى أمامي، (ونورا من خلفي) ؛ أي: من ورائي، (ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي) يعني: اجعل النّور يحفّني من الجهات الستّ. (ونورا في سمعي، ونورا في بصري) ، لأنّ السمع محلّ السماع لآياتك، والبصر محلّ النظر إلى مصنوعاتك، فبزيادة ذلك تزداد المعارف. (ونورا في شعري، ونورا في بشري) ؛ أي: ظاهر جلدي. (ونورا في لحمي) الظاهر والباطن، (ونورا في دمي، ونورا في عظامي) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 اللهمّ؛ أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا. يضيء على المذكورات كلّها، لأنّ إبليس يأتي الإنسان من هذه الأعضاء فيوسوس، فدعا بإثبات النور فيها ليدفع ظلمته. وفي المناوي: معنى طلب النور للأعضاء: أن تتحلّى بأنوار المعرفة والطاعة، وتعرى عن ظلم الجهالة والمعاصي، وأن يكون جميع ما يتصدّى له سببا لمزيد علمه وظهور أمره، وأن يحيط به يوم القيامة؛ فيسعى خلال النّور، كما قال تعالى في حق المؤمنين نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [8/ التحريم] . انتهى. وقال القرطبيّ: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كلّ عضو من أعضائه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظّلم، هو ومن تبعه، أو من شاء الله منهم. قال: والأولى أن يقال: هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [22/ الزمر] ، وقوله تعالى وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [122/ الأنعام] . ثم قال: والتحقيق في معناه: أنّ النور مظهر لما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. وقال النوويّ: قال العلماء: طلب النور في أعضائه وجسمه وتصرّفاته وتقلّباته وحالاته، وجملته في جهاته الستّ حتى لا يزيغ شيء منها عنه. انتهى «عزيزي» . (اللهمّ؛ أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا) - عطف عامّ على خاصّ-، أي: اجعل لي نورا شاملا للأنوار السابقة وغيرها. وهذا دعاء بدوام ذلك، لأنّه حاصل له، وهو تعليم لأمّته. وفي رواية: بدل «اجعل لي نورا» : «اجعلني نورا» . قال في «الحكم العطائيّة» : النور جند القلب، كما أنّ الظّلمة جند النفس، فإذا أراد الله أن ينصر عبدا أمدّه بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظلم والأغيار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 سبحان الّذي تعطّف بالعزّ وقال به، سبحان الّذي لبس المجد وتكرّم به، سبحان الّذي لا ينبغي التّسبيح إلّا له، سبحان ذي الفضل والنّعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام» . النّور جند القلب أمّا الظّلمه ... فهي جند النّفس ذات التّهمه إذا أراد الله نصر عبده ... يوما أمدّ قلبه بجنده وبتّ قطعا عنه جند النّفس ... وإن يرد خذلانه بالعكس (سبحان الّذي تعطّف بالعزّ) ، أي: تردّى به، بمعنى أنّه اتّصف بأنّه يغلب كلّ شيء؛ ولا يغالبه شيء، لأنّ العزّة الغلبة على كليّة الظاهر والباطن. (وقال به) ؛ أي: غلب به كلّ عزيز، وملك عليه أمره من القيل: وهو الملك الذي ينفذ قوله فيما يريد. انتهى؛ ذكره الزمخشريّ. وفي «الروض الأنف» : قد صرّفوا من القيل فعلا؛ فقالوا: قال علينا فلان، أي: ملك، والقيال: الإمارة، ومنه قول النّبي صلى الله عليه وسلم في تسبيحه الذي رواه عنه الترمذيّ: «سبحان الّذي لبس العزّ وقال به» ؛ أي: ملك به وقهر. هكذا فسّره الهروي في «الغريبين» . انتهى بنصّه. وبه يعرف أنّ تفسير صاحب «النهاية» ومن على قدمه: قال به: ب «أحبّه واختصّ به» غير جيّد؛ قاله المناوي. (سبحان الّذي لبس المجد) ؛ أي: ارتدى بالعظمة والكبرياء. (وتكرّم به) ؛ أي: تفضّل وأنعم به على عباده. (سبحان الّذي لا ينبغي التّسبيح إلّا له) ؛ أي: لا ينبغي التنزيه المطلق إلّا لجلاله المقدّس. (سبحان ذي الفضل والنّعم) - جمع نعمة- وهي: كلّ ملائم تحمد عاقبته. والمراد: الإنعام. (سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام» ) ؛ أي: الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 (ت، طب، هق؛ عن ابن عبّاس) . 32- «اللهمّ؛ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا تنزع منّي صالح ما أعطيتني» ... يجلّه الموحّدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم، والذي يقال له: ما أجلّك وأكرمك. (ت، طب، هق) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «كتاب الصلاة» ، والطبرانيّ في «الكبير» ، والبيهقيّ في «سننه» في «كتاب الدعوات» ؛ كلّهم من حديث داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس؛ عن أبيه (عن) جدّه عبد الله (ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، لكن بزيادة ونقص: قال: بعثني العبّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته ممسيا وهو في بيت خالتي ميمونة، فقام فصلّى من اللّيل، فلمّا صلّى الرّكعتين قبل الفجر قال: اللهمّ إنّي أسألك ... » إلى آخره. وداود هذا عمّ المنصور، ولي المدينة والكوفة للسّفّاح. حدّث عنه الكبار؛ كالثوريّ، والأوزاعيّ، ووثّقه ابن حبّان وغيره، وقال ابن معين: أرجو أنّه لا يكذب، إنّما يحدث بحديث واحد، وكذا روى عثمان بن سعيد عنه. وقد أورده ابن عديّ في «الكامل» ، وساق له بضعة عشر حديثا، ثمّ قال: وعندي لا بأس بروايته عن أبيه عن جدّه؛ احتجّ به مسلم، وخرّج له الأربعة. انتهى؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى. وقال العزيزي: في أسانيدها مقال، لكنّها تعاضدت. انتهى. 32- ( «اللهمّ؛ لا تكلني) ، أي: لا تصرف أمري (إلى نفسي) ، أي: لا تسلمني إليها وتتركني هملا (طرفة عين) ، أي: مقدار تحرّك جفن العين، وهو كناية عن قلّة الزمن. (ولا تنزع منّي صالح ما أعطيتني» ) من الإيمان والتوفيق، لأنّ ذلك إذا نزع خلفه ضدّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 (البزّار؛ عن ابن عمر) . 33- «اللهمّ؛ اجعلني شكورا، واجعلني صبورا، واجعلني في عيني صغيرا، وفي أعين النّاس كبيرا» . (البزّار؛ عن بريدة [رضي الله تعالى عنه] ) . وقد علم صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك لا يكون، ولكنّه أراد أن يحرّك همم أمّته إلى الدعاء بذلك. قال الحليمي: وهذا تعليم منه لأمّته؛ أنّه ينبغي كونهم مشفقين من أن يسلبوا الإيمان أو التوفيق للعمل، فإنّ من سلب التوفيق لم يملك نفسه، ولم يأمن أن يضيّع الطاعات ويتّبع الشهوات، فينبغي لكلّ مؤمن أن يكون هذا الخوف من همّه. انتهى. (البزّار) ؛ أي: أخرجه البزّار في «مسنده» ؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه. قال الحافظ الهيثميّ: فيه إبراهيم بن يزيد الحوذي، وهو متروك. ذكره المناوي. وقال العزيزيّ: هو ضعيف لضعف إبراهيم بن يزيد. 33- ( «اللهمّ؛ اجعلني شكورا) ؛ أي: كثير الشكر، بأن أصرف جميع ما أنعمت به عليّ إلى ما خلقتني لأجله، (واجعلني صبورا) : كثير الصبر، بحيث إذا ظلمت لا أنتقم، وكذا إذا ضيّقت عليّ في الرزق أو بمرض لا يكون عندي ضجر لعلمي بأنّ الكلّ منك. (واجعلني) أرى نفسي (في عيني صغيرا) : حقيرا، بحيث أعتقد احتقار نفسي، وأرى غيري خيرا مني في الصلاح والعلم. (واجعلني في أعين النّاس كبيرا» ) : معظّما مهابا ليمتثل أمري، واستوهب ذلك لما ينشأ عنه من العدل والامتثال بشرط التواضع. (البزّار) ؛ أي: أخرجه البزّار في «مسنده» ؛ (عن بريدة) - بضم الموحدة وفتح الراء- ابن الحصيب- بضمّ المهملة وفتح المهملة الثانية، ثم تحتّية ثم موحّدة آخره-. قال الهيثمي: فيه عقبة بن عبد الله الأصمّ، وهو ضعيف، لكن حسّن البزّار حديثه؛ قاله المناوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 34- «اللهمّ؛ احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوّا، ولا حاسدا. اللهمّ؛ إنّي أسألك من كلّ خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كلّ شرّ خزائنه بيدك» . (ك؛ عن ابن مسعود) . 34- ( «اللهمّ؛ احفظني بالإسلام قائما) : حال كوني قائما، وكذا يقال فيما بعده (واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا) ، يعني في جميع الحالات. (ولا تشمت) - بالتخفيف- (بي عدوّا؛ ولا حاسدا) ؛ أي: لا تنزل بي بليّة يفرح بها عدوّي وحاسدي. (اللهمّ؛ إنّي أسألك من كلّ خير خزائنه) ؛ مبتدأ، وخبره قوله (بيدك، وأعوذ بك من كلّ شرّ خزائنه) جمع خزانة- بكسر الخاء؛ ككتابة-: مكان الخزن، أي: الموضع الذي يخزن فيه الشيء، ولا تفتح الخاء من «خزانة» . ومن اللطائف قولهم: لا تكسر القصعة ولا تفتح الخزانة. (بيدك» ) . وفي رواية: «بيديك» في الموضعين، واليد: مجاز عن القدرة المتصرّفة، وتثنيتها باعتبار التصرّف في العالمين؛ عالم الشهادة المسمّى ب «عالم الملك» ، وعالم الغيب المسمّى ب «عالم الملكوت» . (ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ؛ (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو؛ فيقول: اللهمّ ... » الخ. وزاد البيهقيّ في «الدعوات» ؛ من طريق هاشم بن عبد الله بن الزبير: أنّ عمر بن الخطّاب أصابته مصيبة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فشكا إليه، وسأله أن يأمر له بوسق تمر، فقال: «إن شئت أمرت لك، وإن شئت علّمتك كلمات خيرا لك منه» !! فقال: علّمنيهنّ ومر لي بوسق تمر، فإنّي ذو حاجة إليه، قال: «أفعل» ، وقال: «قل: اللهمّ احفظني ... » الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 35- «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني، وعلّمتني ما ينفعني، وزدني علما. الحمد لله على كلّ حال، ... 35- ( «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني) بالعمل بمقتضاه خالصا لوجهك. (وعلّمني ما ينفعني) لأرتقي منه إلى عمل زائد على ذلك. (وزدني علما) مضافا إلى ما علّمتنيه، وهذا إشارة إلى طلب المزيد في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مخدع الوصال، وبه ظهر أنّ العلم وسيلة للعمل، وهما متلازمان، ومن ثمّ قالوا: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلّا من العلم «1» . (الحمد لله على كلّ حال) من أحوال السّرّاء والضّرّاء، وكم يترتّب على الضّرّاء من عواقب حميدة ومواهب كريمة، يستحقّ الحمد عليها. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [216/ البقرة] . قال في «الحكم العطائية» : من ظنّ انفكاك لطفه عن قدره؛ فذاك لقصور نظره. قال في نظمها: من ظنّ أنّ لطفه عن قدره ... ينفكّ فهو قاصر في نظره وقال الغزاليّ: لا شدّة إلّا وفي جنبها نعم لله، فليلزم الحمد والشكر على تلك النعم المقترنة بها. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما ابتليت ببليّة إلّا كان لله عليّ فيها أربع نعم: 1- إذ لم تكن في ديني، و 2- إذ لم أحرم الرضا، و 3- إذ لم تكن أعظم، و 4- إذ رجوت الثواب عليها. وقال إمام الحرمين: شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها؛ لأنّها نعم   (1) بل جعل كلّ تكاثر غيره لهوا. (عبد الجليل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 وأعوذ بالله من حال أهل النّار» . (ت، هـ، [ك] ؛ عن أبي هريرة) . 36- «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . (ت؛ عن أنس) . بالحقيقة، بدليل أنّها تعرّض العبد لمنافع عظيمة، ومثوبات جزيلة، وأغراض كريمة؛ تتلاشى في جنبها شدائد الدنيا. نحمده على شمول النّعم ... حتّى لقد أبطنها في الألم (وأعوذ بالله من حال أهل النّار» ) في النار وغيرها: وهذا يلزم منه الاستعاذة من دخولها؛ لأنّ من دخلها لا بدّ أن يتّصف بوصف من أوصاف أهلها من العذاب. (ت، هـ، [ك] ) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «الدعوات» ، وابن ماجه في «السّنّة والدعاء» ، والحاكم في (الأدعية) ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه. وقال الترمذي: غريب، وفي سنده موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن الزهري. وموسى المذكور: ضعّفه النسائيّ وغيره، ومحمد بن ثابت: لم يروه عنه غير موسى. وقال الذهبي: مجهول. 36- ( «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . ت) أخرجه الترمذيّ؛ (عن أنس) رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه كان إذا كربه أمر قال: يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . قال ابن القيّم: في تأثير هذا الدعاء في دفع الهمّ والغمّ مناسبة بديعة، فإنّ صفة الحياة متضمّنة لجميع صفات الكمال؛ مستلزمة لها، وصفة القيّوميّة متضمّنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا قيل: إنّ اسمه الأعظم هو: الحي القيوم. والحياة التامّة تضادّ جميع الآلام والأسقام، ولهذا: لمّا كملت حياة أهل الجنّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 37- «اللهمّ؛ افتح مسامع قلبي لذكرك، وارزقني طاعتك، وطاعة رسولك، وعملا بكتابك» . (طس؛ عن عليّ [رضي الله تعالى عنه] ) . لم يلحقهم همّ ولا غمّ ولا حزن، ولا شيء من الآفات. فالتوسّل بصفة الحياة والقيوميّة له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال، فاستبان أنّ لاسم الحيّ القيّوم تأثيرا خاصّا في كشف الكرب وإجابة الربّ. انتهى. 37- ( «اللهمّ؛ افتح مسامع قلبي) ؛ أي: آذان قلبي. جمع مسمع؛ كمنبر: الأذن- كما في «الصحاح» - (لذكرك) ؛ أي: أزل عن قلبي الحجب المانعة من لذّة الذكر، فإنّه عقاب كبير، لأنّ كلّ قلب لم يدرك لذّة الذكر؛ فهو كالميت. كان رجل في بني إسرائيل؛ أقبل على الله ثم أعرض عنه، فقال: يا رب؛ كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبيّ ذلك الزمان: قل لفلان: كم عاقبتك ولم تشعر!! ألم أسلبك حلاوة ذكري ولذّة مناجاتي؟!. (وارزقني طاعتك) ؛ أي: كمال لزوم أوامرك، (وطاعة رسولك) النبيّ الأميّ، الذي أوجبت علينا طاعته، وألزمتنا متابعته. (وعملا بكتابك» ) : القرآن، أي: العمل بما فيه من الأحكام، فإنّ من وفّق لفهم أسراره وصرف إليه عنايته اكتفى به عن غيره، ودلّه على كل خير، وحذّره من كلّ شرّ، وهو الكفيل بذلك على أتمّ الوجوه، وفيه أسباب الخير والشرّ مفصّلة مبيّنة، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [38/ الأنعام] . (طس) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ من حديث الحارث الأعور؛ (عن عليّ) أمير المؤمنين. قال الحارث: دخلت على عليّ بعد العشاء، فقال: ما جاء بك السّاعة؟! قلت: إنّي أحبّك، قال: آلله؟ آلله؟ قلت: نعم؛ والله، فقال: ألا أعلّمك دعاء علّمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ قل: «اللهمّ افتح ... » إلى آخر، قال الحافظ الهيثمي: الحارث ضعيف. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 38- «اللهمّ؛ اجعلني أخشاك حتّى كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت؛ ولا تأخير ما عجّلت. 38- ( «اللهمّ؛ اجعلني أخشاك حتّى كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك) ؛ فإنّها سبب كلّ خير، وسعادة في الدارين. وقد أثنى الله في التنزيل على المتقين بقوله وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) [آل عمران] . ووعدهم بالحفظ والحراسة من الأعداء بقوله وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [120/ آل عمران] . وبالنصر والتأييد بقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [النحل] . وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) [التوبة] . ولا سعادة أعظم من هذه المعيّة. (ولا تشقني بمعصيتك) ، فإنّ المعاصي بريد الكفر، لأنّه كلّما فعل الشخص معصية أسودّ جزء من قلبه، وانطفأ بعض نور إيمانه؛ فربّما غلب عليه وطفىء جميعه. (وخر لي) ؛ أي: اختر لي (في قضائك) ؛ أي: مقضيّك، أي: اختر لي خير الأمرين من مقضيّك، فإنّك لا تفعل بي إلّا ما هو الأوفق والأصلح لي. (وبارك لي في قدرك) ؛ بأن ترضّيني به (حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت؛ ولا تأخير ما عجّلت) ، لأنّ الخير كلّه في الرضا والتسليم. قال العارف بالله سيدي أبو الحسن الشاذليّ رحمه الله تعالى: تردّدت؛ هل ألزم القفار للطاعة والأذكار، أو أرجع إلى الديار لصحبة الأخيار؟!! فوصف لي شيخ برأس جبل، فوصلت لغاره ليلا؛ فبتّ ببابه، فسمعته يقول: اللهمّ؛ إنّ قوما سألوك أن تسخّر لهم خلقك ففعلت، فرضوا، وأنا أسألك اعوجاج الخلق عنّي، حتّى لا يكون لي ملجأ إلّا أنت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 واجعل غناي في نفسي، وأمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي، ... فقلت: يا نفس؛ انظري من أيّ بحر يغترف هذا الشيخ!! فأصبحت، فدخلت عليه، فأرهبت من هيبته، فقلت: كيف حالكم؟ فقال: إنّي أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم؛ كما تشكو من حرّ التدبير والاختيار!! فقلت: أمّا شكواي من حرّهما؛ فذقته، وأما شكواك من بردهما؛ فلماذا؟! قال: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى. قلت: سمعتك اللّيلة تقول ... كذا؟! فتبسّم وقال: عوض ما تقول «سخّر لي خلقك» ، قل: «كن لي» ؛ تره إذا كان لك لا يفوتك شيء؛ فما هذه الجناية!؟! فحصل للشيخ أبي الحسن من هذا المجلس معارف وأنوار عظيمة. (واجعل غناي في نفسي) ، لأنّ غنى النفس هو الغنى بالحقيقة، وهو المحمود النافع، بخلاف غنى المال؛ فإنّ النفس المنهمكة لا تغتني، بل كلّما حدث لها شيء من المال حدث لها طبع آخر، فإذا طلبت مائة دينار مثلا وحصّلتها توجّهت إلى جهات مصارف أخرى، كبنيان بيت وشراء أرقاء فتطلب ألف دينار، فإذا حصلتها، توجهت إلى مصارف أخرى وهكذا ... ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. (وأمتعني بسمعي وبصري) : الجارحتين المعروفتين، بأن تديم سلامتهما من الصمم والعمى، (واجعلهما الوارث منّي) ؛ أي: اجعلهما آخر ما يسلب منه الانتفاع من البدن. وفي «الأذكار» للإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: معنى «اجعلهما الوارث مني» ؛ أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وقيل: المراد بقاؤهما وقوّتهما عند الكبر وضعف الأعضاء وباقي الحواس، أي: اجعلهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري، وأقرّ بذلك عيني» . (طس؛ عن أبي هريرة) . 39- «اللهمّ؛ اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك» . (ت؛ عن عليّ) . وارثي قوّة باقي الأعضاء، والباقيين بعدها. وروي: «واجعله الوارث منّي» ، فردّ الهاء إلى الإمتاع؛ فوحّده. انتهى. (وانصرني على من ظلمني) : تعدّى وبغى عليّ، (وأرني فيه ثأري، وأقرّ بذلك عيني» ) ؛ أي: فرحتي بالظفر عليه. (طس) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بهذا الدّعاء. قال الحافظ الهيثمي: وفيه إبراهيم بن خيثم بن عراك: وهو متروك. انتهى «مناوي» . وفي العزيزي: أنّه حديث ضعيف. 39- ( «اللهمّ؛ اكفني) - بهمزة وصل وكسر الفاء-: من كفى كفاية، وكفاك الشيء يكفيك، (بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك» ) . (ت) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ؛ (عن عليّ) أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: أنّ مكاتبا جاءه فقال: إنّي عجزت عن كتابتي فأعنّي!! قال: ألا أعلّمك كلمات علّمنيهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لو كان عليك مثل جبل دينا أدّاه عنك، قل: اللهمّ ... » الخ. ورواه الحاكم في «المستدرك» ؛ عن عليّ أيضا، وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب. قال في «شرح الأذكار» : وفي رواية: «يقول بعد صلاة الجمعة سبعين مرّة: اللهمّ اكفني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك» . انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 40- «اللهمّ؛ اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سنّي وانقطاع عمري» . (ك؛ عن عائشة) . 41- «اللهمّ؛ إنّي أسألك إيمانا يباشر قلبي حتّى أعلم أنّه لا يصيا بني إلّا ما كتبت لي، وأرضني من المعيشة بما قسمت لي» . 40- ( «اللهمّ؛ اجعل أوسع رزقك) ؛ أي: أحد قسمي الرزق: وهو ما يحصل به غذاء الأبدان؛ دون ما يحصل به غذاء الأرواح، لأنّ الرزق نوعان: 1- ظاهر للأبدان كالقوت، وهو المراد هنا. و2- باطن للقلوب والنفوس؛ كالمعارف. ويرجّح الأوّل قوله (عليّ عند كبر سنّي وانقطاع عمري» ) . أي: إشرافه على الانقطاع والرحيل من هذه الدار، فإنّ الإنسان عند الشيخوخة قليل القوّة، ضعيف الكدّ؛ عاجز عن السعي، فإن أوسع الله عليه رزقه حين ذلك كان عونا له على العبادة. (ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم؛ عن سعدويه؛ عن عيسى بن ميمون؛ عن القاسم بن محمد؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر هذا الدّعاء: اللهمّ ... » . إلى آخره. قال الحاكم: حسن غريب. وردّه الذهبي؛ بأن عيسى متّهم بالوضع، ومن ثمّ حكم ابن الجوزي بوضعه. نعم؛ رواه الطبرانيّ بسند، قال فيه الحافظ الهيثميّ: إنّه حسن، وبه تزول التّهمة. انتهى. ذكره المناوي. 41- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك إيمانا يباشر قلبي) ، أي: يلابسه ويخالطه، فإنّ الإيمان إذا تعلّق بظاهر القلب أحبّ الدنيا والآخرة، وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها؛ ذكره حجّة الإسلام. (حتّى أعلم) : أجزم وأتيقن (أنّه لا يصيا بني إلّا ما كتبت لي) ، أي: قدّرته عليّ في العلم القديم الأزلي، (وأرضني من المعيشة بما قسمت لي» ) ، أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 (البزّار؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 42- «اللهمّ؛ إنّي أسألك عيشة نقيّة، وميتة سويّة، ومردّا غير مخزيّ ولا فاضح» . (طب، ك، البزّار، عن ابن عمر) . وأعطني الرّضا بما قسمت لي من الرزق؛ فلا أسخطه ولا أستقلّه. قال الشاذليّ: من أجلّ مواهب الله الرّضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكّل على الله عند الشدائد، والرجوع إلى الله عند النوائب، فمن خرجت له هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة، فقد صحّت ولايته لله ورسوله والمؤمنين. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) [المائدة] . (البزّار) ؛ أي: أخرجه البزّار في «مسنده» ؛ (عن ابن عمر) بن الخطاب. قال الحافظ الهيثميّ: وفيه أبو مهدي: سعيد بن سنان؛ وهو ضعيف الحديث. 42- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك عيشة) - بكسر العين المهملة- أي: حياة (نقيّة) ، أي: طاهرة مرضيّة، (وميتة) - بكسر الميم وسكون التحتيّة- أي: هيئة موت (سويّة) - بفتح فكسر فتشديد- أي: مستوية؛ أي: معتدلة؛ بأن لا ينالني مشقّة شديدة، (ومردّا) ؛ أي: مرجعا إلى الآخرة (غير مخزيّ) - بضم الميم وبالزاي وإثبات الياء المشدّدة- أي: غير مذلّ ولا موقع في بلاء، (ولا فاضح» ) ؛ أي: كاشف للمساوىء والعيوب. (طب، ك، البزّار) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» ، والبزّار في «مسنده» - واللّفظ له-؛ من حديث خلّاد بن يزيد الجعفي؛ عن شريك؛ عن الأعمش؛ عن مجاهد؛ (عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو به. قال الحاكم: على شرط مسلم، وتعقّبه الذهبيّ؛ فقال: خلّاد ثقة، لكن شريك ليس بحجّة. انتهى. قال الحافظ الهيثمي: إسناد الطبرانيّ جيّد. انتهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 43- «اللهمّ؛ أصلح لي ديني الّذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي الّتي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي الّتي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كلّ شرّ» . (م؛ عن أبي هريرة) . 44- «اللهمّ؛ إنّي أسألك الهدى ... «مناوي» . قال: وهذا الدعاء قطعة من دعائه يومي العيد، كما رواه الطبراني؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. انتهى. 43- ( «اللهمّ؛ أصلح لي ديني الّذي هو عصمة أمري) - مفرد مضاف فيعمّ-؛ أي: الذي هو حافظ لجميع أموري، فإنّ من فسد دينه فسدت جميع أموره، وخاب وخسر في الدنيا والآخرة. (وأصلح لي دنياي الّتي فيها معاشي) ؛ أي: أصلحها بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه، وكونه حلالا معينا على الطاعة. (وأصلح لي آخرتي) ؛ بأن توفّقني للأعمال الصالحة التي تنفعني في الآخرة (الّتي فيها معادي) ؛ أي: ما أعود إليه يوم القيامة. وقد جمع في هذه الثلاث صلاح الدنيا والدين والمعاد، وهي أصول مكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها. (واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير) ؛ أي: اجعل عمري مصروفا فيما تحبّ وترضى، وجنّبني عمّا تكره، (واجعل الموت راحة لي من كلّ شرّ» ) أي: اجعل موتي سبب خلاصي من مشقّة الدنيا والتخلّص من غمومها وهمومها. قال الطّيبيّ: وهذا الدعاء من جوامع الكلم. (م) ؛ أي: أخرجه مسلم في «الدعوات» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، ولم يخرّجه البخاريّ. 44- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك الهدى) ؛ أي: الهداية إلى الصراط المستقيم؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 والتّقى، والعفاف والغنى» . (م، ت، هـ؛ عن ابن مسعود) . 45- «اللهمّ؛ اجعل حبّك أحبّ الأشياء إليّ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عنّي حاجات الدّنيا بالشّوق إلى لقائك، صراط الذين أنعمت عليهم. (والتّقى) : الخوف من الله، والحذر من مخالفته. قال الطّيبي: أطلق الهدى والتّقى!! ليتناول كلّ ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، وكلّما يجب أن يتّقى منه من شرك ومعصية وخلق ديني. انتهى. (والعفاف) : الصيانة عن مطامع الدنيا، (والغنى) ؛ أي: غنى النفس والاستغناء عن الناس وعمّا في أيديهم. (م، ت، هـ) ؛ أي: أخرجه مسلم، والترمذيّ، وابن ماجه.. كلّهم في «الدعوات» ؛ (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه، ولم يخرّجه البخاريّ. 45- ( «اللهمّ؛ اجعل حبّك) ؛ أي: حبّي إيّاك (أحبّ الأشياء إليّ) ، وذلك يستلزم الترقّي في مدارج معرفة الحق، ومطالعة كمال جماله، فكلّما ازدادت المعرفة تضاعفت الأحبّيّة. (واجعل خشيتك) ؛ أي: خوفي منك المقترن بكمال التعظيم (أخوف الأشياء عندي) ؛ بأن تكشف لي من صفات الجلال ما يستلزم كمال الخوف منك؛ مع حصول الرجاء والطمع في رحمتك. (واقطع عنّي حاجات الدّنيا) ؛ أي: امنعها وادفعها (بالشّوق إلى لقائك) ؛ أي: بسبب حصول الشوق إلى النظر إلى وجهك الكريم الذي هو أرفع درجات النعيم، وغاية الأماني لكل قلب سليم. ومن منح الشوق انقطعت عنه حاجات الدنيا والآخرة، وأولادهم بالله أشدّهم له شوقا. وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم طويل الفكر، دائم الأحزان، فهل كان كذلك إلّا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 وإذا أقررت أعين أهل الدّنيا من دنياهم.. فأقرر عيني من عبادتك» . (حل؛ عن الهيثم بن مالك الطّائيّ [رحمه الله] ) . شدّة شوقه إلى منزله!؟ وأقربهم قربا، وأعلمهم به أشدّهم حرقة في القلوب شوقا. قال حجّة الإسلام: لو خلق فيك الشوق إلى لقائه، والشهوة إلى معرفة جلاله؛ لعلمت أنّها أصدق وأقوى من شهوة الأكل والشّرب، وكذلك كلّ شيء، بل وآثرت جنّة المعرفة ورياضتها على الجنّة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة، وهذه الشهوة خلقت للعارفين؛ ولم تخلق لك، كما خلق لك شهوة الجاه؛ ولم تخلق للصبيان؛ وإنما لهم شهوة اللعب! وأنت تعجب من عكوفهم عليه وخلوّهم عن لذّة العلم والرياسة!! والعارف يعجب منك ومن عكوفك على لذّة العلم والرياسة، فإنّ الدنيا بحذافيرها عنده لهو ولعب، فلمّا خلق للكمّل معرفة الشوق كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم، ويتفاوتون في ذلك، ولذلك سأل المصطفى صلى الله عليه وسلم المزيد من ذلك، ولا نسبة لتلك اللّذة إلى لذّة الشهوات الحسيّة!! ولذلك كان العارف إبراهيم بن أدهم يقول: لو علم الملوك ما نحن فيه من النعيم لقاتلونا عليه بالسيوف. انتهى «مناوي» . (وإذا أقررت أعين أهل الدّنيا من دنياهم) ؛ أي: فرّحتهم بما آتيتهم منها، (فأقرر عيني من عبادتك» ) ؛ أي: فرّحني بها، وذلك لأنّ المستبشر إذا بكى من كثرة السرور يخرج من عينه ماء بارد، كما قال: طفح السّرور عليّ حتّى أنّه ... من فرط ما قد سرّني أبكاني والباكي جزعا يخرج من عينيه ماء سخن. (حل) ؛ أي: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ (عن الهيثم بن مالك الطّائيّ) ؛ ذكره في «الإصابة» في القسم الرابع، وقال: هو تابعيّ من أهل الشام، أرسل حديثا فظنّه بعضهم صحابيا، وذكره البخاريّ، وابن أبي حاتم في التابعين. والله أعلم. انتهى ملخصا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 46- «اللهمّ؛ إنّي أسألك الصّحّة، والعفّة، والأمانة، وحسن الخلق، والرّضا بالقدر» . (طب؛ عن ابن عمرو [رضي الله تعالى عنهما] ) . 47- «اللهمّ؛ إنّي أسألك التّوفيق لمحابّك ... 46- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك الصّحّة) ؛ أي: العافية من الأمراض والعاهات. (والعفّة) عن المحرّمات والمكروهات وما يخلّ بكمال المروءة؛ قاله المناوي. (والأمانة) ؛ أي: حفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده. (وحسن الخلق) - بضم اللّام-؛ أي: مع الخلق، بالصبر على أذاهم، وكفّ الأذى عنهم، والتلطّف بهم، (والرّضا بالقدر» ) ؛ أي: بما قدّرته عليّ في الأزل. وهذا تعليم لأمّته، وتمرين للنفس على الرضا بالقضاء، وذلك لأمرين: الأول: أن يتفرّغ العبد للعبادة، لأنّه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهموما مشغول القلب أبدا؛ بأنه لم كان كذا!!، ولماذا لا يكون كذا!!، فإذا اشتغل القلب بشيء من هذه الهموم كيف يتفرّغ للعبادة؟! إذ ليس له إلّا قلب واحد؛ وقد امتلأ من الهموم، وما كان وما يكون، فأيّ محل فيه لذكر العبادة وفكر الآخرة؟! ولقد صدق شقيق في قوله «حسرة الأمور الماضية؛ وتدبير الآتية ذهبت ببركة الساعات» . الثاني: خطر ما في السخط من مقت الله وغضبه؛ مع أنّه لا فائدة لذلك، إذ القضاء نافذ؛ ولا بدّ منه، رضي العبد؛ أم سخط. انتهى «مناوي» . (طب) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، وأخرجه البزّار أيضا، كلاهما؛ (عن ابن عمرو) بن العاصي. قال الحافظ الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: وهو ضعيف الحديث، وبقيّة رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح. قاله المناوي. 47- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك التّوفيق) الذي هو خلق قدرة الطاعة (لمحابّك) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 من الأعمال، وصدق التّوكّل عليك، وحسن الظّنّ بك» . (حل؛ عن الأوزاعيّ والحكيم؛ عن أبي هريرة) . - بالتشديد- أي: ما تحبّه وترضاه (من الأعمال) الصالحة، ولأترقّى في الأفضل فالأفضل منها. (وصدق التّوكّل عليك، وحسن الظّنّ بك» ) ؛ أي: يقينا جازما يكون سببا لحسن الظنّ بك، لقوله: «أنا عند ظنّ عبدي بي» . وانظر إلى هذه الثلاث المسؤولة كيف يشبه بعضها بعضا؟! فكأنّه نظام واحد!. 1- سأله التوفيق لمحابّه!! ومحابّه في الغيب لا تدرى، فربّما كان محابّه في شيء هو في الظاهر دون غيره؛ فإذا استقبل النفس به واحتاج إلى إيثاره على ما هو في الظاهر أعلى، تردّد في النفس سؤاله. 2- وسأله صدق التوكل!! والتوكّل: هو التفويض إليه؛ واتّخاذه وكيلا في سائر أموره، فسأله صدق ذلك، وصدقه: أنّه إذا استقبلك أمر هو عندك أدون فوفّقك لهذا الأدون، وهو مختاره: ألاتتردّد فيه وتمرّ به مسرعا. 3- ثم قال: أسألك حسن الظنّ بك، فإنّ النفس إذا دخلت في الأدون دخل سوء الظنّ من قبلها، تقول: لعلّي مخذول فيها!! فسأله حسن الظن حتى لا تأخذه الحيرة من ربّه فيخاف الخذلان. (حل) ؛ أي: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن محمّد بن نصر الحارثي؛ من حديث حسين الجعفي؛ عن يحيى بن عمر؛ (عن الأوزاعيّ) : عبد الرحمن بن عمرو، تابعيّ، ثقة جليل؛ فهو مرسل. ثم قال أبو نعيم: لم يروه عن الأوزاعيّ- فيما أعلم- إلّا محمّد بن نصر الحارثي، ولا عنه إلّا يحيى، تفرّد به الحسين. (الحكيم) ؛ أي: وأخرجه الحكيم التّرمذيّ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال- أعني الحكيم-: وهذا باب غامض يخفى على الصادقين، وإنّما ينكشف للصّدّيقين. انتهى. وفيه عمر بن عمرو: فيه كلام. انتهى. ذكره المناوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 48- «اللهمّ؛ إنّي أسألك صحّة في إيمان، وإيمانا في حسن خلق، ونجاحا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية، ومغفرة منك ورضوانا» . (طس، ك؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 49- «اللهمّ؛ الطف بي في تيسير كلّ عسير، فإنّ تيسير كلّ عسير عليك يسير، ... 48- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك صحّة في إيمان) «في» بمعنى «مع» ؛ على حدّ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [38/ الأعراف] ؛ أي: صحّة في بدني مع تمكّن التصديق من قلبي. (وإيمانا في حسن خلق) - بالضم-؛ أي: وأسألك إيمانا يصحبه حسن خلق، ف «في» بمعنى «مع» . (ونجاحا) ؛ أي: حصولا للمطلوب (يتبعه فلاح) ؛ أي: فوز ببغية الدنيا والآخرة، (ورحمة) ؛ أي: وأسألك رحمة (منك وعافية) ؛ أي: سلامة من البلايا والمصائب، (ومغفرة منك) ؛ أي: سترا للعيوب، (ورضوانا) - بكسر الراء وضمّها-: اسم مبالغة في معنى الرضا، أي: وأسألك رضوانا منك لأفوز بخير الدارين. (طس، ك) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» ، والحاكم في «المستدرك» كلاهما؛ (عن أبي هريرة) قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الخير؛ فقال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمنحك كلمات تسألهنّ الرّحمن؛ ترغب إليه فيهنّ، وتدعو بهنّ في اللّيل والنّهار، قل: اللهمّ ... » إلى آخره. قال الحافظ الهيثميّ: رجاله ثقات. انتهى. 49- ( «اللهمّ؛ الطف) : ارفق (بي في تيسير كلّ عسير) ؛ أي: تسهيل كلّ صعب شديد، (فإنّ تيسير كلّ عسير عليك يسير) ؛ أي: لا يعسر عليك شيء، لأنّك خالق الكلّ، ومقدّر الجميع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وأسألك اليسر والمعافاة في الدّنيا والآخرة» . (طس؛ عن أبي هريرة) . 50- «اللهمّ؛ اعف عنّي، فإنّك عفوّ كريم» . (طس؛ عن أبي سعيد) . 51- «اللهمّ؛ إنّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، في قبضتك، ناصيتي بيدك، ... (وأسألك اليسر) ؛ أي: سهولة الأمور وحسن انقيادها، (والمعافاة في الدّنيا والآخرة) ؛ بأن تصرف أذى الناس عنّي، وتصرف أذاي عنهم. (طس) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال: لمّا وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة شيّعه، وزوّده هذه الكلمات. قال الحافظ الهيثميّ: فيه من لم أعرفهم. انتهى. وأورده في «الميزان» في ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن، وقال: إسناده مظلم. 50- ( «اللهمّ؛ اعف عنّي) ؛ أي: امح ذنوبي، (فإنّك عفوّ كريم» ) ؛ أي: فإنّك كثير الفضل والكرم، تحبّ الإفضال والإنعام. (طس) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ؛ (عن أبي سعيد) الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: علّمني دعاء أصيب به خيرا. فقال: «ادن» ، فدنا حتّى كادت ركبته تمسّ ركبته؛ فقال: «اللهمّ ... » إلى آخره. قال الحافظ الهيثميّ: فيه يحيى بن ميمون التمّار: وهو متروك؛ قاله المناوي. وفي العزيزيّ: هو حديث ضعيف. 51- ( «اللهمّ؛ إنّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك) ؛ أي: ابن جاريتك ومملوكتك، (في قبضتك، ناصيتي بيدك) . الناصية: مقدّم الرأس، وهي- هنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم نور صدري، وربيع قلبي، ... كناية- عن كمال قدرته، وإشارة إلى أنّ إحاطته على وفق إرادته. (ماض) : نافذ (فيّ) - بتشديد الياء-؛ أي: في حقّي (حكمك) ، إذ لا مانع لما قضيت. وقال القاري في «الحرز» : المعنى: سابق في شأني حكمك الأزليّ الذي لا يبدّل ولا يحوّل. (عدل فيّ) - بتشديد الياء- (قضاؤك) ؛ أي: ما قضيت به عليّ، فهو عدل لا جور فيه؛ ولا ظلم. (أسألك بكلّ اسم هو لك) ؛ أي: ثابت لك (سمّيت به نفسك) ، هو أعمّ من قوله (أو أنزلته في كتابك) ؛ أي: القرآن وسائر كتبك المنزلة. (أو علّمته أحدا من خلقك) ؛ من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقرّبين، والأولياء والعارفين. (أو استأثرت به) ؛ أي: اخترته واصطفيته (في علم الغيب) الذي لا يعلمه إلّا أنت، و (عندك) : عنديّة مكان. قال الشوكانيّ: وفيه دليل أنّ لله تعالى أسماء غير التسعة والتسعين الاسم. (أن تجعل القرآن العظيم) - كذا عند بعض الرواة بزيادة: «العظيم» . و «أن» ومدخولها: ثاني مفعول «أسأل» ، والمفعول الثاني ل «جعل» هو قوله: (نور صدري) ؛ أي: تشرق في قلبي نوره فأميّز الحقّ من غيره. (وربيع قلبي) ؛ أي: متنزّهه، ومكان رعيه وانتفاعه بأنواره وأزهاره وأشجاره وثماره المشبّه بها أنواع العلوم والمعارف، وإضاءة الحكم والأحكام واللطائف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 وجلاء حزني، وذهاب همّي» . (ابن السّنّيّ؛ ... (وجلاء حزني) - بكسر الجيم والمدّ- أي: إزالة حزني وكشفه، من: جلوت السيف جلاء- بالكسر-، أي: صقلته، ويقال: جلوت همّي عني؛ أي: أذهبته. ووقع في بعض نسخ «الحصن» - بفتح الجيم-. قال في «الحرز» : فهو جلاء القوم عن الموضع، ومنه وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [3/ الحشر] . والمعنى: اجعله سبب تفرقة حزني، وجمعيّة خاطري. انتهى. (وذهاب همّي» ) ؛ أي: الهمّ الذي لا ينفعني ويفرّقني لا يجمعني. رواه (ابن السّنّيّ) - بضم السين المهملة وتشديد النون بعدها ياء النّسبة-: وهو الإمام الجليل الحافظ: أبو بكر أحمد بن محمّد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط بن بديح- بصيغة التصغير-- البديحيّ- بالموحدة؛ فالدال المهملة فالمثنّاة التحتيّة فالحاء المهملة- منسوب إلى جدّه «بديح» القرشيّ، الهاشميّ «مولاهم» ، الدينوري، المعروف ب «ابن السّنّيّ» . وبديح جدّه: مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. يكنى «أبا بكر» ، أحد الحفّاظ المشهورين، الثقات المأمونين، ولي قضاء القضاة بالرّي، ثمّ انفصل وتركه، ونفذ حكمه إلى العراق والحجاز ومصر. وفي شيوخه كثرة، منهم: أبو يعلى الموصلي البغوي، وأبو الحسين بن جوصا، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو عرفة الكراني، وجماعة. روى عنه: القاضي أحمد بن عبيد الله بن شاذان، وأبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسار، الدينوريان، وجماعة غيرهما. توفي سنة- 364-: أربع وستين وثلثمائة، ومات عن بضع وثمانين سنة. رحمه الله تعالى. آمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 عن أبي موسى الأشعريّ) . (عن أبي موسى الأشعريّ) : عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابه همّ أو حزن؛ فليدع بهذه الكلمات ... » الخ. وقال في آخره: فقال رجل من القوم: يا رسول الله؛ إنّ المغبون لمن غبن هؤلاء الكلمات!؟ فقال: «أجل؛ فقولوهنّ وعلّموهنّ، فإنّه من قالهنّ التماس ما فيهنّ أذهب الله تعالى حزنه، وأطال فرحه» . قال في «مجمع الزوائد» : وأخرجه الطبرانيّ؛ عن أبي موسى أيضا، وفيه من لم أعرفه. انتهى. وأخرجه الإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم، وأبو يعلى، والبزّار، والطبرانيّ، وابن أبي شيبة: كلّهم؛ عن ابن مسعود، وصحّحه ابن حبّان، والحاكم. وقال الحافظ ابن حجر: حديث ابن مسعود أثبت سندا وأشهر رجالا، وهو حديث حسن، وقد صحّحه بعض الأئمة. وقال الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» : ورجال أحمد؛ وأبي يعلى رجال الصحيح، غير أبي سلمة الجهني! وقد وثّقه ابن حبّان. انتهى. لكن قال الذهبيّ: إنّ أبا سلمة الجهني ما روى عنه إلّا فضيل بن مرزوق، ولا يعرف اسمه ولا حاله!!. قال الحافظ ابن حجر: لكنّه لم ينفرد به، وذكره مع ذلك ابن حبّان في الثقات. انتهى. وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب عبدا همّ ولا حزن؛ فقال: اللهمّ ... الخ إلّا أذهب الله حزنه وهمّه، وأبدل مكانه فرحا» . قال في «المواهب» : وإنّما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة!! لاشتماله على الاعتراف بعبوديّة الداعي وعبوديّة آبائه وأمّهاته، وأنّ ناصيته بيده يصرّفها كيف يشاء!! وإثبات القدر، وأن أحكام الربّ تعالى نافذة في عبده؛ ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها، والله سبحانه وتعالى عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 52- «اللهمّ؛ احرسني بعينك الّتي لا تنام، واكنفني بكنفك الّذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ؛ فلا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك بها شكري، وكم من بليّة ابتليتني قلّ لك بها صبري، فيا من قلّ عند نعمته شكري؛ فلم يحرمني، ... ثم توسّله بأسماء الربّ تعالى الذي سمّى بها نفسه، ما علم العباد منها وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده؛ فلم يطلع عليه ملكا مقرّبا، ولا نبيّا مرسلا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل، وأحبّها إلى الله تعالى، وأقربها تحصيلا للمطلوب. ثم سؤاله أن يجعل القرآن العظيم لقلبه ربيعا؛ كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذي هو مادّة الحياة وبه يتمّ معاش العباد، وأن يجعله شفاء همّه وغمّه، فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء؛ ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها، فإذا صدق العليل في استعما لهذا الدواء أعقبه شفاء تاما. انتهى. قال الزرقاني: وصدقه باليقين التام، وصدق النيّة، وخلوص الطويّة، وأن لا يقصد به التجربة، لأنّ قاصد ذلك عنده شكّ. انتهى. 52- ( «اللهمّ؛ احرسني) - بضم الراء-: احفظني (بعينك الّتي لا تنام، واكنفني) ؛ أي: استرني (بكنفك) ، هذه رواية ابن أبي الدنيا، ورواية الدّيلمي «بركنك» (الّذي لا يرام) ؛ أي: لا يقدر على طلبه (وارحمني بقدرتك عليّ) ، لأنّ ذلك شأن الكرام، أي: الرحمة مع القدرة، (فلا أهلك وأنت رجائي) ؛ أي: مرجويّ في جميع أموري. (فكم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك بها شكري) ؛ أي: قيامي بواجبها من الطاعات!! (وكم من بليّة ابتليتني قلّ لك بها صبري!! فيا من قلّ عند نعمته شكري؛ فلم يحرمني) - بفتح أوّله وضمه وكسر الراء-؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 ويا من قلّ عند بلائه صبري؛ فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا؛ فلم يفضحني. يا ذا المعروف الّذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النّعمة الّتي لا تحصى عددا.. أسألك أن تصلّي على محمّد وعلى آل محمّد، وبك أدرأ في نحور الأعداء والجبّارين. اللهمّ؛ أعنّي على ديني بالدّنيا، وعلى آخرتي بالتّقوى، واحفظني فيما غبت ... أي: يمنعني من نعمه، من «حرم كضرب» ، و «أحرم كأكرم» . (ويا من قلّ عند بليّته صبري؛ فلم يخذلني) - بضم الذال-: يترك نصرتي. (ويا من رآني على الخطايا؛ فلم يفضحني) - بفتح الياء والضاد-: يكشف مساوئي، فأفتضح، وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم، واستغراقه في شهود الجلال، وإلّا فمن يشكر ومن يصبر إذا لم يشكر ولم يصبر هو، وأيّ خطيئة له، فضلا عن خطايا، وهو أيضا من باب التعليم لأمّته. (يا ذا المعروف الّذي لا ينقضي أبدا) ؛ بل هو دائم، (ويا ذا النّعمة الّتي لا تحصى عددا) ، وفي رواية: «النّعماء» ، والأولى أنسب، لأنّها التي يتعلق بها العدّ، وأمّا النّعماء! فصفة له تعالى بمعنى الإنعام، لا يتعلّق بها العدّ، لأنّ الصفة لا تعدّد فيها؛ ولا تكثر. (أسألك؛ أن تصلّي على محمّد، وعلى آل محمّد. وبك أدرأ) - بفتح الهمزة وسكون الدال وبالراء-: أدفع (في نحور الأعداء والجبّارين) : العتاة المتكبّرين. (اللهمّ؛ أعنّي على ديني بالدّنيا، وعلى آخرتي بالتّقوى، واحفظني فيما غبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته. يا من لا تضرّه الذّنوب، ولا ينقصه العفو.. هب لي ما لا ينقصك، واغفر لي ما لا يضرّك، إنّك أنت الوهّاب. أسألك فرجا قريبا، وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشّكر على العافية، ... عنه) من الأفعال التي لا أستحضرها، أو من الأهل والمال، (ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته) : من الحضور: ضدّ الغيبة، وكذلك في «فهرس الكاملي» ، و «الشراباتي» ، و «ابن عابدين» ، وغيرهم من أرباب الفهارس، ومثله في رواية ابن أبي الدنيا. وفي «المنح» : أمّا «المواهب» !! ففي روايته من طريق الدّيلمي: «فيما حظرته عليّ» - بالظاء المشالة-؛ من الحظر: وهو المنع، ومعناه- كما قال الزرقاني على «المواهب» -: «لا تكلني إلى نفسي فيما منعته عليّ، بل إلى توفيقك؛ لئلّا أقع فيما حظرته» . (يا من لا تضرّه الذّنوب، ولا ينقصه العفو؛ هب لي ما لا ينقصك) وصوله إليّ وهو عفوك، (واغفر لي ما لا يضرّك) وهو الذنوب. (إنّك أنت الوهّاب) : كثير النعم دائم العطا، صيغة مبالغة من الهبة؛ وهي العطيّة بلا سبب سابق ولا استحقاق، ولا مقابلة ولا جزاء. (أسألك فرجا قريبا؛ وصبرا جميلا) لا جزع فيه، (ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية) ؛ أي: السلامة من الأسقام، (وأسألك الشّكر على العافية) ، أعادها مظهرة!! لأنّ مقام الدعاء يطلب فيه البسط، لأنّه مقام خطاب وخضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 وأسألك الغنى عن النّاس، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» . (الدّيلميّ؛ عن جعفر الصّادق؛ عن أبيه؛ عن جدّه [عليهم السّلام] ) . (وأسألك الغنى) - بكسر الغين المعجمة والقصر- (عن النّاس، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ) ختم بها الدعاء لما فيه من التوحيد الخفيّ؛ قاله الزرقاني. (الدّيلميّ) ؛ أي: أخرجه أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي، الهمذاني، المتوفى سنة- 558-: ثمان وخمسين وخمسمائة، يتصل نسبه بالضّحّاك بن فيروز الديلمي الصحابي. وقد أخرجه الديلمي في كتاب «مسند الفردوس» ؛ (عن جعفر الصادق) ، لصدقه في مقاله؛ من سادات أهل البيت. (عن أبيه) محمد الباقر؛ (عن جدّه) عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب؛ مرسلا، لأنّ جدّه تابعيّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدّعاء: «اللهمّ احرسني ... الخ. وذكره المصنّف في «رياض الجنة» ؛ وقال: أخرجه ابن عساكر؛ عن جعفر بن محمد؛ عن أبيه؛ عن جدّه: عليّ زين العابدين؛ عن أبيه الحسين؛ عن أبيه عليّ رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر دعا بهذا الدّعاء: «اللهمّ؛ احرسني- إلى قوله- العظيم» . وكان يقول: إنّه دعاء الفرج. وهو حزب عظيم، مشهور بالبركة، مجرّب لدفع الشدائد، مسلسل بقول كلّ راو: «كتبته وها هو في جيبي» . وقد بسطتّ الكلام عليه في كتابي: «سعادة الدارين في الصلاة على سيّد الكونين صلى الله عليه وسلم» . انتهى. وقال المصنّف في «سعادة الدارين» : رأيت في بعض المجاميع ما نصّه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 ......... أخبرنا الشيخ أبو العباس: أحمد بن محمد بن حسن اللواتي؛ قال: أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن محمد عرف ب «ابن الصائغ» ؛ قال: أخبرنا أبو القاسم بن خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال؛ قال: أخبرنا أبو الحسن: محمّد بن عبد الرحمن «صاحبنا» بقراءتي عليه؛ قال: أخبرنا أبو القاسم بن صواب سماعا؛ قال: أخبرنا أبو مروان: عبد الملك بن زيادة الله الطبني؛ قال: حدثنا أبو القاسم بن بندار، قال: حدثني محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي، أبو الحسن، قال: حدّثنا أبو عياض: أحمد بن محمد بن يعقوب الهرويّ الشافعي؛ قال: أنبأنا أحمد بن منصور الحافظ؛ قال: أنبأنا أبو الحسن: علي بن الحسين بن أحمد القطّان البلخي «المحتسب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان صدوقا» ؛ قال: أنبأنا محمد بن هارون الهاشمي؛ قال: حدثنا محمد بن يحيى المازنيّ؛ قال: أنبأنا موسى بن سهل عن الربيع؛ قال: لمّا استولى على الخلافة أبو جعفر المنصور؛ قال لي: يا ربيع؛ ابعث إلى جعفر بن محمّد. قال: فقمت بين يديه؛ فقلت: أيّ بليّة يريد أن يفعل، وأو همته أنّي أفعل، ثم أتيته بعد ساعة؛ فقال: ألم أقل لك؛ ابعث إلى جعفر بن محمّد!؟ فو الله؛ لتأتينّي به، أو لأقتلنّك شرّ قتلة، قال: فذهبت إليه؛ فقلت: أبا عبد الله؛ أجب أمير المؤمنين!! فقام معي، فلمّا دنونا من الباب قام فحرّك شفتيه ثمّ دخل، فسلّم فلم يردّ عليه السلام، ووقف فلم يجلسه، ثم رفع رأسه؛ فقال: يا جعفر؛ أنت الذي ألّبت وكثّرت؛ وقد حدّثني أبي؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينصب للغادر لواء يوم القيامة يعرف به» !؟ قال جعفر: حدّثني أبي؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة من بطنان العرش: ألا فليقم من كان أجره على الله!! فلا يقوم من عباد الله إلّا المتفضّلون» . فلم يزل يقول حتّى سكن ما به ولان له، فقال: اجلس أبا عبد الله؛ ارتفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 ......... أبا عبد الله، ثم دعا بمدهن غالية، فجعل يغلّفه بيده والغالية تقطر من بين يدي أمير المؤمنين، ثم قال: انصرف أبا عبد الله؛ في حفظ الله. وقال لي: يا ربيع؛ اتبع أبا عبد الله وأعطه جائزته وأضعفها له. قال: فخرجت؛ فقلت: يا أبا عبد الله؛ تعلم محبّتي لك!! قال: أنت منّا، حدّثني أبي؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: مولى القوم منهم» . قلت: يا أبا عبد الله؛ شهدت ما لم تشهد، وسمعت ما لم تسمع، وقد دخلت ورأيتك تحرّك شفتيك عند دخولك إليه؟! قال: نعم؛ دعاء كنت أدعو به. قال: دعاء حفظته عند دخولك إليه؛ أم شيء تأثره عن آبائك الطاهرين؟ قال: لا، بل حدّثني أبي عن جدّه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء، وكان يقول: «دعاء الفرج» . وهو هذا: «اللهمّ ... إلى قوله العظيم» . قال الربيع: فكتبته من جعفر بن محمد؛ فها هو في جيبي. قال موسى بن سهل: فكتبته من الربيع؛ فها هو في جيبي. قال محمد بن يحيى: فكتبته من موسى؛ فها هو في جيبي. قال: محمد بن هارون، فكتبته من محمّد بن يحيى؛ فها هو في جيبي. قال أبو الحسن عليّ بن الحسين: فكتبته من محمد بن هارون؛ فها هو في جيبي. قال أحمد بن منصور: فكتبته من عليّ بن الحسين؛ فها هو في جيبي. قال أبو عياض أحمد بن محمد الهروي: فكتبته من أحمد بن منصور؛ فها هو في جيبي. قال: محمد بن عليّ بن صخر: فكتبته عن أبي عياض؛ وجعلت نسخته في جيبي. قال أبو القاسم ابن بندار: هو عندي بخطّ القاضي ابن صخر أبي الحسن. قال أبو مروان الطبني: فكتبته عن ابن بندار أبي القاسم؛ وهو عندي. قال أبو القاسم بن صواب: فكتبته عن أبي مروان عبد الملك الطبني؛ وهو عندي. قال أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن: كتبته عن أبي القاسم بن صواب؛ فها هو عندي. قال أبو القاسم ابن بشكوال: فكتبته عن أبي الحسن محمد بن عبد الرحمن؛ فها هو عندي. قال الشيخ أبو الحسين بن الصائغ: فكتبته عن أبي القاسم بن بشكوال؛ فها هو عندي. وأراناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 ......... قال شيخنا أبو العبّاس- أيّده الله-: كتبته عن أبي الحسين، وها هو عندي، وأراناه. وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلم. وبخط اللّواتي المذكور قرأ جميع هذا الدعاء وسلسله؛ كما فيه عليّ بن إبراهيم بن سوار البوصيري، وقرأه ابن النّعمان المزالي على اللّواتي المذكور وسلسله، واتصّل سندنا بشيخنا شيخ الإسلام؛ بركة الأنام؛ محمّد البهائي «خادم السنّة بثغر دمياط» بإجازته من الشيخ إبراهيم الكوراني المدني؛ عن الشيخ أحمد العشاشي المدنيّ؛ عن الشمس محمّد الرّملي؛ عن شيخ الإسلام زكريّا الأنصاري؛ عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني عمّن لقي من أصحاب ابن النّعمان. والحمد لله على ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. انتهى. ثمّ رأيته في ثبت العلامّة الشيخ محمد عابد بن أحمد علي الأنصاري الخزرجي السنديّ ثم المدنيّ؛ المسمّى: «حصر الشارد من أسانيد محمد عابد» بسند آخر يجتمع مع السند المتقدم في أبي الحسن محمد بن علي الأزدي. قال الشيخ محمد عابد المذكور: المسلسل بقول كل راو من الرواة «كتبته؛ فها هو في جيبي» : أرويه عن السيد عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبيه؛ عن السيّد أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل، عن السيّد يحيى بن مقبول الأهدل، عن السيّد أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن السيّد يوسف بن محمّد البطاح الأهدل، عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل، عن الحافظ عبد الرحمن بن عليّ الديبع، عن الشمس محمّد بن عبد الرحمن السخاوي قال: أنبأنا الشيخان؛ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ البيضاوي، والكاتبة مريم بنت علي بن عبد الرحمن؛ قالت الثانية: أنبأنا المحبّ محمد بن أحمد الطبري- سماعا- وعبد الله بن سليمان المكي إذنا؛ إن لم يكن سماعا. وقال الأوّل: أنبأنا أبو السادة عبد الله بن أسعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 ......... اليافعي قال: هو والمكيّ: أنبأنا الرضي أبو إسحاق الطبري؛ قال: أنبأنا المحبّ أحمد بن عبد الله الطبري؛ قال: أنبأنا التقيّ أبو الحسن: عليّ بن أبي بكر الطبري قال: أنبأنا التقيّ أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني الفقيه، قال: أنبأنا الحافظ أبو الحسن عليّ بن الفضل المقدسي. قال السخاوي: قال شيخي الأول- وهو أعلى-: أنبأنا الإمام المجد أبو الطاهر الفيروز آبادي، وكتب إليّ أيضا عاليا: عبد الرحمن قالا: أنبأنا محمّد بن أبي القاسم الفارقي؛ قال: أنبأنا عليّ بن أحمد العراقي؛ قال: أنبأنا جعفر بن عليّ قال: أنبأنا الشريف أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الديباجي؛ قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن صدقة بن سليمان الإسكندري؛ قال: حدّثنا أبو الفتح نصر بن الحسين بن القاسم الشاشي، قدم علينا إسكندرية، قال؛ حدّثنا عليّ بن الحسين بن إبراهيم العاقولي؛ قال: حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر الأزدي ... إلى آخر السند المتقدّم!!. وقال كلّ من الرواة «كتبته من فلان؛ وها هو في جيبي» إلى أن قال محمّد عابد «صاحب الثبت» المذكور: فكتبته عن شيخنا السيّد عبد الرحمن بن سليمان؛ وأجازني به. قال: وقد أخرج الديلمي هذا الحديث في «الفردوس» بلفظ «يا عليّ؛ إذا حزبك أمر؛ فقل: اللهمّ احرسني بعينك الّتي لا تنام ... الخ» . وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «الفرج بعد الشدّة» أيضا. انتهى ما في «سعادة الدارين» . قلت: والذي أخرجه ابن أبي الدنيا فيه بعض مخالفة لما هنا، ومن طريق ابن أبي الدنيا أورده السيوطيّ في «الأرج في الفرج» ، وفي الدعاء بعض مخالفة، وليس فيه إسناد الدعاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم!!. وأورد القسطلّاني في «المواهب» رواية الديلمي- كما في المصنف-، وهو حديث جليل، حسن غريب، أخرجه ابن الطيلسان، وأبو عليّ بن أبي الأحوص، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 53- «اللهمّ؛ طهّر قلبي من النّفاق، وعملي من الرّياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور» . وغيرهما من أرباب المسلسلات. قال ابن الطيلسان: قد جرّبت بركته في غير ما شيء من الشدائد النازلة، وجرّبه غير واحد ممّن كتبه عنّي؛ فوجدنا نفعه، والحمد لله. وفي «ثبت الكاملي» الذي جمعه المنلا إلياس الكوراني: هو حديث، ودعاء، وتميمة، وقد وجد فيه ما يرغب في الاعتناء به، وفيه ما يدلّ على أنّه مشتمل على اسم الله الأعظم. انتهى كلام المصنّف في «سعادة الدارين» . رحمه الله تعالى آمين. 53- ( «اللهمّ؛ طهّر قلبي من النّفاق) ؛ أي: من إظهار خلاف ما في الباطن، وهذا قاله تعليما لغيره كيف يدعو. (وعملي من الرّياء) - بمثنّاة تحتيّة- أي: حبّ اطّلاع الناس على عملي. (ولساني من الكذب) ؛ أي: ونحوه من الغيبة والنميمة. (وعينيّ) - بالتثنية والإفراد- (من الخيانة) ؛ أي: النظر إلى ما لا يجوز. (فإنّك تعلم خائنة الأعين) ؛ أي: الرمز بها، أو مسارقة النظر، أو هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعين الخائنة، (وما تخفي) القلوب الحالّة في (الصّدور» ) من الوسوسة وإضمار الخيانة. وهذا قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم- مع أنّ ذاته الشريفة جبلت على الطهارة ابتداء، ونزعت من قلبه علقة الشيطان، وأعين على شيطانه فأسلم- تشريعا؛ من قبيل قوله وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) [المدثر] . وكانت ثيابه طاهرة على كلّ تأويل، لكن هذا مقتضى الحكمة في تكليف البشريّة، وهو عليه الصلاة والسلام المشرّع المربّي، فعمل على ما تقتضيه البشريّة؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 (الحكيم، خط؛ عن أمّ معبد الخزاعيّة [رضي الله تعالى عنها] ) . 54- «ربّ؛ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ... (الحكيم) ؛ أي: أخرجه الحكيم الترمذيّ في «نوادر الأصول» . (خط) ؛ أي: وأخرجه الخطيب: كلاهما؛ (عن أمّ معبد) بنت خالد (الخزاعيّة) الكعبيّة: عاتكة التي نزل عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة. قال العراقيّ: سنده ضعيف. 54- ( «ربّ؛ أعنّي) ؛ أي: «على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ؛ كما في حديث آخر. (ولا تعن عليّ) من يمنعني عن ذلك. ويحتمل أن يكون المراد: أعنّي على أعدائك الذين يريدون قطعي عنك، ولا تعن أحدا منهم عليّ. وعلى هذا التقرير فيكون قوله: (وانصرني ولا تنصر عليّ) تأكيدا لما قبله، أو من عطف الخاصّ على العامّ، لأنّ الأوّل في الأعداء المقاتلين وغيرهم، والثاني في المقاتلين، وعلى التقرير الأوّل؛ فقوله: «وانصرني» ، أي: على نفسي وشيطاني وسائر أعدائي، و «لا تنصر عليّ» أي: أحدا من خلقك؛ من عطف العام على الخاص. (وامكر لي) هذا مما استعمل في حقه تعالى والمراد غايته، كما هو القاعدة في كلّ ما استحالت حقيقته على الله تعالى، إذ المكر: الخداع؛ وهو إبطال الحيلة للغير حتى ينفذ فيه ما يريده به من الشرّ، وهذا محال على الله عزّ وجلّ، إذ لا يفعل ذلك إلّا عاجز عن الأخذ مقاهرة، ولكن غايته إيقاع البلاء بالعدوّ من حيث لا يشعر، أو استدراجه بالطاعة حتى يظنّ أنه على شيء، ومن ثمّ قال بعض العارفين- في قوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) [الأعراف]-: نظهر لهم الكرامات حتى يظنو أنّهم من الأولياء، ثمّ نأخذهم على غرّة. فقوله: «امكر لي» ؛ أي: أوقع البلاء بالأعداء من حيث لا يشعرون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 ولا تمكر عليّ، واهدني، ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. ربّ؛ اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، لك مطواعا، لك مخبتا، ... (ولا تمكر عليّ) بالاستدراج بالطاعة وتوهّم أنّها مقبولة؛ وهي مردودة. (واهدني) ؛ أي: دلّني على عيوب نفسي، وأوصلني إلى المقامات الكريمة، (ويسّر الهدى لي) ؛ أي: سهّل أسبابه لي، (وانصرني على من بغى عليّ) ؛ أي: ظلم وتعدّى وطغى. وهذا تأكيد لقوله: «أعنّي ... الخ» . (ربّ؛ اجعلني لك) ؛ أي: وحدك، كما أفادة تقديم المعمول، وكذا في الباقي، فتقديم الصلات لذلك والاهتمام. (شاكرا) بلساني وجناني وأركاني؛ بأن أصرف ذلك كلّه إلى ما خلقته لأجله؛ من دوام الذكر، وشهود الجلال، والقيام بوظائف الخدمة والعبوديّة. (لك ذاكرا) ؛ أي: باللسان والجنان بذكر أسمائك، وجلائل نعمك ودقائقها، فهو كالتأكيد لما علم- ممّا تقرّر في الشكر أنّه يشمله- وكذا يقال فيما بعده. (لك راهبا) ؛ أي: منقطعا عن الخلق، متجرّدا عنهم، متوجّها إلى الحضور مع الحقّ. (لك مطواعا) - بكسر أوّله وسكون ثانيه المهمل- أي: كثير الطّوع: وهو الطاعة؛ ذكره الطّيبي. (لك مخبتا) ، قيل: الأصل: إليك؛ كما في وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [23/ هود] وعدل منه إلى اللّام!! تأكيدا لمعنى الاختصاص المتبادر من التقديم. والمخبت: قال ابن الجزري: الخاشع؛ من الإخبات: الخشوع والتواضع. وقال ابن حجر الهيتميّ: مخبتا؛ أي: وجل القلب عند ذكرك، صابرا على ما أصابني، مقيما للصلاة على ما ينبغي، منفقا ممّا رزقتني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 إليك أوّاها منيبا. ربّ؛ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، واهد قلبي، ... دلّ على ذلك قوله وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) [الحج] . وأصل الإخبات: الطّمأنينة، ومنه وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [23/ هود] ، أي: اطمأنّت نفوسهم إلى امتثال جميع ما برز منه، والمخبت: الخاشع المتواضع. انتهى «شرح الأذكار» . (إليك أوّاها) أتى ب «إلى» في هذا المقام!! لكونها أظهر تبادلا؛ أو معنى من اللّام. والأوّاه: مبالغة من: أوّه تأويها؛ إذا قال: أوّه، وهو صوت الحزين المتفجع. (منيبا) ؛ أي: اجعلني راجعا إليك عن المعصية إلى الطاعة، وعن الغافلة إلى الحضرة. (ربّ؛ تقبّل توبتي) ؛ أي: اجعلها قابلة للقبول، (واغسل حوبتي) - بفتح المهملة-، والحوب- بالضم والفتح-: الإثم، وغسلها كناية عن إزالتها بالكليّة؛ بحيث لا يبقى منها أثر. (وأجب دعوتي) ؛ أي: جميع دعواتي؛ كما أفادته الإضافة وذكر!! لأنّه من فوائد القبول التوبة. وذكر ابن حجر في «شرح المشكاة» : أنّ دعوات التائب مستجابة بإعطائها نفسها، أو ما هو أفضل منها. (وثبّت حجّتي) ؛ أي: على أعدائك في الدنيا، وعند إجابة الملكين في البرزخ، وبين يديك عند الحساب يوم القيامة. (واهد قلبي) ؛ أي: أوصله إلى دوام مراقبة اطّلاعك عليه، ثمّ شهود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 وسدّد لساني، واسلل سخيمة صدري» . (ت، د، هـ؛ عن ابن عبّاس) . 55- «اللهمّ؛ أغنني بالعلم، ... عظمتك، بحيث يكون فانيا عما سواك، راغبا في دوام إمدادك ورضاك. (وسدّد لساني) ؛ أي: اجعله متحرّيا للسداد؛ فلا أنطق إلّا بالحق فأكون مصيبا، كما أنّ من سدّد ساعده عند رمية سهمه يكون مصيبا غالبا. (واسلل سخيمة صدري» ) ؛ أي: أخرجها. من سلّ السيف؛: أخرج من غمده، والسّخيمة هنا- كما قال النوويّ-: الحقد، وجمعها السخائم؛ أي: أخرج ما في صدري؛ من الحسد والكبر وغيرهما من الأخلاق الرديئة، من السّخمة: وهي السواد، ومنه سخائم القدر. وإضافتها للصدر!! لأنّ مبدأها- أي: غالبا- القوّة الغضبيّة المنبعثة من القلب الذي هو في الصدر. وفي رواية ابن أبي شيبة: «قلبي» بدل «صدري» ؛ قاله ابن علّان. (ت، د، هـ) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ، وأبو داود، وابن ماجه- كما في المصنّف-؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، وقال الترمذي: حسن صحيح. وكذا أخرجه عنه النسائي، والحاكم، وابن حبّان في «صحيحيهما» ؛ كما في «السلاح» . ورواه ابن أبي شيبة في «مصنّفه» ؛ كما في «الحصن» ؛ قاله ابن علان. وكذا رواه الإمام أحمد في «مسنده» . 55- ( «اللهمّ؛ أغنني بالعلم) ؛ أي: علم طريق الآخرة، إذ ليس الغنى إلّا به، وهو القطب؛ وعليه المدار، لأنّ العلم والعبادة جوهران؛ لأجلها كان كلّ ما ترى وتسمع؛ من تصنيف المصنفين، وتعليم المعلّمين، ووعظ الواعظين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 وزيّنّي بالحلم، وأكرمني بالتّقوى، وجمّلني بالعافية» . (ابن النّجّار؛ ... ونظر الناظرين. بل لأجلهما أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل. بل لأجلها خلقت السموات والأرض وما فيهما من الخلق، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) [الطلاق] . وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العلم؛ لا سيّما علم معرفة الله. والعلم أشرف الجوهرين؛ وأفضلها، فمن أوتي العلم فهو الغنيّ بالحقيقة؛ وإن كان فقيرا من المال، ومن حرم العلم- لا سيّما علم المعرفة والتوحيد- فهو الفقير بالحقيقة؛ وإن كان غنيّا بالمال، ولهذا قال: من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشّقيّ قاله المناوي في «كبيره» . (وزيّنّي بالحلم) ؛ أي: اجعله زينة لي، فإنّه لا زينة كزينته. (وأكرمني بالتّقوى) لأكون من أكرم الناس عليك؛ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13/ الحجرات] . (وجمّلني بالعافية» ) ، فإنّه لا جمال كجمالها. وقد قيل: العافية تاج على رؤوس الأصحّاء لا يعرفها إلّا المرضى، وخصّ سؤال الإكرام بالتقوى!؟ موافقة للآية الكريمة في قوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لأنّها أساس كلّ خير وعماد كلّ فلاح، وسبب لسعادة الدنيا والعقبى. ولقد صدق القائل: من اتّقى الله فذاك الذي ... سيق إليه المتجر الرّابح وقال الآخر: ما يصنع العبد بغير التّقى ... والعزّ كلّ العزّ للمتّقي وهب أنّ الإنسان تعب جميع عمره، وجاهد وكابد؛ أليس الشأن كلّه في القبول!؟ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) [المائدة] . فمرجع الأمر كلّه للتقوى. (ابن النّجّار) ؛ أي: أخرجه ابن النّجّار في «تاريخه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 عن ابن عمر) . 56- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلّها. وهو الإمام العلّامة الحافظ: محمّد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن، محبّ الدين بن النجار؛ البغداديّ، الحافظ، المؤرّخ، الأديب، أحد أفراد عصره. ولد في بغداد في ذي القعدة الحرام، سنة- 578-: ثمان وسبعين وخمسمائة هجريّة. وسمع من الحافظ ابن الجوزيّ الواعظ وغيره. ورحل إلى الشام ومصر والحجاز وخراسان وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور، مع الكثير، وحصّل الأصول والمسانيد، واستمرت رحلته سبعا وعشرين سنة، واشتملت «مشيخته» على ثلاثة آلاف شيخ. وكان إماما حجّة، ثقة حافظا، مقرئا، أديبا، عارفا بالتاريخ وعلوم الأدب، حسن الإلقاء والمحاضرات، وله التصانيف الممتعة؛ منها «تاريخ بغداد» : ذيّل به على «تاريخ بغداد» للحافظ أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغدادي، واستدرك عليه، وهو تاريخ حافل، دل على تبحّره في التاريخ، وسعة حفظه للتراجم والأخبار. وكانت وفاته في بغداد سنة- 643- ثلاث وأربعين وستمائة هجرية، رحمه الله تعالى آمين. (عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، ورواه عنه الإمام الرافعيّ أيضا. 56- ( «اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي) : جمع ذنب، والذنب: ماله تبعة دنيويّة؛ أو أخرويّة، مأخوذ من الذّنب. ولما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم معاتبا بترك ما هو الأولى تأكيدا لعصمته- أطلق عليه اسم الذنب. (وخطاياي) : جمع خطيئة، ويقال: خطيّة، وهي مرادفة للذنب- كما في كتب اللغة- وإن كان أصل العطف يقتضي المغايرة. (كلّها) ؛ أي: صغيرها وكبيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 اللهمّ؛ أنعشني، واجبرني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق؛ فإنّه لا يهدي لصالحها، ولا يصرف سيّئها إلّا أنت» . (طب؛ عن أبي أمامة [رضي الله تعالى عنه] ) . 57- «اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا، ورزقا ... (اللهمّ؛ أنعشني) - بهمزة قطع ويجوز وصلها-، أي: ارفعني وقوّ جأشي، (واجبرني) ؛ أي: أصلح شأني بحصول الغنى لي. (واهدني لصالح الأعمال) . أي: للأعمال الصالحة. (والأخلاق) : جمع خلق- بالضم-: الطبع والسجيّة، وجمعه!! باعتبار مخالفته الناس ومجاملتهم، كما أشار إليه خبر: «وخالق النّاس بخلق حسن» . (فإنّه لا يهدي لصالحها، ولا يصرف سيّئها) عنّي (إلّا أنت» ) ؛ لأنّك المقدّر للخير والشرّ، فلا يطلب جلب الخير إلّا منك، ولا دفع الشرّ إلّا منك وحدك. وفيه حذف من الأوّل، فكأنّه قال: واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، واصرف عنّي سيّئها؛ فإنّه لا يهدي ... الخ. (طب) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ؛ (عن أبي أمامة) الباهليّ رضي الله تعالى عنه قال: ما صلّيت وراء نبيّكم صلى الله عليه وسلم إلّا سمعته يقول ذلك!!. قال الحافظ الهيثميّ: رجاله وثّقوا. وكذا رواه ابن السّنّيّ عن أبي أمامة الباهليّ. قال في «شرح الأذكار» : وهو حديث غريب؛ كما قاله الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى، انتهى. 57- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا) ؛ أي: شرعيا، أعمل به، وقدم على ما بعده؟ لأنه طريق إلى معرفة الحلال والحرام وأسباب القبول. (ورزقا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 طيّبا، وعملا متقبّلا» . (حم، هـ؛ عن أمّ سلمة) . 58- «اللهمّ؛ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق.. أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرا لي. اللهمّ؛ وأسألك خشيتك في الغيب والشّهادة، ... طيّبا) ؛ أي: حلالا ملائما للقوّة، معينا على الطاعة والعبادة، (وعملا متقبّلا» ) بفتح الباء-؛ أي: مقبولا؛ بأن يكون مقرونا بالإخلاص. (حم) ؛ أي: أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه؛ (عن أمّ سلمة) رضي الله تعالى عنها، «زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين» وقد تقدّمت ترجمتها. وكذا رواه عنها ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ، والنسائي في «السنن الكبرى» ، وأبو يعلى، والدارقطني في «الأفراد» ، والطبرانيّ في «الصغير» ، وهو حديث حسن لشاهده؛ كما قال الحافظ ابن حجر وخرّجه من طرق. انتهى «شرح الأذكار» . 58- ( «اللهمّ؛ بعلمك الغيب) - الباء للاستعطاف والتذلل-؛ أي: أنشدك بحقّ علمك ما خفي على خلقك ممّا استأثرت به، فالغيب مفعول به؛ أي: أتوسّل إليك بهذه الصفة المتعلّقة بكلّ شيء. (وقدرتك على الخلق) ؛ أي: جميع المخلوقات؛ من إنس وجنّ وملك وغيرها. (أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرا لي) عبّر بما في الحياة!! لاتّصافه بالحياة حالا؟ وب «إذا» الشرطيّة في الوفاة!! لانعدامها حال التمنّي؟ أي: إذا آل الحال أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفّني. (اللهمّ؛ وأسألك خشيتك في الغيب) عن أعين الناس، (والشّهادة) للناس، أي: في السّر والعلانية، فإنّ خشية الله رأس كلّ خير. والشأن في الخشية في الغيب!! لمدحه تعالى من يخافه بالغيب، قال تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 وأسألك كلمة الإخلاص في الرّضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرّضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، ... إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) [الملك] . (وأسألك كلمة الإخلاص) ، أي: النطق بالحقّ (في الرّضا والغضب) ، أي: في حالتي رضا الخلق منّي وغضبهم عليّ فيما أقوله؛ فلا أداهن، ولا أنافق، أو في حالتي رضاي وغضبي، بحيث لا تلجئني شدّة الغضب إلى النطق بخلاف الحقّ، ككثير من الناس إذا اشتدّ غضبه أخرجه من الحقّ إلى الباطل. قال الحفني: ولا مانع من إرادة الأمرين معا، أي: أسألك ألاأخرج عن الحق في جميع الأحوال. (وأسألك القصد) ؛ أي: التوسط (في الفقر) بأن لا أقتّر في حال فقري، (والغنى) ؛ أي: التوسّط في الغنى بأن لا أسرف وأنفق المال فيما لا يليق. (وأسألك نعيما لا ينفد) - بالدال المهملة- أي: لا ينقضي، وهو نعيم الآخرة. (وأسألك قرّة عين) بكثرة النسل المستمرّ بعدي، أو بالمحافظة على الصلاة، لقوله: «وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» . (لا تنقطع) ؛ بل تستمرّ ما بقيت الدنيا، وقيل: أراد قرّة عينه بدوام ذكره وكمال محبّته والأنس به. قال بعضهم: من قرّت عينه بالله قرّت به كلّ عين؛ قاله المناوي. وقال الحفني: قوله: «قرّة عين» ؛ أي: فرّحني دائما، وخصّ العين!!؟ لأنّها سبب في فرح القلب عند نظرها ما يسر. (وأسألك الرّضا بالقضاء) بأن تسهّله عليّ فأتلقّاه بانشراح صدر. (وأسألك برد العيش بعد الموت) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقرّبين، فهو كناية عن السرور الدائم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 وأسألك لذّة النّظر إلى وجهك، والشّوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة. اللهمّ؛ زيّنّا بزينة الإيمان، ... وقيّد ببعد الموت!! لأنّ السرور الدائم لا يتيسر في الدنيا، لأنّها دار همّ وغمّ وسقم. هي الدّنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي (وأسألك لذّة النّظر إلى وجهك) ؛ أي: الفوز بالتجلّي الذاتيّ الأبدي الذي لا حجاب بعده، ولا مستقرّ للكمّل دونه؛ وهو الكمال الحقيقيّ. وقيّد النظر باللّذّة!! إيذانا بأنّ المسؤول هو نظر اللطف والجمال في الجنّة، لا نظر الهيبة والجلال في عرصات القيامة. (والشّوق) - بالنصب- أي: وأسألك الشوق (إلى لقائك) . قال ابن القيّم: جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا؛ وهو الشوق إلى لقائه، وأطيب ما في الآخرة؛ وهو النظر إليه. (في غير ضرّاء مضرّة) بأن لا يكون هناك ضرّاء أصلا، أو هناك ضرّاء غير مضرّة، وذلك أنّ أهل الشوق إلى اللقاء الذين هم أهل الحبّ الخالص المشاهدون لذاته تعالى؛ قد يحصل لهم حجب عن الشهود في بعض الأحيان، ثمّ يزول ويرجع لهم الشهود، فهذا الحجب ضرر، لكنه غير مضرّ لكونه يزول، فإن دام! فهو الضرر المضرّ، وبعض أهل الله لا يحصل لهم حجب أصلا؛ فضلا عن دوامه. (ولا فتنة مضلّة) ؛ أي: موقعة في الحيرة، مفضية إلى الهلاك. قال القونوي: الضّراء المضرّة: حصول الحجاب بعد التجلّي، والتجلّي بصفة تستلزم سدل الحجب، والفتنة المضلّة: كلّ شبهة توجب الخلل، أو تنقص في العلم والشهود. (اللهمّ؛ زيّنّا بزينة الإيمان) ، وهي زينة الباطن، إذ لا معوّل إلّا عليها، لأنّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 واجعلنا هداة مهتدين» . (ن، ك؛ عن عمّار بن ياسر [رضي الله تعالى عنهما] ) . الزينة زينتان: زينة البدن، وزينة القلب؛ وهي أعظمهما قدرا، وإذا حصلت زينة القلب حصلت زينة البدن على أكمل وجه. والمعنى: اللهمّ اجعلنا مستكملين لشعب الإيمان؛ لتتنوّر بواطننا بالنّور الناشىء عن التصديق القلبيّ فيظهر نوره علينا. (واجعلنا هداة) ؛ أي: نهدي غيرنا (مهتدين» ) في أنفسنا، لأنّ الهادي إذا لم يكن مهتديا في نفسه لم يصلح كونه هاديا لغيره؛ لأنّه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر. (ن، ك) ؛ أي: أخرجه النسائيّ، والحاكم؛ أي: وكذا الإمام أحمد في «المسند» ، كلهم؛ (عن) أبي اليقظان (عمّار بن ياسر) العنسي- بالعين المهملة المفتوحة والنون الساكنة والسين المهملة- ثم المذحجيّ؛ القحطانيّ نسبا، المخزوميّ حلفا وولاء، المكّي ثمّ المدنيّ ثمّ الشاميّ ثمّ الدمشقيّ. أحد السابقين الأوّلين المعذّبين في الله أشدّ العذاب، وكذا عذّب أبوه وأمّه سميّة، ومرّ بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهم يعذّبون فقال: «صبرا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنّة» ، وكانت سميّة أمّه أوّل شهيدة في الإسلام. شهد عمّار جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخصوصا منه بالبشارة والترحيب، والبشاشة والتطييب، وأخبر أنه أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنّة، وقال له: «مرحبا بالطّيّب المطيّب» . وأخبر أنّه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وقال: عمّار جلدة ما بين عيني وأنفي» ، وقال: «اهتدوا بهدي عمّار» ، وقال: «من عادى عمّارا عاداه الله، ومن أبغض عمّارا أبغضه الله» . وآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن أبي وقّاص. ولمّا أخبر صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الكفر فكفر؛ قال: «كلّا؛ والله إنّ عمّارا ملىء إيمانا من قرنه إلى مشاشه» . ونزل فيه قوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [106/ النحل] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 59- «اللهمّ؛ أنت خلقت نفسي، وأنت توفّاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها.. فاحفظها، وإن أمتّها.. فاغفر لها. اللهمّ؛ إنّي أسألك العافية» ... ولّاه عمر على الكوفة؛ وكتب إليهم: إنّه من النّجباء الرّفقاء؛ فاعرفوا له قدره. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وستّون حديثا؛ اتّفقا منها على واحد، وانفرد البخاريّ بثلاثة، ومسلم بواحد. وأخرج عنه أصحاب «السّنن» وغيرهم. قتل رضي الله عنه بصفّين؛ سنة: سبع وثلاثين، عن ثلاث وخمسين سنة، قال قبل أن يقتل: ائتوني بشربة لبن، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «آخر شربة تشربها شربة لبن» ؛ كذا نقل من «الرياض» للعامريّ باختصار. 59- ( «اللهمّ؛ أنت خلقت نفسي) ؛ أي: أوجدتها من العدم، وأبدعتها على غير مثال سبق. (وأنت توفّاها) - بحذف إحدى التاءين للتّخفيف- أي: تتوفّاها. وحسن الحذف هاهنا!! لئلّا يجتمع ثلاث تاءآت؛ قاله ابن الجزريّ في «مفتاح الحصن» . (لك مماتها ومحياها) ؛ أي: موتها وحياتها ملكان لك، لا يملك غيرك شيئا من ذلك، قال تعالى وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) [الفرقان] . (إن أحييتها فاحفظها) من البليّات، وممّا يوجب العذاب أو يقتضي الحجاب، (وإن أمتّها فاغفر لها) ذنوبها وسائر المخالفات والتقصيرات، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت. (اللهمّ؛ إنّي أسألك) ، أي: أطلب منك (العافية» ) - تعميم بعد تخصيص- أي: أسألك العافية في اليقظة والمنام، وفي الحياة الدنيا من سائر الآلام وجميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 (م؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 60- «اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منّي. المؤذيات والأسقام، وفي الآخرة من حلول دار الانتقام، والبعد عن رضا الملك العلّام. (م) ؛ أي: أخرجه مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث خالد بن عبد الله بن الحارث (عن ابن عمر) بن الخطّاب، ورواه عنه النسائي أيضا. قال خالد: سمعت عبد الله بن الحارث يحدّث عن ابن عمر: أنّه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه أن يقول ذلك، فقال له رجل: سمعت هذا من عمر!؟ فقال: من خير من عمر.. من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو يعلى؛ كما أشار إليه الحافظ ابن حجر قال: وليس لعبد الله بن الحارث- وهو أبو الوليد البصري؛ نسيب ابن سيرين- إلّا هذا الحديث الواحد عن ابن عمر في الصحيح. 60- ( «اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي) ؛ أي: ذنبي، ويجوز تسهيل الهمزة فيقال: خطيتي- بالتحتيّة المشدّدة- (وجهلي) ، أي: ما صدر منّي من أجل جهلي. وفيه إيماء إلى قوله تعالى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء] . قال البغويّ: أجمع السلف على أنّ من عصى الله تعالى؛ فهو جاهل؛ قاله في «شرح الأذكار» لابن علّان رحمه الله تعالى. وقال الحفني: قوله: «وجهلي» أي: ما يقع منّي حال الجهل. (وإسرافي في أمري) ؛ أي: مجاوزتي الحدّ في كلّ شيء، (وما أنت أعلم به منّي) من المعاصي والسيّئات، والتقصير عن الطاعات؛ ممّا علمته وممّا لم أعلمه، فهو تعميم بعد تعميم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي وعمدي، وهزلي وجدّي، وكلّ ذلك عندي. (اللهمّ؛ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، ... (اللهمّ؛ أغفر لي [خطئي] ) : نقيض الصواب. (وعمدي) ، هما متقابلان؛ قاله المناوي. وأقول: كذا وقع في نسخة «الجامع الصغير» : «خطأي» بلفظ المفرد، ومثله في «الأذكار النووية» . ووقع عند أكثر رواة البخاريّ: «خطاياي» ؛ كما نبّه عليه ميرك!! قال الحافظ ابن حجر: في رواية الكشميهني: «خطئي» ، وكذا أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» بالسند الذي في «الصحيح» ، وهو المناسب لذكر العمد، ولكنّ جمهور الرواة على الأوّل. والخطايا: جمع خطيئة، وعطف العمد عليها!! من عطف الخاصّ على العامّ، فإنّ الخطيئة أعمّ من أن تكون خطأ أو عمدا، أو من عطف أحد المتقابلين على الآخر. انتهى. والمعنى: أنّه اعتبر المغايرة بينهما باختلاف الوصف؛ كما في قوله تعالى تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر] . (وهزلي وجدّي) - بكسر الجيم-: وهما ضدّان. (وكلّ ذلك عندي) ، أي: موجود ومتحقّق، كالتذييل للسابق، أي: أنا متّصف بهذه الأشياء فاغفرها لي. قاله صلى الله عليه وسلم تواضعا. وعن عليّ رضي الله عنه: عد فوات الكمال وترك الأولى ذنبا، وهذا هو الأعلى، وبالاعتبار أولى، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين. (اللهمّ؛ اغفر لي ما قدّمت) قبل هذا الوقت، (وما أخّرت) عنه، (وما أسررت) ؛ أي: أخفيت، (وما أعلنت) ؛ أي: أظهرت، أو ما حدّثت به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 أنت المقدّم وأنت المؤخّر، وأنت على كلّ شيء قدير» . (ق؛ عن أبي موسى) . 61- «اللهمّ؛ اهدني فيمن هديت، ... نفسي، وما تحرّك به لساني؛ قاله تواضعا وإجلالا لله تعالى. (أنت المقدّم) بعض العباد إليك بتوفيق الطاعة، (وأنت المؤخّر) بخذلان بعضهم عن التوفيق، (وأنت على كلّ شيء قدير» ) ، أي: أنت الفعّال لكلّ ما تشاء. ولذا لم يوصف به غير الباري. ومعنى قدرته على الممكن الموجود حال وجوده: أنّه إن شاء أبقاه، وإن شاء أعدمه. ومعنى قدرته على المعدوم حين عدمه: أنّه إن شاء إيجاده أوجده، وإلّا! فلا. وفيه: أنّ مقدور العبد مقدور لله حقيقة؛ لأنّه شيء. (ق) أي: متفق عليه، أي: رواه البخاريّ، ومسلم في «صحيحيهما» في (الدعوات) ؛ (عن أبي موسى) الأشعريّ: عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه. وقد تقدّمت ترجمته، وأخرجه عنه البيهقيّ، وغيره أيضا. 61- ( «اللهمّ؛ اهدني فيمن هديت) من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، و «في» بمعنى «مع» ، وكذا فيما بعده. قال تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [69/ النساء] الآية. ويصحّ بقاؤها على حالها متعلّقة بمحذوف، وأوثر حذفه!! للمبالغة، أي: اجعل لي نصيبا وافرا من الاهتداء، واجعلني معدودا في جملتهم؛ مندرجا في زمرتهم. وهذا كما قال نبيّ الله سليمان- صلّى الله على نبيّنا وعليه وسلم-: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل] . ونبيّ الله يوسف- صلّى الله على نبينا وعليه وسلم-: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) [الشعراء] . ولم يعبّرا ب «من» كما في قوله تعالى في حق إبراهيم على نبيّنا وعليه وعلى سائر النبيّين الصلاة والسلام: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) [النحل] ؛ إيثارا للتواضع والتذلّل لله تعالى، فشهدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، ... تأخّرهما عن الصالحين، ثمّ سألا أن يلحقا بهم. وأمّا الآية الأخيرة!! فهي إخبار من الله تعالى عن حقيقة إبراهيم، فالملحظ مختلف. ثمّ الصلاح الذي سألاه صلاح الأنبياء، وهو أكمل مراتب الصلاح؛ لا مطلق الصلاح، إذ مرتبة النبوّة أسنى وأشرف. والله أعلم. انتهى «شرح الأذكار» . (وعافني) من كلّ نقص؛ ظاهرا وباطنا، في الدنيا والآخرة، واجعلني مندرجا (فيمن عافيت) ممّن ذكر أوّلا، (وتولّني) ؛ أي: بحفظك لي عن كلّ مخالفة ونظر إلى غيرك؛ بإنعامك عليّ بمعرفتك، واجعلني مندرجا (فيمن تولّيت) كذلك، وهم المذكورون أولا. (وبارك لي فيما أعطيت) : «في» للظّرفية، متعلّقة بالفعل المذكور قبلها، أي: ضع بركتك العظمى لي في كلّ ما أعطيتني من خير الدارين. وفي «النهاية» : أي: أثبت لي دوام ما أعطيتني من التشريف والكرامة. (وقني شرّ ما) ؛ أي: الفعل الذي (قضيت) به عليّ، وشرّ ما يقترن به من وسوسة الشيطان والهوى والنفس للإنسان، حتّى يمنع ثوابه؛ إن كان ابتلاء، ويحمل على الاستمرار فيه؛ إن كان معصية، أو يمنع كماله؛ إن كان طاعة. (فإنّك تقضي؛ ولا يقضى عليك) . وقع كالتعليل لسؤال ما قبله، إذ لا يعطي تلك الأمور المهمّة إلّا من كملت فيه حقائق القدرة؛ ولم يوجد منها شيء في غيره. وإثبات الفاء في رواية الترمذيّ، وإحدى روايات النسائي، والحاكم. (وإنّه) ؛ أي: الشأن (لا يذلّ) - بفتح فكسر- (من واليت) ، الذل: ضدّ العز، والموالاة: ضد المعاداة، والمعنى: لا يطرق الذلّ والهوان في الدارين أحدا واليته من عبادك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 ......... وما يطرقه من الحوادث الظاهرة والأمراض الباطنة ونحوها!! فهو؛ وإن عدّه عوامّ الناس ذلّا؛ إلّا أنه غاية الرّفعة والعزّة عند الله وعند أوليائه. وما العبرة إلّا بهم!! ومن ثمّ وقع للأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- من الامتحان العجيب ما هو مشهور؛ زيادة في التشريف، وإعلاما بعلوّ المقام المنيف. وزاد في رواية النسائي، والطبراني، والبيهقي: «ولا يعزّ من عاديت» بعد قوله «ولا يذلّ من واليت» ، وهذه الزيادة لم يخرّجها الباقون؛ قاله الشوكاني في «العدة» . قال السيوطيّ رحمه الله تعالى: لا خلاف بين العلماء من أهل اللّغة والحديث والصرف أنّ «يعزّ» : بكسر العين وفتح الياء. قال: وألّفت فيه مؤلّفا سمّيته: «الثّبوت في ضبط ألفاظ القنوت» . وقلت في آخره نظما: يا قارئا كتب التّصريف كن يقظا ... وحرّر الفرق في الأفعال تحريرا «عزّ» المضاعف يأتي في مضارعه ... تثليث عين بفرق جاء مشهورا فما ك «قلّ» وضدّ الذّلّ مع عظم ... كذا «كرمت علينا» جاء مكسورا وما ك «عزّ علينا الحال» ؛ أي: صعبت ... فافتح مضارعه؛ إن كنت نحريرا وهذه الخمسة الأفعال لازمة ... واضمم مضارع فعل ليس مقصورا «عززت زيدا» بمعنى قد غلبت كذا ... أعنته فكلا ذا جاء مأثورا وقل إذا كنت في ذكر القنوت «ولا ... يعزّ» يا ربّ من عاديت مكسورا واشكر لأهل علوم الشّرع إذ شرحوا ... لك الصّواب وأبدوا فيه تذكيرا وأصلحوا لك لفظا أنت مفتقر ... إليه في كلّ صبح ليس منكورا لا تحسبن منطقا يحكى وفلسفة ... ساوى لدى علماء الشّرع قطميرا قال ابن علّان: وقد بقي عليه «عزّ» : بمعنى: قوي، ففي بعض حواشي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 تباركت ربّنا وتعاليت» . (4، هق؛ عن الحسن بن عليّ) . «شرح التحفة» «1» في الكلام على نوع «العزيز» : يقال منه: عزّ بمعنى قوي، مضارعه يعزّ- بفتح العين-. انتهى. وزاد الترمذيّ: «سبحانك» قبل قوله: (تباركت) ؛ أي: تعاظمت (ربّنا وتعاليت» ) . قال في «شرح الأذكار» : قال بعض مشايخنا: كأنّ الحكمة في الإتيان بضمير الجمع هنا؛ دون ما تقدّم من قوله: «اهدني ... الخ» !! لأنّ ذلك مقام سؤال؛ وهو مناسب للتذلّل والانكسار، وهذا مقام ثناء على المولى؛ فناسب الإتيان فيه بضمير الجمع المذكور، إمّا إشارة إلى العجز عن قيام المرء بمفرده بأداء حقّ ثنائه، وإمّا إشارة إلى أنّ جميع أجزائه مربوبة للباري، وإمّا تعاظما بهذه الإضافة الشريفة إلى الربوبيّة المنيفة. وفي «التحفة» لابن حجر الهيتميّ: وزاد العلماء- بعد «تعاليت» -: «فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك» . ولا بأس بهذه الزّيادة، بل قال جمع: إنّها مستحبّة، لورودها في رواية البيهقيّ. انتهى. وزاد ابن الجزري في «عدة الحصن» : «وصلّى الله على النّبيّ» ، وعزاها إلى النسائيّ. قال الشوكاني: وهو كما قال. قال النووي: إنّها زيادة بسند صحيح أو حسن. وتعقّبه الحافظ ابن حجر: بأنّه منقطع، وأخرج هذه الزيادة الطبرانيّ، والحاكم. وقد طوّلنا المقال على حديث الحسن هذا في «شرحنا للمنتقى» ؛ فليرجع إليه، وقد ضعّفه بعض الحفاظ، وصحّحه آخرون، وأقلّ أحواله- إذا لم يكن صحيحا- أن يكون حسنا. انتهى؛ كلام الشوكاني. (4، هق) ؛ أي: أخرجه أصحاب «السنن الأربعة» : أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، والبيهقيّ في «سننه» ؛ (عن الحسن بن عليّ) بن أبي طالب: سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، رضي الله تعالى   (1) صوابه النخبة. «هامش الأصل» !! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 62- «اللهمّ؛ إنّك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلّا بك. اللهمّ؛ فأعطنا منها ما يرضيك عنّا» . (ابن عساكر؛ ... عنهما. وقدّ تقدّمت ترجمته. قال الترمذيّ: هذا حديث حسن لا نعرفه إلّا من هذا الوجه. وأخرجه ابن حبّان في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» وصحّحاه، وابن أبي شيبة في «مصنفه» ، وأخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة، والدارقطني، والدارمي، والطبرانيّ: كلهم؛ من حديث الحسن بن عليّ. قال الحافظ ابن حجر كما في «شرح الأذكار» -: والحديث حسن صحيح، أخرجه ابن خزيمة. انتهى. وأخرجه أيضا الحاكم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ حديث الحسن مقيّدا بصلاة الصبح، فقال: صحيح. وقال الحافظ ابن حجر: ليس هو كما قال! بل هو ضعيف، لأن في إسناده عبد الله بن سعيد المقبري. وأخرجه بنحوه الطبرانيّ؛ من حديث بريدة، رضي الله تعالى عنه. انتهى. ملخصا من «شرح الأذكار» و «شرح العدة» . 62- ( «اللهمّ؛ إنّك سألتنا) : كلّفتنا (من أنفسنا) - بمنزلة التّأكيد لما قبله- (ما لا نملكه) ؛ أي: ما لا نستطيعه ولا نقدر عليه من فعل المأمورات واجتناب المنهيّات. (إلّا بك) ؛ أي: بإقدارك وتمكينك وتوفيقك. (اللهمّ؛ فأعطنا منها ما) : توفيقا نقتدر به على فعل الذي (يرضيك عنّا» ) من الطاعات وتجنّب المخالفات، فإنّ الأمور كلّها بيدك؛ منك مصدرها وإليك مرجعها، ونحن ضعفاء وأنت القادر، فنسألك أن تسعفنا وتعيننا على ذلك. (ابن عساكر) ؛ أي: أخرجه ابن عساكر: وهو عليّ بن الحسن بن هبة الله، ثقة الدين، أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 عن أبي هريرة) . 63- «اللهمّ؛ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر ... المؤرّخ، الحافظ، الرّحالة، كان محدّث الديار الشاميّة، ورفيق السمعانيّ صاحب «الأنساب» - في رحلاته. مولده سنة- 499-: تسع وتسعين وأربعمائة، ووفاته سنة- 571-: إحدى وسبعين وخمسمائة في دمشق الشام، وعمره اثنان وسبعون سنة تقريبا. له كتاب: «تاريخ دمشق الكبير» ؛ يعرف ب «تاريخ ابن عساكر» ، رحمه الله تعالى. آمين. (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، ورواه أيضا باللّفظ المذكور المستغفريّ في (الدعوات) . قال الحافظ العراقيّ: وفيه ولهان بن جبير: ضعّفه الأزدي؛ قاله المناوي في «فيض القدير» . وقال نقلا عن السيوطيّ: هذا الحديث متواتر. وتعقّبه السيّد العلامة محمد بن جعفر الكتاني في «نظم المتناثر» ؛ فقال: لم أره في «الأزهار» ، ويتبادر إلى الذهن أنّه سبق قلم، أو تحريف من الناسخ، إلّا أن يريد أنّ رجوع سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في أحواله كلّها؛ وسؤاله التوفيق منه؛ متواتر عنه معنى، فيصحّ. والله أعلم. 63- ( «اللهمّ؛ زدنا) من خير الدارين، أي: من العلوم والمعارف، (ولا تنقصنا) شيئا من نعمائك، (وأكرمنا) بالتقوى، (ولا تهنّا) بفعل المعاصي والمخالفات. (وأعطنا ولا تحرمنا) - بفتح أوّله وضمه- قال العلقميّ: عطف النواهي على الأوامر!! للتأكيد. (وآثرنا) - بالمد-: اخترنا بعنايتك وإكرامك. (ولا تؤثر) ؛ أي: لا تختر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 علينا، وأرضنا وارض عنّا» . (ت، ك؛ عن عمر) . (علينا) غيرنا، فتعزّه وتذلنا، يعني: لا تغلب علينا أعداءنا. (وأرضنا) بما قضيت لنا؛ أو علينا؛ بإعطاء الصبر والتحمّل، والقنع بما قسمت لنا من الرزق، وذلك أنّ الله سبحانه دبّر لعبده- قبل أن يخلقه- شأنه من الرزق، والأحوال، والآثار، وكلّ ذلك مقدر مؤقّت، يبرزه له في وقته كما قدّره، والعبد ذو شهوات، وقد اعتادها وتخلّق بها، ودبّر الله لعبده غير ما تخلّق به من الشهوات، فمرّة سقم؛ ومرّة صحّة، ومرّة غنى؛ ومرّة فقر، وعسر وذلّ، ومكروه ومحبوب، فأحوال الدنيا تتداوله لا ينفك عن قضائه. والعبد يريد ما وافقه واشتهاه، وتدبير الله فيه غير ذلك، فإذا رزق العبد الرضا بالقضاء استقام قلبه؛ فترك جميع إرادته لمشيئة الله تعالى؛ ينتظر ما يبرز له من تدبيره في جميع أحواله، فيتلقّاه بانشراح صدر وطيب نفس؛ فيصير راضيا مرضيّا، والمصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم من رزق الرضا، وليس للشهوات ولا للشيطان عليه سبيل، وإنّما ذكر ذلك على طريق الإرشاد والتعليم للأمة. (وارض عنّا» ) بما نقيم من الطاعة القليلة التي هي جهدنا. قال الراغب: منزلة الرضى أشرف المنازل بعد النّبوّة، فمن رضي عن الله فقد رضي الله عنه، لقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [119/ المائدة] . فجعل أحد الرضاءين مقرونا بالآخر، فمن بلغ هذه المنزلة فقد عرف خساسة الدنيا، واطلع على جنة المأوى، وخطب مودّة الملأ الأعلى، وحظي بتحيّتهم المعنيّة بقوله تعالى وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد] . (ت، ك) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ، والحاكم في «الدعاء» ؛ (عن عمر) بن الخطّاب، أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النّحل، فمكثنا ساعة، فسرّي عنه؛ فاستقبل القبلة ورفع يديه .... فذكره، وصحّحه الحاكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 64- «اللهمّ؛ أصلح ذات بيننا، وألّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السّلام، ونجّنا من الظّلمات إلى النّور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهمّ؛ بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا وذرّيّاتنا، وتب علينا؛ إنّك أنت التّواب الرّحيم، ... 64- ( «اللهمّ؛ أصلح ذات بيننا) ؛ أي: الحال التي يقع بها الاجتماع، (وألّف بين قلوبنا) ؛ أي: اجعل بينها الإيناس والمحبة والتراحم؛ لتثبت على الإسلام، وتقوى على مقاومة أعدائك ونصرة دينك. (واهدنا سبل السّلام) ؛ أي: دلنّا على طريق السّلامة من الآفات، أو على طريق دار السّلام، الجنة، (ونجّنا من الظّلمات إلى النّور) ؛ أي: أنقذنا من ظلمات الدّنيا إلى نور الآخرة، أو من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة. (وجنّبنا الفواحش؛ ما ظهر منها وما بطن) ؛ أي: بعّدنا عن القبائح الظاهرة والباطنة، فإنّا عاجزون عن التنقّل منها، ورفع الهمم عن مواقعها؛ وإن اجتهدنا، بما جبلنا عليه من الضّعف وتسلّط الشيطان علينا، فلا قوّة لنا إلّا بك. (اللهمّ؛ بارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرّيّاتنا، وتب علينا) ؛ أي: اصرف قلوبنا إلى الطاعة. ف «التّوّاب» إذا وصف به المولى تعالى؛ كان معناه: الصارف لقلوب عباده عن المعاصي إلى الطاعة. وإذا وصف به العبد؛ كان معناه: كثير الخروج من الذنوب. فهو يختلف معناه باعتبار ما يوصف به؛ قاله الحفني. (إنّك أنت التّوّاب) ؛ أي: الرجّاع بعباده إلى مواطن النجاة، بعد ما سلّط عليهم عدوّهم بغوايته، ليعرفوا فضله عليهم وعظيم قدرته، ثمّ أتبعه وصفا كالتعليل له فقال: (الرّحيم) : المبالغ في الرّحمة لعبادك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها، قابلين لها، وأتمّها علينا» . (طب، ك؛ عن ابن مسعود) . 56- «اللهمّ؛ إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، (واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها) أي: عليها، (قابلين لها، وأتمّها علينا» ) ؛ أي: بدوام ذلك. وإنّما سأل التوفيق لدوام الشكر!؟ لأنّ الشكر قيد النعم، فبه تدوم وتبقى، وبتركه تزول وتحول، قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [11/ الرعد] ، وقال تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [7/ إبراهيم] . فالحقّ- تقدّس- إذا رأى عبده قام بحقّ نعمته بالدوام على شكرها؛ منّ بأخرى رآه لها أهلا، وإلّا! قطع عنه ذلك. (طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ، وكذا في «الأوسط» . (ك) وأخرجه الحاكم في «المستدرك» : كلهم؛ (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا هذا الدّعاء. قال الحافظ الهيثميّ: إسناد «الكبير» جيّد. انتهى. ومن ثمّ آثره المصنّف تبعا ل «الجامع الصغير» . 65- ( «اللهمّ؛ إنّا نسألك موجبات) - بكسر الجيم- جمع موجبة؛ وهي الخصلة التي أوجبت لقائلها الرحمة؛ أي: مقتضيات (رحمتك) بوعدك، فإنّه لا يجوز الخلف فيه، وإلّا! فالحقّ سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء؛ قاله السيوطيّ. وفي الحفني على «الجامع الصغير» : موجبات رحمتك؛ أي: أسبابها؛ أي: كلّ قول وفعل مقتض للرحمة ليترتّب عليها المسبّبات، فليس المراد بالموجبات الواجبات، إذ لا يجب عليه تعالى شيء. انتهى. (وعزائم) : جمع عزيمة (مغفرتك) ؛ أي: الأسباب المؤكّدة المقتضية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 والسّلامة من كلّ إثم، والغنيمة من كلّ برّ، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» . (ك؛ عن ابن مسعود) . 66- «اللهمّ؛ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين ... لمغفرتك، يعني: نسألك أعمالا تعزم وتتأكّد بها مغفرتك. (والسّلامة من كلّ إثم) يوجب عقابا؛ أو عتابا؛ أو نقص درجة، أو غير ذلك. قال العلقمي، قال شيخنا- يعني السيوطيّ-: قال العراقيّ: فيه جواز سؤال العصمة!! وقد أنكر بعضهم جواز ذلك؛ إذ العصمة إنّما هي للأنبياء والملائكة!! قال: والجواب: أنّها في حقّ الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حقّ غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز، إلّا أنّ الأدب سؤال الحفظ في حقّنا؛ لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا. انتهى. وقال العلّامة ابن حجر الهيتمي في «شرح العباب» : الحقّ ما قاله بعض المتأخّرين: أنّه إن قصد التوقّي عن جميع المعاصي والرذائل في سائر الأحوال امتنع؛ لأنّه سؤال مقام النبوّة، وإن قصد التحفّظ من أعمال السوء! فهذا لا بأس به. انتهى «شرح الأذكار» . (والغنيمة من كلّ برّ) - بكسر الموحدة- أي: طاعة وخير. (والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» ) ، ذكره تعليما لأمّته، لأنّه متيقّن الفوز والنجاة. (ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ؛ (عن) عبد الله (بن مسعود) رضي الله تعالى عنه قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ ... الخ» . وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. 66- ( «اللهمّ؛ اقسم لنا) ؛ أي: اجعل لنا قسما ونصيبا (من خشيتك) ؛ أي: خوفك المقترن بالتّعظيم (ما تحول) أنت؛ أي: تحجز وتمنع (به بيننا وبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدّنيا، ... معاصيك) ، لأنّ القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي، وبقدر قلّة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قلّ الخوف جدّا؛ واستولت الغافلة؛ كان ذلك من علامة الشقاء، ومن ثمّ قالوا: المعاصي بريد الكفر؛ كما أنّ القبلة بريد الجماع، والغناء بريد الزّنا، والنّظر بريد العشق، والمرض بريد الموت، وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرّة بالعقل والبدن؛ والدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلّا الله. (ومن طاعتك ما تبلّغنا) - بتشديد اللّام المكسورة، ويجوز تخفيفها- أي: توصلنا (به جنّتك) ؛ أي: مع شمولنا برحمتك، إذ ليست الطاعة وحدها مبلّغة، بدليل خبر: «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!! قال: «ولا أنا؛ إلّا أن يتغمّدني الله برحمته» . (ومن اليقين) ؛ أي: وارزقنا من اليقين بك، ونفوذ قضائك، وأنّه لا رادّ له، وبأنّه لا يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا، وبأنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا؛ وما أصابنا لم يكن ليخطئنا. (ما تهوّن) - بكسر الواو المشدّدة وبالتحتيّة والفوقيّة- قال ابن الجزري: رواية «ما تهوّن علينا» بحذف «به» يقتضي أن يكون بالتّحتيّة، وإثباته يقتضي أن يكون بالفوقيّة!! انتهى. أي: يسهّل ويخفّف (به علينا مصائب الدّنيا) بأن نعلم أنّ ما قدّرته لا يخلو عن حكمة ومصلحة واستجلاب منفعة، وأنّك لا تفعل بالعبد شيئا؛ إلّا وفيه صلاحه، وذلك كموت الولد، فيلاحظ أنّ هذه المصيبة في طيّها رفع درجات، وتكفير سيّئات، ويتيقّن أنّها بإرادته تعالى، فهذا شأن الكاملين. وقوله: «مصائب» - بالنصب- وقد يرفع على أنّ «يهون» - بفتح أوّله وضمّ الهاء-: مضارع هان؛ بالتحتيّة والفوقيّة. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا، ... (ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا) ، لأنّها طرائق الدلائل الموصلة لمعرفة الله تعالى وتوحيده؛ من البراهين المأخوذة، إمّا من الآيات المنزّلة؛ وطريق ذلك السمع، أو من الآيات في الآفاق والأنفس؛ وطريق ذلك البصر. (وقوّتنا) ؛ أي: قوّة قلبنا الذي عليه مدار إيماننا، أو المراد: قوّة سائر قوانا؛ من الحواسّ الظاهرة والباطنة، وباقي الأعضاء البدنيّة. (ما أحييتنا) ؛ أي: متّعنا بذلك مدّة حياتنا، (واجعله) ؛ أي: المذكور من السمع والبصر والقوّة. أو الضمير للتّمتّع؛ المأخوذ من: «متّعنا» - على حدّ قوله اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8/ المائدة] . (الوارث منّا) ، ومعنى وراثتها: لزومها له عند موته لزوم الوارث له؛ قاله المناوي. وقد تقدّم الكلام عليه. (واجعل ثأرنا) - بالمثلّثة- أي: انتقامنا ونصرنا مقصورا (على من ظلمنا) ، ولا تجعلنا ممّن تعدّى في طلب ثأره، وأخذ به غير الجاني، كما كان أهل الجاهليّة يفعله، وكما يفعله الآن القبائل أهل البوادي؛ من قتل غير القاتل، بل ولو كان الآخذ بالثأر من غير أولياء الدم. أو المراد: اجعل إدراك ثأرنا على من ظلمنا فندرك ثأرنا، وأصل الثأر: الحقد والغضب، ثمّ استعير لمطالبة دم القتيل. (وانصرنا على من عادانا) ؛ أي: ظفّرنا عليه وانتقم منه، وهو تعميم بعد تخصيص. (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ؛ أي: لا تصيبنا بما ينقص ديننا؛ من أكل الحرام، واعتقاد السوء، والفترة في العبادة، والغافلة عن الطاعة. (ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا) ، الهمّ: المقصد والحزن؛ أي: لا تجعل أكبر قصدنا أو حزننا لأجل الدنيا، فإنّ ذلك سبب الهلاك، بل اجعله مصروفا في عمل الآخرة. وأشار ب «أكبر» أنّ القليل من الهمّ ممّا لا بدّ منه في أمر المعاش له ولعياله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا» . (ت، ك؛ عن ابن عمر) . 67- «اللهمّ؛ أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها، وأجرنا من خزي الدّنيا مرخّص فيه، بل مستحبّ؛ على ما صرّح به القاضي عياض، والمضرّ الانهماك. (ولا مبلغ علمنا) - بفتح الميم واللّام، بينهما موحدة ساكنة-: وهو الغاية التي يبلغها الماشي والمحاسب فيقف عندها، أي: لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نتفكّر إلا في أحوال الدنيا، بحيث تكون جميع معلوماتنا الطرق المحصّلة للدنيا، والعلوم الجالبة لها، بل اجعلنا متفكّرين في أمر العقبى، متفحّصين عن العلوم الفاخرة المتعلّقة بأمور الآخرة. ومجمله: لا تجعل علمنا غير متجاوز عن الدنيا مقصورا عليها؛ بل اجعله متجاوزا عنها إلى الآخرة. (ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا» ) ؛ أي: لا تجعلنا مغلوبين للظّلمة والكفرة والفجرة، ولا تجعلهم علينا حاكمين. ويجوز حمله على ملائكة العذاب في القبر؛ أو في النار، ولا مانع من إرادة الجميع. (ت، ك) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «الدعوات» ، وقال: حديث حسن، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح على شرط البخاريّ. (عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما؛ قال: قلّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتّى يدعو بهذه الدّعوات. ورواه عنه أيضا النسائيّ، وفيه عبد الله بن زحر: ضعّفوه، فالحديث لأجله حسن؛ لا صحيح. انتهى «مناوي» . 67- ( «اللهمّ؛ أحسن عاقبتنا) ؛ أي: آخرة أمرنا (في الأمور كلّها) ؛ أي: اجعل آخر كلّ عمل لنا حسنا، فإنّ الأعمال بخواتيمها. (وأجرنا من خزي الدّنيا) ؛ أي: رزاياها ومصائبها وخدعها، وتسلّط الأعداء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 وعذاب الآخرة» . (حم، حب، ك؛ عن بسر بن أرطأة [رضي الله تعالى عنه] ) . 68- «يا وليّ الإسلام وأهله ... وشماتتهم، (وعذاب الآخرة» ) زاد الطبرانيّ: فمن كان هذا دعاءه مات قبل أن يصيبه البلاء، وهذا من جنس استغفار الأنبياء؛ مع كونهم علموا أنّهم مغفور لهم!! قال الشوكانيّ: هذا الدعاء من جوامع الكلم، لأنّه إذا أحسن الله تعالى عاقبة العبد في الأمور كلّها فاز في جميع أموره، ووقعت أعماله مرضيّة مقبولة، وجنّبه ما لا يرضيه، ووفّقه وسدّده وثبّته حتى تحسن عاقبة أموره. وفي الحديث دليل على مشروعيّة سؤال الله عزّ وجلّ أن يحسّن للداعي عاقبة أموره كلّها، وأعظم الأمور وأجلّها وأهمّها: حسن خاتمة عمره، فإنّه يلقى ربّه على ما ختم له به؛ إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. انتهى. (حم، حب، ك) ؛ أي: أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» ، وابن حبّان وصحّحه: والحاكم في «مستدركه» وصحّحه كلهم؛ (عن بسر) - بضم الموحدة وسكون المهملة- (بن أرطاة) . قال المناوي: صوابه ابن أبي أرطاة؛ كما في «الإصابة» ، قال ابن حبّان: ومن قال: ابن أرطاة فقد وهم. وهو قرشيّ عامريّ، مختلف في صحبته، ولّاه معاوية اليمن؛ فأفسد وعتا وتجبّر. قال ابن عساكر: له باليمن آثار غير محمودة. وقتل عبد الرحمن وقثم: ابني عبيد الله بن عبّاس، وخلقا، حتّى من لم يبلغ الحلم؛ كولد زينب بنت فاطمة بنت عليّ كرم الله وجهه. قال يحيى بن معين: كان بسر رجل سوء، وأهل المدينة ينكرون سماعه من النّبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا؛ ذكره المناوي. وأخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ، قال في «مجمع الزوائد» : وإسناد أحمد وأحد إسنادي الطبرانيّ ثقات. انتهى. 68- ( «يا وليّ) ؛ أي: يا ناصر (الإسلام وأهله؛) يا متولّي أمور العالم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 ثبّتني به حتّى ألقاك» . (طب؛ عن أنس) . 69- «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة؛ وخير الدّعاء، وخير النّجاح، وخير العمل، وخير الثّواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبّتني وثقّل موازيني، وحقّق إيماني، وارفع درجتي، وقائما بها (ثبّتني به) ؛ أي: الإسلام، أي: عليه بأن أكون متمسّكا به، ومتّصفا به (حتّى ألقاك» ) ؛ أي: حتّى تتوفّاني على الإسلام. (طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن أنس) رضي الله عنه. 69- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة) : وهو أقواها تأثيرا في الإجابة، وأحسنها جمعا للمطلوب الذي العبد أحوج إليه من غيره، وهكذا قوله: (وخير الدّعاء) ، والمراد أنّه طلب من الله تعالى أن يرشده إلى خير المسألة التي يسأل بها عزّ وجلّ، وإلى خير الدّعاء الذي يدعى به سبحانه وتعالى. (وخير النّجاح) ؛ أي: التمام والكمال، (وخير العمل) الذي أعمله، وهو أكثر الأعمال ثوابا. (وخير الثّواب) الذي يثاب به العباد على أعمالهم. (وخير الحياة) ؛ وهو: أن يكون في طاعة الربّ سبحانه وتعالى، مجتنبا معاصيه. (وخير الممات) ؛ وهو: أن يموت مرضيّا عنه، مغفورا له، مثابا، متثبّتا، مختوما له بالسعادة؛ وبكلمة الشهادة. (وثبّتني) في جميع الأفعال والأقوال، (وثقّل موازيني) بكثرة الحسنات حتّى ترجح على السيئات؛ فبذلك يكون الفوز والسعادة. (وحقّق إيماني) بأن تجعله ثابتا قويّا، فإنّ قوّة الإيمان سبب للرّضا بالقضاء، وللإذعان لأحكام القدر، وذلك أصل كبير يوجب الفوز بالسعادة. (وارفع درجتي) في الدار الآخرة. ويمكن أن يكون المقصود رفعها في الدارين؛ لأنّ رفعها في الدنيا لمثل الأنبياء والصالحين يكون سببا لقبول قولهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 وتقبّل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين. اللهمّ؛ إنّي أسألك فواتح الخير، وخواتمه وجوامعه، وأوّله وآخره، وظاهره وباطنه، والدّرجات العلى من الجنّة. آمين. اللهمّ؛ إنّي أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدّرجات العلى من الجنّة. آمين. اللهمّ؛ إنّي أسألك أن ترفع ذكري، ... وامتثال ما يرشدون إليه من الحقّ. (وتقبّل صلاتي) ، لأنها رأس الإيمان وأساسه، وقبولها يستلزم قبول غيرها. (واغفر خطيئتي) ؛ أي: ذنبي، لأنّ ذلك من أعظم المطالب. (وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين. اللهمّ؛ إنّي أسألك فواتح الخير، وخواتمه) ؛ جمع بذلك بين طرفي الخير. (وجوامعه) ، سأل الجوامع!! لأنّ ما يجمع الأمر المتفرّق هو أقرب إلى ضبطه، وأسهل لتيسّره، وأقرب لحصوله، ثمّ أكّد الطلب بقوله: (وأوّله وآخره، وظاهره وباطنه، والدّرجات العلى من الجنّة. آمين) وتمّمه بالتّأمين تأكيدا لما قبله. (اللهمّ؛ إنّي أسألك خير ما آتي) من جميع الأمور، فيشمل الأقوال والأفعال. (وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر) - من عطف الخاصّ على العامّ- (والدّرجات العلى من الجنّة. آمين) كرّر سؤال الدرجات العلى في الجنّة!! لأنّها المقصود بالذات، وما سواها وسيلة إليها. (اللهمّ؛ إنّي أسألك أن ترفع ذكري) ؛ أي: تجعل لي ثناء حسنا في الناس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهّر قلبي، وتحصّن فرجي، وتنوّر قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين. اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تبارك لي في سمعي، وفي بصري، لأنّه يترتّب على ذلك مصالح؛ منها: انقياد النّاس له إلى الحقّ، ومنها: امتثال موعظته وأوامره بالخير. وقد سأل ذلك خليل الله إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، كما حكى الله ذلك عنه بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) [الشعراء] . وقد امتنّ الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ فقال وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) [الشرح] . (وتضع وزري) ؛ أي: تغفر ذنوبي وتعفو عن قبائحي، (وتصلح أمري) مفرد مضاف فيشمل جميع الأمور. (وتطهّر قلبي) من النّفاق، والحقد، والحسد، والكبر، وسائر الأخلاق الذميمة، لأنّ القلب إذا تطهّر أبصر الحقّ فتبعه، وعرف الباطل فاجتنبه. وعبّر ب «تطهّر» !! إشارة أنّ هذه الأخلاق الذميمة نجاسات، فما دام القلب متلطّخا بها؛ فهو متنجّس، وصلاح القلب بزوالها عنه. (وتحصّن فرجي) ؛ أي: تحفظه من الوقوع في المحرّمات التي سببها النّظر المحرّم، (وتنوّر قلبي) ، لأنّ تنوير القلب يستلزم الهداية إلى الحقّ واتّباعه، واجتناب الباطل والنفور عنه. (وتغفر لي ذنبي) ، لأنّ بمغفرة الذّنوب فوز العبد في الدار الآخرة. (وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين. اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تبارك لي في سمعي، وفي بصري) ، سأله أن يبارك له في سمعه وبصره!! لأنّ بالسمع تلقّي جميع المسموعات، وبالبصر إدراك جميع المبصرات، وإذا بورك له فيهما قبل الحقّ وردّ الباطل، وهكذا المباركة في الرّوح المذكور في قوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 وفي روحي، وفي خلقي، وفي خلقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، ... (وفي روحي) ، فإنّ الرّوح إذا كانت مباركة كانت جميع الأعمال الصادرة عنها مباركة جارية على الصّواب؛ ماشية على الصّراط المستقيم. وقد يراد بالروح هنا نفس الشّخص، ليكون من عطف العامّ على الخاصّ. (وفي خلقي) - بفتح الخاء المعجمة وإسكان اللّام-: هو جمال الصورة الظاهرة، (وفي خلقي) - بضمتين-: الصورة الباطنة في الإنسان، وإذا بورك فيهما كان سببا لجلب الخير ودفع الشرّ. وقد ورد في حسن الأخلاق أدلّة ليس هذا موضع بسطها، ويغني عن ذلك ما وصف الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [4/ القلم] . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، ومدحه الله تعالى على ذلك؛ فينبغي لكلّ مقتد به أن يكون على خلق عظيم. (وفي أهلي) ، لأنّه إذا بارك الله له في الأهل كانوا له قرّة عين، ومسرّة قلب، وجرت أموره على الصلاح والسداد، وتمسّكوا بهدي صالح العباد. وأهل الرّجل عشيرته وذوو قرباه، ومنه قوله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [35/ النساء] . ومن المجاز «الأهل للرّجل» : زوجته، ويدخل فيه الأولاد، ولا مانع من إرادة هذه المعاني. وقال الراغب- وتبعه المناوي-: أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين، أو ما يجري مجراهما؛ من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد، ثمّ تجوّز فقيل: أهل بيته من يجمعه وإياهم نسب أو ما ذكر، وتعورف في أسرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقا. (وفي محياي؛ وفي مماتي) ، لأنّ من بورك له فيهما فاز بخيري الدنيا والآخرة. (وفي عملي) ، لأنّ العمل إذا بورك فيه تكاثر ثوابه، وتضاعف أجره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 وتقبّل حسناتي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين» . (ك، طب؛ عن أمّ سلمة) . 70- «يا من لا تراه العيون، ... (وتقبّل حسناتي) ، لأنّها إذا كانت مقبولة كانت ذخيرة لصاحبها؛ يستحقّ ثوابها. (وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين» ) ختم الدعاء بذلك!! لأنّه من أعظم مقاصد أنبياء الله تعالى وصالح عباده. (ك، طب) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، والطبرانيّ في «الكبير» ، أي: و «الأوسط» : كلهم؛ من حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ عن النّبي صلى الله عليه وسلم قالت: هذا ما سأل محمّد صلى الله عليه وسلم ربّه: اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة» ... الحديث. هكذا ساقه الحاكم في «المستدرك» بهذا اللّفظ الذي ذكره المصنّف من حديثها، وساقه الطبرانيّ من حديثها ببعض هذه الألفاظ، وبألفاظ أخر. قال الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» : رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن زنبور وعاصم بن عبيد، وهما من الثّقات. وساقه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ من طريق آخر (عن أمّ سلمة) رضي الله تعالى عنها. انتهى. من «تحفة الذاكرين» . 70- ( «يا من لا تراه العيون) ؛ أي: في الدنيا، وأمّا في الآخرة! فقد صحّت السنّة المتواترة بأنّ العباد يرون ربّهم عزّ وجلّ، ولا التفات إلى المجادلة الواقعة بين منكري الرؤية، فكلّها خيالات مختلّة، وعلل معتلّة. وما تمسّكوا به من الدليل القرآني!! فهو معارض بمثله من القرآن، والرجوع إلى السنّة المتواترة واجب على كلّ مسلم. وأمّا ما تمسّكوا به من الأدلّة العقليّة!! فهو السراب الذي يحسبه الظمان ماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 ولا تخالطه الظّنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدّوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، ... حتى إذا جاءه لم يجده شيئا!! وليس لنا في هذا إلّا ما جاءنا من طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءنا بما لا تبقى معه شبهة، ولا يرفعه شكّ، ولا يدخله خيال. انتهى. (تحفة الذاكرين) للشوكاني رحمه الله تعالى. (ولا تخالطه الظّنون) ، قال الشوكانيّ: أي: أنّ علمه عزّ وجلّ عن يقين، فهو العالم بخفيّات الأمور ودقائقها؛ كما يعلم بظواهرها وجلياتها. انتهى. وقال ابن الجزري: أي لا يدخل في علمه شكّ، بل يعلم الجزئيّات على وجه التحقيق. وقال عليّ القاري: والأولى أن يقال: المعنى: لا تبلغ كنه ذاته وصفاته الأوهام والظنون، حتى يناسب ما قبله وما بعده. وقيل: معناه يعلم الكليّات والجزئيّات؛ إجمالا وتفصيلا، ولا يدخل في علمه شكّ ولا ظنّ ولا وهم، بل هو يعلم الكليّات جميعا على ما هي عليه. (ولا يصفه الواصفون) ؛ أي: يعجز الواصفون عن وصف حقيقته تبارك وتعالى، كما يعجز العادّون عن إحصاء نعمته؛ أي: لا يقدرون على ذلك، كما قال عزّ وجلّ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) [طه] . فلا أحد من عباده يقدر على إحصاء الثناء عليه والوصف له، بل: هو كما أثنى على نفسه. (ولا تغيّره الحوادث) الكائنة في الزمان على اختلاف أنواعها، لأنه إنّما تغيّر بتغيّرها العالم الحادث؛ لا القديم الواجب الوجود والبقاء سبحانه وتعالى. (ولا يخشى الدّوائر) ؛ أي: لا يخاف عواقب الأمور وحوادث الدّهور. وقال ابن الجزري: أي: دوائر الزمان وتقلّباته. (يعلم مثاقيل الجبال) ؛ أي: مقادير وزنها وعدد حصيّاتها. (و) يعلم (مكاييل البحار) ؛ أي: مقدارها كيلا وعدد قطراتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه اللّيل وأشرق عليه النّهار، ... (و) يعلم (عدد قطر الأمطار) ؛ أي: قطراتها النازلة من السماء، فوق الجبال والبحار، والبراري والقفار وغيرها. والقطر: جمع قطرة- على ما في «الصحاح» - والأصحّ: أنّه اسم جنس جمعيّ يفرّق بينه وبين مفرده بالتاء، واحده قطرة. (و) يعلم (عدد ورق) : اسم جنس جمعيّ؛ واحده ورقة. (الأشجار) والنبات والأزهار، والأشجار: جمع شجر، وواحد الشجر شجرة: وهي ما له ساق من نبات الأرض. (و) يعلم (عدد ما أظلم) فعل لازم (عليه اللّيل) : هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقيل: إلى طلوع الشمس، وأظلم اللّيل: اشتدّ ظلامه، وعدد ما أظلم عليه، أي: عدد ما اشتمل عليه ظلامه، أو اشتمل عليه بظلامه. (وأشرق) فعل لازم (عليه النّهار) : هو عند العرب من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، وقيل: من طلوع الشّمس، واليوم من طلوع الفجر، ومعنى أشرق عليه النهار: اشتمل عليه بنوره وإسناد الإشراق إلى النّهار مجازيّ؛ من باب الإسناد إلى الزمان، وهو في الحقيقة للشّمس. والواو في «أشرق» : الأقرب أنّها بمعنى «أو» ، فيعمّ ما بقي حتى اشتمل عليه اللّيل والنهار معا، وما اشتمل عليه أحدهما فقط؛ 1- كالأجرام التي لا توجد في أحدهما وتعدم فيه. و2- كالأغراض ولا سيّما على القول بأنّ العرض لا يبقى زمانين، وهذا هو المناسب للمقام. و3- المعدودات التي يمرّ عليها اللّيل والنهار: هي الموجودات التي في عالم الملك، وهي جميع هذا العالم الكائن بالأرض؛ من حيوان وجماد، لأنّ اللّيل والنّهار إنّما يجريان بالأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 ولا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره.. اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه» ... (ولا تواري) ؛ أي: لا تخفي ولا تستر ولا تحجب (منه) ؛ أي: من الله (سماء سماء) ، أي: سماء فوقها أو تحتها، فإنّ علمه سبحانه وتعالى يستوي فيه جميع الأشياء من العلويّات والسفليّات، والجزئيّات والكليّات؛ في عالم الملك والملكوت، والغيب والشهادة. (ولا) تواري منه (أرض أرضا، ولا بحر) يواري (ما في قعره) : نهاية أسفله؛ من الجواهر والحيوانات والنباتات. (ولا جبل) يواري (ما في وعره) ، أي: جوفه؛ من المعادن والينابيع وغيرهما. قال الله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) [النحل] . والمعنى: أنّ علمه تعالى محيط بجميع الموجودات والمعدومات، الواجبات والجائزات والمستحيلات، يعلم الأشياء كما هي عليه في الواقع؛ فلا يحجبها عنه حاجب، ولا يحول بينه وبينها حائل؛ لا سماء ولا أرض، ولا بحر ولا جبل. قال الله سبحانه وتعالى وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [61/ يونس] . (اجعل خير عمري آخره) ؛ لأنّه وقت الضعف والعجز عن الكسب، (و) اجعل (خير عملي خواتمه) ، لأنّ دوائر السعادة والشقاوة تدور على الخاتمة كما تدل عليه الأحاديث-. (و) اجعل (خير أيّامي يوم ألقاك فيه» ) ؛ أي: وقت أحضر عندك بالموت؛ أو بالبعث. سأل الله تعالى أن يكون خير أيّامه يوم يلقاه سبحانه وتعالى!! لأنّ ذلك الوقت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 (طب؛ عن أنس) . هو وقت الظّفر بالرحمة الواسعة، والفوز بما لا خير يساويه، ولا نعمة تضاهيه. وكون ذلك اليوم خير أيّامه يستلزمه أن يكون ينال فيه ما يرجوه ويظفر بما يطلبه، لأنّه لو لم يحصل له ذلك لم يكن خير أيّامه. وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء وقرّره؛ فكان الدعاء به من السّنّة، وقد تقرّر أنّ السنّة قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره. (طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن أنس) رضي الله تعالى عنه قال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بأعرابيّ؛ وهو يدعو في صلاته، وهو يقول: يا من لا تراه العيون ... إلى آخر الدعاء. قال أنس: فوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعرابيّ رجلا؛ فقال: «إذا صلّى فأتني به» ، فلمّا صلّى أتاه الأعرابيّ- وقد كان أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب من بعض المعادن-، فلمّا أتاه الأعرابيّ وهب له الذهب، وقال: «ممّن أنت؛ يا أعرابيّ؟!» قال: من بني عامر بن صعصعة؛ يا رسول الله. قال: «يا أعرابيّ؛ هل تدري لم وهبت لك الذّهب!؟» قال: للرّحم بيننا وبينك، قال: «إنّ للرّحم حقّا، ولكن وهبت لك الذّهب لحسن ثنائك على الله تعالى» . قال في «مجمع الزوائد» : رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأذرمي: وهو ثقة. انتهى. وفي «حياة الحيوان» للكمال الدّميري رحمه الله تعالى: فائدة: روى ابن بشكوال بسنده إلى أحمد بن محمد العطّار؛ عن أبيه قال: كان لنا جار فأسر، وأقام في الأسر عشرين سنة؛ وأيس أن يرى أهله. قال: فبينما أنا ذات ليلة أفكّر فيمن خلّفت من صبياني وأبكي؛ وإذا أنا بطائر سقط فوق حائط السّجن يدعو بهذا الدعاء!. قال: فتعلّمته من الطائر، ثمّ دعوت الله به ثلاث ليال متتابعات، ثمّ نمت، فما استيقظت؛ إلّا وأنا في بلدي فوق سطح داري. قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 ......... فنزلت إلى عيالي فسرّوا بي بعد أن فزعوا منّي؛ لمّا رأوني ورأوا ما بي من تغير الحال والهيئة، ثمّ إنّي حججت من عامي، فبينا أنا أطوف وأدعو بهذا الدعاء إذا أنا بشيخ قد ضرب يده على يدي؛ وقال لي: من أين لك هذا الدعاء؟! فإن هذا الدّعاء لا يدعو به إلا طائر ببلاد الرّوم. [قلت] : تعلّمت الدعاء من الطائر!! فقال: صدقت. فسألت الشيخ عن اسمه فقال: أنا الخضر. وهو هذا الدعاء: «اللهمّ إنّي أسألك؛ يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظّنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث ولا الدّهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه اللّيل ويشرق عليه النّهار، ولا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل إلّا يعلم ما في وعره وسهله، ولا بحر إلّا يعلم ما في قعره وساحله. اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تجعل خير عملي آخره، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه، إنّك على كلّ شيء قدير. اللهمّ من عاداني فعاده، ومن كادني فكده، ومن بغى عليّ بهلكة فأهلكه، ومن أرادني بسوء فخذه، وأطفىء عنّي نار من أشبّ لي ناره، واكفني همّ من أدخل عليّ همّه، وأدخلني في درعك الحصينة، واسترني بسترك الواقي؛ يا من كفاني كلّ شيء، اكفني ما أهمّني من أمر الدّنيا والآخرة، وصدّق قولي وفعلي بالتّحقيق؛ يا شفيق، يا رفيق؛ فرّج عنّي كلّ ضيق، ولا تحمّلني ما لا أطيق، أنت إلهي الحقّ الحقيق، يا مشرق البرهان، يا قويّ الأركان، يا من رحمته في كلّ مكان؛ وفي هذا المكان، يا من لا يخلو منه مكان، احرسني بعينك الّتي لا تنام، واكنفني في كنفك الّذي لا يرام. إنّه قد تيقّن قلبي ألاإله إلّا أنت، وأنّي لا أهلك وأنت معي؛ يا رجائي، فارحمني بقدرتك؛ يا عليّ، يا عظيما يرجى لكلّ عظيم، يا عليم يا حليم، أنت بحاجتي عليم، وعلى خلاصي قدير، وهو عليك يسير، فامنن عليّ بقضائها؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 الثّلاثة الأخيرة من «الحصن الحصين» . يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، يا أسرع الحاسبين، يا قويّ يا متين، يا ربّ العالمين، ارحمني وارحم جميع المذنبين من أمّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم إنّك على كلّ شيء قدير. اللهمّ؛ استجب لنا كما استجبت لهم برحمتك، وعجّل علينا بفرج من عندك، بجودك وكرمك، وارتفاعك في علوّ سمائك، يا أرحم الرّاحمين؛ إنّك على ما تشاء قدير. وصلّى الله على سيّدنا محمّد، خاتم النّبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين» . وهذا الدعاء: روى الطبرانيّ بإسناد صحيح قطعة منه؛ عن أنس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بأعرابيّ ... » إلى آخر ما تقدّم. انتهى كلام «حياة الحيوان» للدّميري في الكلام على الطائر صفحة 591 ج 1 حرف الطاء. (الثّلاثة) الأحاديث (الأخيرة) التي أوّلها: «يا وليّ الإسلام» ... الخ مأخوذة (من) كتاب ( «الحصن الحصين) من كلام سيّد المرسلين» للشيخ الحافظ المحدّث المقرىء: شمس الدين أبي الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف؛ ابن الجزري العمري؛ الدمشقيّ، ثمّ الشيرازيّ؛ الشافعيّ، المتوفى سنة 833-: ثلاث وثلاثين وثمانمائة هجريّة، رحمه الله تعالى. وهو من الكتب الجامعة للأدعية والأوراد والأذكار الواردة في الأحاديث والآثار، وذكر فيه مقدّمة تشتمل على أحاديث في فضل الدّعاء والذكر وآدابه وأوقات الإجابة وأمكنتها، ثمّ الاسم الأعظم والأسماء الحسنى، ثمّ ما يقال في الصباح والمساء، وفي الحياة والممات، ثمّ الذكر العامّ، ثمّ الاستغفار، ثم فضل القرآن، ثمّ الدعاء، ثم ختمه بفضل الصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ولقد أحسن من قال: إن نابك الأمر المهو ... ل اذكر إله العالمينا وإذا بغى باغ عليك ... فدونك الحصن الحصينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 ......... تتمّة في آداب الدعاء: وآكدها: 1- تجنّب الحرام؛ مأكلا ومشربا وملبسا، و 2- الإخلاص لله، و 3- تقديم عمل صالح، و 4- الوضوء، و 5- استقبال القبلة، و 6- الصلاة، و 7- الجثوّ على الركب، و 8- الثناء على الله تعالى، و 9- الصلاة على نبيّه أوّلا وآخرا، و 10- بسط يديه ورفعهما حذو منكبيه وكشفها؛ مع التأدّب والخشوع والمسكنة والخضوع، و 11- أن يسأل الله تعالى بأسمائه العظام الحسنى؛ والأدعية المأثورة. و 12- يتوسّل إلى الله بأنبيائه والصالحين؛ بخفض صوت واعتراف بذنب، و 13- يبدأ بنفسه، ولا يخصّ نفسه؛ إن كان إماما، و 14- يسأل بعزم ورغبة؛ وجدّ واجتهاد، و 15- يحضر قلبه ويحسن رجاءه، و 16- يكرّر الدعاء؛ ويلحّ فيه، و 17- لا يدعو بإثم؛ ولا قطيعة رحم؛ ولا بأمر قد فرغ منه؛ ولا بمستحيل، و 18- لا يتحجّر؛ ويسأل حاجاته كلّها، و 19- يؤمّن الداعي والمستمع، و 20- يمسح وجهه بيديه بعد فراغه، و 21- لا يستعجل أو يقول: دعوت فلم يستجب لي. ذكره في «عدّة الحصن الحصين» للعلامة ابن الجزري، رحمه الله تعالى. وقال الغزاليّ في «إحياء علوم الدين» : آداب الدعاء عشرة: الأول: أن يترصّد الأزمان الشريفة؛ كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من اللّيل، ووقت الأسحار. الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة؛ كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدها، وحالة رقّة القلب. الثالث: استقبال القبلة، ورفع اليدين، ويمسح بهما وجهه في آخره. الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر. الخامس: ألايتكلّف السجع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 وصلّى الله على نبيّنا محمّد.. كلّما ذكره الذّاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. السادس: التضرّع والخشوع والرهبة. السابع: أن يجزم بالطلب، ويوقن بالإجابة ويصدّق رجاءه فيها. الثامن: أن يلحّ في الدعاء، ويكرّره ثلاثا، ولا يستبطىء الإجابة. التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى، أي: وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كلّه أيضا. العاشر: - وهو أهمّها؛ والأصل في الإجابة- هو التوبة، وردّ المظالم، والإقبال على الله تعالى. انتهى. والله أعلم. (وصلّى الله على نبيّنا) ، الصلاة منه: رحمة مقرونة بتعظيم، ولفظها مختصّ بالمعصوم؛ من نبي وملك تعظيما لهم، وتمييزا لمراتبهم عن غيرهم. (محمّد) : علم منقول من اسم المفعول المضعّف، سمّي به نبيّنا صلى الله عليه وسلم- مع أنّه لم يؤلف قبل أوان ظهوره- بإلهام من الله لجدّه عبد المطلب!! إشارة إلى كثرة خصاله المحمودة، ورجاء أن يحمده أهل الأرض والسماء، وقد حقّق الله تعالى رجاءه. قيل: وكما اشتملت ذاته على كمال سائر الأنبياء والمرسلين اشتمل اسمه الشريف بحساب الجمّل على عدّة الرسل؛ بناء على أنّهم ثلثمائة وأربعة عشر. (كلّما) : ظرف زمان، وسرت الظرفية إلى «كلّ» !! لإضافته إلى «ما» المصدريّة الظرفية؛ أي: كل وقت. (ذكره الذّاكرون) ذكرا لسانيا، بأن أجروا اسمه الشريف على ألسنتهم في الصلاة عليه، أو الحكاية عنه، أو غير ذلك. ويحتمل: ذكره الذاكرون ذكرا قلبيا؛ وهو الاستحضار، والأوّل هو المتبادر. (وغفل عن ذكره الغافلون) . وقوله: «عن ذكره» : يعيّن أنّ المراد الذّكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 وصلّى عليه في الأوّلين ... اللّسانيّ؛ أو يكاد، حيث قال ذلك ولم يقل: غفل عنه!!. والقول بأنّ المراد الذكر القلبيّ ربّما يرشّحه مقابلة الذكر بالغافلة، ومحلّها القلب، فيكون محلّ الذكر أيضا القلب، لأن الضدّين يجب اتّحاد محلّهما. وأمّا اللّساني!! فضدّه السكوت ومحلّه اللسان أيضا، إلّا أن يقصد بالغافلة الترك تجوزّا. والضمير في «ذكره» ؟! يحتمل عوده على النّبيّ صلى الله عليه وسلم- كما قرّرناه-، ويصح عوده على الله سبحانه. روى جماعة؛ عن عبد الله بن عبد الحكم أنّه قال: رأيت الشافعيّ رحمه الله تعالى في النّوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، ورفعت إلى الجنّة كما يزفّ العروس، ونثر عليّ كما ينثر عليه. فقلت له: بم بلغت هذه الحالة!؟ فقال: قال لي قائل: «بقولك في كتاب «الرسالة» : وصلى الله على محمّد كلّما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون» . قال: فلمّا أصبحت نظرت «الرسالة» ؛ فوجدتّ الأمر كما رأيت. وفي «الإحياء» لحجّة الإسلام الغزاليّ رضي الله تعالى عنه: روي عن أبي الحسن الشافعيّ قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله؛ بم جوزي الشافعيّ عنك، حيث يقول في كتاب «الرسالة» : وصلى الله على سيدنا محمّد كلّما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون!؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جوزي عنّي أنّه لا يوقف للحساب؛ ذكره الفاسي في «شرح الدلائل» . (وصلّى) الله (عليه) ؛ أي: رحمه رحمة مقرونة بالتعظيم. (في الأوّلين) ؛ أي: المتقدّمين بالزمان على هذه الأمّة من أهل الإيمان في الأمم الماضية، أو المراد أوّل هذه الأمّة، هذا إذا كانت الأوّليّة باعتبار زمان وجودهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 والآخرين.. أفضل وأكثر وأزكى ما صلّى على أحد من خلقه. وزكّانا بالصّلاة عليه.. أفضل ما زكّى أحدا من أمّته بصلاته عليه. والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنّا.. أفضل ما جزى مرسلا عمّن أرسل إليه. ويحتمل أن تكون الأوّليّة باعتبار الصلاة، والمعنى: صلّ عليه في أوّل من تصلي عليه، وفي آخر من تصلّي عليه، وإن كان المذكورون مصلى عليهم!! (والآخرين) : هم هذه الأمّة، أو آخرها على مقابلة ما تقدّم في الأوّلين. (أفضل وأكثر) : أوفر (وأزكى) : أنمى (ما) صلاة (صلّى) - بحذف الضمير المنصوب- (على أحد من خلقه، وزكّانا) ؛ أي: طهّرنا وصفّانا من كدورات البشريّة بتنوير قلوبنا (بالصّلاة عليه) ؛ أي: بسبب الصلاة عليه، حتّى ننسب إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعة (أفضل ما زكّى أحدا من أمّته) صلى الله عليه وسلم (بصلاته عليه. والسّلام) : مرفوع مبتدأ، وخبره قوله: (عليه) ؛ أي: كائن عليه. وأتى بالسلام بعد الصلاة!؟ خروجا من كراهة إفراد أحدهما عن الآخر- كما قيل-. (ورحمة الله) عليه. وفيه دليل للدّعاء له بالرحمة، لكن بالتّبع لغيرها كما هنا. (وبركاته) عليه. (وجزاه) ؛ أي: أعطاه (الله) في مقابلة ما قام به من هدايتنا وإرشادنا. (عنّا) معشر أهل الإسلام، لأنّه هو السبب في نجاتنا ومعرفة ربّنا. (أفضل ما جزى مرسلا عمّن أرسل إليه) ؛ أي: عن أمّته التي أرسل إليها فاتّبعته فأفلحت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 ......... والمطلوب هنا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: أن يجزى أفضل ما جري به مرسل عمّن أرسل إليهم، فالمسؤول له: إعطاء مثل أفضل جزائهم. يبقى أنّه صلى الله عليه وسلم أفضلهم ومستحقّ لأفضل من جزائهم، فكيف يطلب له أفضل جزائهم فقط؛ لا أفضل من جزائهم؟! فيحتمل أن يقال: إنّه لا بأس بالدّعاء له صلى الله عليه وسلم بنحو هذا، إذ هو صلى الله عليه وسلم أهل أن يعطى ما ذكر؛ ولأن يعطى أكثر منه. واقتصر على سؤال ما ذكر له صلى الله عليه وسلم!؟ لأنّه لا يلزم منه نفي الأكثر. ويحتمل أن يكون المراد طلب ذلك مضافا إلى ما يستحقّه هو، وما هو أهل له. والله أعلم. قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: ما من خير عمله أحد من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم إلّا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم أصل فيه. قال في «المواهب» : قال في «تحقيق النصرة» : فجميع حسنات المؤمنين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلّا الله تعالى، لأنّ كلّ مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدّد لشيخه مثل ذلك، ولشيخ شيخه مثلاه، وللشّيخ الثالث أربعة، وللرّابع ثمانية، وهكذا تضعيف كلّ مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وبهذا يعلم تفضيل السّلف على الخلف، فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر؛ صار أجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا كلّما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدا- كما قال بعض المحققين-. انتهى. ولله درّ القائل- وهو سيّدي محمّد وفا- نفعنا الله ببركاته: فلا حسن إلّا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلّا له حسناته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 والحمد لله ربّ العالمين على جميع نعمه، ما علمت منها وما لم أعلم، ولا سيّما نعمة ... انتهى الغرض من كلام صاحب «المواهب» . وقال البوصيري رحمه الله تعالى: والمرء في ميزانه أتباعه ... فاقدر إذن قدر النّبيّ محمّد!! (والحمد) ؛ أي: الوصف بالجميل ثابت (لله ربّ) : مالك (العالمين) : الأنس والجنّ والملائكة وغيرهم. (على جميع نعمه؛ ما علمت منها، وما لم أعلم، ولا سيّما نعمة) - ذكروا في الاسم الواقع بعد «لا سيّما» : جواز الرّفع والنّصب والجرّ؛ إن كان نكرة، أمّا إن كان معرفة- كما هنا-! فيجوز رفعه وجرّه، ولا يجوز نصبه. وتوجيه ذلك: أنّ «لا» : عاملة عمل «إنّ» و «سيّ» : بمعنى؛ مثل: اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: موجود، و «ما» : اسم موصول بمعنى «الذي» مضاف إلى «سيّ» ، أو نكرة موصوفة، والاسم المرفوع بعد «سيّما» : خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير لا مثل الذي هو نعمة الإيمان والإسلام ... الخ، أو لا مثل شيء هو نعمة الإيمان والإسلام، فالجملة صلة؛ أو صفة. وأمّا على جرّ ما بعد «سيّما» - سواء كان معرفة؛ أو نكرة-!! فتكون «ما» : زائدة، و «سيّ» مضاف إلى ما بعده، ولكون «سيّ» بمعنى مثل؛ لا تتعرّف بالإضافة صحّ عمل «لا» فيها، والجرّ أرجح من الرفع، لما في الرفع من حذف صدر الصّلة بلا طول وفتحة «سيّ» إعراب، لأنّها مضافة. وأمّا النصب! فلا يجوز، إلّا إن كان ما بعد «سيّما» نكرة، لأنّه على التمييز، والتمييز لا يكون إلّا نكرة، وحينئذ تكون «ما» كافّة عن الإضافة، والفتحة في «سيّ» فتحة بناء مثلها في «لا رجل» ، وأمّا نصب المعرفة! فمنعه الجمهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 الإيمان والإسلام، ... (الإيمان والإسلام) اللّذين هما أجلّ النّعم الدنيويّة والآخرويّة، وأساسها كما هو ظاهر لا يخفى-، وفيه التبرّي ممّا قد يتوهّم نسبته لأوصاف العبد، وقد قال تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [17/ الحجرات] ، وقال تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [7/ الحجرات] ، وقال تعالى وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ [56/ الروم] ، وقال تعالى أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [22/ المجادلة] . وقال أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [22/ الروم] ... إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدّالّة على أنّ هداية الإيمان بيد الله وحده لا شريك له. قال الشيخ أبو طالب المكّيّ في «قوت القلوب» : وادّعاء أنّ الإيمان عن كسب معقول، واستطاعة بقوّة وحول هو كفر نعمة، وأخاف على من توهّم ذلك أن يسلب الإيمان، لأنّه بدّل شكر نعمة الله كفرا!!. انتهى. والإيمان- لغة-: هو التّصديق، وشرعا-: تصديق القلب بما علم مجيء الرّسول صلى الله عليه وسلم به؛ من عند الله ضرورة، أي: الإذعان والقبول له، ولا يعتبر التصديق إلّا بالعمل بتلك الأحكام. والإسلام: هو الخضوع والانقياد، ولا يتحقّق إلّا بقبول الأحكام، وهي أعمال الجوارح، وإنّما يظهر قبولها في العمل بها؛ فلذلك يفسّر بها فيقال: الإسلام شرعا: أعمال الجوارح من الطّاعات؛ كالتّلفّظ بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك. فلو لم يقبل أحكام الشريعة وأبى من التزامها لم يكن خاضعا للألوهيّة، ولا منقادا مستسلما لتدبيرها وأحكامها؛ فلم يكن مسلما. ولا تعتبر الأعمال المذكورة إلّا مع التصديق المذكور الذي هو الإيمان، فلا يصحّ الإيمان إلّا بالإسلام، ولا الإسلام إلّا بالإيمان، فأحدهما مستلزم للآخر، والإيمان والإسلام شرعا واحد، والمؤمن شرعا مسلم، والمسلم شرعا مؤمن، فتساويا مصدوقا؛ وإن تغايرا مفهوما!!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 وتوفيقه لجمع هذا الكتاب. وأسأله سبحانه أن ينفعني به ... وإنّما ذكرهما المؤلّف معا!؟ اعتبارا بحقيقتهما ومفهومهما، لأنّه في مقام الحمد، وهو مقام بسط وإطناب وإكثار من عدّ النّعم، ولا شكّ أنّهما باعتبار المفهوم متغايران، وكذا باعتبار ما يفسّر به الإسلام، لأنّ نعمة التصديق محلّها القلب، ونعمة الإقرار والأعمال الصالحات محلّها الجوارح، فهي متعددة ضرورة. على أنّ الإيمان شرعا يقال بالاشتراك «1» ؛ 1- فتارة يطلق ويراد به العمل القلبيّ بمجرّده. و2- تارة يطلق عليه مع الإقرار باللّسان، وهو: إمّا شطر منه؛ أو شرط فيه!! و3- تارة يطلق على سائر الطاعات؛ بدنيّة أو قلبيّة. والحاصل: أنّه قد يطلق على ما هو الأساس في النّجاة والشّرط في مطلق السعادة، وعلى الكمال المنجي بالأخلاق الذي هو شرط في كمال السعادة. والإسلام له إطلاقات: أحدها: على مجموع الدين؛ وهو: ما يعمّ المقامات الثلاثة من الظاهر والباطن والإحسان في ذلك. والآخر: على جزئه؛ وهو المتقدّم الذكر، وهو أيضا له: مفهوم: وهو الخضوع والانقياد والاستسلام. ومظهر: وهو عمل الجوارح. فأتى المؤلّف باللّفظين!! ليشملها بجميع الإطلاقات، ويعم الظاهر والباطن. والله أعلم. (و) نعمة (توفيقه) ؛ أي: إلهامه وإقداره (لجمع) ؛ أي: تأليف (هذا الكتاب) وبقصد قارئه جمعه له قراءة. (وأسأله سبحانه أن ينفعني به) بأن يثيا بني على جمعه، ويوفّقني للعمل بما فيه.   (1) يعني: لفظ مشترك بين معان متعددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 وكلّ من نظر فيه من المسلمين نفعا عظيما، يصاحبنا في الدّنيا، ويلازمنا في البرزخ، ولا يفارقنا يوم الدّين؛ بجاه خير الوسائل إليه، وأقرب المقرّبين لديه، حبيبه الأكرم، ... (و) ينفع به (كلّ من نظر فيه من المسلمين) بالمطالعة والدراسة؛ (نفعا عظيما يصاحبنا في الدّنيا) : بأن نعمل بما اشتمل عليه؛ ونتخلّق بما فيه، (ويلازمنا في البرزخ) ؛ وهو: ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر، من وقت الموت إلى القيامة، ومن مات فقد دخله. والمراد بملازمته في البرزخ: حصول الثّواب لمؤلّف الكتاب والنّاظر فيه، ومؤانسته لهما مدّة مقامهما في البرزخ، ولا يزال مصاحبا لهما حتّى يكون سببا لحلولهما في دار النّعيم، كما قال: (ولا يفارقنا يوم الدّين) ؛ أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة. (بجاه) الباء- في هذا ونحوه- تشبه أنّها للاستعانة. والجاه: هو القدر والمنزلة والحرمة. (خير الوسائل [إليه] ) ؛ أي: خير من يتوسّل به ويتقرّب به إلى الله تعالى، فمن توسّل به إلى الله كان أسرع في نيل مطلوبه والظفر بمرغوبه. (وأقرب المقرّبين لديه) ؛ أي: عنده (حبيبه الأكرم) على الله من جميع المخلوقات؛ فيدخل الملائكة. والإجماع على أنّه صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، وإن اختلف في التّفاضل بين الأنبياء والملائكة، فقد صرّحوا بأنّه صلى الله عليه وسلم خارج من الخلاف، وأنّه أفضل الخلق عموما. وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبيّنا فمل عن الشّقاق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 ورسوله الأعظم: سيّدنا محمّد سيّد المرسلين صلّى الله عليه وعليهم، (ورسوله الأعظم) منزلة ومكانة وحظّا؛ (سيّدنا محمّد) هذا الاسم الكريم الشريف هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وأخصّها وأعرفها. وبه يناديه الله، ويسمّيه في الدّنيا والآخرة، وهو مختصّ بكلمة التّوحيد. وبه كنّي آدم عليه السّلام، وبه تشفّع، وعليه صلّى من مهر حواء. وبه كان يسمّي نفسه صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: «أنا محمّد بن عبد الله» ، «والّذي نفس محمّد بيده» ، و «فاطمة بنت محمّد» ، ويكتب «من محمّد رسول الله» . وهو الثّابت في تعليم كيفيّة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وبه يصلّي عليه المصلّون. وبه يسمّيه عيسى عليه الصلاة والسلام في الآخرة حين يدلّ عليه للشّفاعة. وبه كان يسمّيه جبريل عليه السّلام في حديث المعراج وغيره. وبه سمّاه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في حديث المعراج أيضا. وبه سمّاه جدّه عبد المطلب حين ولد، وبه كان يدعوه قومه. وبه ناداه ملك الجبال، وبه صعد ملك الموت إلى السماء باكيا لما قبض روحه ينادي (وا محمّداه) . وبه يسمّي نفسه لخازن الجنان حين يستفتح فيفتح له ... إلى غير ذلك ممّا لا يحضرني الآن، والله أعلم. (سيّد المرسلين) : رئيسهم وزعيمهم، والمتقدّم عليهم، وعظيمهم وشريفهم وكريمهم، صلى الله عليه وسلم. روى البزّار: «أنّه صلى الله عليه وسلم قال: ليلة أسري بي انتهيت إلى قصر من لؤلؤة يتلألأ نورا، وأعطيت ثلاثة: قيل لي: إنّك 1- سيّد المرسلين، و 2- إمام المتّقين، و 3- قائد الغرّ المحجّلين» . انتهى. (صلّى الله عليه وعليهم) فيه الصّلاة على المرسلين، وقد ورد: «صلّوا على أنبياء الله ورسله؛ فإنّهم بعثوا كما بعثت» . أخرجه الطّبرانيّ وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 وعلى آلهم وأصحابهم الكرام. (وعلى آلهم) آل نبيّنا- عند الشافعيّ-: مؤمنو بني هاشم والمطلب، هذا بالنّسبة لنحو الزّكاة؛ دون مقام الدعاء، ومن ثمّ اختار الأزهريّ وغيره من المحققين: أنّهم هنا كلّ مؤمن تقيّ، لحديث فيه؛ أخرجه الطبرانيّ بسند واه جدّا، ولفظه: «آل محمّد كلّ مؤمن تقيّ» . وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وغيرهما من المسلمين من ذرّيّته. (وأصحابهم) : واحده «صاحب» بمعنى الصحابيّ: وهو من اجتمع مؤمنا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو لحظة ومات على الإيمان- وإن لم يره- كابن أمّ مكتوم؛ ولم يرو عنه، وسواء كان مميّزا؛ أو غير مميّز- كمحمد بن الصديق رضي الله تعالى عنهما وأمثاله. (الكرام) - جمع كريم- والمراد به هنا: من خرج عن نفسه وماله لله تعالى، وكلّ الصحابة كذلك، رضوان الله عليهم أجمعين؛ قاله ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 ونجز ذلك في شهر رجب من السّنة التّاسعة بعد الثّلاث مئة «1» وألف من هجرته عليه الصّلاة والسّلام. (ونجز) ؛ أي: انقضى وتمّ (ذلك) ؛ أي: هذا التّأليف المسمّى: «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول صلى الله عليه وسلم» . (في شهر رجب) الحرام (من السّنة التّاسعة) - بتقديم المثنّاة على السين المهملة- (بعد الثّلثمائة وألف من هجرته عليه الصّلاة والسّلام) . وهذا آخر ما قصدتّ وتمام ما أردتّ من شرح هذا الكتاب المشتمل على ما تقرّ به أعين ذوي الألباب، ولا آمن من أن أكون أسقطت؛ أو حرّفت شيئا من متن الكتاب سهوا، ورحم الله امرأ رأى خللا فأصلح، أو عاين زللا فسمح، فإنّ الخطأ والخلل غير مستغرب من الإنسان المطبوع على عدم الإحسان، وخصوصا مثلي، قليل العلم، قصير الباع في الحفظ والفهم. وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه ممّا جنيته في سواد اللّيل وبياض النّهار، وأسأله العفو والغفران عن سائر المخالفات والأوزار. وأستودعه الإسلام والإيمان، وما أنعم به عليّ وعلى سائر الإخوان، إذ كلّ نعمة بنا أو بسائر المخلوقات؛ إيجادا أو إمدادا، دينا ودنيا، ظاهرا وباطنا، إنّما هي منه وحده لا شريك له. فكما أحسن أوّلا من غير سؤال؛ نسأله أن يحسن إلينا فيما بعد ذلك. وكما ابتدأنا بنعمته من غير أهليّة ولا استحقاق؛ نسأله أن يتمّم علينا نعمته، ولا ينزع منّا صالح ما أعطانا، وأن يجعلنا لسنّة نبيّه من المتّبعين، ولذاته الكاملة من المحبّين، فإنّه على ذلك قدير، لا إله غيره، ولا خير إلّا خيره، وهو نعم المولى ونعم النّصير.   (1) في «وسائل الوصول» : المائتين، وهو خطأ مطبعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 ......... والحمد لله أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا، والصلاة على نبيّه وحبيبه، وصفيّه وخليله: سيّدنا محمّد الأمين، وخاتم النبيّين؛ عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، كلّما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وعلى جميع آله وصحبه، ووارثيه العلماء وأتباعه وحزبه. آمين. والحمد لله ربّ العالمين؛ حمدا كثيرا طيّبا. وكان انتهى تبييضه بين العشاءين؛ ليلة الثّلاثاء، الموافق الخامس عشر من شهر محرّم الحرام، سنة- 1400- أربعمائة وألف هجريّة، بمنزلي في جبل الحفائر؛ المطل على الشبيكة بمكّة المكرّمة، جعلها الله آمنة مطمئنّة رخيّة وسائر بلاد المسلمين، ووفّقنا لما يحبّه ويرضاه بمنّه وكرمه. آمين. ونسأله حسن الختام، والموت على دين الإسلام، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، وصلّى الله وسلم على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين. كتبه مؤلّفه، الفقير إلى الله تعالى ورحمته: عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي رحمة الله تعالى عليه- المدرّس بالمدرسة الصولتية، وبالمسجد الحرام بمكّة المكرّمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 فهرسة الجزء الرابع من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوع صفحة حرف الميم 5 حرف النون 67 حرف الهاء 74 حرف الواو 76 حرف اللام ألف 84 حرف الياء 104 الباب الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم وسنه ووفاته ورؤيته في المنام وفيه ثلاثة فصول 117 الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم 118 الفصل الثاني: في سنه صلى الله عليه وسلم ووفاته 206 الفصل الثالث: في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام 332 الخاتمة: تشتمل على سبعين حديثا من أدعيته صلى الله عليه وسلم 363 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531