الكتاب: محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المؤلف: المستشرق الإنجليزي ويليام مونتجمري وات ترجمه إلى العربية: الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ راجع الكتاب وعلق عليه: الدكتور أحمد الشلبي الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة عام النشر: 1415 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] (تنبيه: هو ترجمة لكتاب مؤلفه نصراني مستشرق، وينظر المقال حول المؤلف في أول هذه النسخة الإلكترونية، وينظر كتاب الدكتور عماد الدين خليل: «المستشرقون والسيرة النبوية» في نفس هذا البرنامج «المكتبة الشاملة») ---------- محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة مونتجمري وات الكتاب: محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المؤلف: المستشرق الإنجليزي ويليام مونتجمري وات ترجمه إلى العربية: الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ راجع الكتاب وعلق عليه: الدكتور أحمد الشلبي الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة عام النشر: 1415 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] (تنبيه: هو ترجمة لكتاب مؤلفه نصراني مستشرق، وينظر المقال حول المؤلف في أول هذه النسخة الإلكترونية، وينظر كتاب الدكتور عماد الدين خليل: «المستشرقون والسيرة النبوية» في نفس هذا البرنامج «المكتبة الشاملة») ـ[محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة]ـ المؤلف: المستشرق الإنجليزي ويليام مونتجمري وات ترجمه إلى العربية: الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ راجع الكتاب وعلق عليه: الدكتور أحمد الشلبي الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة عام النشر: 1415 هـ عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   (تنبيه: هو ترجمة لكتاب مؤلفه نصراني مستشرق، وينظر المقال حول المؤلف في أول هذه النسخة الإلكترونية، وينظر كتاب الدكتور عماد الدين خليل: «المستشرقون والسيرة النبوية» في نفس هذا البرنامج «المكتبة الشاملة» ) المستشرق (مونتجمري وات) نشرت بعض المجلات (الإسلامية) التي تصدر بالإنجليزية في لندن مقالا عن هذا المستشرق بعنوان (المسيحي ذو التعاطف غير العادي مع الإسلام) ، والمقال بقلم ماليز روثفن، وهو كاتب مسيحي يعمل بنشاط في ميدان الغزو الفكري ضد المسلمين ـ عن طريق تأليف الكتب ونشر المقالات في عدة صحف ومجلات إنجليزية واسعة الانتشار. والمقال يدور حول لقاء أجراه الكاتب مع المستشرق، ويتخذ اللقاء ذريعة لتمجيد المستشرق من خلال ذكر ثقافته ومؤلفاته وإسهاماته العديدة في مجال الدراسات الاستشراقية للإسلام بوجه عام، وللسيرة النبوية بوجه خاص. ويبدأ المقال بالتعريف بالمستشرق بأنه قسيس يجمع بين الالتزام بالمسيحية وتوثيق الصلة بالمسلمين والاتصاف بالموضوعية في دراسته للإسلام، ويحاول المقال أن يظهر المستشرق على أنه (استثناء مشرف) من القاعدة العامة وهي تعصب المستشرقين ضد الإسلام. وكان هذا المستشرق يعمل أستاذا ورئيسا لقسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة أدنبرة لمدة خمسة عشر عاما حتى تقاعده سنة 1979 وقد قام خلال هذه الفترة بتدريس الإسلام عقيدة وتاريخا وحضارة لعدة أجيال من الطلبة وكثير منهم مسلمون (عرب وباكستانيون) ، ويدعي المقال أن من بين تلاميذه (شيخ أزهر) سابق ولكن لا يذكر اسمه لأن الهدف الأساسي هو التهويل من شأن المستشرق (العلامة وأستاذيته حتى لأساتذة المسلمين!! ويزعم المقال أن نتائج جهود هذا المستشرق وإسهاماته التي لم يسبق إليها في دراسته لمناطق مجهولة (من تاريخ الإسلامي والسيرة النبوية) قد أصبحت لا يستغنى عنها، فلا يستطيع باحث يريد أن يفهم التاريخ الإسلامي والدور الذي تلعبه الأفكار الدينية في خلق البناء الاجتماعي أو تعديله أن يستغني عن مؤلفاته. ويذكر المقال من بين المؤلفات الهامة التي كتابها المستشرق لجمهور القراء كتابا بعنوان: محمد النبي ورجل الدولة. وإذا رجعنا إلى هذا الكتاب فسيتضح لنا أن وصف المستشرق بالموضوعية العلمية وبالتعاطف (غير العادي) مع الإسلام - إنما هو خداع متعمد للمسلمين، قصد به إخفاء حقيقة الاستشراق ومخططاته وأهدافه وإيهام المسلمين أن بعض المستشرقين على الأقل - قد بدأوا يغيرون موقفهم ويشعرون بالتعاطف مع الإسلام، والحقيقة أنهم في تعصبهم (ملة واحدة) وإن اختلفت وسائل ودرجات هذا التعصب. وللتدليل على هذه الحقيقة يكفي أن نقرأ من الكتاب المذكور الفصل الأخير بعنوان (تقويم) فنجد أن المستشرق (المتعاطف) يسأل هذا السؤال: كيف نحكم على محمد (صلى الله عليه وسلم) ؟ أبمقاييس عصره؟ أم بأكثر الأفكار استنارة في الغرب اليوم؟ وفي جوابه على هذا السؤال يقرر أن أعمال محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يقبلها الغرب الحديث لم تكن موضوع نقد من معاصريه، فمن وجهة نظر عصره لا يمكن تأييد اتهامه (بالغدر) أو الشهوانية (وهما الفريتان اللتان تترددان - كما رأينا فيما سبق - ضمن افتراءات أخرى بين المستشرقين منذ القرون الوسطى) لأن معاصريه لم يجدوا فيه مطعنا أخلاقيا من هذا النوع من أي وجه. ويشير المستشرق بالغدر إلى حادثين تاريخيين في السيرة: الأولى: سريه عبد الله جحش رضي الله عنه في رجب من السنة الثانية للهجرة وأن قتال المسلمين للمشركين فيها كان انتهاكا للشهر الحرام، ومن ثم يُعد غدرا. وقد كفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم الرد على ما أثير بسبب هذه السرية وذلك في قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم أن استطاعوا) . ومن الواضح أن اضطهاد المشركين للمسلمين وإخراجهم من ديارهم ومن المسجد الحرام ومحاولتهم ردة المسلمين عن دينهم - كل هذا شر من القتال في الشهر الحرام؛ لأنه فتنة والفتنة أكبر من القتل. الثانية: - مصير يهود بني قريظة وما نالهم من عقاب رداع جزاءا وفاقا لنقضهم العهد وتآمرهم مع المشركين أثناء غزوة الأحزاب للغدر بالرسول وبالمسلمين وهم محاصرون في المدينة في موقف من أشد المواقف هولا على المؤمنين، كما قال تعالى (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) . ويشير المستشرق بالشهوانية إلى زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، مع أنه يعترف بأن هذا الزواج قصد به التشريع لتحريم التبني الذي كان سائدا في الجاهلية؛ كما قال تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا وكان أمر الله مفعولا) . ولا يتسع المجال هنا للرد بالتفصيل على فرية (الشهوانية) التي يرددها المستشرقون، ويكفي أن نتساءل كيف يكون شهوانيا من اقتصر على زوجة واحدة أكبر منه سنا طيلة شبابه حتى بلغ الكهولة؟! وكيف يكون شهوانيا من كان كل زواج له بعدها وسيلة لنشر الإسلام وتطبيق تشريعاته؟! وكيف يكون شهوانيا من أصبح سيد الجزيرة ومكن الله له في الأرض ومع ذلك رفض حياة الترف وآثر حياة الخشونة والزهد وما عند الله على ما عند الناس؟ ثم أمر بتخيير زوجاته بين الرضى بهذه الحياة أو الفراق؟ كيف يكون هذا الإنسان العظيم والرسول الكريم (شهوانيا) ؟! ويقرر المستشرق أن محمدا صلى الله عليه وسلم - في عصره وبيئته يعد مصلحا اجتماعيا وذلك لأنه وضع نظاما جديدا للضمان الاجتماعي (ومنه الزكاة) ، وأقام بناء جديدا للأسرة وكلاهما كان تقدما كبيرا عما كان عليه العرب قبل الإسلام. بل ويُعد محمد صلى الله عليه وسلم بمقاييس عصره كذلك مصلحا أخلاقيا وذلك لأنه كما يزعم المستشرق - أخذ أفضل ما في أخلاق البدو وتبناها للمجتمعات المستقرة، وبذلك وضع إطارا دينيا واجتماعيا لحياة كثير من الناس من أجناس مختلفة. وينتهي المستشرق إلى أن يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه مصلح اجتماعي وأخلاقي ولكن بمقاييس عصره وبيئته؛ أي بمقاييس العرب الوثنيين والبدو قبل الإسلام وبالتالي فهو مصلح اجتماعي وأخلاقي في إطار هذا التحديد وليس رسولا من عند الله ورحمة للعالمين في كل زمان ومكان! ويتعرض لموقف المسلمين من رسولهم صلى الله عليه وسلم وأنهم يرونه مثلا أعلى في السلوك الأخلاقي لكل البشر (أي في كل زمان ومكان) ويرى هو أن موقفهم هذا غلو لم يقنع إلا قليلا من غير المسلمين، وأن المسلمين لن ينجحوا في إقناع المجتمع الدولي والغرب المسيحي (المستنير) بأن رسولهم صلى الله عليه وسلم مثل أعلى في السلوك الأخلاقي! والمستشرق يتجاهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ولا يزال الأسوة الحسنة للملايين من البشر المؤمنين طوال أربعة عشر قرنا من الزمان في عصور وبيئات مختلفة، وأنه كان ولا يزال المثل الأعلى في السلوك الأخلاقي لمستويات متنوعة من البشر من العامة والخاصة, من العلماء والفلاسفة, من المصلحين والمجاهدين والدعاة، من كل الأجناس والمجتمعات. فلا يحتاج إلى شهادة مستشرق كافر به حاقد عليه, وتكفيه شهادة ربه: (وإنك لعلى خلق عظيم) . وفي رأي المستشرق أن الصفات الشخصية التي أعانت الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر الإسلام هي ثلاث صفات رئيسية: 1- موهبة كعراف (كاهن) SEER: أي مقدرته على استبصار الأسباب الرئيسة للتخلف الاجتماعي في عصره, وعبقريته في التعبير عن هذا الاستبصار بصورة تهز السامع من أعماق كيانه, وهو يشير بهذا إلى القرآن الكريم ويرى أن القارئ الأوروبي ينفر، ومع ذلك فهو كتاب يناسب حاجات وظروف عصره (فقط) . ومن الواضح أن المستشرق ينكر أن القرآن وحي من عند الله. 2- حكمته كسياسي: يقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان ذا نظر بعيد كمخطط سياسي وكمصلح اجتماعي, وهذا يتضح من التوسع السريع لدولته في المدينة, حتى أصبحت- بعد زمن قصير- " إمبراطورية " عالمية. ويتضح كذلك من " تكييف " مؤسساته الاجتماعية (أي مؤسسات الإسلام) للتطبيق في بيئات كثيرة متنوعة, واستمرار هذا التطبيق حتى الآن. 3- مهارته في الإدارة: وتتجلي هذه المهارة في اختيار للرجال الذين عهد إليهم تولي الأعمال الإدارية اليومية , وذلك لأن المؤسسات السليمة والسياسة الحكيمة لا تؤثران تأثيراً فعالاً إذا كان التنفيذ خاطئاً أو ضعيفاً. وقد خلف محمد صلى الله عليه وسلم دولة ذات إدارة قوية. ثم يتساءل المستشرق " المتعاطف ": هل كان محمد نبياً؟ في إجابته على هذا السؤال يزعم المستشرق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتمتع بما يسميه الخيال المبدع: وهو في هذه الخاصية يشارك غيره من الفنانين والشعراء والكتاب ذوي الخيال المبدع, فكل هؤلاء يعبرون بالصيغ الحسية (أي بالصور والقصائد والتمثيليات والروايات) عما يشعر به كثير من الناس, ولكنهم لا يستطيعون التعبير عنه بأنفسهم , ومن ثم يتميز الإنتاج العظيم للخيال المبدع بنوع من " العالمية " لأنه لا يعبر عن مشاعر ومواقف الفرد الذي أنتجه فحسب, بل عن مشاعر ومواقف جيل كامل من الناس. ويرى المستشرق أن الأنبياء والزعماء الدينيين ذوي النبوءات (أي القادرين على التنبوء) يشتركون مع الفنانين والشعراء والكتاب في خاصية الخيال المبدع, ومن ثم يعلنون أفكاراً تتصل بأعمق التجارب الإنسانية, مع الاهتمام الخاص بحاجات العصر والجيل. وعلامة النبي العظيم- في رأيه- هي ما تحدثه " أفكاره " من جاذبية عميقة " أي تأثير عميق " عند أولئك الذين وجهت إليهم هذه الأفكار. ويتساءل المستشرق: من أين تأتي هذه الأفكار؟ ويشير إلى رأي من يقولون بأنها تأتي من اللاوعي, وإلى رأي من يقولون بأنها تأتي من الله (وهؤلاء هم المؤمنون بأديان الوحي) . ويرى هو أنها تأتي من تلك الحياة داخل الإنسان التي هي أكبر منه , وهي غالباً تحت مستوى الوعي ولها صلة بالله. ويقرر المستشرق أن ليس هناك بالضرورة ما يحتم أن تكون كل أفكار الخيال المبدع صادقة وصحيحة. ويتساءل: ما القول في تلك الأفكار التي ينتجها الخيال المبدع وهي كاذبة أو غير صحيحة؟ وهنا يعرض للمقارنة: فيذكر أن الخيال المبدع عند هتلر كان على درجة كبيرة من التطور, كما كان لأفكاره تأثير واسع (على الجماهير) . ولكن يعتقد أنه كان مصاباً بالعصاب (الاضطراب العصبي) , وأن الألمان الذين اتبعوه إلى درجة التعبد قد أصابتهم عدوى ذلك العصاب. ومن الواضح أن المستشرق يحاول هنا- في خبث- أن يقارن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وما أوحي إليه من الذكر الحكيم بهتلر، وما عرف عنه من عصاب وهستيريا كانت تؤثر في الجماهير. ومن الواضح كذلك أن المستشرق يردد هنا ما ردده المستشرقون من قبله من افتراءات, كان منها وصفه صلى الله عليه وسلم بالصرع والاضطراب العصبي والهستيريا! فأي " تعاطف "هذا؟ وأي موضوعية؟ وأي أمانة؟ ويزعم المستشرق أن " أفكار" محمد (صلى الله عليه وسلم) التي أنتجها خياله المبدع كانت- إلى حد كبير- حقيقية وصحيحة. ولكن هذا لا يعني- في زعمه- أن كل ما في القرآن صحيح. فبعض " الأفكار " القرآنية حقيقية وصحيحة, وبعضها الآخر ليست كذلك؟ وهناك نقطة تبدو فيها " الأفكار " القرآنية- في زعم المستشرق- غير حقيقية وغير صحيحة, وهي الفكرة القائلة بأن الوحي (أي ما يسميه هو إنتاج "الخيال المبدع ") هو أسمى وأوثق من الطرق الإنسانية العادية كمصدر للحقيقة التاريخية, وهنا يشير إلى عدة آيات قرآنية تؤكد أن الله يوحي إلى رسوله بأنباء الغيب كقوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) . ويقرر أنه يقبل أن " الخيال المبدع " يمكن أن يقدم تفسيراً جديداً وأكثر صدقاً للأحداث التاريخية, ولكنه لا يقبل أن يكون " الخيال المبدع" مصدراً للحقيقة التاريخية المجردة (أي مصدراً للأخبار بالغيب من حقائق التاريخ) ويزعم أن هذا مبالغة وكذب. وهذه النقطة- كما يؤكد المستشرق- ذات أهمية خاصة بالنسبة للمسيحيين, وذلك لأن القرآن ينكر قتل عيسي عليه السلام أو صلبه, ويعتقد المسلمون أن هذا الإنكار أهم من الشواهد التاريخية التي تقول بصلب المسيح. وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى عن اليهود: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) . والواقع أنه ليس هناك " شواهد تاريخية" موثوق بها عن صلب المسيح عليه السلام. والروايات التي وردت في الأناجيل عن قصة الصلب تتضارب تضارياً شديداً, حتى ليعجب الإنسان كيف تختلف هذه الأناجيل في أصل هام من أصول ديانتهم. ولو صح أنه أصل لكان اهتمامها به متساوياً أو متقارباً. وقد أورد بعض الباحثين أربعة وثلاثين وجهاً من التضارب بين نصوص, ويؤكد أن أنكار القرآن لقتل المسيح أو صلبه هو حق لاشك فيه. ويزعم المستشرق أن هدف القرآن من هذا الإنكار هو أن ينفي ادعاء اليهود قتله أو صلبه, ليجردهم مما يرونه انتصارا لهم. وهذا زعم واضح البطلان. فقد كرر القرآن الكريم وصم اليهود بأنهم كانوا يقتلون أنبياءهم بغير حق. فلماذا يستثني المسيح عليه السلام من بين هؤلاء الأنبياء؟! مع أن قتله أو صلبه- لو كان أيهما قد حدث- يعد بلا شك وصمة عار تضاف إلى سجل اليهود المخضب بدماء الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس. ويزعم المستشرق كذلك أن المبالغة في دور الوحي قد أدت إلى نتائج أخرى. ومنها المبالغة في إسهام العرب في الثقافة الإسلامية على حساب الأجناس الأخرى المتحضرة التي اعتنقت الإسلام في مصر وسوريا والعراق وإيران. ويكفي لتنفيذ هذا الزعم أن الإسلام ساوي بين الناس جميعاً ولم يجعل مقياس الأفضلية بينهم الجنس أو العنصرية , بل التقوى. وأخيراً يتساءل المستشرق مرة أخرى: هل كان محمد نبياً؟ ويجيب بأنه كان رجلاً نشط عنده " الخيال المبدع " على مستويات عميقة, " وأنتج " "أفكاراً" ذات صلة بالقضايا الرئيسية في الوجود الإنساني , ومن ثم كان له تأثير واسع, ليس في عصره فحسب بل وكذلك في العصور التالية. ويقرر أنه بالرغم من أنه لم تكن كل " الأفكار "التي أتي بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) حقيقية وصحيحة-فقد استطاع أن يقدم للملايين من الناس ديناً أفضل مما كانوا عليه قبل أن يصبحوا مسلمين!! تفنيد فرية الأخذ من التوراة والإنجيل: ومما سبق يتضح أن المستشرق ينكر- كما ينكر جميع المستشرقين- أن القرآن الكريم وحي من عند الله. وفي مواضع أخرى من كتابه يتخذ هذا الإنكار الصورة المتفق عليها بين جميع المستشرقين, وهي أن القرآن يعتمد كثيراً على الأخذ من اليهودية والنصرانية, وبخاصة على الأخذ من العهدين القديم والجديد أي من التوراة والإنجيل. ويكفي لتفنيد هذا الزعم أن القرآن الكريم قد أتى بالعقائد والأصول العامة التي أتت بها كل رسالات التوحيد الموحى بها قبله, كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) . ولكن الكتاب العزيز يختلف عن الكتب السابقة من عدة أوجه, ومن أهمها: 1- أن الكتب السابقة أنزلت على رسل بعثوا لأقوامهم خاصة , بينما أنزل القرآن للناس كافة. 2- أن كتب أهل الكتاب, وبخاصة التوراة والإنجيل. قد حرفت بينما حفظ الله تعالى كتابه من كل تحريف. وهذا الوجه الثاني في غاية الأهمية بالنسبة لتفنيد فرية الأخذ من كتب اليهود والنصارى, فقد أكد القرآن الكريم تحريف أهل الكتاب لكتبهم (أي التوراة والإنجيل) في عدة آيات: منها على سبيل المثال قوله تعالى عن اليهود: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) ، (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) ، (يحرقون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به) وقوله تعالى عن النصارى: (ومن الذين إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به) . وقد نعي القرآن الكريم على أهل الكتاب تحريفهم لعقيدة التوحيد, وانحرافهم عنها إلى عقائد باطلة , كعقيدة التشبيه عند اليهود, وعقيدة التثليث عند النصارى, كما نعى عليهما ما ترتب على انحرافهم في العبادة والشريعة والأخلاق, وذلك لأنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا ألا ليعبدوا إلها واحد) وأحلو ما حرم الله من الربا وأكل أموال الناس بالباطل, واتصف اليهود خاصة بنقض العهد, وقسوة القلوب , وقتل الأنبياء بغير حق. فكيف يعقل أن يأخذ القرآن عن الكتب التي أعلن تحريفها؟! وعن أولئك الذين حرفوها وانحرفوا عن عقائدها وتعاليمها وتشريعاتها الموحي بها؟! وتحريف التوراة والإنجيل, وخلو القرآن من التحريف, حقيقة لا يؤكدها القرآن فحسب, بل يؤكدها كذلك العلماء والباحثون في الأديان, حتى من غير المسلمين. وقد أسلم بعض هؤلاء بعد اهتدائهم لهذه الحقيقة. وقد بين العلم الفرنسي موريس بوكاي الأخطاء العلمية العديدة التي وردت في التوراة والإنجيل نتيجة تحريفهما, وكذلك بين خلو القرآن من هذا الأخطاء, واشتماله على الحقائق العلمية التي أثبت العلم الحديث صحتها بعد مرور أربعة عشر قرناً على نزوله على نبي أمي لم يقرأ كتاباً, ولم يدرس علوما. فكيف يُقبل عقلاً أن ينقل القرآن عن تلك الكتب (كما يزعم المستشرقون) ثم لا ينقل عنها ولو خطأ واحداً؟ ولا يأتي إلا بالحق الذي لاشك فيه؟ أليس هذا وحده دليلاً على أنه وحي من الله: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وإنه كتاب معجز كما قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) ؟ ونعود إلى المقال فنجده يذكر أن المستشرق البريطاني قد أثرى دراسة السيرة بالمعلومات الاقتصادية والاجتماعية , ولذلك أثني عليه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون, وهو يهودي ماركسي ألف هو الآخر كتاباً بالفرنسية عن محمد صلى الله عليه وسلم ترجم ونشر بالإنجليزية، وهو مشحون بالافتراءات الاستشراقية على الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته وشخصيته. وكثير من هذه الافتراءات مستمدة من التفسير المادي (الاقتصادي) للتاريخ عند كارل ماركس , ومن التحليل النفسي (الجنسي) للإنسان عند سيجموند فرويد. وكلها افتراءات ساقطة مبتذلة نعف عن مجرد ذكرها. وبعد, فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله من الناس, وهو الصادق المصدوق بشهادة ربه, وشهادة التاريخ, وشهادة الملايين الذي آمنوا به وصدقوه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. فلا يحتاج إلى شهادة الكافرين والملاحدة. وإنما أردنا أن نبين للمخدوعين من المسلمين أن المستشرقين ليس بينهم منصف, فضلاً عن (متعاطف) . وأنهم جميعاً (ملة واحدة) يهدفون إلى غاية واحدة وهي إطفاء نور الله. وهيهات هيهات: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) (المصدر: رؤية إسلامية للاستشراق، للأستاذ أحمد غراب، ص 115-126) الألف كتاب الثانى نافذة على الثقافة العالمية المشرف العام ا. د. سمير سرحان رئيس التحرير ا. د. محمد عنانى مدير التحرير عزت عبد العزيز المشرف الغنى محسنة عطية سكرتير التحرير هند فاروق تصحيح محمد حسن بدر شفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الفهرس الموضوع الصفحة مقدمة الترجمة العربية 9 القران الكريم 10 الحديث 13 كتب السيرة والمغازى 16 كتب التاريخ العام 22 علم نفس النبوة 25 قضية عثمان بن مظعون (رضى الله عنه) وقضايا أخرى شبيهة 29 الأمن والمال والدولة والرسالة 33 «كل التاريخ تاريخ حديث» 36 مقدمة 39 تمهيد 40 1- وجهة نظر 40 2- ملاحظة عن المصادر 41 الفصل الأول: الخلفية العربية 1- الأسس الاقتصادية 49 2- السياسة المكية 53 (أ) المجموعات السياسية فى قريش 53 (ب) ادارة الأمور فى مكة 59 (ج) قريش والقبائل العربية 62 (د) سياسة مكة الخارجية 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الموضوع الصفحة 3- الخلفية الاجتماعية والأخلاقية 70 (أ) التضامن القبلى والفردية 70 (ب) المثل العليا الأخلاقية 75 4- الخلفية الدينية والفكرية 78 (أ) تدهور الديانة القديمة 78 (ب) «الانسانية القبلية» 80 (ج) ظهور الاتجاه نحو التوحيد 82 الفصل الثانى: بواكير حياة محمد (صلّى الله عليه وسلم) ودعوة النبوة 1- نسب محمد (صلّى الله عليه وسلم) 89 2- مولد محمد (صلّى الله عليه وسلم) وسنواته الأولى 92 3- زواج محمد (عليه الصلاة والسلام) من خديجة 99 4- الدعوة للنبوة 102 (أ) رواية الزهرى 102 (ب) رؤى محمد (عليه الصلاة والسلام) 105 (ج) الاختلاء فى حراء، التحنث 109 (د) «أنت رسول الله» 110 (هـ) «اقرأ» 112 (و) سورة المدثر، الفترة 114 (ز) خوف محمد ويأسه 118 (ح) خديجة وروقة بن نوفل يشدان من أزر محمد (صلّى الله عليه وسلم) 119 خاتمة 121 5- أشكال وعى محمد (صلّى الله عليه وسلم) بنبوته 121 6- التتابع الزمنى لوقائع الحقبة المكية 130 الفصل الثالث: الرسالة الأصلية (جوهر الرسالة) 1- فى تاريخ نزول القران (الكريم) 133 2- المحتوى القرانى لأول ما نزل من القران (الكريم) 136 (أ) خلق الله للانسان ولطفه به 136 (ب) الكل راجع الى الله ليوفيه حسابه 140 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 (ج) استجابة الانسان- شكر وعبادة 143 (د) استجابة الانسان لله سبحانه- السماحة والكرم والتطهر 146 (هـ) مهمة محمد 152 3- العلاقة الوثيقة بين الرسالة والأحوال المعاصرة 153 (أ) الجانب الاجتماعى 153 (ب) الجانب الأخلاقى 156 (ج) الجانب العقلى 159 (د) الجوانب الدينية 161 4- مزيد من التأمل 163 (أ) الظروف الاقتصادية والدين 163 (ب) أصالة القران الكريم 164 الفصل الرابع: أول من أسلم 1- الروايات المتداولة عن المسلمين الأوائل 172 2- استعراض للمسلمين السابقين 176 3- اللجوء الى الاسلام 189 الفصل الخامس: تزايد المعارضة 1- بداية المعارضة، الايات الشيطانية 193 (أ) خطاب عروة 193 (ب) قصة الايات الشيطانية 196 (ج) الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) الدوافع والتفسير 214 2- أمور الحبشة 226 (أ) الرواية التقليدية عن الهجرة الى الحبشة 227 (ب) شرح قائمتى المهاجرين الى الحبشة 235 (ج) أسباب الهجرة الى الحبشة 238 3- مناورات المعارضة 245 (أ) اضطهاد المسلمين 245 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 (ب) الضغط على بنى هاشم 248 (ج) عروض التسوية على محمد (صلّى الله عليه وسلم) 253 4- شهادة القران (الكريم) 254 (أ) النقد الكلامى لرسالة محمد (صلّى الله عليه وسلم) 254 (ب) النقد الكلامى لنبوة محمد (صلّى الله عليه وسلم) 259 (ج) أفعال معارضى محمد 265 5- قادة المعارضة ودوافعهم 268 الفصل السادس: افاق ممتدة 1- تدهور فى أوضاع محمد (صلّى الله عليه وسلم) 272 2- زيارة النبى للطائف 274 3- الاقتراب من القبائل البدوية 277 4- المفاوضات مع المدينة 278 (أ) توطئة 278 (ب) بيعتا العقبة، الأولى والثانية 283 5- هجرة النبى (صلّى الله عليه وسلم) الى المدينة 290 6- حصاد الحقبة المكية 293 الملاحق الملحق (أ) : الأحابيش 299 الملحق (ب) : التوحيد عند العرب والتأثيرات اليهودية المسيحية 306 الملحق (ج) : الحنفاء 313 الملحق (د) : مبحث حول (تزكى) 317 الملحق (هـ) 328 الملحق (و) : المرويات عن عروة 370 الملحق (ز) : قوائم مختلفة 374 الملحق (ح) : عودة المهاجرين 377 المراجع 379 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 مقدمة الترجمة العربية كتب مونتجمرى وات عددا كبيرا من البحوث والدراسات عن الاسلام، منها (القضاء والقدر فى القرون الثلاثة الأولى للهجرة) و (رسالة الاسلام فى العالم المعاصر) و (محمد صلّى الله عليه وسلم فى المدينة) وغيرها كثير، وكان الرجل متزنا فى غالب دراساته هذه التى ترجم عدد منها الى العربية «1» . وقد مضى ذلك الزمان الذى كان يتحرج فيه الناس فى عالمنا العربى من ترجمة كتب المستشرقين التى تتناول الاسلام، فقد أصبح ضروريا فى عصر تمور فيه الأفكار ان نعرف ما كتبه الاخرون عن المسلمين، فليس كله سيئا على أية حال، كما أصبح من الضرورى أن نعرف- بشكل أعمق- أديان الاخرين وثقافاتهم، فهى موجودة بين أيدينا، ونتعامل معها بالضرورة. وبالنسبة للكتاب الذى معنا الان، فان أول معيار للحكم عليه هو مصادره. فما المصادر التى رجع اليها ليأخذ معارفه الأساسية عن محمد صلّى الله عليه وسلم فى الحقبة المكية؟ ان بعضها لا يرقى اليه الشك (القران والأحاديث الصحيحة) ، لكن بعضها الاخر يورد أخبارا قد لا يوافق عليها بعض المسلمين (كتب السيرة والتاريخ العام) . وفى هذه الحالة، فالأولى بالنقد هو كتب التراث وليس ما اقتبسه وات منها، مما يثير قضية تقويم كتب التراث قبل نشرها. وفيما يلى عرض تفصيلى للمصادر التى أخذ منها (وات) النصوص التى أقام عليها تحليلاته:   (1) صدر الكتابان الأولان فى هذه السلسلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 القران الكريم المصدر الأول الذى رجع اليه وات Watt هو القران الكريم، وذلك من خلال المطبوعين التاليين: ترجمة ريتشارد بل Bell للقران الكريم، الذى نشر فى جزءين (1937- 1939) فى أدنبرة ببريطانيا. غير أن بل فعل شيئا اخر غير الترجمة، لقد أعاد ترتيب السور والايات مسلسلا اياها حسب النزول الأول فالأول، Critical rearrangement وأعطى للايات والسور ترقيما بالحروف كالاتى: أول ما نزل باكره، أى من أول ما نزل بمكة- الحقبة القرانية الأولى مكى بشكل عام اخر الحقبة المكية مدنية باكرة مدينة بشكل عام مرتبطة بغزوة بدر مرتبطة بغزوة أحد حتى الحديبية بعد الحديبية منسوخة. ومعنى هذا أن بل Bell رجع لكتب التفسير كلها، وكتب السيرة وكتب أسباب النزول ليقوم بهذا العمل المرهق. ورجع وات Watt الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لمطبوع اخر للقران الكريم بترجمة بل أيضا، لكن المستشرق فلوجل Flugel هو الذى تحمل مسئولية ترقيم الايات. المطبوع الثانى يمثل جهدا من نوع يبين مدى الاهتمام الذى حظى به القران وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فى الغرب لسبب أو اخر، ونعنى به كتاب ليون كيتانى Leone Caetani الذى حاول ترتيب أحداث السيرة النبوية عاما فعاما، Annali dellIslam وربط ترتيبه هذا بالايات القرانية، فكأنما هو جعل السيرة اطارا عاما، ثم راح يبحث عن الايات أو السور التى تناسب كل واقعة أو حادثة أو ظرف اجتماعى، ووضعها مرتبطة بها، سواء كان ذلك بناء على مصادر اسلامية أو استنتاجا بالشواهد والقرائن والتخمينات. ولا بد أن كتاب نولدكه Noldeke الشهير عن تاريخ القران Geschichte des Quran قد تعرض لأسباب النزول وتحدث عن السابق والأسبق نزولا من الايات القرانية، لكن مما يؤسف له أنه لم يتح لى قراءة هذا الكتاب ولا أظنه مترجما. وهنا تثور عدة أسئلة. نبدأ بأولها: لماذا بذل المستشرقون هذا الجهد المضنى لترتيب القران الكريم وفقا للأسبق فالسابق فالأقل سبقا.. الخ؟ ان أسباب ذلك متعددة، منها ما ذكره وات نفسه فى مقدمته وهو محاولة ( ... ربط المادة التاريخية التقليدية- يقصد ما ورد فى كتب السيرة وغيرها- بالقران الكريم. ولقد كان من المعتاد لفترة من الوقت التأكيد على أن القران الكريم هو المصدر الأساسى للحقبة المكية فلا شك أن القران معاصر لهذه الفترة، لكن القران- اذا استبعدنا صعوبة تحديد الترتيب الزمنى للأجزاء المختلفة (ترتيبه حسب تاريخ النزول) وعدم وضوح كثير من النتائج المتعلقة بذلك لأن القران نزل مفرقا ومنجما- لا يعطى لنا الصورة الكاملة لحياة محمد صلّى الله عليه وسلم والمسلمين فى الفترة المكية..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ويخلص وات الى أنه- لذلك- سيعتمد على القران الكريم كمصدر لتاريخ الفترة المكية، بالاضافة الى أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم وكتب السير.. الخ. سبب اخر دفع هؤلاء المستشرقين لاعادة ترتيب النص القرانى وهو ايمانهم بالمنهج التطورى فى التفكير وكتابة التاريخ، سواء تاريخ أوربا أو تاريخ العالم الاسلامى. كما أنهم لا يرون الأحداث تتحرك فى فراغ وانما من خلال بيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية. كما أنهم يبحثون دائما عن دافع أو وازع للحركة، وقد يصيبون وقد يخطئون. واذا لم يضع القارئ فى اعتباره هذه (النظرة) أو هذه (الطريقة فى التفكير) ، فقد يسىء فهم ما يقرأ. اننا نكاد نفهم أن وات اعتمادا على ترتيب بل الانف ذكره- يكاد يحدثنا عن المرحلة القرشية للاسلام، أى المرحلة التى بدا فيها الاسلام وكأنه لقريش دون سواها. ونكاد نفهم من تلميحاته أحيانا وتصريحاته حينا- أن الاسلام بدأ يمر بمرحلة عربية أى أنه فى هذه المرحلة صار موجها للعرب. ولا يقصد وات هنا أن الاسلام ليس دينا عالميا، فهذه مسألة حسمها التاريخ، فالاسلام يمتد الان بكثافة ما بين خط عرض 60* شمالا وخط عرض 6* جنوبا، بالاضافة لمسلمين كثيرين خارج ما يحتضنه هذان الخطان. بل ان البعد العالمى ظهر فى الاسلام منذ بواكير الدعوة، فقد كانت كل أجناس البشر ممثلة حول الداعى الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقد كان هناك صهيب (الرومى) وسلمان (الفارسى) وبلال (الحبشى) وعرب يمنيون وعرب شماليون. و (وات) نفسه يذكر لنا فى كتاب اخر له ترجم للعربية بعنوان (الاسلام والمسيحية) «1» ان الاسلام هو دين المستقبل، لأنه يحتضن كل قيم الديانتين السابقتين عليه: اليهودية والمسيحية، بالاضافة لأسباب أخرى ساقها تفصيلا فى كتابه.   (1) فى سلسلة الألف كتاب الثانى، الهيئة المصرية العامة للكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فليس المقصود، اذن، بالمرحلة القرشية والمرحلة العربية وصم الاسلام بالمحدودية، وانما كان من الطبيعى ان تبدأ الدعوة لقريش ثم تمتد وفقا لتطور الأحداث. وأرانى غير منزعج كثيرا بقول وات ان الربا لم يحرم فى المرحلة المكية لأنه كان أمرا شائعا بين تجار مكة، وانه لم يحرم الا فى المرحلة المدنية بعد استقرار دولة الجماعة الاسلامية. فالتدرج فى الدعوة، ومراعاة الظروف والرفق، كل ذلك من الأساليب المعروفة فى الدعوة بشكل عام ودعوة الاسلام بشكل خاص. فالخمر محرمة فى الاسلام يقينا، لكن ذلك لا يمنع من أن ذلك تم بالتدريج كما هو ثابت فى ايات القران الكريم. بقى سؤال اخر: أليس أمرا مزعجا أن يعاد ترتيب ايات القران الكريم وسوره؟ أليس ذلك تحريفا للكلم عن مواضعه؟ اللهم لا*، فهذا يقصد به فهم مجريات الأمور وربط الايات الكريمة بأسباب نزولها، ومحاولة فهم الايات فى ضوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... وقد استقر المصحف الشريف بترتيب سوره وآياته، ونحن نقرأه متعبدين بهذه الطريقة التى حفظه الله بها. الحديث والمصدر الثانى الذى اعتمد عليه (وات) هو أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومن المعروف أن مجموعات الأحاديث التى ينظر لها المسلمون باعتبارها تضم أصح الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هى المجموعات المعروفة بالصحاح: البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه وأبو داود. وقد اختار وات لنفسه مرجعا لكتابه هذا هو صحيح البخارى، ربما لتوافر ترجمة له، وربما لأنه كان متاحا له دون سواه. وهو اختيار موفق على أية حال.   * فى تقديرى، أن القران الكريم استقر على ترتيب معين، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم عندما تنزل اية أو ايات من القران الكريم يدل كتاب الوحى على السورة التى تنضاف اليها الاية أو الايات، ومن هنا فمن المتفق عليه أن ترتيب ايات السور توقيفى، أى من عند الله لا يجوز تجاوزه (السيوطى: الاتقان فى علوم القران ص 90 وما بعدها- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بقيت مسألة، فنحن نعرف أن احاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم هى المصدر الثانى للتشريع الاسلامى بعد القران الكريم، لكن ماذا عنها كمصدر للتاريخ؟ الواقع أن الفرق رقيق جدا بين (المحدث) و (الاخبارى) و (المؤرخ) عندما نتحدث عن الفترة التى عاش فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد نزول الوحى عليه. فالمحدث هو كل مشتغل بالسنة وهو غير المؤرخ الذى يشتغل بالأخبار التاريخية ألا اذا كانت هذه الأخبار متعلقة بالرسول صلّى الله عليه وسلم، الا أن كلمة (المحدث) كانت تطلق أحيانا على المشتغل بجمع الأخبار التاريخية وروايتها، كما أن أخبار الرسول صلّى الله عليه وسلم وأفعاله وأقواله واقراراته هى فى حد ذاتها أخبار تاريخية «1» . وحتى لو اشتملت مجموعات الأحاديث على ذلك النوع المعروف بالأحاديث القدسية وهى التى يبلغها الرسول صلّى الله عليه وسلم عن ربه، فهى أيضا تفيد فى شرح العقيدة ومعرفة التوجيهات التى يطلبها الله عز وجل، وبالتالى فهى مصدر من مصادر التاريخ. ومن المفيد هنا أن نورد الحديث القدسى الشهير الذى رواه مسلم عن أبى ذر الغفارى عن الرسول عن ربه: (يا عبادى، انى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادى، كلكم ضال الا من هديته فاستهدونى أهدكم. يا عبادى، كلكم جائع الا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم. يا عبادى، كلكم عار الا من كسوته فاستكسونى أكسكم. يا عبادى، انكم تخطئون فى الليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم. يا عبادى، انكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى. يا عبادى، لو أن أولكم واخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا. يا عبادى، لو أن أولكم واخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا. يا عبادى، لو أن أولكم واخركم وانسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى الا كما ينقص الخيط اذا أدخل البحر. يا عبادى، انما هى أعمالكم أحصاها لكم ثم أوفيكم بها. فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه) . فالمتأمل فى هذا الحديث القدسى يدرك أنه وان كان موجها للشرية عامة، الا أنه لا بد من مناسبة وظروف بيئية قيل فيها هذا الحديث   (1) محمد اسماعيل ابراهيم: الأحاديث النبوية والمحدثون. القاهرة، دار الفكر العربى، 1973. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 القدسى. انه موجه لأقوام فى الغاية من الغرور. وفى الغاية من الثقة فى أموالهم وقوتهم. يظنون أنهم هم المطعمون للناس ... الخ. والواقع، أن علماء الحديث أو المحدثين كانوا هم رواد علم التاريخ عند المسلمين، فقد صار المؤرخون على نهجهم فى (العنعنة) أو (الاسناد) أو نسبة الخبر الى سلسلة من الرواة، فعلوم الحديث تشكل فى حد ذاتها مناهج لتصحيح الخبر، وهو أيضا عمل المؤرخ. وفيما يلى نذكر بعض القضايا من علم مصطلح الحديث: علم الجرح والتعديل، ويبحث فى أحوال الرواة من حيث أمانتهم وعدلهم وضبطهم أو عكس ذلك من كذب أو غفلة أو نسيان، ويسمى أيضا علم ميزان الرجال. علم رجال الحديث، وهو علم يتناول تراجم للرواة وحياتهم ومعرفة تواريخ مواليدهم وتواريخ وفاتهم والاشارة لمواطنهم، وحالاتهم العقلية والصحية، وأول من كتب فى هذا العلم هو ابن سعد (توفى 230 هـ) ، والبخارى (توفى 256 هـ) ، ابن الأثير فى كتابه أسد الغابة فى معرفة الصحابة (ت: 630 هـ) . علم مختلف الحديث (بكسر اللام) ، وهو يبحث فى التوفيق بين الأحاديث التى ظاهرها التناقض. علم علل الحديث (بكسر العين) ، ويبحث فى أسباب القدح فى صحة الحديث أو اتهامه بأنه موضوع. علم غريب الحديث، ويبحث فى الأحاديث التى ينفرد بها راو واحد موثوق به. علم الناسخ والمنسوخ من الحديث، وهو علم يبحث فى أوامر أو توجيهات قال بها الرسول صلّى الله عليه وسلم ثم عدل عنها أو جاء بأوامر وتوجيهات غيرها. من هذا العرض يتضح أن علماء الحديث فى عصور التنوير الاسلامى لم يكونوا يأخذون الحديث على علاته، وانما كانوا يقومون ازاءه بعملية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 نقد للنص ونقد للراوى، والتأمل فيه والتدبر فى محتواه، وبخاصة أن أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم لم تجمع الا فى القرن الثالث للهجرة، أى بعد مضى أكثر من مائتى سنة على نطق الرسول صلّى الله عليه وسلم بها، مما جعلها عرضة للتزوير والتزييف، وعرضة لأصحاب الغرض والهوى «1» . وقد جعل المحدثون وعلماء الحديث لأحاديث الرسول درجات، فليس كل ما روى عن الرسول صلّى الله عليه وسلم صحيحا، لأنه لم يدون فى غالبة وقت نطق الرسول به. وقد أفرد علماء الحديث مجموعات لبعض الأحاديث الموضوعة أى المكذوبة على رسول الله منها: المصنوع فى معرفة الحديث الموضوع الذى وضعه على القارى الهروى. وقد تحاشى (وات) الرجوع للأحاديث المشكوك فيها واكتفى بصحيح البخارى، وهو باختياره هذا قد اختار الأحاديث التى أجرى عليها علماء الحديث منهجهم فى نقد سلسلة الرواة، والمتن أيضا. وعندما ألف أسد رستم كتابه (مصطلح التاريخ) الذى حقق شهرة واسعة فى جيلى على الأقل، لم يفعل فى الحقيقة الا أنه أعاد صياغة ما ورد فى كتب مصطلح الحديث. كتب السيرة والمغازى رجع (وات) فى كتابه هذا الى أهم مصدرين تعرضا للسيرة النبوية على الاطلاق، وهما السيرة النبوية لابن اسحق (المتوفى 150 هـ) والتى   (1) من الكتب الأساسية التى تناولت علوم الحديث التى هى فى الواقع علوم نقد النص وتحقيقه نذكر: الباعث الحثيث فى شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، شرح احمد محمد شاكر. علوم الحديث لابن الصلاح (أبو عمرو عثمان الشهرزورى) . ومن الكتب الحديثة: علوم الحديث ومصطلحه تأليف د. صبحى صالح، وعلوم الحديث لمحمد على قطب وغيرهما كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 هذبها ابن هشام (المتوفى 213 هـ) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (المتوفى 230 هـ) . ومن المعروف أن كتب السيرة التقليدية، بالاضافة الى هذين الكتابين، هى: كتابات الواقدى (المتوفى 207 هـ) وعملان اخران كتبا فى زمن متأخر هما: الكتاب المعروف بسيرة ابن سيد الناس (توفى 724 هـ/ 1334 م) وقد جعل لها مؤلفها ابن سيد الناس عنوانا هو (عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير) ، وسيرة نور الدين الحلبى (المتوفى 1044 هـ/ 1624 م) المعروفة بين الناس باسم السيرة الحلبية. وقد جعل لها مؤلفها عنوانا هو (انسان العيون فى سيرة الأمين المأمون) . وبتركيز وات على سيرة ابن اسحق (نقلا عن ابن هشام) وعلى الطبقات الكبرى لابن سعد يكون قد رجع للمصادر الأمهات التى اعتمدت عليها المصادر اللاحقة. وقد تناول المؤلف مراجعه هذه فى ضوء منهج نقد النص أو معرفة ظروف تأليفه وربطه بالفترة الزمنية التى كتب فيها، ومعرفة اتجاهات الكاتب وما الى ذلك. وهى مسألة فى الغاية من الأهمية لابد أن يراعيها قراء كتب التراث، وهى لا تعنى تشكيكا بالضرورة فى هذه الكتابات، ولا تعنى- بالضرورة- انكار ما أوردته من معلومات، لكن هذه الظروف جميعا تعين على فهم التوجهات العامة التى قد يسير فيها المؤلف ربما بدون وعى منه. ومن المفيد أن نستطرد فى مسألة (تقويم المرجع) أو (نقد النص) هذه لأنها مسألة تنويرية خاصة فى ظل حركة نشر كتب التراث على نطاق واسع، ربما تأكيدا للذات، وتمسكا بالهوية وهو أمر مطلوب على أية حال. ولتبسيط الأمور وجعلها أقرب للفهم لا بأس من ضرب أمثلة معاصرة، ثم نعرج بعد ذلك على أمثلة من السيرة النبوية. ألا يضيف الينا شيئا عند قراءتنا لكتاب عن عبد الناصر مثلا أن نعرف ان كان الكتاب قد تم تأليفه فى حياة عبد الناصر أم بعد مماته؟ ثم هل نشر الكتاب داخل مصر أم خارجها؟ وهل حظى بمباركة عبد الناصر أم أثار سخطه؟ وان كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قد نشر خارج مصر، هل نشر فى دوله معادية لعبد الناصر أم فى دولة صديقة؟ وهل كان المؤلف يشغل منصبا فى حكومة عبد الناصر أم لا؟ وهل كان فى موقع يسمح له بالاطلاع على دواخل الأمور؟ وهل كان جزا من النظام؟ أم هل استقى معلوماته من المصادر العامة المتاحة، وكان كل دوره هو التحليل والتعليل؟ هل هو مصرى؟ هل هو اسرائيلى؟ هل هو عربى؟ هل هو غير ذلك؟ هل استفاد من النظام؟ هل أضير فى ظل النظام؟ من الجهة التى مولت الكتاب؟ هل كتبه بتكليف؟ هل هو كتاب دراسى؟ .. الخ. ألا تضيف اجابات هذه الأسئلة بعدا للكتاب وتوضيحا لبعض ما ورد به؟ هذا بالتأكيد صحيح، وليس معنى هذا أننا نشكك جازمين بما ورد فيه. لكن معرفة هذه الأمور بالنسبة لأى كتاب- تراثى أو غير تراثى- مسألة مهمة لفهم محتواه، وما قيل عن كتاب يتناول عبد الناصر، يقال عن كتاب اخر يتناول السادات، ويقال عن أى كتاب على وجه الاطلاق. يكفى للدلالة على أهمية تقويم المرجع أن نضع بين أيدينا مجموعة كتب عن أسرة محمد على قبل قيام ثورة يوليو 1952، ومجموعة كتب أخرى بعد هذه الثورة. ولنقارن. ليس من الضرورى أن تكون المجموعة الأولى غير دقيقة بالضرورة، وليس أيضا من الضرورى أن تكون المجموعة الثانية صحيحة أو العكس. وقد تكون المعلومات فى كليهما صحيحة. وانما جرى التركيز على معلومات بعينها واغفال أخرى.. وهكذا. نورد هذا لنقول، انه من المفيد أن نعرف أن ابن اسحق قدم كتابه عن السيرة الى الخليفة العباسى الثانى أبى جعفر المنصور لتكون بمثابة منهج دراسى يدرسه ولى عهده المهدى. وقد طلب المنصور أن يشتمل الكتاب على تاريخ البشرية منذ ادم عليه السلام. وفى رواية الخطيب البغدادى أن الذى كلفه بتأليف الكتاب هو المهدى ( ... دخل محمد ابن اسحق على المهدى وبين يديه ابنه فقال له: أتعرف هذا يا ابن اسحق؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قال نعم، هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى ادم عليه السلام الى يومك هذا..) «1» . ليس معنى هذا أننا نقول ان ابن اسحق قد حابى بنى العباس ونزع من تاريخ أسرتهم ما لا يرضيهم، لكنه ربما يكون قد خفف الصياغة، كما أنه ليس من الضرورى أن يكون زور تاريخ عبد شمس. لكنه ربما يكون قد ركز على نقاط دون سواها. والواقع، أنه كان من الصعب جدا تزوير التاريخ بشكل واضح لأن القبائل التى عاصرت الدعوة الاسلامية كانت لا تزال موجودة لم تنقرض، وما كان ابن اسحق يؤلف كتابه بشكل سرى، فلا بد أن أفرادا من قبائل وعشائر مختلفة قد سمعوا بما حواه ان لم يكونوا قد قرؤه. وعندما يقوم وات باثارة أمور كهذه، مجرد اثارة دون تأييد أو معارضة، فهو لم يفعل أكثر من ممارسة حقه فى تقويم المصدر. وسنعتمد فى العرض الذى سنقدمه فى السطور التالية عن ابن اسحق على كتاب مهم ألفه المستشرق الألمانى جوزيف هوروفتس هو (المغازى الأولى ومؤلفوها) ، الذى ترجمه الدكتور حسين نصار «2» ومراجع أخرى. ومحمد بن اسحق هو أعظم التلاميذ الذين تخرجوا على يد شيخ مؤرخى السيرة فى القرن الأول وهو محمد بن شهاب الزهرى. واسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد يسار وكان جده يسار من نصارى العراق الذين وقعوا فى أسر المسلمين سنة 12 هـ فكان رقيقا لبنى قيس بن مخرمة ابن المطلب. واعننق يسار الاسلام فحرره سيده، لذا فهو من الموالى. وعندما رزق اسحق بابنه محمد دفع به الى من يعلمه الحديث والفقه، وعلمه بنفسه فقد كان اسحق من رواة الحديث. وقد نقل ابن اسحق فى   (1) الخطيب البغدادى، أبو بكر أحمد بن على الخطيب: تاريخ بغداد، ج 1، ص ص 214- 234. (2) نشر فى القاهرة، سنة 1949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 كتابه معلومات كثيرة عن شيوخه: عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله ابن أبى بكر بن حزم، ومحمد بن شهاب الزهرى، وهذا الأخير هو أهمهم جميعا. وقد زار ابن اسحق الاسكندرية سنة 115 هـ فدرس على يد محدثها يزيد بن ابى حبيب، ثم عاد للمدينة المنورة. وقد أورد ابن خلكان فى ترجمته له «1» ما نصه: «وكان محمد المذكور ثبتا فى الحديث عند أكثر العلماء، وأما فى المغازى والسير فلا تجهل امامته، قال ابن شهاب الزهرى: من أراد المغازى فعليه بابن اسحاق، وذكره البخارى فى تاريخه، وروى عن الشافعى رضى الله عنه انه قال: من أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن اسحاق، وقال سفيان بن عيينة: ما أدركت أحدا يتهم ابن اسحاق أمير المؤمنين، يعنى فى الحديث، ويحكى عن الزهرى أنه خرج الى قرية له فاتبعه طلاب الحديث فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول، يعنى ابن اسحاق، وذكر الساجى أن أصحاب الزهرى كانوا يلجأون الى محمد بن اسحاق فيما شكوا فيه من حديث الزهرى، ثقة منهم بحفظه، وحكى عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن اسحاق واحتجوا بحديثه، وانما لم يخرج البخارى عنه وقد وثقه، وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه الا حديثا واحدا فى الرجم من أجل طعن مالك بن أنس فيه ... » . ويقال، ان ابن اسحق كان من أنصار مذهب القدرية (مسئولية الانسان عن فعله خيرا أم شرا) وهو مذهب المعتزلة، ومعنى هذا أن الرجل كان ذا ميول مناهضة لبنى أمية، وقد قام وات فى كتاب اخر له عن القضاء والقدر، بربط المذاهب والاتجاهات التى تبدو وكأنها مسائل دينية خالصة، بالتوجهات السياسية «2» . وبشكل عام، فقد كان علماء الحديث   (1) وفيات الأعيان- ترجمة محمد بن اسحق. (2) راجع الدراسة الملحقة بكتاب (القضاء والقدر فى فجر الاسلام وضحاه) تأليف مونتجمرى وات، ترجمة د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ- سلسلة الألف كتاب الثانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 لا يثقون كثيرا فى الاخباريين وكتاب السير، بسبب دقتهم الشديدة- أى علماء الحديث- فى تحرى الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لذلك ليس بمستغرب أن تكون علاقة ابن اسحق بمالك بن أنس عالم المدينة ومحدثها علاقة غير طيبة. وقد عاد ابن اسحق الى العراق بعد سقوط الدولة الاموية، وربما يكون حبه للعباسيين هو الذى دفعه للمقام فى العراق، وفيه وافته منيته فى بغداد سنة 151 هـ أو 152 هـ على خلاف. أما الكتاب الثانى من هذه الفئة من الكتب (السير) الذى اعتمد عليه وات فهو الطبقات الكبرى لابن سعد، واسمه الكامل محمد بن سعد ابن منيع البصرى، المولود فى البصرة سنة 168 هـ، وكان ابن سعد مولى للهاشميين، وان كان ابن خلكان يجعل ولاء ابن سعد لبنى زهرة، وكان كاتبا للواقدى ودرس فى المدينة المنورة وبغداد والكوفة. وقد تقيد ابن سعد بأسلوب مدرسة الحديث فى ايراد أخباره التاريخية، لذلك كانت علاقته بالفقهاء وعلماء الحديث أفضل من علاقة ابن اسحق بهم. ورغم أن كتاب ابن سعد يندرج تحت كتب الطبقات، الا أن الدراسة الطويلة المفصلة التى أوردها فى الجزء الأول عن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم جعلت الباحثين حتى المستشرقين- يعتبرونه واحدا من كتاب سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ثم نتعرض بايجاز لكتاب الواقدى (130- 208) . وكان الواقدى منتميا بالولاء لعبد الله بن بريدة من بنى أسلم (من أهل المدينة) وذكر هو نفسه أنه انتمى بالولاء للهاشميين، وقد ولد فى اخر الدولة الأموية، ومات عن عمر يناهز الثامنة والسبعين ودفن فى بغداد. ولاه الخليفة الرشيد قضاء الجانب الشرقى من بغداد. وكان الواقدى من شيوخ الحديث، ومن المعروف أن علم التاريخ عند المسلمين قد تأثر كثيرا بمنهج علماء الحديث. وغلبت على الأخبار التى جمعها فى كتابه (المغازى) وهو الكتاب الذى نحن بصدده الصفة التشريعية، لذلك فهذا الكتاب يقع فى موقع وسط بين كتب الحديث وكتب السيرة (تاريخ النبى صلّى الله عليه وسلم) . وهو كغيره من كتب السيرة لا يهتم كثيرا بالفترة السابقة على الاسلام، وكان الواقدى لا يكتفى بالسماع وانما عاين مواقع الغزوات بنفسه وقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بشىء يشبه ما يفعله الاثاريون هذه الأيام، ومع هذا فقد كان ضعيف الذاكرة ولم يحفظ القران قط فيما يقول الخطيب البغدادى. وساءت علاقته فى بغداد بالحنابلة. كتب التاريخ العام وكما رجع (وات) لمصادر أصيلة من فئة كتب السير والمغازى، رجع أيضا لأهم كتب التاريخ العام، ونعنى به تاريخ الطبرى المعروف باسم (تاريخ الأمم والملوك) وقد ولد الطبرى فى سنة 224 هـ وتوفى سنة 310 هـ. ومرة أخرى نذكر بطريقة أخرى ما أوردناه انفا من أن قراءة كتب التراث فن، اذ لا بد أن يكون القارئ على وعى كامل بأنه ليس كل ما ورد بها صحيحا، لذلك لابد من نقد النص أو تقويم المرجع. وحالة الطبرى وضح دليل يؤكد قولنا هذا، فالرجل يقول فى مقدمة كتابه وكأنه يتبرأ من كثير مما ورد فيه انه لا دخل له، وانه كتب كل ما سمع سواء أكان صحيحا أم باطلا، مقبولا للعقل أم مرفوضا منه، فما هو الا مسجل لكل ما سمع، ونفضل هنا نقل عباراته كما هى: «وليعلم الناظر فى كتابنا هذا أن اعتمادى فى كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أنى راسمه فيه، انما هو على ما رويت من الأخبار التى أنا ذاكرها فيه، والاثار التى أنا مسندها الى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، الا اليسير القليل منه، اذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل الى من لم يشاهداهم ولم يدرك زمانهم، الا باخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس. فما يكن فى كتابى هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها فى الصحة، ولا معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فى الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت فى ذلك من قبلنا، وانما أتى من قبل ناقليه الينا، وأنا انما أدينا ذلك على نحو ما أدى الينا» «1» . وعند ما هذب ابن هشام سيرة ابن اسحق ذكر لنا أنه حذف من ابن اسحق بعضا مما يغضب الناس، بل بعضا مما لا يطيقه الناس. اذن لقد وضع ابن هشام فى اعتباره (الناس) بالاضافة الى الحقيقة التاريخية وراح يوازن، وراح يحاول أن يكون محايدا قدر الامكان. وتلك كلماته: « ... وتارك بعض ما ذكره ابن اسحاق فى هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فيه ذكر، ولا نزل فيه من القران شىء، وليس سببا لشىء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائى بروايته. ومستقص- ان شاء الله تعالى- ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به» «2» . فبعض ما يورده المستشرقون مما لا يعجب القارئ المسلم هو فى الواقع منقول من المصادر الاسلامية دون اخضاعها للنقد وتقويم النص. وما الى ذلك مما انتهى اليه منهج البحث التاريخى الحديث. فاخضاع كتب التراث للتقويم ليس بالضرورة تجريحا لها وانما هو محاولة لفهمها. نقول هذا لأن ما أورده وات Watt عن حكاية الغرانيق أو الايات الشيطانية التى قيل ان الشيطان قذفها فى صدر رسول الله صلّى الله عليه وسلم واردة بنصها وتفاصيلها فى كتاب الطبرى، وهى حكاية مرفوضة عقلا. رغم أن وات أورد بعض الايات القرانية وحاول تفسيرها بما يفيد اثبات حكاية   (1) الطبرى، طبعة دار الكتب العلمية، ج 1، ص 13. (2) ابن هشام، مكتبة الايمان، ج 1، ص 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الغرانيق هذه. فما يوجه من نقد لمونتجمرى وات فى هذه الحال، انما هو فى الواقع نقد للطبرى. على أية حال، كما كان وات أصيلا فى اختيار مصادره قرانا كريما وأحاديث شريفة وسيرا كان أيضا أصيلا فى اختياره للطبرى. لماذا؟ ليس من السهل الاجابة عن هذا السؤال دون استعراض تطور كتب التاريخ الاسلامى العام فى المكتبة التراثية العربية، لبيان أهمية الطبرى وأسبقيته. لقد بدأ المؤرخون المسلمون فى كتابة التاريخ العام منذ منتصف القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد. وضمنوا كتبهم تاريخ البشرية عامة بقدر ما كان بين أيديهم من معلومات، لكن المؤرخ من هؤلاء كان يبدأ بالتركيز على تاريخ الاسلام والمسلمين منذ بداية الدعوة، مهملا ما سواه على عكس ما كان يفعل عندما كان يؤرخ لفترة ما قبل الاسلام. وكتب التاريخ العام على نوعين: أولهما ما يسلسل الحوادث حسب تعاقب السنين ويسمى عادة بكتب الحوليات. وثانيهما يعرض السلالات الحاكمة أو تاريخ الملوك والدول، وقد جمع بعضهم بين ذكر الحوادث وذكر التراجم أو الوفيات. وأول أهم مؤلفى التاريخ العام هو أبو حنيفة الدينورى المتوفى 282 هـ، ولم يصلنا من كتبه الا كتاب (الأخبار الطوال) ثم ابن قتيبة الدينورى المتوفى 276 هـ، وله كتاب (عيون الأخبار) وكتاب (المعارف) وهذا الأخير ليس فى مجال التاريخ. ثم نصل الى الطبرى (224- 310 هـ) أول مؤلف حول بمعنى الكلمة، أو على الأقل هو أول مؤرخ حولى يتوافر لدينا كتابه. ولد بمدينة امد عاصمة طبرستان وهى تقع على السواحل الشرقية لبحر قزوين أو بحر الخزر. درس الثقافة الدينية المعتادة قرانا وحديثا وفقها ونبغ فيها كما درس علوم اللغة، وارتحل لطلب العلم، وأقام فى بغداد مدة طويلة، وزار مصر، ثم عاد فاستقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فى بغداد. وكانت علاقته بالحنابلة سيئة، ثم تصالح معهم؛ وله تفسير شهير للقران الكريم. وكل من اتى بعد الطبرى من مؤرخى التاريخ العام نقلوا منه الى اخر سنة 302 هـ حيث انتهى ثم يكملون بعد ذلك كل الى عصره، وعلى هذا فالمسعودى (ت 345 هـ) وابن مسكويه (ت 421 هـ) وابن الأثير (ت 630 هـ) .. اعتمدوا فى كتابتهم للسيرة النبوية على كتب السبر التى تناولناها فى فقرات سابقة وعلى الطبرى. فلم يجد وات ضرورة للرجوع الى ابن الأثير أو غيره من مؤرخى التاريخ العام اكتفاء بالطبرى. وكان وات- لو شاء- قادرا على جعل قائمة مراجعه طويلة عديدة العناصر دون فائدة كما يفعلون. كما رجع (وات) لكتابات أخرى، كتاريخ مكة للأزرقى، ولتفسير الطبرى للقران الكريم لمرة واحدة، بالاضافة لكتب زملاته من المستشرقين اذ أخذ عنهم بعض ارائهم وتحليلاتهم فأقر بعضها، وعارض بعضها، لكنه لم ينقل عنهم نصوصا أو أخبارا متعلقة بسيرة الرسول الا اذا كانت موجودة فى المصادر الاسلامية، وفى هذه الحالة اثر الرجوع للمصادر الاسلامية- التى أسلفنا الحديث عنها- مباشرة. علم نفس النبوة علم نفس النبوة أو سيكولوجيا النبوة أو الظروف النفسية للوحى،.. كل هذا رغم أنه من الناحية الشكلية يلبس لبوسا علميا، الا أنه غير صحيح، ولا يتعدى كونه محاولة للفهم جانبها الصواب، ولم يهتم (وات) باتجاه المستشرقين الذين فسروا الوحى هذا التفسير لسبب بسيط وهو أنها محاولة نظرية ليس هناك (ميدان) نجربها فيه. فعلم النفس الصناعى مثلا يجد له تطبيقات وسط المصانع وبين العمال، وقياس الفعل ورد الفعل والاستجابة وما الى ذلك يتم على أفراد موجودين فعلا، لكن من هذا الذى استطاع احضار الأنبياء عليهم السلام وأجرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عليهم تجاربه؟! لقد اعتمد وات على دراسة قام بها بولين Poulain عن الصلاة الداخلية أو الباطنية، أو الدعاء الباطنى أو المناجاة الداخلية Graces of interior prayer التى تناول فيها بعض التجارب الدينية أو (الصوفية) مثل (الرؤى) و (سماع الكلام) و (الحوار الداخلى) فى النفس، وقسم بولين الوحى الداخلى بالكلمات الى: تخيلى وعقلى. لاحظ أن بولين طبق نظرياته هذه على القديسين المسيحيين ولم يتعرض الا قليلا للتجربة التى خاضها محمد صلّى الله عليه وسلم. لكن وات أخذ بنتائج زميله بولين، وراح يطبقها على محمد عليه الصلاة والسلام، ومن أفكار بولين أن الوحى هو معان تقذف فى النفس دون استخدام كلمات، وبالتالى لا صلة له بأية لغة محددة. ويلاحظ أن بولين عندما يستخدم عبارات مثل (النوع التخيلى) أو (النوع العقلى) .. الخ، لا يقصد أية سخرية أو انكار لمحتوى التجربة الدينية فهو يطبق مبحثه- كما سبق القول- على القديسين المسيحيين، أما وات من ناحيته فقد حشد كل ما استطاع حشده من ايات قرانية وأحاديث نبوية صحيحة (نقلا عن صحيح البخارى) ليثبت أن قرانا كريما نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم بطرق مختلفة، من بينها تلقين جبريل عليه السلام الايات التى أنزلها الله سبحانه. وكان وات منطقيا تماما عندما اتهم بعض المستشرقين الذين يصفون ظاهرة الوحى عند محمد صلّى الله عليه وسلم بأنها هلوسة، اتهمهم بالغباء الشديد فى مجالات علم النفس والدين والصحة على سواء. ولن نتوقف عند هذه المسألة كثيرا. لأنها ببساطة لا تستحق التوقف. فهذا الخلود وهذا البقاء وهذا الأثر العظيم الذى لا زال موجودا لا يمكن أن يكون نتيجة هلوسة. لا نريد تضييع الوقت. وقد ترجمنا الفصل الذى وردت فيه هذه الأفكار عن الوحى وعلم نفس النبوة دون أن ننقص منه شيئا ونكتفى هنا بنقدنا للمنهج فى حد ذاته ولم يمنعنا هذا من الخروج بأمور مفيدة، فالمؤلف (وات) يحث الدارسين فى مجال علم النفس الدينى (دراسة تجمعات المتدينين ومعرفة سلوكياتهم) على دراسة تجارب القديسين (والدراويش وما الى ذلك) لأن ذلك فى رأيه يساعد على فهم تجارب الوحى عند الأنبياء، وهنا نجدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فى حالة اعتراض شديد، فالوحى أمر مختلف تماما عن تجارب الصوفية وعلماء الدين، فقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم على وعى كامل بين ما يأتيه من خارج نفسه (من الله) وبين ما يصدر عنه كبشر، أو بتعبير اخر كان محمد صلّى الله عليه وسلم يفصل فصلا حادا وواضحا بين شخصه أو ذاته من ناحية وما هو من الله، أو بين ما هو (قران) وما هو (حديث) ... الخ. انها النبوة. لكن علماء الدين أو القديسين أو الدراويش كثيرا ما يخلطون الأمور، لذلك فهم فى حاجة الى مراقبة سواء من جماعات دينية أخرى أو حتى من الناس العاديين، خاصة فى الأديان التى ليس بها اكليروس (طبقة رجال الدين) كالاسلام مثلا. فالأمور تختلط عند بعض علماء الدين (والقديسين والدراويش ... الخ) فيخلط (شعوريا أو لا شعوريا) بين أوامر الله وتوجيهاته من ناحية، وفهمه الشخصى وأوامره هو من ناحية أخرى، فيحدثنا مثلا (عن هاتف أتاه يقول له: أن لنا بابا فى مصر يسمى الحسين.. وان الحسين على صلة دائمة به وبأسرته، وانه سكن الى جوار الحسين الذى كان يقوم باسقاط الستارة من فوق شباك منزله حتى لا يكون- أى الحسين- بينه وبين الشيخ ستارة ... ) «1» . هنا لا بد أن يتدخل علماء الدين لتنبيه الشيخ، وعندما يجتمع الشيخ بجنى اسمه فينوس يخبره أنه سيعود الى القدس ليسدد تصويب أطفال الحجارة، وبذلك يعين على عودة القدس ... «2» . هنا لا بد أن يقوم شيخ اخر بتنبيه الشيخ، أو يقوم مسلمون اخرون (فليس فى الاسلام اكليروس) بلفت نظر الشيخ الى حقيقة الأمور، وأن كونه عالما جليلا فصيح اللسان لطيف الاشارة، لا يعنى أن يخلط بين ما هو شخصى وما هو غيبى، كما لا يجوز أن يحدثنا عن أن الأموات يساعدون الأحياء، ويحركون بأرواحهم- مجريات الأمور، فتلك عودة للوثنية، وتلك دعوة لا تختلف عن (عبادة الأسلاف) فى الديانات الوثنية التى لا زال بعضها قائما حتى   (1) انظر كتاب (أنا من أهل البيت) ص 39- 41. (2) لقاء الشيخ مع الجن (فى حوار مع الجن) ، جمع أسامة كرم، مكتبة مدبولى، 1990. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 اليوم. وخطورة ما يصدر عن هؤلاء الشيوخ أو العلماء، أنه يخلق رأيا عاما، أو يخلق توجها باطنيا يعوق تسيير الأمور وفقا لمسارها الصحيح، كما أنه يدعم الخرافة، لذلك فهو فى حاجة الى اخضاعه للدراسة بمناهج علم النفس الدينى التى يتحدث عنها وات، وسيكون شيئا رائعا أن يعلن الشيخ أنه لا يريد أن يدفن فى مقبرة الحسين رضى الله عنه، أو قريبا منها، حتى لا يعطل حركة العمران، وحتى لا يفسد على المسلمين دينهم، وحتى لا يكون قبره وثنا يعبد، وقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا يكون قبره وثنا يعبد. والطريف أن الرسول صلّى الله عليه وسلم انتصر فى غزوة بدر، ولم يحقق النصر المطلوب فى غزوة أحد، وتفسير ذلك فى كتب السيرة لا يعدو أن يكون ذكرا للأسباب الواضحة الظاهرية للأمور، ففى الغزوة الأخيرة لم يطع الجنود قائدهم، وتركوا مواقعهم دون اذنه، فكان ما كان. هذا لا يمنع من التحدث عن شد الله سبحانه من أزر المسلمين وأن الملائكة كانت الى جانبهم. ليبتعد علم النفس الدينى اذن عن الأنبياء، ليتناول العلماء والشيوخ والقديسين وتجمعات الرهبان فى كل ملة ودين، ليساعدهم على الفصل بين ما هو ذاتى من ناحية، وما هو من صلب الدين من ناحية أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قضية عثمان بن مظعون (رضى الله عنه) وقضايا أخرى شبيهة نفهم من الفصل الاول أن وات ذهب الى أن الوثنية العربية قبل الاسلام كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة أو أنها كانت فى حالة احتضار، وأنها تدنت الى مستوى السحر، ولم يعد لها مضمون عقائدى، وبطبيعة الحال فان التركيز على هذه الفكرة ذو مضمون تطورى، فكأنه يريد القول ان التحول للاسلام بعد ذلك كان هو الخطوة المنطقية أو الطبيعية، وفى فصوله الاخرى يشير الى كثير من الايات القرانية التى تفيد أن العرب كانوا يعرفون الله كموجود أسمى فوق كل الخلائق، ولكنهم كانوا يشركون مع عبادته أربابا أخر. ويضيف أيضا أن الأفكار المسيحية واليهودية لم تكن بعيدة عن شبه الجزيرة العربية من نواح شتى، كما لم تكن بعيدة على نحو خاص- عن مكة والمدينة، فهو يحدثنا عن الرحلات التجارية الى الشام البيزنطية (المسيحية) والى الحيرة الفارسية (التى انتشرت فيها أيضا المسيحية على المذهب النسطورى) والى الحبشة (المسيحية اليعقوبية) ويحدثنا عن قبيلة عذرة المسيحية، وعن اليهود فى الجنوب وعن التجمعات اليهودية الصغيرة فى بعض الواحات، وكيف أن بعضهم ربما كانوا عربا تهودوا.. ولما كان الانسان ابن بيئته، فهو يفترض أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان على علم بما يدور حوله، ويرفض وات تماما أن الاسلام دين صحراوى فهو قد نزل أول ما نزل فى بيئة مالية معقدة هى بيئة تجار مكة الذين غلبت تحالفاتهم المالية، تعصبهم القبلى، ويضرب أمثلة على ذلك ويورد جداول تبين طبيعة هذه التحالفات، ويتتبع خطوط التجارة، ويربطها بالقوى السياسية الكبرى فى ذلك العصر: الدولة البيزنطية، والدولة الفارسية، والحبشة، ويرى أن أهل مكة- وهم تجار- كانوا على وعى كامل بهذه الأوضاع السياسية لارتباطها بتجارتهم، ويستنتج أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان أيضا على وعى بذلك، ويضرب وات أمثلة بأشخاص كانوا حتى قبل الاسلام منهمكين فى البحث عن الدين الحق أو فكرة التوحيد، ويسوق أمثلة منها ورقة بن نوفل، والمؤلف لم ينكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وجود الحنفاء (جمع حنيف) الذين كانوا يتعبدون على دين ابراهيم الخليل، ولكنه أيضا حدثنا عن عثمان بن الحويرث الذى قابل قيصر الروم (الدولة البيزنطية) وتنصر أملا فى أن يساعده الامبراطور ليكون ملكا على مكة. يريد وات أن يقول، ان الجسور بين الاسلام والمسيحية تحديدا لم تنقطع يوما، وهو يؤكد فى أكثر من موضع أنه لا يعنى بهذا أبدا علم أصالة الاسلام ولكن الذى يعنيه أن الأفكار المسيحية واليهودية كانت موجودة بالفعل فى البيئة العربية، والا لما تناولها القران الكريم. وقد جعلت هذه الأفكار من (وات) مفسرا للحوادث على نحو غير مألوف، فهو مثلا لا يتعرض لهجرة المسلمين الى الحبشة (الهجرة الأولى والثانية) ببساطة كما تتعامل المصادر الاسلامية، ولا يكفيه القول انهم هربوا من اضطهاد أهل مكة لهم، وانما يسوق أسبابا كثيرة، منها ما يهمنا توضيحه فى هذه المقدمة. انه يرى أنه كان هناك خلاف بين المسلمين أنفسهم، وأنه كانت هناك مجموعتان (فكريتان) احداهما على رأسها أبو بكر رضى الله عنه، والاخرى على رأسها عثمان بن مظعون رضى الله عنه. فما حكاية عثمان بن مظعون رضى الله عنه؟ يركز المؤلف على أن عثمان كان يميل للرهبنة أو الزهد الشديد، وأنه كان صاحب اتجاه فكرى يتجه فى هذا المنحى، وربط بشكل أو باخر بين هذا والهجرة الى الحبشة، على أساس أن محمدا صلّى الله عليه وسلم بشخصيته الذكية اللماحة على حد تعبير المؤلف استشعر ما سيكون من خلاف فى الاتجاهات بين أتباعه فحث بعضهم على الهجرة، وبقى اخرون. هذا التحليل قد يكون موضع خلاف، لكن الذى يهمنا هنا هو أن عثمان بن مظعون كان فعلا ذا اتجاه من نوع خاص، وأنه بالفعل لم يكن شخصا عاديا، وانما كان على رأس مجموعة، ونفضل هنا الرجوع للمصادر الاسلامية مباشرة فنعرض ما ذكره ابن سعد فى الجزء الأول من كتابه (الطبقات الكبرى) وهو الذى خصصه للسيرة النبوية «1» .   (1) طبعة دار الفكر، بيروت، ص ص 329- 334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 لقد انطلق عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف حتى أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعرض عليهم الاسلام وأنبأهم بشرائعه فأسلموا جميعا فى ساعة واحدة، وذلك قبل دخول الرسول دار الأرقم. وكان عثمان بن مظعون من الباحثين عن الدين الحق حتى قبل الاسلام، بل لقد حرم الخمر قبل الاسلام. وقال- أى قبل الاسلام- «انى لا أشرب شيئا يذهب عقلى ويضحك بى من هو دونى ويحملنى على أن أنكح كريمتى من لا أريد» . وكان لعثمان بن مظعون اتجاه خاص نحو الابتعاد عن الممارسة الجنسية المعتادة بين الأزواج، فقد أراد أن يختصى (يصبح مخصيا) ويسيح فى الأرض، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (أليس لك فى أسوة حسنة، فأنا اتى النساء واكل اللحم وأصوم وأفطر. ان خصاء أمتى الصيام، وليس من أمتى من خصى أو اختصى) ، ونفهم من الحديث أنه كان يريد أن يكون نباتيا يحرم اللحم على نفسه، بالاضافة الى أمور أخرى تجعله- فى الحقيقة- يكاد يدعو للرهبنة. ولم يوافقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم على التبتل، أى البقاء دون زوجة، ومرة أخرى يذهب ابن مظعون للرسول صلّى الله عليه وسلم قائلا انه لا يريد أن ترى زوجته عريته (بضم العين) ، أى عورته، فيسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستنكرا: «ولم؟» ثم يقول له الرسول صلّى الله عليه وسلم: (ان الله جعلها لك لباسا، وأهلى يرون عريتى) ، وكان عثمان بن مظعون قليل الاتيان لزوجته، ولو شاء لامتنع. نقرأ فى طبقات ابن سعد هذه الرواية بعد حذف الاسناد (دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبى صلّى الله عليه وسلم، فرأينها سيئة الهيئة فقلن لها: ما لك؟ فما فى قريش أغنى من بعلك أى زوجك- قالت: «ما لنا منه شىء، أما ليله فقائم وأما نهاره فصائم» ، فدخل النبى صلّى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له، فلقى رسول الله عثمان بن مظعون وقال له: «يا عثمان بن مظعون أما لك بى أسوة.. ان لعينيك عليك حقا، وان لجسدك حقا فصل ونم وصم وأفطر» وقد أثر تدخل الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه المرة لصالح زوجة عثمان بن مظعون، اذ تقول الرواية انها ذهبت بعد ذلك لزوجات الرسول صلّى الله عليه وسلم وهى مسرورة فرحة «عطرة كأنها عروس» فقلن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 لها: مه؟ - أى ما هذا- قالت: أصابنا ما أصاب الناس- تريد أن ابن مظعون قد أكرمها كما يكرم الزوج زوجته فى ساعة رضا. لكن يبدو أنها مرة وانتهى الأمر، فقد اتخذ عثمان بن مظعون بيتا (مستقلا) فقعد يتعبد فيه. فبلغ ذلك النبى فأتاه وطرق عليه الباب وقال له: (يا عثمان، ان الله لم يبعثنى بالرهبانية) وكرر مرتين أو ثلاثا، ثم قال: (وان خير الدين عند الله الحنيفية السمحة) . ومع هذا، فعثمان بن مظعون صحابى جليل، هاجر الى الحبشة مرتين (أى الهجرتين) وحارب الى جوار الرسول فى غزوة بدر، وعن عائشة رضى الله عنها أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، وسالت دموعه على خده وكبر عليه أربع تكبيرات، وبكته زوجته وحزنت عليه ورأت فى منامها أن له عينا فى الجنة. وروى ابن سعد أيضا أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قلل بعض الشىء من شأن ابن مظعون بعد وفاته، على أساس أنه مات على فراشه ولم يقتل، وقد اعتمد وات على هذه الرواية لتأكيد وجود اتجاهات مختلفة بين جماعتين: جماعة أبى بكر ومنها عمر، وجماعة عثمان بن مظعون. هذا ما يتعلق بابن مظعون كما روته المصادر الاسلامية. هل نفهم من ذلك أن بعض الأفكار المسيحية لم تكن بعيدة عن البيئة العربية؟ هل كانت هناك فعلا اتجاهات فكرية مختلفة فى بواكير الدعوة بين أتباع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ هل لذلك علاقة بالهجرة للحبشة؟ واذا لم تكن حالة عثمان بن مظعون هى الحالة الوحيدة، فهل نفهم من هذا أن من بين المسلمين الأوائل من كان على ديانات سماوية سابقة على الاسلام، أكثر من العدد الذى نعرفه، وأنه جرى التركيز على الوثنية العربية فحسب- بعد ذلك- لاثبات الطفرة الحضارية الهائلة التى أحدثها الاسلام؟ وهل هذا الاتجاه اتجاه صحيح، أم أن الأفضل توضيح الحقيقة التى مؤداها أن الاسلام بالفعل كان يتعامل مع مختلف الديانات السماوية، بالاضافة للوثنية العربية، وكانت جميعا ممثلة فى شبه الجزيرة العربية، وفى مجتمعى مكة والمدينة؟ ليس من هدفنا تقديم اجابات لهذه الأسئلة وانما نطرحها ليخلص القارىء بعد قراءته لهذا الكتاب بما يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الأمن والمال والدولة والرسالة لم يكن فى مجتمع مكة قبل الاسلام، ولا حتى بعد ظهوره (الى ما قبل فتح الرسول صلّى الله عليه وسلم لها) مؤسسة حكومية أو دولة أو كيان سياسى حاكم، سوى اجتماع رؤساء العشائر وحلفائهم فيما يعرف بالملأ، ولم تكن قراراته ملزمة الا اذا تم اتخاذها بالاجماع، ومع هذا فقد كان الامن بمعناه الشكلى أو الظاهرى مستتبا الى حد كبير، لا قتل، لا سرقة.. الخ وحتى بعد اعلان الرسول لدعوته بكل ما تنطوى عليه، فان أحدا لم يقتله، بل لم يحاول قتله، اللهم الا محاولة لم تتم فى أواخر المرحلة المكية، ويرى المؤلف أن المسلمين لم يتعرضوا لاضطهاد شديد كذلك الذى نسمع عنه فى مجتمعات أخرى مارسته ضد المختلفين معها فى العقائد، ويرجع هذا الى التكوين العشائرى، والى شبكة التحالفات الحديدية، التى تجعل الشكل الخارجى يوحى بالأمن المستتب، رغم ما ينطوى عليه هذا الشكل (الأمن المستتب) من ظلم وعدوان بل واجرام من نوع خاص،.. انه مجتمع المكائد والمقالب والتامر، حيث يتحالف المتامرون على تاجر فيفلسونه فكأنما قتلوه، أو يضعون من شأن شخص فلا يزوجونه، أو يهينونه فكأنما قتلوه..، لذا فقد بدت دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم وكأنها دعوة ضد أمن مكة واستقرارها، لأنها كانت دعوة تتغاضى عن الظواهر لتصل الى الجذور، كانت دعوة راديكالية بمعنى من المعانى، فاختل التوازن العشائرى، بل واختل النظام داخل العشيرة الواحدة، فأسلم الابن دون أبيه، وأسلم الأخ دون أخيه،.. الخ، وبذلك انفرط العقد،.. فكان لا بد من احلال نظام جديد يسد هذا الفراغ، فظهرت فكرة الأمة، وتحول الانتماء الى الجماعة الاسلامية، التى عوضت الداخلين الجدد عن الانتماء العشائرى، وأصبح هناك التزام بشريعة، وضبط سلوكى خوفا من الله وطمعا فى ثوابه.. وبعد ذلك فى المجتمع المدنى كان للدولة عمد ونظام، وأصبحت الدولة- ممثلة فى الرسول وجماعة المسلمين- مسئولة عن الفرد، تعينه على طلب الرزق، وتحل مشاكله الاجتماعية، وتسأل عنه ان غاب.. ومن هنا كانت صلاة الجماعة تفوق صلاة الفرد لسبب اجتماعى وسياسى واضح، وهو أن يتفقد المصلون من غاب منهم، فكانت مؤسسة المسجد بمثابة حكم محلى يبلغ الحكومة المركزية.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولكن النظام العشائرى لم يكن هو التشكيل الوحيد الذى حفظ الأمن فى مكة (الأمن بمعناه الشكلى أو الظاهرى) ، فقد كانت هناك أيضا شبكة التحالفات المالية الصارمة التى اخترقت حتى روابط الدم (العشائرية) وتغلبت عليها، لقد قدم لنا (وات) جداول بعضها مفصل بالتحالفات المالية، وخلص- عن حق- بأنها فاقت أحيانا التحالفات العشائرية، ولعل أبا لهب عم الرسول صلّى الله عليه وسلم أوضح مثال على ذلك، فما كان ليؤذى ابن أخيه هذا الايذاء الا لتحالف مالى، ومصاهرة مع عشيرة قوية مناوئة، ونترك جداول وات تتكلم فليس من واجبنا نقلها فى هذه المقدمة مرة أخرى. وفى ظل التحالفات المالية الكبيرة يتعمق الأمن بمفهومه الشكلى، فمن الذى يرفع رأسه أمام هذا الغول القادر على قطع مصدر رزقه، والقادر- بماله- على عزله واهانته والتقليل من شأنه. والمال يساعد على شراء الرجال وحبك المؤامرات.. الخ. ورغم أن (وات) ليس شيوعيا كما ألمح هو فى كتابه، الا أنه يستطرد قائلا انه فى ظل هذه التحالفات المالية ينتفى (الشرف) بمعناه العربى الأصيل، ويضيع معنى (العيب) ولم يكن يهم هؤلاء الأثرياء المكيون كثيرا أن يوصفوا بأنه لا شرف لديهم، فقد كانوا قادرين- عند الضرورة- على شراء الصمت أو المديح، وتحولت قيم الكرم العربية الحقيقية على أيديهم الى مجرد تظاهر. يقول وات اعتمادا على روايات عن أبى جهل، انه لم يكن يضرب الا المسلمين الضعفاء الكائنة أوضاعهم خارج النظام العشائرى، وبذلك- فيما يقول وات- تصرف بما لا تقتضيه قواعد (المروءة) أو (المروة) العربية، واعتبر وات هذا أمرا طبيعيا، لأن التحالفات المالية لا تهتم بالضعيف ولا تسعى الا الى القوى.. انه مجتمع الجبناء الذى يحتاج الى رقابة من مؤسسات أخرى، تأخذ منه (الحق) المعلوم، للسائل والمحروم، ومؤسسات أخرى تراقب (الكيد) الذى يدبره، وهو تعبير لا يخرج عن كونه فى هذا السياق، المضاربة ضد مصالح المجموع،.. لذلك تعرض وات كثيرا فى دراسته هذه الى أن الاسلام فى جانب منه كان دينا يدعو لمصالح المجموع، ويدافع عن (المستضعفين) وأفرد لمفهوم المستضعفين هؤلاء صفحات طوالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 واذا كانت التحالفات العشائرية تعطى مظهر (الأمن) ، فان شبكة التحالفات المالية الحديدية تفعل الشىء نفسه لكن بشكل أقسى، ولم يمنع الاسلام الجد والعمل والسعى لتحصيل المال، لكنه وضع مؤسسة الزكاة والصدقات، وحدد لالتزامات المسلم دوائر تتسع شيئا فشيئا، فحقق الأمن من الجذور ومن الأعماق، لا مجرد مظهر سطحى. ومن مزايا (وات) أنه يفكر بصوت مسموع ويشركك معه فى منهجه. لقد تساءل: هل معنى هذا أن الاسلام هو حركة المستضعفين ضد الأثرياء وذوى النفوذ؟ ولم يجب الرجل اجابة عشوائية، وانما أعد قائمة بأوائل المسلمين، وراح يدرسهم فردا فردا من حيث عشائرهم ومدى قوتها، ومن حيث أوضاعهم المالية ومدى رسوخها، ليعرف ان كانوا كلهم «مستضعفين Weak «أم لا، ورجع فى هذا لأوثق المصادر الاسلامية، فوجد أن عددا كبيرا منهم كانوا من عشائر قوية وكانوا من أصحاب الأموال الكثيرة، وتركوا عن العشيرة وسطوة المال ودخلوا الاسلام. ويخلص وات من ذلك الى أن الاسلام دين للأغنياء والفقراء على سواء، دين للأفراد وللعشائر على سواء. انه على حد تعبير وات دين بكل معنى وبكل ما تحمله كلمة الدين من معان ومضامين، وانه فى جانب منه أعاد مفهوم (الكرم) بمعناه النقى الخالص، وأعاد مفاهيم المروءة أو المروة بجوانبها الايجابية، ويرى وات أن فكرة وكالة صاحب رأس المال فى ماله Stewardship وهى فكرة أوربية مؤداها أن الأثرياء لابد أن يكونوا بشكل أو باخر وكلاء Stewards فى أموالهم وليسوا مالكين لها ملكية مطلقة، وانما لابد أن يحققوا بها سعادة الاخرين- بقدر ما، ومبدأ الوكالة الغربى هذا قائم على أساس أن المجتمع شارك هذا الثرى بشكل أو باخر فى تحقيق هذه الثروة، فلولا الأمن الذى فرضه المجتمع ما حقق هذه الثروة، ومن اشترى منه، ومن باع له ... الخ كل هذا فى ظل المجتمع.. لكن وات يقول لنا ان فكرة الوكالة هذه ليست فكرة أوربية وانما هى من بين جملة أفكار أحياها الاسلام أو ردها الى أصلها العربى السليم (الفصل الثالث) . لاحظ أن وات ليس شيوعيا فليس كل من نظر منظورا اقتصاديا يوصف بهذه الصفة البشعة، ويستشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وات ببعض ما قاله المستشرق لا مانس من أن بدو الصحراء كانوا ينظرون لأموال شيخ القبيلة باعتبارها عزا لهم، وأنهم يعتبرونه مستودعا للأموال امينا عليها depositaire وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد أعاد شيئا من هذا المفهوم. كما أعاد فضيلة الكرم الى معناها الأصلى بعد تفريغها من الزيف والتفاخر. وما كان التحالف المالى والعشائرى ليترك محمدا صلّى الله عليه وسلم ومن آمنوا برسالته، وهذا يوضح قضية فى الغاية من الأهمية وهو أن عدد المؤمنين برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم طوال الحقبة الملكية كان قليلا، وهنا يضيف (وات) بعدا جديدا للهجرة الى الحبشة، وهى خوف محمد صلّى الله عليه وسلم على أصحابه من الردة، ففى وسط هذه الشبكة المالية العشائرية المعقدة تظهر الأنياب (الزرق) والذبح بفتائل الحرير، والتامر والمكائد والاغراء بالمال.. وكانت قريش بارعة فى ذلك كله، اذ كانت تحارب غالبا بغير أفرادها، وتحرض وهى بعيدة، تماما كما يفعل التاجر الثرى الذى- فى الغالب الأعم- لا يرتكب جريمة بنفسه، ولا يمارس فعلا مخالفا للقانون، الا من وراء ستار وبأيدى الاخرين، لكنه قابع دائما وراء الستار. فى هذا الجو خشى محمد صلّى الله عليه وسلم- وفقا لتحليلات وات- من ردة هذه القلة القليلة التى اتبعته فى المرحلة المكية، فكانت هذه احدى أسباب دعوته لبعض أصحابه للهجرة الى الحبشة، بالاضافة لدوافع أخرى. انها أفكار وات قد نأخذ بها أو لا نأخذ؛ لكنها جديرة بالتأمل. «كل التاريخ تاريخ حديث» عند قراءتى لكتب (وات) ، أتذكر على الفور قول الباحث الايطالى الشهير بنديتو كروتشه - (1952 -1866) Croce الذى كتب عدة مباحث فى فلسفة التاريخ- «كل التاريخ تاريخ حديث» وهو يعنى أن عزل الظاهرة التاريخية فى زمانها، يقطع الطريق على فهمها، ولعل طريقة تناول وات لبعض الظواهر الاجتماعية عند تاريخه لأحوال مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وحياة محمد صلّى الله عليه وسلم- وهو ما سنتناول جانبا منها فى هذه الفقرة- تؤكد ذلك. فعلى سبيل المثال: أتظل قيم الانسان ومفاهيمه كما هى بعد تغير أوضاعه المادية، أم أن هذه الأوضاع المادية أو الاجتماعية الجديدة تنسف كل ما مضى فى لمحة واحدة؟ بمعنى هل احتفظ أهل مكة- وهم بدو فى الأساس- لكنهم استقروا بعد ذلك، بقيمهم الأولى أم حوروها أو تحورت معهم؟ اننا نفهم من الفصل السادس أنهم ظلوا محتفظين بمبدأ صحراوى- كان غير مضر كثيرا فى الصحراء- وهو: «احتفظ بما يستطيع سلاحك الاحتفاظ به» . كان هذا مقبولا فى الصحراء الواسعة، وكان وضع اليد على مناطق المراعى يضمن لمن يفعل ذلك طعاما لقطعانه، وكان هذا أمرا مطلوبا الى حد ما.. لكنه عندما يطبق فى مجتمع مستقر تضيع أراضى الدولة، ويصبح الأمن مجرد قشرة تنطوى على الحقد والضغائن، بل وتصبح الاضطرابات والمناوشات أفضل من مثل هذا الأمن. وقيمة الكرم فى الصحراء ليست فضيلة فحسب وانما هى أمر ضرورى لاستمرار الحياة، وقد مسخ أهل مكة هذه القيامة فأصبحت مجرد مظاهر، والتماسك الأسرى أو القبلى مطلوب فى الصحراء، لكن المصالح المالية طغت عليه فى مكة، فأصبح مجرد شكل خال من المضمون، فأنا لا أنفعل دفاعا عن قريبى أو ابن قبيلتى الا ازاء القبائل الاخرى، أما بينى وبينه فاننى أسومه سوء العذاب.. الخ. فعندما يستقر البدو لا يتحولون الى حضر ببساطة وبمجرد استقرارهم، وعندما يهاجر الفلاح الى المدينة لا يصبح مدنيا هكذا بمجرد انتقاله، وعندما يتحرر العبد أو المملوك، لا يصبح حرا- هكذا وببساطة- بمجرد عتقه. قضايا على هذه الشاكلة يسوقها وات فى مباحثه. لكن، أمعنى هذا أن كل المفردات التاريخية التى أوردها وات صحيحة؟ هذا ما لا يمكن الجزم به، وهناك معلومات نميل الى أنها غير صحيحة، وقد علق الأخ حسين على بعض ما أورده وات فى المقدمة وفى الفصل الأول، وأقررته على غالبها، وقمت أنا بالتعليق على بقية فصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الكتاب، وتلك أيضا قسمتنا فى الترجمة فقد ترجم الأخ حسين المقدمة والفصل الأول وجانبا من الفصل الثانى، وقمت بمراجعة ترجمته الطيبة. ومع هذا، فكل عمل لا يخلو من هنات، فالكمال لله واحده. ونظرا لأهمية الموضوع ودقته كان من المفيد كثيرا عرضه على أستاذ جليل متخصص فى التاريخ الاسلامى ومقارنة الأديان، فأسعدنى كثيرا أن قام بمراجعته الأستاذ الدكتور أحمد شلبى، وأبدى تعليقات محدودة يجدها القارىء مشفوعة باسمه. وعلى الله قصد السبيل. د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مقدمة ليس من اللائق أن يظهر هذا الكتاب دون أن أؤدى دينا فى عنقى لذكرى أستاذى وصديقى ريتشارد بل Richard Bell، أستاذ اللغة العربية فى ادنبره سابقا، فقد كان أول من أرشدنى أثناء دراستى للاسلام، وفى الأعوام الأخيرة، كان كلما استشرته فى مسألة أعطانى من وقته وعمله وحكمته بلا حدود. قرأ المسودة الأولى لهذا الكتاب، وبالرغم من أنه لم يتقبل وجهه نظرى فيه قبولا تاما، الا أنه قدم الكثير من الاقتراحات النافعة بالاضافة الى السماح لى برؤية كتاباته التى لم تكن قد نشرت. وقد أخذت معظم استشهاداتى القرانية من ترجمته للقران، بعد اذن الناشرين السادة ت. وت كلاركT.T.Clark كما أن الشكر واجب أيضا للأستاذ هـ. أ. ر. جيبH.A.R.Gibb لمساعدته الكريمة وللزملاء فى ادنبره، وبخاصة الدكتور بيير كاشيا Pierre Cachia لقيامه باعداد الكشاف، ولمستر ج. ر. والش J.R.Walsh على تعليقاته النافعة وللمراجع التى قدمها. ادنبره و. م. و. ديسمبر 1952 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 تمهيد 1- وجهة نظر هذا الكتاب يهم ثلاث طوائف من القزاء على الاقل: الذين يهمهم الموضوع كدارسين للتاريخ، والذين يتناولونه لأنهم مسلمون أو مسيحيون، وعلى أية حال فهذا الكتاب موجه أولا وبصفة رئيسية للمهتمين بالتاريخ. ولقد حاولت المحافظة على الحياد فى المسائل اللاهوتية (الدينية) التى يدور حولها النقاش بين المسيحية والاسلام، فمثلا، لتجنب الجزم بما اذا كان القران كلام الله أم لا، فقد تحاشيت استخدام التعبير «يقول الله» أو «يقول محمد» واستخدمت التعبير «يقول القران» ، ومع ذلك فاننى لا أتبنى المنظور المادى بحجة التزامى بالنزاهة التاريخية، فأنا أكتب كمؤمن بالتوحيد. هذا الاتجاه الأكاديمى يعتبر بطبيعة الحال غير تام، فمن حيث اتصال المسيحية بالاسلام، فان على المسيحيين أن يتخذوا من محمد (عليه الصلاة والسلام) موقفا، لابد أن يكون قائما على أسس دينية (لاهوتية) . وأعترف أن كتابى ناقص من هذه الناحية، ولكننى أقول انه يقدم للمسيحيين المادة التاريخية التى يجب أن تؤخذ فى الاعتبار عند تكوين الرأى اللاهوتى (الدينى) . أما قرائى من المسلمين، فاننى أقول لهم شيئا مشابها. فقد حاولت- مع الالتزام بالمقاييس العلمية التاريخية الغربية- ألا أقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 شيئا يفهم منه رفض أى مبدأ من مبادىء الاسلام الأساسية، اذ لا يجوز أن تكون هناك هوة لا يمكن عبورها بين الثقافة الغربية والاسلام، فاذا كانت بعض النتائج التى توصل اليها علماء الغرب لا يتقبلها المسلمون، فربما كان السبب فى ذلك أن علماء الغرب لم يكونوا دائما مخلصين لمبادئهم العلمية وأن استنتاجاتهم تحتاج الى مراجعة، حتى من وجهة النظر التاريخية البحتة. ومن الناحية الاخرى، ربما كان صحيحا ذلك القول الذى مؤداه أن هناك مجالا لشىء من اعادة صياغة العقيدة الاسلامية، بدون أى تغيير فى الأساسيات. شعر الدارسون للاسلام منذ فترة، وبخاصة المهتمون بالتاريخ، بالحاجة الى صياغة جديدة لحياة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، ولم يكن ذلك لاكتشافهم مادة جديدة- بالرغم من ان ليون كيتانى Leone Caetani مثلا عندما كتب عن محمد (عليه الصلاة والسلام) فى كتابه) Annali dell ,Islam نشر عام 1905) ، لم يكن قد اطلع على مجموعة ابن سعد لتراجم المسلمين الأوائل فى كتابه الطبقات الكبرى- وانما لتغيير اهتمامات واتجاهات المؤرخين خلال نصف القرن الماضى، فقد أصبحوا أكثر وعيا خاصة بالعوامل المادية التى يقوم عليها التاريخ، وهذا يعنى أن المؤرخ من منتصف القرن العشرين- مع عدم اهمال الجوانب الدينية والفكرية للحركة التى بدأها محمد (عليه الصلاة والسلام) أو التقليل من شأنها- يريد أن يسأل أسئلة كثيرة عن الخلفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحتى أولئك الذين ينكرون (وأنا منهم) أن هذه العوامل هى واحدها التى تحدد مجريات الأحداث يعترفون بأهميتها. لهذا، فان السمة الخاصة لهذه السيرة لمحمد (عليه الصلاة والسلام) هى أنها لا تنقب فى المصادر المتاحة بدقة أكثر فحسب، بل انها تعطى اهتماما أكثر لهذه العوامل المادية وتحاول الاجابة عن أسئلة لم تثر من قبل. 2- ملاحظة عن المصادر المصادر الرئيسية عن حياة محمد صلّى الله عليه وسلم هى أولا القران (الكريم) ، أو الكتاب الذى يضم الوحى الذى تلقاه من الله. وثانيا الأعمال التاريخية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 لكتاب القرنين الهجريين الثالث والرابع. ومن المجموعة الثانية كانت الأعمال التى أتيح لى الاطلاع عليها: 1- السيرة النبوية لابن هشام (ت 833 م/ 218 هـ) . 2- الجزء الخاص بحياة محمد (عليه الصلاة والسلام) فى تاريخ الرسل والملوك أو حوليات الطبرى، (ت 922 م/ 310 هـ) (المجموعة الأولى، الأجزاء 2- 4) . 3- المغازى أو تاريخ غزوات محمد (عليه الصلاة والسلام) للواقدى (ت 822 م/ 207 هـ) - وقد نشرت طبعة منقحة فى bibliothea Indica بينما قدم فلهوزن Wellhausen ترجمة مختصرة منقحة فى كتابه محمد فى المدينة، وهناك تنقيح اخر قيد الاعداد. 4- طبقات ابن سعد (ت 845 م/ 230 هـ) ، كاتب الواقدى، وهى مجموعة كبيرة تحتوى، الى جانب مادة كثيرة عن محمد (عليه الصلاة والسلام) ، ترجمات كبار الصحابة والتابعين. كما يجدر بنا أن نذكر أيضا مجموعات الأحاديث (أو الروايات المختلفة لأقوال وأفعال محمد (عليه الصلاة والسلام)) ، مثل صحيح البخارى ومسلم ومسند أحمد بن حنبل، فان هذه الكتب تحتوى مادة تهم المهتم بالتاريخ بالرغم من أن اهتمام جامعى الأحاديث الانف ذكرهم كان فقهيا بالمقام الأول. وتحتوى كتب التراجم التى ظهرت بعد ذلك وتتناول حياة الصحابة مثل أسد الغابة لابن الأثير (1234 م/ 631 هـ) والاصابة لابن حجر (1447 م/ 851 هـ) على مادة تساعد على فهم الأحداث. وهناك مؤلفون متأخرون كتبوا عن سيرة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، ولكن لا يبدو أن أحدا منهم قد اطلع على أى مصادر أولية هامة أخرى غير التى استخدمها المؤلفون الذين ذكرناهم انفا. هذه الأعمال المتوافرة لنا حاليا اعتمدت على مصادر سابقة، فأحسن وصف يمكن أن توصف به السيرة النبوية لابن هشام أنها رواية منقحة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 سيرة ابن اسحق (ت 768 م/ 151 هـ) . كما أن هناك من سبق ابن اسحق، الا أن اسهامه فى كتابة سيرة محمد (عليه الصلاة والسلام) هو الأكثر أهمية وتأثيرا. وقد جمع ابن اسحق كل المعلومات التى كانت متاحة تقريبا بما فيها الشعر القديم، ثم رتب مادته واختار منها ما جعله يكتب قصة مترابطة. وكثيرا ما كان يشير الى مصادره بالطريقة الاسلامية المعتادة*. وقد أضاف ابن هشام بعض الملحوظات التفسيرية، ووجدت بعض الفقرات المفقودة فى طبعته فى أماكن أخرى، ولكن لا نستطيع أن نجزم بما اذا كان هو المسئول عن هذا الحذف. ولقد اعتمد الطبرى أيضا على ابن اسحق ولكن ليس بقدر ما اعتمد عليه ابن هشام، وترجع أهمية الطبرى الى أنه لم يحاول صياغة الأحداث فى قصة مسلسلة، وانما يذكر جميع أوجه الخلاف. فكان لديه عدد كبير من النصوص المستقلة التى تناولت أول من أسلم من الرجال، فذكر بعضها انه على بن أبى طالب، وقال اخرون انه زيد بن حارثة وقال بعضهم انه أبو بكر، أما ابن اسحق فقد ذكر وجهة نظر واحدة فقط مؤداها أن عليا بن أبى طالب هو أول من أسلم. وقد كان ضمن مراجع الطبرى رجل من الأوائل هو عروة بن الزبير (ت 712 م/ 94 هـ) ، وقد ترك عروة مادة مكتوبة أوردها الطبرى ولم ترو فى أى مصدر اخر. وتعتبر مغازى الواقدى مجالا قيما للمقارنة مع ابن اسحق، لأن كلا منهما اعتمد على سلاسل اسناد مستقلة عن تلك التى اعتمد عليها الاخر، كما أن سلاسل اسناد الواقدى أتم وان كانت تتناول الفترة المدنية فقط. ويعطى كاتبه ابن سعد روايات مختلفة فى عناصر كثيرة، وان كانت مادته- رغم كثرتها- ذات قيمة تاريخية قليلة، ونادرا ما يكون ابن سعد هو المصدر الوحيد فى موضوع ذى أهمية، ومع هذا، تعتبر سبر الصحابة التى كتبها ثروة من المعلومات النافعة عن خلفية حياة محمد (عليه الصلاة والسلام) .   * يقصد الاسناد (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أما التراجم التى كتبها ابن الأثير وابن حجر عن الأشخاص الذين عرفوا محمدا (عليه الصلاة والسلام) فهى أكبر بكثير؛ اذ تحتوى على حوالى 20000 ترجمة وبها كثير من الحقائق لم يذكرها ابن سعد ولكن يفيد منها فى حياة محمد (عليه الصلاة والسلام) قليل. تتضمن الأحاديث التى جمعها مسلم والبخارى واخرون روايات مختلفة نوعا ما عن روايات ابن هشام والطبرى. كتب علماء الغرب الكثير من النقد لهذه المصادر (المقصود تقويم المصادر) وبصفة خاصة الأحاديث النبوية، ولا تزال ملاحظات سير وليام موير Sir Wiiliam Muir عن هذه المصادر فى كتابه Life تعتبر مقدمة مفيدة فى هذا الموضوع (موضوع تقويم المصادر) ، ولكن أكثر الدراسات تفصيلا هى تلك التى كتبها كيتانى Caetani فى كتابه حوليات الاسلام، Annali DellIslam وليس من الصعب تصحيح مبالغته فى الشك أحيانا. وقد انتهى هنرى لامانس Henri Lammans فى دراساته الى أن كاد يرفض تماما أحداث الفترة المكية. ولكن العلماء الذين جاؤا بعده يعتقدون بشكل عام أنه قد بالغ كثيرا فى تشككه، وقد تعفينا ملاحظات تيودور نولدكه Teodor Noldeke فى مقالته «1» Die Tradition uber das Leben Mohammeds من الاستمرار فى مناقشة اراء لامانس شديدة التطرف. تدفعنا استنتاجات ج. شاخت الهامة والمؤسسة على أساس متين حول التراث الاسلامى فى كتابه «أصول الشريعة المحمدية، Origins of Muhamadan Jurisprudence «الى أن نفرق بين التراث الفقهى والتراث التاريخى، وفى الحقيقة يمكن تطبيق أبحاث   (1) Islam, V, 1914, pp.160- 170.Cf.also, Becker, Prinzipielles zu Lammans Sirstudlen in Islam, IV, 263 ff. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 جولد تسيهر Goldziher الخالدة فى كتابه) Muhemmedanischen Studien الجزء الثانى) على التراث الفقهى، بالرغم من أنها ليست كذلك تماما فى المجال الشرعى، اذ يبدو أن هناك بعض الأحاديث الموضوعة، لكن فى المجال التاريخى- بقدر ما يمكننا من فصل بين ما هو تاريخى وما هو تشريعى، باستثناء بعض الحالات الخاصة- فان أفضل المؤرخين الأوائل عمدوا الى عزل هذه الأحاديث الموضوعة فى تشكيل خاص بها «1» . ويعبر فرانتس بول Frants عن ذلك بقوله: «عند التعامل مع الحديث، يجب على المرء أن يكون على حذر دائما عندما يكون هناك احتمال تحيز حزبى واضح، ولا يسمح أن يضلله المظهر الذى يبدو أحيانا بريئا» «2» . وعلى أية حال، فبعد أن يدرك الدارس الحديث اتجاهات المؤرخين القدامى ومصادرهم، يصبح فى مقدوره- الى حد ما- أن يتجاوز عن التحريف المحتمل ويقدم البيانات بصورة محايدة، ويكون من نتائج معرفة المادة المتحيزة (الأحاديث الموضوعة وغيرها) قبول باقى المادة الصحيحة بشكل عام، بالاضافة الى ذلك، فان كثيرا من القضايا التى تهم مؤرخ منتصف القرن العشرين لن تتأثر بالانحياز الموجود فى المصادر القديمة، لهذا لن تكون هناك صعوبة كبيرة فى الحصول على اجابة ويصبح أمامه- ولا بد- أن يواجه صعوبات قليلة للوصول الى اجابات عن أسئلته من المصادر. كذلك يجب ملاحظة أن من أبسط أساليب «التشكيل المتحيز» أو (الوضع) هو عزو الدوافع أو المحركات لأفعال خارجية. لهذا؛ يجب أن يكون التمييز بين الأفعال الخارجية والدوافع المعلنة حاضرا فى الذهن دائما. فالفاعل نفسه وأصدقاؤه سيدعون أفضل الدوافع وأكثرها مدعاة للمديح، بينما يؤكدون أن دوافع أعدائهم مشينة، ولكن قد يكون الخلاف قليلا حول بعض الأحداث وفى حدود ضيقة، مثل تاريخ حدث   Muhammad ,374. (1) Noldeke ,ZDMG ,Lii ,1898 ,pp. 16 f. (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 بالنسبة لحدث اخر. فعلى سبيل المثال، لا ينكر أحد أن السيدة عائشة تركت المدينة قبل اغتيال الخليفة عثمان رضى الله عنه بقليل، أما أن تكون دوافعها مقبولة أو غير مقبولة أو متعادلة (بمعنى أن مغادرتها فى ذلك الوقت كانت صدفة) ، فموضوع نقاش واسع. لهذا؛ فان على المؤرخ الحديث أن يسقط من اعتباره الدوافع المعلنة فى مصادره ويستنتج ما يراه من الدوافع، على ضوء ما يعرفه من النمط العام لتصرفات الرجال. هذا التمييز بين الفعل والدافع فى غاية الأهمية فى فترة ما بعد الهجرة، ولكنه أيضا ينطبق على الفترة المكية فى حياة محمد (عليه الصلاة والسلام) وكذلك فى عصر ما قبل الاسلام. وان كان تاريخ فترة ما قبل الهجرة دائما غير واضح وكان هناك دائما احتمال وضع الأحداث. وربما كان التسلسل العقلى للأحداث شبيها بما يلى: الفاعل، ولنسمه (أ) قام بالفعل ولنسم هذا الفعل (س) ، ولا يمكن أن يكون دافعه (ل) أو (م) مادام هذان الدافعان (ل وم) لا يتفقان مع طبيعته، لهذا لابد أن يكون دافعه هو (ن) لأن هذا يتفق مع طبيعة أفعاله المتفقة بالتالى مع طبيعة شخصه. لهذا، فعندما تناولت خلفية سيرة محمد (عليه الصلاة والسلام) والفترة المكية فى حياته، كان منهجى قبول ما ورد فى التراث بصفة عامة ولكن مع العناية والتصحيح بقدر الامكان اذا كان هناك شك فى وجود أخبار موضوعة «تشكيل متحيز» ولا أرفضها اجمالا الا اذا كان هناك تناقض خفى. فعلى سبيل المثال، لا يمكن تصور أن الأنساب التى ذكرها ابن سعد محض اختلاق، فمن هذا الذى يكبد نفسه مشقة تأليف هذه السلسلة المعقدة، ولماذا؟ واذا كنا- ونحن لا نهتم بالأنساب- نعرف شيئا عن أجدادنا لجيلين أو ثلاثة، فهل من الغريب أن نتصور أن العرب الذين كانوا يهتمون بأسلافهم اهتماما كبيرا يعرفون أجدادهم لستة أجيال أو ثمانية. أو حتى عشرة؟ ولقد تعرف جون فان اس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 John Van Ess على صبى فى العاشرة كان يعرف خمسة عشر من أجداده «1» ، وأكثر من ذلك، فان ابن سعد يعطى انطباعا أنه عالم دقيق فى الأنساب، مدرك لصعوبة نقط الخلاف، لهذا فهو أهل للثقة فيما ذكره من انساب حتى زمن قصير فى مكة. أما الانساب والمادة التاريخية السابقة على الاسلام فيجب أن تؤخذ بحذر أكثر، كما أن هناك صعوبات خاصة بالنسبة للفترة المدنية، نظرا لبقايا النظام الأمومى (نظام الانتساب للأمMatrilineal System ( هذا المنهج الذى شرحناه يتضمن نظرة جديدة عن علاقة المادة التاريخية التقليدية بالقران الكريم، ولقد كان من المعتاد لفترة من الوقت التأكيد على أن القران هو المصدر الأساسى للفترة المكية، فلا شك فى أن القران معاصر لهذه الفترة، ولكن القران، اذا استبعدنا صعوبة تحديد الترتيب الزمنى للأجزاء المختلفة فيه (ترتيبه حسب تاريخ النزول) وعدم وضوح كثير من النتائج المتعلقة بذلك، لأن القران نزل مفرقا ومنجما Partial fraygmentary فهو لا يعطى لنا الصورة الكاملة لحياة محمد (عليه الصلاة والسلام) والمسلمين فى الفترة المكية. وما فعله كتاب سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم من الغربيين فعلا هو أنهم افترضوا صحة الخطوط العريضة لصورة الفترة المكية كما وردت فى السيرة النبوية، واستخدموها كاطار يدخلون فيه المادة القرانية بقدر الامكان. ولكن المنهج الأفضل هو اعتبار القران والروايات التقليدية الأولى يكمل كل منهما الاخر فى صياغة تاريخ هذه الفترة. واذا كان القران يقدم أساسا الجانب الفكرى للمجموعة الضخمة من التغييرات التى حدثت فى مكة وحولها، الا أنه يجب أيضا أن نضع فى اعتبارنا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- اذا أردنا صورة متوازنة، بل اذا أردنا أن نفهم الجانب الفكرى نفسه فهما سليما. قد يبدو هذا الفكر من الناحية النظرية ثوريا- أو رجعيا- ولكننا سنرى أنه لا يمثل أى تغير مروع عند التطبيق الا فى فترة ما قبل الاسلام.   Meet the Arab ,London ,1947.p. 77. (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وفى الحقيقة، قد يبدو أحيانا أننى أقل التصاقا بالتراث من أولئك الذين يعتبرون من الناحية النظرية أكثر شكا فى الروايات التقليدية. وبصفة خاصة، فان مبدأ التمييز بين الأحداث العامة والدوافع المعلنة وعدم قبول ما يقال عن الدوافع الا اذا تطابق مع نتائج الدراسة الدقيقة المستقلة للأحداث- يؤدى الى رفض كثير من تفاصيل روايات التراث كما فى حالة دراستنا للهجرة الى الحبشة مثلا. ولقد تناولنا الأحاديث النبوية فى المرحلة الملكية من ناحية المتن أو المحتوى، ولم نعر الاسناد أو سلسلة الرواة اهتماما كبيرا. أما فى المرحلة المدنية؛ فان دراسة الاسناد تساعد على تقييم الحديث ومدى موثوقيته كما تساعد على تقدير اتجاهاته، أما فى فترة ما قبل الهجرة، فان دراسة الاسناد لا يبدو أنها تؤدى الى نتائج ذات قيمة*، والراوى الوحيد الذى تستحق روآياته الدراسة هو عروة بن الزبير، وقد تناولنا «اتجاهاته» فى الملحق (و) .   * لم يفرق أحد من رجال الحديث بين أهمية الاسناد فى الفترة المكية والفترة المدنية- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الفصل الأول الخلفية العربية مع وجود المادة التاريخية التى أصبحت متاحة، يمكننا أن نخصص على الأقل جزا من هذا الكتاب لوصف الخلفية العربية لحياة محمد (عليه الصلاة والسلام) . وعلى هذا، فان هذا الفصل له هدف محدد هو جذب الانتباه الى أهم سمات هذه الخلفية التى تساعد على فهم صحيح لسيرته وانجازاته. ويعتمد هذا الفصل- الى درجة كبيرة- على أعمال المستشرقين والرحالة الاخرين، لهذا من المستحيل أن نقدم شكرا كاملا لمن نحن مدينون لهم (فهم كثيرون) . اذا كنا نتحدث عن شبه الجزيرة العربية، فان ما يهمنا منها هو الجزء المحيط بمكة والمدينة- الذى يطلق عليه أرض الحجاز- وبادية نجد المجاورة لها. 1- الأسس الاقتصادية أول ما يتبادر الى ذهن الغربى عند سماع كلمة شبة الجزيرة العربية هو الصحراء والبدو، لهذا فان الحديث عن اقتصاديات حياة الصحراء نقطة بداية مفيدة. وفى الواقع، لم تلعب الصحراء دورا خلاقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فى نشوء مفهوم التوحيد عند محمد (عليه الصلاة والسلام) ، ومع هذا فقد كان للصحراء الدور الأول فى ظاهرة الاسلام ككل. ومع ذلك، فقد كانت مكة والمدينة كجزيرتين فى بحر من الصحراء، أو على الأصح كمناطق سهوب، وكان لهما صلات اقتصادية وثيقة بالبدو وكان يسكنهما أحفاد للبدو لا زالوا يحتفظون بكثير من العادات التى اكتسبها أسلافهم من الحياة فى الصحراء، لهذا لا مفر من أن نولى الصحراء بعض الاهتمام. تعتمد حياة البدو على تربية الأنعام، وبالذات الابل، وفى سهوب شبه الجزيرة العربية يمكننا أن نميز عدة أنواع من الأرض لا يهمنا منها الا نوعان، الأول هو تلك الأراضى التى تكون فى الصيف قاحله رملية، ولكنها فى الشتاء، بعد سقوط الأمطار- وهو الفصل الذى يسميه العرب الربيع*- يكتسى بنبات أخضر حلو المذاق وخاصة فى الوديان، مما يجعلها جنة للابل.. ثم هناك المناطق التى تنمو فيها الأشجار المعمرة والشجيرات- بشكل طبيعى- أغلبها عطرى الرائحة. ويفسر هذان النوعان من الأرض الحاجة الى حياة الهجرة، فبمجرد سقوط الأمطار (بالرغم من أنها غير منتظمة الى حد ما) ، تصبح الأرض التى من النوع الأول أفضل مرعى للابل، ولكن عندما يضمحل هذا المرعى ويختفى بدخول الصيف، يصبح على البدو أن ينتقلوا الى الأرض التى من النوع الثانى، ويعتمد البدو عندما يكونون فى النوع الأول من الأرض على الابل فى الشراب والطعام، أما عندما يكونون فى النوع الثانى فهناك ابار، وان كانت تستخدم عادة لشرب الابل أكثر مما تستخدم للاستهلاك الادمى. وفى الحالتين يعتبر اللبن هو الوجبة الرئيسية للبدوى، بالاضافة الى التمر الذى يحصل عليه من الواحات. كما انه يأكل اللحم بين الحين والاخر، أما الحبوب فكانت ترفا مقصورا على الأغنياء والعظماء. ويعتمد البدوى الى حد ما على الأراضى المأهولة بالسكان، ولا يرى فى السرقة أية جريمة، سواء كانت بالاغارة على واحة أو على قافلة،   * الكاتب يقرب المعنى لقرائه الأوربيين لاختلاف الفصول عن أوربا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ولما كان البدوى عادة هو المقاتل الافضل فى المناوشات التى تحدث أثناء عمليات السطو هذه، فقد كان الزراع والتجار غالبا ما يلجأون الى احدى القبائل الصحراوية لحماية مساكنهم وأرضهم وقطعانهم ولتأمين قوافلهم فى مقابل مال يدفعونه لهم، وكانت هذه الأموال تمثل بالنسبة لكثير من البدو مصدرا منتظما للدخل، وهكذا كان فى مقدور البدوى أن يستمتاع ببعض منتجات الحضر. وفى المنطقة التى تهمنا كانت هناك زراعة فى الواحات وبعض المناطق المرتفعه فى الجبال، وكان المحصول الاساسى فى الواحات هو التمر، فى حين كانت الحبوب المحصول الهام فى المناطق الجبليه مثل الطائف. وكانت يثرب (التى عرفت فيما بعد بالدينة) فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) واحة كبيرة ومزدهرة. وكان هناك عدد من المستعمرات الزراعية اليهودية مثل خيبر، بينما كان الحال فى مكة على العكس تماما، اذ كانت الزراعة هناك مستحيلة تماما، وهذه حقيقه يجب أن نتذكرها دائما. وكانت اليمن- وان كانت لا تدخل فى نطاق اهتمامنا الحالى- بلدا زراعيا خصبا تستخدم فيها وسائل الرى الاصطناعى من قديم الزمان، ومن المعتقد الان أنها الموطن الأصلى للساميين أو على الأقل «بلد المنشأ» و «أول موطن منفصل» «1» . ومن المؤكد أن التراث العربى فى فترة ما قبل الاسلام قد تضمن الكثير من ذكريات الأرض الخصبة فى الجنوب. ولا شك أن هذه الصلة بالأرض الخصبة قد ساهمت فى الثقافة العربية فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) ، ولكن لم تؤد دراسة هذا التأثير الى أى نتائج مؤكدة حتى الان. كانت مكة، مسقط رأس محمد (عليه الصلاة والسلام) وموطنه لنصف قرن، مدينة تجارية تقع فى وسط صخور قاحلة، وقد كان نمو مكة كمركز تجارى نتيجة وجود الحرم، أو المنطقة الحرام، حيث كان الناس يأتون اليها امنين من أى تحرش، كما كانت الظروف الجغرافية   G.A.Barton ,Samitic and Hamitic Origins ;271 (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أيضا فى صالحها، فقد كانت تقع فى ملتقى الطرق من اليمن الى الشام ومن الحبشه الى العراق، لهذا كان البدو ياتون الى مكه للحصول على البصائع التى كانت تأتى مع القوافل من أركان المعمورة الأربعة، وربما كان أهل مكة فى البداية مجرد وسطاء وتجار تجزئه ولم يكونوا المستوردين أو أصحاب العمل المنظمين للقوافل، ولكنهم فى نهاية القرن السادس الميلادى كانوا يتحكمون فى معظم التجارة بين اليمن والشام، وهو طريق هام كانت تمر به بضائع الترف الهندية الى الغرب وكذلك اللبان والبخور من جنوب شبه الجزيرة العربية. وكانت الطائف تنافس مكة فى التجارة، ولكن من الواضح أن موقف مكة كان هو الأقوى. كانت مكة أكثر من مجرد مركز تجارى، فقد كانت مركزا ماليا، ولا يبدو أن أحدا من الدارسين على علم أكيد بالتفاصيل مثل لامانس، «1» Lammans ولكن من الواضح أن عمليات مالية على درجة لا بأس بها من التعقيد كانت تتم فى مكة، وكان زعماء مكة فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) رجال مال قبل كل شىء، مهرة فى ادارة شئون المال، ذوى دهاء، وكانوا مهتمين بأى مجال لاستثمار مربح لأموالهم من عدن الى غزة أو دمشق، ولم يكن أهل مكة واحدهم الذين وقعوا فى الشبكة المالية التى نسجوها، ولكن أيضا كثير من كبار رجال القبائل المحيطة بها. وهكذا لم يظهر القران فى جو الصحراء بل فى جو اقتصادى مالى على درجة عالية من التعقيد. بقيت نقطة أخرى، هل كان ظهور دين جديد فى الحجاز وانتشاره بعد ذلك بين العرب ثم انتقاله الى فارس والشام وشمال أفريقيا له ارتباط بأى تغير اقتصادى كبير؟ تقول احدى الاجابات ان الجفاف المتزايد فى البادية العربية وما أدى اليه من جوع كان الدافع الذى دفع العرب فى طريق الغزو، لندع الان جانبا وبصفة مؤقتة مسألة التغير الاقتصادى، ونكتفى بالقول بأنه ليس هناك دليل يوثق به على حدوث أى تدهور فى الظروف المناخية للبادية، وكانت الحياة فيها محتملة، فقد سمعنا عن   (1) انظر، Mecque: صفحة 135/ 231 وما بعدها- (المؤلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أتباع لمحمد (عليه الصلاة والسلام) عادوا من الغزوات التى حدثت بعد وفاته خارج شبه الجزيرة العربية الى حياة الصحراء التى عشقوها. والانطباع العام الذى نشعر به هو أن البدو لم يعودوا الى أسوأ ما كانوا عليه من قبل، بل بالعكس صاروا أفضل مما كانوا نظرا للمنافع التى حصلوا عليها نتيجة للرخاء المتزايد فى مكة. ثم بعد ذلك، مع الهجرة من شبه الجزيرة العربية فى فترة الفتوح، لا شك أن الضغط على موارد الطعام قد قل عن ذى قبل. وكانت هناك صناعات محلية صغيرة فى الحجاز، وكان أغلبها لخدمة احتياجات البدو وسكان المدن، وان كنا قد سمعنا عن منتجات جلدية كانت تصدر من الطائف، ولكن من حيث منظور حياة محمد (عليه الصلاة والسلام) ليس لها الأهمية التى تجعلنا ندرسها كعامل مستقل. 2- السياسة المكية كان هناك صراع دائم من أجل السلطة داخل هذا المجتمع التجارى فى مكة. وكانت المجموعات السياسية المشتركة فى هذا الصراع مرتبطة بدورها بعلاقات مع القبائل العربية التى تمر بها قوافل مكة، وكذلك مع القوى العظمى التى كانت هذه القوافل تنقل البضائع الى أسواقها. بعض هذه الأمور معقد الى درجة كبيرة، ولكن نظرا لأن محمدا (عليه الصلاة والسلام) كان منذ البداية رجل دولة الى حد كبير، فمن الضرورى دراسة النقط الأساسية على الأقل. (أ) المجموعات السياسية فى قريش تعطى المصادر العربية الكثير من المعلومات عن الأسر والحزازات القبلية والتحالفات داخل قريش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقد بالغ بعض النقاد الغربيين فى التأكيد على الجانب الاسطورى لهذه القصص، وركزوا بشكل مبالغ فيه على مناقشة ما اذا كانت الشخصيات المذكورة فى هذه المصادر أفرادا حقيقيين أم مجرد تجسيد للقبائل. وربما كانت هناك حقائق تاريخية أكثر مما ذكر فى هذا النقد المتطرف، ولكننا لا نعتزم أن نلمس هذا الموضوع الصعب هنا اذ انه يحول انتباهنا عن الحقيقة الهامة، وهى أن هذه القصص تبين لنا كيف كانت قريش تدرك العلاقات بين الأسر والعشائر فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) ، وربما تكون بعض جوانب الموضوع قد حدث فيها تعديل نتيجة للأحداث التى وقعت فيما بعد، مثل العداء بين العباسيين والأمويين الذى ربما يكون قد أثر على ما روى عن العلاقات بين بنى هاشم وبنى أمية. ولكننا نستطيع أن نثق فى الصورة بصفة عامة. وقدسية مكة قديمة جدا، فبعد أن حكمتها قبيلة جرهم لفترة طويلة، انتقل أمرها الى قبيلة خزاعة التى ارتبط بها بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، واحتفظت الأسر القديمة ببعض الامتيازات التى ربما كان لها سمة مقدسة مثل الاجازة، Ijazah التى ظلت فى يد بنى صوفه، Sufah ثم انتقلت السلطة من خزاعة وحلفائها الى قصى الذى استمد قوته فى جانب منها من حلفاء من بنى كنانة وقضاعة، وفى جانب اخر من توحيده لجماعات قريش المختلفة التى كانت حتى ذلك الوقت متفرقة وغير مؤثرة. وربما كان قصى المؤسس لمكة بعد أن كانت مجرد مخيم حول الحرم*. كذلك ربما كان قصى هو الذى ميز بين قريش البطاح (أولئك الذين يعيشون حول الكعبة مباشرة) وقريش الظواهر (وهم الذين يعيشون فى الضواحى) ، ولا شك أن هذا التمييز موجود، ومن الطبيعى أن يفترض أنه يعود الى الرجل الذى خصص الأحياء فى بداية بناء مكة. وتنتمى سلالة قصى بأكملها وكذلك سلالة جده العظيم كعب الى قريش   * ابن هشام ج 1، ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 البطاح. وبين الجدول فى الصفحه 7* التفاصيل طبقا لقائمتين للمسعودى. وقد كانت هناك تقسيمات أكثر تفصيلا لقريش البطاح، ففى البداية خلف عبد الدار قصيا فى زعامته، ولكن مع الزمن تحدت عائلة ابن عبد مناف ممثله فى ابنه عبد شمس عائله عبد الدار بزعامة أحد أحفاده. وهكذا انقسمت مكة الى معسكرين متعاديين، وانضم الى عبد مناف بنو أسد وبنو زهرة وتيم والحارث بن فهر، بينما انحاز الى بنى عبد الدار قبائل مخزوم وسهم وجمح وعدى. بينما ذكرت الروايات ان بنى عامر بن لؤى ومحارب وهما من قريش الظواهر اعتزلا الفريقين. وعرف بنو عبد مناف وأحلافهم بالمطيبين، وعرف بنو عبد الدار ومن معهم بالأحلاف. ويلاحظ أن التحالفات لم تتبع تماما الخطوط العائلية، فقد انقسمت عائلة قصى الى فريقين، عبد الدار فى مواجهة عبد العزى (أسد) وعبد مناف. كما كان باقى مرة فى مواجهة مخزوم. (وهذه حجة ضد القول بأن الصلات الأسرية هلى المبرر للأحداث التى حدثت فيما بعد) وكاد الخلاف يؤدى الى قتال، ولكن أمكن التوصل الى حل وسط احتفظ بمقتضاء بنو عبد الدار ببعض الامتيازات الاسمية الى درجة كبيرة، بينما أعطى بنو عبد مناف أسباب السلطة، وقد تحقق الطرفان من حجم المكاسب التى سيحصلون عليها اذا اتفقا، وحجم الخسائر التى ستصيبهم اذا اختلفا. قد يعتبر حلف الفضول تطويرا لحلف المطيبين وليس حلفا ضد الظلم كما ينظر اليه كيتانى، Caetani ويقول المسعودى انه- أى حلف الفضول- كان نتيجة محاولة لمساعدة يمنى على استرداد دين له عند العاص بن وائل من بنى سهم، وكان المشاركون فى الحلف عشائر هاشم والمطلب وأسد وزهرة وتيم وربما الحارث بن فهر**، أى المطيبين بدون بنى عبد شمس وبنى نوفل. ثم نشب الخلاف بين نوفل   * من النص الانجليزى، ص 56 من هذه الترجمة. ** ابن هشام، 85- 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وعبد المطلب بن هاشم وساند بنو المطلب عبد المطلب بن هاشم، وهكذا نمت قوة بنى عبد شمس ونوفل الى الدرجة التى جعلتهم فى غنى عن حلفائهم (المطيبين) ، فى حين رحب بنو هاشم والمطلب، الذين كانت قوتهم فى اضمحلال، بوجود حلفاء لهم. وتؤكد الرواية التى رواها ابن اسحق عن دعوة بنى هاشم والمطلب بعد ذلك الى حلف الفضول هذا التفسير. وفى خلافة معاوية، قام نزاع بين والى المدينة الوليد وهو ابن اخى معاوية وبين الحسين بن على حول بعض أملاكه، وأنهى الوليد هذا الخلاف لصالحه، واعترض الحسين وقال انه يلجأ الى حلف الفضول، فتلقى عروضا بالمساعدة من عبد الله بن الزبير (أسد) والمسور (زهرة) وعبد الرحمن بن عثمان (تيم) ، ولم يستطع الوليد مواجهة هذا التهديد باحياء حلف قديم، حيث كان الرجال الذين ذكرناهم من بنى هاشم وأسد وزهرة وتيم على الترتيب، فلم يكن أمامه الا أن يتراجع. وفى زمن لاحق، دل حوار دار بين الخليفة عبد الملك (من بنى أمية أو عبد شمس) ورجل من بنى نوفل على أن هاتين العشيرتين كانتا قد خرجتا من الحلف منذ زمن بعيد، هذا ان كانتا قد دخلتا فيه أصلا. وفى زمان بعثة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، كان من الواضح أنه قد حدثت تغيرات فى الاتجاهات السياسية، ولكن من الصعب أن نقول- على الأقل فى المراحل التالية- الى اى مدى كانت هذه التغيرات بعيدة عن تأثير الاسلام والى أى مدى كانت من نتائجه. والموقف الذى أراه يتلخص فيما يلى: المجموعة أهى حلف الفضول القديم بدون بنى أسد وباضافة بنى عدى، وقد يكون لهذا التغير علاقة ما بدخول عمر بن الخطاب فى الاسلام، ولكن الاحتمال الأقرب أن يكون نتيجة للتحالف بين عبد شمس والمجموعة ج، وذلك للعداء المرير الذى نشب بين بنى عدى وبنى عبد شمس، وبالطبع كانت هناك عوامل اقتصادية. وكان انضمام المجموعة ب للمجموعة ج لعدة أسباب، فمن الواضح أن العلاقات بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المجموعة االمجموعة ب المجموعة ج هاشم عبد شمس مخزوم المطلب- سهم زهرة نوفل جمح تيم أسد عبد الدار الحارث بن فهر عامر- عدى-- بنى عبد شمس والمجموعة ج كانت وثيقة، ولا شك أن ذلك كان بسبب المصالح التجارية المشتركة، أما المجموعة ج فهى مجموعة الأحلاف القديمة بدون بنى عدى. الأدلة الرئيسية التى تؤكد افتراض هذا التقسيم للعشائر هى: 1- كان زعماء جيش المشركين فى غزوة بدر من المجموعتين ب وج باستثناء العباس (من بنى هاشم) ، وحتى أمر هذا مشكوك فيه، اذ ربما يكون اسمه قد أضيف فيما بعد لاكساب ذريته مجدا*، وقد روى أن أفراد عشيرة طالب بن أبى طالب قد انسحبوا من المعركة. ومن ناحية أخرى نرى أن بنى زهرة وبنى عدى لم يشتركوا فى هذه المعركة، كما كان المشاركون فيها من أعضاء المجموعة (أ) قليلين.   * لا أرى أى مجد يشرف ذرية العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام من اشتراك أبيهم العباس فى معركة بدر فى صفوف المشركين وهم أبناء عم الرسول، كما ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى المسلمين يوم بدر عن قتل عمه، كما أنه أعلن اسلامه بعد ذلك وخرجت منه ذرية مسلمة منهم عبد الله ابنه الملقب بحبر الأمة- (المترجم) . وهناك اتجاه يرى أن العباس كان مسلما يكتم اسلامه ليكون عينا للمسلمن لدى أعدائهم- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عشائر قريش فهر (قريش) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 2- كان الذين سعوا فى انهاء مقاطعة بنى هاشم من بنى عامر ونوفل وأسد. كما ذكر معهم أيضا مخزومى، ولكن ربما وقف هذا المخزومى ضد غالب عشيرته لأن أمه كانت من بنى هاشم. 3- كان الذين طلب محمد (عليه الصلاة والسلام) جوارهم بعد عودته من الطائف من بنى زهرة وعامر ونوفل. وليس منهم أحد من المجموعة (ج) . 4- كان المسلمون الأوائل الذين لم يهاجروا الى الحبشة أعضاء فى حلف بنى هاشم والمطلب وزهرة وتيم وعدى باستثناء حالتين (كانت ظروفهما غير عادية) ، وهذه حقيقة لها مغزاها حتى لو كان تفسيرها غير مؤكد. (ب) ادارة الأمور فى مكة يكاد يكون التنظيم الحكومى الوحيد فى مكة هو الملأ وهو تجمع من شيوخ العشائر وزعمائها. وكان هذا المجلس استشاريا فقط وليس له سلطة تنفيذية، كانت كل عشيرة مستقلة عن غيرها ولها حرية التصرف فى أمورها. لهذا، كانت القرارات المؤثرة التى يصدرها الملأ هى فقط التى تصدر بالاجماع. وكانت هناك بالطبع وسائل للتعامل مع الأقليات المتمردة، وتعتبر مقاطعة العشائر لبنى هاشم والمطلب مثالا لكيفية ممارسة الضغط الاقتصادى والاجتماعى. يكمن جزء كبير من قوة مكة فى قدرة شيوخها وزعمائها على توحيد فكرهم واضعاف المنافسات الثانوية لصالح المجموع. وتعتبر تسوية النزاع الذى نشب بين الأحلاف والمطيبين أحد الأمثلة على ذلك، كما كان اعداد مكة للقتال بعد هزيمة بدر مثالا اخر. وبجانب هذا المجلس المركزى (الملأ) ، لا شك أنه كانت هناك اجتماعات تعقد بين شيوخ العشائر المستقلة عند الضرورة لمناقشة الأمور، كما حدث عندما جمع أبو طالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 بنى هاشم وبنى المطلب ليحثهم على الموافقة على حماية محمد (عليه الصلاة والسلام) . كذلك ذكرت المصادر بعض المهام والوظائف، منها مثلا النسىء (وهو حق تقرير متى يزاد فى شهر قمرى ليتوافق مع السنة الشمسية) ، والسقاية (الاشراف على موارد الماء وتوفيرها للحجيج) والرفادة (اطعام الحجيج) واللواء (حمل العلم فى الحرب أو تعيين من يحمله) ، ويكاد ذلك أن يكون ادارة محلية بالمعنى الذى نفهمه الان أو كما فهمه الاغريق والرومان. وكانت هذه المهام تعتبر امتيازات لأصحابها، وكان بعضها على الأقل يعطى أصحابها فرصة لجمع المال، فبالنسبة للسقاية، كان على الحاج أن يدفع مبلغا فى مقابل استخدام ماء زمزم (لامانس، Lammens مكة، 65) ، كما سمعنا عن ضرائب متنوعة كانت تجبى من الحجاج والتجار، وان كان أسلوب جمعها غير واضح*.   * ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية أن جرهم بن قحطان الجرهمى كان نازلا باعلى مكة ... وكان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه أسفل مكة وكل منهما يعشر من مر به مجتازا الى مكة (أى يأخذ منه عشر ما معه من مال كضريبة) . وكان ذلك قبل قصى بمئات السنين، كما كانت هذه التصرفات وغيرها سببا فى رفض خزاعة لحكم جرهم لمكة فتمالات عليهم وقاتلوهم حتى أجلوهم عن مكة. ثم ان قصيا كان أول من تولى السقاية والرفادة واللواء وجعلها مهام يتشرف بها من يحملها من بعده من ذريته. أما السقاية فلم تكن من زمزم لا فى زمان قصى ولا بعده الى ما قبل مولد الرسول عليه الصلاة والسلام بقليل لأن عمرو بن الحارث سيد جرهم طمر زمزم عندما تأكد من هزيمته أمام خزاعة. وكانت السقاية بعد اعادة حفر زمزم الى عبد المطلب الذى حفرها- طوال حياته، ثم صارت الى ابنه أبى طالب مدة، ثم اتفق أنه أملق فى بعض السنين: فاستدان من أخيه العباس عشرة ألاف الى الموسم الاخر وأنفقها أبو طالب فيما يتعلق بسقاية الحجيج فى عامه. فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبى طالب شىء فقال لأخيه العباس: أسلفنى أربعة عشر ألفا أيضا الى العام المقبل أعطك جميع مالك، فقال له العباس: بشرط ان لم تعطنى تترك السقاية لى أكفلها، فقال نعم، فلما جاء العام الاخر لم يكن مع أبى طالب ما يعطى العباس فترك له السقاية فصارت اليه ثم انتقلت فى ذريته الى أن أخذها المنصور (البداية والنهاية لابن كثير) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وكان تأثير الفرد فى مجريات الأمور فى مكة يقوم على أمرين: عشيرته وكفاءته الشخصية. وكانت قوة العشيرة تتناسب مع ثروتها بالرغم من أن الثروة فى مثل هذا المجتمع التجارى كانت متحركة الى درجة كبيرة وتتغير تبعا لمدى الأعمال التى يمارسها الفرد والعشيرة ونجاحها، وقد تكون البداية ثروة موروثة وعلاقات عمل، ولكن كان تأثير الفرد فى النهاية يعتمد أساسا على صفاته الشخصية: دهائه التجارى والاقتصادى، سياسته مع العشائر والقبائل الاخرى ومع ممثلى القوى الكبرى، وقدرته على فرض رئاسته على أقرانه فى العشيرة والدوائر الأوسع. فلم تكن سيطرة أبى سفيان على سياسة مكة فى بداية بعثة محمد (عليه الصلاة والسلام) لأنه كان متوليا منصبا له سلطة، بل لأهمية عشيرته بنى عبد شمس أو أمية وثروتها ولأنه كان يتمتاع بالصفات التى ذكرناها. وكانت العشيرة الاخرى ذات السيادة فى ذلك الوقت هى بنى مخزوم، ولذلك كان لأعضائها البارزين- مثل الوليد بن المغيرة وأبى جهل- دور هام فى ادارة شئون مكة. قد يكون من الطريف المقارنة بين مكانة أبى سفيان فى مكة وبير كليس فى أثينا. كانت الديموقراطية العربية أقل مساواة منها فى أثينا. فقد كان كل فرد فى العشيرة فى مكة لا يمثل الا فردا واحدا ولم يكن هناك من يمثل أكثر من واحد، ومع ذلك تمكن العرب بطريقة أو أخرى من ايجاد وسيلة لاختيار الأعضاء البارزين فى العشيرة الذين يحضرون اجتماعات الملأ. وكان الملأ المكى أكثر حكمة ومسئولية من الاكليزيه ekklesia الأثينى، ونتيجة لذلك كانت قراراته تتخذ بناء على الجدارة الحقيقية   ونفهم من ابن كثير أن السقاية كانت بدون مقابل. أما الرفادة، فقد ذكر ابن هشام والطبرى وابن كثير أن قصيا جمع أهل مكة فقال لهم: انكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وان الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا وطعاما أيام هذا الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه اليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه فى الجاهلية حتى قام الاسلام، ثم جرى فى الاسلام بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 للرجال وسياساتهم وليست بناء على خطب رنانة تجعل أسوأ الأسباب يبدو أحسنها، ومن ناحية أخرى كان الأثينيون يقدرون المبادىء الأخلاقية ويقبلون الرجل لأنه أمين ومستقيم، بينما كان أهل مكة يهتمون بالمهارة العملية للرجل وقدرته على أن يكون زعيما فعالا، وهذا يؤدى بنا الى موضوع القسم الثالث. (ج) قريش والقبائل العربية كانت النبالة والهيبة بين عرب الصحراء مسألة تتعلق بالقوة العسكرية الى درجة كبيرة، فكانت الزعامة بين القبائل لمن يستطيع حماية أتباعه، والثأر للاهانات أو الايذاء أو القتل، وقد قيل فيما بعد ان قريشا سادة العرب وان الخلافة لا تكون فى غيرهم. وفى صورته المطلقة، ربما كان هذا الاعلاء لشأن قريش قراءة لأحداث العقد السابق للهجرة فى ضوء ظروف جدت فيما بعد، ولكن حتى لو كانت هناك بعض المبالغة فى هذا التعبير، فقد كان الاعتراف بقريش سيدة قبائل غرب شبه الجزيرة العربية وغرب وسطها، أى بين القبائل ذات الصلة الوثيقة بها، حقيقة لا جدال فيها. فعلى أى أساس كانت هذه السيادة؟ لم يستطع لامانس أن يدلل على صحة نظريته عن جيش المرتزقة من العبيد السمود الا عن طريق لى الحقائق والشواهد. ويبين التذييل (أ) بعض الأسباب التى تجعل هذه النظرية على غير أساس. ومع ذلك، فان وجود عدد من العبيد السود فى قريش حقيقة لا تنكر، وكان بعضهم يستخدم فى القتال اذا لزم الأمر. كما أنه من الحقائق المعروفة أن قريشا جذبت الكثير من العرب من أبناء القبائل الاخرى الى مكة كحلفاء (مفردها حليف) ، وكان بعضهم يشارك فى التجارة والبعض الاخر من الفرسان قاطعى الطريق، وهذا النوع على الأقل كان دائما مستعدا للقتال. كما أنه من الحقائق المعروفة أن الأغنياء من تجار قريش كانوا راغبين عن القتال فى معركة بدر. بالرغم من أنهم لم يكونوا جبناء وكانوا قادرين على الظهور بمظهر مشرف، وكذلك أبلى المسلمون من قريش فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بدر بلاء حسنا حتى لو كانت بطولات على وحمزة مبالغا فيها الى درجة كبيرة، وحتى لو كان الأنصار هم المقاتلين الأفضل من جميع النواحى. لكل هذه الأسباب، نرى أنه من الواضح أن رياسة قريش لم تكن بسبب براعتهم فى القتال كأفراد. كان سر مهابتهم قوتهم العسكرية التى يستطيعون أن يواجهوا بها أى خصم، ولم تكن هذه القوة قوتهم واحدهم بل كانت قوتهم مع أحلافهم، وقد تأسست هذه الأحلاف على أساس أعمالهم التجارية. فقد كانت القوافل الى اليمن والشام والبلاد الاخرى تتطلب خدمات من عدد كبير من البدو كأدلاء وحراس ورعاة للابل.. الخ. وقد يدفعون مبلغا من المال لزعيم قبيلة لضمان سلامة المرور فى منطقة نفوذه، أو للحصول على الماء أو أنواع أخرى من الزاد، وهكذا كانت قبائل البدو تشارك فى تجارة مكة، وسرعان ما عرفوا من أين تؤكل الكتف، فقد كان رخاء مكة رخاء لهم كما كانت خسارة مكة خسارة لهم، وقد زاد هذا الشعور بالتكامل مع مكة عمقا بالمصاهرة التى كانت بين زعماء مكة والقبائل المختلفة، وباشراك زعماء القبائل فى تجارات مكة ذات رؤوس الأموال المشتركة. ومن هذا نرى أن القول بأن أهل مكة كانوا يدفعون للرجال ليقاتلوا من أجلهم صحيح الى حد ما، ولكن هؤلاء الرجال لم يكونوا بأية حال مرتزقة، فلا وجه للمقارنة بينهم وبين الحرس السويسرى أو الفرقة الأجنبية الفرنسية مثلا، فقد كانوا جميعا عربا أحرارا دخلوا فى أحلاف واتفاقيات مع قريش على أساس من الندية. وكان زعماء تلك الطائفة الغامضة التى يطلق عليها الأحابيش يعلنون اراءهم صريحة فى مواجهة أهل مكة «1» ، وعندما هاجم البراد من بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة احدى القوافل، وهى الحادثة التى أدت الى اشتعال حرب الفجار، كان لا شك يعلم أن فعله هذا يسير فى نفس الخط مع سياسة مكة وأن قريشا سوف تؤيده، ولكن ربما كان تصرفه هذا نابعا من نفسه ولم يكن تنفيذا لأوامر أهل مكة.   (1) انظر التذييل؟ أ، الفقرات: أ، د، ج (المؤلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 كان للمال أهمية فى المحافظة على مثل هذه الأحلاف، ولكن المال واحده لا يكفى، فرجال بمثل هذه الشخصية العنيدة حادة الطبع لا يمكن التعامل معهم الا بلباقة ودبلوماسية دائمتين، وتتطلب هاتان الصفتان تحكما تاما فى مشاعر الانسان، وقد كان هذا الأسلوب فى الحكم المتعقل الصبور، أو ما أطلق عليه حلم قريش، الذى مكنهم من المحافظة على أحلافهم. «وكانت هذه الحكمة السياسية، التى أشرق فيها كل حلم قريش، هى الضمان الذى به احتفظت مكة بسيادتها على جيرانها من البدو لسنوات طويلة قبل الاسلام» (لامانس، مكة، 81/ 177) «1» . (د) سياسة مكة الخارجية كانت مكة واقعة فى دائرة اهتمام قوتين عظيمتين، الامبراطورية البيزنطية والامبراطورية الفارسية وقوة ثالثة أقل وهى مملكة الحبشة، وكانت الأسباب الأساسية التى جذبت انتباه الامبراطوريتين الى شبه الجزيرة العربية تجارية، فكانت الامبراطورية البيزنطية ترغب فى الحصول على المواد الترفية من الشرق، ولكن فارس كانت تسد عليها جميع طرق التجارة تقريبا، البرية منها من الصين والهند (باستثناء الطريق الذى يمر شمال بحر قزوين) والبحرية من الهند وسيلان عن طريق الخليج الفارسى. وكانت فارس تكبد البيزنطيين أسعارا فادحة فى مقابل الحرير والتوابل فى زمن السلم، أما فى زمن الحرب فكانت هذه البضائع تنقطع تماما، ولكن كان هناك الطريق البرى عبر غرب شبه الجزيرة العربية الى الشام (وكان أيضا طريق البخور من جنوب شبه الجزيرة العربية) وطريق البحر الأحمر الذى لم يكن يستخدم كثيرا لسبب غير واضح. كان جوستنيان، Justinian الذى أدار السياسة البيزنطية تحت حكم جوستين Justin من 518 الى 527 ثم صار هو الامبراطور   (1) بالاضافة طبعا الى أثر وجود بيت الله الحرام فى مكة وجوار قريش له فى ارساء قواعد مهابتها فى قلوب العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حتى 565 م، حريصا على استعادة الممتلكات الرومانية فى الغرب، لهذا اتبع سياسة التهدئة مع فارس الى درجة الموافقة على دفع جزيه سنوية للفرس لضمان السلام. كما أسند الى أمير الغساسنة شبه المستقل والذى تقع امارته على حدود الشام منصبا رسميا فى الامبراطورية وعهد اليه بمهمة حفظ النظام بين قبائل البدو العربية التى تعيش على الحدود ونشر النفوذ الرومانى (البيزنطى) بقدر الامكان، كذلك شجع جوستنيان على استخدام المسيحية كعامل يساعد على الواحدة والدخول فى طاعة الامبراطورية الرومانية، واستطاع أن يصل الى نوع من التفاهم مع الحبشة. ويروى ابن اسحق كيف استطاع رجل يدعى دوس ذا ثعلبان الهرب من ذى نواس فى الأحداث الدموية التى حدثت فى مملكة جنوب شبه الجزيرة* وذهب الى قيصر يستنجد به. وبدلا من مساعدته بشكل مباشر أرسل معه كتابا الى ملك الحبشة. وربما كان هذا الخبر صحيحا بصورة أو أخرى، ولكن على أقل تقدير يبين كيف فهم العرب العلاقة بين البيزنطيين والحبشة، ولا شك أن جوستنيان قد وافق على غزو الحبشة لليمن وجنوب شبه الجزيرة العربية حوالى 525 م، وبالرغم من أنه كان أرثوذكسيا، الا أنه فضل وجود مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح هناك على كل من اليهودية أو النسطورية، وكل منهما له صلات بالفرس «1» . بعد وفاة جوستنيان، تغيرت العلاقات بين الامبراطوريتين ودخل صراعهما القديم فى مرحلته النهائية، قفى عام 570 أو 575 طرد الفرس الحبشيين من شبه الجزيرة العربية وأقاموا الادارة المفضلة لديهم، وان لم تكن تحت السيطرة التامة لفارس، وحاول الفرس توجيه التجارة البرية من اليمن الى فارس بمساعدة أمراء اللخميين فى الحيرة (الذين كانوا يقومون بدور بالنسبة لفارس يشبه دور الغساسنة بالنسبة للبيزنطيين) . وكانت حرب الفجار ومعركة ذى قار بسبب القوافل التى كانت تنقل   * وهى حادثة الأخدود التى ذكرها الله عز وجل فى سورة البروج- (المترجم) . (1) انظر A.Vasiliev ,Justin the first ,Cambridge (U.S.A.) 1950 283 -299.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 اللبان والبخور والمنتجات المحلية الاخرى (وربما بضائع من الحبشة) فضلا عن البضائع المستوردة من الهند. ومع ذلك، فقد كان الكثير من التجارة يمر فى طريق الساحل الغربى بدليل استمرار ازدهار مكة، مما يدل على أن الفرس لم يكونوا من القوة بحيث يستطيعون السيطرة على هذا الطريق الى الغرب. ماذا كان موقف مكة فى هذا الصراع بين العملاقين؟ ما السياسة التى سارت عليها؟ ربما كانت هناك صداقة متوارثة مع البيزنطيين، فقد ذكر ابن قتيبة معلومة تثير الدهشة تفيد أن قيصر قد ساعد (قصى) ضد خزاعة، فاذا كان مفهوم ذلك أن قصيا قد تلقى المساعدة من الغساسنة أو بعض الحلفاء الاخرين للرومان، فقد يكون ذلك صحيحا الى درجة بعيدة. فمن المؤكد أن قصيا كانت له صلات ببنى عذرة، وهى قبيلة مسيحية تعيش قرب حدود الشام، وبالتالى ربما كانت تحت النفوذ البيزنطى، وربما كان غزو قصى لمكة مرتبطا بنمو التجارة بين مكة والشام، ويبدو أنه بعد قصى ظل الطريق بين اليمن ومكة فى أيدى اليمنيين لفترة من الزمن. وقد كان أحد التجار اليمنيين قد أحضر بضائع الى مكة عند انشاء حلف الفضول (حوالى 580) *. فلو كان الاهتمام الرئيسى لمكة حينئذ هو التجارة الى الشمال، فقد كان لا بد من وجود علاقات طيبة بالبيزنطيين وحلفائهم. وسهل غزو الحبشة لليمن الأمور على أهل مكة وذلك للعلاقات الطيبة التى كانت بين الحبشة والبيزنطيين، وربما كانت هذه الفترة من السلام النسبى هى التى نمى فيها أهل مكة تجارتهم بدرجة كبيرة وأرسلوا فيها قوافلهم الى جميع الجهات، وكانت النتيجة التى توارثتها الأجيال أن من أبناء عبد مناف الأربعة، وطد عبد شمس علاقاته مع الحبشة، ووطد هاشم علاقاته بالشام، ووطد المطلب علاقاته باليمن، ووطد نوفل   * بل كان هذا التاجر اليمنى هو سبب انشاء حلف الفضول كما ذكر المؤلف من قبل فى هذا الفصل- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 علاقاته بالعراق. وربما أخذت عشيرة مخزوم أيضا نصيبا من تجارة جنوب شبه الجزيرة العربية، أو على الأقل كانت لهم اهتمامات بها فيما بعد، ولكن لا شك فى أن العلاقات مع الحبشة قد تدهورت فيما بعد نظرا لأن أبرهة نائب الملك قاد حملة ضد مكة كان غرضها الظاهرى هو تدمير الكعبة كى يحج العرب الى كنيسته التى بناها فى الجنوب، ويمكننا أن نخمن أن الاهتمامات التجارية قد اختلطت بالاهتمامات الدينية، اذ ربما فزع أبرهة من النجاح التجارى المتزايد لأهل مكة، الذين يفترض أنهم كانوا يحققون أرباحا لا بأس بها كوسطاء حتى بين الحبشة والبدو. وقد تحقق أبرهة من الدور الهام الذى تلعبه المنطقة المقدسة حول مكة فيما يمكننا أن نسميه «النظام المكى» . وربما كان هناك أيضا كنز فى الكعبة أو حولها، فاذا أريد الانقاض من قوة مكة وثروتها، فانه يجب تدمير الحرم المكى ووضع حرم اخر مكانه كمركز لتجارة التجزئة لعرب الصحراء. ذكر ابن اسحق كيف تفاوض عبد المطلب مع أبرهة، وبينما نرى أن بعض ملامح هذه القصة (مثل قوله ان عبد المطلب كان كبير قريش وسيدها) هى بلا شك لتعظيم بنى هاشم، الا أنه ربما كانت حادثة المفاوضة صحيحة ولكن يجب أن تفسر على أنها حركة جماعية من مجموعة صغيرة من قريش (مع قبيلتى بنى الديل وهذيل) وقف فيها الجزء الرئيسى الذى من قريش موقفا متحفظا، فاذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن عبد المطلب كان يحاول الاستعانة بالأحباش ضد خصومه من قريش مثل بنى شمس ونوفل ومخزوم*. وكان من الواضح أن بنى عبد شمس ونوفل قد وضعا أيديهما على معظم التجارة مع الشام واليمن التى كانت قبل ذلك فى أيدى بنى هاشم والمطلب، وعلى هذا فان العشائر الأكثر ثروة كانت ترغب فى سياسة   * قال ابن كثير فى البداية والنهاية (دار الغد العربى الجزء 1، الصفحة 583) : قال ابن اسحق: ويقال انه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدى بن الديل سيد بنى بكر وخويلد بن دائلة سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك فالله أعلم أكان ذلك أم لا، انتهى كلام ابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 محايدة من الواضح أنها كانت أفضل لمصالحهم، وذلك فى مواجهه سياسة عبد المطلب المؤيدة للحبشة. ولا نستطيع أن نؤكد ما اذا كان أبرهة قد وافق على مقترحات عبد المطلب أم أنه رفضها بعد أن تحقق من أنه ليس قويا بالدرجة الكافية. وعلى أية حال، فقد فشلت الحملة فى الجزيرة العربية ولم تتحقق الأهداف الحبشية، اذ دمر الجيش الحبشى بالطاعون فيما يظهر*. أصبح الحياد أمرا أكثر أهمية لمكة بعد غزو فارس لجنوب شبه الجزيرة العربية بعيدا عن سيطرة الفرس، ويبدو أن أهل مكة قد استفادوا من هذا الموقف فى زيادة قوتهم. وكانت حرب الفجار التى ربما بدأت بعد طرد الأحباش بفترة، نتيجة لهجوم- لم تأمر به مكة- من أحد حلفائها على قافلة كانت فى طريقها من الحيرة الى اليمن عن طريق الطائف، وهذا قد يعنى، من الناحية الاقتصادية أن أهل مكة كانوا يحاولون اغلاق هذا الطريق تماما أو ضمان بعض السيطرة منهم عليه، ونظرا لانتصارهم الواضح فى الحرب، فانه يمكن افتراض أنهم قد حققوا أهدافهم. فى ضوء هذه الخلفية، يأخذ حلف الفضول الذى ذكرناه من قبل أهمية جديدة، فان السبب المعلن، وهو رفض أحد بنى سهم دفع ثمن بضائع اشتراها من تاجر يمنى، وردود الفعل الواسعة لهذه الحادثة تدل على أنها قد أصبحت علامة على اتجاه جديد هام فى السياسة، وباختصار كان هذا الاتجاه هو ذروة المحاولات التى قامت بها العشائر الأكثر ثروة لاستبعاد اليمنيين من تجارة الجنوب وتركيزها فى أيديهم، وهنا يمكننا فهم رد فعل بنى هاشم وباقى العشائر المكونة للحلف، فان هذه العشائر لم تكن قوية اقتصاديا بالدرجة الكافية التى تجعلهم يسيرون قوافلهم الى اليمن، ولكننا نستطيع أن نفترض أنهم استفادوا من الصفقات التى كانوا يعقدونها مع التجار اليمنيين فى مكة، فلو كانت القوافل الى اليمن تحت   * قال رب العالمين: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» . (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 السيطرة الكاملة لعشائر مثل بنى عبد شمس وبنى مخزوم، فان العشائر الأصغر تفقد جزا لا بأس به من تجارتها وربما لا يجدون بضائع ينقلونها شمالا الى الشام، أو على أحسن الفروض يسمح لهم بالمشاركة فى القوافل ولكن بالشروط التى يمليها التجار الأغنياء، وبالتأكيد لن يترك لهم الا ربح ضئيل. وتساعد حادثة عثمان بن الحويرث، كما فصلها لامانس (مكة 270- 9/ 366- 75) على تصوير سياسة الحياد التى كانت عليها مكة، فقد دخل عثمان فى مفاوضات مع البيزنطيين أو عملائهم وحصل على وعد بالمساعدة. ولا شك فى أن البيزنطيين كانوا يفكرون فى شىء يشبه امارة الغساسنة، فى حين ذكرت المصادر أن عثمان كان يطمع فى أن يكون ملكا على مكة، وكان هذا جزا من رد فعل البيزنطيين لغزو فارس للجنوب، ويشير لامانس الى أن عثمان لم يعلن عن هدفه هذا بالطبع، وانما كان يقول ان البيزنطيين سيغلقون الحدود ما لم تقدم لهم «هدايا» معينة، وانهم وكلوا اليه مهمة جمع هذه الهدايا، ولكن يبدو أن قول لامانس بعد ذلك ان عثمان قد استمال رؤوس بنى أمية وبنى مخزوم الى خطته هو مجرد افتراض أسسه على أنه لم يرد أى ذكر لمعارضتهم لذلك. ومن الواضح أن الحادثة التى قضت على خطة عثمان هى تحذير أحد أبناء عشيرته بنى أسد ويدعى الأسود بن المطلب أبا زمعة له من أن يسعى للملك، فمن الطبيعى أن يعترض الأغنياء على الوضع الخاص الذى كان سيحصل عليه عثمان نتيجة لخطته، ولكنهم كانوا بالاضافة الى ذلك يرون أنه ليس من الحكمة الخروج عن سياسة الحياد، وربما كانوا يشعرون بقوة مركزهم لحاجة البيزنطيين للبضائع التى يحملونها اليهم (لم يكن لرفض مقترحات البيزنطيين أى نتائج ذات قيمة فيما عدا سجن عدد قليل من الرجال لفترة من الوقت) . وفى هذه الظروف قاد بنو أمية وبنو مخزوم المعارضة ضد عثمان، الأمر الذى ربما يعيد الحياة لحلف الفضول الذى كان بنو أسد أحد أعضائه، وقد تجنبوا مثل ردود الفعل هذه باسناد القيادة لرجل من بنى أسد. وليس من المنطقى أن نفترض، كما فعل لامانس، أن الدافع الوحيد للأسود هو الحسد، فمن الواضح أنه كان على درجة لا بأس بها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الثراء، ولهذا فمن المحتمل أن المعارضة ضده كانت طبقا للسياسة العامة لزيادة الروابط مع البيزنطيين. حدثت هذه الحادثة بعد حرب الفجار لأن عثمان بن الحويرث قد شارك فيها، وبذلك يكون بيننا وبين اعلان محمد (عليه الصلاة والسلام) لرسالته عشرون عاما أو أقل، وهى السنوات التى أكدت فيها الحروب الطاحنة التى نشبت بين الامبراطوريتين العظميين، أهمية وقوف أهل مكة على الحياد. ونظرا لقلة المعلومات المتاحة، فان الكثير مما يقال عن سياسات أهل مكة يخضع للحدس والتخمين. ولكن حتى لو كان الكثير من التفاصيل غير صحيح، فاننى أعتقد أن الصورة العامة معقولة، وعلى ذلك فان محمدا (عليه الصلاة والسلام) قد ترعرع فى عالم اختلطت فيه الأمور المالية فى المستويات الرفيعة مع السياسات الدولية اختلاطا لا سبيل الى فصله. 3- الخلفية الاجتماعية والأخلاقية (أ) التضامن القبلى والفردية التماسك القبلى شىء ضرورى للبقاء على قيد الحياة فى ظروف المعيشة فى الصحراء. فالانسان يحتاج الى المساعدة فى مواجهة القوى الطبيعية وخصومه الادميين. ولا شك فى أن التجمعات القبلية وجدت قبل أن يصبح الانسان فى الصحراء ولم تنشأ فيها. ولكن من المؤكد أن أهمية التكامل تأكدت فى ظروف المعيشة الصحراوية. فكلما كانت الجماعة أكبر كانت أقوى، وبالتالى أكثر نجاحا فى التغلب على صعوبة المعيشة، ولكن هذا لا يستمر الا الى درجة معينة يصبح من الصعب بعدها على الجماعة أن تتصرف كواحدة واحدة وبالتالى تتجه الى الانقسام، وعلى هذا فان القبائل ليست كيانات دائمة، ولكنها اما تتزايد وتنقسم واما تضمحل وتنتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ويبدو ذلك واضحا فى عشائر مكة، فان التسمية العربية الشائعة للقبائل أو العشائر أو العائلات هى «بنو فلان» أى أبناء فلان، وفى فترة من تاريخ مكة كان اسم «بنو عبد مناف» يتردد كثيرا، لكن بعد فترة من الزمن بطل استعما لهذا الاسم لأن هذه العشيرة نمت ثم انقسمت فأصبحنا نسمع أسماء «بنى عبد شمس» و «بنى هاشم» ... الخ، حيث كان عبد شمس وهاشم ابنى عبد مناف. كذلك كانت أكثر الحروب دموية فى شبه الجزيرة العربية أيضا بين عشائر تربط بينها صلات قرابة، ولا شك فى أن ذلك كان بسبب اضطرارهم للمشاركة فى مكان محدود للمعيشة. كانت كل قبيلة رئيسية أو من قبائل الدرجة الأولى مستقلة عن باقى القبائل وليس لها أية أهمية سياسية تفوق القبائل الاخرى، ولذلك فمن المقصود، وغالبا ما كان ذلك يحدث بالفعل، أن تجد نفسها قد اشتبكت فى قتال مع أية قبيلة مجاورة، وفى مثل هذا الموقف الذى تكون فيه «يد الرجل ضد كل الرجال وأيدى كل الرجال ضده» ، يصبح أمن القبيلة- بل مجرد وجودها- متوقفا على قوتها العسكرية. فبالقوة واحدها يمكن حماية قطعان الماشية طالما أن شن الغارات هو «الرياضة القومية» للعرب. يصور ثأر الدم مكانة التكافل القبلى، وهذا أسلوب بدائى- ولكن ربما كان الأسلوب الوحيد فى ظروف المعيشة الصحراوية، بعيدا عن المخترعات الحديثة، للتأكد من أن الجريمة لا ترتكب بسهولة وبدون احساس بالمسئولية فتعتبر قبيلة القاتل مسئولة عن فعلته، والعقوبة هى القصاص، «حياة بحياة» ، وبصرف النظر عن الاتجاه الانسانى لأن تكون العقوبة أكبر من الجريمة، فان هذه طريقة بسيطة للاحنفاظ بالقبائل فى نفس الدرجة من القوة النسبية. تقوم القبيلة على أساس من القرابة، سواء من ناحية الرجال أو من ناحية النساء. وقبل بزوغ الاسلام، كانت المصاهرة، على ما يبدو، هى الأكثر انتشارا. وكان هناك أيضا ما يمكن أن يسمى «بالتكامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المصطنع» نتيجة للأحلاف أو الجوار (الشكل الاصطلاحى لمنح الحماية) ولأسباب كثيرة، كان الحليف أو الجار يعامل كأحد أفراد القبيلة أو العشيرة، ويكون الحلف أو التحالف عادة بين أنداد، ولكن هذا لا يمنع جماعة ضعيفة من أن تكون حليفة لقبيلة قوية للحفاظ على وجودها. بينما كانت القبيلة أو تحالف القبائل يمثل أعلى درجات الواحدة السياسية، كان العرب يدركون أيضا أنهم يمثلون واحدة بصورة أو أخرى، وكانت هذه الواحدة على أساس من واحدة اللغة (وان كان هناك بعض الاختلاف بين اللهجات) ، والتراث الشعرى المشترك، والعادات والأعراف والأفكار المشتركة وكذلك الأصل المشترك. وكانت اللغة هى الأساسى الأصلى للتمييز بين العرب و «الأجانب» (العجم) ، وكذلك كان الحال بين الاغريق و «البرابرة» . وكانت الصحراء العربية والشامية هى الأساس الجغرافى للواحدة، وغالبا ما كانت كلمة العرب تعنى «البدو» . أما الأصل المشترك فكان، على وجه التحديد، من واحد من اثنين عدنان أو قحطان، ولكن امتزجت الجماعتان بعد ذلك. وحتى لو كان هذا الأصل المشترك مجرد خيال، كما يدعى بعض علماء الغرب (وربما كانوا مبالغين فى الشك الى درجة كبيرة) ، فان مجرد وجود هذا الاعتقاد يتضمن بعض الاقرار بالواحدة. ولقد أصبح لهذا المفهوم عند العرب بأنهم أمة واحدة، وما تبع ذلك من أنهم مميزون عن باقى الشعوب (وأعلى منهم) - أهمية كبرى فى الفترة المدنية من حياة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، حيث كان يتطلع الى درجة من الواحدة السياسية بين العرب لم يسبقه اليها أحد من القادة العظام فى الجاهلية. تنطبق مبادىء التكافل القبلى التى ذكرناها بصفة عامة على مجتمع مكة، ولكن لم تكن الواحدة المؤثرة فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) هى قبيلة قريش ككل ولكن العشائر المستقلة، ولا يزال أمن الفرد وممتلكاته متوقفا على استعداد عشيرته للانتقام لمقتله أو سرقته، وقد يؤدى الامساك برجل بدون اذن زعيم عشيرته الى نزاع، وكان هذا هو الحال فى المدينة فى السنين الأولى القليلة لهجرة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، وكان هذا المبدأ أيضا هو الذى مكنه من الدعوة فى مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بالرغم من المعارضة طالما كان بنو هاشم على استعداد لحمايته، واذا أراد أحد من قبيلة أخرى أن يعيش فى مكة، وكان هناك الكثيرون فى هذا الوضع، فان عليه أن يكون حليفا لأحد كبار أهل مكة أو لاحدى العائلات الكبيرة، وبالنظر الى سيادة قريش، فان هذا الوضع يتضمن بعض الانتقاص من قدر الاخرين. مع ذلك كله، لم يكن التكافل القبلى أبدا مطلقا، فأبناء القبيلة ليسوا أناسا اليين بل ادميين ينزعون الى الأنانية، أو ما يسميها لامانس «الفردية» ، لهذا فمن الطبيعى أن يضع أحدهم مصلحته الشخصية فوق مصلحة القبيلة، فكانت هناك دائما قلة من «المشاغبين» ، وهم الذين يثيرون المشاكل بغض النظر عما يكبده ذلك للقبيلة، فكان على القبيلة أن تتبرأ منهم، وكان أحدهم يطلق عليه الخليع*. وبينما استمر التكافل القبلى فى التحكم فى تصرفات علية القوم، بدأ نوع من الفردية فى تفكيرهم فى الظهور كما تدل على ذلك أشعارهم، فحتى زمن معين، بقدر ما عندنا من العلم، كان الرجل يرضى باظهار مجد قبيلته ودوره فى ارساء هذا المجد، ولكن بدأ الاحساس بوجود الفرد مستقلا عن القبيلة فى النمو وتبع ذلك مشكلة انتهاء وجوده المستقل عند الموت، فما المصير النهائى للانسان؟ وهل الموت هو النهاية؟ عززت ظروف الحياة التجارية فى مكة الاتجاه الى الفردية والبعد عن التكافل القبلى، فبالرغم من أن النظام العام كان معتمدا على نظام العشيرة، الا أنه كان فى امكان عائلة واحدة، أو حتى فرد واحد مع أقربائه أن يكون واحدة قادرة على الاستمرار فى الوجود. ولهذا، كثيرا ما نرى رجالا يعارضون عشائرهم، فأبو لهب** مثلا اتخذ من محمد (عليه الصلاة والسلام) موقفا خالف فيه باقى بنى هاشم. كما جاءت المعارضة لعثمان بن الحويرث من عشيرته، وكذلك أسلم أتباع محمد (عليه الصلاة والسلام) الأوائل بالرغم من معارضة عشائرهم بل حتى ابائهم، ويبدو أن المشاركة التجارية كانت تعلو أحيانا على القرابات.   * أى الذى خلعته القبيلة بمعنى رفضته- (المترجم) . ** وهو عم الرسول عليه الصلاة والسلام- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فى نفس الوقت كانت هناك ظاهرة جديدة هامة فى مكة، وهى ظهور الاحساس بالواحدة على أساس المصالح الماديه المشتركة، وكانت هذه الظاهرة، وليس انتماؤهم الى قريش، هى التى أدت الى ما حدث من صراع بين الأحلاف والمطيبين، وكانت هذه الظاهرة أيضا هى التى أدت الى تناسى المنافسات وانشاء «حكومة ائتلاف» بعد هزيمة بدر. وأهمية ذلك فى أنها تدل على ضعف روابط قرابة الدم، وتدل على وجود فرصة لتأسيس واحدة أوسع نطاقا على أساس جديد. واذا أردنا أن نبحث عن تغيير اقتصادى مرتبط ببداية الاسلام، فان علينا أن ننظر هنا (تعنى كلمة «ارتباط» هنا شيئا يختلف تماما عن العلاقة بين الدين والنظريات الخاصة بالعوامل الاقتصادية كما ينادى بها الماركسيون) . فبزيادة ثروة مكة وقوتها، انتقل اقتصادها من اقتصاد بدوى الى اقتصاد تجارى ورأسمالى. وفى زمان محمد (صلّى الله عليه وسلم) ، لم يكن قد حدث أى تغيير فى الاتجاهات الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والدينية للمجتمع التى كانت لا تزال تناسب الجزء الأكبر من المجتمع البدوى، وكان التوتر الذى شعر به محمد (عليه الصلاة والسلام) وبعض معاصريه لا شك فى النهاية نتيجة لهذا التناقض بين الاتجاهات الواعية للرجال والأسس الاقتصادية لحياتهم. وسنضطر الى الحديث عن هذا التوعك (الخلل) فى الأمة بتفصيل أكثر فيما بعد*.   * لعل المؤلف استخدم كلمة التوتر Tention كترجمة لكلمة «الضيق» الذى كان الرسول عليه الصلاة والسلام يشعر به نتيجة لموقف قومه من الدعوة: ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون (الحجر 27) . فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، انما أنت نذير، والله على كل شىء وكيل (هود 12) . ومما ورد فى الايتين نرى أن ضيق رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لرفض قومه الايمان برسالته وموقفهم المعاند من الدعوة. وقد يصدق استنتاج المؤلف بالنسبة للرافضين للدعوة، أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم تكن له أى مصالح اقتصادية فى أية مرحلة من حياته، فأبوه كان فقيرا كما هو ثابت فى مراجع السيرة، حتى ان مرضعات بنى سعد رفضن حضانته لعدم توقعهن فائدة كبيرة من وراء ذلك لفقر أبيه ويتمه، وكان عمه أبو طالب الذى كفله بعد وفاة جده عبد المطلب أيضا فقيرا، وعاش الرسول حياته كما وصفتها السيدة عائشة رضى الله عنها فى قولها: كان يمر علينا الهلال بعد الهلال لا يوقد فى بيتنا نار، وانما نعيش على الأسودين: التمر والماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 (ب) المثل العليا الأخلاقية يمكن أن نطلق على المثل الأعلى الأخلاقى لعرب الصحراء، طبقا لما قاله جولد تسيهر، اسم المروءة. وقد أحسن ر. أ. نيكلسون R.A.Nicholson وصفه عندما قال: «هى الشجاعة فى القتال، والصبر عند المصيبة، والاصرار عند الانتقام وحماية الضعيف وتحدى القوى» . هذه الفضائل هى فى الحقيقة الأمور المطلوبة لنجاح القبيلة فى صراعها من أجل البقاء فى الصحراء. ومفهوم الشجاعة عند العرب ليس هو نفس مفهومها عندنا*، فالعرب لا يؤمنون بالدخول فى مخاطرات لا داعى لها، فطالما أنه لم يستقر فانه يتحاشى مثل هذه الأخطار والشدائد بقدر امكانه، فحياة الصحراء قاسية بما يكفى وليست فى حاجة الى المزيد. وربما يفسر ذلك اعتبار الاصرار على الانتقام من الفضائل، ففى كثير من الحالات قد يكون من الأسهل ترك الكلاب النائمة فى حالها، ولكنها تكون علامة على الضعف وقد تؤدى الى اضمحلال نسبى فى القوة العددية للقبيلة. أما تحدى القوى فهو انعكاس للحقيقة التى تقول ان استمرار الوجود يتوقف على القوة العسكرية، ومع ذلك فان القوى مستعد دائما لحماية الضعيف اذا اعترف الضعيف بسيادة القوى، ويعتبر هذا الى حد ما حالة من حالات التعاون الانسانى ضد القوى الطبيعية وتساعد على زيادة قوة القبيلة القوية. كان الكرم وحسن الضيافة من الصفات التى تثير الاعجاب الى درجة كبيرة فى حياة الصحراء، ولا زالتا من الفضائل المشهورة عند العرب، وكانت الكومة الكبيرة من الرماد أمام خيمة الزعيم علامة على درجة عالية من التميز.. لأن هذا يعنى أنه قد استضاف عددا كبيرا من الضيوف. وقد يكون مثل هذا التقليد الى حد ما نتيجة لحاجة الانسان للمساعدة من زملائه فى مواجهة قسوة الطبيعة، ولكن ربما كان له معنى أكبر من ذلك. فالكرم صفة تثير الاعجاب حتى لو بلغت حد التبذير، كما حدث مثلا عندما نحرت امرأة فقيرة بعيرها الذى لم تكن تملك غيره لاطعام عابر   * يقصد العالم الغربى- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 سبيل، وربما يكون هناك وجه شبه بين هذا الاستخدام المتساهل والسخى بحق للأشياء النادرة الوجود، والاسراف فى شرب الخمر الذى يتفاخر به الشعراء. هل نرى فى هذين الأمرين مظهرا من مظاهر فضيله «عدم التفكير فى الغد» ؟ من المحتمل أنه فى الحياة فى الصحراء اذا فكر الانسان فى جميع احتمالات الكوارث المخيفة وحاول أن يقى نفسه منها جميعا، فانه يتحول الى حطام انسان فاقد لأعضائه وينتهى به الأمر اما الى فناء أو الى أن يترك الحياة فى الصحراء أو أن يتحول الى تابع لقبيلة أقوى. وفى الصحراء، هناك الكثير من الأمور لا يمكن التوصل اليها «بالتفكير» ، فالظروف غالبا ما تكون غير مؤكدة ولا يمكن التنبؤ بها وشاذة تماما، وعلى هذا فان توفير قدر من خلو البال من الهموم لهو الحكمة العالية، ولا شك فى أن هذا هو السبب فى الاعجاب الشديد بفضيلة الكرم. كان الوفاء والاخلاص أيضا من الفضائل الهامة، فمن الناحية المثالية، كان على الرجل أن يكون مستعدا للاسراع الى مساعدة أحد أبناء قبيلته فور طلب المساعدة، وعليه أن يتصرف فى الحال بدون انتظار معرفة تفاصيل الحدث. وكذلك على الفرد أن يكون مع القبيلة حتى لو لم يكن موافقا على قرارات شيوخها، ومرة أخرى، بالرغم من أن الرجال لم يكونوا يترددون فى الاستيلاء على ممتلكات القبائل الاخرى، الا أنه كان هناك قدر كبير من الاخلاص فى حفظ الأمانة، ومن الأمثلة المشهورة فى ذلك السموءل بن عادياء الذى اثر أن يترك ابنه يقتله الجيش المحاصر على أن يفرط فى بعض الأسلحة التى تركها امرؤ القيس وديعة عنده، وقد يعتبر هذا الموقف امتدادا للولاء المتوقع بين أفراد القبيلة وأولئك الذين بينهم وبينها تكافل مصطنع نتيجة لاتفاقيات. ونتيجة لاستقلال شيوخ القبائل، لم يكن فى الصحراء قانون أعلى يحكم الجميع، وفى الحقيقة كان من المستحيل المحافظة على القانون والنظام فى المساحات الشاسعة للبادية العربية والشامية الا حيثما يوجد حاكم قوى وحكيم بدرجة غير عادية، أو حيثما يكون للحاكم تفوق ساحق فى القوات والعتاد (مثل الطائرات والسيارات المصفحة فى مواجهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 البندقية والجمل) ، وسواء قبل الاسلام أو بعده، لم يكن عند العرب أية فكرة مجردة عن القانون، حتى التأثيرات الاغريقية لم تنجح فى ادخاله فى العلوم الاسلامية، وبدلا من قانون أعلى للكون، فان المسلمين يعتقدون فى ارادة الله كحاكم للكون معبرا عنها بما يوحى من أوامر. تستمد مكانة القانون والفكرة المجردة للصواب والخطأ الى حد ما من مفهوم الشرف، شرف القبيلة أولا ثم شرف الفرد، فكرم الضيافة وحفظ الأمانة كانا دليلين على وضع اجتماعى جدير بالاحترام، بينما كان كل من البخل والجبن شيئا مشينا، وكان القيم والمسجل للشرف هو الرأى العام، ولهذا الرأى العام الذى كان يتكون من الشعراء وينعكس فيما يقولون قوة معينة، وكان المسئولون يتضاءلون أمام الأعمال التى قد تجلب لهم الخزى أو لقبيلتهم، وتحتوى الأشعار القديمة على قدر كبير من المدائح لفضائل قبيلة وحسناتها، وهجاء لرذائل قبائل أخرى وأخطائها. ولقد لعبت المروءة كمثل أعلى دورا هاما فى حياة العرب، فقد كانوا يحترمون الذين استطاعوا تحقيقه الى درجة ما، والعائلات التى كان هذا الخلق من عادتها، وكانت السلطة تتوقف الى حد كبير على مدى الاحترام الذى يحظى به الرجل، وكان هذا بدوره يتوقف على صفاته الشخصية، أو بمعنى اخر درجة مروءته، ولم يكن مبدأ خلافة الابن الأكبر لوالده موجودا عند العرب لأسباب واضحة، فلو كان الابن الأكبر للزعيم لا يملك الخبرة الكافية عند وفاة والده (وكثيرا ما كان يحدث ذلك) ، فان القبيلة لا تجازف بتعريض وجودها للخطر بتوليته الزعامة، فالزعيم يجب أن يكون حكيما وذا حكم سليم على الأمور، وهذه هى الصفات التى كان يتحلى بها عادة أكثر الرجال احتراما فى العائلة القائدة. فى هذا الجانب من الامتياز الأخلاقى، وفى قدرتهم على قبول ما يمليه عليهم، توصل العرب الى مزيح من الأرستقراطية والمساواة، أو قاعدة الأفضل مع الاعتراف بأن أفراد القبيلة متساوون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكما يقول أ. ج. توينبى A.J.Toynbee فى دراسته الممتعة عن البداوة: هى دورة العنف، فالبداوة تلاحق الحياة الزراعية، لأن تربية الضأن والجمال.. الخ لا يمكن تعلمها الا هناك. والان، عندما جعلت دورة الجفاف المتكررة- فى بدايتها التالية- الحياة أكثر صعوبة فى الواحات، ومن باب أولى فى البادية، عاد اباء الحضارة البدوية الى السهوب بجسارة لينتزعوا منها ليس مجرد زاد اضافى، وانما أسباب العيش كلها، وذلك فى ظروف مناخية تجعل كلا من الصياد والزارع يريان فى السهوب الحياة مستحيلة. فى كل ما ذكرناه هناك عملية انتقاء، ففى البداية كان هناك عدد من الأفراد جربوا اسلوب حياة البادية، ويمكننا أن نفترض أنهم كانوا مميزين بصفات مثل حب المغامرة والحرية، ثم أدى الصراع الضارى من أجل البقاء الى عملية انتقاء ليس على أساس الصفات البدنية فحسب بل أيضا على أساس الصفات الأخلاقية، اذ يتطلب النجاح فى حياة الصحراء درجة عالية من التكافل وهذا مرتبط بدوره بدرجة عالية من احترام الشخصية وتقدير القيامة الانسانية. ففى أتون الصحراء، يحترق خبث الاتجاهات والأفعال الدنيا تاركا ذهب الاخلاق العالية ودستور العلاقات الانسانية الراقية وتقاليدها والمستوى العالى من التفوق الانسانى خالصا نقيا. وان من مباحث هذا الكتاب بيان أن عظمة الاسلام تعود الى درجة كبيرة الى انصهار هذا العنصر* مع بعض مفاهيم التوحيد فى اليهودية والمسيحية. 4- الخلفية الدينية والفكرية (أ) تدهور الديانة القديمة أفضل دراسة بالانجليزية عن الديانة القديمة فى شبه الجزيرة العربية نجدها فى المقالة التى كتبها نولدكه Noldeke بعنوان   * يقصد المثل العليا الأخلاقية- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 «العرب (القدماء) » فى دائرة معارف الدين والأخلاق، The Encyclopaedia of Religion and Ethics أما الدراسة المقننة فتتمثل فى كتاب ج. فلهوزن J.Wellhausen وعنوانه Reste Arabischen Heidentums والمبنى أساسا على كتاب الأصنام لابن الكلبى وأضاف لامانس H.Lammens بعض الاضافات والتنقيحات فى مقاله Lex Culte des Petyles et les procession riligieuses chez les Arabes Preislamites (Arabie, 101- 79) . أما نظريات ديتلف نيلسن Dietlef Nielsen المنحرفة فهى- عادة- مرفوضة. وتسجل هذه الدراسات ما هو معروف عن عدد كبير من الالهة والربات والطقوس المتبعة فى عبادتهم. ونظرا لأن هذه المعلومات متفرقة، وبصرف النظر عن أنها مخطوطات، فانها تأتى من مصادر اسلامية، مما يجعل فيها مجالا واسعا للتخمين. ولن نتناول هذه الموضوعات هنا بأية درجة من التفصيل، حيث انه من المجمع عليه أن الديانة الوثنية القديمة لم تكن مؤثرة نسبيا فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) . كانت هذه الديانة نتيجة تطور استغرق وقتا طويلا. ومن الأشياء المشهورة التى عبدت من البداية الأحجار والأشجار. وفى بعض الأحيان لم تكن هذه الأشياء تعتبر الهة، بل كانت ينظر اليها على أنها مساكن الالهة أو منازلهم، ثم بعد ذلك نسبوا لها خصائص معنوية، ربما كان ذلك بتأثير أجنبى، وكان هناك اعتقاد بأن لهم صلة بأجسام سماوية*. ويبدو أن اعتقاد البدو فى هذه الالهة لم يكن على درجة كبيرة من الجدية، ربما لأنها كانت فى الأصل الهة لمجتمعات زراعية، ولكن مع المعارضة التى واجهها محمد (عليه الصلاة والسلام) فى مكة، يمكننا أن نتصور أن بعض الجماعات الصغيرة فيها- ربما أولئك المهتمون بطقوس دينية معينة- كانوا على درجة أعلى من التدين، ومن ناحية أخرى استمرت بعض الممارسات مثل الحج الى الأماكن المقدسة فى مكة وحولها. مما أدام احترام الحرم أو المنطقة المقدسة التى فيها مكة، ولكن الانتهاكات التى   * الكواكب والنجوم- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 حدثت أثناء حرب الفجار ربما كانت علامات على ضعف العقيدة «1» . وفى الأزمة التى مرت بأهل مكة فى غزوة أحد أخذ أبو سفيان الالهتين اللات والعزى معه الى المعركة ضد المسلمين، وهذا يذكرنا ببنى اسرائيل عندما كانوا يأخذون التابوت معهم فى معاركهم، ويوحى بأن بقايا المعتقدات الوثنية فى شبه الجزيرة العربية قد انحطت الى مستوى السحر. وبهذا المعنى يبدو أن الكثير من الطقوس القديمة قد بقيت، ولكن يمكن اعتبارها مجرد خرافة وليست دينا. (ب) «الانسانية القبلية» فى مقابل الدين القديم هناك ما يمكن أن نسميه «الانسانية القبلية» ، وقد كانت هذه الانسانية القبلية هى الدين المؤثر عند العرب فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) ، بالرغم من أنها كانت أيضا فى تدهور. وهذا هو الدين الذى نجده فى أشعار الجاهلية. فبالنسبة للشعراء، كان ما يجعل للحياة معنى هو الانتماء الى قبيلة تستطيع أن تتفاخر بالأعمال الفذة التى تتطلب الشجاعة والكرم والمشاركة فيها بنفسه، فمن وجهة النظر هذه، فان تحقيق التفوق الانسانى بالعمل هو هدف فى حد ذاته، وفى الوقت نفسه غالبا ما كان يساهم فى بقاء القبيلة، وهو الهدف الاخر العظيم من أهداف الحياة. هذه هى «الانسانية القبلية» بمعنى أن أهميتها تأتى أساسا من القيم الانسانية أو من القوة أو من سلوك الرجال. ولكنها تختلف عن معظم الفلسفات الانسانية الحديثة، فى أنها تعتبر القبيلة وليس الفرد محل هذه القيم. وسنرى (فى الفصل الثالث) أنه بينما لم يهاجم القران فى آياته الأولى الوثنية القديمة، فقد قاوم هذه الفلسفة الانسانية فى مظهرها الدينى، ومن ذلك يجب تمييز المفهوم الأخلاقى للانسانية، أو المثل الأعلى الأخلاقى الذى احترمه القران بصفة عامة.   (1) كلمة الفجار مشتقة من الفجر وهو منتهى الاجرام، وقد أطلق العرب هذه التسمية على هذه الحرب لما حدث فيها من انتهاكات للمقدسات ومنها الأشهر الحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بينما كان الايمان بالشرف وامتياز القبيلة هو محور الحياة البدوية، فقد كانت هناك خلفية فكرية لهذا الاعتقاد تستحق الملاحظة. فايمان العرب بالقضاء والقدر مشهور، ولكن يبدو أنه ايمان محدود، فانهم لا يعتقدون أن جميع أعمال الانسان مقدورة عليه وانما فقط بعض أمور حياته. ولقد ذكرت فى موضع اخر أننا نجد فى بعض الأحاديث المعترف بها أفكارا جاهلية فى ثوب اسلامى، وبصفة خاصة الأمور التى كانت تنسب الى الدهر أو القدر أصبحت تنسب الى الله بشكل مباشر أو غير مباشر. فاذا كان الأمر كذلك، فان الأمور الأربعة التى تنحصر داخلها الحياة الانسانية فى حدود ضيقة بالقضاء والقدر هى: الرزق والأجل وجنس الطفل وسعادته أو شقاؤه، ولم يكن ذلك دينا، فان القدر لم يكن معبودا، بل كان نوعا من العلم لأنه كان أساسا اقرارا بحقائق، ففى ظروف المعيشة فى الصحراء، تكون الأمور التى ذكرناها وراء قدرة عقل الانسان وحكمته، فالرزق غير مستقر الى درجة كبيرة، فربما تمتعت قبيلة بمطر غزير ومرعى خصيب، بينما تحرم قبيلة مجاورة من كليهما، والأمل فى الحياة قليل، اذ غالبا ما يأتى الموت فجأة وعلى غير توقع نتيجة صدام يحدث بالصدفة، وحتى فى أيامنا، فاننا لا نستطيع بكل ما أوتينا من علم أن نتنبأ بجنس الجنين فضلا عن أن نتحكم فيه. «وكذلك فان التقلبات الحادة فى الثروة أمر معتاد فى الصحراء، حتى ان خبرة العمل عند البدوى ليس فيها شىء غير متوقع» *. وهكذا كان تحقيق المثل الأعلى للمروءة، بالصورة التى كان عليها، فى اطار ثابت، فمن المحتمل أن جريان دم نبيل فى عروق أحدهم كان   * كتب المؤلف هذا الكلام قبل عام 1953 وهو عام اصدار أول طبعة من هذا الكتاب، ولكن بعد ابتكار أجهزة الموجات فوق الصوتية فقد أمكن معرفة جنس الجنين بدرجة لا بأس بها من الدقة وذلك بعد أن يكون جنس الجنين قد ظهر بالفعل، أما علم الله فيعلم جنس الجنين قبل أن يخلق فى الأشهر الأولى للحمل- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يعتبر أمرا يسهل القيام بأعمال نبيلة، بالرغم من أن الصفات الخلقية للفرد لم تتوقف أبدا على نبل النسب واحده. ونتيجة للتكافل القبلى عند العرب لم تشغلهم مشكلة الحرية الفردية الا قليلا. ولكن من المحتمل أن يكون نمو الفردية قد أدى، فى زمان شباب محمد (عليه الصلاة والسلام) ، الى اضمحلال هذه «الانسانية القبلية» كقوة دينية حيوية. فحتى ذلك الحين لم يهتم الرجال كبير اهتمام بقدر الفرد طالما أن القبيلة باقية، أما الان فقد بدموا يتسائلون عن المصير النهائى للانسان، ولم يكن هناك طريق للانتقال من الانسانية القبلية الى الانسانية الفردية، لأنه فى غياب الايمان بخلود الانسان لم يكن هناك شىء دائم بالنسبة للفرد، أما فى حالة الانسانية القبلية، فقد كان فى امكان الرجال أن يروا أن القبيلة باقية، وكذلك وقبل كل شىء، الدم الذى ربما كانوا يعتبرونه مصدر الصفات النبيلة للقبيلة. وفى مجال العقيدة، يبدو أن المشكلة الرئيسية فى زمان محمد (صلّى الله عليه وسلم) كانت انهيار «الانسانية القبلية» ، فى مواجهة التنظيم الجديد للمجتمع الذى تتزايد فيه الفردية. (ج) ظهور الاتجاه نحو التوحيد نوقشت العلاقة بين تعاليم الاسلام و «المصادر» اليهودية المسيحية الى درجة مثيرة للغثيان، ولن نتناول هذا الموضوع هنا بأية درجة من التفصيل، ولكن يستحسن أن نقول شيئا عن الزاوية التى يجب أن يناقش منها، نظرا لأن اتجاه علماء الغرب كان غالبا غير صحيح لأنه يتضمن- أو يبدو أنه يتضمن- انكارا للمذاهب الدينية الاسلامية. وحتى من وجهة نظر أفضل علماء الغرب، فان الدراسات الغربية للقران كانت غالبا غير صحيحة، فقد ركزت على الجانب الأدبى، ونسى أصحابها أن الجانب الأدبى ليس الا جانبا واحدا من جوانب الصورة، وأن الأعمال الأدبية فيها أيضا العمل الخلاق للشاعر أو الكاتب المسرحى أو القصصى، ولم يثبت وجود الجانب الأدبى أبدا غياب الأصالة الخلاقة. ويشبه الدين الأدب كما يختلف عنه أيضا، ففى مقدورك أن تبين أن عاموس Amos أو حزقيال Ezekiel قد أخذا كثيرا من المفاهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ممن سبقوهما، ولكنك اذا درستهما من هذه الناحية فقط فانك ستفقد الاحساس بأصالتهما وتفردية الوحى الالهى الذى جاء عن طريقهما. ينظر المسلمون الى القران على أنه وحى الهى، أو كلام الله، ومن ناحية أخرى فان القران يتحدث بصراحة عن معتقدات الوثنيين العرب كما يتحدث عن بعض الأفكار التى مرت بخاطر محمد (عليه الصلاة والسلام) والمسلمين، كما أن هناك ايات يمكن منها استنتاج مستقبل محمد (عليه الصلاة والسلام) ومعاصريه بدرجة عالية من اليقين، وهذه الحقائق توحى بطريقة معالجة مسألة التأثيرات اليهودية المسيحية التى ترضى علماء الغرب بينما لا يكاد يقبلها المسلمون، والمفروض أن تكون المرحلة الأولى هى السؤال: ماذا ذكر القران أو تضمن عن معتقدات العرب فى زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) ، سواء منها التقدمية المثقفة أو المتحفظة؟ ثم بعد ذلك يمكننا أن نسأل الى أى مدى نستطيع أن نتتبع اثار التأثير اليهودى المسيحيي. تعطى الايات الأولى للقران «1» انطباعا بأنها موجهة لقوم يؤمنون بالله، وان كان هذا الايمان يشوبه الكثير من الابهام والارتباك. وقد فسر القران كلمات غريبة اذا ذكرت واحدها لم يفهمها السامع مثل سقر والقارعة والحطمة وأمثالها ولكنه لم يفسر كلمات مثل رب أو اله، ويدل التعبير «رب هذا البيت» (أى الكعبة) فى سورة قريش على أن المثقفين من أهل مكة كانوا يعتبرون أنفسهم عبادا لله. وكلمة الله اختصار للتعبير «الاله» * كما يعنى تعبير هوثيوس hotheos فى الاغريقية، ولكنه يفهم على أن المقصود به هو الاله الأعلى. ومن المحتمل أن الوثنيين فى مكة قبل زمان محمد (عليه الصلاة والسلام) كانوا يستعملون أسم الله للدلالة على الاله الرئيسى للكعبة، كما كان الاله المعبود فى الطائف يسمى   (1) انظر الفصل الثالث الفقرة 2- (المؤلف) . * الله اسم للخالق، والألف واللام فيه أصلية وليست للتعريف، وهو لا ينون ويعامل نحويا معاملة خاصة، وذلك غير كلمة (اله) - (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 اللات، أى الالهة. فاذا كانت كلمة الله قد استخدمها اليهود والمسيحيون بنفس المعنى؛ فان فرصة اختلاط الأمور تكون كبيرة، ويكون الاحتمال الأرجح هنا أنه بينما امن بعض أهل مكة بالله، فانهم لم يروا أن معتقداتهم القديمة فى تعدد الالهة تتعارض مع اعتقادهم فى الله حتى يرتضوها. هذه الأحاسيس الداخلية بالتوحيد بين العرب لابد أنها نتيجة للتأثيرات المسيحية واليهودية بصفة أساسية «1» ، *، فقد كان أمام العرب فرص كثيرة للاتصال بالمسيحيين واليهود، فالامبراطورية البيزنطية، التى كان العرب معجبين الى درجة كبيرة بقوتها وحضارتها   (1) انظر التذييل ب- (المؤلف) . * رسل الله محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أبناء ابراهيم، وابراهيم كان خليل الرحمن مواحدا مسلما كما يجب أن يكون الاسلام- إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (النحل 120، 121) وكذلك كان رسول الله اسماعيل عليه السلام مواحدا التوحيد الصحيح السليم الذى لم تشبه شائبة لأنه كان رسولا. واذكر فى الكتاب اسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (مريم 54) . وكان العرب من ذرية اسماعيل والقبائل الاخرى التى عاشت معهم فى مكة مواحدين على دين ابراهيم عليه السلام، وقد ذكرنا من قبل أنهم كانوا يحجون ويعتمرون بنفس المناسك التى نحج بها ونعتمر اليوم وذلك قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلبون بنفس صيغة التلبية التى نلبى بها اليوم. واستمر الوضع كذلك حتى أدخل عمر ابن لحى عبادة الأصنام تقليدا لبعض قبائل الوثنية التى مر بها فى رحلة الصيف الى الشام فبدأ التحريف فى دين ابراهيم بادخال عبادة الأصنام معه، وكان منطقهم أنها تقربهم الى الله زلفى- ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى (الزمر 3) . وفى الاية التالية أثبت الله عز وجل لهم أنهم يعبدونه ولكنهم أشركوا بعبادته هذه الأصنام. وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون (يوسف 106) ولقد تكرر قول الله عز وجل: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (لقمان 25، الزمر 38) . ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله (العنكبوت 61) فهم يعرفون الله عز وجل ويزعمون عبادته ولكنهم جعلوا له شركاء من أصنامهم، فالتوحيد اذن موجود عند العرب مند عهد ابراهيم عليه السلام. والتوحيد فى الاسلام ايمان باله واحد ليس كمثله شىء وليس فيه تعددية وليس له زوجة أو ولد. وفى النهاية لا ننسى أن كلا من محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام رسل الله عز وجل ودعوة الرسل كلهم واحدة وهى الدعوة الى التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 العالية، كانت مسيحية، وكذلك كانت الحبشة، وحتى فى الامبراطورية الفارسية كانت المسيحية قوية، والحيرة التى كانت ولاية تابعة للفرس، وكان العرب على صلة وثيقة بها كانت قاعدة أمامية للكنيسة الشامية الشرقية أو النسطورية. ولا شك أن هذا المزيج من التوحيد والقوة العسكرية والسياسية والمستوى العالى للحضارة المادية قد أثر فى العرب تأثيرا كبيرا. وبالفعل، فقد تحولت القبائل البدوية والمجتمعات المستقرة القريبة من هذه الدول الى المسيحية تدريجيا، وحتى بعض التجار من أهل مكة الذين كانوا يرتحلون الى مدن الأسواق على الحدود للتجارة لم يكونوا بعيدين عن التأثر بما كانوا يرونه، وكذلك كان هناك مسيحيون فى مكة، تجارا وعبيدا، ولكن ربما لم يكن تأثير هؤلاء الأفراد بالدرجة الكافية من الأهمية. لم تكن فرص الاتصال باليهود كبيرة كما كانت بالنسبة للمسيحيين، ولكن ربما كانت بعض هذه الصلات حميمة، وبخاصة فى المدينة حيث عاش اليهود والعرب الوثنيون جنبا الى جنب، كما كان هناك أيضا عدد من القبائل اليهودية تعيش فى واحات فى شبه الجزيرة العربية وفى المناطق الخصبة من جنوبها، اما لاجئين من بنى اسرائيل أو قبائل عربية اعتنقت اليهودية، ولكن من الواضح أنه لم يكن هناك يهود فى مكة. اذا تحدثنا عن التفاصيل، نجد أن الجماعات اليهودية والمسيحية التى أثرت على العرب كان لها بلا شك الكثير من الأفكار الغريبة، ولا نعنى بذلك هرطقة الشاميين الشرقيين (النسطوريين) أو أصحاب مبدأ الطبيعة الواحدة للمسيح Monophysites الذى كان عليه باقى أهل الشام والحبشة، فقد كانت تعبيرات علماء اللاهوت التابعين لهاتين الكنيستين معتدلة بالمقارنة بكثير من الأفكار الشاذة المستقاة من بشارات الأسفار المشكوك فى صحتها وما أشبه، والتى يبدو أنها كانت منتشرة فى شبه الجزيرة العربية. ولا شك فى أن ايات القران التى تومىء الى أن الثالوث يتكون من الأب والابن ومريم العذراء انما هى نقد لبعض العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 المسيحيين اسما والذين كانوا يعتقدون ذلك*. أما فى الجانب اليهودى، فان كثيرا من التفاصيل لم تأت أيضا من الكتب المقدسة بل من مصادر ثانوية مختلفة. لا نستطيع أن نستبعد تماما احتمال التأثر بالجماعات المواحدة غير اليهود والمسيحيين ولكنه كان فى أحسن الأحوال ضئيلا، فربما كانت هناك مجتمعات صغيرة تؤمن بتوحيد مؤسس على فلسفة اغريقية مثل الصابئة، وقد يكون ذلك بعض التفسيرات المحتملة لبعض استخدامات كلمة «حنيف» «1» ، **. وهنا يمكننى أن أقول ببساطة انه ليست هناك أية أدلة صحيحة عن أية حركة متفق عليها نحو التوحيد، واذا كانت هناك مثل هذه الحركة فمن المؤكد أنها كانت لدوافع سياسية مثل اعتناق عثمان بن الحويرث للمسيحية ليكون الحاكم الوحيد لمكة بمساعدة البيزنطيين، ومع ذلك فهناك قدر من الحقيقة فى الرواية التاريخية عن «الحنفاء» كباحثين عن دين جديد، ففى الوضع الدينى لشبه جزيرة العرب، وبصفة خاصة فى مكة، الذى كان فى نهاية القرن السادس، لا شك أنه كان هناك كثير من الرجال ذوى العقول الراجحة كانوا يشعرون بفراغ ويتوقون الى العثور على شىء يرضى احتياجاتهم. وأخيرا، يجب ملاحظة أنه قد حدثت بعض التعديلات فى الأفكار اليهودية- المسيحية حتى يمكن استيعابها فى المنظور العربى، وقد رأينا   * اشارة لقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) المائدة/ الاية 13. (1) انظر التذييل ج (المؤلف) . ** قال ابن منظور فى قاموس لسان العرب. «الحنيف المسلم الذى يتحنف عن الأديان، أى يميل الى الحق، وقيل هو الذى يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل هو المخلص، وقيل هو من أسلم فى أمر الله فلم يلتو فى شىء ... وقال أبو عبيدة: من كان على دين ابراهيم فهو حنيف عند العرب، وكان عبدة الأوثان فى الجاهلية يقولون: نحن حنفاء على دين ابراهيم فلما جاء الاسلام سموا المسلم حنيفا ... وقال الزجاجى: الحنيف فى الجاهليد من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن، فلما جاء الاسلام كان الحنيف المسلم» . وكان الاختتان وغسل الجنابة والحج هو ما تبقى عن الأعمال من دين ابراهيم عليه الصلاة والسلام- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 كيف انتقلت الأفكار القديمة المتعلقة بالدهر الى التعلق بالله، وقد تغلغلت فكرة الاله فى نفوس العرب، الى درجة أن الوثنيين كانوا يقولون ان خرافتهم كانت أوامر من الله: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» (الأعراف 28) ، وربما كان التفسير الدينى لانسحاب أبرهة من مكة موجودا من قبل القران (حتى لو كان القران قد ذكر الحادثة) كما أن العلم بأن هودا وصالحا* كانا نبيين فى عاد وثمود ربما كان مثالا سابقا للقران لتطبيق المفهوم اليهودى- المسيحيي للنبوة. واذا كان مسيلمة بنى حنيفة قد ادعى النبوة قبل محمد (عليه الصلاة والسلام) كما يقول البعض، فان هذا يبين كيف كان لمفهوم النبوة جذوره**. وقد انعكس الاستيعاب فى المنظور العربى فى قبول   * تقع مدائن صالح فى طريق قوافل الشام وكان العرب يرونها فى ذهابهم وعودتهم، ولا زالت هذه المدائن الى يومنا هذا خاصة البيوت المنعوتة فى الجبل. وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (الشعراء 49) فالعرب (وأهل مكة بالذات) كانوا يعرفون مدائن صالح منذ أن كان هناك قوافل الى الشام، كما أن الأحقاف وهى أرض عاد قوم هود تقع فى جنوب شبه الجزيرة العربية فهى أقرب الى العرب من اليهود الذين كتبوا العهد القديم فى فترة السبى فى بابل، فليس هناك أى مبرر للقول بأن العرب قد عرفوا صالحا وهودا عن طريق اليهود (ليس فى العهد الجديد ذكر للأنبياء السابقين) خاصة وأنه من المعروف ولع بحفظ أنسابهم وتاريخهم. كذلك فلاحظ أن الله عز وجل قال بعد ذكر قصة نوح عليه السلام: تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا (هود 49) . بينما لم يذكر مثل هذا التعبير عند ذكر عاد وثمود؛ مما يوحى بأن أخبارهما كانت معروفة للعرب ولو بصورة مجملة- (المترجم) . ** قال البخارى رحمه الله: «قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: ان جعل لى محمد الأمر من بعده اتبعته» . وكان قدوم مسيلمة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع من الهجرة، أى بعد 21 عاما من البعثة، وكان ضمن وفد بنى حنيفة، وهذا دليل على أنه حتى قدومه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قد ادعى النبوة. وقال ابن اسحق (وهو من المراجع الرئيسية التى أخذ عنها المؤلف) : «فلما انتهوا الى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ (أى ادعى النبوة) وتكذب لهم وقال: انى قد أشركت فى الأمر معه (يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام) . أما صفة الكذاب فقد أطلقها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد أرسل مسيلمة رسالة الى الرسول يقول فيها: من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله افرد- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المفاهيم اليهودية- المسيحية أو رفضها، بالرغم من أنه من الصعب عادة أن نبين أن العرب كانوا على علم بفكرة لم يرد لها ذكر، وأنهم لهذا قد رفضوها. لا يكاد يكون ضروريا، لدراسة حياة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، تحديد الأهمية النسبية للتأثيرات اليهودية والمسيحية، خاصة وأن كثيرا من التفاصيل موضع خلاف، ولكن الضرورة الرئيسية هى أن ندرك أن مثل هذه الأشياء كانت منتشرة قبل مجىء القران الى محمد (عليه الصلاة والسلام) ، وأنها كانت جزا من اعداده واعداد بيئته لرسالته.   الرسول عليه الصلاة والسلام برسالة قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفصل الثانى بواكير حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) ودعوة النبوة 1- نسب محمد صلّى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصى بن كلاب ... الخ. وكان قصى- كما رأينا- هو حاكم مكة القوى فى زمانه وورثت عنه سلالته كثيرا من سلطته، الا أن السلطة تقسمت بينهم- شيئا فشيئا- كلما تزايد عددهم. والسؤال الأساسى المتعلق بحياة محمد صلّى الله عليه وسلم هو ما اذا كان اباؤه وأجداده على هذا القدر من الأهمية فى سياسة مكة كما تشير المصادر، أم أن هذه الأهمية مبالغ فيها (كما يميل لذلك بعض الكتاب الغربيين) . فالعباسيون- مؤسسو الدولة العباسية- ادعوا الانتساب الى هاشم، بينما الأمويون- مؤسسو الدولة الأموية- يدعون الانتساب الى أخيه عبد شمس. وقد تناول المؤرخون الذين عاشوا زمن الدولة العباسية تاريخ الأمويين بطريقة خالية من التعاطف، فليس مستغربا ان هم أسبغوا على هاشم وأبنائه وأحفاده أهمية كبيرة ووضعوهم موضع الصدارة بطريقة قد لا تمثل حقيقة ما لهم من أهمية وصدارة. وعلى أية حال، فان التدقيق فى المصادر يشير الى أن هذه المبالغة المشار اليها لم تكن حقيقة يمكن ادراكها. وعلى أية حال، فالروايات المتعلقة بذلك قد تم عرضها- بلا شك- بروح التعاطف مع هاشم وبنيه وأحفاده، لكن لا أساس للافتراض بوجود قدر كبير من الأكاذيب أو التزييفات الخطيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ويظهر أن أبناء عبد مناف الأربعة الأساسيين قد فعلوا الكثير لتطوير تجارة مكة. فعبد شمس ذهب الى اليمن، ونوفل ذهب الى بلاد فارس، والمطلب ذهب الى الحبشة، وهاشم ذهب الى الشام. وربما كان هذا أساسا جيدا لثرائهم، رغم أن اخرين بطبيعة الحال كان لهم أيضا أدوارهم فى هذه التجارة. وقصة أن عبد شمس قد تخلى لهاشم عن حقوق تقديم الطعام والماء للحجاج لأن هاشما كان أقل انشغالا بالرحلات التجارية، ربما كان لها أساس من الحقيقة. فربما تحقق عبد شمس أن تجارة المسافات الطويلة تنطوى على مكاسب أكثرهما تنطوى عليه التعاملات الصغيرة مع الحجاج. وأيا ما كانت الأهمية النسبية لأى منهما (التجارة مع البلدان البعيدة، والتعاملات التجارية مع الحجاج) ، فقد أضعف موت هاشم المبكر نسبيا فى غزة- سلالته والمرتبطين بها- عشيرة المطلب. وبعد موت هاشم أصبح المطلب- أخو هاشم- على رأس المجموعة كلها (عشيرتى هاشم والمطلب) لكن يبدو أنه لم يلعب دورا بارزا فى أمور مكة حتى أحضر- أى المطلب- ابن أخيه هشام وهو عبد المطلب من المدينة التى كان قد توقف فيها مع أمه. وبعبد المطلب يبدو أن وضع العشيرة قد ازدهر مرة أخرى، فحفره لبئر زمزم الى جوار الكعبة أظهره رجلا ذا همة ومبادأة. ورغم أن زمزم أصبحت بعد ذلك هى البئر المركزية لمكة وأسهمت فى زيادة أهمية الحرم، فلا يبدو أن عمل عبد المطلب قد أظهر أنه كان زعيم مكة، رغم أنه ارتبط بحق تقديم الماء للحجاج (السقاية) ذلك الحق الذى كان قد ورثه عن أبيه من خلال عمه. وأفضل برهان يمكن تقديمه لمعرفة مكانته فى مجتمع مكة هو ما روى عن تزويجه لبناته. فصفية (أمها من عشيرة زهرة) تزوجت الابن الأول لحرب بن أمية (زعيم عبد شمس) وبعد ذلك عوام بن خويلد (من أسد) . وبالنسبة لبناته الاخريات، فان عاتكة (أمها من مخزوم) تزوجت أبا أمية ابن المغيرة (من مخزوم) وابنته أميمة تزوجت من جحش حليف حرب بن أمية، وأما أروى فتزوجت أولا عمير بن وهب ثم تزوجت رجلا من عشيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 عبد الدار، وتزوجت بره فى البداية من عبد رحم (من عشيرة عامر) ، ثم من أبى الأسد بن هلال (من مخزوم) وأم حكيم تزوجت من كريز من عبد شمس. ومعنى هذا أن عبد المطلب كان قادرا على تزويج بناته من بعض أفضل أسرات مكة وأكثرها قوة ونفوذا «1» . والقول بأن عبد المطلب، وحرب بن أمية كانا فى حالة تنافس على زعامة مكة قول مشكوك فيه مادمنا لا نجد تفاصيل عن ذلك فى المراجع، ويبدو هذا القول انعكاسا لمنافسات حدثت بعد ذلك (يعنى أن مؤرخى العصر العباسى أسقطوا الحاضر على الماضى- المترجم) ، بالاضافة الى أن علاقات الزواج بينهما تظهر انهما كانا على علاقة طيبة. والرواية المتعلقة بلقاء عبد المطلب بأبرهة أثناء حملة الفيل ربما تكون مقبولة بشكلها العام، لكن باعتبار أن عبد المطلب كان فى مفاوضته تلك ممثلا لمجموعة صغيرة لا متحدثا باسم مكة كلها. وربما كانت كثرة التفاصيل فى الروايات المختلفة بمثابة محاولات لتقديم دوافع أو مبررات لسياسة عبد المطلب، خاصة وأن حملة الفيل لم تسفر فى النهاية عن شىء، وانتهت نهاية فاجعة بانسحابها، ولا نستطيع أن نحكم ما اذا كان موقف عبد المطلب من حملة الفيل قد أثر فى نفوذه بمكة أم لا، لأنه مات بعد ذلك بوقت قصير*. على أية حال، فمعنى اتخاذه هذه السياسة من الحملة أن عشيرته أصبحت- نسبيا- فى وضع أسوأ. وانتقلت زعامة بنى هاشم وبنى المطلب بعد ذلك لفترة وجيزة الى الزبير بن عبد المطلب، وشهدت هذه الفترة حرب الفجار (بكسر الفاء) وحلف الفضول، ولم يكن الزبير بن عبد المطلب شخصية بارزة فى هذه الأحداث. وكان حلف الفضول بمثابة تجمع للعشائر الضعيفة، وقد لعب عبد الله بن جدعان (من تيم) دورا بارزا فى تشكيل هذا الحلف مادام الاجتماع قد عقد فى بيته، وقد كان عبد الله بن جدعان من بين شخصيات مكة البارزة فى بداية حرب الفجار «2» .   (1) ابن سعد، 8، 27- 31. * اذا كان الرسول قد ولد عام الفيل، فان وفاة عبد المطلب كانت بعد ذلك بثمانى سنوات- (المراجع) . (2) A.P.Cauasin de Perceval, Essai aur Phistoire des Arabes avant Islamiame, Paris, 1847- 8. 1, 300- 30 from Aghanl. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وشخصية أبى طالب أقل غموضا من شخصية الزبير بن عبد المطلب فقد أصبح أبو طالب زعيما للعشيرتين هاشم والمطلب لفترة بعد عقد حلف الفضول حتى موته قبل الهجرة بثلاث سنوات. ومع أن أبا طالب كان رجلا محترما كزعيم للعشيرة الا أن أمور عشيرته كانت- بشكل واضح- غير مزدهرة، وكان يشار اليه كراعى ابل فى الصحراء، وكانت هذه الاشارة عامرة بالازدراء «3» . ويبدو أن هذه الاشارات كانت لارضاء بنى العباسى فى الأساس، الذين كانوا يحسون بالغيرة من بنى هاشم. ونظرا لظروف الفقر المحيط بأبى طالب، أخذ محمد صلّى الله عليه وسلم ابنه عليا ليعيش معهم، ولا شك أن هذه الأوضاع راجعة فى جانب منها الى نقص كفاات أبى طالب، وفى جانب اخر لتدهور أحوال العشيرة، ذلك التدهور الذى كان قد بدأ قبل موت عبد المطلب مرتبطا باستدعائه لمقابلة أبرهة. وكان عبد الله والد محمد صلّى الله عليه وسلم أخا شقيقا لكل من الزبير وأبى طالب، وكان يعمل فى تجارة القوافل مع الشام كسائر أفراد الأسرة، ومات عن عمر صغير نسبيا فى المدينة وهو فى طريق عودته من رحلة تجارية الى غزة «4» ، وربما حدث هذا قبيل وقت قصير من ولادة محمد صلّى الله عليه وسلم. أما أم محمد صلّى الله عليه وسلم فهى امنة بنت وهب من عشيرة زهرة من قبيلة قريش، وكانت أمها من عشيرة عبد الدار وكان جدها لأمها من عشيرة أسد. وعلى هذا، فقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم مرتبطا برباط القربى بعدد من الأسرات الرئيسية فى مكة. وبشكل عام، فان الانطباع الذى نخلص به هو أن عشيرة محمد صلّى الله عليه وسلم أصبحت مرة أخرى فى الصدارة عند تناول أمور مكة، لكن قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم بثلاثة قرون كان نفوذها فى حالة تدهور، وأصبحت الان- قبيل البعثة- لا تعدو أن تكون عضوا بارزا بين مجموعة العشائر الضعيفة والفقيرة. ورغم أن أفرادا فى العشيرة استمروا فى العمل بالتجارة مع   (3) الأزرقى، تحقيق فستنفلد، 71، 4. (4) ابن سعد، 1، 1، 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الشام (أو على الأقل لم تكن مشاركتهم فى هذه التجارة بقدر كبير) لكن ربما لم يشاركوا بقدر كبير مع عبد شمس ومخزوم، وربما لأسباب تجارية فان عشيرة هاشم والمطلب كانت على استعداد للتصرف بغير ود ازاء هاتين العشيرتين الثريتين (عبد شمس ومخزوم) رغم أنه ربما كان هناك ما يشير الى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد اقترب منهما؛ اذ ان ابنته زينب تزوجت رجلا من عبد شمس (ابن خالتها) . 2- مولد محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وسنواته الأولى ولد محمد صلّى الله عليه وسلم فى عام الفيل- عام حملة أبرهة غير الناجحة على مكة، وكان ذلك فى حوالى سنة 570 م تقريبا. وكان ميلاده بعد وفاة أبيه، فكفله جده لأبيه عبد المطلب. وكان من عادة الطبقات العليا فى مكة أن تدفع بأبنائها الى حاضنات من القبائل البدوية حتى ينمو الطفل فى جو الصحراء النقى فيغدو قوى البنية. وهذا ما حدث مع محمد صلّى الله عليه وسلم طوال عامين أو أكثر، فقد رعته حليمة السعدية، وهى امرأة من بنى سعد ابن بكر من قبيلة هوازن. وتوالت الصعاب على الطفل اليتيم فماتت أمه وهو فى السادسة من عمره وبعد ذلك بعامين مات جده، فكلفه عمه أبو طالب الذى اصطحبه معه فى تجارته الى الشام، ونشبت حرب الفجار (بكسر الفاء) ومحمد بين الخامسة عشرة والعشرين من عمره، ويقال انه قام بدور صغير فى هذه الحرب الى جانب أعمامه. وربما كان حاضرا أيضا عند تشكيل حلف الفضول، وفى وقت لاحق (بعد البعثة النبوية) صرح محمد صلّى الله عليه وسلم أن هذا الحلف كان شيئا طيبا، وكان هدف الحلف هو اقرار مبادىء العدالة ضد الممارسات الظالمة لبعض القبائل القوية والغنية، وهو هدف قريب جدا من بعض جوانب تعاليم القران (الكريم) . تلك هى الحقائق الأساسية عن محمد صلّى الله عليه وسلم قبل زواجه، وذلك من وجهة نظر المؤرخين الذين يركزون على الحقائق الموضوعية (الدنيوية) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ومع ذلك فثمة جدال حول بعض هذه النقاط. وعلى أية حال، فهناك أيضا حكايات كثيرة تصوره على أنه كان شخصية ذات أبعاد غيبية theological character فى هذه المرحلة المبكرة من عمره. وهناك طائفة من المؤرخين الذين لا يؤمنون بالغيبيات يكادون يجزمون بعدم صحة هذه الروايات، لأنها تشير الى أمور من المنطقى أن نتوقع الاشارة اليها بعد أن أصبح نبيا، وهو ما لا نجد اشارة اليه. لكن المؤكد أن هذه الروايات تعبر عن شىء بالنسبة للمسلمين المؤمنين. وبالتالى فهى حقيقية بالنسبة لهم ومناسبة لاطالة حياة نبيهم، وربما كانت أيضا تعبيرا عما كان يمكن أن يراه كل ذى عينين ان كان حاضرا وقت حدوثها. وسيكون كافيا أن نقدم أشهر هذه الروايات بنص كلمات ابن اسحق: «كانت حليمة بنت أبى ذؤيب من بنى سعد، مرضعة رسول (صلّى الله عليه وسلم) تروى كيف كانت تبحث عن الرضعاء هى وزوجها وصبى لها صغير. خرجت من أرضها مع بعض نساء من بنى سعد بن بكر طلبا للرضعاء، قالت: كانت سنة شهباء* لم تترك شيئا، فخرجت على أتان** لى سمراء مصفرة*** ومعنا شارف**** والله ما تبض بقطرة***** وما ننام ليلنا ذلك أجمع من صبينا ذاك يبكى من الجوع، ما نجد فى ثديى ما يغنيه ولا فى شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك فلقد أذمت بالركب****** حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، فقدمنا مكة فو الله ما علمت منا امرأة الا وقد عرض عليها رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) فنأباه، اذا قيل انه يتيم تركناه وقلنا ماذا عسى أن تصنع الينا أمه، انما نرجو المعروف من أبى الولد، فأما أمه وجده فماذا عسى أن يصنعا الينا، فلم نكن نرغب فيه. فو الله ما بقى من صواحبى امرأة الا أخذت رضيعا غيره، فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق قلت لزوجى: والله انى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ليس معى رضيع، لأنطلقن الى   * جدباء ليس فيها مطر. ** أنثى ال؟؟ ار. *** فى رواية ابن اسحق قمراء يعنى بيضاء بياضا فيه كرة. **** ناقة مسنة هرمة. ***** ليس فيها قطرة لبن. ****** أتت بما يذم عليه من تخلف وتمهل- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ذلك اليتيم فلاخذنه، فقال: لا عليك أن تفعلى، فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة. فذهبت فأخذته، فو الله ما أخذته الا أنى لم أجد غيره، فما هو الا أن أخذته فجئت به رحلى فأقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب أخوه (تقصد ابنها) حتى روى، فأخذ كل منهما كفايته ثم ناما ولم نكن ننام من بكاء صبينا، وقام صاحبى الى شارفنا تلك فاذا انها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة فقال صاحبى حين أصبحنا: يا حليمة، والله انى لأراك أخذت نسمة مباركة فأجبته: والله انى لأرجو ذلك. ثم خرجنا راجعين الى بلادنا وركبت أتانى حاملة الصبى، فو الله لقطعت أتانى بنا الركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى ان صواحبى ليقلن: ويلك يا بنت أبى ذؤيب، انتظرينا، أهذه أتانك التى خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم والله انها لهى، فقلن: والله ان لها لشأنا. حتى قدمنا أرض بنى سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فان كانت غنمى لتسرح ثم تروح شباعا لبنا (بضم اللام وسكون الباء) فنحلب ما شئنا وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وان أغنامهم لتروح جياعا حتى انهم ليقولون لرعاتهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبى ذؤيب فاسرحوا معهم، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامى شباعا لبنا تحلب ما شئنا، فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين من العمر وفطمته، فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان، فو الله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا*، فقدمنا به على أمه ونحن أضن شىء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه قلت لها دعينا نرجع بابننا هذه السنة الاخرى فاننا نخشى عليه وباء مكة، فو الله ما زلنا بها حتى قالت نعم فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة، فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة فى بهم** لنا جاء أخوه ذلك يشتد، فقال: ذاك أخى القرشى جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه وهم يبحثون عن شىء بداخله، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائما منتقعا لونه، فاعتنقته واعتنقه أبوه وقلنا له: ما شأنك يا بنى، قال: جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض، أضجعانى وشقا بطنى ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه   * أى شديدا قويا- (المترجم) . ** جمع بهمة وهى أولاد الضأن والمعز والبقر، ولعل المراد هنا صغار الغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا. فقال أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب فانطلقى بنا نرده الى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف منه، فاحتملنا فقدمنا به على أمه، فقالت ما رد كما به يا ظئر*؟ فقد كنتما عليه حريصين، قلت: ان الله قد أدى عنا وقضينا الذى علينا وقلنا نخشى الاتلاف والأحداث، نرده الى أهله، فقالت: ما ذاك بكما فاصدقانى شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان؟ كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله انه لكائن لابنى هذا شأن، ألا أخبر كما خبره؟ قلنا بلى. قال حملت به فما حملت** حملا قط أخف منه، فأريت فى النوم حين حملت به كأنه خرج منى نور أضاءت له قصور بصرى فى الشام، ثم وقع معتمدا على يديه رافعا رأسه الى السماء، فاتركاه عنكما، وصاحبتكما السلامة الى بلادكما***. وقال ابن اسحق: حدثنى ثور بن يزيد عن أحد العلماء لا أظنه أحدا غير خالد بن معدان الخلاعى أن بعضا من أصحاب رسول الله (عليه الصلاة والسلام) قالوا له: أخبرنا عن نفسك قال نعم، أنا دعوة أبى ابراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام «5» ، ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام واسترضعت فى بنى سعد بن بكر، فبينما أنا فى بهم لنا خلف خيامنا أتانى رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوءة ثلجا، فأضجعانى فشقا بطنى ثم استخرجا قلبى   * أى يا مرضع. ** أى فما حملت امرأة حملا قط أخف منه، فحذفت كلمة امرأة جريا على عادة العرب فى فصاحتهم حيث يحذفون الكلمة المفهومة ضمنا فانه من المعروف والثابت فى جميع كتب السيرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس له اخوة لا أشقاء ولا من الأم، وأن كلا من أبيه وأمه كان بكرا حين تزوجا، وعلى هذا لا يمكن أن تكون التاء هنا للمتكلم وانما للغائب- (المترجم) . *** رواية ابن اسحق كما ذكرها ابن كثير فى البداية والنهاية مع اثبات الزيادات التى رواها المؤلف ولم ترد فى رواية ابن كثير. وهناك اختلافات بسيطة بين رواية ابن كثير ورواية المؤرخين الاسلاميين الاخرين- (المترجم) . (5) انظر سورة البقرة، 129 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبى وبطنى بذلك الثلج حتى اذا أنقياه رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزننى بعشرة فوزنتهم*، ثم قال: زنه بمئة من أمته، فوزننى بمائة فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزننى بألف فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم «6» **. قال ابن اسحق: ثم ان أبا طالب خرج فى ركب تاجرا الى الشام. فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب*** به رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) فيما يزعمون، فرق له أبو طالب وقال: والله لاخرجن به معى ولا أفارقه ولا يفارقنى أبدا، أو كما قال، فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام**** وبها راهب يقال له بحيرى فى صومعة له، وكان اليه علم أهل النصرانية، ولم يزل فى تلك الصومعة منذ قط راهبا*****، اليه يصير علمهم عن كتاب فيها، فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبا من صومعته، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك، فيما يزعمون، عن شىء راه وهو فى صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الركب حين أقبل وغمامة تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه، فنظر الى الغمامة حين أظلت الشجرة، وانهصرت****** أغصان الشجرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل اليهم فقال: انى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى ان لك لشأنا اليوم، ما كنت   * أى كان وزنى اثقل منهم- (المترجم) . ** قال ابن كثير: وهذا اسناد جيد قوى- (المترجم) . (6) ابن هشام، 103- 106. ***) أى تعلق به وأظهر الشوق- (المترجم) . **** وهى غير البصرة التى فى العراق- (المترجم) . ***** أى منذ زمن بعيد- (المترجم) . ****** أى اندفعت ومالت- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن اكرمكم واصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا اليه وتخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بين القوم لحداته سنه فى رحال القوم تحت الشجرة، فلما راهم بحيرى لم ير الصفة التى يعرف ويجدها عنده (فى كتابه) ، فقال: يا معشر قريش. لا يتحلفن احد منكم عن طعامى، قالوا: يا بحيرى، ما تخلف أحد ينبغى له أن يأتيك الا غلام وهو أحدتنا سنا فتخلف فى رحالنا، قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى ان كان للؤم منا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام اليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما راه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر الى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى اذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام اليه بحيرى وقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى الا اخبرتنى عما أسألك عنه، وانما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: لا تسألنى باللات والعزى شيئا فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له بحيرى: فبالله الا ما أخبرتنى عما أسألك عنه، فقال له: سلنى عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته (فى كتابه) ، ثم نظر الى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده (فى كتابه) . قال ابن هشام: كان مثل طبعة المحجم*. قال ابن اسحق: فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال له: ما هذا الغلام منك، قال: ابنى، قال: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فانه ابن أخى، قال فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال صدقت، ارجع بابن أخيك الى بلده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليمسنه منهم شر فانه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع   * كأس الحجام- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 به الى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام «7» *. 3- زواج محمد (عليه الصلاة والسلام) من خديجه يعتبر زواج محمد (عليه الصلاة والسلام) من خديجة بنت خويلد ابن أسد نقطة تحول فى الجزء الأول من حياته، وتقول الرواية التقليدية أن خديجة (رضى الله عنها) لما سمعت عن أمانة محمد (عليه الصلاة والسلام) وصدق حديثه وكرم أخلاقه، عرضت عليه أن يخرج لها فى مال تاجرا الى الشام، وكانت قد تزوجت مرتين وكان اخر زوجيها من بنى مخزوم، ولكنها كانت الان تتاجر فى مالها الخاص عن طريق عمال تستأجرهم. ولقد سرت خديجة (رضى الله عنها) بما فعل محمد (عليه الصلاة والسلام) وبلغ اعجابها بشخصيته أن عرضت عليه الزواج منها فوافق. ويقال انها كانت فى الأربعين من عمرها** فى ذلك الوقت. بينما كان محمد (عليه الصلاة والسلام) فى الخامسة والعشرين. ربما كان عمر خديجة مبالغا فيه، فقد ذكرت المصادر أسماء سبعة ولدتهم لمحمد (عليه الصلاة والسلام) ، وهم: القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله (الطيب) والطاهر «8» ، وقد مات الصبية جميعا صغارا، وحتى لو كان السبعة قد ولدوا فى سنوات متتالية كما يذكر أحد رواة ابن سعد، فان هذا يعنى أن عمرها (رضى الله عنها) كان قد بلغ الثامنة والأربعين قبل أن تلد الابن الأخير، وهذا أمر مستحيل   * رواية ابن اسحق كما ذكرها ابن كثير فى البداية والنهاية مع اثبات الزيادات التى أوردها المؤلف ولم يذكرها ابن كثير- (المترجم) . (7) ابن هشام، 115- 117. ** هذا قول حكيم بن حزام، ولكن ابن عباس رضى الله عنهما يقول ان عمرها كان ثمانية وعشرين عاما عندما تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، رواهما ابن عساكر- (المترجم) . (8) ابن سعد، ج 1/ 1، 85. (الصحيح أن أولاد الرسول ستة لا سبعة ابنان هما: القاسم وقد ولد قبل الاسلام، وبه كان الرسول يكنى والطاهر وقد ولد بعد الاسلام ويسمى أيضا الطيب وأربع بنات كما ذكر فى الأصل- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بأية حال*، ويعتبر أمرا غير عادى بالدرجة التى تجعله يستحق التعليق، بل انه من الأمور التى يمكن اعتبارها معجزة، ومع ذلك فلم ترد كلمة تعليق واحدة فيما كتبه هشام أو ابن سعد أو الطبرى. من وجهة نظر المجتمع المكى، كان محمد (عليه الصلاة والسلام) قد وضع قدمه على أول درجة على الأقل من درجات النجاح الدنيوى. وربما لم تكن خديجة (رضى الله عنها) من الثروة كما يقال عنها أحيانا، ولكننا نستطيع أن نفترض أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) قد أصبح لديه رأس مال يكفيه للحصول على نصيب متوسط من الأعمال التجارية «9» . ولا يعنى عدم وجود أخبار عن أنه سافر الى الشام مرة ثانية أنه لم يذهب، مع الوضع فى الاعتبار أنه من الممكن دائما أن يكلف اخرين بالاشراف على تجارته، كذلك يجب أن نتذكر دائما احتمال أن يكون التجار قد استبعدوه من مجالسهم، ومن معظم العمليات المربحة. ومع ذلك، فمن المحتمل أنه لم يستبعد تماما؛ لأنه كان قادرا على أن يزوج ابنته زينب لأحد أفراد عشيرة عبد شمس، هو ابن أخت خديجة (رضى الله عنها) ، والتى لا شك فى أنه كان لها دور بارز فى هذه الزيجة، كما أن خطبة ابنتيه الاخريين لابنى أبى لهب، الذى ربما كان ينظر اليه على أنه الزعيم التالى لبنى هاشم، تدل على أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) كان ينظر اليه أيضا على أنه أكثر شباب بنى هاشم رجاء.   * من المعروف طبيا أن المرأة التى عاشت حياة زوجية سليمة وتكررت ولادتها يمكنها أن تستمر فى الانجاب الى سن متأخرة. ولكن من المعروف طبيا أيضا أن المرأة المرضع لا تحمل عادة، وعلى هذا فان الفترة بين الحملين لمن تقل عن عامين حتى يتم فصال الطقل. فالقول بأن السيدة خديجة كانت تلد كل عام قول مشكوك فيه طبيا، والأقرب الى التصديق أن يكون كل عامين، فتكون الفترة التى أنجبت فيها الأبناء السبعة 14 عاما (السنة 12) فلو كانت تزوجت وهى فى الأربعين كما يقول حكيم ابن حزام لكان عمرها فى الحمل الأخير 54 عاما على الأقل وهو أمر مستبعد الى درجة كبيرة كما يقول المؤلف، وبذلك يكون قول عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن عمرها كان 28 عاما أقرب الى التصديق. والله أعلم- (المترجم) . ثم انها لو كان عمرها عند الزواج أربعين لما كان ينتظر أن تخطب لنفسها شابا عمره 25 سنة لأنه فى هذه الحال فى عمر أولادها، فما كان شرفها يسمح لها بذلك- (المراجع) . (9) الأزرقى، 20471- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فى الوقت الذى لا نستطيع فيه أن نتوقع أن تكون امرأة تاجرة من أهل مكة فى القرن السادس* غافلة عن العوامل المادية، فان لدينا الكثير من الأسباب التى تجعلنا نعتقد أن خديجة (رضى الله عنها) قد أدركت بعضا من قدرات محمد (عليه الصلاة والسلام) الروحية، وأنها انجذبت اليها. ومن المؤكد أنها لعبت دورا هاما فى الأوقات الحرجة من حياته؛ وذلك بتشجيعه على الاستمرار فى طريقه كنبى. بالاضافة الى ذلك، كان ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد رجلا ذا عقلية دينية دعته فى النهاية الى أن يكون مسيحيا «10» ، ويكاد يكون من المؤكد أن خديجة قد تأثرت به، وربما يكون محمد (عليه الصلاة والسلام) قد اكتسب بعضا من الاهتمام بنبواته. كانت الأعوام التى تبعت زواج محمد (عليه الصلاة والسلام) سنين اعداد للمهمة التى تنتظره. ومع ذلك، فليس لدينا من المعلومات ما يمكننا من اعادة تصور عملية الاعداد، وأفضل ما يمكننا عمله أن نستدل على هذه العملية مما حدث فيما بعد. فهناك مثلا ايات فى سورة الضحى يبدو أنها تشير الى تجارب محمد (عليه الصلاة والسلام) الأولى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) . من هذه الايات يمكننا أن نتصور أن احدى مراحل هذا الاعداد كانت معرفة أن يد الله تعينه بالرغم من المحن التى مرت به. وستأتى اشارات أخرى عن هذه السنين المجهولة فى سياق الحديث.   * يقصد الميلادى- (المترجم) . (10) انظر التذييل ج- (المؤلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 4- الدعوة للنبوة (أ) رواية الزهرى فى سن الأربعين، طبقا لما جاء فى كتب السيرة، بعث الله محمدا (عليه الصلاة والسلام) بالنبوة وبدأ نزول الوحى عليه. وأفضل بداية هى رواية الزهرى مع ذكر ما رواه عن الفترة أو انقطاع الوحى. ولم نذكر هذه الرواية هنا، كما فعلنا مع رواية ابن هشام، لنعطى تتابعا متسلسلا، وانما لنضم مقتطفات من المادة الأصلية كما وصلت للزهرى. ليس فى النص الأصلى كما وصل الينا تقسيم، وانما أدخلنا بعض التقسيم للتوضيح، وقد وضعنا هذا التقسيم فى الفواصل التى فى المادة التى كتبها الزهرى عند تغير الراوى. (أ) ... سمعت النعمان بن رشيد يروى عن الزهرى عن عروة عن عائشة (رضى الله عنها) أنها قالت: (أول ما بدىء به رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، وكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح) . (ب) ثم حبب اليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه (يتعبد؟) الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع* الى أهله ويتزود لذلك**، ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه*** الحق وقال: يا محمد، أنت رسول الله. (ج) قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) : (كنت واقفا فجثيت**** منه رعبا، فرجعت ترجف بوادرى***** فرجعت الى خديجة فقلت زملونى   * نزع الشخص الى أهله: حن اليهم واشتاق (المعجم العربى الأساسى) - (المترجم) . ** تقصد لهذه الخلوة- (المترجم) . *** جاء بغتة على غير موعد- (المترجم) . **** جثا: جلس على ركبتيه- (المترجم) . ***** البوادر جمع بادرة، هى لحمة بين المنكب والعنق- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 زملونى الى أن ذهب عنى الروع) . فجاءنى* فقال: (يا محمد، أنت رسول الله) . (د) قال (أى محمد عليه الصلاة والسلام) ، (لقد عزمت أن أتردى من رؤس شواهق الجبال) ولكنه ظهر لى وقال: (يا محمد، أنا جبريل وأنت رسول الله) . (هـ) ثم قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارىء (أو «ماذا أقرأ» ) ، قال (أى محمد عليه الصلاة والسلام) : (فأخذنى فغطنى** حتى بلغ منى الجهد ثلاث مرات ثم قال: «اقرأ باسم ربك الذى خلق» ) فقرأتها***. (و) ثم جئت خديجة فقلت: (ما لى؟ أى شىء عرض لى؟ وأخبرتها بأمرى) قالت: (أبشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدا، انك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدى الأمانة وتحمل الكل**** وتقرى الضيف) ***** وتعين على نوائب الحق) ******. (ز) ثم أخذتنى******* الى ورقة بن نوفل بن أسد وقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألنى فأخبرته بما رأيت، قال: هذا الناموس   * يقصد الملك- (المترجم) . ** أى خنقنى- (المترجم) . *** فى النص الذى رواه البخارى عن عروة عن عائشة رضى الله عنها تأتى هذه الفقرة (هـ) بعد قولها: ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء. فى حين أن الفقرة التد ذكرها المؤلف قبلها (الفقرة د) تصف الفترة التى انقطع فيها الوحى وهى بعد أحداث الفقرة هـ بزمن على ما أجمعت عليه معظم الروايات التى يعتد بها. ولسبب لا يعلمه الا الله عكس المؤلف ترتيب الأحداث ووضع الحديث الذى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتحدث فيه عن انقطاع الوحى قبل الفقرة التى تصف أول نزول الوحى- (المترجم) . **** أى تعطى صاحب العيلة (كثرة الأبناء) ما يريحه من ثقل مؤنة عياله (البداية والنهاية) - (المترجم) . ***** تكرم الضيف بالطعام والمأوى- (المترجم) . ****** تعين من وقعت له نائبة فى خير فتقوم مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش (البداية والنهاية) - (المترجم) . ******* يتجه أكثر العلماء الى أن السيدة خديجة هى واحدها التى ذهبت الى ابن عمها ورقة، وما كان الرسول ليذهب اليه فى مثل هذه الأحوال ليركن الى قول البشر- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الذى أنزل على موسى بن عمران، يا ليتنى فيها جذعا*، يا ليتنى أكون حيا حين يخرجك قومك، قلت: أو مخرجى هم؟ قال: نعم، انه لم يأت أحد بمثل ما جئت به الا عودى، وان يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا. (ح) كان أول ما نزل الى من القران بعد اقرأ: (ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) و: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) ، و: (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) «11» . (ط) قال الزهرى: ثم فتر الوحى عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) حتى حزن النبى (صلّى الله عليه وسلم) حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى بنفسه تبدى له جبريل فقال: (يا محمد، انك رسول الله حفا) فيسكن لذلك حاله وتقر نفسه فيرجع. (ى) كان النبى (صلّى الله عليه وسلم) يحدث عن فترة الوحى، قال: (فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى قبل السماء فاذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجثيت منه فرقا** حتى هويت الى الأرض، فجئت أهلى فقلت: زملونى زملونى) . (ك) فدثرناه فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) . (ل) أضاف الزهرى: كان أول ما نزل عليه من الوحى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، الى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (العلق 1- 5) «12» .   * شابا قويا- (المترجم) . (11) تاريخ الطبرى، 1147 وما بعدها. ** أى رعبا- (المترجم) . (12) الطبرى، 1155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ذكر الزهرى، المعروف ايضا بابن شهاب، رواية اخرى للفقرتين (ى) و (ك) تبدا هكذا: «قال جابر بن عبد الله الانصارى، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) يحدث عن فترة الوحى قال: فبينما أنا امشى» ، وتتجنب هذه الرواية تغير المتحدث من الفقرة (ى) للفقرة (ك) وذلك بقوله صلّى الله عليه وسلم: (فدثرونى) ، أى وضعوا دثارا على، وهذه الرواية لها أهميتها لأنها رواية عن جابر تجعل سورة المدثر هى أول الوحى* «13» . من الواضح أن الفقرات من (أ) الى (ح) متصلة الاحداث فى رواية الزهرى ولكن ليس من الضرورى أن تكون كلها عن السيدة عائشة (رضى لله عنها) ، وربما كان قطع ابن اسحق لرواية عائشة بعد أول جملة فى الفقرة (ب) بسبب تفضيله لروايات أخرى لما (بكسر اللام) تبقى ولا يعنى هذا بالضرورة انقطاع الأصل عند هذه النقطة، ومع ذلك فليس هناك فائدة كبيرة فى مناقشة هذا الاسناد. وبدلا من ذلك أقترح دراسة الأدلة العقلية لهذه الفقرات، وبالذات دراسة ما يمكن أن نسميه «السمات» المختلفة للروايات. (ب) رؤى محمد (عليه الصلاة والسلام) ليس هناك أى سبب وجيه يجعلنا نتشكك فى النقطة الأساسية فى الفقرة أ، وهى أن بداية النبوة كانت «الرؤيا الصادقة» ، وهذه الرؤى تختلف تماما عن الأحلام، وقد ذكرت الرؤى أيضا فى الفقرتين (ب) و (ى) [بصرف النظر عن ظهور جبريل فى (د) و (ط) ] . ويؤكد ما ورد فى (أ) ما نعرفه من سورة النجم، ولكن يمكن أيضا معرفته من ملاحظات محمد (عليه الصلاة والسلام) . وقد ذكرت رؤيتان فى القران:   * عن جابر رضى الله عنه: سمعت رسول الله يحدث عن فترة الوحى، فسورة المدثر أول ما نزل بعد فترة انقطاع الوحى، أما أول ما نزل من القران فى غار حراء فكان كما ثبت فى صحيح البخارى عن السيدة عائشة أنها بداية سورة العلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» الى قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - (المترجم) . (13) الطبرى 1155 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ... ) . (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) «14» . والتفسير المعتاد لهذه الايات عند المسلمين أن المرئى كان جبريل، ولكن هناك أسبابا تدعونا الى أن نظن أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) قد فسرها فى الأصل على أنها رؤية لله ذاته، فان جبريل لم يذكر فى القران الا فى المدينة، والتعبير «عبده» فى الاية 10 لابد أنه يعنى عبد الله كما يجمع المسلمون، ولكن ذلك يجعل التركيب اللفظى غير منسجم الا اذا كان الله هو المعنى بالأفعال*. كذلك فان الجملة التى فى نهاية الفقرة (ب) وهى قول الزهرى: «حتى فجأه الحق وقال ... » لها أهمية مشابهة، لأن كلمة «الحق» من أساليب الاشارة الى الله**، وكذلك يمكننا أن ننظر الى الفقرة (ج)   (14) السورة 53/ 1- 18. * ليس هناك خلاف بين المسلمين فى أن رؤية الله عز وجل فى الدنيا مستحيلة. ** الحق من أسماء الله الحسنى. ولكن كلمة «حق» لها معان متعددة من أراد معرفتها فليرجع الى أحد قواميس اللغة العربية، مثل لسان العرب أو المعجم العربى الأساسى. ومن معانيها التى تهمنا فى هذا المقام: هو الشىء الثابت الذى لا شك فيه مثل قول الله عز وجل: (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) . فقول السيدة عائشة: «حتى فجأه الحق وقال..» يعنى فجأه الأمر الحق الذى ليس فيه شك وهو الوحى من الله، كما أنه قال: (يا محمد أنت رسول الله) ولو كان الذى جاءه هو الله كما يظن لقال: (أنت رسولى) . وفى رواية البخارى عن السيدة عائشة أنها قالت: (حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء فجاءه الملك فقال ... ) فهذه الرواية لحديث السيدة عائشة، وهو نفس الحديث الذى رواه الزهرى بصيغة مختلفة وأورده المؤلف، دلالة واضحة على معنى كلمة «الحق» لأنها قالت: «فجاءه الملك» . فالحق هنا كما قال ابن حجر العسقلانى فى شرحه لصحيح البخارى هو (الأمر الحق) ، أو كما قال اخرون هو (الدين الحق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بنفس الطريقة، لأن النص يقول: «فجاءنى وقال» ، وكذلك فان بعض روايات جابر فى شرح سورة النجم تقول، على لسان محمد (عليه الصلاة والسلام) : «فنوديت فنظرت بين يدى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى فلم أر شيئا ثم نظرت الى السماء فاذا هو على العرش..» «15» *. ربما كان هذا هو تفسير محمد (عليه الصلاة والسلام) الأصلى لهذه الروايات**، الا أنها لم تكن بأية حال التفسير النهائى، لأنه يتناقض مع ما ورد فى سورة الأنعام، الاية 103: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» ***، ومع ذلك، فان سورة النجم، بالرغم من أنها تحتمل هذا التفسير، الا أنه يمكن أيضا النظر اليها بطرق أخرى، فان التعبير «مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» لا تعنى رؤية الله بالطبع، ولكن يمكن فهمها على أنها تعنى أن ما راه محمد (عليه الصلاة والسلام) كان علامة أو رمزا لمجد الله وجلاله. كما توحى الاية 11 «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى» والتى   (15) صحيح البخارى، وانظر أيضا A.Bell ,Mohammads Call ,in MW ,xxiv ,1934 ,pp. 13 -19.: وانظر أيضاNoldeke -Schwally ,1 ,23 Ahrens ,Mihammad ,39 f.: * لم يقل أحد من المسلمين المتقدمين والمتأخرين أن قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم «هو» مقصود به الله. فاذا كان «هو» من أسماء الله الحسنى، فانه فى نفس الوقت ضمير اشارة للغائب. وفى رواية أخرى لجابر بن عبد الله يقول فيها نقلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض» وهى تدل صراحة على أن الذى راه الرسول عليه الصلاة والسلام هو جبريل وليس الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. ** هذه الروايات عن بدء الوحى وظهور جبريل عليه السلام للرسول عليه الصلاة والسلام ليست رؤى منامية كما يشير اليها المؤلف وانما كانت فى اليقظة لأنها لو كانت رؤى منامية لما فزع منها رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما ذكر. *** يتحدث المؤلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما لو كان يفسر القران برأيه هو، ونسى أنه قال منذ أسطر قليلة ان سورة النجم تقول: (وما ينطق عن الهوى. ان هو الا وحى يوحى) . ولم يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من تكلم فى القران برأيه فأصاب فقد أخطأ (رواه أبو داود والترمذى والنسائى) . وقال أيضا: من قال فى القران بغير علم فليتبوأ مقعده من النار (رواه أبو داود) . ولم يرد فى أى من التفاسير التى رجعت اليها وهو تفسير القرطبى والفخر الرازى والألوسى وابن كثير أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد فسر ايات سورة النجم على أن المرئى هو الله ثم عاد فأنكر ذلك- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ربما أضيفت فيما بعد* «16» ، بتطور اخر فى هذه النظرية، بمعنى أنه بينما أدركت العينان العلامة أو الرمز، أدرك القلب الشىء المرموز. فاذا كان محمد (عليه الصلاة والسلام) قد فسر الرؤية فى البداية على أنها رؤية الله مباشرة، فان هذا يتضمن أنه بالرغم من أن تفسيره لم يكن دقيقا تماما الا أنه لم يكن مخطئا فى الأساسيات**، وربما كان يحسن بنا أن نترجم الاية بحيث نقول: «لم يخطىء القلب فيما رأى الانسان» . وبهذه الطريقة يمكننا أن نتفادى أن يكون المرئى هو جبريل***، وهو أمر مخالف للتاريخ، كما يمكننا أيضا أن نتفادى التناقض مع النظرة الاسلامية فى أن محمدا لم ير الله «17» . هذا التفسير المنهجى للرؤية ليس له أهمية كبيرة بالنسبة لحياة محمد (عليه الصلاة والسلام) بقدر ما له أهمية فى تطوره الدينى. وسنتناول ذلك عند حديثنا عن «أنت رسول الله» . (يرى كارل ارنز Karl Ahrens «18» أن التعبير «رَسُولٍ كَرِيمٍ» (التكوير، 19) هو الذى ذكر من قبل باسم «الروح» . ويدلل   Bell ,translation of Quran ,od hoc. (16) * من المعروف أن القران نزل منجما، أى متفرقا، على مدى ثلاث وعشرين سنة هى مدة بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. لهذا، فان الايات التى تضهما سورة واحدة قد تكون نزلت على فترات زمنية طويلة. وهناك من السور المكية ما فيه ايات مدنية والعكس. وفى سورة النجم- وهى مكية- اية نزلت فى المدينة هى قول الله عز وجل: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ..» الاية (الاية 32) . ولكن لم يرد فى طبعات المصاحف القديمة ولا فى التفاسير التى رجعت اليها ما يشير الى أن الاية 11 بالذات وهى قول الله عز وجل: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى» قد أنزلت فى وقت لاحق لنزول الايات العشر التى سبقتها، وقول المؤلف «ربما أضيفت فيما بعد» يدل على عدم التأكد من هذا الزعم الذى نقله عن ترجمة بل Bell للقران كما ذكر فى هامش كتابه- (المترجم) . ** هذا الكلام مرفوض اسلاميا جملة وتفصيلا للأسباب التى ذكرت فى التعليقات السابقة- (المترجم) . *** المعول عليه هو النص العربى، لا الترجمة الانجليزية التى قد لا تكون دقيقة- (المترجم) . (17) حديث عن عائشة فى صحيح البخارى، 65 فى 53/ 1. Muhammad ,41. (18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 على ذلك بأنه لا ذكر لاسم جبريل فى السور المكية وانما ذكرت «الملائكة» بالجمع فقط مثل «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها» (القدر، 4) ، وأيضا «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» «الشعراء، 193) ، وهذا الرأى يتوافق مع وجهة النظر التى ذكرتها هنا) . (ج) الاختلاء فى حراء، التحنث ليس هناك ما يدعو الى الشك فى أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) كان يذهب الى حراء، وهو تل على مسافة قريبة من مكة، سواء كان ذلك مع عائلته أو بدونها. وربما كان ذلك وسيلة للهروب من حرارة مكة فى موسم متعب لمن كانوا لا يستطيعون الذهاب الى الطائف*، وتبين التأثيرات اليهودى- مسيحية مثل الرهبان، أو بعض التجارب الشخصية، الحاجة والرغبة فى العزلة. المعنى الدقيق لكلمة التحنث، وكذلك اشتقاقها، غير مؤكد بالرغم من أنه من الواضح أنها تعنى نوعا من الرياضة التعبدية، وربما كان أفضل الاراء هو ما ذكره هـ. هيرشفيلد «19» H.Hirschfeld أنها مشتقة من الكلمة العبرية تحنوت أو تحنوث، والتى تعنى التعبد لله. ومع ذلك فربما تأثر المعنى بالأصل العربى، فان كلمة حنث (بكسر الحاء وسكون النون) تعنى الرجوع فى قسم أو عدم القدرة على الوفاء به، وذلك يعتبر بصفة عامة خطيئة. وبالتالى فان كلمة «تحنث» تعنى «فعل ما يخرج به من الخطيئة أو الجريمة» ، وهكذا قد يكون استخدام كلمة «تحنث» هنا دليلا على أن مادتها قديمة وأنها بهذا المعنى أصيلة «20» .   * ذكر ابن اسحق عن عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان بن العلاء بن حارثة قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج الى حراء فى كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من نسك قريش فى الجاهلية، وكذلك روى عن عبد الله بن الزبير مثل ذلك. مما يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين فى قريش أنهم يجاورون فى حراء للعبادة- (المترجم) . (19) New researches into the Composition Exegesis of the Quran.London, 1902, p.10.Supported by C.J.Lyall in JRAS, 1903, p.780. (20) وهذا يناقض رأى كيتانى Caetani ,Ann ,i ,p. 222 ,n. 2.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ربما نستطيع أن نتصور هذا الملخص لما حدث قبل النداء الاول لمحمد (عليه الصلاة والسلام) وما نزل فيه من الوحى. لا شك أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) كان مدركا منذ شبابه لبعض المشاكل الاجتماعية والدينية فى مكة. ولا شك أيضا أن وضعه كيتيم جعله أكثر ادراكا للانحرافات التى فى المجتمع. ومن الناحية الدينية، يمكننا أن نفترض أنه كان يدين بالتوحيد المبهم الذى كان عليه أغلب المتنورين من أهل مكة. ولكن لا بد أنه كان، بالاضافة الى ذلك، يتطلع الى نوع من الاصلاح فى مكة. وكان كل شىء حوله يوحى بأن هذا الاصلاح يجب أن يكون دينيا، وفى هذا الاطار الفكرى كان من الواضح أن يتعمد محمد (عليه الصلاة والسلام) السعى الى الواحدة ليلجأ الى الأمور الالهية ويؤدى بعض العبادة، ربما طلبا للتكفير عن الخطايا. وربما سبقت بعض الممارسات الدينية هذه (الخلوة) ولكننا لا نعرف شيئا عنها. وتذكر الروايات التقليدية أن الرؤى أتت أثناء الخلوة، ولكن التواريخ المقارنة للأحداث المختلفة فى بعثة محمد (عليه الصلاة والسلام) ليست مؤكدة بصفة عامة. فأحيانا يقال ان الظهور* لم يكن متوقعا، وفى أحيان أخرى يبدو أن خديجة (رضى الله عنها) ، لم تكن بعيدة**. (د) «أنت رسول الله» وردت جملة «أنت رسول الله» أربع مرات فى الفقرات (ب) ، (ج) ، (د) ، (ط) من حديث الزهرى. قالها جبريل فى المرتين الأخيرتين، وفى المرة الأولى قالها «الحق» ، وفى الثانية ذكر بصيغة الغائب «فجاءنى» ، وتختلف الملابسات فى الحالات الأربع، فهل هذه مجرد روايات أربع لحادثة واحدة ولكن اختلفت الألفاظ بطريقة أو أخرى؟ ونظرا لأن جبريل لم يذكر فى القران الا بعد فترة طويلة، فان ذكره فى   * يقصد ظهور الملك للرسول عليه الصلاة والسلام- (المترجم) . ** يقصد لم تكن بعيدة عن توقع ما حدث للرسول عليه الصلاة والسلام- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 هذه المرحلة المبكرة مشكوك فيه*. ظاهريا يمكننا أن نصنف هذه الأخبار صنفين على الأقل: (ب) وربما معها (ج) تصفان النداء الأصلى له بأنه رسول، بينما يبدو أن (د) ، (ط) كانا تأكيدين لذلك ليطمئن فى وقت كان فيه قلقا. اذا كانت الفقرة (ب) تشير الى النداء الأصلى، فما العلاقة بينها وبين الرؤى؟ لقد جاء وصف الرؤية الأولى فى سورة النجم فى اية تفند اعتراضات معينة أثارها أهل مكة ضد الموثوقية فى الوحى الذى نقله محمد (عليه الصلاة والسلام) اليهم، ومعنى ذلك أنه كان قد أعلن بعض ما أوحى به اليه على الأقل وربما أكثر. فالحديث عن الرؤية فى هذا السياق يبين أنه لابد أن يكون للرؤية علاقة بتلقى الوحى، ومع ذلك فليس هناك ما يدل على أن الرؤية قد صاحبها تلقى ايات معينة، بل اننا اذا ناقشنا أكثر من ايتين نجد أن ذلك مستحيل. ويبدو أن النتيجة العامة للرؤية شىء أكثر عمومية مثل التأكيد على أن هذه الايات كانت رسائل من الله. وربما التأكيد أيضا على أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) قد أمر باعلانها، وهذا يعنى الافتراض المسبق بأن محمدا (عليه الصلاة والسلام) قد تلقى الوحى بالفعل عدة مرات. ولكنه لم يكن واثقا من حقيقة طبيعة هذه الكلمات التى جاءت اليه، أما الان فقد أخبر بذلك وجاءه التأكيد. أو يمكننا أن نعتبر الرؤية نداء كى يلتمس الوحى، وربما كان محمد يعرف شيئا عن طرق استقرائه**. ولكن الرأى الأول أكثر احتمالا بصفة عامة، ويتفق مع هذا الرأى وجهة النظر «21» التى تقول   * الحديث الذى يشير اليه المؤلف رواه الزهرى عن السيدة عائشة رضى الله عنها. والسيدة عائشة لم ترو الأحاديث عن رسول الله الا بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم أى بعد 23 عاما من الأحداث التى يعلق عليها المؤلف، وهى مدة كافية لأن يعلم الرسول أن الملك الذى جاءه فى حراء كان جبريل، وبالتالى يخبر السيدة عائشة بهذا الخبر الذى روته عنه. فليس هناك اذن أى ارتباط بين عدم ذكر اسم جبريل فى السور الأولى من القران وبين ذكره فى هذا الحديث، لأن الفاصل الزمنى بينهما طويل. ** عندما انقطع الوحى عن الرسول صلّى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا وكاد يقتل نفسه كما سبق أن أورد المؤلف (لا داعى للادعاء بأنه كاد يقتل نفسه، فالرسول لا يفكر فى هذا الاتجاه) ، ومعنى هذا أن الوحى يأتيه فجأة- (المترجم) . Mohammeds Visions.R.Bell. (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ان ما ألهم به أو أوحى اليه به كان «الخط العملى للهدى» الذى كان يتبعه بالفعل. فاذا كان الهدف من الرؤية شيئا عاما، فان هذا يناسب تماما الفقرة ب. من المحتمل أن تكون الكلمات «أنت رسول الله» لم تكن كلاما خارجيا، بل ربما لم تكن حتى كلاما تخيليا، وانما كلام ذهنى، بمعنى أنه لم يسمع بأذنيه ولا حتى تخيل نفسه يسمع، وانما كانت هذه الكلمات نوعا من الاتصال الذى أتاه من غير كلمات «22» . بل ربما صيغت الكلمات بعد الرؤية الفعلية بزمن طويل. هل يمكن تكرار مثل هذه التجربة؟ ان ذلك ليس مستحيلا. وربما يتضمن الاقتران بين رؤيتين فى سورة النجم بعض التشابه فى المضمون، ومن ناحية أخرى لم يذكر الوحى فى الرؤية الثانية وانما ينظر اليها دائما على أنها تشير الى الجنة. لا تقدم الفقرات (ج) ، (د) ، (ط) الكثير من المساعدة. فالأخيرتان لا تعتبران نداء لمحمد (عليه الصلاة والسلام) بقدر ما أنهما اعادة التأكيد له وتذكيره بالنداء الأصلى. ومن الطبيعى أن نفترض أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) كان يتذكر الرؤية الأولى فى الأوقات التى كان يشعر فيها باليأس. وربما كان التفكير فيها يلمع فى عقله فى اللحظات الحرجة ويعزوها الى قوة عليا، ومهما كانت الحقائق حول هذه الذكريات فانها ليست فى أهمية التجربة الأصلية. (هـ) «اقرأ» هناك روايات عديدة لحديث نزول الوحى بسورة العلق، ذكرت احداها فى الفقرة هـ المروية عن الزهرى. فى هذه الرواية نفهم قول محمد (عليه الصلاة والسلام) «ما أقرأ» ردا على قول الملك «اقرأ» على أنه يعنى «لا أستطيع القراءة» ، ويؤكد ذلك الرواية الاخرى التى تقول: «ما أنا بقارى» «23» (لا أستطيع القراءة) وتمييز ابن هشام   (22) انظر القسم الخامس وكتاب Graces of Interior Prayer للمؤلف بولان، A.Poulain لندن 1928، صفحة 299. (23) البخارى، 65، وسورة العلق (96) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 بين «ما اقرأ» و «ماذا اقرأ» حيث لا يعنى التعبير الأخير الا «ماذا سأقرأ» ، وهذا المعنى أيضا هو المعنى الأكثر ملاءمة للتعبير «ما أقرأ» . ويكاد يكون من المؤكد أن أهل الحديث المتأخرين قد تجنبوا المعنى الطبيعى لهذه ألكلمات ليعززوا ألاعتقاد بأن محمدا (عليه الصلاة والسلام) لم يكن يستطيع الكتابة، وهذا الاعتقاد جزء من اثبات الطبيعة المعجزة للقران. وتتطلب رواية الحديث عن عبد الله بن شداد فى شرح الطبرى «24» . اذا كان المتن صحيحا، ان تؤخذ كلمة «ما» بمعنى «ماذا» لأنها مسبوقة بحرف «الواو» *. تنتمى كلمتا «قرأ» و «قران» الى مجموعة المفردات الدينية التى أدخلتها المسيحية فى شبه الجزيرة العربية، فكلمة قرأ تعنى «تلا بوقار نصا مقدسا» ، وأما كلمة «قران» فهى الكلمة السريانية «كريانا queryana التى تعنى «القراءة» أو «درس من الكتاب المقدس» «25» **. ونستطيع أن نفترض أن الفعل «اقرأ» يعنى فى هذه السورة «اتل من الذاكرة» ، أى ما قد بلغ اليه بأسلوب خارق للطبيعة. لمن يتلو محمد (عليه الصلاة والسلام) وفى أية مناسبة؟ لم تناقش الأحاديث هذا السؤال بوضوح. والتفسير الأكثر ملاءمة أن يتلو محمد (عليه الصلاة والسلام) ما أتاه كجزء من صلاته لله (عز وجل) . وهذا المعنى يطابق الاستخدام السريانى للكلمة كما يؤكده أن المسلمين لا زالوا يقرؤن سورة أو سورا فى صلاتهم أو عبادتهم. ويلاحظ فى رواية عبد الله   (24) الجزء 30، الصفحة 139، وتختلف قليلا عما ورد فى الحوليات، الجزء 1، الصفحة 1148. (المؤلف) . * ان واو العطف هنا عطفت (ما) على كلمة تعنى (ماذا) وبالتالى أصبح معنى (ما) أيضا هو (ماذا) وجعل لها مقابلا انجليزيا هو.What ** اللغة العربية من ضمن مجموعة اللغات السامية، وهذا التشابه فى الكلمات من باب (المشترك) بين اللغات السامية ولا يعنى بالضرورة أن لغة أخذت من الاخرى، أما عن تأثير المسيحية واليهودية فى العرب قبل الاسلام فقد كان لكلا الدينين وجود. وكان بعض العرب على المسيحية أو اليهودية، وقد تعرض القران الكريم لهذه الأديان. Bell ,Origin ,90 f.Noldeke -Schwally ,i ,82. (25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ابن شداد المشار اليها سابقا، أن الاجابة على السؤال: «ماذا أقرأ؟» لم تكن كما وردت فى معظم الروايات الاخرى «اقرأ باسم ... » وانما «بسم ... » فقط، هل يمكن أن يكون ذلك ارهاصا* بالبسملة؟ لا توجد اعتراضات ذات قيمة لما اتفق عليه العلماء المسلمون من أن هذه السورة هى أول ما أوحى من القران. ولا توجد ايات يمكنها أن تعارض سورة العلق بأية فرصة من النجاح «26» ، ومن الطبيعى أن نتوقع أن الأمر بالعبادة هو أول ما يأتى بالنظر الى الاتجاه العام للرسالة الأساسية للقران «27» . وجه الأمر «اقرأ» الى محمد (عليه الصلاة والسلام) واحده، وبالرغم من أنه لا توجد صعوبة فى أن يتسع الأمر ليشمل أتباعه الذين يقتدون به، الا أننا نستطيع أن نتصور أن مبدأ وجود أتباع له لم يخطر بباله عندما أوحيت اليه هذه السورة، أى أنها قد تنتمى الى مرحلة سبقت دعوته للاخرين. كما لا نستبعد، بالطبع، امكان تلقى محمد (عليه الصلاة والسلام) لرسائل أخرى لم يعتبرها من القران، مثل «أنت رسول الله» التى وردت فى الحديث. (و) سورة المدثر، الفترة هناك حديث عن جابر بن عبد الله الأنصارى أن الايات الأولى من سورة المدثر كانت أول الوحى، وقد يبدو ذلك مناسبا لأن فيها «قم فأنذر» ، وهذا القول يبدو كما لو كان أمرا للقيام بمهمة الرسول، وكان يمكن أن تكون هذه الايات أول الوحى لو أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) قد بدأ الدعوة العلنية فجأة وبدون فترة اعداد، ولكن لو وجدت هذه الفترة الاعدادية، وكان فيها وحى، فان هذا يعنى أن سورة المدثر لا يمكن أن تكون أول الوحى، ولقد رأينا أن «اقرأ» لا تستلزم بالضرورة الدعوة العامة. ولكن من ناحية أخرى، فان استمرار وجود هذا الحديث، بالرغم من الاتفاق العام منذ زمن بعيد أن سورة العلق هى أول   * ارهاصات: اشارة غيبية تصدق فيما بعد (المغنى الكبير- (المترجم) . Bell ,Origin ,90 f ;Cf.Noldek -Schwally ,i ,82. (26) (27) انظر الفصل الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الوحى*، يعطى احساسا بأن فيه قدرا من الحقيقة، وأكثر الاراء احتمالا أنها تحدد بداية الدعوة العلنية. هناك دلائل قوية فى الأحاديث على أن هناك تميزا بين الدعوة العلنية** والدعوة السرية. كتب ابن اسحق «28» : «ثم أمر الله نبيه، بعد ثلاث سنين من البعثة، بأن يعلن ما جاءه منه وأن يسمع الناس كلمة الله ويدعوهم اليها» . وقد أخبرنا فى موضع اخر أن الوحى كان يبلغ الى محمد (عليه الصلاة والسلام) على لسان اسرافيل لمدة ثلاث سنين قبل السنين العشر التى كان الوحى يأتيه فيها على لسان جبريل «29» ***. وتوصف بداية السنين الثلاث أحيانا بمجىء النبوة وبداية السنين العشر بمجىء الرسالة «30» . ونظرا للاجماع الكبير على هذا الحديث والاحتمال القوى لصحته، يمكننا أن نقول انه كان هناك فرق بين المرحلتين اللتين مرت بهما دعوة محمد (عليه الصلاة والسلام) ، وأن التواريخ الواردة صحيحة تقريبا، ولكن من الصعب أن نقول ما طبيعة الفرق بالضبط، لأن المسلمين الأوائل دخلوا فى الاسلام، كما يقال، فى الفترة الأولى.   * يتجه المفكرون المحدثون الى الجزم بأن ايات سورة العلق كانت أول ما نزل من القران الكريم، ولم يفهم الرسول منها ماذا يطلب منه حتى نزلت سورة المدثر وفيها أمر بأن يبدأ الدعوة (قم فأنذر) فشرحت سورة المدثر ما كان خافيا- (المراجع) . ** الصحيح أن الدعوة العلنية بدأت عندما نزل قوله تعالى «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (سورة الحجر، الاية 94) - (المراجع) . (28) أ. هـ.، 166، وأيضا حوليات الطبرى 1169 (المؤلف) . (29) الطبرى، 1248 وما بعدها. *** قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن أبى عدى عن داود بن أبى هند عن عامر الشعبى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشىء ولم ينزل القران، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القران على لسانه عشرين سنة، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة- (المترجم) . Caetani.Ann.i. 218 -220. (30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يزيد الأمر تعقيدا بوجود الفترة، أو انقطاع الوحى، كما ذكرنا فى الفقرة (ط) ، واذا قارنا ما ذكر فى الفقرتين (ى) و (ك) مع رواية الزهرى عن جابر «31» برواية نفس الحديث عن جابر التى رواها يحيى ابن أبى كثير «32» ، يبدو واضحا أن الزهرى قد أدخل «الفترة» ليوفق بين هذا الحديث والقول بأن سورة العلق كانت أول ما جاء. ومع ذلك، فان هناك دليلا اخر على حدوث «الفترة» ، فان ابن اسحق يجعلها قبل نزول سورة الضحى «33» *، واحتمالات حدوث مثل هذه التجربة أمر قائم، ولكن من غير المحتمل أن تكون قد استمرت ثلاث سنين كما يقال أحيانا، وربما كان هذا الرقم نتيجة للبس بين هذه الفترة وفترة الدعوة السرية. وتشير هذه الاعتبارات الى أنه ربما كانت هناك فترة انقطاع فى ممارسة محمد (عليه الصلاة والسلام) الدينية، ولا يعتبر ظن الزهرى (والذى اخذ به) أنها كانت قبل بدء الدعوة العامة مباشرة دليلا قويا؛ ولكنها محتملة جدا. تؤخذ كلمة «مدثر» عادة على أنها تعنى «مغطى بدثار» (أو دثار) (بدال مفتوحة) ، فاذا كان هذا المعنى صحيحا فان فعل ذلك له علاقة ما بتلقى الوحى، فربما يكون ذلك لحث الوحى أو، وهو الأكثر احتمالا،   (31) الطبرى، 1155 وما بعدها. (32) ابن هشام، 156. (33) ابن هشام، 156. * ورد ذكر فترة انقطاع الوحى فى أحاديث رواها البخارى عن السيدة عائشة (وهو الذى رواه أيضا الزهرى ويتناوله المؤلف بالدراسة والتحليل) وابن شهاب عن جابر بن عبد الله ونصه: (قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحى فقال فى حديثه (يعنى الرسول عليه الصلاة والسلام) : بينا أنا أمشى اذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى فاذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملونى زملونى فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ... الايات من 1- 5 من سورة المدثر. فحمى الوحى وتتابع. نرى من هذا الحديث أن جابرا رضى الله عليه عندما قال ان أول ما نزل من الوحى هو أول سورة المدثر كان بعد فترة انقطاع الوحى وليس أول ما نزل مطلقا، وذلك مطابق لما ورد فى الروايات الاخرى من وقوع فترة انقطاع الوحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 لحماية المتلقى الادمى من خطر التجلى الالهى «34» *، ومن ناحية أخرى طورت ألفاظ معينة- بشكل مجازى- فكرة (التغطية) فأصبحت تطلق على شخص غامض أو غير مشهور. وهذا المعنى لا ينطبق على محمد صلّى الله عليه وسلم، فهو وفقا لمعايير أهل مكة لم يكن- نسبيا- شخصا قليل الأهمية. هذه الصورة التى كوناها توضح اذا ما سقنا هذه التفاصيل غير المؤكدة فى سياق واحد- أن مسار الأمور كان كالتالى أو شيئا قريبا منه: كانت هناك مرحلة يمكن أن نطلق عليها مرحلة الاعداد (اعداد محمد صلّى الله عليه وسلم لتحمل مهام النبوة) ، وقد استمرت هذه المرحلة ثلاث سنين، وفى هذه المرحلة كان قد بدأ يتلقى وحيا من نوع ما. وفى الأحاديث التى ورد فيها ذكر اسرافيل ما يفيد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان يسمع صوتا ولا يرى جرما «35» **، ويمكن أن نرجع القسم الأول من سورة العلق وسورة الضحى الى هذه المرحلة، وقد يكونان (جزا سورة العلق والضحى) أيضا من نوع الوحى ذى الطبيعة الخاصة (الموجه لمحمد صلّى الله عليه وسلم خاصة) الذى لم يعتبره محمد صلّى الله عليه وسلم جزا من القران الكريم (كيف هذا؟ هذه غير مفهومة، واذا كان الأمر كذلك فلم نجد ايات السورتين فى مصاحفنا؟ - المترجم) . وعند نهاية هذه السنين الثلاث، كانت الفترة (وهو المصطلح الذى يعنى انقطاع الوحى) ، وقد يكون الانتقال من خصوصية الوحى (أى توجيهه للرسول صلّى الله عليه وسلم دون تكليفه بابلاغه) الى عموميته (أى توجيهه لمحمد صلّى الله عليه وسلم وتكليفه بابلاغه الى أهل مكة) هو الوقت المناسب للرؤى، ففى هذه الفترة الانتقالية خاطب الوحى محمدا صلّى الله عليه وسلم باعتباره (رسول الله) ، وفى هذه المرحلة الانتقالية نزلت سورة المدثر (رغم أن ارتباطها بالرؤى فى الروايات المتداولة لا يعد برهانا كافيا بسبب الانفصال الذى يحول بيننا وبين فهم طبيعتها المركبة) ويمكن للمرء أن يتوقع أن محمدا صلّى الله عليه وسلم تكلم فى المسائل الدينية مع أصدقائه المقربين خلال فترة الاعداد، لكنه أمر غريب   (34) انظر نولدكه- شفالى، 1، 9؛ وفلهاوزن. 135 Reste * لا هذه ولا تلك، فالوحى لا يستحث ولا يستحضر برغبة الانسان، ولو كان الأمر بهذه البساطة لما حزن الرسول عليه الصلاة والسلام لانقطاع الوحى. أما الاحتمال الثانى، فهو بعيد لأن الله سبحانه عندما تجلى للجبل جعله دكا، كما فى قصة سيدنا موسى كما وردت فى القران الكريم. (35) الطبرى، 1269، 5. ** يقصد التفاصيل لا المسار العام للحوادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أن يكون هناك نقاش قبل تكليف محمد صلّى الله عليه وسلم بابلاغ الدعوة (سرا أو جهرا) لأهل مكة. لهذا؛ فهناك شك فى كثير مما ينسب الى هذه المرحلة (مرحلة الاعداد) فى الروايات التقليدية. (ز) خوف محمد ويأسه وفى نصوص منقولة عن الزهرى اشارات متتالية الى مشاعر الخوف وما شابهها عند محمد صلّى الله عليه وسلم. ويمكن تمييز تجربتين خاضهما الرسول صلّى الله عليه وسلم. الأولى الخوف من تجربة الوحى، والثانية يأسه الذى أدى به الى التفكير فى الانتحار*. أما الخوف من الاقتراب من عالم الغيب، Divine فله جذور عميقة فى الوعى لدى الشعوب السامية، وهناك شواهد على ذلك فى التوراة. والروايات التى تذكر هذا تبدو معتمدة فى الأساس على شرح كلمات سورة المزمل: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ..) الخ، السورة 73 (المزمل) . وهذا يعنى أن المفسرين الذين أتوا بعد ذلك لم يكونوا يعتمدون فى عزوهم الخوف الى محمد صلّى الله عليه وسلم الا على النص القرانى. والانتقال المر بك بين (زملونى) و (المدثر) يبين أن تفسير (المزمل) لم يكن فى الأساس مرتبطا بقصه اعلان محمد صلّى الله عليه وسلم لنبوته، وأن التفسير اعتمد- فقط- على السياق. ومن ناحية أخرى، فانه ان بدا طبيعيا لهؤلاء المفسرين المتأخرين زمنا أن يشرحوا (المزمل) بهذه الطريقة، فهذا الخوف من بداية الوحى لا بد وأن يكون قد انتشر (بين الناس) ، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم نفسه قد شارك فى انتشاره. هذا كله ما يمكننا قوله.   * تكررت فكرة الانتحار فى كلام المؤلف وهى فكرة مرفوضة تماما، فالرسول صلّى الله عليه وسلم لم يعرف اليأس وان كان يتطلع الى المزيد من المعرفة، وفى هذه الرحلة وجدت الدعوة الفردية وهى دعوة الأصفياء حول الرسول- (المراجع) . (زاد المعاد، ج 1، ص 20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 والشعور باليأس يمكن أن يكون موازيا لما حدث لأنبياء العهد القديم، وما حدث فى حياة القديسين، فالقديسة تريزا (من أقيليا (Avelia كتبت تقول: «الكلمات، بتأثيراتها والتأكيدات التى تحويها تقنع الروح فى اللحظة أنها اتية من الرب، وعلى اية حال، ففى ذلك الوقت، الذى هو الان ماض، يظهر الشك، فيما اذا كانت هذه الكلمات تأتى من الشيطان أو من الخيال، رغم أنه عند سماع هذه الكلمات، لم يكن الانسان ليشك فى صدقها بحيث تكون- أى تريزا- مستعدة للموت دفاعا عنها» «36» . وعلى أية حال، ففكرة الانتحار يمكن- بشق النفس- عزوها الى محمد صلّى الله عليه وسلم، فمادام النبى لم يذكر ذلك عن نفسه فمن الصعب أن نعزوها اليه، فهذا تجاوز فى شرح سورة الضحى: (وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) . وأكثر من هذا، فان فترة اليأس قد تكون متلائمة مع الروايات التى تحدثنا عن (الفترة) وهى المدة التى انقطع فيها الوحى عن الرسول صلّى الله عليه وسلم. وعلى هذا، فان ذلك يعطينا- فيما يبدو- بعض المعلومات الحقيقية عن محمد صلّى الله عليه وسلم. (ح) خديجة وورقة بن نوفل يشدان من أزر محمد (صلّى الله عليه وسلم) ليس من سبب يجعلنا نرفض الرواية القائلة ان خديجة قد شدت من أزر محمد صلّى الله عليه وسلم، فمن الواضح أن محمدا كانت تنقصه فى هذه المرحلة الثقة بالنفس*، فالصورة العامة لا يمكن أن تكون مبتدعة رغم أن   (36) Interior Castle, Sixth Mansion, iii, 12, quoted from Poulain, Graces of Interior Prayer, 304 f. * هذا التعبير مرفوض، فثقة الرسول صلّى الله عليه وسلم بنفسه وبربه كانت واضحة دائما وفى صعب الأحوال كغزوة أحد- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 التفاصيل قد يكون لحقتها اضافة نتيجة الاستنتاج الخاطىء أو بفعل التخيل. وشد أزر ورقة بن نوفل لمحمد كان بالاضافة لجهود خديجة أمرا مهما. وليس هناك سبب قوى يدعونا للشك فى صحة العبارة التى وردت بها كلمة (الناموس) على لسان ورقة. فاستخدام هذه الكلمة غير القرانية- بدلا من كلمة التوراة القرانية- دليل على صحة هذه الرواية. ومن ناحية أخرى، فان بقية الرواية تبدو لشرح موقف ورقة الذى لم يتحول للاسلام رغم تصديقه لمحمد صلّى الله عليه وسلم، ولسبب قريب من هذا كانت الرواية التى جعلت محمدا يقابل ورقة أفضل من تلك التى جعلته لم يقابله. وأكثر من هذا، فبعض الروايات تجعل موت ورقة بعد بعثة محمد بعامين أو ثلاثة، وأخرى تزيدها الى أربعة «37» . وكلمة الناموس- عادة ما ينظر اليها على أنها من الكلمة اليونانية نوموس «38» Nomos التى تعنى الشريعة أو الكتاب الموحى به؛ وبالتالى فهى ملائمة تماما للحديث عن موسى (كما ورد فى حديث ورقة) فملاحظة ورقة اذن كانت موجهة لمحمد صلّى الله عليه وسلم عند تلقيه الوحى، وربما كانت هذه الملاحظة تعنى أنه مادام محمد قد تلقى هذا الوحى فانه مثل موسى وعيسى وأن ما نزل عليه مماثل للتوراة والانجيل، أو على الأقل على الدرجة نفسها أو من النوع نفسه. وهذه الفكرة التى ذكرها ورقة قد تشير أيضا الى أن محمدا لابد أن يكون مؤسسا أو مشرعا لأمة (أو لجماعة أو لمجتمع.Community (واذا كان محمد فى مرحلة تردد- وهذا ما يبدو معقولا- فان هذا التشجيع الذى لاقاه لابد أن يكون ذا أهمية عظمى فى تطوره الداخلى (نموه النفسى) . وثمة صعوبات طفيفة فيما يتعلق بترتيب الحوادث، فالايات الأخيرة من أول ما نزل من الوحى ( ... الذى علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) والتى تشير بتأكيد غالب لوحى سابق، عادة ما يفسر المسلمون اية (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) على أنها تعنى الذى علم الانسان كيف يستخدم القلم، لكن هذا التفسير لا يوجد ما يدل عليه خاصة اذا كان محمد صلّى الله عليه وسلم   Caetani -Ann ,i ,pp. 238. 260. (37) Ibid ,p. 222 ,n. 6. (38) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لا يعرف القراءة والكتابة. والان، فمن بين الرجال الذين عرفناهم مع محمد صلّى الله عليه وسلم فان ورقة كان على صلة وثيقة بمحمد وكان معروفا بدراسته للأناجيل «39» . فهذه الايات القرانية الانف ذكرها (اقرأ ... ) كانت تذكر محمدا صلّى الله عليه وسلم عند قراءتها بما هو مدين لورقة بن نوفل به. انه لأمر مغر أن نفكر أنها نتيجة ملاحظة ورقة عن الناموس لكن هذا يتطلب وحيا قبل سورة اقرأ لتكون أساسا لهذه الملاحظة. ومن الأسهل أن نفترض أن محمدا كان على صلة متتابعة بورقة بن نوفل منذ فترة مبكرة سابقة على الوحى. والأفكار الاسلامية اللاحقة قد تكون اختلطت الى حد كبير بأفكار ورقة، كعلاقة الوحى الذى نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم بالوحى الذى نزل على موسى وعيسى (عليهما السلام) . خاتمة وعلى هذا، فهناك الكثير مما هو غير مؤكد حول الظروف المحيطة بنزول الوحى على محمد صلّى الله عليه وسلم فالتمحيص الدقيق للروايات الأولى يصل بنا الى صورة عامة يمكنها أن تكون محل ثقتنا، لكن حتى بالنسبة لكثير من التفاصيل خاصة التواريخ النسبية للظواهر المختلفة، فانها لا بد أن تبقى غير مؤكدة. 5- أشكال وعى محمد صلّى الله عليه وسلم بنبوته منذ ألقى كارليل Carlyle محاضرته عن محمد ضمن سلسلة محاضراته عن الأبطال والبطولة، أصبح الغرب على وعى بوجود أساس طيب للاعتقاد فى اخلاص محمد صلّى الله عليه وسلم «40» . فاستعداده لتحمل الاضطهاد فى سبيل معتقداته، وسمو الرجال الذين آمنوا برسالته والذين اعتبروه قائدا لهم، وعظمة ما تمخضت عنه جهوده من انجازات- كل هذا يبرهن على تكامله الأساسى (نظرته الكلية) . لقد تصور الغرب محمدا دجالا أثار من القضايا أكثر مما قدم من الحلول، وأكثر من هذا فلا أحد من عظماء التاريخ لاقى من الغبن والظلم فى الغرب مثلما لاقى محمد صلّى الله عليه وسلم، فالكتاب   (39) ابن هشام، 143. (40) Tor Andrae, Mohammad, the man and his faith.London 1936, pp.63, 69, 229, 233, 259, 268:W.Thomson in MW.xxxiv.1944, pp.129 f. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الغربيون يكادون يكونون منكفئين على الاعتقاد فى كل امر يشين محمد: صلّى الله عليه وسلم، فاذا ظهر لهم تفسير كريه لفعل يبدو معقولا ومنطقيا مالوا الى تصديقه. وعلى هذا، فاذا كان علينا أن نفهم محمدا صلّى الله عليه وسلم ككل متكامل، وأن نصحح الأخطاء التى ورثناها عن الماضى فلابد أن نؤمن باخلاصه وصدقه الا اذا ثبت العكس، ويجب ألا ننسى أن البرهان الأخير (النتيجة النهائية) تتطلب استقامة أكثر بكثير مما يتطلبه استعراض المعقولية (القابلية للتصديق) . فنظريات الكتاب الغربيين التى تفترض افتراضا مسبقا أن محمدا صلّى الله عليه وسلم غير صادق لن نناقشها كنظريات، ومع هذا فسنناقش هنا الأدلة التى سيقت للدلالة على عدم صدقه. واذا كان الأمر كذلك، فاننا نكون قد حللنا المعضلة على قدر الطاقة فيما يتعلق بصدقه واخلاصه صلّى الله عليه وسلم، ويجب أن نميز بين القران والشعور الواعى العادى لمحمد صلّى الله عليه وسلم مادام هذا الفصل يعد أمرا ضروريا بالنسبة له. ومن البداية لابد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد ميز بشكل واضح بين ما يأتيه وحيا كما يعتقد- وبين ما ينتجه عقله الواعى. أما كيف كان يميز بينهما، فهذا أمر غير واضح تماما، لكن الحقيقة التى صنعها محمد صلّى الله عليه وسلم مؤكدة كأى شىء فى التاريخ. اننا لا نستطيع بأى درجة معقولة أن نتخيله يقحم ايات من تأليفه بين الايات الموحاة اليه (الايات الاتية اليه من مصدر خارج عن شعوره كما يعتقد) . وعلى أية حال، فربما يكون محمد صلّى الله عليه وسلم قد فعل شيئا فى الوحى المنزل عليه كاعادة ترتيب الايات الموحى بها، وربما يكون قد حاول أن يصوب النص اذا أحس أن النص الموحى به يحتاج الى اصلاح*، ويعتقد أهل السنة بالناسخ والمنسوخ، أى أن هناك ايات قرانية نسختها ايات أخرى. أما شرح كيف كان محمد صلّى الله عليه وسلم يفصل بين ما يوحى اليه وما هو من عنده، فمسألة أخرى، ولأن مناقشة ذلك تتطلب الخوض فى مسائل لاهوتية (متعلقة بعلم الكلام عند المسلمين) فلن نناقشها هنا. وهناك   * ان كان المقصود اصلاح أخطاء كتاب الوحى فلا بأس، لكن أيصلح نبى ما أنزل ربه عليه؟ وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم عندما يتلقى وحيا يلقيه فى الحال على كتاب الوحى لتدوينه أما أفكاره الخاصة فلا يفعل معها ذلك- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ثلاث وجهات نظر فيما يتعلق بالوحى النازل على محمد صلّى الله عليه وسلم نوردها كالتالى: يعتقد المسلمون السنة أن القران الكريم وحى تماما (من مصدر علوى تماما) انه كلام الله غير المخلوق (رغم أن الأحبار المكتوب بها القران، والأصوات والخط على الورق ... كل ذلك مخلوق) . ويعتقد الباحثون الغربيون العلمانيون (غير المؤمنين بالغيبيات Secularists (أن جانبا من محمد صلّى الله عليه وسلم مسئول عن القران الكريم، وهذا الجانب- الموجود فى شخصية محمد- يختلف عن عقله الواعى. ووجهة النظر الثالثة الرئيسية هى أن القران الكريم هو من خلق الله سبحانه (فكرة خلق القران الكريم) ولكنه نتج- من خلال- شخصية محمد صلّى الله عليه وسلم، وبهذه الطريقة فى التفكير تكون ملامح معينة أو خواص معينة من القران الكريم يمكن عزوها- أساسا- لبشرية محمد صلّى الله عليه وسلم. وهذه هى وجهة نظر المسيحيين الذين يؤمنون باحتواء القران الكريم على جانب من الحقيقة الالهية.Divine truth بالنظر الى وجهات النظر الثلاث هذه، فاننى أحاول أن أكون محايدا مادامت هذه الوجهات من النظر تتضمن قضايا خارج نطاق عمل المؤرخ. سأحاول- متخليا بذلك عن الكياسة- أن أتحدث بأسلوب لا ينكر أية عقيدة من عقائد المسلمين، لذا فسأقول (ان القران يقول) ولن أقول (ان محمدا يقول ناسبا بذلك ايات القران الى محمد صلّى الله عليه وسلم) . ومن ناحية أخرى، فعندما أشير الى اية قرانية فلن أربط هذه الاشارة بأية وجهة نظر من وجهات النظر الانف ذكرها، وانما سأقول عبارة (كما يقول المسلمون) أو عبارة شبيهة، فهذا لن يسبب أى ارباك. أما وقد فصلنا الان بين الأمور التاريخية والأمور اللاهوتية (المتعلقة بعلم الكلام) ؛ فانه يصح للمؤرخ أن يضع فى اعتباره الشكل الدقيق (المحدد) لوعى محمد صلّى الله عليه وسلم بتجربة الوحى هذه (تجربة نزول الوحى عليه أو تجربة تلقيه الوحى) كيف بدا الوحى له؟ وكيف وصفه؟ تلك حقائق تاريخية موضوعية حتى لو كانت مرتبطة بوعى محمد صلّى الله عليه وسلم وحتى لو كان وصفه لها ربما ارتبط بوجهات نظره السابقة. والنقطة الأولى الجديرة بالملاحظة هى أن الرؤى الموصوفة فى سورة النجم تعد استثناء من ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 نظرا لطريقة وصفها الخاصة. وعلى هذا، فلا بد لنا من البحث فى مصادر أخرى عن الشكل العادى (أو الأشكال) فيما يتعلق بوعى محمد صلّى الله عليه وسلم بنبوته. وسيكون من المفيد فيما يتعلق بهذه النقطة أن نقدم بعض المصطلحات الفنية التى استخدمها بولين A.Poulain فى مبحثه The Graces of Interior Prayer فسيكون هذا كافيا لأغراض بحثنا الان. ميز بولين عند مناقشته لجوانب التجربة الدينية التى أطلق عليها: الوحى الكلامى أو الكلام المنزل Locution والرؤى -Visions بين نوعين: خارجى exterior وادخلى.interior فالوحى الكلامى من النوع الخارجى يتكون من كلمات تسمعها الأذن، رغم أن هذه الكلمات لم تصدر بطريقة طبيعية (من فم مثلا) ، وكذلك الأمر بالنسبة للرؤى الخارجية exterior vision أو الرؤى العينية Ocular فهى رؤى لأشياء مادية (أو ما يبدو كذلك) يتم ادراكها بالعيون البشرية. والرؤى فى سورة النجم تدخل فى هذا النوع- أى أنها رؤى خارجية.exterior أما الوحى الداخلى بالكلمات، interior locution فيقسمه بولين الى: تخيلى imagenative وعقلى، intellectual أما التخيلى فيتم تلقيه مباشرة دون مرور بالأذن اذ يمكن أن نقول انه وصل عن طريق حاسة الخيال.imaginative sense وأما العقلى، فهو توصيل بسيط للأفكار دون استخدام كلمات، وبالتالى لا صلة له بأية لغة محددة «41» . وقد تكون الرؤى الداخلية interior visions مثل ذلك، أى اما تخيلية واما عقلية*. ويمكننا الان الاستعانة بهذه الأدوات لدراسة القران الكريم والروايات المتداولة حول الوحى. لقد كانت (كيفية) الوحى موضوعا للمناقشة بين العلماء المسلمين. ويذكر السيوطى فى كتاب الاتقان «42» خمس كيفيات مختلفة، وجمع   Op.cit. ,299 ff.naw ,16 (41) * لم يطبق بولين تقسيماته هذه على تجربة محمد صلّى الله عليه وسلم، لكن من يحاول ذلك هو وات نفسه. (42) طبعة القاهرة، 1354، ص ص 44 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الباحثون من مصادر أخرى كيفيات تبلغ عشرا «43» . وعلى أية حال، فمعظم هذه الأنواع لم توجد الا فى حالة واحدة أو حالات قليلة. ولا شك أن الأنواع (الكيفيات) الرئيسية هى تلك التى وردت فى سورة الشورى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)) السورة 42 (الشورى) . فالحالة الأولى كما تبينها الايتان السابقتان هو أن يتحدث الله بالوحى. والاسم (وحى) والفعل (أوحى) يترددان بكثرة فى القران الكريم فى سياق لا يفيد أن الوحى تم من خلال اتصال لفظى مباشر، وقد درس رتشارد بل Bell استخدام الاسم (وحى) والفعل (أوحى) وخلص الى أنه فى الايات القرانية التى نزلت أولا، لا يعنى الوحى الاتصال اللفظى أو التوصيل اللفظى لنص الوحى، وانما يعنى أفكارا تقذف فى عقل شخص من مصدر خارج نفسه، بحيث يصلح معها أن نستخدم الكلمات الانجليزية Suggestion أو prompting أو «44» inspiration وفى معظم الحقبة المكية كان الوحى من عمل الروح Spirit باذن من الله «45» : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ... ) السورة 26 (الشعراء) . فلم يرد ذكر الملائكة حاملين الرسالة الى النبى الا فى مرحلة أخرى «46» .   Noldeke Schawlly ,i ,22 ff. (43) Muhammads Vision MW ,XXIV ,1934 ,145 -54 ,esp. 148. (44) (45) الايات فى المتن، وانظر أيضاAhrens ,Muhammed ,41 f.: (46) أوردنا الايات فى المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)) السورة رقم 15 (الحجر) . (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) السورة 97 (القدر) . (المترجم: من الواضح أن المؤلف قد أخرج هذه الايات عن سياقها، فاية سورة الحجر مسبوقة بالايتين التاليتين: (قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ..) فكانت الاية رقم 8 الانف ذكرها ردا على طلبهم، وفى اية سورة القدر ليس هناك اشارة الى نزول الملائكة فحسب) . وأكثر من هذا، ففى الحقبة المكية ليس هناك ذكر- على قدر ملاحظتى- لسماع النبى ما أنزل عليه. وربما، لذلك، يجب أن نتصور أن الروح يأتى بالرسالة الى قلب محمد صلّى الله عليه وسلم أو عقله بطريقة ما غير التحدث اليه «47» . وهذا بالتأكيد وحى كلامى داخلى interior locution وربما كان من النوع العقلى أقرب منه الى النوع التخيلى، ومن المفترض أنه لم يكن مصحوبا بأية رؤى ولا حتى عقلية، لأن ذكر روح Spirit يعطينا انطباعا بشرح التجربة على المستوى الفكرى وليس وصف جانب منها. وربما كانت بعض الروايات مرتبطة بهذه (الكيفية) الأولى. وعلى هذا نجد فى الحديث الثانى فى صحيح البخارى المنسوب الى عائشة رضى الله عنها: «حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن الحارث ابن هشام رضى الله عنه سأل النبى صلّى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول) قالت عائشة   (47) 2. ولم نفهم معنى هذه الاشارة- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 رضى الله عنها: (وقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا) صحيح البخارى/ ج 1/ باب كيف كان بدء الوحى الى رسول الله/ ص 6. وتوجد بعض التفاصيل الشبيهة بما دار فى هذا الحديث فى اخر حديث الافك: « ... فو الله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق فى يوم شات، فلما سرى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لى: يا عائشة احمدى الله فقد برأك الله، فقالت لى أمى قومى الى رسول الله.. فأنزل الله تعالى ان الذين جاؤا بالافك عصبة ... الخ» «48» . صحيح البخارى/ حديث الافك/ صحيح البخارى بحاشية السندى، ج 2 (دار احياء الكتب العربية ص 105) . واذا نحينا جانبا الملك الذى يأتى فى هيئة بشرية، فان ما هو موصوف فى الحديث ينطبق على الحالة (الكيفية) الأولى، فلا شك أن سماع الصلصلة (صوت الجرس) يعد تجربة تخيلية*، لكن ليس هناك أى ذكر لسماع موجود ما يتكلم كما أنه ليس هناك أى ذكر لسماع كلمات منطوقة، ولا حتى من باب التخيل. بل على النقيض من ذلك، فاننا نفهم من الحديث أنه فى نهاية التجربة ببدو- ببساطة- أنه وجد كلمات الوحى فى قلبه. انه من الواضح تماما- وفقا للمصطلحات التى شرحناها انفا- أننا ازاء وصف لوحى كلامى من النوع العقلى.intellectual locution   (48) البخارى، - 15 (أوردنا النص من الطبعة المشار اليها فى المتن) (المترجم) . * الكلمة هنا لا تحمل المفهوم الدارج عن تصور ما لا وجود له فى الواقع. فق؟؟ طبقها بولين على القديسين المسيحيين بمعنى مختلف- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أما كيفية الوحى الثانية، فهى أن يتحدث الله سبحانه من وراء حجاب، والاشارة الأساسية لهذا النوع من الوحى، ربما لتأكيد تجربة محمد صلّى الله عليه وسلم الأولى، كما هو وارد فى الفقرة ب التى نقلناها انفا عن الزهرى (حيث أتاه الحق وقال له: انك رسول الله يا محمد) . وعبارة (من وراء حجاب) تفيد أن المتكلم لم يظهر (أولم تكن هناك رؤية) وهذه الحقيقة (حقيقة وجود متحدث) بالاضافة الى ذكر كلام أو حديث تتضمن أن هناك كلمات مسموعة، وبالتالى فالوحى هنا من النوع الكلامى التخيلى) imaginative locution *أو أنه حتى وحى من مصدر خارجى. (exterior locution وبعض السور المبكر جاء بها الوحى بهذه الطريقة (الكيفية) التى لم ترد كثيرا فى الروايات، وبالتالى فهى ليست شائعة، وعلى هذا يمكننا أن نفترض أن الوحى المبكر (فى بداية نزوله) ثم أيضا بالكيفية الأولى. ومن المعقول أن يكون نزول الوحى بالكيفية الثانية (السماع والحديث) قصد به وصف تجربة موسى. والحالة (أو الكيفية) الثالثة هى أن يرسل الله سبحانه رسولا فيوحى عن طريق هذا الرسول الى نبيه ما يشاء، وقد ذهب الباحثون المسلمون فى وقت لاحق الى أن هذا الرسول هو جبريل، وذهبوا الى أن تلك هى الكيفية المعتادة للوحى منذ البداية. ومن ناحية أخرى، فان الباحثين الغربيين لاحظوا أن جبريل لم يذكر بالاسم فى القران (الكريم) حتى المرحلة المدنية «49» وهناك كثير فى القران الكريم وأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم يعارض الأقوال المنتشرة بين الباحثين المسلمين، وهذا يعنى أن وجهات النظر المتأخرة زمنا جرى اضفاؤها على الوحى فى مرحلته الأولى. وعلى أية حال، فهناك احتمال أيضا أن يكون نزول الوحى عن طريق جبريل كان   * المؤلف يستخدم مصطلحات بولين التى طبقها على القديسين المسيحيين، كما أنه يصف تجربة موسى عليه السلام بالمصطلحات نفسها، لكن المسألة الجوهرية هى أن كل هذا لا ينطبق عليه المنهج العلمى السليم، سواء بالنسبة لموسى عليه السلام أو محمد صلّى الله عليه وسلم، لسبب بسيط وهو أن امكانية الدراسة المعملية أو المادية أو حتى التحليلية غير متوافرة. اننا نتحدث عن أنبياء لا عن تجربة بشرية عادية. راجع مقدمة المترجم. (49) 9102؛ 4166 (لم نفهم معنى هذه الاشارة المرجعية) - (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 شائعا أيضا خلال الحقبة المدنية. وفى مثل هذه الحالات، فان الوحى ربما كان- من النوع الكلامى التخيلى imaginative locution *لكنه كان- بلا شك- مرتبطا برؤية لجبريل، وقد تكون هذه الرؤية عقلية أو تخيلية. أما الاشارة الى نزول جبريل على هيئة رجل فذلك وحى من النوع التخيلى** (وهو غير الهلوسة كما يشير المؤلف بعد ذلك- ولا يميل المسلمون الى استخدام مثل هذه المصطلحات عند الحديث عن النبوة) والشكل الدقيق أو الكيفية الدقيقة للوحى لم تكن ذات أهمية قصوى عند علماء الدين، سواء منهم المسلمون أو المسيحيون. أما التأكيد على أن رؤى محمد صلّى الله عليه وسلم والوحى الكلامى الذى يتلقاه مجرد هلوسة- كما يحلو لبعض الكتاب أحيانا أن يقولوا- فان مثل هذه الأقوال تجعل الأحكام الدينية (اللاهوتية) مفرغة تماما من الوعى، لذا فهى أقوال تتسم بالجهل المخجل الذى يدعو للشفقة- جهل بالعلم وسلامة العقل، وهو حكمنا على بولين، poulain وعلى اللاهوت الصوفى الغامض الذى يمثلونه. فسواء كانت الرؤى والكلام المسموع من مصدر خارجى أو تخيلى أو عقلى فلا يوجد معيار لصدقها أو سلامتها، الا أن الوحى المتلقى من مصدر خارجى أكثر تأثيرا فى المتلقى، وان كان الوحى العقلى- بمعنى من المعانى- هو الأعلى والأرقى فالعقل أعلى مرتبة من الحس. وهذه القضية ذات أهمية كبيرة لطلبة علم النفس الدينى وسيكون- بلا شك- من المفيد عقد مقارنة بين جوانب ظاهرة الوحى عند محمد صلّى الله عليه وسلم والظواهر المشابهة عند القديسين المسيحيين والصوفية. وعلى أية حال، فبالنسبة لعلماء الدين والمؤرخين نجد أن النقطة الأساسية هى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان يفصل فصلا كاملا بين ما يوحى اليه من ناحية، وأفكاره الخاصة من ناحية أخرى. وعلى النحو نفسه، فالظواهر المادية المصاحبة لتلقى الوحى غير ذات أهمية بالنسبة للباحثين فى الجوانب الدينية رغم أهميتها للمؤرخ.   * رغم أن المؤلف- نقلا عن بولين- قد استخدم هذا المصطلح الذى قد لا يعنى ما توحيه كلمة الخيال فى استخدامها الدارج، الا أن المسلمين، وغير المسلمين، لا يقبلون استخدام مثل هذه المصطلحات عند اطلاقها على الأنبياء، بل وعلى الصالحين والأولياء ... الخ- (المترجم) . ** استخدام مثل هذه العبارات لا يعنى نفى الوحى، كما يوضح الكاتب فى مطهر تالية بعد ذلك- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وغالبا ما يركز أعداء الاسلام على أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان مصابا بالصرع، epilepsy وبالتالى فان رسالته الدينية غير صحيحة. والحقيقة، أن الأعراض المصاحبة للوحى عند محمد صلّى الله عليه وسلم ليست هى أعراض الصرع، فالصرع يؤدى الى انهيار القوة البدنية والعقلية، بينما كان محمد صلّى الله عليه وسلم فى كامل قواه العقلية والبدنية، وفى كامل ملكاته. لكن بفرض أن هذا الزعم صحيح، فان البراهين عليه زائفة تماما وقائمة على مجرد الجهل والتخبط، فمثل هذه الظواهر المصاحبة للوحى لا تصلح برهانا نعتمد عليه فى رفض الوحى أو قبوله. وسيكون أمرا شائقا أن نعرف ما اذا كان محمد صلّى الله عليه وسلم لديه أية طريقة لحث الوحى على النزول عليه «50» . اننا لسنا متأكدين مما اذا كان وضع نفسه فى دثار* يحقق هذا الغرض والأكثر معقولية أن الوحى ينزل على غير توقع. وأخيرا- على أية حال- فمن الممكن أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلم قد طور بعض التقنيات (الأساليب) للاستماع الى الوحى**، ربما من خلال قراءته القران الكريم قراءة هادئة بالليل. خاصة عندما كان يشك فى اكتمال الوحى. وقد تكون هذه طريقة لاكتشاف الايات الضائعة. ولا بد أن التفاصيل المتعلقة بهذا الأمر ستظل محل تخمين، ويبدو مؤكدا أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان لديه أسلوب أو اخر لتصحيح (أو تنقيح) النص القرانى باكتشاف الصيغة الصحيحة لما أوحى اليه ناقصا أو غير صحيح. ومرة أخرى، فان كان هذا صحيحا، فان محمدا صلّى الله عليه وسلم كان فى بعض الأحيان يستحث الوحى على النزول.. 6- التتابع الزمنى لوقائع الحقبة المكية لا أحد التفت الى التواريخ الدقيقة التى تجرى فيها الأحداث التى بدت وقتها بسيطة ولحظية، لكن فى وقت لاحق عندما أصبح الناس   (50) Ahrens Muhammad, 37, J.C.Archer, Mystical Elements in Mohammad, New Haven, 1924, pp.72, 76, c. * طبعا لا، وانما باللجوء الى الله والابتهال اليه، كما حدث بالنسبة للايات التى نزلت مبرئة السيدة عائشة (فى حديث الافك) - (المترجم) . ** لا يعدو معنى العبارة الا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد يلجأ للدعاء والتوسل الى الله طلبا لنزول الوحى لحل مشكلة واجهته أو اجابة سؤال استعصى عليه- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 مهتمين بالتواريخ تضاربت الأقوال وبذل الباحثون المسلمون جهودا مضنية للوصول الى صيغة تاريخية مترابطة. وعلى أية حال، لقد بذلوا جهودا فيما يتعلق بالعناصر الرئيسية، بينما قدموا لنا تواريخ مختلفة وغير مؤكدة بالنسبة لأحداث ووقائع أخرى. ومسألة التواريخ ليست حيوية لفهم حياة محمد صلّى الله عليه وسلم، ويمكن الحصول على القليل (من حيث الترتيب الزمنى للأحداث) بمحاولة التمعن فى روايات الكتاب المسلمين المعتمدين فى الموضوع، سواء بالتعمن فى مضامين الروايات أو ظواهرها. يقول كيتانى Caetani الذى بحث هذا الموضوع بعناية لأن مبحثه يأخذ شكل حوليات- ان الكتاب المسلمين متفقون فى أربع نقاط «51» : 1- ظل محمد صلّى الله عليه وسلم يدعو لرسالته سرا- طوال ثلاث سنين- صحابته المقربين، ولم يبدأ الدعوة العلنية الا عند نهاية هذه الفترة. 2- الهجرة الى الحبشة فى العام الخامس، أى بعد عامين من الجهر بالدعوة. 3- بدأت المقاطعة التى واجهها بنو هاشم، بعد الهجرة الى الحبشة واستمرت عامين أو ثلاثة. 4- مات أبو طالب وخديجة بعد نهاية المقاطعة، وقبل الهجرة بثلاث سنين (الهجرة فى 622 للميلاد) . وقد ناقش كيتانى ما هو أكثر من هذا، فذكر أننا لو حسبنا المدة الزمنية بين الهجرة والمقاطعة، وبين المقاطعة وموت أبى طالب لوجدنا أنها تصل- على الأقل- الى اثنى عشر عاما. وعلى هذا، فقد أنشأ كيتانى قائمة التواريخ التالية، رغم أنه كان ميالا للظن أن الأحداث ربما وقعت قبل هذه التواريخ:   Ann ,i ,p 219. (51) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 610 نزول الوحى. 613 بداية الدعوة الجهرية. 614 دخول دار الأرقم. 615 الهجرة الى الحبشة. 616 بداية مقاطعة بنى هاشم. 619 نهاية المقاطعة، موت خديجة، موت أبى طالب، ذهاب الرسول صلّى الله عليه وسلم الى الطائف. 620 أول مسلمى المدينة. 621 بيعة العقبة الأولى. 622 بيعة العقبة الثانية، الهجرة. وهذه التواريخ تعد دليلا كافيا لمعظم أغراض بحثنا. وترجع أهميتها الأساسية الى أنها تجعلنا نتحقق من أن انتشار الاسلام فى مكة طوال فترة ما قبل الهجرة كان عملية بطيئة، الا أن قلة المصادر وشحها يعطينا احساسا كاذبا بأن الأمور تجرى سراعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الفصل الثالث الرسالة الأصلية (جوهر الرسالة) 1- فى تاريخ نزول القران (الكريم) بمجرد أن نبدأ السؤال: ما الرسالة الأصلية للقران (الكريم) ؟ حتى يواجهنا السؤال التالى: ما أول ما نزل منه؟ ومن الطبيعى أن يكون اعتمادنا فى الاجابة عن هذا السؤال الأخير على المصادر الاسلامية الأولى. ولدينا قدر جيد من المعلومات المتاحة عن أسباب نزول عدة ايات مختلفة، الا أن هذه المادة يعوزها الاكتمال، كما أنها تحوى تناقضا بين بعضها وبعضها الاخر (التعبير لا يعنى أكثر من أن الروايات مختلفة- المترجم) . والسؤال الأخير ربما لا يكون بالخطورة نفسها التى عليها السؤال الأول، خاصة فيما يتعلق بالسور التى نزلت فى المرحلة المكية. وقد توصل الباحثون المسلمون الذين أتوا فى فترة متأخرة الى قدر من الاتفاق حول السور المكية والسور المدنية وكذلك فيما يتعلق بالايات. وبالنسبة لغالب النص القرانى الذى نزل فى الحقبة المكية ليس هناك ذكر لأسباب النزول، وأكثر من هذا فان كثيرا من الأسباب (الأحداث أو المناسبات) ليس لها تواريخ دقيقة محددة. وعلى هذا فرغم أن المواد المتاحة عن أسباب النزول مقبولة بشكل عام، الا أنها واحدها لا تكفى لتقديم اجابات لكثير من الأسئلة التى يثيرها الباحثون الغربيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقد قدم الباحث الألمانى تيودور نولدكه Theodor Noldeke فى كتابه تاريخ القران (نشر لأول مرة سنة 1860) معيارا اخر اضافيا. لقد وجد نولدكة أننا اذا درسنا الايات الطوال وقارناها بالروايات التقليدية عن أسباب النزول، وجدنا أن السور المجمع على نزولها أولا تحوى ايات قصارا، والسور المجمع على نزولها اخرا تحوى ايات طوالا- غالبا. وعلى هذا، فان نولدكه قدم فرضا علميا مؤداه أننا نستطيع أن نحدد ما اذا كان النص القرانى الذى بين أيدينا نزل فى المرحلة الأولى أو المرحلة المتأخرة، بناء على طول الايات أو قصرها. وبناء على هذا المعيار، رتب نولدكه سور القران (الكريم) فى أربع فترات زمنية، ثلاث مراحل مكية ومرحلة مدنية، وقد قبل الباحثون الغربيون هذا التقسيم الذى قدمه نولدكه- بشكل عام، واعتبروه دليلا لدراساتهم. وبعد نولدكه، تقدم رتشارد بل Richard Bell بخطوة أخرى فى ترجمته للقران الكريم ودراساته الملحقة بترجمته، والمنشورة سنة 1937- 1939 «1» . فالروايات الاسلامية- دائما- توافق على أن معظم السور تحوى ايات نزلت فى فترات مختلفة، وقد حاول بل Bell فى ترجمته الانف ذكرها أن يقسم كل سورة الى مكوناتها الأصلية، كما حاول أن يضع تاريخا لبعض الايات المنفصلة (أى أنه لم يضع تواريخ متوالية لنزول الايات) . ومهما يكن الرأى النهائى فى تفاصيل هذا العمل، فالذى لا شك فيه هو أن هذا العمل يعد نقطة البد، لاية دراسة أخرى عن تسلسل نزول dating القران (الكريم) ، ولقد قبل بل Bell المعيار الذى وضعه نولدكه كمعيار مضبوط (معيار طول الايات أو قصرها) وان كان من رأيه أن هذا المعيار فى حاجة الى بعض التعديل ليتناسب مع ايات بعينها بالنظر لمحتواها (المعانى الواردة بها) . ويبدو أن هذا العمل كان صحيحا خاصة فيما يتعلق بالحقبة المدنية، لكن كثيرا من النتائج التى خلص بها بل Bell من مباحثه تلك ليست جميعا مؤكدة طالما أن اختلاف وجهات النظر مسألة قائمة.   (1) R.Bell, The style of the Quran, in Transactions of the Glasgow University Oriental Society, XI, 9- 15, esp.14 f. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وعند النظر للرسالة الأصلية للقران الكريم (جوهر رسالته) لا بد أن يكون المرء حذرا على نحو خاص عند استخدام معايير (أو دلالات) المحتوى القرانى. فاذا كان على المرء أن يقول ان سورة كذا وسورة كيت لا يمكن أن تكون من أوائل السور لأنها تشتمل على فكرة الحساب بعد الموت، ثم يواصل حديثه قائلا ان فكرة الحساب بعد الموت لم تكن من الأفكار المبكرة، لأنها لم ترد فى السور الأولى ... فان مثل هذه الحجج تجعلنا ندور فى دائرة مفرغة. فلكى أصل الى أقصى درجات الموضوعية، فاننى أقررت بما ذكره نولدكه عن أوائل السور المكية وما أقره بل Bell عن أوائل السور المدنية. ومن خلال هذه المجموعة من السور (مجموعة أوائل ما نزل) نحيث جانبا الايات التى تشير الى معارضة لمحمد صلّى الله عليه وسلم والقران الكريم، وركزت على الباقى، أعنى حيث لا يشير الوحى الى معارضة. والمبدأ هنا أنه قبل أن تستطيع المعارضة الظهور، كان هناك جانب من الرسالة يميل الى اثارة المعارضة كما لا بد أنه حدث. فالسور والايات التى نحن بصددها (موضع البحث) هى: سورة العلق (96) / مكية/ الايات من 1 الى 8. سورة المدثر (74) / مكية/ الايات من 1 الى 10. سورة قريش (106) / مكية/ واياتها أربعة. سورة البلد (90) / مكية/ الايات من 1 الى 11. سورة الضحى (93) / مكية/ واياتها 11 اية. سورة الطارق (86) / مكية/ الايات من 1 الى 10. سورة عبس (80) / مكية/ الايات من 1 الى 32 باستثناء الاية 23. سورة الأعلى (87) / مكية/ الايات من 1 الى 9، و 14 و 15. سورة الانشقاق (84) / مكية/ الايات من 1 الى 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سورة الغاشية (88) / مكية/ الايات من 17 الى 20. سورة الذاريات (51) / مكية/ الايات من 1 الى 6. سورة الطور (52) بعض اياتها. سورة الرحمن (55) واياتها 78 اية. «2» . انه من المعقول أن بعض هذه الايات نزلت بعد ظهور المعارضة للمرة الأولى، لكن مادام مما لا يتعارض مع المنطق نزولها قبل ظهور المعارضة فقد رأيت ألا أعير هذا الاحتمال بالا. فالجوانب المختلفة لرسالة الاسلام متضمنة فى أوائل ما نزل من القران. وعلى هذا ودون حاجة لمزيد من اللغط) ado السفسطة) سأعتبر هذه الايات حاوية على جوهر رسالة القران، وعلى كيرجما Kerygma النبوة بمعناها الأصلى، والان دعونا نبحث فى الملاحظات الأساسية لهذه الكيرجما (المحتوى القرانى الذى يوضح هدف الرسالة) . 2- المحتوى القرانى لأول ما نزل من القران (الكريم) (أ) خلق الله للانسان ولطفه به موضوع السورة رقم 56 (العلق) التى ينظر اليها- بشكل عام- على أنها أول ما نزل من القران الكريم- هو خلق الله سبحانه للانسان- انها اعلان من الله سبحانه بقوته ولطفه- وأنه سبحانه يوحى للانسان (بمفهوم الوحى عند اليهود والمسيحيين) بأسرار ما لا يراه (ما لا يعلمه) . وفيما يلى نص الايات المعبر عن المعانى الانف ذكرها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) ..) . وخلق الانسان وهدايته مسألة أشار اليها القران الكريم فى ايات أخرى متعددة:   (2) لقد أغفل بل Bell بعض الايات وأضافها بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) ... أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (6) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) ..) السورة 90 (البلد) . وموضوع الخلق يبدو مفصلا فى السورة رقم 80 (عبس) : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) ..) . وبداية السورة رقم 87 (الأعلى) تتناول الخلق أيضا: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) ..) . والسورة رقم 55 (الرحمن) تتناول فى اياتها الأولى مسألة (الخلق) و (الهداية) معا: (الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)) . وقد ورد فى السورة رقم 93 (الضحى) فى الايات من 3 الى 8 ما يشير الى اللطف الخاص والكلام الخاص الذى شمل الله به محمدا صلّى الله عليه وسلم، ومن المفترض أن الايات تتعرض للحياة الأولى محمد صلّى الله عليه وسلم: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) ..) . وبالاضافة لهذا نجد التأكيد الوارد فى السورة 87 (الأعلى) : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) ..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 والسورة رقم 106 (قريش) تحث قبيلة قريش على عبادة رب البيت (الكعبة) الذى أطعمهم من جوع وامنهم من خوف. والسورة رقم (80) (عبس) توضح كيف يرسل الله المطر الذى يروى الأرض فتنتج حبا وعشبا وعنبا وزيتونا ونخيلا وغير ذلك. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) ..) السورة رقم 55 (الرحمن) . ولأن الله سبحانه هو واهب الموت والحياة للبشر لذا فانه كما منح البشر المرعى، فانه يحيله جافا، ففى السورة رقم 87 (الأعلى) نقرأ: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) ..) . وأخيرا فالسورة رقم 88 (الغاشية) «3» تحدثنا عن الله سبحانه كخالق للابل والسماء والجبال والأرض: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) ..) . وفى الوقت نفسه نجد فى أوائل السورة رقم 55 (الرحمن) «4» نجد اشارة الى خلق الأبدان والبحار وكل الكائنات، ونصل لذروة عظمة الله فهو يخلق ولا أحد يخلق سواه: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) ..) . وعلى هذا، فهناك عدد كبير من الايات تتناول هذا الموضوع: لطف الله سبحانه وقوته. حقا ان مسألة لطف الله وقوته هى الى حد بعيد أبرز   .Bell ,op.cit. (3) لكن المترجم رجع للمصاحف المتداولة. (4) كما وضع لها بل تاريخ نزول تقريبيا Bell ,op.cit الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 معالم الرسالة فى الايات السريمة التى نزلت فى وقت مبكر (فى أوائل ما نزل من القران الكريم) ولم يتناول القران الكريم مسألة اثبات وجود الله سبحانه، وانما تعرض لذاته باعتبار وجوده أمرا معروفا لمحمد صلّى الله عليه وسلم ومعروفا أيضا لأولئك الذين يتلقون الرسالة، الا أن ذلك كان على نحو غامض أو مبهم، وأصبح (بعد نزول القران) أكثر دقة ووضوحا بعزو كل الأحداث المختلفة اليه سبحانه، وهذا يجعلنا نميل الى تأكيد أن فكرة الله (سبحانه) قد انتقلت الى العرب من الفكر التوحيدى فى اليهودية والمسيحية. وعلى أية حال، فمادامت القدرة التى كان يعروها الوثنيون العرب لالهتهم كانت- كما هو مفترض- محدودة جدا فهم لم يكونوا ينظرون لله سبحانه كنظير أو مثيل لالهتهم، وانما باعتباره (سبحانه) أعظم منها على نحو ما، ومع هذا فلم تكن أفكارهم هذه لتكون فكرة كافية عن عظمته وقدرته على التدخل فى شئون البشر. وعلى هذا، فانه يجب أن نقدر مدى أهمية الأفكار القرانية فى تصحيح الفهم الخاطئ للعرب عن الله سبحانه، كخطوة أولى. وربما كان ما هو أكثر مدعاة للدهشة أن أوائل ما نزل من القران ليس فيه اشارة الى توحيد الله سبحانه، Unity of God باستثناء ما ورد فى السورة 51 (الذاريات) ، الاية رقم 51: (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)) . وربما كانت هذه الاية اضافة متأخرة للسورة «5» . انها تبدو وكأنها تكرار لفكرة معروفة بالفعل، لأنها اذا كانت فكرة جديدة لجرى التركيز عليها بشكل أوضح. وبطبيعة الحال، فليس هناك فى أوائل ما نزل منه ما يناقض عقيدة التوحيد، لكن ما هو مهم وشائق أيضا أنه فى أوائل ما نزل من القران، ان لم يكن هناك تركيز على توحيد الله، فليس هناك أيضا شجب للوثنية. وبعبارة أخرى، فان هدف النص القرانى الذى نزل فى فترة مبكرة كان محدودا. أنه كان   Bell ,op.cit. (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 يهدف الى تطوير جوانب فكرة الايمان بالله على نحو ايجابى؛ واضعا فى الاعتبار أن الايمان بالله مسألة كانت موجودة بالفعل بين أهل مكة دون أن يكونوا على وعى بأن هناك تناقضا بين الايمان بالله من ناحية، واشراك الهة أخرى معه. (ب) الكل راجع الى الله ليوفيه حسابه مرة أخرى سنبدأ بسورة العلق (السورة رقم 96) التى تنص ايتها الثامنة على العودة لله (ان الى ربك الرجعى) وهى تعنى أن هناك حسابا بعد الموت «6» ، وتشير السورة 74 أيضا الى الحساب: (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ..) . واذا كانت كلمة (الرجز) فى الاية الخامسة راجعة لكلمة روجزا Rugza السريانية والتى تعنى الاثم أو ما يقابل الكلمة الانجليزية «7» Wrath وهى الكلمة التى استخدمت فى ترجمة العبارة الواردة فى انجيل متى (فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون الى المعمودية قال لهم يا أولاد الأفاعى من أراكم أن تهربوا من الغضب الاتى ... ) . لقد استخدم المترجمون كلمة Wrath للتعبير عن الغضب فى هذه العبارة الانجيلية. نقول اذا كانت الكلمة المستخدمة فى الاية الانف ذكرها (رجز) هى المستخدمة فى هذا النص الانجيلى، فاننا نظن أنها ذات علاقة بأمور الآخرة (اليوم الاخر) . وارتبط الحساب فى الآخرة أيضا بالنشور، أى بعث الانسان من موته ليكون حيا مرة أخرى: (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)) السورة رقم 80 (عبس) .   Bell ,op.cit. (6) Ibid ,Bell ,Origin ,88. (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ونقرأ أيضا فى السورة رقم 86 (الطارق) الاية (4) : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) ..) . ويقابل حافظ هنا الكلمة الانجليزية) Watche فى ترجمات معانى القران الكريم التى بين أيدينا، يقابل كلمة حافظ Protector المترجم) سواء أكان المقصود بكلمة (حافظ) هنا، الله سبحانه ذاته، أم الملك الموكل به تسجيل افعاله. وفى السورة 84 (الانشقاق) وهى من أوائل ما نزل من القران الكريم وصف مفصل ليوم الحساب: (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) ..) . واذا نحينا جانبا ما ورد فى السورة رقم 51 (الذاريات) الاية الخامسة وما بعدها، والسورة رقم 52 (الطور) الاية السابعة وما بعدها (سنتعرض لهذه الايات بعد ذلك) ، فليس هناك فى الايات القرانية التى نزلت أولا (أول ما نزل من القران) اشارات أخرى مباشرة ليوم الحساب، الا اذا كان وصف محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه «نذير» ينطوى أيضا على معنى الحساب فى الآخرة. والنقطة الاولى الجديرة بالملاحظة أن فكرة اليوم الاخر فى هذه الايات الأولى لم تكن تحوى الا قليلا أكثر من أن يوم الحساب هذا يعاقب فيه المسىء، ويثاب فيه المحسن، فلم تكن هناك تفاصيل مرعبة أو مبالغ فيها، Lurid details تلك التفاصيل التى حفلت بها صور اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الاخر بعد ذلك «8» . لذا، فاننا نرفض بدون تردد كل ما ذهب اليه الباحثان بوهل Frants Buhl وتور أندريا، Tor Andrae اللذان كان من رأيهما أن الخوف من العذاب الذى سيلقاه الاثم أو الملعون (أو المشرك) كان هو المحرك الأساسى لحياة محمد صلّى الله عليه وسلم الدينية خلال الحقبة المكية المبكرة. فاذا نظرنا الى كل السور التى أدرجها نولدكه ضمن قائمتيه (السور التى نزلت فى الحقبة المكية الأولى، والسور التى نزلت فى الحقبة المكية الثانية) ؛ لكان من المعقول جدا أن نقول انه (فوق كل شىء، كان التفكير فى العذاب الذى سيحيق بالملعون أو العاصى هو الذى زوده بالطاقة وحفز حركة روحه، فأدى ذلك الى مثل هذه النتائج العظيمة) «9» . وعلى أية حال، فاننا اذا قصرنا النظر على مجموعة الايات والسور القليلة التى اتضح أنها أول ما نزل، لصرفنا النظر عن النتيجة المذكورة انفا واعتبرناها غير معقولة. ومن ناحية أخرى، فانه يبدو غير صحيح أن نقول ان أول اشارة قرانية للحساب لا تعنى أى شىء فيما يتعلق بالايمان بالاخرويات (الحياة بعد الموت) وان المسألة لا تعدو أن تكون عذابا لحظيا (مؤقتا) ، فمجموعة الايات الأولى (التى تعتبر أول ما نزل) التى ندرسها تحوى عدة أمثلة على الايمان بالاخرويات، لكن ليس فيها بالضرورة ايات تشير الى عذاب يحيق بالمشركين خاصة «10» واذا ترجمنا للانجليزية الاية السادسة من السورة 51 (الذاريات) والاية السابعة من السورة 52 (الطور) على التوالى، لخرجنا بمعنى أن العذاب مؤقت: (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) ..) . llaf ot tuoba si tnemegduJ ehT (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ..) . llaf ot tuoba si droL yht fo tnemhsinuP الا أنه من خلال السياق- على أية حال- نفهم أن كلمة واقع التى قد تعنى (على وشك الوقوع (about to fall قد لا تكون اشارة الى   Bell ,Origin ,85. (8) Buhl ,Muhammad ,127. (9) Bell ,Translation of Quran ,p. 690 (10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قرب حدوث الحساب أو العقاب فى المستقبل القريب، وانما اشارة الى حقيقة هذا العقاب وكونه أمرا مؤكدا سيحدث فى وقت من الأوقات فى مستقبل غير محدد، فلنقرأ الاية الخامسة من السورة 51 (الذاريات) والاية الثامنة من السورة 52 (الطور) لندرك سياق الايتين اللتين استشهدنا بهما انفا: (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) ..) . (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) ..) . ومن المؤكد أن السور المكية فيها الكثير عن عقاب الله سبحانه لأهل مكة بانزال المصائب المؤقتة (الدنيوية) عليهم، كالمصائب التى نزلت على من كانوا قبلهم ممن عصوا أنبياءهم، لكن لارتباط هذا العذاب برفض رسالة النبى صلّى الله عليه وسلم فربما كان مرتبطا بالوضع فى مكة بعد أن تطور عن فكرة العقاب فى بداية البعثة النبوية. حقا، ان الايات التى ناقشناها لتونا (51/ 5، 52/ 7) بتأكيدها على حتمية الحساب وكونه لا مفر منه، تبدو مرتبطة بالمرحلة الثانية لمعارضة المشركين للنبى حين أعلنوا تشككهم فى الحساب بما فيه من ثواب وعقاب. وربما كان مما يستدعى الانتباه أنه يكاد يكون مفهوما أن الحساب الدنيوى (المؤقت) مقتصر على العقاب، أما الحساب الاخروى فيتبعه ثواب وعقاب كما فى سورة الانشقاق التى أوردناها انفا. (ج) استجابة الانسان- شكر وعبادة نظرا للطف الله سبحانه، فان على الانسان أن يكون شكورا ممتنا عابدا. والامتنان هو اعتراف داخلى باعتماد الانسان على خالقه الواحد القوى اللطيف. أما العبادة: فهو التعبير الظاهرى عن الاعتماد على الله والاعتراف بلطف الله وقوته (سلطانه) . وتشير الاية 17 وما بعدها من السورة رقم 80 (عبس) الى الكفور (غير الممتن وغير الشاكر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) .. الخ) . واسم الفاعل من الفعل (كفر) هو كافر unbeiiever وهو غير الممتن وغير الشاكر لله، وغير المعترف بفضل الله، وبالتالى فهو الذى يرفض رسوله، وعلى هذا فالاية العاشرة من السورة 74 (المدثر) : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ..) . تشير الى الكافرين باعتبارهم غير الشاكرين أو غير الممتنين لله (وفقا للسياق) . ويستخدم القران الكريم كلمتى (طغى) و (استغنى) للاشارة الى عدم الامتنان لله والشكر له «11» ، كما فى السورة 96 (العلق) . الاية 6 وما بعدها: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) ..) . والمعنى الأصلى لكلمة (طغى) مرتبط بسيل الماء الجارف، ثم انتقل المعنى فاستخدم مجازا ليعنى تجاوز الحد، دون النظر للاعتبارات الأخلاقية والدينية خاصة، ودون أن يسمحوا لشىء بايقافهم لأنه لا حدود لثقتهم بأنفسهم. لذا، فيكاد يكون مقبولا ترجمة هذه الكلمة القرانية لتعنى بالانجليزية (to be presumptuous) أو (to act presumptuously) ان الكلمة تتضمن عدم وضع الخالق فى الاعتبار أو حتى انكار وجوده. ان هذا هو الاتجاه الذى ربما اتخذه أثرياء مكة مادامت الايات التى أوردناها انفا تشير الى الثقة فى الثروة أو الاعتماد على الغنى. وكلمة (استغنى) تستعصى على الترجمة لأنها تشير الى الثروة وعدم الاعتماد على الله معا. (الثروة والاستقلال، (Wealth and independence وقد أعطاها Lane مقابلا انجليزيا هو، (free from want) لذا فقد   E.W.Lane ,Arabic -English Lexicon ,S.V. (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وردت فى القران الكريم لتشير الى الامتلاك الفعلى للثروة وأكثر من هذا تشير الى الاتجاه الروحى السائد بين الاثرياء. وفى الاية الثامنة من السورة 92 (الليل) : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) ..) . يمكن نقل معنى (استغنى) * للانجليزية كالتالى: Prides himself in Wealth وذلك لأنه بسبب القوة المالية شعر أهل مكة بأنهم مستقلون عن أية قوة عليا، (فى غنى عنها) «12» . ويجد الامتنان لله والاحساس بفضله والشكر له تعبيرا له فى العبادة، وتشير السور الأولى الى عدة أوامر متعلقة بالعبادة، بعضها موجه لمحمد صلّى الله عليه وسلم نفسه، كما فى السورة 73 (المزمل) : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) ..) . ومن النصوص القرانية المبكرة، سورة قريش (السورة رقم 106) وهى تخاطب أهل مكة بشكل عام: (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ (4) وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (5) ..) . وثمة نص قرانى اخر، ربما نزل بعد سورة قريش بفترة وجيزة يشير الى العبادة، ونعنى به الاية 14 وما بعدها من السورة رقم 87 (الأعلى) : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ..) . Prospered has he who Makes mention of the name of his Lord and prays.   * فى الترجمة الانجليزية التى بين أيدينا (عبد الله يوسف على) : استغنى) Thinks himself self -sufficient المترجم) . Bell ,op.cit. (12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لقد كانت العبادة ملمحا مميزا لأتباع محمد صلّى الله عليه وسلم منذ البداية، وهو نفسه كان قد انخرط فى أعمال عباديه حتى قبل نزول الوحى عليه، وقد التزم المسلمون الأوائل بصلاة الليل لفترة من الزمن «13» ، كما هو واضح فى سورة المزمل. وقد وجه المعارضون لمحمد صلّى الله عليه وسلم جهودهم فى بداية الأمر ضد العبادة: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) ..) السورة 96 (العلق) . ومن ناحية أخرى نجد أنه فى الروايات المتداولة المتعلقة بايات الغرانيق التى دست فى سورة النجم (السورة رقم 53) ، نجد أن علامة الايمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم هى التعبد وفقا لطريقته فى التعبد (الصلاة) . وبشكل عام، فان ذلك يجب أن يجعلنا نحاول نسيان فكرة العبادة الشائعة فى الغرب التى تعتبر جوهرها شعورا ذاتيا Subjective ربما يوصف بمعنى حضور الله. أما العرب، فهم أكثر ارتباطا بالجوانب الموضوعية Objective للعبادة خاصة معناها أو مغزاها. فبالنسبة لأهل مكة، فلكى يسجدوا لرب البيت كما يسجد محمد صلّى الله عليه وسلم فقد يكون عملهم هذا شبيها بذلك العمل الذى توقف حين كان أنصار حزب المحافظين يرفع كل واحد منهم وردة حمراء يوم الانتخاب، أو بفعل الاشتراكيين السابقين الذين كان الواحد منهم بدوره يتباهى بوردة زرقاء. ورغم أن التشبيه هنا ذو مضمون سياسى الا أننى لا أقصد القول بأن الاسلام ليس دينا، فالاسلام دين بكل تأكيد، لكن قد تكون أفكار الغرب عن الدين هى التى يعتريها قصور. (د) استجابة الانسان لله سبحانه- السماحة والكرم والتطهر وعلى أية حال، فليس بالعبادة فقط يستجيب الانسان للطف الله وفضله وانما بأفعال أخرى فاضلة. «14» ethical activity انه لأمر   (13) سورة المزمل. (14) 80/ 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 شائق ومهم أن نتعرف على القيم الاخلاقية التى يغرسها القران (الكريم) . اننا نجد فى بعض الايات الأولى التى نتناولها بالدراسة فى هذا الفصل- كلمة (تزكى) وهى كلمة غامضة شيئا ما. ففى السورة رقم 80 (عبس) يتلقى محمد صلّى الله عليه وسلم توبيخا من ربه لأنه صرف اهتمامه لرجل ثرى مهم أكثر مما اهتم برجل أعمى، على أنه- محمد صلّى الله عليه وسلم- لا يدرى فلعل هذا الأعمى يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى (يزكى (purify himself وحتى اذ لم يزك هذا الرجل الثرى does not purify himself فلن يضار محمد صلّى الله عليه وسلم شيئا لأن من يزكى فانما يزكى لنفسه. «15» prospered has he who purifies himself ان مفهوم الكلمة معقد بعض الشىء وقد ناقشنا ذلك فى الملحق رقم (د) بهذا الكتاب. أما هنا فلا بد من ايراد النتائج التى وصلنا اليها. ودليلنا الى ذلك هو الملاحظة التى أوردها الشارح ابن زيد «16» ان (التزكى) فى القران الكريم تعنى (الاسلام) الذى يعنى تطهير النفس باسلامها لله سبحانه وتعالى. ويبدو أنه عند التفسير ينحو المفسرون نحو ذلك، لكن هناك اختلافا طفيفا فيما يتعلق بالمعنى الدقيق الذى نتناوله هنا. فكلمة تزكى فى المرحلة المكية (وربما فى بداية المرحلة المدنية) ترد فى النص القرانى بالمعنى نفسه لجذر الكلمة بالعبرية والارامية والسريانية. انها اذن تعنى (التطهر الخلقى) وهى فكرة غامضة وصلت للعقل العربى من خلال تأثيرات يهودية ومسيحية، فى مقابل (التطهر الطقسى) أو (التطهر الشعائرى) ، أو (التطهر بممارسة عبادات بعينها ritual purity (الموجود فى العقائد الوثنية العربية، وفى مقابل التطهر المادى) physical كالاستحمام وغسل اليدين.. الخ) . وعادة ما يكون هذا التطهر الخلقى مرتبطا بالحياة الاخرى ويجعل المرء يفكر فى نوعيات هذه الحياة (الروحية أو الخلقية أساسا) ، حيث يحظى الانسان بالسعادة الأبدية (بالجزاء الخالد) . ويكاد يكون معنى التطهر الخلقى مساويا لما نقصده   (15) راجع النص القرانى 87/ 14، 91/ 9 وما بعدها. (16) تفسير الطبرى، 79/ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بالصلاح والاستقامة والتقو، righteousness or uprightness وفى بعض الاحيان- ربما فى أغلب الأحيان- نجد الكلمة أيضا لا تعنى أكثر من أن يتخذ المرء من (الصلاح والتقوى) هدفا له وشعارا فى الحياة. ان الكلمة- على هذا- وصف لما يمكن مقارنته بأسلوب الحياة الذى اتبعه محمد صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة، مع تركيز على الجوانب الخلقية. ما تفاصيل ذلك؟ وما المحتوى الخلقى لهذه العقيدة فى شكلها الأصلى؟ اننا لا نجد الكثير مما يساعدنا فى قائمة اسماء المسلمين الأوائل. ونحن نجد توجيهات لمحمد صلّى الله عليه وسلم (رغم أن هذه التوجيهات قد تكون لغيره) ، ففى السورة رقم 90 (البلد) نقرأ: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) ..) . وفى السورة رقم 93 (الضحى) نقرأ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ..) . لا بد اذن أن نخطو خطوة أخرى، وفيما يلى أمثلة مما ورد فى السور التى أوردها نولدكه باعتبارها نزلت فى المرحلة الأولى، والتى اعتبرها بل Bell أيضا من السور المكية المبكرة أو المكية عامة. وسنوردها كاملة هنا لأنه من الأهمية بمكان أن نصل الى انطباع كامل عن هذه الايات. السورة الأولى وفقا لترتيب نولدكه التى تعبر عن هذه المعانى الخلقية هى سورة الهمزة (السورة 104) الايات من 1 الى 3: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) ..) . والنص القرانى التالى، وهو أيضا من أوائل ما نزل من القران الكريم، يمكن أن نجعل له عنوانا هو (الطريقان) «17» : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) ..) السورة 92 (الليل) . وتشير السورة 68 (القلم) فى الايات من 17 الى 33 الى قصة رجال قرروا جمع ثمار بستانهم فى يوم بعينه دون أن يجعلوا للفقراء نصيبا منه وأصبحوا فلم يجدوا ثمارا واكتشفوا أنهم من الطاغين. (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) ..) .   Bell ,op.cit. (17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفى سورة النجم (رقم 53) نقرأ هذه الايات: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) ..) . والمعنى نفسه نجده فى سورة العاديات (رقم 10) : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) ..) . وفى سورة الفجر (89) نجد تأنيبا للانسان على سلوكه: (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) ..) . وفى سورة الحاقة (69) نقرأ هذا الوصف لرجل كان لا يؤمن باليوم الاخر: (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) ..) . وقد قدمت لنا سورة الذاريات (51) - من ناحية أخرى- وصفا للأتقياء كالتالى: (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ..) . وعلى النحو نفسه نقرأ فى السورة (70) (المعارج) وصفا لمن يدخل جهنم لأنه جامع للثروة بخيل بها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 (كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) ..) . ان محتوى هذه الايات- بالاضافة لشجب الكفر بالله ورسله ورسالاته- يتصل بالجانب الأخلاقى. ان الايات تشير- ببساطة- الى أنه أمر طيب أن نطعم الفقراء والمحرومين، وانه لأمر سيىء أن نجمع المال لأنفسنا. وأكثر من هذا، ان هذا هو المحتوى الأخلاقى الوحيد للسور التى درسناها (باعتبارها أول ما نزل من القران الكريم) اذا استثنينا من ذلك الاشارة للمطففين (العابثين بالكيل والميزان) * فى سورة المطففين، والاشارة لعدم العفة فى سورة** المعارج، وهذه الايات ربما نزلت فى المرحلة المكية المتأخرة والمدنية على التوالى «18» . والاشارة الى قتل الأطفال فى السورة 81 (التكوير) وهى مسألة خطيرة وليست عادية أبدا*** تجعلنا أمام حقيقة مثيرة ومربكة، وتعد معضلة ذات أهمية كبيرة لفهم طبيعة الكيرجما القرانية) Quranic Kerygma المقصود خواص المحتوى القرانى) . فالجانب الخلقى (الأخلاقى) المتعلق بالوصايا) decalogue الكلمة الانجليزية المستخدمة تعنى الوصايا العشر) لا وجود لها غالبا، فليس هناك اشارة الى احترام الوالدين واحترام الحياة، والزواج والملكية، والصدق فى الشهادة- فى بواكير ما نزل من القران، كل ما فى الأمر هو النهى عن تمنى أو اشتهاء ما فى أيدى الاخرين، فالقيم الأخلاقية فى أول ما نزل من القران الكريم مرتبطة بالسخاء والبخل.. وهى أمور يمكن أن ينظر اليها الغرب باعتبارها أشياء غير مفروضة أو من قبيل النوافل أو زائدة عما هو مطلوب من الانسان.Supererogation   * (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) ..) السورة 83 (المطففين) . ** (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) ..) السورة 70 (المعارج) . Bell ,op.cit. (18) *** (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) ..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 (هـ) مهمة محمد بعض الايات التى تناولناها لتونا هى بمثابة أوامر موجهة بشكل أساسى لمحمد صلّى الله عليه وسلم نفسه، لكنها تمتد لتشمل أتباعه أيضا، لكن هناك ايات موجهة له واحده لتحدد مهمته واحده.. وهذه المسألة غير واضحة فى أوائل ما نزل من القران (وفقا للقائمة التى أوردناها فى هذا الفصل) ، رغم أن وجودها غير منكور، فمسألة نبوته أو وضعه كنبى ظهرت كمسألة تتمحور حولها الايات بعد ذلك. وفيما يلى نذكر الايات الموجهة للنبى صلّى الله عليه وسلم ويمكن أن تعنى أيضا أتباعه، وأخرى موجهة له فحسب: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) ..) السورة 74 (المدثر) . (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) ..) . السورة 87 (الأعلى) . وكلمتا (أنذر) و (ذكر) (بشديد الكاف وكسرها) تعنيان بالانجليزية warn و، remind كما نجدهما أيضا فى صيغة اسم الفاعل (نذير) * و (مذكر) (بتشديد الكاف وكسرها) . وكلمة (أنذر) قريبة تماما من الفعل الانجليزى Warn الذى يعنى العمل المنطوى على اخبار شخص بأمر خطير أو مضر أو مرعب ليتخذ الحيطة أو الحذر. واستخدام كلمة (أنذر) فى أوائل ما نزل من القران الكريم يعنى أن فكرة الحساب فى اليوم الاخر كانت موجودة بشكل أو باخر فى الدعوة الاسلامية منذ البداية. ونظرا لأهمية الحساب فى الآخرة والجزاء فى الدنيا فى أواخر الحقبة المكية، فليس غريبا أن ترد كلمة (نذير) أكثر من أربعين مرة فى القران الكريم، كما وردت كلمة (مذكر) مرة واحدة. وقد قدم لنا لين «19» Lane شرحا للاستخدام القرانى لكلمة (ذكر) كالتالى:   * صيغة مبالغة تعامل معاملة اسم الفاعل «منذر» . Arabic -English Lexicon ,S.V. (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 (بذكر الثواب والعقاب، يحذر الله سبحانه ويحث، يحثهم على الطاعة، ويقدم لهم النصائح الطيبة ويذكرهم بنتائج أعمالهم، وبما ينقى القلب ويجعله رقيقا..) ومضمون الكلمة الانجليزية remind يشتمل على أن الشخص المخاطب (بفتح الطاء) يعرف بالفعل شيئا عن الله واليوم الاخر، لكن للكلمة العربية استخدامات أوسع فالمعاجم العربية التى رجع اليها لين Lane توضح أن remind الانجليزية لا تركز على المفاهيم السابقة. نخلص من هذا الى أن أوائل ما نزل من القران الكريم حدد مهمة محمد صلّى الله عليه وسلم بلفت نظر الناس الى ما ذكرناه انفا فى الفقرتين (أ) و (ب) . 3- العلاقة الوثيقة بين الرسالة والأحوال المعاصرة ما قلناه على سبيل التفسير لهدف ومضمون أوائل ما نزل من القران ينطلق من منطلق معقول جدا، وهو أن الرسالة (الكيرجما (Kerygma كانت مرتبطة على نحو خاص بمكة فى ذلك الوقت. ومهمتنا الان هى الاجابة عن هذا السؤال: كيف كان ذلك؟ لقد ألقى الفصل الأول الضوء على أوضاع مكة، لكن ما نعلمه من خلال التاريخ التقليدى للعصر الجاهلى، ومن خلال الأشعار أمر مهم لا بد من الحاقه بهذه الدراسة، لندرك تشخيص الأمراض الاجتماعية كما عبرت عنها رسالة القران (الكريم) نفسه. لذا، فمن الملائم أن نناقش التشخيص والعلاج فى الوقت نفسه تحت رؤس أقلام أربعة: الجانب الاجتماعى، والأخلاقى والعقلى والدينى. (أ) الجانب الاجتماعى كان الاتجاه العام- كما اتضح فى الفصل الأول- ينحو نحو تفكك التضامن الاجتماعى، ونحو ازدياد النزعة الفردية. ومن بعض الجوانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 كانت التنظيمات القبلية والعشائرية لا تزال قوية، وان كان بعض الناس لم يكونوا يترددون فى غض الطرف عن الروابط العشائرية. وكان هذا هو الوضع فى مكة خاصة، ذلك لأن الحياة التجارية فى مكة قد أسرعت بظهور الفرديه حيث المصالح الماليه والماديه هى أساس المشاركة، مثلها فى ذلك- غالبا- مثل العلاقات القبلية والعشائريةblood relationship. فجمع الثروات الضخام- وهو ما اشار اليه القران الكريم على أنه الشغل الشاغل لكثير من أهل مكة- يعد علامة على هذه الفردية. والحكاية ذات المعنى الرمزى عن أصحاب الجنة (البستان) التى أشرنا اليها انفا (فى السورة رقم 68/ الاية 17 وما بعدها) تمثل عملية تحالف لاحراز الاحتكار فى مجال من المجالات واغلاق فرص النجاح أمام المنافسين، فليس هناك فى الايات ما يشير الى أن هؤلاء الملاك للبستان كانوا من عشيرة واحدة. وبينما يبدو من غير المعقول أنه كان فى مكة زيادة فى عدد الفقراء ذوى الفقر المدقع، الا أنه من المحتمل أن تكون الفجوة بين الأثرياء والفقراء كانت قد اتسعت فى نصف القرن الأخير، فالقران الكريم يشير الى زيادة الوعى بالفرق بين الأغنياء والفقراء- أو ربما يجب أن نقول: بين الأغنياء من ناحية وغير الأغنياء والفقراء من ناحية أخرى، ومن الواضح أيضا أن الأغنياء لم يكونوا يعبأون بالفقراء وغير ذوى النفوذ، حتى من بين أفراد العشائر التى ينتمون اليها. وربما كانت الاشارة الى الأيتام تفيد أنهم كانوا لا يعاملون معاملة حسنة من أقربائهم الأوصياء عليهم، وفى سورة عبس (رقم 80) صورة لمحمد صلّى الله عليه وسلم تبين أنه- للحظة- قد جارى العرف السائد فى مراعاة الأثرياء وذوى النفوذ وعدم الاهتمام بالاخرين. كل هذا لا بد أن يعنى افتقاد روح الجماعة (أو معنى الجماعة (the sense of community فالانسان حيوان اجتماعى يصبح غير سعيد اذا لم يكن له جماعة ينتمى اليها. فالأساس أو المبدأ الجديد الذى أصبح صائدا فى الجماعة هو الذى تجلى فى المصالح المادية لكن هذا لم يكن بديلا مرضيا للعلاقة العشائرية أو القبلية، Kinship by blood لكنه قد يؤدى الى تحالف كبير (كونفدرالية كبيرة) كالتى تكونت لتأليف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 حملة لحصار المدينة فى السنة الخامسة للهجرة. لكن هذا التحالف القائم على المصالح كان دائما عرضة للتفسخ، بمجرد أن يحس أن مصالحه متعارضة مع مصالح الجماعة ككل. كما أن مثل هذا التحالف قد يكون مفيدا فى القضايا الكبرى والأعمال التجارية الضخمة والسياسات، لكنه أقل اقناعا فى الحياة اليومية لمن هم أقل شأنا. وفى هذا الجو، اختفى معنى الأمن فى العيش فى أحضان الأقرباء، وبذلك كان هناك فراغ أمنى ظل شاغرا بعد تقطع أواصر القبيلة والعشيرة (فى مكة) . والايات القرانية الأولى (وفقا للقائمة التى أوردناها فى هذا الفصل) لم تقدم سوى تنبيه للعلاج الحقيقى لهذا الوضع، أعنى أنها ركزت على أن الأساس الجديد للتضامن الاجتماعى انما يكمن فى الدين. وربما كان التركيز على واجبات الكرم (المقصود الاحسان الى الاخرين) مقصودا به تخفيف حدة المشاكل، فلا بد من تقديم المساعدة المادية للفقراء (رغم أن هذا بلا شك، لم يكن الهدف الأساسى للكلام) ولا بد أن يتوقف النظر للمال كقاسم اجتماعى كبير، فالأثرياء- الى حد ما- لا بد أن يعتبروا أنفسهم (وكلاء (stewards فى ثرواتهم، أكثر من أن يعتبروا أنفسهم مالكين لها ملكية مطلقة. ومبدأ الوكالة هذا Stewardship كما يسميه الغرب فى بعض الأحيان- يعنى أن الانسان الذى حصل ثروة لا يجب أن يستخدمها لسعادته ومتعته فحسب وانما- الى حد ما- لسعادة مجتمعه، هذا المعنى الكامن فى مبدأ (الوكالة) الغربى يظهر واضحا فى سورة المعارج (70) : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) ..) . فما يأخذه السائل والمحروم حق.recognized right ومن ناحية أخرى لم يحاول الاسلام أن يستعيد النظام القديم المبنى على التضامن القبلى فقد استقر مبدأ وعى الفرد بفرديته، وكان لا بد أن يكون مقبولا، كما كان لا بد من وضعه فى الاعتبار، فقد قدم لنا القران الكريم اليوم الاخر على أنه يوم يحاسب فيه كل فرد عن عمله، وفى السورة 82 (الانفطار) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) ..) . أى أنه فى هذا اليوم لا يكون لأحد سلطة أو نفوذ لنفع الاخر أو ضره. ونقرأ فى السورة 35 (فاطر) : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى، إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) ..) . لكن لا بد أن نذكر أنه فى السور المدنية حيث تكون المجتمع الاسلامى، كان هناك تركيز على مسئولية الفرد تجاه أقربائه: ( ... وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ (177) ..) . (ب) الجانب الأخلاقى لا تتناسب مثل المروة البدوية مع المجتمع التجارى، فالقيم التى تؤدى للنجاح فى مثل هذا المجتمع ليست الشجاعة فى القتال والصبر على المكاره، والاصرار على الثأر وحماية الضعيف وصد القوى، وانما قد يكون أول ما تتطلبه بعض الارتباط بأمور القوافل، ثم لن تسير الأمور بعد ذلك فى المسار الخاطئ، لكن اذا ترجم مبدأ (الاصرار على الأخذ بالثأر) ليصبح بمعنى التصدى لارجاع الحق لصاحب الحق، فهناك مسألة وراء ذلك، ليس من المعقول أن يفعل التاجر ذلك، فالنجاح فى مضمار التجارة والمال مرتبط باهمال الضعيف وتوثيق عرى الصداقة مع القوى (نظريا فى حدود المعاملات المستقيمة) . فالفضيلة البدوية المتمثلة فى حفظ الأمانة كانت بالتأكيد أمرا مهما؛ لأن حدا أدنى من الاستقامة فى العمل التجارى يعد أمرا ضروريا لتكوين الثقة التى هى بمثابة شحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يساعد على ادارة عجلة الأعمال التجارية، وحلف الفضول «20» يبدو أنه كان تنظيما الهدف منه مواجهة ممارسات اتسمت بقلة الذمة وانعدام الضمير. والانشغال بالأعمال المالية الكبرى- مرة أخرى- لا يعنى بالضرورة الكرم، بل قد يعنى العكس مادام رجال المال يحاولون دائما زيادة أرصدتهم المالية (كما يشير القران الكريم) ، ومن ناحية أخرى فان الحاجة للاحسان (اعانة الاخرين) فى مدينة مثل مكة ربما كان أمرا مهما كالحاجة اليه فى الصحراء. فالاعتراف بمثل المروة كان بمفهوم شرف القبيلة وكان- على نحو أقل- بشرف الفرد المنتمى للقبيلة. وكانت قوة الاعتراف بمبدأ شرف القبيلة فى الرأى العام متجذرا، وكان التعبير عن الرأى العام وصياغة قيمه- فى الأساس- مهمة الشعراء. وفى ظروف الصحراء قد نتوقع أن القبائل الأقوى أمثلة مقبولة للمروة، وان هذه القبائل لا بد وأن تكون قادرة على حث الشعراء على مدحها، سواء أكانوا شعراء من داخل القبيلة أم فى خارجها. لكن بزيادة الثروات الضخام فى مكة- يظهر أن الرأى العام لم يعد يوضع فى الاعتبار كثيرا، حتى بالنسبة للرأى العام لدى العرب عموما. فالثروة قادرة دوما على شراء مديح الشعراء عند الضرورة، لكن الانطباع الذى يخرج به المرء هو أن ذلك لم يكن ضروريا (ليس هناك مبرر لدفع الأموال طلبا لمدح الشعراء) ، فلم يكن أهل مكة يقيمون وزنا كبيرا للشعر. وربما كان تشعب سلطة أثرياء مكة عظيما منتشرا مما دفع الى استحسان أفعالهم (أو على الأقل الى الكف عن نقدهم) ، رغم أن مدحهم لم يكن أمرا يتسم بالصدق. ما ذكرناه لتونا هو فى جزء منه استنتاج من الحقيقة التى مؤداها أن أفعال الكرم التى أشار القران الكريم الى أنها كانت تنقص أهل مكة، كانت أفعالا ينظر اليها البدو باعتبارها شيئا جديرا بالاحترام. ففضيلة الكرم- التى هى نقيضة للشح أو البخل- كانت جزا من المثل العليا العربية القديمة. فكما ذكر لامانس Lammens أنه «من بين أفكار   (20) انظر الفصل الأول/ الفقرة (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 البدو.. أن الثرى (صاحب الثروة) يبدو لهم ببساطة كمستودع للثروة (حافظ لها أو أمين عليها (depositaire انه واضع يد بشكل مؤقت على ثروته، وأن مهمته هى توزيعا عند الضرورة على أفراد قبيلته.. انها وسيلته لاظهار كرمه وفداء الأسرى ودفع ثمن المديح الذى يقدمه الشعراء «21» » . وقد يكون هذا القول عرضة للنقد على أساس أنه يغافل ذكر أن وضعية سيد القبيلة أو شيخها داخل القبيلة تتيح له فرصا لزيادة ثروته. وتركيز القران الكريم على الاحسان والصدقة.. الخ يعنى أن قيم الكرم كانت قد انهارت فى مكة، أولم يعترف بها كقيم مهمة، فقد كان سلوك أثرياء مكة من النوع الذى كان يعتبره أهل الصحراء سلوكا غير شريف، لكن لم يكن هناك فى مجتمع مكة ما يجعلهم يشعرون بالخجل منه (لأنه هو الطابع العام للسلوك فى مكة) لقد كانت المثل العليا القديمة قد أصبحت مهجورة تماما. وكانت استجابة القران الكريم لهذا الوضع ذات أبعاد مختلفة. فبتركيزه على السخاء والكرم (المقصود الصدقة والزكاة..) انما يحيى جانبا من جوانب المثل القديمة عند العرب، ولا يا بنى من فراغ وانما يا بنى على قواعد أو أسس كانت موجودة بالفعل فى الروح العربية. وأكثر من هذا، فقد كانت روح السماحة والكرم ذات صلة بالظروف فى مكة (المقصود أن الاشارة اليها تثير أمورا ذوات صلة بالأوضاع فى مكة) . وفى الوقت نفسه، فان القران الكريم ربط بين روح السماحة والكرم (المقصود الزكاة والصدقات ... الخ) بالثواب والعقاب فى الحياة الاخرى. فالبخلاء الممسكون سيلقون عذابا أبديا. ولم يكن لهذا تأثير بطبيعة الحال اذا لم يكن الناس مؤمنين باليوم الاخر، لكن الى حد ما- كان هناك شىء ما قد تم افرازه كان قادرا على سد الفجوة الناشئة عن انهيار الوازع القديم، وظهور وازع جديد مختلف فى مجتمع الفردية.an individualistic Society   Berceau ,253 ,cf. 211 ,239. (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وعلى أية حال، فالمسألة لم تكن بسيطة، انها ليست مجرد احياء للمثل البدوية القديمة وانما كانت انتاجا لمثل عليا أخلاقية جديدة تتناسب وحاجات الحياة المستقرة. فكان انقاذ ما يمكن انقاذه جزا من المهمة لكنه أصغر أجزائها. فكثير مما هو جديد سيكون مطلوبا أيضا، وقد تناول القران الكريم هذا الجزء الأكبر فى بواكير ما نزل منه بتمهيد الطريق لايجاد قيم أخلاقية جديدة، أعنى أوامر الله ورسوله التى عن طريقها ستصل هذه القيم الجديدة. وقد وجه القران الكريم أوامره فى شكل مبادئ أو قيم عامة، دون التعرض للتفاصيل: وكون هذه القيم الجديدة التى يبثها القران الكريم ما هى الا أوامر من الله سبحانه، فان ذلك يشكل وازعا جديدا للالتزام بها، هذا الوازع الذى ارتبط بالحساب فى اليوم الاخر، لقد حل هذا الوازع فى بعض الحالات محل أى وازع قديم. وصعوبة هذه المهمة الجديدة تتضح بالنظر الى القدر فى مفهوم (التزكى) . فالمعنى الأصلى للتزكى- فيما يبدو- قريب من معنى الصلاح والتقوى، وربما انطبق معنى الكلمة على الانسان الذى يؤمن بالمبدأ الذى مؤداه أن قدر الانسان النهائى أو مصيره النهائى معتمد على القيم الأخلاقية التى يطبقها فى حياته. وعلى أية حال، فان هذا المفهوم لم يكن مفهوما عربيا محليا، وبدأ بالتدريج يختفى من القران الكريم (المقصود أنه ورد فى أوائل ما نزل من القران ولم ينزل فى أواخر ما نزل منه) وحلت محله فكرة اسلام الوجه لله أو التسليم بقضاء الله وقدره. وحتى اذا كان هناك تركيز شديد على الجانب الأخلاقى للتزكى بالقول ان هذه الكلمة تعنى الصلاح والتقوى، فان اهمالها (عدم نزولها بعد ذلك) يعد مثالا على الصعوبة الكامنة فى ايجاد مفاهيم جديدة يمكن أن تتجذر بنجاح وتلتحم بعمق فى القيم المحلية (العربية) عميقة الجذور. (ج) الجانب العقلى الجوانب العقلية للمسائل التى واجهت العرب أيام محمد صلّى الله عليه وسلم أقل أهمية، لكن لا ينبغى اهمالها تماما، فهناك نقطتان مهمتان يجب وضعهما فى الاعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الأولى أن أهل مكة كانوا على وعى كامل بقدرات الانسان لكنهم نسوا خلق الانسان (بفتح الخاء) ، وكانت النظرة البدوية على وعى كبير أيضا بقوة الانسان، لكنها نظرة خفف من غلوائها اعتقادهم فى القضاء والقدر، واذا تناولنا التراث الاسلامى باعتباره دالا بعض الشىء على النظرة الجاهلية «22» (النظرات التى كان سائدة قبل ظهوره- أى الاسلام) ، فهناك أربعة أمور خارج سيطرة الانسان: الرزق، وساعة الوفاة، والسعادة والشقاء (فى الحياة الدنيا) ، وجنس المولود (ذكر أم أنثى) ، وخارج هذا فللانسان أن يفعل ما يشاء، ان فى استطاعته أن يمارس كل ما تنطوى عليه كلمة (المروة) خارج هذه الأمور الأربعة التى لا يد له فيها وسواء تصرف وفقا لما تقتضيه مبادئ المروة أم لا، فان هذا يتوقف عليه هو (على الشخص نفسه) ، وعلى ميراثه (من أجداده) ، وان كان هذا العنصر الأخير غير محدد بما فيه الكفاية كما أنه مرتبط بما لا دخل للانسان فيه. وعلى أية حال، فهذه الحدود للقدرة البشرية التى اعترف بها البدو لم تكن واضحة تماما فى مكة، فالقوة المالية يمكنها أن تعوض كثيرا مما يترتب على نقص المطر، والمجاعة يمكن معالجة نتائجها بالاستيراد. ومرة أخرى، فقد كان من اليسير طوال جيل أو جيلين اعتبار امتلاك ثروة كبيرة أمرا مرتبطا بالسعادة، بل قد تبدو الثروة قادرة على مد أجل الانسان، وهكذا كانت هناك مبالغة فى تقدير قدرة الانسان وسلطانه وطغيانها على الحياة العقلية فى مكة. والنقطة الثانية المهمة لا تبعد عن النقطة الأولى التى ذكرناها لتونا بل انها شديدة الارتباط بها، فحقيقة أن زعماء مكة- الذين كان فى حوزتهم أكبر قدر من السلطة السياسية- لم يكونوا أمثلة بارزة للمروة، ولا بد أن هذا قد أثار شكوكا عقلية لدى المفكرين فى ذلك العصر- شكوكا حول جوهر المروة كقيمة، وربما أيضا أثار شكوكا حول أثر الوراثة فى انتقال المروة أو على الأقل القدرة على تحمل قدر كبير منها. ومثل هذه الأفكار تقوض الأساس النظرى للتضامن القبلى وتشجع التطور نحو الفردية.   (22) انظر الفصل الأول، الفقرة (4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فان أوائل ما نزل من القران الكريم لا يشير اليها الا قليلا غير أنه ربط بين بعض جوانب المروة- خاصة الكرم- وثواب الله سبحانه فى الآخرة. وهناك ما يمكن قوله عن مسألة القضاء والقدر فقد كان الوثنيون ينسبونها للزمن أو (الدهر) ، بينما نسبها الاسلام لله سبحانه. وقدرة الله سبحانه وكونه خيرا تتجلى فى انباته للنبات الذى هو رزق، والله سبحانه هو الذى خلق الانسان، وجعله ذكرا أو أنثى، والله هو الذى يميت ويحيى، وفى الآخرة فانه سبحانه هو الذى يهب الانسان سعادة أبدية أو يزج به فى عذاب دائم. (د) الجوانب الدينية الجوانب الدينية لقضايا مكة قبل الاسلام مرتبطة بقضايا حياتهم، بمعنى أنه من خلالها يجدون معنى للحياة وأهمية لها. لقد وجد الدين البدوى القديم معنى للحياة فى الشرف، وبدرجة أقل فى فكرة استمرار القبيلة، فالقبيلة هى تجسد للشرف- وكانت الفكرة عن القبيلة هى الأكثر قابلية للتطبيق. وهذا الاتجاه الدينى القديم كان قد تحطم فى مكة بسبب تطور الاتجاه الفردى وازدياده وبسبب ضعف الرأى العام وقلة أهميته كأساس لاحراز الشرف، وبسبب عدم كفاية فكرة المروة التى كانت أساسا للشرف. وفى مكة، لم يكن هناك مثل أعلى جديد، فقد حلت فكرة التفوق بالاستحواذ على الثروة بدلا من الشرف، ونتج عن هذا مجموعة قيم أخرى مرتبطة بها. وكانت هذه الأفكار تمثل مثلا (بضم الميم والثاء) ودينا ربما لم يكن يرضى الا قلة من الناس وعلى امتداد جيل أو جيلين، فلم يكن ذلك يرضى مجتمعا كبيرا على المدى الطويل. فالناس سرعان ما يدركون أن هناك أشياء لا يمكن شراؤها بالمال. وفى أفضل الأحوال فانهم يستطيعون- فقط- أن يجدوا معنى وأهمية فى كونهم أثرياء، ان هم غضوا الطرف عن حقائق أخرى غير سارة كالمرض والموت خاصة الموت المبكر. ففى أى مجتمع مهما كان حجمه توجد أمور غير سارة تتج؟؟؟ ع لتقتحم عنوة حياته، خاصة حياة الأثرياء منهم، هذا اذا نحينا الفقراء الذين يجدون صعوبة فى نسيان أنهم أقل حظا من الناحية المالية. ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الاضطراب العائد الى عدم كفاية هذا الدين (دين عبادة المال) ربما شعر به بشكل حاد متوسطو الثروة (غير الأثرياء جدا) ، فهؤلاء كان لديهم من الوقت كى يتأملوا وكى يكونوا على بعض الوعى بحدود ما يقدر عليه المال، أو بتعبير اخر قصور سلطان المال. ويشير القران الكريم فى أوائل ما نزل منه الى ثقة قريش المفرطة فى المال باعتبارها خطيئة حاقت بها، واعتبر- أى القران الكريم- ذلك واحده كافيا للادانة. فالثقة فى الثروة تجر وراءها المبالغة فى الثقة بالنفس وتجر الانسان الى نسيان اعتماده على الله، أو حتى انكار ذلك. ولكى يذكر القران الكريم الانسان أنه مخلوق، فقد جعله يتحقق من أن كثيرا من الأشياء التى تسبب له السعادة- بما فيها المال- انما هى فى الحقيقة ملك لله تعالى، فتحدث القران الكريم عن خلق الله للانسان وتزويده بكل ما يجعل السعادة فى الحياة أمرا ممكنا، وذكر الانسان بأنه سيعود الى الله فالى الله المصير. لقد حض القران الكريم على شكر الله وعبادته والاعتراف بفضله والاعتماد عليه، وأن يتخلى الانسان عن الاعتماد المبالغ فيه على الثروة، وكان ذكر اليوم الاخر بمثابة تحذير للانسان من أن مصيره النهائى بين يدى الله وليس بين أيدى البشر. وفى مقابل كل هذا لا بد أن نحاول فهم التركيز على قيم الكرم، فمثل هذه القيم لها أثرها الاجتماعى والاقتصادى لكن يكاد يكون مؤكدا أنها لم تكن أهم جوانبها. لقد كان ذكرها بمثابة اعادة تأكيد على قيم (المروة) ، وكان هذا أمرا مهما، لكن كانت هناك أمور أخرى أيضا. لقد كانت هناك ممارسات عملية بمعزل عن الثروة، وكان هناك تعبير خارجى عن هذا الاتجاه الجديد الداخلى (العميق) لا بد من وجوده لتقوية الفكرة الكامنة وراءه.. لكن من المؤكد أنه بمرور الوقت، فان هذه الأفعال المتعلقة بالكرم أصبحت مرتبطة بشىء ما راسخ وعميق الجذور فى قلب العربى. لقد أصبحت أفعال الكرم (المقصود الصدقات والزكاة.. الخ) كنوع من التضحية (تقديم الأضحيات) ، لاسترضاء القوى الأقدر لاتقاء غضبها وكسب رضاها. انها استمرار لما كان يفعله اباؤهم وأجدادهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الوثنيون من تقديم أضحيات للالهة الوثنية. انه من الصعب أن نقول الى أى حد كانت هذه الفكرة ماثلة فى عقول المسلمين الأوائل، لكن يمكن القول بصعوبة انها كانت حاضرة فى الوعى، اذا نظرنا للتطورات التى حدثت بعد ذلك والتى شجع عليها القران الكريم، واذا كان الأمر كذلك فان أفعال الكرم هذه (زكاة وصدقات.. الخ) التى تحض على تقديم أضحيات كان لها مكان عميق فى قلوب المسلمين الأوائل، ولا بد أنها أصبحت تعبيرا أكثر تقدما على اعتماد الانسان على قوى عليا (المقصود على الله سبحانه) . أما والأمر كذلك، فان التعاليم الظاهرة فى أول ما نزل من القران الكريم تبلغ ذروتها فى بيان قوة الله سبحانه وكونه خيرا، وكونه خالقا عادلا، وفى حث الانسان على الاعتراف بذلك والتعبير عن اعتماده على الله سبحانه. 4- مزيد من التأمل (أ) الظروف الاقتصادية والدين تشخيص الأوضاع فى مكة كما قدمها لنا القران الكريم تشير الى أن الاضطرابات والمشاكل القائمة وقت نزوله كانت- فى الأساس- دينية. وقد افترضنا فيما ذكرناه انفا أن ظهور الاسلام كان- على نحو ما- مرتبطا بالتغير من حياة البداوة الى الاقتصاد التجارى.mercantile economy أهناك تعارض بين المنظورين؟ أم يمكن التوفيق بينهما؟ ان السؤال يثير قضايا أساسية، لكن من منطلق عقيدة التوحيد والايمان بوجود الله Theism لا بد من التعرض للنقاط التالية: التغير الاقتصادى لم يحدث فى فراغ، وانما فى مجتمع له بالفعل تكوينه الاجتماعى والأخلاقى والعقلى والدينى. وأمراضه أو علله راجعة للتشابك أو التداخل الناتج عن هذا التغير، بالاضافة الى أسباب أخرى سابقة عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 (أى سابقة على هذا التغير) وبتعبير اخر، فان هذه الاضطرابات وتلك العلل، ما هى الا نتيجة فشل الانسان فى التكيف مع التغيرات الاقتصادية بسبب اتجاهات معينة ظل محتفظا بها من فترة ما قبل التغير. لقد أدت الظروف الاقتصادية الجديدة الى زيادة ثقة الانسان فى نفسه دون يعى أنه مخلوق، وأدت الى زيادة الفردية دون أن يعى ضرورة المثل الأخلاقية العليا يوازن بها طموحه الفردى، وبدون نظرة دينية جديدة تعطى الفردية معناها. فالمسألة اذن هى اعادة تكييف الانسان مع الظروف الاقتصادية المتغيرة، وهذا يتطلب التعاون الواعى بين البشر، وما أتى به القران الكريم يفترض أنه أعطاهم تحليلا للموقف سيجعلهم يعيدون تكييف أنفسهم فى ضوئه. ويقدم لنا القران الكريم تحليلا للموقف غير مفصل لكنه كاف للأغراض العملية كما أنه بمثابة دليل للعمل. لقد كان المظهر الذى سرعان ما ظهر نتيجة هذه الاضطرابات الاجتماعية وعدم التكيف هو الانانية التى اتصف بها البعض، والتى أدت بهم الى استغلال الظروف الجديدة لتحسين أوضاعهم على حساب رفاقهم وانتكسوا فراحوا يفخرون بفدراتهم البشرية وفشلوا فى التعرف على الله سبحانه. ان القران الكريم يذكر الانسان أن هناك عوامل أخرى أهملها أو أنكرها وهى أنه فى غدوه ورواحه معتمد على قوة أعلى منه، وأن هناك موتا وحياة أخرى فيها حساب، أو ان أردنا التعبير بطريقة مختلفة راح القران الكريم يذكرهم بوجود محيط زاخر بالمعانى والأهمية فيما وراء الزمان والمكان. لقد صور القران الكريم علل العصر باعتبارها راجعة فى الأساس لأسباب دينية رغم تياراتها الكامنة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وبالتالى فان علاجها لا يمكن الا بوسائل- فى الأساس- دينية. واذا نظرنا الى نجاح جهود محمد صلّى الله عليه وسلم، فلا بد أن نحكم بأنه رجل جسور لأنه ناقش حكمة القران. (ب) أصالة القران الكريم يجب- فى رأيى- أن ننظر للمحتوى القرانى على أنه عامل خلاق طرأ على الموقف فى مكة (المترجم: الكاتب يتحدث عن أوائل ما نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 من القران الكريم) ، مهما كانت نظرتنا نحن الأوربيين اليه من الناحية اللاهوتية. لقد حل بالتأكيد مشكلات ولقد قضى على توتر كان البعض يسعى للتخلص منه، لكنه من المستحيل أن ننتقل من هذه المشاكل أو القضايا أو التوترات الى المحتوى القرانى (العقيدة القرانية (Kerygma ونحن غير مسلحين سوى بالتفكير المنطقى والاستدلال العقلى. فمن وجهة نظر العلمانيين الأوربيين (الذين لا يضعون العوامل الدينية أو الغيبية فى اعتبارهم عند تحليل مثل هذه الموضوعات) ، ربما أمكن القول أن محمدا صلّى الله عليه وسلم عندما كان يسمع من مصادر معتادة أفكارا بعينها، فانه كان يتحقق أنها حل للمشكلات التى يواجهها، ومن خلال التجربة والخطأ استطاع بالتدريج أن يا بنى نظاما. لكن حتى من خلال هذه النظرة العلمانية لا يمكن شرح مسار الحوادث بطريقة مقنعة. لقد حل القران الكريم مشاكل اجتماعية وأخلاقية وعقلية، لكن ليس دفعة واحدة وانما على مراحل وبتدرج غير محسوس. قد يقول العلمانيون انه لمن محض الصدفة ولأسباب ثانوية أن محمدا راح يتردد عبر الأفكار التى اعتقد أن فيها حل المشاكل الأساسية فى عصره، وأن ذلك ليس أمرا بعيدا عن المعقولية. ان هذا القول لا هو مبنى على الملاحظة والمشاهدة والتجربة حتى نقول انه تفكير علمى، ولا هو تفكير صارم أو دقيق بما فيه الكفاية بحيث نقول انه ينطبق على المحتوى (الكيرجما) القرانى. ان المؤكد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يدخل فى مسألة التحليل المجرد للوضع القائم كما نفعل نحن هنا. وبالنسبة للعلمانيين، فان أفضل وصف هو (الحدس) أو (البديهة) مع خيال خلاق، أو شىء كهذا. وانى أحاول أن أقف على الحياد بين رأى هؤلاء العلمانيين من ناحية وما يقوله المسلمون من أن هناك عاملا الهيا، أو سببا الهيا لتفسير الأحداث.Divine irruption وعلى أية حال، فان هذا العامل لم يكن منفصلا عن الوسط الذى ظهر فيه. فكما اتضح من الفقرات السابقة، لقد كان متلائما مع ظروف مكة حوالى سنة 610 للميلاد فلم يكن الوحى باللغة العربية فحسب، لكنه أيضا كان فى كثير من جوانبه عربيا فى تكوينه رغم أنه نص لا يوجد نص فى الأدب العربى يشبهه تماما. وفوق كل هذا، فقد صيغ الوحى فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 مصطلحات تعبر عن المفاهيم والصيغ الفكرية للعرب المعاصرين ونظرة أهل مكة. فمن غير العربى يختار الجمل دون غيره من مخلوقات الله للدلالة على عظمة الله سبحانه «24» ؟ والصفات الاخرى التى يشير بها القران لقدرة الله سبحانه هى- بلا شك- متناسبة مع العرب خاصة. وأفعال الكرم التى يحث القران الكريم عليها تتمشى مع المثل البدوية القديمة. أنه لامر بديهى أن يبدأ أى مصلح بمخاطبة الناس كما هم (واضعا فى اعتباره أفكارهم الموجودة فعلا) . ويمكن شرح ذلك بطريقه سلبيه اذا اعتبرنا انه لم يكن هناك نقد للربا فى السور المكية. فاذا كان النظام المالى الذى تطور فى مكة هو المصدر الأساسى للمتاعب، فلم لم يكن هناك نقد للربا فى أوائل ما نزل من القران الكريم؟ (فى الكيرجما القرانية كما ظهرت فى الايات والسور الأولى) . لكن حتى لو سلمنا بصحة اسم الشرط فى الجملة السابقة (كون الظروف الاقتصادية هى المصدر الأساسى للمتاعب) ، فكيف نتجنب السؤالين التاليين: كيف كان يمكن نقد نظام الربا؟ وكيف كان يمكن تمرير «نقد نظام الربا» الى أهل مكة؟ اننا لن نعدم عندئذ أن يقول قائل ان الربا ليس شيئا سيئا، لأنه لم يكن هناك مفهوم مجرد لما هو (صحيح) وما هو (خطأ) فى الاستشراف العربى (الاستشراف نوع من توقع نتائج أمر ما) . فقد كان الأقرب الى فهمهم هو (الشرف) و (ما يتنافى مع الشرف) ، لكن مفهوم الشرف ونقيضه كانا مرتبطين بالمثل الأخلاقية التقليدية، ووفقا لهذه المثل فلا شىء يعاب فى الربا فى حد ذاته، أو بتعبير اخر قد يرى أهل مكة فى هذه المرحلة المبكرة من الدعوة أن الربا لا يتعارض مع الشرف بمفهومهم التقليدى له، وحتى اذا كان الشرف بمفهومه التقليدى ما زال قائما، فقد كان قد فقد كثيرا من قوته فى مكة. فلم تكن هناك قاعدة- اذن- فى الاستشراف المكى لقبول فكرة نقد الربا فى هذه الفترة المبكرة. ولم توجد هذه القاعدة الا عندما تم تكوين المجتمع الاسلامى الجديد القائم على أوامر الله سبحانه ثم تجلت فى القران الكريم، فعندها كان يمكن أن يكون الأمر الالهى (لا ربا) أساسا من أسس هذا المجتمع، وحتى عندما تم تطبيق   (24) القران الكريم 88/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 هذا الأمر فى المدينة فقد كان موجها أساسا ضد اليهود «25» *. هذا التركيز على الاستمرار أو التواصل بين القران الكريم، والاستشراف العربى القديم، قد يبدو متناقضا مع ما ذكره جولدتسيهر، Goldziher فى الفصل الأول من كتابه الشهير Muhammedanische Studien والذى تناول فيه (المروة) و (الدين) مع أنه ليس لدينا ما ندفع به ضد كتابات جولدتسيهر. الا أن التناقض- على أية حال- ليس كاملا. ان هناك بعض التناقض بين ما دعا اليه محمد صلّى الله عليه وسلم على أسس قرانية من ناحية والتراث العربى القديم- بشكل واضح. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت هناك معارضة عنيفة له. وعلى أية حال، فان المرء بوسعه أن يميز بين الدين من ناحية والجوانب الأخلاقية المستقيمة فى المروة. فالجانب الدينى- هو ما أطلق عليه عادة النزعة الانسانية -humanism يتكون من الثقة فى الانسان وانجازاته وفى الاعتقاد فى أن معنى الحياة يتجلى فى الامتياز الانسانى، وهذا ما هاجمه القران الكريم بوضوح وبلا شك. أما الجوانب الأخلاقية الخالصة (التى أضعها فى اعتبارى عادة عند الحديث عن المروة) ، فهى مثل أخلاقية تشمل الشجاعة والصبر والكرم والاخلاص وما الى ذلك، فهذه لم يهاجمها القران الكريم، بل لقد انتقد أهل مكة لأنهم لم يضعوها فى اعتبارهم. وعندما يمعن القارىء فى الفصل الذى كتبه جولدتسيهر. فانه يكتشف جوانب ضعف مختلفة. فبيانه عن التناقض بين المروة والدين يتضمن ثلاثة أمور: ففى مواجهة الأخذ بالثأر دعا محمد الى الصفح والغفران، ووضع الاسلام قيودا على الحرية الشخصية خاصة فيما يتعلق بالخمر والنساء، وفرض الاسلام الصلاة وهى بالتأكيد تتضمن توجها يتناقض بعمق مع حب البدو للاستقلال. ولا خلاف حول هذا الأمر الأخير، فهو الجانب الدينى للمروة. وعلى أية حال، فالتوضيحات الاخرى   Muhammad at Medina ,296 f. (25) * هذا التخصيص بجعل تحريم الربا موجها لليهود تخصيص لا دليل عليه، فالربا هوجم فى القران الكريم بوجه عام. قال تعالى: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» (البقرة 276) وكان العباس عم الرسول يعمل بالربا- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 غير مرضيه. فالتغييرات المتعلقة بالزواج وشرب الخمر، ربما لا تكون راجعه الى عوامل اسلاميه وانما الى الاختلاف بين حياة البادية وحياة الاستقرار، بينما تعاليم العفو عن الأعداء التى ذكرها جولدتسيهر فى أفضل أوجهها تشير الى العفو عن الأقرباء المقربين. أما العفو عن الاخرين فى نطاق المجتمع الاسلامى فتشير اليه ايات أخرى*. ومن قبيل الموازنة مع الاتجاهات العربية القديمة، فان على المرء أن يعتبر من هو خارج الجماعة الاسلامية عدوا مادام المجتمع الاسلامى قد حل محل القبيلة أو العشيرة كواحدة اجتماعية. وعلى هذا، فمن الناحية الأخلاقية الصرفة نجد أن فكرة الانفصال العميق العريض بين الاسلام والجاهلية هى فكرة ضعيفة. وأخيرا، هناك قضية العلاقة بين القران الكريم والمفاهيم اليهودية المسيحية. دعنا نحاول أن نضع هذا السؤال فى منظور صحيح. القران الكريم عامل فعال فى حياة أهل مكة. ولكى نناقش (المصادر) فان هذه مسألة تشبه الى حد ما مناقشة (مصادر) هاملت التى ألفها شكسبير. سنجد فى غالب الأحوال أن (مصادر) هاملت هى حيث حصل شكسبير على بعض خصائص مسرحيته. ان هذه المصادر لا تشرح لنا أصالة شكسبير الابداعية، كما أنها لا تزيل الشكوك حولها ان كانت قائمة. وحتى اذا لم يكن هذا التناظر مقبولا من كل جوانبه لأن المناظرة أو الموازنة لا بد أن تكون عن علاقة المصادر بعمل من تأليف محمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يكن القران الكريم فى رأى المسلمين من انتاج محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى هذا لا بد من استبعاد هذه الفكرة. فاذا صدقنا محمدا صلّى الله عليه وسلم، فان القران الكريم ليس نتاج عقله الواعى، وفى هذه الحالة من الأفضل أن يربط بين القران الكريم وعقول الذين يخاطبهم، ونعنى بهم محمدا صلّى الله عليه وسلم نفسه والمسلمين الأوائل وأهل مكة عامة. وفى هذا السياق يمكن للمرء أن يسأل: الى أى مدى كانت الأفكار القرانية المناظرة للأفكار اليهودية المسيحية- كانت بمثابة اشارات لأفكار كانت حاضرة بالفعل فى عقول الناس قبل أن تصلهم رسالة القران؟ ان السؤال على هذا النحو يتيح للدارس الغربى   * أشار المؤلف للاية 128/ 3 والاية 23/ 24 ولا علاقة لهما بالسياق، فهناك اذن خطأ لعله مطبعى فى النص الانجليزى- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المهتم بموضوع (المصادر) أن يناقش بشكل عملى كل النقاط التى يريد مناقشتها دون أن يكون معارضا للعقيدة الاسلامية. وسيكون من الملائم أن نتعامل على حدة مع كل من العنصرين التاليين: (1) الأفكار الأساسية و (2) المادة التوضيحية والافكار الثانوية. ففى مجال الأفكار الأساسية، كفكرة الله (سبحانه) ويوم الحساب، فان القران الكريم نفسه (وكذلك الباحثين الغربيين) يشير الى أن الأفكار القرانية فى هذا الصدد متشابهة الى حد كبير مع أفكار اليهودية والمسيحية. ألا يعنى هذا أن القران الكريم غير أصيل وأنه لا يمثل عاملا خلاقا؟ الحق أن هذا القول غير صحيح بالمرة. فهذا التماثل identity يرجع الى أن الذين خاطبهم القران (الكريم) بمن فيهم محمد صلّى الله عليه وسلم نفسه، كان بعضهم متالفا بالفعل مع هذه الأفكار عن الله سبحانه ويوم الحساب، لكن ربما لم تكن على درجه كافية من الوضوح. لقد بدأ القران هنا بالتعامل مع الناس كما هم أى بالأفكار التى كانت لديهم بالفعل، فلم يكن أى يهودى أو مسيحيي يتكلم العربية بقادر على احراز النجاح الذى حققه محمد صلّى الله عليه وسلم، لو وقف بين أهل مكة وراح يكرر الافكار اليهودية والمسيحية. لقد كان سيبدو غريبا بينهم، أما القران الكريم فقد خاطبهم عن الأفكار اليهودية المسيحية على نسق التفكير العربى وبفكر كان بالفعل حاضرا فى عقول المتنورين منهم. ان أصالة القران الكريم تظهر فى أنه قدم لهم مزيدا من التفاصيل عن أفكار كانت موجودة عندهم، وكذلك مزيدا من الدقة والتحديد، كما قدم لهم ما جعلهم يركزون على شخصية محمد صلّى الله عليه وسلم ومهمته كرسول لله سبحانه، وكانت فكرة الوحى والنبوة بالتأكيد أفكارا يهودية مسيحية، فأن نقول ان الله سبحانه يوحى كلماته من خلال محمد صلّى الله عليه وسلم ليس- على أية حال- الا مجرد تكرار لما حدث فى الماضى، لكنه جزء من عامل فعال. ويتعرض أوائل ما نزل من السور والتى ناقشناها انفا- بشكل جوهرى- للأفكار الأساسية للعقيدة الاسلامية، وليس من أحد من متنورى العصر بمن فيهم محمد صلّى الله عليه وسلم نفسه، الا ولديه فكرة عنها. وتصبح القضية أصعب اذا تناولنا المادة التوضيحية التى استخدمها القران الكريم مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قصص الأنبياء. فما أورده القران من قصص للأنبياء قريب مما ورد فى المصادر اليهوديه والمسيحيه- عادة ليس من الأسفار المعتمدة فى العهدين القديم والجديد، وانما من الاعمال المنسوبة الى الربيين (الاحبار) ، ومن الكتابات الابوكريفية الملحقة بالعهد الجديد. ففى مثل هذه الحالات يجد الباحثون الغربيون صعوبة فى مقاومة الاغراء فى أن يصلوا الى نتيجة مؤداها أن القران الكريم من عمل محمد صلّى الله عليه وسلم وأنه صلّى الله عليه وسلم يكرر القصص التى سبق أن سمعها. لكن المسلمين لهم وجهة نظر أخرى. عندما قبل المسلمون الاوائل محمدا صلّى الله عليه وسلم كنبى أصبحوا مهتمين بأخبار الأنبياء السابقين، وكذلك كان محمد صلّى الله عليه وسلم مهتما مثلهم وراحوا يبحثون عن أخبارهم بقدر استطاعتهم. وبالتالى، فقد ازداد رصيدهم من المعلومات بالتدريج، وقد انعكس هذا فى القران. وبعض ايات القران نفسه تشير الى أن المادة التوضيحية (قصص الأنبياء) كانت معروفة: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) ..) الاية 17/ السورة 85 (البروج) . وفى الوقت نفسه، فهناك اية أخرى تشير الى أنه ليس كل التفاصيل كانت معروفة حتى لمحمد صلّى الله عليه وسلم نفسه: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ... ) الاية 44/ السورة 3 (ال عمران) . وعلى أية حال، فهنا يجب أن نتذكر أن الفصل بين الحقيقة المجردة من ناحية ودلالاتها من ناحية أخرى، وهو ما يأخذ به مفكرو الغرب، ليس أمرا واضحا تماما فى الشرق. ربما كان محمد صلّى الله عليه وسلم قد عرف الحقائق المجردة فى سور وايات تشير الى قصص مريم وعيسى وزكريا ويوحنا (عليهم السلام) . وكان محمد صلّى الله عليه وسلم يعلم بالفعل عنهم شيئا، لكنه ربما لم يكن يدرك معنى الحقائق المجردة وأنه كان مطلوبا أن يعلم مزيدا من المعلومات عنها (أى عن دلالات هذه القصص) . ان المهمة الأساسية لهذه القصص- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وفقا لمصطلحات الباحثين الغربيين- هى تحويل معناها لا مجرد الاخبار بحقائقها المجردة، لكن فى الشرق العربى حيث لا يهتم الناس بهذا الفصل بين الحقيقة ومعناها، كان يكفى أن يسميها القران الكريم (أنباء) ، أى أخبار أو معلومات.information هذا ما يمكن أن نتصور أن يقوله المسلم وهو يحاول اقناع الغربى الذى لم يقتنع بمعجزة أن القران أصلى وليس مجرد تكرار. وما أورده المسلمون من تفسير ربما كان أفضل كثيرا مما اعتاد الغربيون ترديده. وعلى أية حال، فان هذه المسألة مسألة (لاهوتية) أو (دينية) أكثر منها تاريخية. كل ما يهم المؤرخ هو أن يلاحظ أن هناك شيئا ما أصيلا فى الاستخدام القرانى لقصص الأنبياء، وفى اختياره للنقاط التى يركز عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الفصل الرابع أول من أسلم 1- الروايات المتداولة عن المسلمين الأوائل لأن النبالة (الشرف) فى الاسلام تقوم- نظريا- على خدمة قضية المجتمع الاسلامى، فان المسلمين فى عصور لاحقة نظروا باحترام وتصديق لمعظم دعاوى أجدادهم بخدمة قضية هذا المجتمع (أو الجماعة) ، لذا فالروايات المتداولة عن أوائل المسلمين يجب النظر اليها بتدقيق، واذا وجدنا قولا عن واحد من هؤلاء منسوبا الى أحد سلالته أو المعجبين به مؤداه أنه كان من بين المسلمين الاثنى عشر الأوائل، فلا بد أن نستنتج ونحن مطمئنون أنه كان فى الخامسة والثلاثين من عمره. هناك اتفاق عام على أن خديجة كانت هى أول من امن بزوجها (محمد صلّى الله عليه وسلم) ورسالته، لكن هناك خلافات حادة بشأن أول من أسلم من الرجال. وقد أورد الطبرى «1» مقتطفات كثيرة من المصادر، وترك القارىء يقرر بنفسه مختارا بين ثلاثة مسلمين: على، وأبى بكر، وزيد ابن حارثة. وبالفعل، فان القول بأن عليا هو أول من أسلم قول صحيح، لكنه وفقا لما يراه الكتاب الغربيون، مسألة لا معنى لها لأن عليا كان فى التاسعة أو العاشرة من عمره حين أسلم، كما كان من أسرة النبى صلّى الله عليه وسلم، والقول بأن أبا بكر هو أول من أسلم قد يكون أيضا صحيحا، وان اختلف معنى اسلامه عن اسلام على رضى الله عنه اختلافا كبيرا لأن أبا بكر- على   Ann ,1159 -1168. (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الأقل وقت الهجرة الى الحبشة- كان هو أهم مسلم بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم، لكن قد تكون الروايات الأولى قد أرجعت فترة اسلامه الى مدة أقدم. والحقيقة المطلقة تشير الى أنه ربما كان زيد بن حارثة هو أول رجل أسلم، لأنه كان عتيق محمد صلّى الله عليه وسلم ولارتباطه بالنبى ارتباطا شديدا، لكن وضعيته المتواضعة تجعل اسلامه ليس بأهمية اسلام أبى بكر «2» . تشير الروايات «3» الى أن مجموعة مهمة دخلت الاسلام بفضل جهود أبى بكر. والرجال الخمسة بالاضافة لعلى بن أبى طالب كانوا صحابة من الطبقة الأولى عند موت عمر بن الخطاب، وقد رشحهم لتولى الخلافة بعده (أن يختاروا من بينهم خليفة له كما هو معروف- المترجم) ، ومن المستبعد أن هؤلاء الخمسة كانوا قد أتوا للرسول مجتمعين قبل موت عمر رضى الله عنه بعشرين عاما فى مرحلة مبكرة جدا من تاريخ الاسلام. وهؤلاء الخمسة هم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله. وبالنسبة لعبد الرحمن بن عوف يقال انه أسلم فى الوقت نفسه الذى أسلمت فيه مجموعة كان على رأسها عثمان بن مظعون «4» ، وقد أورد الطبرى مزيدا من الروايات عن ابن سعد تشير الى أربعة رجال اخرين يقال انهم رابع أو خامس من أسلم، وهم: خالد بن سعيد، وأبو ذر، وعمرو بن عبسه) Abasah لعله عنبسه/ المترجم) والزبير. ورغم وجود أساس للشك فى الروايات المتعلقة بأوائل المسلمين الا أن قائمة المسلمين الأوائل التى أوردها ابن اسحق «5» ، قد تكون مقبولة الى حد كبير. والجدير بالملاحظة، أن هذه القائمة تضم أسماء أناس لم يحققوا شهرة فى أزمنة لاحقة، وان احتلوا الصدارة مع بداية ظهور الاسلام. ومن هؤلاء: خالد بن سعيد بن العاص الذى كان أبوه تاجرا   (2) انظر الملحق (وNoldeke ,ZDMG ,52 ,18 -21.، ( (3) الطبرى، نفسه، 1168، ابن هشام، 162. (4) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3، ج 1، 268 وما بعدها. (5) ابن هشام، 162- 165، وقد رقمها Caetani ir ,Annal ,I ,236 f.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كبيرا فى مكة فى ذلك الوقت، وسعيد بن زيد بن عمرو الذى كان ابوه يبحث عن الدين الصحيح قبل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ونعيم النحام الذى ربما كان أحد زعماء عشيرة عدى لكنه لم يهاجر للمدينة حتى السنة السادسة للهجرة. وعلى قدر علمى، فان كل اولئك الدين وصفهم ابن سعد بانهم دخلوا الاسلام قبل أن يدخل محمد صلّى الله عليه وسلم بيت الارقم موجودون فى هذه القائمة، وهناك أيضا واحد أو اثنان يصف ابن سعد- عادة- الواحد منهم بأنه (قديم الاسلام) . ولأن ابن اسحق لم يذكر دار الأرقم، فربما يكون قد رجع لمصادر مختلفة عن تلك التى رجع اليها ابن سعد، وعلى هذا فقائمته تضم ما اتفقت عليه روايتان. وسيكون من المفيد عند استعراضنا لحياة المسلمين الأوائل أن ننقل هذه الفقرات المنسوبة للزهرى «6» ، والتى تفيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا   (6) ابن سعد 1، 133. النص بلغة ابن سعد، ص 136 فى طبعة دار الفكر: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الاسلام سرا وجهرا، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من امن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان اذا مر عليهم فى مجالسهم يشيرون اليه ان غلام بنى عبد المطلب ليكلم من السماء، فكان ذلك حتى عاب الله الهتهم التى يعبدونها دونه، وذكر هلاك ابائهم الذين ماتوا على الكفر، فشنفوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك وعادوه. أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنى ابراهيم بن اسماعيل بن أبى حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أنزلت: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) ؛ صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصفا فقال: «يا معشر قريش!» فقالت قريش: محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا فقالوا: ما لك يا محمد؟ قال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوننى؟» قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط، قال: «فانى نذير لكم بين يدى عذاب شديد يا بنى عبد المطلب يا بنى عبد مناف يا بنى زهرة» ، حتى عدد الأفخاذ من قريش، «ان الله أمرنى أن أنذر عشيرتى الأقربين وانى لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا الا أن تقولوا لا اله الا الله» ، قال: يقول أبو لهب: تبا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (2) السورة كلها. أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنى ابن موهب عن يعقوب بن عتبة قال: لما أظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الاسلام ومن معه وفشا أمره بمكة ودعا بعضهم بعضا، فكان أبو بكر يدعوا ناحية سرا، وكان سعيد بن زيد مثل ذلك، وكان عثمان مثل ذلك، وكان عمر يدعو علانية، وحمزة بن عبد المطلب، وأبو عبيدة بن الجراح، فغضبت قريش من ذلك، وظهر منهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسد والبغى، وأشخص به منهم رجال فبادوه وتستر اخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 للاسلام سرا وجهرا وهناك من استجاب لله ممن أراد الله هداهم من الشباب وضعاف الناس لكى يكون من أمن بالله كثيرين، وان كفار قريش لم ينتقدوا ما قاله الرسول، وعندما مر بهم وهم جلوس فى مجموعات أشاروا اليه قائلين: (هذا هو انفتى من عشيرة عبد المطلب الذى يقول ان الخبر يأتيه من السماء) واستمر ذلك حتى انزل الله قرانا يتعرض للاوثان التى يعبدونها من دون الله ويتعرض لمصير ابائهم الذين ماتوا على الكفر. ومن هنا (مند حدث ذلك) بدأوا يكرهون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويعادونه. وأحد أهداف استعراضنا لاوائل المسلمين أن نحاول اكتشاف المعنى الدقيق لعبارة (احداث الرجال) و (ضعفاء الناس) التى وردت بالنص، وبالتالى فسنركز على عمر هؤلاء المسلمين الأوائل ووضعياتهم الاجتماعية. وسنتعرض لهم كطبقتين منفصلتين. وقد ذكر ابن سعد عدة أشخاص كانوا من بين (المستضعفين) وهذا يعنى أن هؤلاء يشكلون طبقة صغيرة محددة «7» ، ومن ناحية اخرى فان بعض الشباب (أحداث   (7) ابن هشام، 260، وانظر أيضا القران الكريم، السورة 28 (القصص) ، الاية 5: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) . النص كما ورد فى ابن هشام فى الطبعة التى بين أيدينا (طبعة مكتبة الايمان؛ ص 28) : «.. قال ابن اسحاق: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم اذا جلس فى المسجد، فجلس اليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية ابن محرث وصهيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء اليه، وما خصهم الله به دوننا فأنزل الله تعالى فيهم: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين ... » . لكنها ليست الاشارة الوحيدة فهناك اشارات أخرى منها: «.. ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة: قال ابن اسحاق: ثم انهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة اذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يصلب لهم، ويعصمه الله منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الرجال) الذين التفوا حول الرسول صلّى الله عليه وسلم كانوا من بين أكثر الأسر نفوذا فى مكة، ومن هنا فلا يمكن أن نطلق عليهم (ضعفاء) . 2- استعراض للمسلمين السابقين لخصنا فى الملحق (هـ) المعلومات الأساسية عن المسلمين الأوائل ومناوئيهم، وهدفنا الان أن نعلق على هذه المعلومات وأن نلفت الانتباه للأمور المهمة. فمادام الموقف الاجتماعى للمرء يقوم على وضعه بين عشيرته وعلى وضع عشيرته فى المجتمع (الجماعة) ككل، فمن المرغوب فيه أن نتعرض لكل عشيرة بشكل مستقل. وحيثما كانت المعلومات التى نسوقها قائمة على ما ورد فى الملحق (هـ) أو مستقاة من كتاب الطبقات لابن سعد، فلن نشير فى الهوامش الى اسم المرجع لأن ذلك سيكون مفهوما ضمنا. أما ترتيب العشائر هنا، فسيكون على نسق ما ورد فى اخر الفقرة الثانية من الفصل الأول. هاشم لقد ناقشنا فيما سبق (الفصل الثانى- الفقرة- 1) وضع عشيرة هاشم فى المجتمع المكى وملنا الى أنه فى فترة زعامة عبد المطلب كان وضع العشيرة مهزوزا، وبصرف النظر عن النبى محمد صلّى الله عليه وسلم وأفراد أسرته بمن فيهم على وزيد بن حارثة- فقد كان الداخلون الأوائل للاسلام من عشيرة هاشم هم: جعفر بن أبى طالب وحمزة بن عبد المطلب. وبالنسبة لحمزة عم النبى صلّى الله عليه وسلم فرغم أنه كان فى مثل عمر النبى صلّى الله عليه وسلم تقريبا، فربما كان   ما لقيه بلال وتخليص أبى بكر له: وكان بلال، مولى أبى بكر رضى الله عنهما، لبعض بنى جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة، وكان صادق الاسلام طاهر القلب، وكان امية بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه اذا حميت الظهيرة، فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى؛ فيقول وهو فى ذلك البلاء: أحد أحد. قال ابن اسحاق: وحدثنى هشام بن عروة عن أبيه، قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك، وهو يقول: أحد أحد؛ فيقول: أحد أحد والله يا بلال..» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 محترما كمحارب الا أنه من الممكن أنه لم يكن يحمل عبئا كبيرا فى مجالس شورى العشيرة، ويتضح تدنى وضع حمزة وجعفر فى العشيرة اذا عرفنا أن كلا منهما تزوج من قبيلة خثعم البدوية، بينما أبو لهب الذى ربما أصبح زعيما للعشيرة بعد موت أبى طالب وناوأ محمدا صلّى الله عليه وسلم مناوأة مريرة- فقد كان قادرا على الزواج من ابنة حرب بن أمية، الذى كان فى وقت من الأوقات زعيما لبنى عبد شمس وواحدا من أقوى رجال مكة. المطلب لقد أصبحت هذه العشيرة كما هو ظاهر ضعيفة جدا وكانت معتمده اعتمادا كبيرا على بنى هاشم. وكان لدى عبيدة بن الحارث عشرة أبناء الا أنه أنجبهم جميعا من جوار. وكان مسطح فقيرا- وربما توفى أبوه، لأنه كان يتلقى عونا من أبى بكر الذى كانت أمه أختا لأم أم مسطح. وكان عبيدة الذى يكبر محمدا صلّى الله عليه وسلم ببضع سنين وأحد أكبر المسلمين سنا أول من أسلم فى هذه العشيرة، والمسلمون الاخرون فى بدر كانوا اخوته وابن عمه (مسطح) الذى ربما يكون أيضا قد تأثر بقرابة أمه بأبى بكر. وقد حارب جزء من هذه العشيرة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم فى غزوة بدر لكن لم يكن أحد منهم من البارزين بأية حال من الأحوال. تيم لم يكن لهذه العشيرة أيضا غير دور قليل فى شئون مكة، وفى شباب محمد كان زعيمها (شيخها) هو عبد الله بن جدعان، ذلك لأن الاجتماع الذى تم فيه تشكيل حلف الفضول كان قد عقد فى بيته، وسمعنا أيضا عن لقاء محمد صلّى الله عليه وسلم بأبى جهل هناك «8» ، وربما يكون عبد الله بن جدعان قد مات قبل الان، وأن ابنه عمرو الذى قتل وهو يحارب ضد المسلمين فى بدر لم يكن له الأهمية نفسها التى كانت لأبيه. وكان لأبى بكر بعض النفوذ بين عشيرته عند تحوله للاسلام، لكنه لم يكن من القوة بمكان يجعله يحول عددا كبيرا من عشيرته الى الاسلام. وكانت ثروته قوامها 40 ألف درهم عندما أسلم، مما يدل على أنه لم يكن تاجرا كبيرا «9» . والمسلم الاخر الذى   (8) ابن هشام، 85، 451، وانظر أيضا ص 32 من النص الانجليزى. Lammens ,Mecque ,226 ,228 (322 -4) . (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أسلم فى فترة مبكرة من هذه العشيرة (تيم) هو طلحة وكان أصغر سنا من أبى بكر بكثير، وكان من فرع اخر من العشيرة. وكان أحد أعمامه وابن اخيه لا زالا على الوثنية وقتلا فى غزوة بدر، وكان مرتبطا بقوافل التجارة مع الشام. وكان على علاقة حميمة بأبى بكر الذى أخذه لمقابلة محمد صلّى الله عليه وسلم فأعلن اسلامه. أما اسلام صهيب بن سنان فيبدو أنه كان حالة مستقلة منفصلة عن اسلام الاثنين الانف ذكرهما، فهو بيزنطى التعليم ان لم يكن أيضا بيزنطى (رومى) الميلاد، وصلته الوحيدة بتيم هو أنه كان فى وقت من الأوقات عبدا لعبد الله بن جدعان، وكان صهيب صديقا لعمار بن ياسر حليف بنى مخزوم الذى كان له بدوره ارتباطات بيزنطية. وكان لصهيب من الثروة ما أسال لعاب المشركين طمعا، وكانت عشيرة تيم اما غير قادرة على حمايته واما غير راغبة فى ذلك. زهرة وكانت عشيرة زهرة تبدو أكثر رخاء وازدهارا من العشيرتين السابقتين (تيم والمطلب) ، وكان لبعض فروعها علاقات تجارية تعمقت بالزواج من عشيرة عبد شمس، فأم سعد بن أبى وقاص كانت حفيدة أمية بن عبد شمس. وكان عبد الرحمن بن عوف قبل أن يسلم قد تزوج من بنات عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وأخيه شيبة. ومرة أخرى نجد أن مخرمة بن نوفل من عشيرة زهرة كان واحدا من الزعماء الذين يقفون على قدم المساواة مع أبى سفيان صاحب القافلة التى ارتبط ذكرها بغزوة بدر. وكانت هذه العشيرة فى وضع غريب على الأقل منذ موقفها من زيارة محمد صلّى الله عليه وسلم للطائف (عندما طلب محمد صلّى الله عليه وسلم منها الحماية) وحتى بعد غزوة بدر، كان الزعيم الحليف هو الأخنس بن شريق*. وقد مات   * يشير الى رفض ابن شريق حماية الرسول عند دخوله مكة بعد عودته حزينا من الطائف، وهذا نص ما أورده الطبرى، ج 1، ص 555. «ثم قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلاف وفراق دينه. الا قليلا مستضعفين ممن امن به. وذكر بعضهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف مريدا مكة مر به بعض أهل مكة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل أنت مبلغ عنى رسالة أرسلك بها؟ فقال: نعم، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الان الأسود بن عبد يغوث الذى كان فيما مضى* شخصية بارزة. والشخص الأساسى الذى تحول للاسلام كان عبد الرحمن بن عوف (المقصود من عشيرة زهرة) ، وكانت سنه وقت الهجرة ثلاثة وأربعين عاما وحقق شهرة كرجل أعمال ماهر، وهناك رجل مهم اخر أسلم مبكرا، وينتمى الى فرع اخر من العشيرة (بنو عبد مناف بن زهرة) وهو سعد ابن أبى وقاص الذى يقال أنه أسلم وهو فى السابعة عشرة من عمره، ووفقا لاحدى الروايات فان أبا بكر هو الذى أحضره الى النبى محمد صلّى الله عليه وسلم ولكن رواية أخرى تذكر أنه أتى محمدا صلّى الله عليه وسلم مع عثمان بن مظعون، ثم   انت الأخنس بن شريق، فقال له: يقول لك محمد: هل أنت مجيرى حتى أبلغ رسالة ربى؟ قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال الأخنس: ان الحليف لا يجير على الصريح. قال فأتى النبى صلّى الله عليه وسلم فأخبره، قال: تعود؟ قال: نعم، قال: ائت سهيل بن عمرو، فقل له: ان محمدا يقول لك: هل أنت مجيرى حتى أبلغ رسالات ربى؟ فأتاه فقال له ذلك قال: فقال ابن بنى عامر بن لؤى لا نجير على بنى كعب. قال: فرجع الى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأخبره، قال: تعود؟ قال: نعم، قال: ائت المطعم بن عدى، فقال له: ان محمدا يقول لك: هل أنت مجيرى حتى أبلغ رسالات ربى؟ قال: نعم، فليدخل، قال: فرجع الرجل اليه، فأخبره، وأصبح المطعم بن عدى قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخلوا المسجد فلما راه أبو جهل، قال: أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: فقال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبى صلّى الله عليه وسلم مكة وأقام بها..» . وفى الوقت نفسه كان من رأى الأخنس بن شريق عدم الدخول فى حرب مع محمد صلّى الله عليه وسلم فى غزوة بدر، وفيما يلى نص ما أورده الطبرى، ج 2، ص 29: «.. فقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى- وكان حليفا لبنى زهرة وهم بالجحفة: يا بنى زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل؛ وانما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بى جبنها وارجعوا، فانه لا حاجة بكم فى أن تخرجوا فى غير ضيعة؛ لا ما يقول هذا- يعنى أبا جهل- فرجعوا؛ فلم يشهدها زهرى واحد؛ وكان فيهم مطاعا. ولم يكن بقى من قريش بطن الا نفر منهم ناس، الا بنى عدى بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد. ومضى القوم..» . (المترجم) . * أورد الطبرى (ج 1: ص 544) فى هذا السياق: حدثنى محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدى: أن ناسا من قريش اجتمعوا، فيهم أبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث؛ فى نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا الى أبى طالب فنكلمه فيه؛ فلينصفنا منه، فيأمره فليكف عن شتم ألهتنا، وندعه والهه الذى يعبد؛ فانا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شىء فتعيرنا العرب؛ يقولون: تركوه؛ حتى اذا ما مات عمه تناولوه ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 احضر سعد أخويه تباعا ليعننوا اسلامهم امام الرسول: عامر بن أبى وقاص، وعمير بن أبى وقاص، وربما أحضر أيضا مسعود بن ربيعة ذلك الحليف الغامض (المقصود الذى لا نعرف عنه الكثير) . لكن الجدير بالملاحظة أنه كان لسعد بن أبى وقاص أخ اخر هو عتبة بن أبى وقاص، كان واحدا من أربعة تعاهدوا قبل غزوة أحد على قتل محمد صلّى الله عليه وسلم أو أن يقتلوا دونه. وقد يكون عبد الله بن مسعود، حليف بنى عبد الحارث بن زهرة وهو الفرع الذى منه عبد الرحمن- تبعه فى دخول الاسلام (أسلم بعده) ، وربما يكون قد ذهب معلنا اسلامه بشكل مستقل (دون أن يصحبه أحد) . ويقال انه قابل محمدا صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر رضى الله عنه، بينما كان يرعى قطعان عقبة بن أبى معيط (من بنى أمية بن عبد شمس) . وهذا الوضع (رعى القطعان) قد يدل على أنه كان شابا ولا يدل بالضرورة على فقره، لأن سنه وقت الهجرة كانت أكثر قليلا من ثمانية وعشرين عاما، ولا بد أن صلته بعبد شمس لم تكن مغفلا عنها (أو كانت موضوعة فى الاعتبار) . وقد حقق مكانة عالية فى الاسلام واعتبر على رأس مجموعة مكونة من أخيه عتبة وحفيد ابن أخيه وعبد الله بن شهاب، وقريبه عمير بن عبد عمرو ذى اليدين. ولم يكن الحليف خباب بن الأرت مرتبطا ارتباطا وثيقا بأى من الذين سبق ذكرهم. وكان رجلا فقيرا وكانت أمه خاتنة وكان هو حدادا. ومعنى ذلك أنه لم يكن فى جوار أحد (لم يكن فى حماية أحد) . لقد عانى كثيرا نتيجة اسلامه. ويشترك المطلب بن أزهر وأخوه طليب مع عبد الرحمن بن عوف فى جد واحد*. وهذا، بالاضافة الى حقيقة أن أمهما كانت من بنى المطلب قد زاد من أهميتهما (أعطاهما ثقلا) . وكان المقداد بن عمرو- حليف الزعيم القديم الأسود بن عبد يغوث وابنه بالتبنى- فى الحبشة كواحد من المسلمين المهاجرين اليها، لكنه لم يغادر المكيين الا بعد الهجرة ببعض الوقت، وان كان ذلك على أية حال قبل غزوة بدر «10» ، وربما كان غنيا ويقال انه كان يمتلك فى غزوة بدر   * هذا صحيح فهو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة، وجد المطلب بن أزهر وأخيه طليب هو عبد عوف. (الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 2، ص 127. ج 3، ص 87) طبعة دار الفكر- (المترجم) . (10) ابن هشام، 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 حصانا. وكان شرحبيل منفصلا عن كل هؤلاء، وكان مرتبطا أكثر بسفيان بن معمر، وعشيرة جمح. عدى كان بنو عدى فيما مضى ينتمون الى الأحلاف وسنلاحظ أن أمهات مسلمى عدى كن فى الغالب من سهم وجمح، بينما كانت أم عمر نفسه مخزومية، وقد غيرت عدى مواقفها فى حوالى ذلك الوقت ربما لأن عبد شمس التى كانت بينها وبينهم عدواة مريرة قد اقتربت- أى عبد شمس- من مخزوم والأحلاف «11» . وربما كان الوضع العام لبنى عدى فى حالة تدهور أيضا، فكون معمر بن عبد الله كان هو المسئول الأول عن مناهضة الاحتكار والتصدى له فمعنى هذا أن عدى كانت قد استبعدت من رابطة المحتكرين الأقوياء. فلا أحد من بنى عدى- باستثناء عمر- كان ذا أهمية كبيرة فى مكة، فأبو عمر بن الخطاب وجده نوفل كانا من رجالات العشيرة البارزين، اذا وضعنا فى اعتبارنا عدد حلفائهم ومعاملة الخطاب لزيد بن عمرو «12» وكان للخطاب على الأقل زوجة واحدة من مخزوم. وربما كان أول من دخل الاسلام من بنى عدى هو سعيد بن زيد بن عمرو الذى كان أبوه واحدا ممن انشغلوا بالبحث عن الدين الحق قبل الاسلام، وانخرط فى أداء شعائر دينية خاصة تتصف بالزهد (قبل الاسلام) . وربما يكون قد ترك تأثيره فى المتحالفين الستة الذين ذكروا باعتبارهم المسلمين الأوائل. وثمة مسلم اخر سابق للاسلام هو نعيم بن عبد الله النحام الذى تعود أن يطعم فقراء العشيرة كل شهر. وربما كان شيخا (زعيما) للعشيرة طوال ست سنين أثناء الحقبة الاسلامية، لأنه رغم اعتناقه للاسلام فى وقت مبكر، فانه لم يهاجر فى الفترة التى هاجر فيها محمد صلّى الله عليه وسلم. وربما كان عمر بن الخطاب هو شيخ العشيرة أو على الأقل- وهذا مؤكد- واحدا من زعمائها، ورغم أنه أسلم بعد فترة قليلة من اسلام الذين ذكرهم ابن اسحق فى قائمته، الا أن   (11) انظر، ص 7 فى النص الانجليزى. (12) ابن هشام، 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 اسلامه كان خطوة عظيمة للجماعة الاسلامية. وكان عمر بلا شك متأثرا باسلام سعيد بن زيد ابن ابن عم أبيه، وزوجة سعيد، أخت عمر، وعثمان بن مظعون*، نسيبه brother in law والمتحالفين مع أسرته، وربما كان الانهيار الاقتصادى الذى كانت تعانيه عشيرته قد لعب دورا على نحو غير شعورى. الحارث بن فهر كانت مضارب هذه العشيرة على الخط الفاصل بين قريش البطاح وقريش الظواهر، وربما يكون وضعها فى حالة تحسن، لكنها لم تكن عشيرة ذات أهمية كبيرة، فلم نسمع عن رجل ذى شأن من بين مشركيها. وكانت تحالفاتها عن طريق الزواج خارج العشيرة مع عشائر ضعيفة، مثل عامر وزهرة. وأهم المسلمين الأوائل منها هم: أبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، والأول (أبو عبيدة) كان صديقا لعثمان بن مظعون، وربما كان الثانى (سهيل) هو الصديق الشاب لأبى بكر رضى الله عنه. عامر عامر عشيرة أخرى تقطن المنطقة الواقعة بين قريش البطاح وقريش الظواهر، ويبدو أن وضعها قد تحسن زمن الهجرة، وكان وضعها يسمح لها بالتزاوج مع هاشم ونوفل بل وحتى مخزوم. وكان رجلها المهم حتى غزوة بدر على الأقل هو سهيل بن عمرو. وهذا أمر مهم لأن الفردين الوحيدين من العشيرة المدرج اسماهما فى قائمة المسلمين الأوائل، هما أخواه: حاطب، وسليط، وأكثر مسلمى هذه العشيرة شهرة هو ابن أم مكتوم الذى كانت أمه من بنى مخزوم.   * فى الطبقات الكبرى، ج 2، ص 334 فى ترجمة قدامة بن مظعون أخى عثمان أنه كان من بين زوجات قدامه صفية بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب (طبعة دار الفكر، بيروت) - (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أسد كانت عشيرة أسد قد زادت اهميتها بشكل واضح، وتحدث عن ارتباطاتها القديمة بحلف الفضول لتدخل فى دوائر المال والتجارة بشكل واسع. وكان من بين مشركى مكه المشاهير من هذه العشيرة: زمعه بن الأسود، وأبو البخترى، و نوفل بن خويلد، وحكيم بن حزام وقد تزوج زمعه من بنى مخزوم وتزوج نوفل من بنى عبد شمس . ومن الواضح أن الزبير كان هو الوحيد من بين أوائل من دخل الاسلام من هذه العشيرة، وكان فى السادسة عشرة من عمره فحسب ولا يمكن أن يكون له تأثير فى عشيرته ولا حتى فى فرع خويلد الذى هو من فروع أسد، وربما كانت قرابته خديجة عن طريق أبيه، وقرابته لمحمد صلّى الله عليه وسلم عن طريق أمه- جعلت تحوله للاسلام أمرا سهلا. والاخرون الذين هاجروا للحبشة يبدو أنهم كانوا أعضاء صغارا فى الأسر الرئيسية. نوفل يبدو أن هذه العشيرة لم تكن كبيرة العدد، لكن شيوخها (قادتها) كان لهم نفوذ كبير ربما بحكم قرابتهم من عبد شمس. لقد عملوا مع بنى مخزوم لكنهم لم يكونوا تابعين لهم، فقد كانوا قادرين على أن يكون لهم طريق مستقل. والمسلم الوحيد الذى ذكره ابن سعد من هذه العشيرة- ولم يكن من السابقين الأوائل للاسلام- كان حليفا للعشيرة وأسلم معه عتيقه* (عبده المعتق- بفتح التاء) . عبد شمس تنازعت عبد شمس ومخزوم على مكان الصدارة فى مكة، لكن كليهما تحققا أن المجال الواسع للمصالح المشتركة، لا يستدعى المنافسة ذات الأبعاد المفرطة فى المرارة. وبعد غزوة بدر، كان أبو سفيان بن حرب   * هما عتبة بن غزوان، وعتيقه خباب. الطبقات الكبرى، ج 2، ص ص 109- 110- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 هو المواطن الأول فى مكة (الزعيم المكى) ، نظرا لمقتل عدد من شيوخ مخزوم فى هذه الغزوة. لكن فى بواكير البعثة المحمدية كان أبو أحيحة سعيد بن العاص قد أحرز أيضا قدرا كبيرا من القوة «13» والنفوذ، وحتى موتهم فى بدر كان عقبة بن أبى معيط وابنا ربيعه: عتبة وشيبة كانوا فى المقدمة (من السابقين) . وكان المسلمون الأوائل من هذه العشيرة هم: عثمان بن عفان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وخالد بن سعيد (أبو أحيحة) وأسرة خليفة جحش، عبيد الله، عبد الله، وأبو أحمد. وكان أبو حذيفة وخالد ابنين لشيخين (رجلين زعيمين أو ذوى مكانة) ، لكن كون أمهما من كنانة- وهى قبيلة كانت علاقتها غير قوية بقريش- جعل مكانتهما متدنية فى أسرتيهما. ولم يكن اباء عثمان بن عفان المباشرون ذوى مكانة بارزة. وربما كان عثمان أيضا يغار من أقربائه الأغنى منه والأكثر نفوذا. وقبل الهجرة بعشر سنين، كان عمر عثمان حوالى ثلاثين عاما، وكذلك كان عمر أبى حذيفة وهو العمر الذى أصبح فيه ثراؤهما المنتظر أمرا واضحا نسبيا. وكون جدة عثمان رضى الله عنه لأمه كانت أختا لوالد محمد صلّى الله عليه وسلم هو الذى مهد الطريق لاسلامه. ولم تكن أسرة جحش مرتبطة ارتباطا مباشرا بأى ممن ذكرناهم انفا لكنها كانت متحالفة مع حرب، والد أبى سفيان وكانت أمهم ابنة أخرى لعبد المطلب. وكان أفراد هذه الأسرة من أوائل المسلمين وهاجروا الى الحبشة، وهناك تحول عبيد الله الى المسيحية. ومعظم حلفاء عبد شمس الاخرين الذين أسلموا قبل غزوة بدر ربما يكونون قد تأثروا بهذه الأسرة. مخزوم كانت مخزوم كما هو واضح لنا المجموعة السياسية السائدة فى مكة قبل غزوة بدر، وكان أبو جهل على وجه التحديد هو قائد المعارضة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم. وكانت مخزوم كثيرة العدد وكان ال المغيرة منهم بالذات هم   Lammens ,Mecque ,index. (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الأكثر قوة ونفوذا (المغيرة هو جد أبى جهل) وكان الاثنان الرئيسيان اللذان أسلما فى وقت مبكر من بنى مخزوم هما: أبو سلمة، والأرقم وكانا حفيدى أخوى المغيرة. وربما كان الأرقم- رغم أنه كان شابا- على رأس أسرته، لأنه كان قادرا على فتح بيته ليكون مقرا للمسلمين. وكان لابى سلمه أخ قتل مع من قتل من المشركين فى غزوة بدر، كما كان له ابنا عم التحقا به عندما هاجر للحبشة. وبصرف النظر عن هذا، فمن الصعب أن نفهم كيف ظنوا فى عشيرتهم، أما الثالث الذى تحول للاسلام فهو عياش وكان ابن عم أبى جهل كما كان أخا لأبى جهل من أمه Uterine brother ومع أنه ذهب للمدينة مهاجرا، الا أن أبا جهل حثه على العودة الى مكة. وكان شماس الذى هاجر للحبشة وقاتل فى بدر ينتمى الى فرع اخر فى العشيرة لا نعرف عنه الكثير. ويمكن أن نعتبر عمار بن ياسر حليف أبى حذيفة بن المغيرة أيضا من مخزوم. وكان أبوه قد استقر فى مكة، ولا شك أن صلتهم بقبيلتهم قد انقطعت. وكان ذا صلة بالمسيحية من خلال الزوج الثانى لأمه، وهو عتيق من أصول يونانية، وعلى هذا فمن المفترض أنه مسيحيي. ويبدو أن هذه الأسرة كانت متدينة صادقة الايمان. سهم كانت سهم من أكثر العشائر قوة، وقد كان حلف الفضول موجها على نحو ظاهر ضدهم فى المقام الأول، واليهم لجأت عدى طلبا للمساعدة عندما عجزوا عن مواجهة بنى عبد شمس «14» . وقد ورد ذكر العاص ابن وائل، والحارث بن قيس بن عدى من بين أعدى أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم. وعلى أية حال، بدا زعيما سهم هما: منبه بن الحجاج وأخوه نبيه (بنون مضمومة وباء مفتوحة) . والوحيد من هذه العشيرة من بين أوائل المسلمين هو خنيس بن حذيفة بن قيس الذى كان متزوجا بالفعل من ابنة عمر بن الخطاب، وكانت أسرته من الفروع غير المهمة فى العشيرة. والجدير بالذكر أيضا، اتجاه أبناء الحارث بن قيس: فستة منهم هاجروا للحبشة   (14) الأزرقى، 472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 كمسلمين، لكن واحدا منهم على الأقل- هو الحجاج- «15» ارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين وحارب ضد المسلمين فى غزوة بدر وأسر، ثم اعتنق الاسلام مرة أخرى. ويمكننا أن نخمن أنه بعد وفاة الحارث وجدت أسرته نفسها فى موقف صعب. جمح كانت هذه العشيرة أيضا قوية، وان كانت لا تضارع فى قوتها عشيرة سهم. وكانت زعامتها فى أيدى أسرة خلف بن وهب وعلى رأسها أمية ابن خلف، وبعد ذلك كان على رأسها وهب بن عمير بن وهب بن خلف. وكان عثمان بن مظعون واحدا من بين أكثر أوائل المسلمين أهمية، وربما كان على رأس أسرة حبيب بن وهب أخو خلف. والاخرون المدرجون فى قوائم أوائل المسلمين كانوا هم: أخويه، عبد الله، وقدامه، وابنه السائب، وأبناء أخته: معمر بن الحارث، وحاطب وخطاب (أو حطاب- بالحاء) ، وسنذكر عن عثمان تفاصيل أكثر بعد ذلك، اذ يبدو أنه كان يعتقد التوحيد، كما كان ميالا للزهد والتقشف حتى قبل أن يقابل محمدا صلّى الله عليه وسلم. عبد الدار كان عبد الدار فى وقت من الأوقات الابن المفضل من بين أبناء قصى (بضم القاف) وقد احتفظ نسله بمزايا كحمل اللواء، لكنهم الان (عند ظهور الاسلام) ليس لهم فى أمور مكة الا القليل. ولم يكن مصعب الخير (ابن عمير) بالتحديد هو أول من أسلم من بنى عبد الدار، وربما ساعد على تحول مصعب للاسلام صداقة عامر بن ربيعة حليف والد الخليفة عمر، وقد أسر أخوه فى غزوة بدر اذ كان يحارب الى جوار المشركين. [ طبقات المسلمين الأوائل ] بقى أن نوجز بعض النقاط التى يجب أن نخلص بها من هذا العرض. انه يمكن أن نقسم المسلمين الأوائل الى ثلاث طبقات كالتالى:   (15) انظر الملحق (ز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 1- الأبناء الأصغر سنا فى الأسر ذوات الحيثية ويمكن اعتبار خالد بن سعيد خير ممثل لهذه الطبقة (الفئة) ، لكن هناك عديدون غيره. انهم شباب من أسرات ذوات نفوذ من عشائر قوية، وكانوا أقرباء للمستحوذين على السلطة فى مكة الذين تزعموا المعارضة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم. والجدير بالذكر أنه فى غزوة بدر كان هناك أمثلة على أخ وأخيه، وأب وابنه، وعم وابن أخيه، كان أحدهما يحارب الاخر، اذ كان أحدهما الى جانب المسلمين والاخر الى جانب المشركين. 2- رجال- غالبهم شباب- من أسرات أخرى هذه المجموعة غير منفصلة انفصالا حادا عن المجموعة السابقة لكن لأننا رجحنا كفة الميزان ناحية العشائر الأضعف، وللفروع الأضعف فى العشائر الرئيسية، فاننا نجد بين المسلمين رجالا ذوى نفوذ كبير فى عشائرهم أو أسراتهم، فهناك واحد أو اثنان كانا من كبار السن نسبيا مثل عبيدة بن الحارث الذى كان فى الحادية والسبعين من عمره عند الهجرة، لكن غالب المسلمين الأوائل ربما كانوا تحت الثلاثين عندما دخلوا الاسلام، وكان واحد أو اثنان فوق الخامسة والثلاثين. 3- رجال ليس لهم ارتباطات عشائرية قوية هناك أيضا مجموعة صغيرة نسبيا كانوا بالفعل خارج النظام العشائرى أو القبلى رغم ارتباطهم الاسمى بهذا النظام. اما لأن العشيرة لم تعترف بدعوى الرجل أنه حليف لها (ربما كما حدث لخباب بن الأرت مع بنى زهرة) ، أو أنه كان ضعيفا جدا بحيث لم يعطه أحد حماية فعالة. وليس مما يثير الدهشة أن بنى تيم لم تحم العبيد الذين حررهم أبو بكر، مادامت لم تحم أبا بكر نفسه وطلحة عندما ربطوا بينهما ربطا مخزيا. واخرون يذكر ابن سعد أنهم اعتبروا ضعفاء، منهم: صهيب بن سنان. وعمار بن ياسر اللذان كانا حلبفين لبنى تيم ثم لبنى عبد شمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ولا يشكل الحلفاء طبقة (فئه) منفصله. فمبدأ الحلف أو التحالف لا يعنى دونية أحد الطرفين، وانما يعنى مساعدة متبادلة وحماية. وعلى أية حال، فبالنظر الى وضع قريش المؤثر بين العرب، فان من يتحالف معها اذا اقام فى مكه فانه عادة ما يأخذ أكثر كثيرا مما يعطى، وبهذا المعنى فهو تابع. وبطبيعة الحال، فان وضع الشخص المتحالف كان يتوقف على ما يفعله مستغلا قدراته. وبشكل عام ربما كان الحلفاء فى مستوى قريب من مستوى الأسرات الأقل أهمية فى العشيرة، ولكن الأخنس بن شريق كان لفترة زعيما فى بنى زهرة، وكان اخرون على قدر نسبى من الثراء، وقد تزاوجوا بحرية مع قريش، ومعظم الحلفاء الذين دخلوا الاسلام كانوا يعدون من الطبقة الثانية، أما من اعتبر منهم من الطبقة الثالثة فذلك لأسباب عرضية. هناك اذن تفسير واضح لعبارة (أحداث الرجال) التى وصف بها المسلمون الأوائل وهى تعنى أنهم شباب، وكذلك لعبارة (المستضعفين) أو (ضعاف الناس) ، فعبارة أحداث الناس تنطبق على الفئتين الأوليين اللتين ذكرناهما انفا، و (ضعاف الناس) تنطبق على الفئة الثالثة، والتى ذكرناها انفا أيضا. وقد شرح ابن سعد لفظ (المستضعفين) قائلا انهم الذين لا عشيرة لهم تحميهم «16» ، ولا بد أن الزهرى قد أخذ أيضا بهذا المعنى. ومن المقبول أن تنطبق كلمة (ضعيف) على أولئك الذين أسلموا من العشائر والأسرات قليلة النفوذ، وفى هذه الحال فقد تشير الى الفئتين الثانية والثالثة. والنقطة الأكثر أهمية التى تظهر من عرضنا هذا هى أن الاسلام الشاب كان فى جوهره حركة شبابية كما ركز على ذلك الكاتب المصرى عبد المتعال الصعيدى «17» ، فالغالبية العظمى من الذين قد سجلت أعمارهم كان الواحد منهم أقل من أربعين عاما عام الهجرة، وبعضهم كان أقل من الأربعين بكثير، وكان كثيرون منهم قد أسلموا قبل الهجرة بثمانى   (16) ج 3، 117، ابن هشام 260، خباب، عمار، أبو فكيهة، ياسر، صهيب. (17) شباب قريش، القاهرة، 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 سنين أو أكثر. وثانيا انه لم يكن حركة تمثل المعدمين down and outs الذين هم نفاية المجتمع أو الطفيليين haugers on الذين ليست لهم أنساب قبلية أو عشائرية، أولئك التائهين فى مكة. انه- أى الاسلام- لم يتلق دعمه من الطبقات الدنيا من قاع المجتمع وانما من أوساط الناس تقريبا الذين أصبحوا على وعى بالتفاوت بينهم وبين أولئك المتربعين على القمة، والذين بدؤا يشعرون أنهم كانوا معدمين.under privileged ولا يمكن التعبير عن الاسلام كحركة للذين يملكون haves ضد الذين لا يملكون، have nots وانما الأقرب الى الصحة أنه كان حركة نضال بين الذين يملكون والذين امتلكوا منذ وقت قريب.nearly hads 3- اللجوء الى الاسلام بعد أن كونا- الى حد ما- فكرة عن نوعية الرجال الذين تقبلوا الاسلام، دعنا ندرس بتفصيل أكثر دوافعهم الى ذلك بقدر ما نستطيع. يخبرنا ابن اسحق «18» فى نص له معروف جيدا عن أربعة رجال راحوا يبحثون فى الحنيفية أى دين ابراهيم، وبصرف النظر عن هذه الفصول السابقة، فانه قدم لنا أساسا للاعتقاد بأن هذا الاتجاه نحو التوحيد الغامض كان قد بدأ ينتشر قبل الاسلام «19» . ومع أن القران (الكريم) لم يذكر لنا مثل هذه الأمور وانما بدأ بداية جديدة تماما، الا أن الاسلام فى الحقيقة كان بمثابة قلب أو مركز تحلق حوله أصحاب هذه الأفكار التوحيدية الغامضة- فأحد الرجال الأربعة الذين ذكرهم ابن اسحق وهو عبيد الله بن جحش تحول للاسلام وهاجر الى الحبشة (وقد تحول للمسيحية فى الحبشة) ، وابن رجل اخر من هؤلاء الأربعة، وهو سعيد بن زيد بن عمرو كان أيضا من بين أوائل من أسلموا. ومرة أخرى، فان عثمان بن مظعون رغم أنه لم يرتبط بالمجموعة التى ذكرناها لتونا، فانه كان متقشفا زاهدا فى الجاهلية. وثمة روايات عن صعوبات واجهها محمد صلّى الله عليه وسلم مع أفكار عثمان بن مظعون، فلم يكن لدى   (18) ابن هشام، 143 وما بعدها. (19) انظر أيضا الملحقين (ب) و (ج) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الرسول وقت كاف لتحويل مجرى أفكار وامال الذين كانوا يؤمنون بهذا النوع من التوحيد قبل الاسلام «20» . ومسألة كيف أن الحقائق الاقتصادية والافكار الدينيه مرتبطتان معا، تعتبر وثيقة الصلة بهذه الاتجاهات التوحيديه السابقة على الاسلام، لكن قد يكون من الملائم مناقشتها فى سياق حديثنا عن هؤلاء الرجال الذين لم يتخذوا خطوات محددة ليتخلصوا من الوتنية قبل أن يعتنقوا الاسلام. من بين الفئة الأولى التى حددناها انفا- شباب الاسرات ذوات النفوذ- ربما لم يكن لديهم وعى واضح أن هناك عوامل اقتصادية وسياسية منطوية فى تحولهم للاسلام. فخالد بن سعيد على سبيل المثال يفترض أنه لم يكن واعيا الا بالجوانب الدينية عندما تحول للاسلام، أما اقامته الطويلة فى الحبشة «21» فربما تشير أنه لم يكن متفقا مع سياسة محمد صلّى الله عليه وسلم خاصة فيما يتعلق بالأبعاد السياسية المتزايدة فى الاسلام وكان من رأيه أن هذا ربما يخالف النبوة. فلو كان خالد مهتما بالأمور السياسية، لتلاشت خلافاته مع الرسول صلّى الله عليه وسلم ولعاد الى مكة أو المدينة قبل السنة السابعة من الهجرة بكثير، لكن رغم أن خالدا كان منجذبا فى الأساس للجوانب الدينية للاسلام، فان الجوانب الاجتماعية والسياسية كلها- خاصة ما يتعلق منها بتركز الثروة فى أيد قليلة- قد تكون قد تركت فى نفسه اضطرابا وجعلته واعيا بحاجته الى عقيدة دينية (يتمسك بها ويجعلها محور حياته) . وحالة خالد- حالة من حالات قليلة- نعلم عنها بعض التفاصيل فيما يتعلق بكيفية تحوله للاسلام. لقد رأى رؤيا منامية مؤداها أنه كان واقفا على شفا حفرة من النار، وأن أباه كان يحاول أن يدفعه اليها، بينما رجل اخر هو أبو بكر الذى بدا له فى الرؤيا قريب الشبه من   (20) انظر الفصل الخامس. (21) انظر الفصل الخامس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 محمد صلّى الله عليه وسلم- قد أمسكه من وسطه وحفظه من السقوط فى هاوية النار «22» . وعلى أية حال، فان جهلنا بالتاريخ date الذى رأى فيه هذه الرؤيا يجعل من الصعب علينا تقديم التفسير. ربما يرجع ذلك الى موقفه بعد أن اكتشف أبوه أنه كان معجبا بمحمد صلّى الله عليه وسلم منجذبا اليه، وقبل أن يقطع صلته بأسرته، فالرؤيا فى هذه الحالة تنطبق على موقفه. لكن بعض التفاصيل تشير الى أن هذه الرؤيا كانت قبل لقائه بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وفى هذه الحال فان الرؤيا تعنى- بعد تغيير مفهوم الرموز فيها- أن والده كان يجبره على الدخول فى دوامة الأعمال التجارية المكية، وهو يعتبر ذلك أمرا مدمرا للروح ربما لأنها تنطوى على ممارسات يعتبرها هو منطوية على الخسة وعدم النبل. والذى يبدو حقيقيا فى هذه الرواية هو أن أفكاره الواعية قد طفت على سطح عقيدته الدينية. وفى حالة حمزة، وعمر، هناك روايات عن ظروف اسلام كل منهما. وبالنسبة لعمر بن الخطاب هناك روايتان عن كيفية اسلامه «23» ، واذا قبلنا الرواية المتداولة بشأن ذلك فان اسلامه يرجع لعاملين: لقد كان الرجلان (عمر وحمزة) متأثرين بمسلك محمد صلّى الله عليه وسلم نفسه أو مسلك المسلمين الاخرين، وقد انجذب عمر بن الخطاب ببلاغة كلمات القران وبالمحتوى الدينى للاسلام. وفى كلتا الحالتين كان هناك الولاء للأسرة أو العشيرة، فحمزة هب يدفع عن محمد صلّى الله عليه وسلم الاهانات التى تعرض لها محمد صلّى الله عليه وسلم من عشيرة أخرى، أما عمر فقد أحس بما أصاب عشيرته من خزى عندما علم أن أخته وزوجها قد أسلما. وليست هناك كلمة واحدة عن أمور اقتصادية. فحتى عمر بن الخطاب- رغم أنه كان امنا على وضعه داخل العشيرة- ربما كان قلقا بشأن وضع عشيرته فى مكة. هذا القلق ربما عمق سخطه على رجال عشيرته فى المقام الأول، من خلال الخوف من أن تحولهم للاسلام قد يؤدى لمزيد من تدهور الوضع العام للعشيرة.   (22) ابن سعد، ج 4، 1، 67 وما بعدها. (23) ابن هشام، 184 وما بعدها، 225- 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أما أعضاء الفئة الثالثة (الذين اعتبروا ضعفاء) ، فيكاد يكون مؤكدا أنهم أكثر تأثرا بأوضاعهم غير الامنة داخل العشائر وخارجها، أكثر من تأثرهم برغبتهم فى الحصول على أية مزايا اقتصادية أو سياسية. واذا كانت هناك امال واضحة للاصلاح لدى المسلمين الأوائل، فلا بد أن نتلمسها فى الفئة الثانية. وقد تناولت الايات القرانية التى نزلت فى مرحلة مبكرة عن أمور مثل عظمة الله سبحانه وعناصر رسالة الاسلام (التى تحدثنا عنها فى الفصول السابقة) مرتبطة بالموقف العام لأهل مكة فى هذه الفترة. وليس مما يدعو للدهشة اذن أن ينجذب بعض الرجال لرسالة الاسلام- فى المقام الأول- من خلال مضامينه السياسية والاقتصادية. وان كان أمرا بعيد الاحتمال وجود عدد كبير ممن أسلموا كانوا واعين بهذه الأبعاد الاقتصادية والسياسية، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كان مؤسس دين جديد ولم يكن بأية حال مجرد مصلح اجتماعى، وان كنا لا نؤكد كثيرا على نفى مهمته الاصلاحية الاجتماعية «24» . ويمكن أن نصف الأوضاع بمصطلحاتنا المعهودة فنقول، انه بينما كان محمد صلّى الله عليه وسلم واعيا بالعلل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية لعصره وبلاده، فانه اعتبر الجانب الدينى هو الجانب الأساسى وركز عليه. فهذا- أى الجانب الدينى- هو الذى يقرر روح المجتمع الشاب، فتناولت المجموعة الصغيرة عقائدها الدينية وشعائرها بجدية مفرطة. وخلال الحقبة المكية انشغل النبى أساسا بما فرض عليه من أمور سياسية خاصة معركته مع المعارضين له التى أصبحت أكثر مرارة، وأصبحت قضية نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم هى القضية المحورية. ولم تكن المسائل السياسية والاقتصادية (فى حالة تناولها مباشرة) لتصلح لتلعب أى دور فى التحول للاسلام، فعلى الدين وبالدين يجمع الناس حول الاسلام. وان كان هذا لا يمنعنا من القول، ان محمدا صلّى الله عليه وسلم والواعين من أتباعه لا بد أنهم كانوا مدركين للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لرسالته، وادراكهم هذا أدى الى أن يضعوا ذلك فى اعتبارهم عند توجيه أمور المسلمين.   (24) C.Snouck Hurgronjes review of H.Grimmes Mohammed in Verspreide Geschriften, 1, 319- 362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الفصل الخامس تزايد المعارضة 1- بداية المعارضة، الايات الشيطانية لدينا ما يجعلنا نعتقد أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) قد حقق قدرا من النجاح فى البداية الأولى لدعوته، لكن المعارضة ضده تطورت وسرعان ما أصبحت خطيرة هائلة. وعلينا أن نناقش قضيتين أساسيتين هنا: متى ظهرت المعارضة، وكيف عبرت عن نفسها؟ وما الدوافع الكامنة وراءها؟ والقضية الثانية هى الأكثر أهمية، لكن علينا أن نتناول القضية الأولى أولا. (أ) خطاب عروة أورد لنا الطبرى نصا من وثيقة مكتوبة ترجع لزمن مبكر، تشير كل الظواهر الى أنها وثيقة صحيحة «1» . لذا، فمن الملائم أن نبدأ بذكرها: أخبرنا هشام بن عروة عن عروة أنه كتب لعبد الملك بن مروان (تولى الخلافة من 65 الى 86 هـ/ 685- 705 م) : «أما بعد، فانه- يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذى أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش   (1) تاريخ الطبرى، 1180 وما بعدها، وانظر أيضا Caetani ,Ann i ,p. 267 f.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال [لهم] ، واغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه الا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث. ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم واخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أهل الاسلام! فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يخرجوا الى أرض الحبشة- وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشى، لا يظلم أحد بأرضه، وكان موضع ثناء، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا من الرزق، وأمنا ومتجرا حسنا- فأمرهم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فذهب اليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات، يشتدون على من أسلم منهم. ثم انه فشا الاسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم. قال أبو جعفر: فاختلف فى عدد من خرج الى أرض الحبشة، وهاجر اليها هذه الهجرة، وهى الهجرة الأولى. فقال بعضهم: كانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا يونس بن محمد الظفرى، عن أبيه، عن رجل من قومه. قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلى، عن الحارث بن الفضيل، قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سرا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا الى الشعيبة، منهم الراكب والماشى، ووفق الله للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما الى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم فى رجب فى السنة الخامسة، من حين نبىء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وخرجت قريش فى اثارهم حتى جاؤوا البحر، حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه» *. واذا نحينا جانبا الى حين ما ورد فى هذا النص عن الهجرة للحبشة، فاننا نلاحظ ثلاث نقاط رئيسية: أولها: أن المعارضة الحقيقية الأولى ارتبطت بالتعرض للأصنام (الطواغيت) ، ويمكننا أن نفترض أن التعرض لهذه الأصنام (الطواغيت) كان فى خلال النص القرانى. ثانيها: أن بعض أثرياء قريش الذين يمتلكون ثروات فى الطائف كانوا هم زعماء الحركة المعارضة لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) . ثالثها: أن كل ذلك سبق الهجرة الى الحبشة. وليس هناك صعوبة كبيرة فى تقبل ما ورد فى ثانيا وثالثا (كون أثرياء من قريش هم الذين قادوا المعارضة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم، وكون ذلك بدأ قبل الهجرة الى الحبشة) ، لكن هناك صعوبة فى تقبل ما ورد فى أولا (وهو كون المعارضة القرشية لم تبدأ الا بعد التعرض للطواغيت) . فالدراسات التى قام بها نولدكه Noldeke وبل Bell عن التأريخ لايات القران الكريم، تظهر لنا ايات كثيرة (نزلت) قبل أن تنزل ايات تتعرض للأوثان (الطواغيت) ، التى قيل ان التعرض لها كان هو سبب ظهور المعارضة لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) . حقيقة ان الأصنام لم تذكر طوال الحقبة المكية الا قليلا. ومن الممكن أن عروة الذى كان يكتب بعد الأحداث بسبعين سنة على الأقل قد افترض- مجرد افتراض- أن الهجوم على الشرك (تعدد الالهة) لا بد أن يكون هو سبب ظهور المعارضة فى هذا الوقت، لأنها كانت هى السبب فى اشتداد المعارضة فيما بعد. ومن المعقول أيضا- لكن هذا ليس مؤكدا- أن ذكر الأصنام (التعرض للطواغيت) يرجع الى قصة الايات الشيطانية التى سنناقشها فى الفقرة   * الطبرى، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ص 546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 التالية. ففى هذه الحال لا بد أن نفترض أن قريشا قد تضايقت لأن صنم الطائف كان قد بدأ يحقق شهرة كبيرة، وربما بدأ أهل الطائف يعتبرونه على قدم المساواة مع أصنام مكة. وبشكل عام، فان الحل الأكثر بساطة والأكثر مدعاة للقبول هو القول بأن المعارضة الفعالة للرسول لم تظهر الا بعد التعرض للأوثان، فالاشارة الى قريش فى الطائف تشير الى ان لدى عروة بعض مصادر المعلومات الجيدة غير القران (الكريم) . دعونا الان نقبل بصحة القضية الأولى بشكل مؤقت (القضية الأولى هى المثارة انفا من أن معارضة قريش للرسول لم تبدأ الا بعد التعرض للأوثان) . (ب) قصة الايات الشيطانية تعد السورة 53 (سورة النجم) أكثر الايات المكية التى تعرضت للأوثان لفتا للنظر، وترتبط قصة الايات الشيطانية بها. وكان الطبرى «2» هو أول من ذكر هذه القصة على النحو التالى*: «حدثنى يعقوب بن ابراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد ابن اسحاق، قال: حدثنى سعيد بن ميناء، مولى أبى البخترى، قال: لقى الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك فى أمرنا كله، فان كان الذى جئت به خيرا مما فى أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وان كان الذى بأيدينا خيرا مما فى يدك، كنت قد شركتنا فى أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله عز وجل: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، حتى انقضت السورة. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حريصا على صلاح قومه، محبا مقاربتهم بما وجد اليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل الى مقاربتهم، فكان من   (2) وكذلك تفسير الطبرىAnn ,1192 ,cf..119، 17، * اثرنا الرجوع مباشرة لنص الطبرى لا ترجمته الى العربية من نص المترجم الذى لا يختلف فى معناه، كما اثزنا ايراد الأسانيد كما أوردها الطبرى رغم طولها- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أمره فى ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنى محمد بن اسحاق، عن يزيد بن زياد المدنى، عن محمد بن كعب القرطى، قال: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى فى نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسره مع حبه قومه، وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم، حتى حدث بذلك نفسه، وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ، فلما انتهى الى قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه، ويتمنى أن يأتى به قومه: «تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى» ، فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به الهتهم، فأصاخوا له- والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل- فلما انتهى الى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقا لما جاء به، واتباعا لأمره، وسجد من فى المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، لما سمعوا من ذكر الهتهم، فلم يبق فى المسجد مؤمن ولا كافر الا سجد، الا الوليد بن المغيرة، فانه كان شيخا كبيرا، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر الهتهم، يقولون: قد ذكر محمد الهتنا بأحسن الذكر، قد زعم فيما يتلو: «أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن ترتضى» وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف اخرون، وأتى جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ماذا صنعت! لقد تلوت على الناس ما لم اتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك! فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا كثيرا، فأنزل الله عز وجل- وكان به رحيما- يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبى ولا رسول تمنى كما تمنى، ولا أحب كما أحب الا والشيطان قد ألقى فى أمنيته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 كما ألقى على لسانه صلّى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما القى الشيطان والحكم آياته، أى فأنما أنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله عز وجل: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وامنه من الذى كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر الهتهم: «أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى» ، بقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أى عوجاء، (ان هى الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) - الى قوله- (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، أى فكيف تنفع شفاعة الهتكم عنده! فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان القى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة الهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد وقعا فى فم كل مشرك، فازدادوا شرا الى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم واتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم، وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من اسلام أهل مكة حين سجدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى اذا دنوا من مكة، بلغهم أن الذى كانوا تحدثوا به من اسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد الا بجوار، أو مستخفيا، فكان ممن قدم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر الى المدينة، فشهد معه بدرا من بنى عبد شمس بن عبد مناف ابن قصى، عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بنت سهيل، وجماعة أخر معهم، عددهم ثلاثة وثلاثون رجلا. حدثنى القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنى حجاج، عن أبى معشر، عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شىء فينفروا عنه، فأنزل الله عز وجل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) ، فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى اذا بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عليه كلمتين: «تلك الغرانيق العلا* وان شفاعتهن لترتجى» ، فتكلم بهما، ثم مضى فقرا السورة كلها، فسجد فى اخر السورة، وسجد القوم معه جميعا، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا الى جبهته، فسجد عليه- وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود- فرضوا بما تكلم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت، وهو الذى يخلق ويرزق، ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده، فاذا جعلت لها نصيبا فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله اليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الى قوله: (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) ، فمازال مغموما مهموما، حتى نزلت: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) - الى قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا الى عشائرهم، وقالوا: هم أحب الينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان» *. وفى شرحه للاية 52 من السورة رقم 22 (الحج) «3» يذكر لنا الطبرى عددا من الروايات الاخرى حول هذا الموضوع، منها روايتان للمدعو أبو علية، وهما روايتان مهمتان لاحتوائهما على تفصيلات ليست فى الروايات الشائعة، وفيما يلى نص ما ورد فى تفسير الطبرى**: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)) .   * الطبرى، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ص 550 وما بعدها. (3) ج 17، 119- 121. ** اثرنا نقل النص كما هو باسناده كما ورد فى تفسير الطبرى، لا ترجمة من كلمات المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قيل: ان السبب الذى من أجله أنزلت هذه الاية على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان ألقى على لسانه فى بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القران ما لم ينزله الله عليه، فاشتد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واغتم به، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الايات. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبى معشر، عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس قالا: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ناد من أندية قريش كثير أهله، فتمنى يومئذ ألايأتيه من الله شىء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى اذا بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى عليه الشيطان كلمتين: «تلك الغرانقة العلى، وان شفاعتهن لترجى» ، فتكلم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد فى اخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا الى جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت وهو الذى يخلق ويرزق، ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده اذ جعلت لها نصيبا، فنحن معك! قالا: فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه السلام فعرض عليه السورة؛ فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل» فأوحى الله اليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) ... الى قوله: (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) . فمازال مغموما مهموما حتى نزلت عليه: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . قال: فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا الى عشائرهم وقالوا: هم أحب الينا! فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن يزيد ابن زياد المدنى، عن محمد بن كعب القرظى قال: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله، تمنى فى نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه. وكان يسره، مع حبه وحرصه عليهم، أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم، حين حدث بذلك نفسه وتمنى وأحبه، فأنزل الله: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) فلما انتهى الى قول الله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه ويتمنى أن يأتى به قومه: «تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن ترتضى» . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرهم، واعجبهم ما ذكر به الهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل. فلما انتهى الى السجدة منها وختم السورة، سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقا لما جاء به واتباعا لامره، وسجد من فى المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر الهتهم، فلم يبق فى المسجد مؤمن ولا كافر الا سجد الا الوليد بن المغيرة، فانه كان شيخا كبيرا فلم يستطع، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر الهتهم، يقولون: قد ذكر محمد الهتنا بأحسن الذكر، وقد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتضى! وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل: أسلمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتخلف اخرون. وأتى جبرائيل النبى صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم اتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك! فحزن رسول الله عند ذلك، وخاف من الله خوفا كبيرا، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه- وكان به رحيما- يعزيه ويخفض عليه الأمر ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبى تمنى كما تمنى ولا أحب كما أحب الا والشيطان قد ألقى فى أمنيته كما ألقى على لسانه صلّى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، أى فأنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ... الاية. فأذهب الله عن نبيه الحزن، وأمنه من الذى كان بخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر الهتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أنها الغرانيق العلى وان شفاعتهن ترتضى. يقول الله حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، الى قوله: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، أى فكيف تنفع شفاعة الهتكم عنده. فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما كان من منزلة الهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره! وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا فى فم كل مشرك، فازدادوا شرا الى ما كانوا عليه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن أبى العالية، قال: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: انما جلساؤك عبد بنى فلان ومولى بنى فلان، فلو ذكرت الهتنا بشىء جالسناك، فانه يأتيك أشراف العرب فاذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك! قال: فألقى الشيطان فى أمنيته، فنزلت هذه الاية: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) قال: فأجرى الشيطان على لسانه: «تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترجى، مثلهن لا ينسى» . قال: فسجد النبى صلّى الله عليه وسلم حين قرأها، وسجد معه المسلمون والمشركون. فلما علم الذى أجرى على لسانه، كبر ذلك عليه، فأنزل الله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ... الى قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبى هند، عن أبى العالية قال: قالت قريش: يا محمد انما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس، فلو ذكرت الهتنا بخير لجالسناك فان الناس يأتونك من الافاق! فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة النجم، فلما انتهى على هذه الاية: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه: «وهى الغرانقة العلى، وشفاعتهن ترتجى» . فلما فرغ منها سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون والمشركون، الا أبا أحيحة سعيد بن العاص، أخذ كفا من تراب وسجد عليه، وقال: قد ان لابن أبى كبشة أن يذكر الهتنا بخير! حتى بلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشا قد أسلمت، فاشتد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه، فأنزل الله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) ... الى اخر الاية. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت هذه الاية: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لترتجى» . فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال المشركون: انه لم يذكر الهتكم قبل اليوم بخير! فسجد المشركون معه، فأنزل الله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ... الى قوله: (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) . حدثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) ، ثم ذكر نحوه. حدثنى محمد بن سعد، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الى قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، وذلك أن نبى الله صلّى الله عليه وسلم بينما هو يصلى، اذ نزلت عليه قصة الهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون فقالوا: انا نسمعه يذكر الهتنا بخير! فدنوا منه، فبينما هو يتلوها وهو يقول: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان: «ان تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى» . فجعل يتلوها، فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها، ثم قال له: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ... الى قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ولا نبى) ... الاية، أن نبى الله صلّى الله عليه وسلم وهو بمكة، أنزل الله عليه فى الهة العرب، فجعل يتلو اللات والعزى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبى الله يذكر الهتهم، ففرحوا بذلك، ودنوا يستمعون، فألقى. الشيطان فى تلاوة النبى صلّى الله عليه وسلم: «تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى» . فقرأها النبى صلّى الله عليه وسلم كذلك، فأنزل الله عليه: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ... الى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . حدثنى يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنى يونس، عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) ... الاية، قال ابن شهاب: ثنى أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، فلما بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) قال: «ان شفاعتهن ترتجى» . وسها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فلقيه المشركون الذين فى قلوبهم مرض، فسلموا عليه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: «انما ذلك من الشيطان» . فأنزل الله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) ... حتى بلغ: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) . حدثنى على، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن على، عن ابن عباس: (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) فيبطل الله ما ألقى الشيطان. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله: (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبى صلّى الله عليه وسلم، وأحكم الله آياته. وقوله: (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) يقول: ثم يخلص الله ايات كتابه من الباطل الذى ألقى الشيطان على لسان نبيه. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بما يحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فى خلقه من حدث، لا يخفى عليه منه شىء. (حكيم) فى تدبيره اياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحب. القول فى تأويل قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)) . يقول تعالى ذكره: فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ثم يحكم الله آياته، كى يجعل ما يلقى الشيطان فى أمنية نبيه من الباطل، كقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لترتجى» . (فتنة) يقول: اختبارا يختبر به الذين فى قلوبهم مرض من النفاق، وذلك الشك فى صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحقيقه ما يخبرهم به. وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان يتمنى ألايعيب الله الهة المشركين، فألقى الشيطان فى امنيته، فقال: «ان الالهة التى تدعى أن شفاعتها لترتجى وانها للغرانيق العلى» . فنسخ الله ذلك، وأحكم الله آياته: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) حتى بلغ: (من سلطان) قال قتادة: لما ألقى الشيطان ما ألقى، قال المشركون: قد ذكر الله الهتهم بخير! ففرحوا بذلك، فذكر قوله: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، فى قوله: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) يقول: وللذين قست قلوبهم عن الايمان بالله، فلا تلين ولا ترعوى، وهم المشركون بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج: (والقاسية قلوبهم) قال: المشركون. وقوله: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) يقول تعالى ذكره: وان مشركى قومك يا محمد لفى خلاف الله فى أمره، بعيد من الحق. القول فى تأويل قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)) . يقول تعالى ذكره: وكى يعلم أهل العلم بالله أن الذى أنزله الله من آياته التى أحكمها لرسوله ونسخ ما ألقى الشيطان فيه، أنه الحق من عند ربك يا محمد (فيؤمنوا به) يقول: فيصدقوا به. (فتخبت له قلوبهم) يقول: فتخضع للقران قلوبهم، وتذعن بالتصديق به والاقرار بما فيه، (وان الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم) وان الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله الى الحق القاصد والحق الواضح، بنسخ ما ألقى الشيطان فى أمنية رسوله، فلا يضرهم كيد الشيطان والقاؤه الباطل على لسان نبيهم ... » . لقد أورد الطبرى (كما هو واضح من النصوص السابقة) عددا من الروايات عن هذا الموضوع، الا أن ما هو منسوب الى المدعو (أبو علية) (بضم العين) * يحوى تفاصيل أكثر، وتبدو روايته هى الرواية الأولى (بشكلها الأول) ، وتشير رواية أبى علية أيضا أن أبا أحيحة سعيد بن العاص قال عقب سماعه الايات الشيطانية (وأخيرا تحدث أبو كبشة عن   * فى الطبرى ابن علية (بضم العين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الهتنا بما هو خير) * وقد يكون أبو أحيحة قد قال ذلك فعلا، ما دامت هناك ملاحظة مماثلة- ربما أكثر خشونة قد صدرت عن هذا الشخص نفسه عند حديثه عن محمد (صلّى الله عليه وسلم) «4» . واذا قارنا الروايات المختلفة وحاولنا الفصل بين الحقائق الخارجية (ظواهر النص) المتفقة معا من ناحية، والبواعث أو الدوافع التى أوردها المؤرخون المختلفون لتفسير هذه الحقائق وشرحها من ناحية أخرى، فاننا سنجد على الأقل حقيقتين مؤكدتين. أولاهما، أنه حدث ذات مرة أن قرأ محمد (صلّى الله عليه وسلم) هذه الايات الشيطانية علنا باعتبارها جزا من القران (الكريم) **، ونظن أن هذه القصة لم يخترعها مسلمون متأخرون زمنا ولا نظن أن غير المسلمين قد أقحموها فى التاريخ الاسلامى.   * لم نجد نصا بهذا المعنى فى طبعة الطبرى التى بين أيدينا (دار الكتب العلمية- بيروت) . (4) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 4، ص 69، وانظر أيضا ج 1، 2، 145، 27. ** أظهرت البحوث المقارنة أن قصة الايات الشيطانية أو ما تعرف بايات الغرانيق قصة موضوعة، ومن أفضل من فندوا هذه الروايات محمد حسين هيكل فى كتابه الشهير حياة محمد، ونورد هنا النص الكامل من كتابه عن هذه القصة: «أقام المسلمون الذين هاجروا الى الحبشة ثلاثة أشهر أسلم أثناءها عمر بن الخطاب. وعلم هؤلاء المهاجرون ما حدث على أثر اسلامه من رجوع قريش عن ايذائها محمدا ومن اتبعه، فعاد كثير منهم فى رواية، وعادوا كلهم فى رواية أخرى الى مكة. فلما بلغوها رأوا قريشا عادت الى ايذاء المسلمين والى الامعان فى عداوتهم أشد مما عرف هؤلاء المهاجرون من قبل، فعاد الى الحبشة من عاد، ودخل مكة من دخل مستخفيا أو بجوار. ويقال: ان الذين عادوا استصحبوا معهم عددا اخر من المسلمين أقاموا بالحبشة الى ما بعد الهجرة والى حين استتباب الأمر للمسلمين بالمدينة. أى داع حفز مسلمى الحبشة الى العودة بعد ثلاثة أشهر من مقامهم بها؟ هنا يرد حديث الغرانيق الذى أورده ابن سعد فى طبقاته الكبرى والطبرى فى تاريخ الرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207   والملوك، كما أورده كثيرون من المفسرين المسلمين وكتاب السيرة، والذى أخذ به جماعة المستشرقين ووقفوا يؤيدونه طويلا. وحديث الغرانيق: أن محمدا لما رأى تجنب قريش أياه وأذاهم أصحابه تمنى فقال: ليته لا ينزل على شىء ينفرهم منى، وقارب قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما فى ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلا. وان شفاعتهن لترتجى. ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد فى أخرها. هنالك سجد القوم جميعا لم يتخلف منهم أحد. وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبى، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق، ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما اذ أن جعلت لها نصيبا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك فى الناس حتى بلغ أرض الحبشة؛ فقال المسلمون بها: عشائرنا أحب الينا، وخرجوا راجعين. فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم، فقالوا: ذكر الهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم أرتد عنها فعاد لشتم ألهتهم فعادوا له بالشر. وأتمر المسلمون ما يصنعون، فلم يطيقوا عن لقاء أهلهم صبرا فدخلوا مكة. وانما ارتد محمد عن ذكر الهة قريش بالخير، فى مختلف الروايات التى أثبتت هذا الخبر، لأنه كبر عليه قول قريش: «أما اذ جعلت لالهتنا نصيبا فنحن معك» ، ولأنه جلس فى بيته، حتى اذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبى عليه سورة النجم، فقال جبريل: أوجئتك بهاتين الكلمتين؟! مشيرا الى «تلك الغرانيق العلا، وان شفاعتهن لترتجى» . قال محمد: قلت على الله ما لم يقل! ثم أوحى الله اليه: «وان كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا اليك لتفترى علينا غيره واذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا. اذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا» . وبذلك عاد يذكر الهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وأيذاء أصحابه. هذا حديث الغرانيق، رواه غير واحد من كتاب السيرة، وأشار اليه غير واحد من المفسرين، ووقف عنده كثيرون من المستشرقين طويلا. وهو حديث ظاهر التهافت ينقضه قليل من التمحيص. وهو بعد حديث ينقض ما لكل نبى من العصمة فى تبليغ رسالات ربه. فمن عجب أن يأخذ به بعض كتاب السيرة وبعض المفسرين المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وثانيهما، أنه من المؤكد أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) قد أعلن بعد ذلك أن هذه الايات الشيطانية ليست من القران الكريم وأن ايات أخرى قد حلت محلها تحمل مضمونا مختلفا تماما. والروايات الأولى لا تحدد الفترة الزمنية بين نطق محمد (صلّى الله عليه وسلم) بهذه الايات الشيطانية وانكاره لها. انه من المحتمل أن ذلك قد استغرق أسابيع أو حتى شهورا. وهناك أيضا حقيقة ثالثة أو مجموعة من الحقائق من المحتمل ان تكون اكيدة بالنسبة لنا، واعنى بها انه بالنسبه لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) ومعاصريه من أهل مكة فان الاشارة الأساسيه لهذه الايات الشيطانية لا بد أن تكون الى اللات وهى الربة المعبودة فى الطائف، والعزى الربة المعبودة فى نخلة بالقرب من مكة، والربة مناة التى تقع نصبها بين مكة والمدينة والتى كان يعبدها فى الأساس عرب المدينة. وكان القرشيون هم العبدة الأساسيين للعزى، لكن أسرات أخرى ذوات طابع كهنوتى شاركت فى عبادتها فيما تقول الروايات، وهذه الأسرات من بنى سليم، وكنانه وخزاعة وثقيف وبعض هوازن. ونسمع عن أشراف المدينة أنه كان لدى الواحد منهم صنم خشبى يمثل مناة   ولذلك لم يتردد ابن اسحاق حين سئل عنه فى أن قال: انه من وضع الزنادقة. ولكن بعض الذين أخذوا به حاولوا تسويغه فاستندوا الى الايات: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ..» ، والى قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) . ويفسر بعضهم كلمة «تمنى» فى الاية بمعنى قرأ، ويفسرها اخرون بمعنى الأمنية المعروفة. ويذهب هؤلاء وأولئك، ويتابعهم المستشرقون، الى أن النبى بلغ منه أذى المشركين أصحابه؛ اذ كانوا يقتلون بعضهم ويلقون بعضا فى الصحراء يلفحهم لظى الشمس المحرقة، وقد أوقروهم بالحجارة كما فعلوا ببلال حتى اضطر الى الاذن لهم فى الهجرة الى الحبشة. كما بلغ منه جفاء قومه اياه واعراضهم عنه. ولما كان حريصا على اسلامهم ونجاتهم من عبادة الأصنام، تقرب اليهم وتلا سورة النجم وأضاف اليها حكاية الغرانيق، فلما سجد سجدوا معه، وأظهروا له الميل لاتباعه مادام قد جعل لالهتهم نصيبا مع الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يضعه فى بيته «5» لكن- بشكل عام- ان عرب هذه الفترة لا يدركون الا بالكاد عبادة أى اله بشكل منفصل عن بعض الطقوس التى تتم ممارستها عند بعض الأنصاب (نصب الأصنام. (Shrines وهم بذلك يختلفون- على سبيل المثال- عن توقير المسيحيي الكاثوليكى للعذراء مريم المباركة، فعبارة (سلام لك يا مريم (Hail Mary يمكن أن تذكر فى أى مكان. ومناة- من ناحية أخرى- وفقا للنظرة السائدة بين   (5) ابن هشام، 301، 11. ويضيف سير وليم موير الى هذه الرواية، التى وردت فى بعض كتب السيرة وكتب التفسير، حجة يراها قاطعة بصحة حديث الغرانيق. ذلك أن المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة لم يك قد مضى على هجرتهم اليها غير ثلاثة أشهر، أجارهم النجاشى أثناءها وأحسن جوارهم. فلم يكن قد ترامى اليهم خبر الصلح بين محمد وقريش لما دفعهم الى العود حرصا على الاتصال بأهليهم وعشائرهم. وأنى يكون صلح بين محمد وقريش اذا لم يسع محمد اليه، وقد كان فى مكة أقل نفرا وأضعف قوة، وقد كان أصحابه أعجز من أن يمنعوا أنفسهم من أذى قريش ومن تعذيبهم اياهم! هذه هى الحجج التى يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيق، وهى حجج واهية لا تقوم أمام التمحيص. ونبدأ بدفع حجة المستشرق موير؛ فالمسلمون الذين عادوا من الحبشة انما دفعهم الى العودة الى مكة سببان: أولهما أن عمر بن الخطاب أسلم بعد هجرتهم بقليل. وقد دخل عمر فى دين الله بالحمية التى كان يحاربه من قبل بها، لم يخف اسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلنه على رؤوس الملأ ويقاتلهم فى سبيله. ولم يرض عن استخفاء المسلمين وتسللهم الى شعاب مكة يقيمون الصلاة بعيدين عن قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. هنالك أيقنت قريش أن ما تنال به محمدا وأصحابه من الأذى يوشك أن يثير حربا أهلية لا يعرف أحد مداها ولا على من تدور دائرتها. فقد أسلم من مختلف قبائل قريش وبيوتاتها رجال تثور لقتل أى واحد منهم قبيلته وان كانت على غير دينه. فلا مفر اذا من الالتجاء فى محاربة محمد الى وسيلة لا يترتب عليها هذا الخطر. والى أن تتفق قريش على هذه الوسيلة هادنت المسلمين فلم تنل أحدا منهم بأذى. وهذا هو ما اتصل بالمهاجرين الى الحبشة، ودعاهم الى التفكير فى العودة الى مكة. وربما ترددوا فى هذا العود لو لم يكن السبب الثانى الذى ثبت عزمهم؛ ذلك أن الحبشة شبت بها يومئذ ثورة على النجاشى، كان دينه وكان ما أبدى من عطف على المسلمين بعض ما أذيع فيها من تهم وجهت اليه. ولقد أبدى المسلمون أحسن الأمانى أن ينصر الله النجاشى على خصومه؛ لكنهم لم يكونوا ليشاركوا فى هذه الثورة وهم أجانب، ولم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة غير زمن قليل. أما وقد ترامت اليهم أنباء الهدنة بين محمد وقريش، هدنة أنجت المسلمين مما كان يصيبهم من الأذى، فخير لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم وأن يلحقوا بأهليهم. وهذا ما فعلوه كلهم أو بعضهم. على أنهم ما كادوا يبلغون مكة حتى كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد وأصحابه واتفقت عشائرهم وكتبوا كتابا تعاقدوا فيه على مقاطعة بنى هاشم مقاطعة تامة؛ فلا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم وبهذا الكتاب عادت الحرب العوان بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع اللحاق بهم. وقد وجدوا هذه المرة عنتا من قريش اذ حاولت أن تمنعهم من الهجرة. ليس الصلح الذى يشير اليه المستشرق موير، هو اذا الذى دعا المسلمين الى العودة من بلاد الحبشة: انما دعاها هذه الهدنة التى حدثت على اثر اسلام عمر وحماسته فى تأييد دين الله. فتأييد حديث الغرانيق اذا بحجة الصلح تأييد غير ناهض. أما احتجاج المحتجين من كتاب السيرة والمفسرين بالايات: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) و (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... ) فهو احتجاج أشد تهافتا من حجة السير موير ويكفى أن نذكر من الايات الأولى قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) لنرى أنه كان الشيطان قد ألقى فى أمنية الرسول حتى لقد كاد يركن اليهم شيئا قليلا فقد ثبته الله فلم يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات. واذا فالاحتجاج بهذه الايات احتجاج مقلوب. فقصة الغرانيق تجرى بأن محمدا ركن الى قريش بالفعل، وأن قريشا فتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل. والايات هنا تفيد أن الله ثبته فلم يفعل. فاذا ذكرت كذلك أن كتب التفسير وأسباب النزول جعلت هذه الايات موضعا غير مسألة الغرانيق، رأيت أن الاحتجاج بها فى مسألة تتنافى مع عصمة الرسل فى تبليغ رسالتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم. أما الايات: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... ) فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة، فضلا عن ذكرها أن الله ينسخ ما يلقى الشيطان ويجعله فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويحكم الله آياته والله عليم حكيم. وندع هذا الى تمحيص القصة التمحيص العلمى الذى يثبت عدم صحتها. وأول ما يدل على ذلك تعدد الروايات فيها: فقد رويت، كما سبق القول، على أنها «تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى» . ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا ان شفاعتهم ترتجى» . وروى اخرون «ان شفاعتهن ترتجى» دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق. وفى رواية رابعة: «وانها لهى الغرانيق العلا» وفى رواية خامسة: «وانهن لهن الغرانيق العلا. وان شفاعتهن لهى التى ترتجى» . وقد وردت فى بعض كتب الحديث روايات أخرى غير هذه الروايات الخمس. وهذا التعدد فى الروايات يدل على أن الحديث موضوع، وأنه من وضع الزنادقة، كما قال ابن اسحاق، وأن الغرض منه التشكيك فى صدق تبليغ محمد رسالات ربه. ودليل اخر أقوى وأقطع؛ ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق. فالسياق يجرى بقوله تعالى: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وهذا السياق صريح فى أن اللات والعزى أسماء سماها المشركون هم واباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان. فكيف يحتمل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 العرب لا يمكن عبادتها الا عند نصبها (أمام التمثال الممثل لها) «6» ، وعلى هذا فمضمون هذه الايات الشيطانية المشار لها انفا (التى يقال ان الشيطان ألقاها فى روع محمد صلّى الله عليه وسلم) أن الطقوس المتعلقة بعبادة أوثان الربات الثلاث بالقرب من مكة مسألة مقبولة. وأكثر من هذا، فان مضمون هذه الايات الناسخة؟؟؟؟؟ (المترجم: هناك فرق كبير بين الاية المنسوخة abrogate وهى الكلمة التى استخدمها المؤلف، والاية المدسوسة أو المكذوبة أو التى دسها الشيطان، فهذه الأخيرة لا وجود لها اساسا ولم ينزلها الله عز وجل، بينما الاية المنسوخة نزلت بالفعل لتناسب مرحلة زمنية معينة ثم نزل ما هو خير منها) التى حلت محل الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) لم تتضمن ادانة لعبادة الكعبة (المترجم: لم يحدث فى أية مرحلة من مراحل التاريخ الاسلامى، وربما غير الاسلامى أن كانت الكعبة معبودا، وانما كانت موضع توقير واحترام باعتبارها أول بيت وضع للناس) اذا لم تكن هناك ايات أخرى تدين ذلك (عبادة الكعبة) تم حذفها بعد ذلك من القران الكريم؛ وان كنا فى الحقيقة لا نملك أدلة على حدوث ذلك- فان حذف الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) من سورة النجم يؤدى الى رفع شأن الكعبة على حساب   (6) ابن الكلبى، الأصنام، 13- 19، ابن هشامWelhausen ,Reste ,24 -45..55، يجرى السياق بما يأتى: «أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الاخرى. تلك الغرانيق العلا. ان شفاعتهن ترتجى. ألكم الذكر وله الانثى، تلك اذا قسمة ضيزى. ان هى الا أسماء سميتموها أنتم واباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» أن فى هذا السياق من الفساد والاضطراب والتناقض، ومن مدح اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى وذمها فى أربع ايات متعاقبة، ما لا يسلم به عقل ولا يقول به انسان، ولا تبقى معه شبهة فى أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدقة من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقى. وحجة أخرى ساقها المغفور له الأستاذ الشيخ محمد عبده حين كتب يفند قصة الغرانيق. تلك أن وصف العرب لالهتهم بأنها الغرانيق لم يرد فى نظمهم ولا فى خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم، وانما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه اسم لطائر مائى أسود أو أبيض، والشاب الأبيض الجميل، ولا شىء من ذلك يلائم معنى الالهة أو وصفها عند العرب. بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد نفسه؛ فهو منذ طفولته وصباه وشبابه لم يجرب عليه الكذب قط، حتى سمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الأوثان الاخرى. ولا بد أن نتذكر فى هذا السياق أنه مع ارتفاع شأن الاسلام (النص: ازدياد قوة محمد صلّى الله عليه وسلم) تم تدمير كل هذه الأوثان وتحطيمها «7» . (المترجم: هذا فى حد ذاته كحقيقة تاريخية مؤكدة، ينسف حكاية الايات الشيطانية من أولها لاخرها) .   (7) ابن هشام، 839 وما بعدها، العزى 917، اللات، الطبرى 1649 مناة.. الخ. الأمين ولما يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان صدقه أمرا مسلما به عند الناس جميعا. حتى لقد سال قريش يوما بعد بعثه: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوننى؟ فكان جوابهم: «نعم: أنت عندنا غير متهم وما جرينا عليك كذبا قط» . فالرجل الذى عرف بالصدق فى صلاته بالناس منذ نعومة أظفاره الى كهولته كيف يصدق انسان أنه يقول على ربه ما لم يقل، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه! هذا أمر مستحيل، يدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القوية الممتازة التى تعرف الصلابة فى الحق ولا تداجى فيه لأى اعتبار. وكيف ترى بقول محمد: لو وضعت قريش الشمس فى يمينه والقمر فى شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح اليه، ويقوله لينقض به أساس الدين الذى بعثه الله به هدى وبشرى للعالمين!. ومتى رجع الى قريش ليمدح الهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه، وبعد أن احتمل هو وأصحابه فى سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد أن أعز الله الاسلام بحمزة وعمر، وبعد أن بدأ المسلمون يصبحون قوة بمكة، ويمتد خبرهم الى العرب كلها والى الحبشة والى مختلف نواحى العالم. ان القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: ان محمدا ما كاد يسمع كلام قريش اذ جعل لالهتهم نصيبا فى الشفاعة حتى كبر ذلك عليه حتى رجع الى الله تائبا أول ما أمسى ببيته وجاءه جبريل فيه. لكن هذا الستر أحرى أن يفضحها. فما دام الأمر قد كان كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش، فما كان أحراه أن يراجع الوحى لساعته! وما كان أحراه أن يجرى الوحى الصواب على لسانه! واذا فلا أصل لمسألة الغرانيق الا الوضع والاختراع، قامت بهما طائفة الذين أخذوا أنفسهم بالكيد للاسلام، بعد انقضاء الصدر الأول. وأعجب ما فى جرأة هؤلاء المفترين أنهم عرضوا للافتراء فى أم مسائل الاسلام جميعا: فى التوحيد! فى المسألة التى بعث محمد لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى، والتى لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت عليه قريش أن يعطوه ما يشاء من المال أو يجعلوه ملكا عليهم. وعرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتبعه من أهل مكة الا عدد يسير. وما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة أمره ربه أن يبلغها للناس. فاختيار المفترين لهذه المسألة التى كانت صلابة محمد فيها غاية ما عرف عنه من الصلابة، يدل على جرأة غير معقولة، ويدل فى الوقت نفسه على أن الذين مالوا الى تصديقهم قد خدعوا فيما لا يجوز أن يخدع فيه أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 (ج) الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) ، الدوافع والتفسير لأن الباحثين المسلمين لا يعترفون بالفكرة الأوربية الحديثة عن التطور التدريجى، فانهم قد اعتبروا محمدا (صلّى الله عليه وسلم) كان على وعى كامل منذ البداية الأولى للدعوة بكل أبعاد عقيدة التوحيد (النص: عقيدة الاسلام السلفى كما هى معروفة الان (Orthodox dogme لذا، فقد كان من الصعب بالنسبة لهم أن يفسروا سبب عدم ادراكه (اى محمد صلّى الله عليه وسلم) للمضمون الوثنى لايات الغرانيق (المترجم: المؤلف يا بنى استنتاجاته على أساس أن قصة الغرانيق صحيحة، وان كان بعض الباحثين المحدثين يرى غير ذلك- انظر الحاشية) والحقيقة أن التوحيد الذى كان يؤمن به محمد (صلّى الله عليه وسلم) كان فى بدايته لا يختلف عن توحيد من هم أكثر تنورا فى عصره أى أنه كان توحيدا غامضا على نحو ما؛ بمعنى أنه لم يكن ممكنا فى مرحلة مبكرة فصل التوحيد الخالص عن الاحساس بوجود كائنات أخرى ذات طابع الهى أو مقدس (المترجم: يدرك المسلمون وبعض غير المسلمين أن هذا غير صحيح بالمرة؛ بمجرد قراءة أول ما نزل من القران الكريم الذى يشير بوضوح الى اله واحد خالق وهاد: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ... كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) السورة رقم 96 (العلق) . فربما نظر محمد الى اللات والعزى ومناة كموجودات أو ربات، وان كانت لها قدسية، الا أنها أقل أهمية من الله سبحانه وتعالى على النحو   لا أصل اذا لمسألة الغرانيق على الاطلاق، ولا صلة ألبتة بينها وبين عودة المسلمين من الحبشة، انما عادوا كما قدمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الاسلام بمثل الحمية التى كان يحاربه من قبل بها، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين. وعادوا حين شبت فى بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها. فلما علمت قريش بعودتهم ازدادت مخاوفهم أن يعظم أمر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد انتهت بوضع الصحيفة التى قرروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بنى هاشم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمدا ان استطاعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الذى يعتقد فيه اليهود والمسيحيون بوجود الملائكة، وقد تحدث القران الكريم فى اخر المرحلة المكية عنها على أنها من الجن «8» ، بينما تحدث عنها فى المرحلة المدنية على أنها مجرد أسماء «سميتموها» «9» (المترجم: اية سورة الأنعام الواردة فى الحاشية 8 وايات سورة النجم فى الحاشية 9 لا تعارض بينها، فلم تقل اية سورة الأنعام ان المقصود بالجن هو اللات والعزى ومناة.. واخضاع فكرة الاله الواحد لمنظور التطور الذى يأخذ به فى كتابه قد تكون صحيحة بالنسبة للبشر، فهم ينزهون الله سبحانه تنزيها يزداد كلما ازدادوا رقيا أو تطورا فى مدارج الحضارة، لكن هذا بالعقل لا يمكن أن ينطبق على الرسول أو القران الكريم، واية الاخلاص (قل هو الله أحد ... ) خير شاهد على الوضوح المطلق للتوحيد، انه مسألة غير خاضعة للمساومة، وليس فى القران الكريم ناسخ ومنسوخ بشأنها) أما والأمر كذلك، ربما يكاد يكون من الضرورى أن نجد أية مناسبة خاصة لهذه الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) انها لا يمكن أن تكون دلالة بأية حال من الأحوال على التراجع عن التوحيد، ولكنها- ببساطة- قد تكون مجرد تعبير عن وجهات نظر طالما اعتقدها محمد صلّى الله عليه وسلم*.   (8) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)) سورة الأنعام. (9) (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وهناك ايتان سابقتان توضحان المراد من هذه الاية: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)) سورة النجم. * لا تقول كتب السيرة ذلك، وفيما يلى بعض ما ذكره ابن هشام (طبعة مكتبة الايمان بتحقيق محمد بيومى) : يتحدثون أن أمنة بنت وهب أم الرسول كانت تحدث- والله أعلم- أن هناك من قال لها: انك حملت بسيد هذه الأمة فاذا وقع الى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد.. (ص 101) وحدث الرسول عن نفسه قال: نعم أنا دعوة أبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ومن هنا، فان دراسة المضامين السياسية لهذه الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) تعد أمرا شائقا. أفعل محمد ذلك رغبة منه فى الحصول على مؤيدين له فى المدينة والطائف وفى القبائل المحيطة بهما؟ هل حاول احداث توازن بين هؤلاء وزعماء قريش الذين يناوئونه، بأن يجمع حوله أكبر عدد من المؤيدين؟ ثم فى أقل القليل، أليس ذكره لهذه الأوثان دليلا على أن رؤيته قد اتسعت، أى أن نظره بدأ يتجه لأبعد من دعوة قريش؟ ان الرواية المنسوبة لأبى علية (بضم العين) (فى الطبرى ابن علية) والتى أوردناها انفا تشير الى ان قريشا قد عرضت على محمد (صلّى الله عليه وسلم) ان تقبل ما يقول به وأن تقبله فى أوساطها اذا ذكر ربانها (بخير) ، وهناك أيضا روايات أخرى شبيهة بما أورده ابن علية. فأحيانا يقال انهم قد عرضوا عليه الثروة والزوجة الحسنة، ومركز الصدارة، وأحيانا عرضوا عليه فى تعبيرات أكثر عمومية زعامة قريش فى المجالين الدينى والتجارى «10» . وبصرف النظر تماما عن مسألة التفاصيل، فثمة شك يمكن تبريره فيما اذا كانت هذه الروايات قد تم تلفيق جانب كبير منها بقصد اظهار أهمية محمد (صلّى الله عليه وسلم) فى هذه الفترة. أكان حقا من الأهمية بدرجة كافية لتجعله يكاد يعامل على قدم المساواة مع زعماء مكة؟ وبشكل عام، فان صورة محمد (صلّى الله عليه وسلم) كما قدمتها هذه الحكايات ربما كانت أقرب ما تكون الى الحقيقة. (المترجم: بعد أن أثار المؤلف عدة أسئلة، عاد   ابراهيم وبشرى أخى عيسى، ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام..) ص 105، وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس- ما ذكره لها غلامها ميسرة من قول الراهب.. فقال لها ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة فان محمدا لنبى هذه الأمة.. (ص 121) . وكان يوصف بالأمين (ص 125) .. ويردد علماء الدين أنه صلّى الله عليه وسلم لم يسجد لصنم قط. وتحنثه فى غار حراء قبل البعثة معروف. (10) تاريخ الطبرى، 1191، وانظر أيضا تفسير الطبرى ج 5، الايات من 75 الى 77 من السورة رقم 17 (الاسراء) : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) . وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) . سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77) ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فأنكرها على اعتبار أن الصورة مقبولة بشكل عام. ولا نجد مبررا لسوق مقتطفات طوال من كتب السيرة: ابن هشام، والجزء الخاص بالسيرة فى كتاب الطبقات الكبرى للواقدى. فمسيرة الأحداث تثبت أن رسول الله كان مهما، بل فى الغاية من الأهمية فقد فتح مكة بعد ذلك وأسس دولة، ونشر دينا عالميا فى مختلف أرجاء العالم، ولا زال ينتشر) . لا بد أن نتذكر أن النجاح الأصلى (الاولى) الذى أحرزه محمد (صلّى الله عليه وسلم) كان قليلا- ربما بسبب تواضع أنساب من تبعوه فى وقت من الأوقات ثم انشقوا عنه (ارتدوا - (fell away ولم تكن هناك رغبة فى اعادة ذكر مثل هذه الأمور. وفى رواية أبو علية (فى الطبرى ابن علية) نلاحظ أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) كانت له السيادة بين زوار مكة، مع أن أحدا من زعماء مكة لم يكن قد انضم اليه، وهذا التناقض يعد فى الغاية من الغباء اذا كانت الرواية مجرد ابتداع. دعنا اذن نقبل الرواية كما هى، ودعنا نذهب الى أن زعماء قريش راحوا يقدمون نوعا من العروض على محمد (صلّى الله عليه وسلم) مؤداها أن يحظى بتكريم لفظى مقابل بعض الاعتراف برباتهم. اننا لا يمكننا أن نكون متأكدين من ذلك. واعلان هذه الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) يمكن بلا شك ربطه بهذه الصفقة. ووفقا لهذه النظرة، فابطال هذه الاية الشيطانية (استخدم المؤلف الكلمة الانجليزية الدالة على النسخ، abrogation وقد بينا فى حاشية سابقة الفرق بين النسخ والوضع) لا بد أن يرتبط بفشل هذا الحل الوسط (التسوية) ، وليس هناك ما يدعونا للقول ان أهل مكة كانوا متواطئين مع محمد (متظاهرين بالخلاف معه: (double -crossed لكنه- أى محمد صلّى الله عليه وسلم- أدرك أن الاعتراف ببنات الله (كما كان يقال عن اللات والعزى ومناة وغيرها) يعنى التقليل من شأن الله (سبحانه) ليكون مساويا لهذه الربات. لقد كانت طريقة تعبده عند الكعبة من الناحية الظاهرية لا تختلف اختلافا كبيرا عن طريقة العبادة التى كان يمارسها رهبان هذه الأوثان (اللات والعزى.. الخ) وان كانت لا تزيد عنها كثيرا فى التأثير، ومن هنا فان الاصلاح الذى نشده محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 (صلّى الله عليه وسلم) لم يكن ليؤتى ثماره. لذلك، فمن المؤكد أن محمدا لم يرفض عروض أهل مكة اخيرا لعروض كلامية عرضوها عليه، وانما كان رفضه لأسباب دينية صحيحة، انه لم يرفض عروضهم- على سبيل المثال- لعدم ثقته فيهم أو لطموحه الشخصى الذى لم يتم اشباعه بعد لكن لأن معنى اعترافه بهذه الربات (الأوثان) سيؤدى الى فشل مهمته كرسول، ويقضى على الرسالة التى كلفه الله (سبحانه) بها. لقد كان الوحى قد جعل ذلك الأمر واضحا له منذ البداية. اننا يمكن أن نفكر على هذا النحو لتوضيح ما كان، وربما كان محمد (صلّى الله عليه وسلم) قد شعر أن مهمنه غير سهلة حتى قبل أن يأتيه الوحى. واذا نظرنا للأمور نظرة تجريدية، بدا أنه ليس ثمة ما يدعو للاعتراض الا قليلا فى الاعتراف باللات والعزى وغيرهما كموجودات أقل قداسة، فالاعتراف بالملائكة مسألة متمشية مع التوحيد ليس فى اليهودية والمسيحية فحسب، وانما فى الاسلام السنى (السلفى) أيضا. وعلى أية حال، فان عاملين كمنا فى أوضاع مكة فى هذه الفترة الانتقالية جعلا الاعتراف بذلك أمرا غير ممكن: العامل الأول: أن طبيعة التعبد عند الكعبة والذى كان قبل الاسلام متسما بالشرك (تعدد الالهة) - كان لا بد من تنقيته (تخليصه من الشرك) وتحويله للتوحيد الخالص. فاذا كانت ممارسات العبادة الجديدة حول الكعبة تشبه ممارسات العبادة عند أوثان الربات الاخرى، فلا بد أن أهل الحجاز كانوا سيقترحون ربات أخرى لتعبد على قدم المساواة. العامل الثانى: هو أن عبارة (بنات الله) ذات مضامين خطيرة رغم أنها بشكل عام لم تكن تعنى المعنى الحرفى لها «11» . فكلمة (بنات) وغيرها من الكلمات الشبيهة قد تستخدم- غالبا- استخداما مجازيا فى اللغة العربية. فالعرب يقولون بنت الشفه ويعنون الكلمة، ويقولون بنت العين ويعنون الدمعة، ويقولون بنات الدهر ويعنون النكبات   Welhausen ,Reste ,24. (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والمصائب. ومن هنا فربما كانت عبارة (بنات الله) لا تعنى أكثر من أنها موجودات مقدسة أو موجودات فوقية (فوق طبيعية) ، أما كلمة الله فى هذه العبارة فهى تعنى ببساطة الاله the god ولا تعنى بالضرورة الاله الأعظم (الله، (God ولان كلمة الله بدأت تنصرف للتعبير على الموجود الأعلى سبحانه ولا تطلق على سواه، فان خطورة عبارة بنات الله أنها قد تعنى أن هذه (البنات) مساوية لله سبحانه، وهذا لا يتفق مع عقيدة التوحيد. وفكرة أن اختلاف محمد (صلّى الله عليه وسلم) مع زعماء مكة كانت هى السبب فى الغاء الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) ورفضه للعروض المقدمة منهم تتفق مع النقطة الثانية الواردة فى خطاب عروة الذى أوردناه فى صدر هذا الفصل، وهى أن بعض زعماء قريش ممن لهم ممتلكات فى الطائف هم الذين قادوا المعارضة الفعالة ضد محمد (صلّى الله عليه وسلم) . ومن الممكن تقديم تفسيرات مختلفة لهذه الحقيقة وان كان أفضلها هو أن هؤلاء الذين كانوا من بين زعماء قريش الذين كانوا مهتمين بشكل خاص بتجارة الطائف، قد ربطوا النشاطات التجارية فى هذا المركز التجارى (الطائف) بفلك الحياة المالية والتجارية فى مكة. وكان سحب الاعتراف بوثن (الربة) اللات يهدد- بشكل أو باخر- مشروعهم؛ مما أثار غضبهم الشديد ضد محمد (صلّى الله عليه وسلم) . ومما يؤكد ما ورد فى خطاب عروة من أن التعرض للربات (الأوثان أو الطواغيت) كان هو السبب الكامن وراء مرحلة العداوة بين محمد وزعماء قريش، ما ورد فى القران الكريم. فثمة ايتان ترتبطان بذلك تقليديا. تتحدث هاتان الايتان عن اغراء أو اغواء (كاد) يخضع له محمد (صلّى الله عليه وسلم) : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) ..) . سورة الاسراء (السورة 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وطبيعة الاغراء أو الاغواء فى هذه الايات غير محددة. (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سورة الزمر (السورة 39) . ففى هذه الايات يتضح أن هذا (الاغواء) أو (الاضلال) كان هو طلبهم من محمد (صلّى الله عليه وسلم) اتخاذ (شركاء) مع الله. وتشير هذه الايات جميعا الى أن محمدا لو كان قبل عرض زعماء قريش، لكان العقاب الذى ينتظره من الله سبحانه وتعالى شديدا، عاجلا واجلا (فى الدنيا والآخرة) . وربما كانت هذه الايات قد نزلت فى بداية المرحلة المدنية «12» وأيا ما كان تاريخ نزول الوحى بهذه الايات، لا يبدو أن هناك سببا قويا لرفض الربط بينها وبين قصة الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) والغائها (تنبيه الرسول الى أنها ليست من القران الكريم) . وهناك اية أخرى هى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» الأنعام (6) ، الاية 136. وربما يمكن ربط هذه الاية بالأحداث الانفة، فهذه الاية تشير الى أن المشركين يعرفون الله، ولكنهم يشركون فى حكمه أوثانا (الهة أخرى)   Bell ,translation of Quran. (12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كل هذه الحقائق تؤكد أن الرسول صلّى الله عليه وسلم رفض الصفقة المعروضة عليه، أو بتعبير اخر رفض المساومة على دين الله. وسورة (الكافرون) وهى السورة رقم 109 تمثل الرد الذى رده محمد على الكافرين، ونص اياتها كالتالى: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) الكافرون (السورة 109) . وتلك هى القطيعة الكاملة بين التوحيد من ناحية وتعدد الالهة من ناحية أخرى، أو بين التوحيد من ناحية والشرك من ناحية أخرى. وهذه الايات تشير الى استحالة عقد صفقة للتوفيق بينهما مستقبلا. وهناك ايتان أخريان شبيهتان بهذا السياق، وان كانتا ليستا بهذه القوة فى التعبير عن الفصل بين العقيدتين: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ، ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) ..) سورة الأنعام (السورة رقم 6) . وتتحدث الاية الأخيرة عن أن عبادة الأوثان قد تراجعت، مما يشير الى أن عملية اغواء محمد قد استمرت لفترة زمنية غير قليلة بدليل نزول ايات متفرقة تتعرض لهذا الموضوع، وهى مجمل الايات التى أوردناها انفا. ان تعاليم القران الكريم فيما يتعلق بالأوثان خلال الحقبة المكية مسألة هى أيضا جديرة بالتأمل. ان آياته تشير بشكل أساسى الى أن عبادة الأوثان حمق وغباء، فالأوثان لا تنفع ولا تضر ولا تقدر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 شىء «13» وهى لا تشفع «14» وفى اليوم الاخر سيستصرخ بها المشركون ثم يدركون أنها لا تنفع ولا تشفع وأنها تبرأ مما يقولون «15» . ان مثل هذه الايات تبدو وكأنها تخاطب أناسا يمرون بمرحلة انتقال دينية (وجهات نظرهم الدينية كانت فى مرحلة انتقال) ، فالمشركون فيما تشير الايات ينظرون الى هذه الأوثان التى يعبدونها «كشفعاء» أو «وسطاء» عند الله. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) ..) السورة رقم 10 (يونس) . ومعنى هذه الاية اذا أخذناه ببساطة هو أنهم يعترفون- الى حد ما- بموجود أعلى، Some higher being وربما أيضا نفهم منها أنهم كانوا يؤمنون باليوم الاخر أو يوم الحساب، وان كنا غير متأكدين من هذه الفكرة الأخيرة مادامت الاية تشير الى أنهم يعتقدون أن شفاعة الأوثان لهم فى يوم الحساب لها بعض التأثير حتى بالنسبة لمن لا يقبلون الايمان بالله تماما. ومرة أخرى عندما قيل ان المشركين اتخذوا جنا شركاء لله، وقد يكون القران الكريم قد عبر عن هذا الموضوع بهذا الشكل لأن الفكرة كانت شائعة زمن الرسول (صلّى الله عليه وسلم) وزمن الذين كانوا يعارضون عبادة الأوثان على هذا النحو. لذلك لم يكن هجوم القران (الكريم) على الالهة الزائفة حادا جدا هذه الفترة، فهو لم يؤكد عدم وجودها كموجودات فوقية (فوق طبيعية) ، ولكنه ربما اكتفى باثارة شكوك خطيرة حولها أمام أناس كانت أفكارهم الدينية بالفعل فى حالة تدفق.   (13) السورة 6 (الايات 46، 70) والسورة 10 (الايات 19، 35) والسورة 17 (الايات 58 وما بعدها) والسورة 21 (الاية 44) . (14) السورة 10 (الاية 19) والسورة 19 (الاية 90) ... الخ. (15) السورة 16 (الاية 88) ، والسورة 18 (الاية 50) ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وعبارة (بنات الله) كانت هدفا سائدا للهجوم، كما يتضح من الايات التالية: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) ..) السورة 16 (النحل) . (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (145) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ..) السورة رقم 37 (الصافات) . (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) ..) السورة رقم 43 (الزخرف) . (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)) السورة رقم 53 (النجم) . فقد وردت فكرة بنات الله كما يتضح من الايات السابقة عدة مرات فى القران الكريم، وكانت مرتبطة- تقليديا- برفض الايات الشيطانية والغائها، والمعنى فيها أنه كيف يكون لله البنات فقط بينما لأهل مكة بنون وبنات، وتشير الايات الى أن الأنثى أدنى منزلة من الذكر «16» ، بينما لا يمكن لله سبحانه نسل فهو- سبحانه- ليس له زوجة «17» كما يتضح من الايات التالية:   (16) اكتفى المؤلف بذكر أرقام الايات والسور واثرنا ايرادها بنصها للفائدة. (17) أوردها المؤلف باختلاف فى ترقيم الايات عن المصحف المتداول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ..) السورة رقم 6 (الأنعام) . (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) الاية 111، السورة 17 (الاسراء) . وثمة فارق مهم بين أن يكون لله ولد أو نسل من ناحية وبين أن يكون له عبيد، فالعبيد يعبدونه ولا يتدخلون فى حكمه «18» (النص: يتشفعون (intercede كما تشير الايات التالية: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) ..) السورة 21 (الأنبياء) . (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) ..) السورة 7 (الأعراف) . وعلى هذا، فانه يبدو أنه كان هناك شعور بأن كلمة (بنات) كانت تتضمن أو يمكن أن تتضمن معنى الربات (الأوثان (idols التى كانت قريش تشرك بها مع الله. هذا هو المعنى الاساسى الكامن وراء رفض الايات الشيطانية وانكار نسبتها للقران (الكريم) ، وثمة نقاط   (18) اكتفى المؤلف بأرقام الايات وقد أوردناها بنصها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أخرى يفترض أنه قد تمت اضافتها مؤخرا بالاضافة الى براهين أخرى لم نسقها فيما سبق «19» . وعلى هذا، فالقران الكريم يتوافق مع ما كان معروفا من الروايات التقليدية ولا بد أن محمدا قد احرز النجاح الكافى فى جعل زعماء قريش ينظرون اليه بجدية أو كمصدر خطر حقيقى. فتعرض محمد (صلّى الله عليه وسلم) لضغط ليعترف بعبادة الربات (الأوثان) فى المناطق المجاورة. وقد ركن اليهم محمد صلّى الله عليه وسلم فى البداية شيئا قليلا للوصول الى مزايا مادية كالتى عرضوها عليه، ولأنه بدا له كما لو أن ذلك سيحقق نجاحا سريعا لدعوته. وعلى أية حال، فأخيرا فمن خلال دعم الله سبحانه له- كما يعتقد- أدرك أن مثل هذه التسوية مضرة، ومن هنا تخلى عن فكرة تحسين ما يحيط به من ظروف وواصل طريقه الذى يعتقد فى صحته. ومن هنا كانت مناهضة تعدد الالهة (الوثنية) حاسمة قاطعة بعبارات حادة واضحة تغلق الباب أمام أية تسوية (تسعى اليها قريش) فى المستقبل. (كما أشرنا، فان قضية التوحيد الخالص محسومة منذ البداية بل هى جوهر الاسلام- وكل ما يذكره المؤلف استطراد لقصة الغرانيق التى لا وجود لها فى القران الكريم، وأثارها كثير من الباحثين- المترجم) . ويميل الكتاب الغربيون الى الظن بأن المسلمين يخلطون بين الدين والسياسة بطريقة غير مرغوبة (رغم أن ذلك بطبيعة الحال ليس قصرا على المسلمين، فالمسيحيون الشرقيون وغيرهم يفعلون الشىء نفسه) . وعلى أية حال، فربما كانت الحقيقة هى أن المسلمين يرون الدين حاويا على قضايا سياسية بشكل أوضح مما يرى الأوربيون. فقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم مهتما بالأحوال الاجتماعية والسياسية والدينية فى مكة، لكنه بطبيعة الحال تفاعل مع الجوانب الدينية باعتبارها هى الأساس. ولأنه كان مرتبطا بقضايا حياتية، فقد كانت قراراته فى مجال الدين ذوات مضامين   (19) أشار المؤلف فى هامشه الى الايات التالية: الايات فى سورة ابراهيم من 52 الى 70 (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ... الخ) . الايات من سورة الأنعام، رقم 74، ومن 80 الى 82 عن حجج سيدنا ابراهيم، والايات فى سورة الكهف عن عداء الجن للانسان من 50 الى 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 سياسية. واذا كانت الروايات المتعلقة بالعروض التى عرضها زعماء قريش على محمد (صلّى الله عليه وسلم) صحيحة، فهذا يعنى أن محمدا كان على وعى بالأبعاد السياسية لقراراته وعلى نحو خاص بالأبعاد السياسية لاذاعته لايات الغرانيق ثم الغائه لها (المترجم: حتى بفرض صحة رواية الغرانيق هذه، فان ابطالها، ونزول جبريل بالتنبيه على أنها من الشيطان يفيد فى أمور كثيرة، منها أن الاسلام يحرم تحريما قاطعا اللجوء الى غير الله أو الطلب من غير الله، سواء كان عزى أو مناة أو لات أو قبر شيخ أو ضريح ولى أو مشعوذ .... الخ) وعلى النحو نفسه فلا بد أنه كان واعيا عندما رفض فى النهاية أية تسوية أو مساومة، بأن أعلن بشكل حاسم من خلال سورة (الكافرون) أنه لا مجال لصلح أو سلام مع قريش اذا لم تقبل بصحة رسالته التى بعثه الله بها. ولهذا مضامين أبعد- وفقا لأفكار العرب عن سيادة الحكمة أو شرعية الحكمة- فان قبوله نبيا يعنى أيضا قبوله زعيما، لكن محمدا قد لا يكون واعيا بكل ذلك فى البداية، فقبل بلا شك- ما نزل به القران الكريم من أنه ليس الا نذيرا، وانه بالتالى ليس الا صاحب رسالة دينية. ففصل العرب بين النبوة والزعامة أمر غير قائم ولا يمكن أن يستمر، فكيف يمكن لأى زعيم مدنى أن يحكم اذا كانت كلمة الله أو حتى كلمة نبى ضده؟ نخلص من هذا الى أن التعرض لربات قريش (الأوثان) كان بالفعل هو بداية المعارضة الحقيقية التى شنتها قريش ضد الرسول، كما أن سورة (الكافرون) التى تبدو ذات هدف دينى خالص، كانت هى التى جعلت فتح مكة بالنسبة لمحمد صلّى الله عليه وسلم أمرا ضروريا. 2- أمور الحبشة اذا كانت التواريخ النسبية التى وردت فى خطاب عروة صحيحة، فان الهجرة الى الحبشة تكون قد وقعت بعد نزول سورة (الكافرون) مع ابطال ايات الغرانيق، وهذا الترتيب يتناسب مع النتائج التى انتهت اليها الهجرة الى الحبشة، وهى ما سنتعرض له فى السطور التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 (أ) الرواية التقليدية عن الهجرة الى الحبشة يذكر لنا ابن هشام الرواية التالية «20» : «قال ابن اسحاق: فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم الى أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى أرض الحبشة، مخافة الفتنة وفرارا الى لله بدينهم، فكانت أول هجرة فى الاسلام. أوائل المهاجرين الى الحبشة: وكان أول من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب بن فهر: عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس معه امرأته: سهلة بنت سهيل بن عمرو، أحد بنى عامر ابن لؤى، ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبى حذيفة. ومن بنى أسد ابن عبد العزى بن قصى: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. ومن بنى عبد الدار بن قصى: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. ومن بنى زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن عبد بن الحارث بن زهرة. ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة معه امرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم. ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب: عثمان بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح. ومن بنى عدى بن كعب: عامر بن   (20) ص 208 وما بعدها. نقلنا النص من الطبعة المتوافرة لدينا (مكتبة الايمان- بتعليق محمد بيومى) . أورد المؤلف فقرات من الرواية واثرنا نقلها كاملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ربيعة، حليف ال الخطاب، من عنز بن وائل- معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدى بن كعب. ومن بنى عامر بن لؤى: أبو سبرة بن أبى رهم ابن عبد العزى بن أبى قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، ويقال بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر. ويقال: هو أول من قدمها. ومن بنى الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين الى أرض الحبشة، فيما بلغنى. قال ابن هشام: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر لى بعض أهل العلم. قال ابن اسحاق: ثم خرج جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه. المهاجرون من بنى هاشم: ومن بنى هاشم بن عبد مناف بن قصى ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر: جعفر بن أبى طالب ابن عبد المطلب بن هاشم، معه امرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم، ولدت له بأرض الحبشة عبد الله ابن جعفر. المهاجرون من بنى أمية: ومن بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: عثمان* بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس، معه امرأته رقية ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، معه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن شق بن رقبة بن مخدج الكنانى، وأخوه خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد ابن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو. من خزاعة.   * مر ذكره فى الصفحة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 قال ابن هشام: ويقال همينة بنت خلف. قال ابن اسحاق: ولدت له بأرض الحبشة سعيد بن خالد، وأمة بنت خالد، فتزوج أمة بعد ذلك الزبير بن العوام، فولدت له عمرو بن الزبير، وخالد بن الزبير. المهاجرون من بنى أسد: ومن حلفائهم، من بنى أسد بن خزيمة: عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم ابن دودان بن أسد، وأخوه عبيد الله بن جحش، معه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب بن أمية، وقيس بن عبد الله، رجل من بنى أسد ابن خزيمة، معه امرأته بركة بنت يسار، مولاة أبى سفيان بن حرب بن أمية، ومعيقيب بن أبى فاطمة. وهؤلاء ال سعيد بن العاص، سبعة نفر. قال ابن هشام: معيقيب من دوس. المهاجرون من بنى عبد شمس: قال ابن اسحاق: ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأبو موسى الأشعرى، واسمه عبد الله بن قيس، حليف ال عتبة بن ربيعة، رجلان. المهاجرون من بنى نوفل: ومن بنى نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة، بن قيس بن عيلان، حليف لهم، رجل. المهاجرون من بنى أسد: ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصى: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، وعمر بن أمية بن الحارث بن أسد، أربعة نفر. المهاجرون من بنى عبد بن قصى: ومن بنى عبد بن قصى: طليب ابن عمير بن وهب بن أبى كبير بن عبد بن قصى، رجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 المهاجرون من بنى عبد الدار بن قصى: ومن بنى عبد الدار بن قصى: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وسويبط ابن حرملة بن مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار، وجهم بن قيس ابن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، معه امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بن جذيمة بن أقيش بن عامر بن بياضة بن سبيع ابن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو، من خزاعة، وابناه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف ابن عبد الدار، خمسة نفر. المهاجرون من بنى زهرة: ومن بنى زهرة بن كلاب: عبد الرحمن ابن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، وعامر بن أبى وقاص وأبو وقاص، مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، والمطلب بن أزهر ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، معه امرأته رملة بنت أبى عوف بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن المطلب. المهاجرون من بنى هذيل: ومن حلفائهم من هذيل: عبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم بن سعد بن هذيل. وأخوه: عتبة بن مسعود. المهاجرون من بهراء: ومن بهراء: المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن زهير بن لؤى ابن ثعلبة بن مالك بن الشريد بن أبى فائش بن دريم بن القين بن أهود ابن بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. قال ابن هشام: ويقال هزل بن فاس بن ذر، ودهير بن ثور. قال ابن اسحاق: وكان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وذلك أنه تبناه فى الجاهلية وحالفه، ستة نفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المهاجرون من بنى تيم: ومن بنى تيم بن مرة: الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، معه امرأته ربطة بنت الحارث بن جبلة بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، ولدت له بأرض الحبشة موسى بن الحارث وعائشة بنت الحارث، وزينب بنت الحارث وفاطمة بنت الحارث، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، رجلان. المهاجرون من بنى مخزوم: ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سلمة* ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له بأرض الحبشة زينب بنت أبى سلمة، واسم أبى سلمة عبد الله، واسم أم سلمة: هند. وشماس بن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمى ابن مخزوم. خبر الشماس: قال ابن هشام: واسم شماس: عثمان، وانما سمى شماسا، لأن شماسا من الشمامسة، قدم مكة فى الجاهلية، وكان جميلا فعجب الناس من جماله، فقال عتبة بن ربيعة، وكان خال شماس: أنا اتيكم بشماس أحسن منه، فجاء بابن أخته عثمان بن عثمان، فسمى شماسا فيما ذكر ابن شهاب وغيره. قال ابن اسحاق: وهبار بن سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأخوه عبد الله بن سفيان، وهشام بن أبى حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعياش بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم. المهاجرون من حلفاء بنى مخزوم، ومن حلفائهم، معتب بن عوف ابن عامر بن الفضل بن عفيف بن كليب بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، من خزاعة، وهو الذى يقال له: عيهامة، ثمانية نفر. قال ابن هشام: ويقال حبشية بن سلول، وهو الذى يقال له معتب بن حمراء.   * مر ذكره وذكر زوجته من قبل- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المهاجرون من بنى جمح: ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، معه امرأته فاطمة بنت المجلل بن عبد الله بن أبى قيس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر، وابناه: محمد بن حاطب، والحارث بن حاطب، وهما لبنت المجلل، وأخوه حطاب بن الحارث، معه امرأته فكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، معه ابناه جابر بن سفيان، وجنادة بن سفيان، ومعه امرأته حسنة، وهى أمهما، وأخوهما من أمهما شرحبيل بن حسنة، أحد الغوث. قال ابن هشام: شرحبيل بن عبد الله أحد الغوث بن مر، أخى تميم بن مر. قال ابن اسحاق: وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة ابن جمح، أحد عشر رجلا. المهاجرون من بنى سهم: ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، خنيس بن حذافة بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، وعبد الله ابن الحارث بن قيس بن عدى بن سعد بن سهل، وهشام بن العاص بن وائل بن سعد بن سهم. قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم. قال ابن اسحاق: وقيس بن حذافة بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، وعبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، والحارث بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، ومعمر بن الحارث بن قيس بن عدى ابن سعد بن سهم، وبشر بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، وأخ له من أمه من بنى تميم، يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ابن الحارث بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، والسائب بن الحارث ابن قيس بن عدى بن سعد بن سهم، وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم ابن سعد بن سهم. ومحمية بن الجزاء، حليف لهم، من بنى زبيد أربعة عشر رجلا. المهاجرون من بنى عدى: ومن بنى عدى بن كعب: معمر بن عبد الله ابن نضلة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدى، وعروة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدى، وعدى بن نضلة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج ابن عدى، وابنه النعمان بن عدى، وعامر بن ربيعة، حليف لال الخطاب، من عنز بن وائل، معه امرأته ليلى بنت حثمة بن غانم. خمسة نفر. المهاجرون من بنى عامر: ومن بنى عامر بن لؤى: أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزى بن أبى قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس ابن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وعبد الله بن مخرمه ابن عبد العزى بن أبى قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن مالك ابن حسل بن عامر، وسليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر، وأخوه السكران بن عمرو، معه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر، ومالك بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، معه امرأته عمرة بنت السعدى بن وقدان بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وسعد بن خولة، حليف لهم. ثمانية نفر. قال ابن هشام: سعد بن خولة من اليمن. المهاجرون من بنى الحارث، قال ابن اسحاق: ومن بنى الحارث ابن فهر أبو عبيدة بن الجراح، وهو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ابن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر. وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل ابن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، ولكن أمه غلبت على نسبه، فهو ينسب اليها، وهى دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر، وكانت تدعى بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبه بن الحارث، وعياض بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، ويقال: بل ربيعة بن هلال بن مالك بن جنبة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن مالك بن جنبة بن الحارث وعثمان بن عبد غنم بن زهير ابن أبى شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث وسعد بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ظرب بن الحارث، والحارث بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر. ثمانية نفر. عدد مهاجرى الحبشة: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر اليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، ان كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه ... » . وكان هؤلاء العشرة هم أول مسلمين هاجروا للحبشة وفقا للمصادر التى بين أيدينا، ويذكر ابن هشام أن من بينهم: عثمان بن مظعون كما ذكر لى أحد الباحثين. ويقول ابن اسحق انه بعد ذلك خرج جعفر بن أبى طالب مهاجرا وتبعه المسلمون واحدا فواحدا ثم التقوا فى الحبشة، وقد ذهب بعضهم مع أسرته، وذهب بعضهم بمفرده دون اصحطاب أسرته ... (ثم يذكر أسماء 83 مهاجرا (ذكرا بالغا) ضمنهم ما ورد فى القائمة الأولى) . واعتمادا على هذه الرواية انتشر بين المؤرخين المسلمين المحدثين أن هناك هجرتين الى الحبشة، وأن أشخاصا بعينهم- أعنى هؤلاء الذين وردت أسماؤهم فى القائمة الأولى- اشتركوا فى الهجرتين (الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والثانية الى الحبشة) بعضهم عاد الى مكة ومنها هاجروا للمدينة، وبعضهم لم يعد حتى سنة 7 هـ عندما التحقوا بالرسول صلّى الله عليه وسلم فى خيبر. (ب) شرح قائمتى المهاجرين الى الحبشة تساءل المؤرخون الغربيون عن مسألة وجود هجرتين منفصلتين (أولى وثانية) الى الحبشة، خاصة الباحث كيتانى «21» Caeteni الذى اعتمدنا فى المناقشات التالية اعتمادا كبيرا على معالجته لهذه المسألة. ان السبب الرئيسى لرفض فكرة وجود هجرتين منفصلتين هو أن ابن اسحق- كما نقل ابن هشام والطبرى- لم يذكر فى الحقيقة أن هناك هجرتين. انه لم يقل الا ان أوائل من هاجر الى الحبشة هم ... ثم أعطانا قائمة موجزة، ثم واصل حديثه قائلا ان جعفر بن أبى طالب خرج مهاجرا وتبعه المسلمون واحدا اثر الاخر. انه لم يذكر أن أحدا ممن ورد فى القائمة الأولى عاد الى مكة أو المدينة ليهاجر ثانية الى الحبشة، وأن القائمتين ليستا مرتبتين وفقا لوجود هجرتين (أولى فثانية) ، وانما وفقا لأسبقية تدوين أسماء المهاجرين فى السجلات العامة للدولة بعد ذلك، أو هذا ما نفترضه. فأبو صبرة يقال انه أول من وصل للحبشة مهاجرا «22» وعمرو بن سعيد بن العاص يقال انه هاجر للحبشة بعد هجرة أخيه خالد بعامين «23» . هذه الحقائق، بالاضافة لكلمة (تتابع) ، تفيد أنه لم تكن هناك مجموعتان كبيرتان، وانما عدد من المجموعات الصغيرة. والانطباع الذى نخرج به من رواية ابن اسحق أن هناك قائمتين (مجموعتين كبيرتين) يذكرهما الناس فى أيامه عن مهاجرين ذهبوا للحبشة، لكنه غير متأكد عن الصلة الحقيقة بين هاتين المجموعتين (هاتين الهجرتين) . اننا نستطيع أن نقدم تفسيرا بسيطا لكيفية تحول الهجرة الواحدة الى هجرتين (على فرض أن فرضنا بأنها أساسا هجرة واحدة هو فرض صحيح) ، وأن نفسر أيضا الأسماء الواردة فى القائمتين.   (21) Ann, i, pp.262- 272; cf.Buhl, in Noldeke- Festschrift, Giess en, 1906, i, 13- 32. (22) الطبرى، 1184. (23) ابن اسحق، هج 4، 1، 73، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فى سنة 15 هـ، طور الخليفة عمر بن الخطاب نظاما يتلقى المسلمون بمقتضاه أعطيات سنوية من الخزانة العامة للدولة (بيت المال) مقابل خدماتهم فى الحرب والادارة. وكانت هذه الاعطيات تختلف وفقا للأسبقية الى الاسلام فالأسبق يتقاضى مبلغا أكبر من المبلغ الذى يتقاضاه من أسلم بعده، وفى هذا النظام الجديد الذى اعتمد سنة 15 هـ كانت أعلى طبقة بعد زوجات الرسول (صلّى الله عليه وسلم) وعشيرته هى طبقة البدريين (الذين شاركوا كمسلمين فى غزوة بدر مع الرسول صلّى الله عليه وسلم) لكن يبدو من المحتمل أنه فى وقت سابق كانت الطبقة العليا هى التى تمثل المهاجرين. وبالرجوع للمناقشات التى دارت حول هذا الموضوع، يتضح أنه من المؤكد أن قيام المسلم بالهجرة الى الحبشة أو الهجرة الى المدينة أو كلتيهما كان مدعاة لشرف خاص؛ اذ كان يرفع قدر القائم بالهجرة الى الدرجات العلا فى سلك النبالة الجديد. (وفقا للمعابير الجديدة للنبالة بعد الاسلام) . وهذه المناقشات تكاد تكون موضوعة فى زمن لاحق مادامت قد فقدت معظم عناصرها بعد الاصلاح الذى أنجزه عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) ، فما حدث بالفعل يمكن اعادة بنائه على النحو التالى (أو يمكن أن نتصور ما جرت عليه الأمور كالتالى) : فى عام 7 هـ، أراد محمد (صلّى الله عليه وسلم) على نحو خاص أن يدعم وضعه بالحصول على تأييد المجموعة الصغيرة التى ما زالت فى الحبشة فأرسل اليهم رسولا ليؤكد لهم ترحيبه الحار وليرافقهم فى العودة، فعادوا معه أو على الأقل عاد بعضهم فتلقاهم الرسول بقبول حسن وأشركهم فى غنائم خيبر التى كان محمد (صلّى الله عليه وسلم) قد فتحها لتوه. ربما منذ ذلك الوقت أطلق لفظ (الهجرة) على الذين ذهبوا للحبشة وبالتالى أصبحوا (مهاجرين) ، وكان هذا بدعم من محمد (صلّى الله عليه وسلم) نفسه كمبرر لمعاملته الكريمة جدا لجعفر وجماعته، فكان لا بد من هذا المبرر لتعليل مساواتهم بالمهاجرين الى المدينة المنورة. ولسوء الحظ، فان هذا جعل من الممكن لبعض من قضى فى الحبشة فترة قصيرة ثم هاجر من مكة الى المدينة أن يطالب لنفسه بحق فى هجرتين. وقد تجنب محمد (صلّى الله عليه وسلم) ذلك بتوسيع مفهوم الهجرة بأن قال ما يفيد أنهم هاجروا مرة الى الحبشة وهاجروا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الحبشة اليه (أى الى الرسول صلّى الله عليه وسلم) «24» . وعند تفحصنا لقائمة المهاجرين الأولى للحبشة (من بين القائمتين المذكورتين انفا) ، سنجد أنه من المحتمل أنها قائمة غير كاملة بمن قاموا بهجرتين احداهما للحبشة والاخرى للمدينة، وليس من الضرورى أن تكون كلتا الهجرتين الى الحبشة. فمعظم من كانوا فى الحبشة واعتبروا أيضا من المهاجرين الى المدينة (المنورة) هم الذين وردوا فى هذه القائمة الأولى «25» . ويبدو أن عمر بن الخطاب كان من بين المعارضين الرئيسيين لهذه المعاملة التفضيلية للذين قضوا فترة أطول فى الحبشة. فعلى الأقل هناك رواية لا زالت محفوظة عن نزاع بين عمر بن الخطاب وزوجة جعفر ابن أبى طالب تدخل محمد صلّى الله عليه وسلم لتسويتها «26» *. هذا يلقى ضوا   (24) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص 4، مج 1، 79- 78. وانظر أيضا، ص 8 والحاشية فى ص 205. (25) انظر الملحق (ز) باخر الكتاب. (26) البخارى، 64، 38 (ج 3، 128 وما بعدها) الترجمة ج 3، ص 162. * لم نستطع الاستدلال على حديث بهذا المعنى فى طبعات صحيح البخارى التى بين أيدينا (على سبيل المثال طبعة دار احياء الكتب العربية- البابى الحلبى) . لكن هناك أحاديث تشير لفضل من هاجروا الحبشة واعتبارهم أصحاب هجرتين، وفيما يلى الأحاديث التى أوردها صحيح البخارى (الطبعة المتاحة لنا) عن كل ما يتعلق بالهجرة للحبشة: ( ... باب هجرة الحبشة. وقالت عائشة: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين فهاجر من هاجر قبل المدينه ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة الى المدينة. فيه عن أبى موسى وأسماء عن النبى صلّى الله عليه وسلم. حدثنا عبد الله بن محمد الجعفى حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهرى حدثنا عروة بن الزبير أن عبيد الله بن عدى بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود ابن عبد يغوث قالا له: ما يمنعك أن تكلم خالك عثمان فى أخيه الوليد بن عقبة وكان أكثر الناس فيما فعل به. قال عبيد الله: فانتصبت لعثمان حين خرج الى الصلاة فقلت له: ان لى اليك حاجة وهى نصيحة فقال أيها المرء أعوذ بالله منك فانصرفت فلما قضيت الصلاة جلست الى المسور والى ابن عبد يغوث فحدثتهما بالذى قلت لعثمان وقال لى فقالا قد قضيت الذى كان عليك فبينما أنا جالس معهما اذ جاءنى رسول عثمان فقالا لى قد ابتلاك الله فانطلقت حتى دخلت عليه فقال ما نصيحتك التى ذكرت انفا قال فتشهدت ثم قلت: ان الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله صلّى الله عليه وسلم وامنت به وهاجرت الهجرتين الأوليين وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورأيت هديه وقد أكثر الناس فى شأن الوليد بن عقبة فحق عليك أن تقيم عليه الحد فقال له يا ابن أخى أدركت رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 على المفاهيم الكاملة وراء التصنيف (أو التقسيم) الذى اختاره عمر ابن الخطاب لنظام الأعطيات الذى أخذ به. فليس هناك ذكر للهجرة فنتج عن ذلك أن هؤلاء الذين عادوا من الحبشة وفق غزوة خيبر، هؤلاء فقط هم الذين صنفوا بعد البدريين (الذين شهدوا غزوة بدر مع الرسول) بطبقتين. (ج) أسباب الهجرة الى الحبشة ما ذكرناه انفا- بفرض صحته- لا يزيد كثيرا من فهمنا للأمور المتعلقة بالحبشة، فهى ليست بالبساطة التى يظنها المسلمون   الله صلّى الله عليه وسلم قال قلت لا ولكن قد خلص الى من علمه ما خلص الى العذراء فى سترها قال فتشهد عثمان فقال ان الله قد بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله صلّى الله عليه وسلم وامنت بما بعث به محمد صلّى الله عليه وسلم وهاجرت الهجرتين الأوليين كما قلت وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبايعته والله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ثم استخلف الله أبا بكر فو الله ما عصيته ولا غششته ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته. ثم استخلفت أفليس لى عليكم مثل الذى كان لهم على قال بلى قال فما هذه الأحاديث التى تبلغنى عنكم؟ فأما ما ذكرت من شأن الوليد بن عقبة فسنأخذ فيه ان شاء الله بالحق قال فجلد الوليد أربعين جلدة وأمر عليا أن يجلده وكان هو يجلده وقال يونس وابن أخى الزهيرى عن الزهيرى أفليس لى عليكم من الحق مثل الذى كان لهم. حدثنى محمد بن المثنى حدثنا يحيى عن هشام قال حدثنى أبى عن عائشة رضى الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبى صلّى الله عليه وسلم فقال ان أولئك اذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تيك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة. حدثنا الحميدى حدثنا سفيان حدثنا اسحاق بن سعيد السعيدى عن أبيه عن أم خالد بنت خالد قالت: قدمت من أرض الحبشة وأنا جويرية فكسانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم خميصة لها أعلام فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح الأعلام بيده ويقول سناه سناه قال الحميدى يعنى حسن حسن. حدثنا يحيى بن حماد حدثنا أبو عوانة عن سليمان عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله رضى الله عنه قال كنا نسلم على النبى صلّى الله عليه وسلم وهو يصلى فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشى سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله انا كنا نسلم عليك فترد علينا قال ان فى الصلاة شغلا فقلت لابراهيم كيف تصنع أنت قال أرد فى نفسى. حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا يزيد بن عبد الله عن أبى بردة عن أبى موسر رضى الله عنه بلغنا مخرج النبى صلّى الله عليه وسلم ونحن باليمن فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا الى النجاشى بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبى طالب فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا نبى الله حين افتتح خيبر فقال النبى صلّى الله عليه وسلم لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 التقليديون. سيغدو هذا واضحا عند محاولتنا الاجابة عن هذا السؤال: لماذا هاجر هذا العدد الكبير من المسلمين الى الحبشة؟ ان الاجابة الأولى الممكنة هى أنهم هاجروا لتحاشى القسوة والاضطهاد اللذين واجهوهما فى مكة. وهذا واضح فى خطاب عروة ورواية ابن اسحق، ورغم أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) فى هاتين الروايتين هو الذى اتخذ المبادأة فان المرء يكاد يفترض أن هؤلاء المسلمين الأوائل قد هاجروا فى الأساس لخوفهم من المعاناة، ولدعم هذه الاجابة يمكن أن نذكر أن ما ذكره ابن اسحق عن أوائل المسلمين الذين لم يهاجروا الى الحبشة كانوا- خلا حالتين- ينتمون انتماء فعليا- أو كحلفاء- الى عشائر: هاشم والمطلب وزهرة وتيم وعدى، وتلك كانت هى عشائر حلف الفضول (مع استبدال أسد بعدى) وكان من الظاهر أنهم هم الذين كونوا المعارضة للمجموعة المحيطة بمخزوم وعبد شمس التى فيها القوة المالية «27» . فالمعارضة التى قادها ضد محمد صلّى الله عليه وسلم المنتمون لمجموعات مخزوم وعبد شمس واضطهادهم لأتباعه- أى أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم- تمثلت فى ضغوط عليهم لنزعهم من بين عشائرهم، بل وحتى من بين أسرهم. وعلى أية حال، ففى المجموعة المنافسة والتى تمثلها زهرة وتيم وغيرهما من المفترض أنه لم يكن هناك الشغف نفسه فى ايذاء أتباع محمد مادام يهاجم الطبقة المالية العليا التى يكرهونها بدورهم، ومن هنا لم تكن هناك الضرورة نفسها عند أفراد هذه العشائر من المسلمين فى الهجرة الى الحبشة. وبالنسبة للاستثناءين الانف اشارتنا لهما*، فان الأرقم (المخزومى) رغم أنه كان ما يزال شابا الا أن وضعه كان قويا- ربما كان زعيما لفرع فى عشيرة- لأنه كان قادرا على تقديم بيته للمسلمين ليجتمعوا فيه ونفهم من هذا أنه لم يكن يتعرض للاضطهاد كالاخرين. وأما الاستثناء الثانى فهو أبو أحمد بن جحش (حليف عبد شمس) وكان شاعرا أعمى، وبالتالى فقد كان له وضعه الخاص، ومع هذا فان ابن   (27) انظر الفصل الأول، الفقرة 2/ 1. * من المسلمين الذين لم يهاجروا للحبشة- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 سعد يذكر أنه ذهب للحبشة، وان كان ابن اسحق لم يذكره ضمن من هاجروا اليها. ويبدو أن هناك شيئا ما فى هذه الحجة وفى الاجابة عن السؤال المطروح فى صدر هذه الفقرة. فهناك أيضا اعتراضات على ما ذكرناه. فاذا كانت هجرة المسلمين للحبشة لمجرد الخلاص من الاضطهاد فلم ظل بعضهم هناك حتى سنة 7 هـ، بينما كان يمكنهم أن يعودوا امنين ليلحقوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم فى المدينة؟ ليس لدينا ما يشير الى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم طلب منهم البقاء فى الحبشة بعد هجرته للمدينة- حتى يهيىء لهم ما يكفيهم فى المدينة. وحتى اذا كان الرسول قد فعل ذلك- أى طلب منهم البقاء فى الحبشة- لكان من المؤكد أن تذكر لنا الروايات ذلك. ان أية اجابة عن هذا السؤال المضاد تعنى أن هؤلاء المهاجرين كان لديهم بعض الأسباب للهجرة غير التخلص من الاضطهاد فى مكة. وربما كانت هذه الأسباب الاخرى هى الأهم. والسبب المحتمل الثانى للهجرة هو الذى قدمه لنا الباحثون الغربيون. مع ملاحظة أن الروايات الأولى عن مبادرة* محمد صلّى الله عليه وسلم يمكن للمرء أن يستدل منها على أنه كان مهتما كثيرا بأن يخفف عن أتباعه الصعوبات المادية التى كانوا يواجهونها، بقدر اهتمامه بابعادهم عن خطر الردة والعودة الى الشرك مرة أخرى، فاذا بقى هؤلاء الأتباع فى مكة عرضة لضغوط أسرهم فقد يرتدون وينكرون عقيدتهم الجديدة (الاسلام) . وحتى هذا السبب الثانى غير مقنع بما فيه الكفاية. تماما كالسبب الأول. فالى أى شىء يقودنا؟ ما الأساس الذى عليه بنى هؤلاء العائدون توقعهم بعودة امنة الى مكة؟ وفى الوقت نفسه، فان بعضهم كانوا من المسلمين الصامدين المتمسكين باسلامهم. وربما لم يكن من الممكن اغواؤهم وردهم عن دينهم. ألم يكن من الأفضل أن يظلوا فى مكة مع أقرانهم؟ ألم يكن هذا أدعى لشد أزر المسلمين الاخرين ورفع معنوياتهم؟!   * أى أنه صلّى الله عليه وسلم هو الذى طلب من أصحابه الهجرة للحبشة- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والسبب المحتمل الثالث ان هؤلاء المهاجرين الى الحبشة قد ذهبوا اليها لينخرطوا فى سلك التحارة. والان فلأن بعضهم قد قضى فى الحبشة ربما حوالى اثنى عشر شهرا، فلا بد أنهم دبروا لأنفسهم مصدرا للعيش، ولا بد أن يكون ذلك كما يكاد يكون مؤكدا عن طريق التجارة. وقد حدثنا عروة عن الحبشة كاحدى مجالات تجارة أهل مكة. وحتى هذا السبب فى حد ذاته غير كاف لتبرير هجرة المسلمين الى الحبشة وحث محمد صلّى الله عليه وسلم بعض صحبه عليها، اذا لم نفترض أنهم كانوا فى حالة يأس كامل فقدوا فيه كل الأمل فى الاصلاح الدينى (الدعوة للاسلام) فى مكة. لكن حتى اذا كان هذا هو اتجاه المهاجرين الى الحبشة، فانه لم يكن اتجاه محمد صلّى الله عليه وسلم*. ومن هنا وجب علينا أن نبحث عن مزيد من الأسباب. رابعا، أيمكن أن يكون ذلك (الهجرة الى الحبشة) جزا من بعض خطط محمد (صلّى الله عليه وسلم) الماهرة؟ أكان يأمل فى تلقى مساعدة عسكريه من الأحباش كما من المحتمل أن يكون جده قد فعل من حيث طلبه دعم أبرهة العسكرى؟ (ليس فى كتب السيرة ما يفيد طلب جده لهذا الدعم المترجم) . فربما لم يكن الأحباش كارهين لغزو جنوب شبه الجزيرة العربية لاستعادة ملكهم الضائع هناك، كما أن الامبراطور البيزنطى قد يكون وافق على هجوم تكتيكى على جناح الجيش الفارسى خاصة وأن الفرس كانوا قد استولوا على القدس قبل ذلك بعام أو عامين. أو هل كان محمد صلّى الله عليه وسلم يأمل أن يجعل من الحبشة قاعدة لمهاجمة تجارة أهل مكة كما فعل بعد ذلك بالنسبة للمدينة بعد أن هاجر اليها؟ أو هل حاول محمد صلّى الله عليه وسلم أن يطور طريقا بديلا للتجارة من الجنوب الى الدولة البيزنطية بعيدا عن مطال الدبلوماسية الملكية، وبالتالى يكسر احتكار رأسماليى مكة لهذه التجارة؟ لقد أفترضنا فى صفحات سابقة «28» أن سياسة مكة كانت   * المعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يكن فى حالة يأس كامل من الدعوة للاسلام فى مكة- (المترجم) . (28) الفصل الأول، الفقرة 2/ ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 سياسة حيادية؛one of neutrality لكن الحبشة بلا شك كانت غير موافقة على استعداد رأسماليى مكة للتجارة مع الفرس، وكانت الحبشة مستعدة لعمل كل ما فى وسعها لاضعاف مكة اقتصاديا. والرواية التى مؤداها أن المكيين قد أرسلوا رجلين كمبعوثين للنجاشى رواية مقبولة، وربما دعمت وجهة النظر التى مؤداها أن الهجرة للحبشة كانت ذات أبعاد اقتصادية وسياسية. لكن طبيعة هذه البعثة ونتائجها تبقى مجالا للتخمين. ربما كانت ناجحة من ناحية منع النجاشى عن تقديم مساعدة فعالة للمسلمين؛ باخباره بضعف موقفهم فى مكة حتى لو فشلت هذه البعثة فى تحقيق هدفها الأساسى- وفقا للرواية التقليدية- فى اعادة المهاجرين الى بلادهم. وعلى أية حال، فان هذا السبب الرابع رغم أنه جذاب فى بعض جوانبه الا أنه لا يفسر لنا كيف أن بعض المسلمين ظلوا بافين هذه المدة الطويلة فى الحبشة. انه من الصعب أن نقاوم النتيجة التى ترتبط بالسبب الخامس ارتباطا وثيقا، ونعنى بها أنه كان هناك انقسام حاد فى الرأى بين الجماعة الاسلامية الناشئة. فبعد أن قدم لنا ابن اسحق قائمته التى نضم المهاجرين، أضاف ابن هشام ملحوظة مهمة مؤداها أن القائد لهذه المجموعة كان هو عثمان بن مظعون. وابن سعد «29» يذكر لنا أنه حتى أثناء الجاهلية كان ابن مظعون يتحاشى شرب الخمر وكيف أنه فى مرحلة لاحقة حاول أن يدخل فى الاسلام بعدا تقشفيا أو أمورا متعلقة بالزهد ascetic لم يوافق عليها محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد قدم عثمان بن مظعون فى البداية مع عدد من الأصحاب كلهم من الرجال المهمين وكان هو- بلا شك- على رأسهم. وعلى هذا، فانه يكاد يكون مؤكدا أن ينظر اليه كقائد جماعة بين المسلمين كانت- أى هذه الجماعة- منافسة لجماعة أخرى يتزعمها أبو بكر. وملاحظة عمر التى ذكرها ابن سعد مؤداها أنه حتى بعد وفاة النبى صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق رضى الله عنه، لم يفكر فى عثمان بن مظعون الا قليلا   (29) ج 3، 286- 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 لأنه مات فى فراشة*- تعد شاهدا على التنافس بين عثمان بن مظعون من ناحية وجماعة أبى بكر وعمر بن الخطاب من ناحية أخرى**. وهناك اشارات أخرى أيضا عن خلافات بين المسلمين. فخالد بن سعيد (من عبد شمس) كان واحدا من أوائل المسلمين يقال انه أول من هاجر للحبشة «30» لكنه لم يعد حتى غزوة خيبر، وبعد موت محمد صلّى الله عليه وسلم يبدو أنه أظهر بعض العداء لأبى بكر رضى الله عنه، ربما أشارت هذه الرواية لوجود حزب أو جماعة ضد أبى بكر. ومن الحالات الطريفة أيضا حالة الحجاج بن الحارث بن قيس (من سهم) الذى ربما اختلط اسمه باسم الحارث بن الحارث بن قيس. لقد اخذ كاسير فى غزوة بدر وكان فى الجانب المعادى للرسول فى هذه الغزوة «31» . لكن يبدو أنه هو أيضا كان من بين المسلمين الذين هاجروا للحبشة «32» . وقد شككت بعض المصادر الاسلامية فى هذه الرواية الاخيرة المتعلقة بالحجاج بن الحارث؛ لكن هذا التشكيك مفهوم ولا يعد سببا لرفض أنه كان من بين المهاجرين الى الحبشة. واذا كان احد المهاجرين يحمل مثل هذا؟؟؟ فلم لا يكون الاخرون مثله؟ وهناك عدد لم تورد المصادر تاريخ وصولهم للمدينة «33» . وأخيرا هناك نعيم بن عبد الله النحام (من عدى) يبدو أنه كان أحد زعماء قبيلته عدى، وكان هو وأبو بكر من بين أشهر أوائل المسلمين الذين لم يذهبوا للحبشة. لكن يبدو أن الفتور قد ساد علاقته بالمجموعة الرئيسية التى كانت هى مجموعة أبى بكر فى الأساس، وعلى الأقل فهو لم يذهب للمدينة حتى سنة 6 هـ. وربما كان الى حد ما حاضرا فى ذهن عروة عندما قال ان بعضهم قد تعرض للفتنة. وعلى كل حال، فان عروة ليس شاهدا محايدا لأن أباه الزبير بن العوام كان قد تبع عثمان بن مظعون، وربما لم يكن دقيقا فى ذكره للدوافع والتواريخ التقريبية.   * أى لم يقتل فى معركة- (المترجم) . ** راجع مقدمة المترجم. (30) ابن سعد، 4، 1، 67- 72. (31) ابن هشام، 4، 5، ابن حجر، الاصابة، 1، 1608. (32) ابن سعد، 4، 1، 144. (33) انظر الملحق (ح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 نخلص من هذا أن السبب الخامس (الأخير) نظرا لانطباقه على ظروف كل المهاجرين، فهو الأقرب الى أن يكون بعيدا عن كونه مجرد افتراض، وعلى أية حال، فنحن لسنا فى حاجة الى القول بأن الخلافات فى الرأى والتى أدت للهجرة للحبشة لم تكن قد وصلت الى درجة حادة، كما أن ما ذكرناه لا يعنى ان الأسباب الاخرى لم تكن قائمة بالمرة. وربما كان ما حدث كان شيئا قريبا مما ذكرناه الى حد ما. لقد كان المهاجرون الى الحبشة كما هو واضح رجالا ذوى عقائد دينية صحيحة. وفى بعض الحالات كانت هذه العقائد الدينية الصحيحة لدى البعض راسخة حتى قبل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم كما هو فى حالة عثمان بن مظعون وعبيد الله بن جحش (الذى تحول للمسيحية فى الحبشة) . فمثل هؤلاء قد يكونون غير ميالين لقبول سياسة أبى بكر الخليفة المتوقع للرسول صلّى الله عليه وسلم. ما هذه السياسة التى لم يكونوا راضين عنها؟ اننا لا نستطيع الا التخمين، وربما جاز لنا أن نصر على أن محمدا صلّى الله عليه وسلم ما نجح كنبى وقائد (النص: زعيم دينى وسياسى) الا لأن دعوته كانت ذات أبعاد سياسية واجتماعية معلنة (أى أعلنها الرسول صلّى الله عليه وسلم) . وأولئك الذين بقوا فى مكة كانوا ممن ينتمون الى عشائر كانت مستعدة لقبول قيادة محمد صلّى الله عليه وسلم (ربما كانت عدى استثناء من ذلك) ؛ بالنظر الى حلف الفضول القديم الذى اشتركت فيه هذه العشائر جميعا. ومهما كانت سياسة أبى بكر، فان محمدا صلّى الله عليه وسلم كان بلا شك سيوافق عليها. والقول بأن محمدا هو الذى اتخذ المبادأة* ربما كان محاولة لاخفاء الدوافع الأساسية بين الذين تخلوا عنه فى مكة، لكنه ليس من الضرورى أن نفسر البيانات المتاحة لنا ata بهذه الطريقة. انه لما يتفق مع شخصية محمد (صلّى الله عليه وسلم) أن يعى بسرعة امكان حدوث شقاق أو خلاف فيتخذ بسرعة خطوات ليسد الثغرات ويتحاشى النتائج السيئة، لذا بادر باقتراح الهجرة الى الحبشة لتعزيز خطة تتفق مع مصالح الاسلام الذى لازلنا غير واعين بطبيعته الدقيقة، فالاسلام فى هدفه الظاهرى لم يحقق   * أى هو الذى وجه أتباعه للهجرة الى الحبشة- (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الا قليلا من النجاح (حتى هذه اللحظة التى نتحدث عنها) ، فالسرعة النسبية لتسوية الأمور مع عثمان بن مظعون والاخرين الذين عادوا الى مكة قبل الهجرة للمدينة تشير على الأقل الى أنه لم تكن هناك قطيعة كاملة بينهم (عثمان بن مظعون وجماعته) ومحمد صلّى الله عليه وسلم. ومن المؤكد أنهم فى النهاية قد قبلوا زعامة محمد (صلّى الله عليه وسلم) والوضع الخاص لأبى بكر الصديق، وحاربوا كمسلمين شجعان فى غزوة بدر. 3- مناورات المعارضة مع أن المعلومات التى قدمها لنا ابن هشام والطبرى عما تبقى من الحقبة الملكية قليلة، فانها ترسم لنا صورة مقبولة عن المظاهر الخارجية للمعارضة التى واجهها محمد (صلّى الله عليه وسلم) ، وهى معلومات مستقاة من القران (الكريم) لكنها ليست صورة طبق الأصل لما ورد به. حقيقة لقد كانت هذه المعلومات التى قدمها ابن هشام والطبرى فيها بعض المبالغة فى اتجاهات بعينها، لكن من المحتمل أن تكون هذه المبالغة فى هذه المواضع أقل مما يفترض الكتاب الغربيون. (أ) اضطهاد المسلمين يقدم لنا ابن اسحق «34» وصفا لما كان يقوم به أبو جهل لاضطهاد المسلمين فيذكر أنه كان يحرض قريشا ضد من أسلم، وأنه كان ان سمع باسلام شخص ذى أهمية انتقده بشدة وأنبه وقال له: أتترك دين ابائك رغم أنهم أفضل منك ان تفكيرك غبى وحكمك غير صائب، أين شرفك. وان كان الذى أسلم تاجرا هدده بوقف رواج تجارته وضياع رأس ماله. وان كان الذى أسلم رجلا ضعيفا غير مؤثر ضربه وحرض الناس ضده. ومن هذا العرض نفهم أنه ليس من المؤكد أن اضطهاد أبى جهل للمسلمين كان أكثر قسوة من الهجوم اللفظى (السب والشتم) ان كان   (34) ابن هشام، 206 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 هذا المسلم شخصا مهما نافذا، أما ان كان أقل شأنا فان أبا جهل يمارس عليه ضغطا اقتصاديا، وأما ان كان المسلم رقيق الحال لا سند له عاقبه عقابا بدنيا بشعا. ولأن معظم عشائر قريش كانت منيعة الجانب بدرجة تجعلها قادرة على احداث ازعاج خطير أو ما هو أسوأ من ذلك- اذا تعرض أحد أفرادها أو حلفائها لمعاملة سيئة، فان أولئك الذين تعرضوا لعقاب بدنى قاس كانوا قلة وكانوا من العبيد، أو ممن ليس لهم ارتباطات عشائرية واضحة (مثل خباب بن الارت) . وكان من الممكن من الناحية الرسمية أن تخلع احدى العشائر أحد أفرادها أو حلفائها (أى تتبرأ منه) : لكن هذا الاجراء كان يقلل من شرف القبيلة. ويبدو أن شيئا كهذا حدث لأبى بكر لأننا رأيناه يقبل حماية ابن الدغنه «35» ونسمع أيضا عن طلحة وأنه هو وأبى بكر قد ارتبطا معا. وعلى أية حال، فان عشيرته تيم لم تكن قوية. وربما كان محمد صلّى الله عليه وسلم هو أيضا قد حرمته عشيرته من حمايتها وقت زيارته للطائف لأنه لاقى معاملة سيئة هناك؛ ولأنه طلب حماية أحد أفراد العشائر الاخرى قبل أن يدخل مكة مرة أخرى. ان أفعال أبى جهل، وأفعالا أخرى مشابهة، لا شك فى حدوثها، وأشارت اليها المراجع عند حديثها عن الفتنة التى تعرض لها المسلمون. وعلى أية حال، فان هذا ليس اضطهادا قاسيا. وتتضح هذه النقطة عند دراسة التفاصيل فى السيرة لابن هشام، وكتاب الطبرى وطبقات ابن سعد. فهذه المراجع لم تذكر سوى أسوأ الحالات أو ما هو مفترض أنه أسوأ الحالات، ولم تذكر أن ذلك هو الوضع العام أو المعدل العام. فكل الشواهد تجعلنا نفترض أن الاضطهاد لم يكن عنيفا. فما ذهب اليه الباحثون الغربيون من اتهام بأن الحديث عن اضطهاد المسلمين عرض بشكل مبالغ فيه- هذا الاتهام لا يكاد ينطبق على المصادر الأولى. وربما كانت الأسئلة الرئيسية للمبالغة هى تلك التى تتناول الحالات التى تبين تمسك الشخص بعقيدته واستعصائه على الردة. وتوضح المواد التى بين أيدينا مظاهر المعارضة المختلفة كما وردت فى الفقرة المنقولة انفا عن ابن اسحق. فقد هوجم محمد (صلّى الله عليه وسلم) بالأقوال   (35) ابن هشام، 245 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وتعرض لاهانات بسيطة، كقيام جيرانه بالقاء القمامة أو الأقذار عند باب بيته، ومن الممكن ان تكون حدة المضايقات قد زادت بعد موت ابى طالب «36» . كما أن تدنى رأسمال أبى بكر رضى الله عنه من 000 ر 40 درهم الى 5000 درهم فى الفترة من تحوله للاسلام الى الهجرة «37» ، ربما يرجع للضغط الاقتصادى الذى هدد به أو ب جهل وليس شراء العبيد (لعتقهم) كما ذكر ابن سعد مادام العبد لا يكلف الا حوالى 400 درهم «38» . وأكثر الأمثلة وضوحا فى مجال العقاب البدنى، تتضح من معاملة العبيد كبلال بن رباح وعامر بن فهيرة «39» وقريب جدا من هذا رفض العاص بن وائل دفع دين شرعى لخباب ابن الأرت «40» . وحتى النوع الرابع من الاضطهاد (يمكن أن نطلق عليه ممارسة الضغط بما فى ذلك العقاب البدنى) كان يمارسه أعضاء من العشيرة نفسها بل وداخل الأسرة الواحدة، كالأب والعم والأخ الأكبر، ومعاملة أبى جهل لكل من: الوليد بن الوليد، وسلامة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة وغيرهم من أفراد العشيرة نفسها، تعد من الأمثلة المعروفة «41» . وان كنا نجد أمثلة أخرى فى صفحات كتاب ابن سعد. والقسوة التى تعرض لها الحليف عمار بن ياسر وأسرته على يد بنى مخزوم «42» ربما كانت من هذا النوع. لقد كان اضطهاد المسلمين يكاد يكون من النوع المعتدل. فنظام الأمن (الحماية) كان فاعلا ومطبقا فى مكة متمثلا فى حماية كل عشيرة لأعضائها، مما يمنع تعرض أى مسلم لايذاء العشائر الاخرى بشكل خطير حتى لو كانت عشيرته هو غير راغبة فى الاسلام. فالفشل فى   (36) ابن هشام، 183، 185، الطبرى، 1198 وما بعدها. (37) ابن سعد، ج 1، 122. (38) ابن سعد، ج 1، 27، 21. (39) ابن هشام، 205 وما بعدها. (40) ابن سعد، ج 1، 116. (41) ابن هشام، 206 وما بعدها. (42) ابن هشام، 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الدفاع عن ابن العشيرة ضد عدوان عشائر أخرى ينقص من شرف هذه العشيرة وقدرها. لذلك كان الاضطهاد قصرا على: (أ) حالات لا تتأثر فيها العلاقات العشائرية، كأن يكون المضطهد (بكسر الهاء) من العشيرة نفسها أو ألا يكون الضحية مشمولا بحماية أية عشيرة من العشائر. (ب) أعمال لا تدخل ضمن ما تعورف عليه من أنه يمس الشرف القبلى أو العشائرى، كالضغوط الاقتصادية وربما أيضا الايذاء بالقول والاهانات الصغيرة التى تؤثر فى الشخص فقط لا فى عشيرته كلها. هذا الاضطهاد المحدود ربما كان كافيا للنقر على أصابع الاسلام الوليد؛ لكنه لم يكن كافيا لتراجع أى مسلم جاد عن دينه. بل ربما قوى الاسلام بأن جعل الفقراء يتحولون اليه. (ب) الضغط على بنى هاشم لقد كان نظام الأمن الذى شرحناه انفا هو ما جعل محمدا صلّى الله عليه وسلم قادرا على الاستمرار فى دعوته للاسلام حتى سنة 622 م رغم معارضة زعماء مكة. لقد كان زعيم هاشم فى هذا الوقت هو عم النبى، أبو طالب الذى كان مستعدا- رغم عدم اعتناقه للاسلام- أن يقدم الحماية الكاملة لمحمد صلّى الله عليه وسلم بوصفه عضوا فى العشيرة. وقد لجأ زعماء قريش وعلى رأسهم أبو جهل أكثر من مرة لأبى طالب طالبين منه اما أن يوقف محمدا صلّى الله عليه وسلم عن اعلان دينه الجديد أو أن يسحب حمايته له. وعلى أية حال، فان أبا طالب رفض كلا العرضين ودبر أموره داخل عشيرته للموافقة على موقفه هذا «43» (رغم أن عشيرة المطلب كانت من الناحية الرسمية عشيرة مستقلة، الا أنها انضمت لهاشم لأغراض مختلفة وصارتا معا كعشيرة واحدة) .   (43) ابن هشام، 168- 170، الطبرى، 1178- 1180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فرفع شأن العشيرة وزيادة شرفها قد يكون فى حد ذاته سببا كافيا لأبى طالب لفعل ما فعله، لكن ربما كانت هناك أمور أكثر من ذلك. لقد سبق أن لاحظنا مما ذكرناه انفا أنه يبدو أن عشيرة هشام كانت أوضاعها قد تدهورت خلال الحقب السابقة، فأن تفقد واحدا من خيرة شبابها (يقصد محمدا صلّى الله عليه وسلم) فى هذه المرحلة يعد خسارة كبيرة لها تفقدها جانبا من قوتها. وأكثر من هذا، فبالاضافة لقضية محمد وشرف العشيرة ربما كانت هناك مسألة السياسة الاقتصادية، فدعوة محمد الى الاسلام رغم أنها دعوة- فى الأساس- دينية الا أنها مست أمورا اقتصادية مسا وثيقا، ومن هذه الناحية ربما كان يمكن اعتبارها استمرارا لاتجاه حلف الفضول فى معارضته للاحتكاريين المجردين من المبادىء الخلقية. واذا كان الأمر كذلك، فانه يمكن اعتبار محمد صلّى الله عليه وسلم استمرارا للسياسة التقليدية لعشيرة هاشم؛ وبالتالى فليس هناك ما يدعو للدهشة اذا تلقى هو أيضا قدرا معينا من الدعم العام لعشيرته. والجدير بالملاحظة أن أبا طالب قد بسط حمايته أيضا على مسلم اخر هو أبو سلمة بن عبد الأسد ابن أخته الذى ينتمى لعشيرة مخزوم «44» ، وقد أيده أبو لهب فى ذلك. وحالة أبى لهب حالة شائقة دراستها، طالما أنه استسلم للضغوط الواقعة على عشيرة هشام. لقد كان أبو لهب هو الأخ الأصغر لأبى طالب لكنه كان يدبر لزواجه من أخت أبى سفيان أحد زعماء عبد شمس، وبعد السنة الثانية للهجرة أصبح هو الزعيم الأساسى لمكة كلها. وعندما اشتدت المعارضة لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) أخذ جانب عشيرة زوجته ضد ابن أخيه (يقصد محمدا صلّى الله عليه وسلم) ، ومما لا شك فيه أنه فى حوالى هذا الوقت تم الانفصال بين ابنتى محمد صلّى الله عليه وسلم وابنيه. وقد يجوز لنا أن نفترض أن اتجاه أبى لهب هذا كان متأثرا بعلاقاته التجارية والمصلحية مع عبد شمس. أما وقد فشل أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم فى عزله عن عشيرته، فقد دبروا أمر تحالف كل عشائر قريش ضد بنى هاشم (ومعها بنو المطلب) . من ناحية تعد هذه الخطوة مرحلة من مراحل المعركة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم،   (44) ابن هشام، 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 لكنها أيضا تعد من ناحية أخرى مرحلة لتعاظم شأن مخزوم وما يرتبط بها من عشائر على حساب حلف الفضول، فما حدث يعنى تدهور هذا ال؟؟؟؟ وقصيدة أبى طالب «45» بالاضافة لملاحظات ابن اسحق تعدان دليلا مهما   (45) ابن هشام 172- 178. نص ما أورده ابن هشام عن هذا الحلف: «.. سبب تسميته: قال ابن هشام: وأما حلف الفضول فحدثنى زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن اسحاق قال: تداعت قبائل من قريش الى حلف، فاجتمعوا له فى دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، واسد بن عبد العزى. وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألايجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس ألا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول. حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه: قال ابن اسحاق: فحدثنى محمد بن زيد بن المهاجر ابن قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به فى الاسلام لأجبت» . الحسين يهدد الوليد بالدعوة الى احياء الحلف: قال ابن اسحق: وحدثنى يزيد ابن عبد الله بن أسامة بن الهادى الليثى أن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمى حدثه: أنه كان بين الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبى سفيان- والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبى سفيان- منازعة فى مال كان بينهما بذى المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين فى حقه لسلطانه- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفنى من حقى، أو لاخذن سيفى، ثم لأقومن فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول قال: فقال عبد الله ابن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين- رضى الله عنه- ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لاخذن سيفى، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا، قال: فبلغت المسرور بن مخزمة بن نوفل الزهيرى، فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن ابن عثمان بن عبيد الله التيمى، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضى. خروج بنى عبد شمس وبنى نوفل من الحلف: قال ابن اسحاق: وحدثنى يزيد ابن عبد الله بن أسامة بن الهادى الليثى عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمى قال: قدم محمد بن جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف- وكان محمد بن جبير أعلم قريش- فدخل على عبد الملك بن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك فلما دخل عليه قال له: يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم، يعنى بنى عبد شمس بن عبد مناف وبنى نوفل بن عبد مناف فى حلف الفضول؟ قال عبد الملك: لتخبرنى يا أبا سعيد بالحق من ذلك، فقال: ولا والله، لقد خرجنا نحن وأنتم عنه، قال: صدقت. ص ص 86- 98، تحقيق محمد بيومى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يؤكد ذلك. وحتى اذا كان بعض هذه القصيدة قد جرى تلفيقه بعد ذلك، فان كثيرا منها لا بد أن يكون شخص ما ذو خبرة بأمور مكة فى هذه الفترة هو الذى نظمها، وربما كانت من نظم أبى طالب بالفعل. وبعض الأسماء المذكورة لم تدرج- عادة- فى قوائم أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم. وما هو أكثر أهمية أن الذين تعرضوا للوم لأنهم أصبحوا أعداء لبنى هاشم كانوا جميعا من عشائر حلف الفضول، وهم- اذا قبلنا رواية ابن اسحاق: من عبد شمس، أسيد وابنه، وأبو سفيان وأبو الوليد وعتبة. ومن تيم، عثمان بن عبيد الله وقنفذ بن عمير بن جدعان. ومن زهرة، أبى أو الأخنس ابن شريق والأسود بن عبد يغوث. ومن الحارث بن فهر، سبيع. ومن أسد، نوفل بن خويلد. ومن نوفل، أبو عمرو ومطعم. وأكثر من هذا فان هؤلاء الرجال قد تعرضوا للوم لتحالفهم مع أعدائهم القدامى: الغياطل أو بنو سهم، وبنو خلف أو بنو جمح ومخزوم. ومع تكوين هذا الحلف الكبير، ظهرت حركة مقاطعة هاشم والمطلب التى قضت ألا تتعامل هذه العشائر المتحالفة مع هاشم والمطلب ولا يتزوجوا منهم ولا يزوجوهم. وظهر أن هذه المقاطعة قد استمرت لأكثر من عامين، مع أنها ربما لم تكن صارمة بما فيه الكفاية طالما أن كثيرين من العشائر المقاطعة (بكسر الطاء) كانوا مصاهرين بالفعل لبنى هاشم. واذا كانت هاشم قادرة على مواصلة ارسال قوافلها للشام فمن المحتمل أنها لم تتأثر كثيرا جدا بهذه المقاطعة، وعلى أية حال، لا تذكر لنا تذمرا أو شكوى بهذا الخصوص (أى بخصوص قوافل هاشم الى الشام) والمسار العام للروايات يشير الى أن بسط الحماية على محمد صلّى الله عليه وسلم لم يكن هو السبب الوحيد للنزاع (المقاطعة) . ووفقا لرواية ابن اسحق «46» عن نهاية المقاطعة، فان البادىء بهذا العمل (انهاء المقاطعة) هو هشام بن عمرو وأيده فى ذلك زهير بن أبى أمية (من مخزوم) والمطعم بن عدى (من نوفل) وأبو البخترى وزمعة ابن الأسود (وكلاهما من أسد) . وعلى أية حال، فعند اجتماع قريش كان   (46) ابن هشام، 247- 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 زهير هو الذى قام أولا. وأم زهير هى عاتكة بنت عبد المطلب، وكان أبو طالب هو خاله، لذا فقد كان لديه أسباب لانجذابه لبنى هاشم. والجدير بالملاحظة أنه فى قصيدة أبى طالب التى أشرنا اليها انفا «47» مديح قوى لزهير لمساعدته لبنى هاشم، ويمكن ربط هذا المديح بذلك الموقف. ومرة أخرى من المهم أن نلاحظ العشائر التى ينتمى اليها هؤلاء الخمسة، فهذا يوضح لنا- شيئا ما- طبيعة المعارضة داخل هذا التحالف الكبير (تحالف المقاطعة) . من المفترض أن زهيرا كان يتحرك أساسا انطلاقا من رابطة الدم (النسب) لكنه من حيث كونه من مخزوم فقد كان هو الشخص المناسب لتزعم الهجوم ضد السياسة التى بدأتها فى الأساس عشيرة مخزوم. وعلى أية حال، فربما كان الاخرون يتحركون لعوامل أخرى. لقد كانوا ينتمون لعشائر: نوفل وأسد وعامر التى كانت قد كونت الحلف الكبير (حلف المقاطعة) ؛ لكنهم لم يكونوا أعضاء فى الأحلاف القديمة التى ربما كان أعضاؤها يشكلون تكتلا داخليا فى باطن الحلف الكبير. وربما كان غياب الأعضاء الاخرين لحلف الفضول غير ذى معنى الا فيما يتعلق بعبد شمس، لكن فى الفترة الأخيرة يفترض أن عبد شمس قد أصبحت ذات ارتباطات مصلحية وتجارية قوية مع مخزوم ونتيجة لهذه المصالح المشتركة بدأت الأحلاف القديمة الان يعاد تشكيلها من جديد. واذا كان لنا أن نخمن دوافع قادة الغاء المقاطعة، لقلنا انه بمرور الوقت تحققوا من أن الحلف الكبير والمقاطعة قد دعما من موقف العشائر القوية التى هدفت الى احكام السيطرة الاحتكارية على تجارة مكة، وأن ذلك أدى بالتالى الى اضعاف العشائر الاخرى. وبموت أبى طالب بعد نهاية المقاطعة، مرت علاقة محمد صلّى الله عليه وسلم بعشيرته بمرحلة أخرى، وسنتناول ذلك فى الفصل التالى.   (47) ابن هشام، 172- 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 (ج) عروض التسوية على محمد (صلّى الله عليه وسلم) توجد اشارة طريفة أوردها كل من ابن اسحق والطبرى بعد بداية المقاطعة وربما قبل بدايتها- لمحاولة بعض زعماء مكة عرض تسوية أو صفقة مع محمد صلّى الله عليه وسلم. ويورد الطبرى روايتين، ويورد ابن اسحق «48» ثالثة، وتشير رواية الطبرى الثانية الى أنها منقولة من ابن اسحق ومع هذا فهى غير واردة فى كتاب ابن هشام. ويتضح من هذه الروايات أن أربعة رجال قابلوا محمدا صلّى الله عليه وسلم وعرضوا عليه الثروة والجاه اذا كف عن سب أوثانهم (الهتهم) وأنهم سيعبدون الله، وأن عليه أن يعترف بالهتهم.idols مثل هذه الصفقة (المساومة) كما وردت انفا كانت ستكون هى القاضية على دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم، لذلك رفضها. والتعرف على هؤلاء الأربعة أمر مثير. لقد كانوا هم: الوليد بن المغيرة (من مخزوم) ، والعاص ابن وائل (من سهم) ، والأسود بن المطلب (من أسد) ، وأمية بن خلف (من جمح) . وكان ثلاثة من هؤلاء من عشائر تنتمى للأحلاف التى كانت منافسة قديما لبنى هاشم وحلف الفضول، وهذا يؤكد صحة الرواية. فذكر الوليد يشير الى أن هذا الحدث (مساومة النبى) حدث قبل أن يدعى أبو جهل زعامة مخزوم، وبالتالى قبل بدء المقاطعة. وربما كان الهدف من هذا العرض هو التحقق من أنه لو تم القبول بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لكان معنى هذا قبول زعامته كأمر لا فكاك منه. وعلى أية حال، فمن الممكن أيضا أن هذا الحدث (العرض أو المساومة) بعد بدء المقاطعة- هو ما تذكره المصادر وأن هؤلاء الأربعة لم يكونوا موافقين تماما على المقاطعة. وكان الوليد باعتباره رجلا كبير السن لا يستطيع أن يعتبر محمدا منافسا خطيرا له على العكس من نظرة أبى جهل اليه (أى الى الرسول صلّى الله عليه وسلم) ، وربما كان الوليد أيضا أكثر اهتماما بأمر عبادة الأوثان. وعلى هذا فهذه العروض التى عرضت على الرسول صلّى الله عليه وسلم- اذا كانت الروايات بهذا الشأن صحيحة- تتضمن أن هؤلاء الرجال قد تحققوا على نحو ما من المواهب القنادية لمحمد صلّى الله عليه وسلم (النص: من مواهبه كرجل دولة. (Statesman   (48) الطبرى، 1199، ابن هشام، 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 4- شهادة القران (الكريم) يؤيد القران الكريم- كما لاحظ كيتانى «49» - الانطباع ابدى خرجنا به من دراستنا النقدية لكتابات المؤرخين الأوائل- وهو أن اضطهاد المسلمين كان من النوع المعتدل ولم يكن يتضمن أية أفعال تمنعها الأعراف منعا حادا. فالاشارات المتتالية فى القران الكريم لأعداء محمد صلّى الله عليه وسلم مركز على النقد اللفظى (الكلامى) لرسالته وله شخصيا. لقد كان هناك كما سنرى ذكر لمؤامرات ومكاند ضد محمد صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، لكننا لا نكاد نجد شيئا يستحق حقيقة أن نسميه اضطهادا. وربما كان الهجوم الكلامى قد بدأ ضد الرسول قبل حكاية ايات الغرانيق بمدة طويلة، فمن المؤكد أن هذا الهجوم قد ارتبط بمرحلة من نزول القران الكريم أسبق من المرحلة التى ذكرت فيها الأوثان وجرى فيها التأكيد على أن الله لم يتخذ ولدا. (أ) النقد الكلامى لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلم تشير الايات المكية مرارا الى انكار أهل مكة للبعث (يوم الحساب) ، فاهل مكة- لأنهم كانوا يعتبرون الجسد جزا أساسيا من الانسان- لم يكونوا قادرين على الاقتناع بأن الجسد البشرى يمكن اعادته للحياة بعد أن أصبح رميما. لقد بدا ذلك لهم ردا حاسما على تأكيدات محمد صلّى الله عليه وسلم كما تشير ايات كثيرة «50» ، منها الايات التاليات: (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) ..) السورة 37 (الصافات) .   Ann ,i ,p. 244. (49) (50) وايات أخرى كثيرة: السورة (79) / 10 وما بعدها، (75) 3 وما بعدها (36) 46- 48. (44) 34 وما بعدها (50) ، وما بعدها ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وبينما ظل سؤالهم هذا يتردد بشكل أساسى لأسباب جدلية الا أنه فى الحقيقه متمش مع معتقدات أهل مكة فهم كانوا يقولون، كما أشار القران (الكريم) : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) ..) السورة 45 (الجاثية) . ويوبخهم القران الكريم مرة تلو مرة؛ لانكارهم الحياة الاخرى وقصر تفكيرهم على متاع الحياة. والايات القرانية من السورة 37 (الصافات) الانف ذكرها توضح أيضا نقطة أبعد ترتبط أحيانا بالاية الاخرى رقم 24 من سورة الجاثية التى ذكرناها لتونا. فالمكيون يصفون اعادة الجسد الى الحياة بعد أن يكون قد أصبح رميما بأنها مسألة سحر، وكلمة السحر يبدو أنها اشارة الى فعل (مضلل) أو (خادع) وليس فعلا حقيقيا صحيحا «52» . وهذه الفكرة ربما كانت موجودة قبل اشارة القران الكريم الى السحر، الا أنه ربما أيضا كانت بعض الاشارات الى السحر- خاصة الاشارة الى محمد صلّى الله عليه وسلم كساحر- يقصد بها الوحى. ولم ترتبط ايات القران الكريم بعملية البعث بشكلها المجرد (أى مطلق بعث) ، وانما بالبعث المرتبط بالحساب الذى ينتج عنه خلود فى الجنة أو عقاب بدخول جهنم. فمسألة احياء الأموات (بعث أجسادهم) كانت مثارة بين أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم لأنها بدت لهم أمرا غريبا متعارضا مع عقائدهم فى الاخرويات. لقد وضح القران رفضهم لهذه العقيدة رفضا تاما، رغم أن اشارات القران لذلك موجزة «53» ، هذا الايجاز قد يعنى أن   (52) السورة 52، اية 15، السورة 43، اية 29. (53) السورة 74، الاية 47، السورة 83، الاية 10 وما بعدها، السورة 52 الايات 11- 14، السورة 37، الاية 20 وما بعدها، السورة 37، الاية 20 وما بعدها، السورة 37، الاية 50 وما بعدها، السورة 25، الاية 12.. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 مسألة احياء الجسد الرميم قد احتلت مكانا بارزا فى المناقشات بين عامة أهل مكة، لكن رفض فكرة الحساب فى الآخرة ربما كانت هى الأخطر لنتائجها العملية المهمة مادامت تعنى أنها وازع أو دافع تم ادخاله ليتحكم فى سلوك الأفراد. فعدم الاعتقاد فى اليوم الاخر ربما كان كامنا أيضا وراء السؤال «54» الذى وجهوه لمحمد صلّى الله عليه وسلم: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) ..) السورة 79 (النازعات) . وقد أجاب القران الكريم عن هذا السؤال أو على الأقل كانت استجابته فيها تحاش له، لكن قد يكون الهدف من توجيه السؤال هو ارباك محمد صلّى الله عليه وسلم. وكثير من ايات القران التى تتحدث عن «ايات» الله يبدو أنها استجابة أو رد فعل للصعوبة التى تكتنف احياء الجسد (بعث الأبدان) . لقد قدم لنا القران عملية خلق الله للانسان خلال سلسلة من الأفكار وخلال تطور بطىء هو تطور الجنين فى الرحم ونفخ الله سبحانه الروح فيه، ودلل القران الكريم على أن ذلك اية (علامة) من ايات الله سبحانه؛ لأنه هو واحده القادر على ذلك، وبالتالى فهو واحده سبحانه قادر على اعادة الحياة اليه بعد أن يصبح رميما. وبينما بعض ايات القران الكريم تهتم بشكل أساسى باظهار وجود الله سبحانه وبيان قدرته بشكل عام، فان هناك ايات أخرى توضح أن أهمية كثير من الايات (العلامات) أنها برهان على قدرة الله سبحانه فى احياء الأجساد بعد موتها، ومن هذه الايات «55» نذكر:   (54) وأيضا السورة 79 (42- 44) ، 51 (12) ، 36 (48) ، 67 (25) ، 21 (39- 41) ، 17 (53-) . (55) وأيضا السورة 75 (36- 40) ، 79 (27- 33) ، 56 (57- 73) ، 50 (6- 11) ، 19 (68) ، 36 (7- 83) .. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) ..) السورة رقم 75 (القيامة) . ليست هناك حاجة للقول ان المعارضين المتسمين بالعناد لمحمد صلّى الله عليه وسلم والدين الذى يدعو اليه، لم يكونوا مقتنعين بهذه الايات، بل لقد زادتهم كفرا على كفرهم «56» ، لقد كانوا أحيانا يرفضون هذه الايات على أساس أنها من أساطير الأولين «57» ، وهى عبارة وردت عدة مرات فى القران «58» وارتبطت بانتقاد هذه العلامات (الايات) وما وراءها من معان. لقد كانت كل الانتقادات التى وجهوها للمحتوى القرانى ذات صلة بالاخرويات (الأفكار عن العالم الاخر) وهذا التركيز على الاخرويات فى المناقشات بين محمد (صلّى الله عليه وسلم) والمناوئين له يظهر أنها كانت تميل الى تأكيد وجهة النظر الواردة فى الفصل الثالث، وهى أن بعض التعاليم عن اليوم الاخر كانت جزا من الهدف الأساسى لرسالة القران الكريم. وقد وصف القران الكريم موقفهم كله وصفا وصل ذروته فى كلمة (تكذيب) وهى كلمة مقابلة للايمان. فالمكذب هو المنكر للبعث واليوم الاخر والحياة بعد الموت وايات الله، والتحذيرات التى وردت فى رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم. وأحيانا يورد القران كلمتى (تكذيب) و (مكذبون) دون تحديد للمجال الذى جرى بشأنه التكذيب، وكلمة (المكاذبين) تأتى مرادفا (لأعداء محمد صلّى الله عليه وسلم) أو مناوئيه. والمحور الرئيسى الاخر للمناقشات الدائرة فيما يتعلق بمحتوى الوحى هو مسألة الأوثان، وتوحيد الله سبحانه. وفى هذا المجال نجد القران الكريم هو الذى يتخذ المبادرة فى الهجوم على المنكرين، بينما نجد مشركى مكة فى موقف دفاع. لقد تعرضنا لهذه النقطة فى القسم الأول   (56) السورة 90/ 19، 78/ 28-.. الخ. (57) السورة 45/ 24. (58) السورة 83/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 من هذا الفصل الى حد ما فلا حاجة لتناولها مرة أخرى هنا. الا أنه قد يجوز لنا أن نذكر- على أية حال- دعوى مناوئى محمد أنهم سائرون على خطى ابائهم. فالمكيون (وغيرهم) دأبوا على القول أنهم هكذا وجدوا اباءهم وأن الحكمة تقتضى اتباع دين هؤلاء الاباء «59» . ولم يكن اتهامهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم بالانحراف عن دين الاباء والأجداد واضحا محددا، لكنه ربما يكون مفهوما ضمنا. وكان ردهم هذا أقرب الى أن يكون- من الناحية الظاهرية- موقفا دفاعيا، فهم لم يكونوا مستعدين لاتباع محمد صلّى الله عليه وسلم حتى ولو أتاهم بأفضل الهدى، وانما هم يتبعون ما وجدوا عليه اباءهم، وعبروا عن ذلك فى مصطلحات عامة توضح اتجاههم المحافظ (غير الراغب فى التغيير) . وجانب من قصص الأنبياء التى تظهر كثيرا فى ايات القران الكريم فى المرحلة المكية تعد بمثابة عاصفة تعصف بهذا الزعم (رغم اتباعهم دين ابائهم) . ولا بد أن المسلمين كانوا قد أحسوا أنهم قد تخلوا عن دين هؤلاء الاباء (المشركين) خاصة عند مواجهتهم لأسئلة صعبة عن أوضاع ابائهم وأجدادهم فى الوقت الحاضر وفى المستقبل. ولا شك أن قصص الأنبياء ساعدتهم فى التحقق من ذلك، وهو أنهم كأتباع للنبى فهم يعتبرون باتباعهم له من أمته، وأنهم ينتمون اليه انتماء روحيا. وعلى هذا فقصص الأنبياء هذه لم تكن فقط تشجع المسلمين، وانما أيضا تفتح لهم مجالا للفخر على نحو ما كان الشاعر يشيد بمفاخر قبيلته. وهو لون من ألوان الشعر كان سائدا قبل الاسلام، وبالتالى فقد شعر المسلمون أنهم ينتمون الى جماعة لها جذور عميقة فى الماضى «60» . والجدير بالملاحظة أنه لم يكن هناك نقد صريح فى القران الكريم متعلق بالكرم (المقصود اتهامهم بأنهم غير كرماء) ، وهذا من الممكن أن   (59) السورة 43/ 21- 23، السورة 21/ 54. (60) G.Von Grunebaum, Von Muhammads Wirkung and Origina- Litat.in Wienner Zeitschrift Fur die kund des Morgenlandes.X Liv, 1937, pp.20- 50 esp.44 f.:Rudi Paret, Das Geschichtshild Moham- meds, in Die Welt als Geschichte, 1951, pp.214- 224, esp.217 f. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يرجع الى حقيقه انه رغم ممارستهم للوتنيه فانهم لم يكونوا خالين تماما من الفضائل التى دعا اليها القران، لذا لم يكونوا ميالين للدفاع العلنى عن ممارساتهم. فأن تكون أنانيا ذلك شىء، وأن تدافع عن الانانية كمبدأ ذلك شىء اخر. ولسنا فى حاجة الى أن نفترض أن الوتنيين كانوا ذوى ضمائر سيئة فى هذا الموضوع، رغم أن قلة منهم من ذوى الضمائر، ربما شعروا بوخز الضمير. لقد كانوا فى حاجة فقط لأن يكونوا على وعى بحقيقة أن سلوكهم كان مناقضا لروح المفاهيم التقليدية للشرف عند العرب، رغم أنهم من الناحية الرسمية لم يكسروا أية أعراف مقبوله. واذا كان هذا صحيحا، فانه يجعلنا نميل لاظهار القران الكريم وكانه لم يكن نظاما أخلاقيا جديدا تماما، وانما هو امتداد للأفكار الأخلاقية التقليدية العربية بعد اخراجها لظروف وأحوال جديدة خارج التجربة البدوية. (نقل الأخلاق العربية ذات الطبيعة البدوية ليوائمها مع الحياة المدنية) . (ب) النقد الكلامى لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم الى جانب النقد الموجه لفحوى رسالة الاسلام، كان هناك نقد وجهه أعداء للنبى الرسول- نقد لقول محمد صلّى الله عليه وسلم انه نبى يتلقى الوحى من الله، كما أنهم نقدوا عملية الوحى فى حد ذاتها. فالاعتقاد بأن الكلمات التى تلقاها محمد وحى من الله سبحانه كانت مسألة حاضرة فى عقل محمد وقلبه منذ البداية، مهما كانت الطبيعة الدقيقة للتجربة الأولى المتعلقة بالوحى، وكان الاعتقاد فى الوحى كامنا فى الدعوة الأولى للاسلام منذ البداية. وتسجل بعض الايات القرانية الأولى محاولات المعارضة لاقلاق محمد صلّى الله عليه وسلم، بافتراض تفسيرات أخرى للتجربة التى خاضها (الوحى) غير أن ما يأتيه من كلام ينزله الله سبحانه عليه. لقد كان الزعم الذى أشاعه مناوئو محمد صلّى الله عليه وسلم تفسيرا لظاهرة الوحى هى أن محمدا مجنون، أو بتعبير اخر تملكه جن «61» لكنهم افترضوا   (61) السورة 81/ 22، 68/ 2.. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أيضا أنه كاهن «62» ينمق الكلام، كما افترضوا أنه ساحر «63» أو ساحر شاعر6» . ومن الصعب أن نعدل تفكيرنا ليتمشى مع عقليه وتنيى مكه عندما نطقوا بهذه الكلمات، لكن من خلال القران الكريم ومن مصادر أخرى «65» يمكن توضيح معانى العناصر الرئيسيه. فالدين زعموا هذه المزاعم لم ينكروا أن تجربة محمد صلّى الله عليه وسلم مع الوحى لها بمعنى أو اخر سبب فوقى (علوى أو فوق طبيعى (Supernatural Cause لكنهم لم يرجعوا هذا السبب لله سبحانه وتعالى، وانما أرجعوه أما لموجود شيطانى أو قوة عليا أدنى درجة من الله سبحانه المهيمن على الكون. وحتى تأكيدهم على أن محمدا شاعر يشير أيضا الى قوى علوية، فقد كانت الفكرة لدى معاصريه أن للشاعر روحا تتملكه أو جنا يتلبسه، ونحن نجد بالفعل عبارة (شاعر مجنون) فى القران الكريم «66» . هذه التأكيدات عن أصل الوحى (كما يراه أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم) كان لها تتابعاتها وهى ألا ينظروا للتحذيرات التى جاءهم بها الوحى نظرة جدية، فليس من الضرورى- فيما يرى أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم- أن تكون تحذيرات حقيقية. فاذا كانت مصادر الوحى كما يراه المشركون فى ما ذكرناه انفا، فهذه المصادر اما أن تكون شريرة حاقدة، أو أن تكون قاصرة المعلومات. هذه الادعاات (الاكاذيب) قد يكون الهدف منها هو تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلم فحسب وتشويه صورته، وليس بقصد تحويل من آمنوا به الى مصادقين لهم (أى لأعداء محمد صلّى الله عليه وسلم) ، وعلى أية حال فقد كان مناوئو محمد صلّى الله عليه وسلم يعتقدون بشكل عام أن تصوراتهم صحيحة. وقد فند القران الكريم ادعااتهم وكذبها. وهناك عدة ايات- على أية حال- يمكن أن تكون دحضا لايات الغرانيق (الايات الشيطانية) «67» وقد ناقشناها فى سياق سابق، وتكفى الاشارة اليها هنا.   (62) السورة 69/ 42، 52/ 29.. (63) السورة 38/ 3. (64) السورة 69/ 41، 52/ 30.. الخ. (65) Cf.A.Guillaume, Prophecy Divination, Lecture 6; D.B.Macdonald, The Religious attitude Life in Islam, Chicago, 1909, esp.24- 36. (66) السورة 37/ 35. (67) السورة 81/ 15- 27، 53/ 1- 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 والمحاولة الثانية التى قام بها معارضو محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالوحى هو تأكيدهم على أنه انتاج بشرى، أى اما أن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد وضعه بنفسه أو ساعده على وضعه بشر اخرون «68» . واذا كانت هذه الايات راجعة الى الحقبة المدنية، فيمكن للمرء أن يتخيل ببساطة أن مثل هذه المهمة (مهمة الاخرين الذين زعم المشركون مساعدتهم محمدا صلّى الله عليه وسلم فى وضع القران) قد قام بها اليهود، أو أن المقصود هم يهود المدينة، لكن هذه التهمة- تقليديا- قد ظهرت أثناء الحقبة المكية «69» ، وظهرت أسماء كانت هناك افتراضات من المشركين بأنهم ساعدوا محمدا فى وضع القران الكريم «70» . وسيعرف المؤرخ ثقة محمد التامة وايمانه الكامل بأن الوحى يأتيه من مصدر خارج ذاته، وقد يوافق المؤرخ أيضا أن محمدا قبل أن يتلقى الوحى، كان قد سمع بعض القصص من أشخاص مزعومين، وقد أشار القران الكريم الى هذه التهمة. فهذه المزاعم التى مؤداها أن محمدا قد خرج برسالته للناس بعد أن تلقى دعما بشريا- مثل هذا الزعم بطبيعة الحال يختلف عن تهمة أخرى وردت فى القران الكريم عدة مرات وهو أن هذا الوحى (القران) ما هو الا كلام بشر، وقد وردت هذه التهمة فى سياق الحديث عن السحر «71» ، فالكلام المسجوع شبيه فى رأى أعداء محمد بكلام السحرة والمشعوذين الذين يضمنون أسجاعهم معانى غامضة، لكن هذا القول- بلا شك- يفترض أيضا أن محمدا يتلقى معلوماته من الجن. أما النقد الثالث، فمساره أن محمدا لم تكن شخصيته من النوع الذى يأتيه الوحى. فلم يكن- فى رأيهم- مهما بما فيه الكفاية «72» بدليل أنه عندما أخبر بأنه نبى تعرض- ببساطة- للسخرية «73» . وقصص الأنبياء التى أوردها القران الكريم تعكس ظروف محمد صلّى الله عليه وسلم،   (68) السورة 25/ 5 وما بعدها، 32/ 2 وما بعدها، 16/ 103- 105. Bell ,translation of Quran. (69) Cf.Sale and Whervy on 16. 105. (70) (71) السورة 74/ 24، 21/ 3، 38/ 3.. الخ. (72) السورة 43/ 30. .DE 43 /25 (73) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فنحن نجد أن ثمودا تقول لصالح انه كان واحدا منهم وانهم كانوا يثقون به (قبل هذا الذى أتى به) «74» ، وخاطبت مدين شعيبا قائلة انها كانت تظنه معتدلا صحيح العقل «75» ، لكنهم عادوا فأخبروه أنه ضعيف فيهم وهددوه بالرجم «76» . والتركيز على عدم أهمية محمد لا بد أن يصرفه المرء نحو الحقبة المكية، أما فى المدينة فقد ارتفع شأنه صلّى الله عليه وسلم. والاشارة الى أتباع الانبياء الاخرين كعبيد أو فقراء «77» ، ربما تعنى أيضا سخرية من محمد صلّى الله عليه وسلم لكن هذه النقطة لا يمكن مهاجمتها. ويمكن أيضا أن نتصور نوعا اخر من المناوئين توقعوا ألا ينزل الوحى الا على شخص ذى مواصفات فوق طبيعية، بينما هم يرون محمدا بشرا عاديا، فاستبعدوا أن يكون هو رسول الله، وبين القران الكريم أفكار هؤلاء وأقوالهم: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ   (74) 11/ 65. (75) 11/ 89. (76) 11/ 93. (77) 26/ 111، 23/ 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) ..) سورة الاسراء «78» . ويوجد بعض الاختلاف فى الطبيعة الدقيقة لما يطلبون أن يكون عليه النبى أو يتوقعونه، لكن الافتراض الكامن فى ذلك دائما واحد، أعنى أن الله سبحانه لا يمكن أن يتجلى (يظهر) الا فى وقت يكون فيه نظام الطبيعة (الكون) قد اختل. والفكرة السامية القديمة التى مؤداها أن الخير أو الصلاح يزدهر (ينجح) فى هذا العالم، قد تكون أى هذه الفكرة- حاضرة أيضا. وثمة نقد اخر- ربما ينتمى الى هذه السلسلة من أفكارهم- وهو قولهم لماذا لم ينزل القران على محمد صلّى الله عليه وسلم- دفعة واحدة «79» ؟ وبالاضافة لبعض التأكيدات انفة الذكر، يبدو أنهم وجهوا نقدا ما لدوافع محمد صلّى الله عليه وسلم وأغراضه، وذلك ان جاز لنا أن نربط بين ما نسبوه اليه وما نسبه أعداء نوح له: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) ..) السورة 23 (المؤمنون) . فمعظم المعانى الواردة فى هذه الايات تنطبق على الوضع فى مكة وطبيعة عقلية أهلها رغم أنها تشير الى نوح «80» وقومه، فعرض زعماء مكة على محمد الثروة والمكانة- بفرض أن الرواية بهذا الشأن صحيحة-   (78) وهناك سور أخرى تحوى ايات بهذا المعنى 17/ 92- 96، 21/ 7، 85/ 8- 25/ 22-، 26/ 154-، 41/ 13. (79) 25/ 34. (80) 23/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يبين أن أهل مكة يدركون طموح محمد صلّى الله عليه وسلم ويريدون اللعب على هذا الوتر. وعلى أية حال، فان رفض محمد صلّى الله عليه وسلم لعروضهم هذه والاتجاه العام لمسلكه فى مكة، يجعل من غير المحتمل أن يكون الطموح السياسى كان من بين دوافعه المسيطرة. والقران الكريم يكرر باصرار المرة تلو المرة أن محمدا مجرد نذير. وذلك يعنى أن مهمته- ببساطة- هى أن يحذر الناس أو ينذرهم من حساب يعقبه نعيم أو عذاب. كيف استجابوا لهذا التحذير؟ تلك مسئوليتهم. لقد أنذرهم محمد صلّى الله عليه وسلم وانتهى الأمر! وفى احدى الايات ما يشير الى أن محمدا ليس عليهم بمسيطر «81» أى أنه ليس حاكما لهم يملك الأمر والنهى. بل وثمة اصرار أبعد من هذا وهو أن محمدا صلّى الله عليه وسلم- مثله مثل الأنبياء الاخرين- لا يريد أى أجر أو مكافأة من البشر وانما ينتظر ثوابه من الله سبحانه فحسب، ولا شك أن التركيز على هذه المعانى يعد بمثابة الرد على اتهامه بأنه يبتغى تحقيق مصالح لشخصه «82» . وأخيرا، فهناك ايتان يرجع تاريخ نزولهما فيما يظهر الى بداية الحقبة المدنية تشيران الى قبول فكرة القيادة السياسية التى خولها الله سبحانه لمحمد صلّى الله عليه وسلم: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (4) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (5) ..) السورة 28 (القصص) «83» . رغم أن هاتين الايتين تشيران الى موسى عليه السلام وقومه الذين أذلهم فرعون، فليس هناك شىء متناقض فى مثل هذا الاتجاه، فوفقا لما ورد فى القران فان محمدا مقتنع تماما أن مهمته الأولى والأساسية هى مهمة دينية وتتمثل هذه المهمة فى أنه نذير، لكن هذه المهمة الدينية بالنسبة لأهل مكة تنطوى على مضامين سياسية، وعندما تطورت الأحداث كان تحويل هذه المضامين السياسية الى أفعال سياسية أمرا ضروريا فلم   (81) 88/ 22. (82) 38/ 86-، 36/ 20، 11/ 3.. الخ. (83) فى سياق قصة موسى عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 يتراجع محمد عن ممارسة هذه الأفعال السياسية مادام يعتبر أن القيادة (السياسية) أمر كلفه الله به. (ج) أفعال معارضى محمد كانت المعارضة الكلامية أو القولية هى المكون الأساسى لصورة المعارضة ضد محمد كما بينها القران الكريم، لكن كانت هناك أيضا مادة كافية تبين أن المعارضين قد مارسوا الفعل كما مارسوا القول. حقيقة ليس لدينا وصف كامل لما فعلوه لكن غالب ما وصلنا اشارات لمؤامرات، وغالبا ما يتعرض القران الكريم لأفعال أعداء محمد بكلمتى: (الكيد) «84» و (المكر) «85» وتبدو كلمة (الكيد) قد استخدمت قبل كلمة (المكر) . ويبدو أنه لا اعتراض على أن هاتين الكلمتين تشيران فى القران الكريم (فى الايات المكية) الى مؤامرات المعارضة التى أشرنا اليها فى القسم السابق من هذا الفصل، خاصة المؤامرات السياسية والاقتصادية التى بلغت ذروتها فى مقاطعة عشيرتى هشام والمطلب. وكانت استجابة القران لهذا (المقاطعة) هو حث محمد صلّى الله عليه وسلم على الصبر وأن ينتظر حكم الله «86» فالله سيحبط مؤامراتهم الماكرة كما أحبط أفعال أصحاب الفيل «87» ، لقد أخبر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم فيما مضى- أن يتحمل ايذاءهم القولى له بصبر «88» ، وكان النحلى بالصبر اتجاها واضحا يتصف بالحكمة فى مكة. وقد شجعت قصص الأنبياء المسلمين على الاحتمال والصبر بتبيان كيف عاقب الله الذين لم يصدقوا أنبياءهم الذين أرسلهم الله لهم، وكيف أن الله تولى أنبياءه ومن آمنوا برسالاتهم. وربما جرى التركيز على العقاب الانى (الحالى) باعتباره منفصلا عن العقاب الأبدى (الاخروى) كرد فعل أو كاستجابة للأفعال العدوانية (الأفعال وليس الأقوال) للمعارضة. من المؤكد أن   (84) 68/ 15-، 52/ 42، 37/ 96.. الخ. (85) 34/ 3، 13/ 52. (86) 76/ 24، 86/ 17، 73/ 11. (87) السورة 105. (88) 73/ 10، 50/ 38، 20/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الفكرة قد انبثقت بشكل طبيعى من خلال هذا السياق (أو من خلال هذه الظروف) ، فالمتامر حاقت به مؤامرته (وقع فى شرك نصبه لغيره) أو بتعبير اخر لقد ارتد الى صدره السهم الذى أطلقه على غيره، وقد فشلت المؤامرة بفضل الله، فكان التراجع الذى حاق (بالدعوة الاسلامية) مؤقتا. وثمة مثال أكثر وضوحا للنشاط المعادى ضد الاسلام هو منع العبد من أداء الصلاة «89» . ولان كلمة العبد قد تعنى مجرد (الخادم) ، كما قد تعنى أيضا أبعادا أخرى باضافتها الى الله سبحانه (عبد الله) فقد تشير الاية التى تضمنت ذلك الى محمد صلّى الله عليه وسلم- نفسه، وقد تعنى كلمة عبد- على اية حال- ما يفيد الرق، لان هؤلاء الرقيق من المسلمين كانوا أقل الناس تأثيرا فى مجتمعهم الجديد، وبالتالى كانوا عرضه للمعاناة أكثر من غيرهم. وقصة أصحاب الأخدود «90» تشير تقليديا الى غواية مسيحيى نجران واضطهادهم، وان كانت هذه الحكاية صحيحة فربما كانت تعكس أوضاع الاضطهاد فى مكة، لكن الباحثين الغربيين يميلون الان الى النظر لهذه الاية باعتبارها وصفا للجحيم. ومن المؤكد أن هذه الاية فى حد ذاتها لا تقوم كدليل على طبيعة اضطهاد المسلمين فى مكة. والاية المدنية «91» التى تتحدث عن المسلمين الذين هاجروا بعد تعرضهم للفتنة، لا تعنى أكثر من تعرضهم للكيد بالاضافة للضغوط الأسرية. وعلى أية حال، فان مفتتح سورة القلم «92» يبدو وكأنه يبين نوعا من محاولات استدراج محمد صلّى الله عليه وسلم للوقوع فى نوع من التسوية؛ خاصة عندما تشير الايات الى أن المشركين ودوا أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلم مخادعا يظهر غير ما يبطن فيفعلوا مثله (ودوا لو تدهن فيدهنون) السورة 68 (القلم) ، الاية 9. وكان الله يشد من أزره لرفض عروض أعدائه «93» وعدم الرضوخ لتهديداتهم. وثمة ايات تشير- وفقا للتفسير التقليدى- لرفض ايات   (89) 96/ 9. (90) 85/ 1- 7. (91) 16/ 111. (92) 68/ 9. (93) 96/ 19، 76/ 24 ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الغرانيق رغم أنه يمكن اعتبارها مشيرة لبعض المناسبات الاخرى، حتى المناسبات المدنية منها- نوضح أن عروض المشركين لتسويات أو أمور وسط، كانت تشكل تهديدا حقيقيا للدعوة: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)) السورة 17 (الاسراء) «94» . انه لمن الصعب- وان لم يكن من المستحيل- أن نرى كيف أن رفض شخص للهداية عند سماعه للقران يمكن أن يكون دليلا صحيحا ضد أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم «95» ؛ لذا فيمكن للمرء أن يجرب أن يتخيل أن الاية قد تشير لنوع من المعارضة بين المؤمنين برسالة محمد أو بين المرتدين (الذين أسلموا ثم تركوا الاسلام، والمقصود على عهد الرسول لا بين من عرفوا- تجاوزا- بعد ذلك بالمرتدين أيام أبى بكر الصديق رضى الله عنه) . واذا كانت الايات التى تتحدث عن الذين لا يؤدون الزكاة على أنهم مكيون، فربما كانوا هم المقصودين بهذا «96» . ان استخلاصنا لحقيقة أو برهان فيما يتعلق بهذه النقطة من القران الكريم أمر مشكوك فيه الى حد ما. وبشكل عام، فان الأدلة المستقاة من القران الكريم تميل الى تأكيد الصورة التى استقيناها من المصادر التاريخية التقليدية. فالنقد الكلامى والنزاع الجدلى كانا هما- فيما يبدو- الملمح الرئيسى للمعارضة التى شنها أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم. فالنشاط المعادى الأساسى كان يطلق عليه اسم (الكيد) و (المكر) وهى كلمات تعنى حبك المؤامرات باستخدام حدة   (94) أوردنا نص الايات التى أشار لها المؤلف بالأرقام فى المتن. (95) 84/ 21- (96) 36/ 47، 41/ 6 وهى ايات مدنية وفقا لما جاء فى Bell ,translation of the Quran.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الذهن، وربما كانت من النوع الخطر، ولكنها كانت دائما فى النطاق المشروع. وقد تؤدى الى اختلاق أكاذيب والحاق خسائر لكن ليس هناك برهان أكيد على أن المعارضة تحولت الى اضطهاد للمسلمين. 5- قادة المعارضة ودوافعهم يبقى أن نسأل عن طبيعة المجموعة المكية- أو المجموعات- التى عارضت محمدا صلّى الله عليه وسلم ودوافعها. أما عن طبيعة هذه المجموعة- أو المجموعات- فهى الشق الأسهل فى مبحثنا هذا. وحتى اذا أخذنا بالرأى القائل بأن المعارضة كانت أكثر اعتدالا مما يشاع، فانه من الواضح أنه قد قادها زعماء عشائر قريش (أو ذوو النفوذ من عشائر قريش) وقد نظر الباحثون الغربيون ببعض الشك لأسماء الأشخاص الذين اعتبروا مناوئين لمحمد صلّى الله عليه وسلم أثناء الحقبة المكية؛ لأن الأسماء وردت فى قوائم من قتلوا أو أسروا فى غزوة بدر، لذا فهذه الأسماء تعكس الأوضاع (فيما يتعلق بأعداء محمد صلّى الله عليه وسلم) فى السنة الثانية للهجرة، أى بعد مغادرة الرسول مكة مهاجرا للمدينة بعامين. ويزداد هذا الشك بحقيقة أن قصيدة أبى طالب التى ذكرناها فيما سبق والتى تتعرض للأوضاع السياسية فى فترة المقاطعة وما حولها، والتى قد تكون- أى القصيدة- صحيحة غير موضوعة- هذه القصيدة تحوى عدة شخوص مختلفة لم يردوا- فى العادة- كمعارضين لمحمد صلّى الله عليه وسلم. ومن ناحية أخرى، فان قوائم المعارضين تشمل عدة أشخاص ماتوا قبل غزوة بدر مثل المطعم بن عدى، وهذا معناه افتقاد الرواية للتواريخ الصحيحة. لكن يكاد يكون مؤكدا أن هذه القوائم- قوائم أعداء محمد- قد اعتمدت مادة تاريخية سليمة، وبالتالى فهى صحيحة بشكل عام. لقد كان أبو جهل من عشيرة مخزوم هو أكثر أعداء محمد صلّى الله عليه وسلم شهرة طوال عدة سنوات قبل مقتله (أى مقتل أبى جهل) فى غزوة بدر، وقبل ذلك ربما زعيم مكة الرئيسى هو الوليد بن المغيرة «97» زعيم عشيرة مخزوم،   (97) ابن هشام، 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 لكن من الممكن ألا يكون منخرطا فى عداوة مريرة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم، فقد كان أبو جهل هو الذى نظم تحالف العشائر العديدة ضد عشيرتى هاشم والمطلب. لكن فض هذا الحلف يشير الى وجود حزب قوى من المشركين كان أفراده غير مستعدين للانسياق وراء أبى جهل الى اخر المدى، ولا يمكننا الا بالكاد أن نقول شيئا عن أهدافهم المحددة فى معارضة محمد صلّى الله عليه وسلم. وأحيانا كان يفترض أن أقوى الدوافع الكامنة وراء معارضة محمد صلّى الله عليه وسلم، هو الخوف من أن مكة اذا دخلت الاسلام وتخلت عن الوثنية توقف البدو عن التردد على الكعبة كمعقل وثنى وبالتالى تحطمت تجارة أهل مكة. الا أن هذا الفرض- على أية حال- غير مقنع. فليس لدينا ما يشير الى انتقاص توقير الكعبة فى القران أو فى أى نصوص اسلامية دينية أخرى، كل ما نعلمه هو تغير نسك العبادة عند الكعبة وتطهيرها (من الأوثان) بعد فتح مكة. لقد كان الهجوم الاساسى على الأوثان لا على الكعبة، كما كان الهجوم كما ذكرنا فيما سبق على نظم العبادة الوثنية عند بعض الأنصاب بالقرب من مكة. وربما كانت هذه الأنصاب المجاورة لمكة لا تكاد تكون من الأهمية بدرجة كافية تجعل هجرها أمرا كافيا لهدم تجارة مكة. فالحقيقة، أنه ربما كان قدر كبير من تجارة مكة قد أصبح فى هذه الفترة مستقلا لا يتأثر بزيارة البدو للكعبة أو الأنصاب الموجودة الى الجوار من مكة، وعلى هذا فمن المستحسن أن ننسى النظرية التى مؤداها أن المخاوف الاقتصادية كانت كامنة وراء الخوف من الهجوم على الأوثان. والذى يكاد يكون مؤكدا هو أن هؤلاء النفر الذين كانت لهم ارتباطات تجارية ببعض الأنصاب قد تضايقوا؛ لأن مهاجمة هذه الأنصاب كانت تنطوى على هجوم عليهم. وكانت اللات فى الطائف من بين هده الأنصاب، وفى خطاب عروة الذى أوردناه فى الصفحات السابقة ما يفيد أن بعض القرشيين الذين كانت لهم ممتلكات فى الطائف هم الذين بدعوا المعارضة الفعالة لمحمد صلّى الله عليه وسلم. ومن الممكن بنفس القدر أنه كانت هناك مجموعات أخرى تأثرت مصالحها الخاصة ببعض النقاط التى تضمنتها دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وعلى أية حال، فالسبب الرئيسى للمعارضة كما يبدو مؤكدا هو أن زعماء قريش رأوا فى نبوة محمد- اذا ما اقروها- مضامين سياسية. فالتقاليد العربية القديمة تعطى الحكم أو الزعامة فى القبيلة أو العشيرة له (لمحمد صلّى الله عليه وسلم) مادام (بحكم نبوته) هو الأكثر حكمة وتدبيرا وهو الاكثر قدرة على الفصل فى أى نزاع ينشب. واذا صدق المكيون تحذيرات محمد صلّى الله عليه وسلم وأرادوا بعد ذلك أن يعرفوا كيف يدبرون أمورهم فى ضوئها، فمن هو أفضل من يستشيرونه غير محمد؟! الذى لا شك فيه أنهم تذكروا العلاقة بين اعتناق عثمان بن الحويرث للمسيحية ومحاولته أن يكون أميرا لمكة. وحتى اذا كان محمد حريصا على أن يكون مجرد نذير، فربما فكروا، هل سيكون محمد صلّى الله عليه وسلم قادرا على مقاومة القبض على زمام السلطة العليا اذ أتاحت له الظروف ذلك؟ وربما كان زعماء قريش من بعد النظر بمكان بحيث يدركون التعارض بين قيم القران الكريم من ناحية ونشاطاتهم التجارية- التى كانت بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت- من ناحية أخرى. فلم تكن هناك أية اشارة لتحريم الربا حتى بعد الهجرة بمدة طويلة، لكن كان هناك منذ البداية نقد لاتجاهاتهم الفردية نحو احراز المال واكتنازه. لا بد أن هذا كان يدور فى عقول ماليى مكة حتى ولوا تحاشوا مناقشته علنا. ربما شعروا أن هذه القيم القرانية ستعطى محمدا دعما سياسيا ان هو فكر فى القيادة السياسية. بل وربما شعر بعضهم أن هذه القيم القرانية المتعلقة بالمال ما هى الا اعادة فتح للنزاع القديم بين مخزوم وأتباعها من ناحية، وعشائر حلف الفضول من ناحية أخرى. وعندما نضع فى الاعتبار هذه الخلفية الكامنة وراء المعارضة لمحمد صلّى الله عليه وسلم أمام نواظرنا، فلن نفهم أن هجوم القران على الوثنية كان ليمر دون مقاومة. لقد كان العرب بطبيعتهم أو بحكم نشأتهم محافظين، ويصف القران الكريم فى مواضع كثيرة الوثنيين الذين تمسكوا بوثنيتهم بأنهم لا يفعلون ذلك الا لمجرد أن اباءهم كانوا على هذا الدرب سائرين. وقد ظل هذا الاتجاه المحافظ حتى بعد فترة من ظهور الاسلام فكلمة (بدعة) هى الكلمة التقليدية التى تستخدم لتعنى الهرطقة. وهذا الاتجاه المحافظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يفترض أنه كان المحرك لبعض طبقات المعارضة، خاصة الزعماء كبار السن الذين لم يكونوا ينظرون لمحمد صلّى الله عليه وسلم كمنافس شخصى لهم كالوليد بن المغيرة. ولم يكن لدى معارضى محمد صلّى الله عليه وسلم دفاع نظرى يقدمونه عن الوثنية، فالمسألة لا تعدو كراهية التغيير الذى ربما اعتبروه عملا غير أخلاقى رغم أن الالهة أو الأرباب (الأوثان) لا تهمهم الا قليلا. وهناك سبب اخر للمعارضة بالاضافة لمهاجمة الأوثان، وهو التأكيد على أن اباءهم وأجدادهم الوثنيين خالدون فى جهنم فالولاء للاباء والأجداد مرتبط ارتباطا وثيقا بما تركوه من تراث. وبينما كان بعض المعارضين لمحمد صلّى الله عليه وسلم ينطلقون من منطلق فردى عميق، فان الأكثر محافظة منهم ربما احتفظوا بولاء من نوع خاص للجماعة. وعلى هذا فانهم رأوا فى اتجاه الاسلام نحو ايجاد فصل حاد فى الأسرة أو العشيرة (المقصود فصل بين الأجداد أو الاباء الوثنيين، والأبناء المسلمين) دليلا على أن الابتعاد عن نهج الاباء والأجداد سيؤدى الى عواقب وخيمة، وربما بدا لهم أن هذا التغيير سيمس البناء الاجتماعى كله. والحقيقة، أن الاسلام- بمعنى أو اخر- كان يفعل ذلك حقا. وعلى هذا، فان الأرضية التى انطلقت منها المعارضة للاسلام كانت- بالاضافة للخوف من تعرض المصالح الشخصية للخطر- خوفا من المضامين السياسية والاقتصادية للاسلام، بالاضافة الى ميل خالص للاتجاه المحافظ (عدم الرغبة فى التغيير) . ان الوضع الذى واجه محمدا صلّى الله عليه وسلم كان بمثابة توعك (بداية حالة مرضية) لها أعراضها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقلية. وكانت رسالته فى جوهرها دينية حاولت علاج الجوانب الدينية فى هذا المجتمع المريض دينيا، لكنه تعرض بالضرورة لجوانب أخرى غير دينية، وبالتالى كان للمعارضة أيضا أوجهها الكثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الفصل السادس افاق ممتدة 1- تدهور فى أوضاع محمد صلّى الله عليه وسلم لم يمض وقت طويل على انتهاء المقاطعة حتى فقد محمد صلّى الله عليه وسلم فى وقت قصير كلا من عمه وحاميه- أبى طالب، وزوجته المؤمنة الوفية المعينة- خديجة. وربما كان هذا فى العام 619 للميلاد. وليس لدينا دليل على ما كانت تعنيه خديجة بالنسبة لمحمد صلّى الله عليه وسلم فى هذه الفترة. أما قبل ذلك، فتخبرنا المصادر أنها شجعته عندما بدأ يتخوف، ويمكننا أن نحدس على الأقل أن دعمها له وشدها من أزره كان لا يزال يعنى بالنسبة له شيئا. واذا كان الأمر كذلك، فالذى لا شك فيه أنه كان خيرا له أن يلجأ الى مزيد من الاعتماد على النفس. حقيقة، لقد تزوج بعد ذلك بفترة غير طويلة من سودة بنت زمعة وهى احدى المسلمات الأوائل وكانت وقت تزوجها أرملة. وهذا قد يشير الى حاجته لصحبة روحية (لأنيس يؤنس روحه ويكون له بمثابة صديق) ، لكننا لا نعرف عن سودة الا قليلا ويمكننا أن نفترض أن علاقتها بمحمد صلّى الله عليه وسلم كانت فى الأساس فى نطاق دورها كزوجة.in the domestic sphere ان تجربة محمد صلّى الله عليه وسلم فى نخلة عند عودته من الطائف، حيث تلقى مواساة عندما كان حزينا محبطا- ربما يمكن اعتبارها علامة على مرحلة دالة على عدم تعويله على الاعتماد على رفاق من البشر* (ربما يقصد الاعتماد على   * النص: The experience of Muhammad at Nakhlah on his return from Ataif, When he received cofmort in his mood of depression, might be taken a marking a stage in his weaning from relance on human Companionship. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 لدعم البشرى. وهى عبارة تبدو متناقضة وغير مفهومة- المترجم) . لقد كانت نتائج وفاة أبى طالب واضحة على المستوى السياسى، فقد خلف أبا طالب فى زعامة بنى هاشم أخوه أبو لهب. ورغم أن أبا لهب كان قد انضم الى الحلف الكبير ضد هاشم أثناء فترة المقاطعة، الا أنه يقال انه وعد فى البداية أن يحمى محمدا صلّى الله عليه وسلم بالطريقة نفسها التى حماه بها أبو طالب «1» . وقد تكون هذه الرواية مقبولة لأن احترام السيد العربى لنفسه يؤيد هذا الاتجاه. وان كان هذا يتناقض مع ما سبق أن أبداه من عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيمكننا تخفيف حدة هذا التناقض بافتراض أن ما ذكر عن عداوة أبى لهب لمحمد صلّى الله عليه وسلم قبل وفاة أبى طالب كان مبالغا فيه بسبب اسفافه فى العداء لمحمد صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك (المترجم: لقد نزلت سورة قرانية فى أبى لهب وزوجته حمالة الحطب، فليس هناك اذن مبالغة) . وعلى أية حال، فبعد فترة رفض أبو لهب رسميا حماية محمد على أساس أن محمدا- على حد قوله- زعم أن عبد المطلب فى النار. والرواية التقليدية بهذا الشأن تخبرنا أن عقبة بن أبى معيط وأبا جهل رأيا أن يوجها سؤالا لمحمد صلّى الله عليه وسلم بهذا الشأن. والطريقة التى وردت بها الرواية تشير الى السذاجة، ومع هذا فليس هناك سبب يدعونا للشك فيها. لقد أشار أعداء محمد على أبى لهب أنه مادام محمد يذكر جدهم المشترك عبد المطلب* بسوء (قوله انه فى جهنم) ، فيمكن أن يسحب أبو لهب حمايته له دون أن يلومه أحد، أو بتعبير أدق دون أن يفقد شرفه أو احترامه لنفسه. كان افتقاد محمد صلّى الله عليه وسلم للأمن بسحب الحماية المبسوطة عليه خسارة كبيرة- فى الظاهر- له ولقضية الاسلام. لكن الحقيقة أنه لم تكن هناك حالات مهمة للتحول للاسلام منذ أسلم عمر بن الخطاب ربما   (1) ابن سعد، أ، 1، 141. * عبد المطلب توفى قبل بدء الرسالة ولذلك يعتبر من «أهل الفترة» الذين لا يعتبرون من أهل جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قبل ذلك بثلاث سنوات أو اربع، لكن فشل المقاطعه يمكن أن ينظر اليه كبدايه حركه تؤدى الى تحسين فرص ازدهار الدين الجديد. وعلى أية حال، فقد كان تحلى ابى لهب عن حماية محمد صلّى الله عليه وسلم قد أخمد كل هذه الامال فى مهدها. وحتى اذا استطاع المسلمون البقاء فى مكة- وهو أمر كان يمكنهم فعله بالتأكيد- فلم يكن هناك احتمال قوى أن يعتنق الاسلام أفراد جدد. وفى مثل هذه الظروف- اذا لم يكن الاسلام قد ذبل أو اضمحل- كان لا بد من توجيه نشاط جديد فى اتجاه اخر. فكل ما كان يمكن فعله فى مكة قد تم فعله؛ لذا كان الأمل الأساسى متمثلا فى احراز تقدم فى أماكن أخرى. لقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم يعتبر نفسه نبيا أرسله الله سبحانه فى الأساس لقريش أو لقريش فقط، ولم تكن هناك اشارة قبل موت أبى طالب الى أنه فكر فى مد رسالته للعرب كافة (المترجم) *: ليس المقصود هنا أن الاسلام نزل لقريش فقط، وانما المقصود أن تفكير الرسول صلّى الله عليه وسلم فى المرحلة الأولى من الدعوة كان موجها الى قريش الدين كان يعتبرهم عدته لنشر دعوته بعد ذلك، فكيف يكون الحديث مفصلا عن اسلام العرب والفرس والروم.. الخ، وهو ما زال يدعو أهل مكة، وقد أشار المؤلف فى كتابه هذا الى مراحل انتشار الاسلام، كما أشار فى كتاب اخر ترجم بعنوان الاسلام والمسيحية** الى أن الاسلام يضم كل القيم والأفكار الأساسية فى الأديان التى سبقته؛ لذلك فهو دين المستقبل) وعلى أية حال، فقد أدى تدهور أوضاع النبى صلّى الله عليه وسلم فى مكة الى بحثه عن افاق جديدة خارج مكة، فنحن نسمع خلال سنواته الثلاث الأخيرة فى مكة عن لقااته مع القبائل البدوية وأهل الطائف ويثرب. 2- زيارة النبى للطائف كانت الطائف- على نحو من الأنحاء- نسخة طبق الأصل من مكة، رغم وجود اختلافات مهمة. فقد كانت الطائف مركزا تجاريا ذا علاقات خاصة وثيقة باليمن. فقبيلة ثقيف كانت تقطن الطائف وارتبطت بتجارة   * أكثر الايات التى تكلمات عن عموم رسالة الاسلام نزلت فى سور مكية؛ مما يدل على أن عموم الرسائل كان مفهومها لدى الرسول من أول الأمر- (المراجع) . ** نشر فى هذه السلسلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المسافات الطويلة، وغالبا ما كان ذلك بالاشتراك مع قريش. وفى الوقت نفسه كانت الطائف ذات مناخ أفضل من مناخ مكة، وكانت أجزاء مما يحيط بها ذوات تربة خصبة جدا. وكانت ذات شهرة بالزبيب، وكان احد ملامح الطائف المميزة أن أهلها كانوا يعيشون على الحبوب، بينما كان العرب الاخرون قانعين بالتمور والحليب. وكان كثيرون من أثرياء أهل مكة يمتلكون أراضى فى الطائف يتخذون منها منتجعا فى فصل الصيف. وكانت عشيرتا هاشم وعبد شمس تحتفظان بعلاقات وثيقة مع الطائف، وكانت لمخزوم معاملات مالية- على الأقل- مع ثقيف. وبشكل عام، كانت ثقيف أقل قوة من قريش وكان عليها أن تعرف تفوق قريش فى مجان المال- من الممكن أن يكون ذلك نتيجة حرب الفجار «2» - وما يستتبع هذا من نتائج. لكن العلاقة بينهما لم تكن لصالح طرف واحد تماما، مادام الأخنس بن شريق، أحد الحلفاء (من الطائف) ، كان لفترة من الفترات- رجلا مهما فى عشيرة زهرة بمكة «3» . وكانت هناك مجموعتان سياسيتان أساسيتان فى الطائف، هما: بنو مالك والأحلاف، وربما كان الأحلاف هم الأقدم من حيث الاقامة فى الطائف؛ لأنهم كانوا رعاة حرم الربة (النصب أو الوثن) ، وسننساق وراء خطأ ان تحدثنا عنهم كعوام أو أجلاف) as plebeians المقصود ليسوا من ذوى الحسب والنسب، أو اعتبارهم خاوين من التأثير السياسى. أما بنو مالك فكانوا- بشكل أساسى- مرتبطين بقبيلة هوازن الكبيرة التى كانت مسيطرة على المناطق المحيطة، بينما كان الأحلاف قد بحثوا عن الدعم من قريش ليوازنوا تحالف بنى مالك مع هوازن. وعلى هذا، فان تدنى ثفيف من حيث المنزلة عن قريش كان يرجع الى أن ثقيفا كانت غير مترابطة داخليا الى حد كبير. وهو أمر مؤكد بلا جدال. ومن الواضح أن محمدا لجأ أول ما لجأ الى الطائف بحثا عن مجال جديد للدعوة الاسلامية. والرواية التقليدية بهذا الشأن «4» هى أنه   Cf.I. 2 d. (2) Cf.Lammens ,Taif. (3) (4) ابن هشام، 279- 281، الطبرى، 1199- 1202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 نظرا لازدياد قسوة المعاملة التى واجهها بعد موت عمه أبى طالب ذهب ليبحث عن حام له، لكن هذا لا يمكن أن يكون هو السبب الوحيد فالمصادر تتحدث عن أمله فى تحويل الناس الى الاسلام، ومثل هذا الامل ربما كان كامنا بالفعل فى فكرة انشاء مجتمع اسلامى كالذى أنشأه بعد ذلك فى المدينة. وفى الوقت نفسه لا يمكننا انكار امكانية حدوث ذلك تماما، فقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم يتوقع أن تصيب مكة بعض الكوارث بعد رفضها اياه ورغبتها فى ازاحة أتباعه. ولا شك أيضا أنه يكاد يكون مؤكدا أن شيئا ما من الشقاق أو الخلاف فى المجال السياسى قد حدث وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم حاول الاستفادة منه؛ لكننا لا نملك الأدلة الكافية لمعرفة طبيعة هذا الشقاق أو الخلاف السياسى، فالأشخاص الذين اقترب منهم محمد صلّى الله عليه وسلم هم عبد يليل (فى الطبرى عبد ياليل- المترجم) واخوته وكانوا ينتمون الى عشيرة عمرو بن عمير التى كانت من بين الأحلاف الذين أشرنا لهم سابقا، لذا فقد كان من المفترض أنهم متعاطفون مع قريش، وربما أراد محمد صلّى الله عليه وسلم أن يستميلهم باغرائهم بانتزاع مزايا مالية من مخزوم «5» . ومهما كانت الطبيعة الدقيقة لأهداف محمد صلّى الله عليه وسلم والأسباب التى دعت بنى عمرو بن عمير الى رفض مقترحاته، فقد أبعدوا محمدا صلّى الله عليه وسلم دون أن يحصل منهم على شىء بل وأغروا أهل الطائف بقذفه بالأحجار. ويقال انه تخلص من هذه الورطة باللجوء الى بستان أخوين من عشيرة عبد شمس المكية يردان غالبا فى سياق كبار مناوئيه. وأخيرا اتخذ محمد طريق العودة الى مكة، وكان- بلا شك- محبطا احباطا شديدا. وتقول الروايات كيف أنه وهو فى نخلة أثناء الليل وبينما كان منشغلا بالصلاة والدعاء، أتت اليه مجموعة من الجن واستمعوا اليه ودخلوا فى الاسلام «6» . وحتى اذا كانت هذه الرواية وضعت فى زمن متأخر، فانه يجوز لنا أن نصدق أنه فى هذه المرحلة الحرجة من حياة محمد زاد اعتماده على الله سبحانه.   Lammens ,Taif ,100 /212. (5) (6) السورة 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ولم يدخل محمد صلّى الله عليه وسلم مكة بمجرد وصوله لها وانما لجأ الى غار حراء فى ضواحيها، ومن هناك بدأ يفاوض للحصول على الحماية (الجوار) عند أحد زعماء العشائر. وهذا يعنى أن أبا لهب زعيم عشيرته رفض حمايته، وأكثر من هذا فحالما أصبحت أخبار زيارته للطائف معروفة لمعارضيه فى مكة، زاد عداؤهم له بشكل فعال. وكان أول من عرض عليهم أمره الأخنس ابن شريق من بنى زهرة وسهيل بن عمرو بن بنى عامر، وقد رفضا طلبه، وأخيرا وافق المطعم بن عدى زعيم بنى نوفل على ان يدخل مكة فى جواره، ويمكننا أن نتصور أن ذلك تم وفقا لشروط، رغم أن المصادر لا تشير لشىء من هذا. وعلى أية حال، فهذا لا يدعو للدهشة مادامت هذه الرواية قد سيقت فى معرض مدح عشيرة نوفل والاشادة بشر فها. وأما ما حدث بعد ذلك، فقد مرت عليه المراجع مرا خفيفا مادام غير ملائم لبنى هاشم. ويبدو أن ابن اسحق «7» قد حذف ما يتعلق بهذه الفترة، والجدير بالذكر أن أحدا من المسلمين- بمن فيهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه- لم يكن لديه القوة الكافية لتقديم الحماية لمحمد صلّى الله عليه وسلم. 3- الاقتراب من القبائل البدوية تذكر الروايات المتعارف عليها فيما، يتعلق بهذا الموضوع، أن محمدا صلّى الله عليه وسلم انتهز الفرص التى أتاحتها الأسواق المختلفة لدعوة بعض القبائل البدوية. فالمصادر المبكرة «8» تذكر على نحو خاص بنى كندة (وزعيمها مليح) وبنى كلب وبنى حنيفة وفردا من بنى عامر بن صعصعة. والثلاثة الأول رفضوا دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم رفضا تاما، والأخير رفض دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم بعد أن رفض الرسول أن يعده بأن يكون وريثا سياسيا له. ومن الصعب أن نعرف لماذا ذكرت هذه القبائل دون غيرها من القبائل. ربما كان ذلك بالصدفة، لكن ربما أيضا لأن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان لديه أسباب خاصة تجعله يتوقع أنها ربما استمعت اليه. ومن الظاهر أن قسما من بنى عامر بن صعصعة قد استمالهم محمد صلّى الله عليه وسلم، كما نفهم من   (7) ابن هشام، 281. وأضافها ابن هشام بنفسه. (8) ابن هشام، 282 وما بعدها، الطبرى، 1204- 1206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 خلال الحوادث التى رويت عن بئر معونة فى العام الرابع للهجرة. والقبائل الثلاث الاخرى تقع مضاربها على مسافات بعيدة من مكة وكانت قبائل مسيحية اما تماما أو جزئيا. لكن من الصعب أن نتأكد من أن هذه الحقائق هى السبب فى ذكرها فى هذا السياق. وما نصدقه هو أن محمدا صلّى الله عليه وسلم فى هذه المرحلة بدأ يجتمع بأفراد من القبائل البدوية ليدعوهم للاسلام، وكان وراء هذا النشاط على الأقل فكرة غامضة عن واحدة كل العرب. 4- المفاوضات مع المدينة (أ) توطئة يكتب الانجليز كلمة المدينة على هذا النحو Medina وهى تعنى التجمع السكانى الحضرى، وربما كانت تعنى موطن العدالة، والكلمة (المدينة) تشير على سبيل الاختصار لعبارة (مدينة النبى) ، وكانت معروفة قبل ارتباط محمد صلّى الله عليه وسلم بها باسم يثرب. ولم تكن يثرب مدينة بالمفهوم المعروف، وانما كانت مجموعة من القرى الصغيرة والمزارع والحصون متناثرة على واحة أو قطعة أرض خصبة، وربما كانت حوالى عشرين ميلا مربعا، تحيط بها تلال وصخور وأرض صخرية كلها غير مزروع. وكان القسم الرئيسى السائد من السكان يتمثل فى بنى قيلة الذين عرفوا فيما بعد بالأنصار (أى الذين نصروا محمدا صلّى الله عليه وسلم) ، وكانت هذه القبيلة أو الجماعات القبلية تتكون من أرومة بينها صلات قربى، من الأوس والخزرج، وكان كل منهما ينقسم بدوره الى عدد من العشائر، وكل عشيرة تنقسم الى عدد من البطون.Sub -clans ووفقا للمرويات، فقد قدم الأوس والخزرج الى يثرب مهاجرين من جنوب شبه الجزيرة العربية، واستقروا فى أراض خالية من السكان فيما يبدو، وذلك فى حماية (فى جوار) السكان الموجودين. وأخيرا ازداد عددهم واستطاعوا- بعد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أتاهم دعم من الخارج- أن يحرزوا السيطرة السياسية فى الواحة فى حوالى منتصف القرن السادس للميلاد أو بعد ذلك بقليل «9» . وبالنسبة للسكان السابقين على الأوس والخزرج، فقد كانوا مكونين من مجموعتين قويتين ثريتين تشغلان أراضى خصبة ظلت الى حد كبير منفصلة عن الأوس والخزرج، وأعنى بهما: بنى قريظة، وبنى النضير. وكانوا يشبهون جيرانهم من الأوس والخزرج فى كثير من النواحى، وقد اعتنق بنو قريظة وبنو النضير الدين اليهودى واحتفظوا بطقوسهم بشكل نشط. وليس من الواضح ما اذا كانوا مجموعة عبرية (من بنى اسرائيل (Hebrew Stock أو عربا تهودوا، وربما كانوا مجموعة عربية منعزلة ربطت نفسها بمجموعات عبرية صغيرة «10» . وفى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم، كانت هناك أيضا قبيلة يهودية ثالثة أقل نفوذا هى قبيلة بنى قينقاع، كما كانت هناك كيانات عربية صغيرة غير قبيلتى الأوس والخزرج ربما كانت أى هذه الكيانات- بقايا عرب سكنوا الواحة قبل وصول اليهود واستيطانهم. ونشأت بين الأوس والخزرج ثارات متتابعة، وغالبا ما كانت هذه الثارات تنشأ بين عشيرة أو عشيرتين فقط من كل جانب، لكن ما يسمى حرب حاطب تكاد تكون قد شملت كل الأوس والخزرج (وكذلك القبائل اليهودية) وبلغت ذروتها فى معركة بعاث (بضم الباء وفتح العين) قبل الهجرة بسنوات قلائل، ربما فى سنة 617 للميلاد. وقد أدت هذه الحرب الى اختلال التوازن، أساسا لأنها استنفدت طاقات كل من اشترك بها. كانت المدينة اذن تعانى من خلل (ظواهر مرضية اجتماعية (a malaise لم يكن يقل خطورة عن الخلل والظواهر المرضية   (9) Welhausen, Madina vor dem Islam, in skizzen U.Vora- beiten, iv, 1889. (10) Caetani.Ann.i, p.383; Torrey, Jewich Foundation, Ch.T.D.G.Margoliouth, Relations between Arabs Israelites, London.1924, Lecture 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الاجتماعية التى حاقت بمكة، وان اختلفت اعراض المرض فى الحالتين. أعنى عدم تكيف أو تواؤم العادات والتقاليد البدوية مع حياة المجتمع المستقر (بتعبير اخر أن البدو عندما يستقرون لا يستطيعون الا بعد فتره طويله أن يكيفوا بين أيديولوجيتهم البدوية، وحياة الاستقرار الجديدة) . والجانب الاقتصادى لهذه الاضطرابات كان- بلا شك- نتيجة الضغط الذى سببه الازدياد السكانى مع قلة الموارد الغذائية. ونتيجة الحرب المريرة التى انخرط فيها أهل يثرب هى أن المنتصرين راحوا- بشكل متتابع- يحتلون أراضى المنهزمين «11» ، وكما حدث بعد معركة بعاث، فعندما لم يكن هناك سلام رسمى (معتمد أو جرى الاتفاق عليه) وانما مجرد هدنة لالتقاط الأنفاس، كان على الناس أن يكونوا فى حالة حذر دائم (ترقب) ضد هجوم مفاجىء غادر وفى حالة احجام عن دخول أراضى الطرف الاخر. ومع أن انتاج التمور لا يحتاج الى رعاية فائقة كانتاج المحاصيل الاخرى، فان حالة الاضطراب هذه أثرت ولا بد فى تدهور المشروع كما وكيفا. وعادة ما كانت الأطراف المتقاتلة لا تلحق ضررا بالنخيل نفسها، لكن عدم استقرار الحيازة قد أدى بالضرورة الى عدم تفكير الناس فى مشاريع زراعية طويلة المدى. لقد ساد اذن مبدأ الصحراء (احتفظ بما يستطيع سلاحك المحافظة عليه) ، وجرى تطبيق هذا المبدأ فى مجال الأراضى الزراعية. انه اذا تم تطبيق هذا المبدأ عند رعى القطعان فى مساحات شاسعة فلا بأس، لكن ان تم تطبيقه فى واحة خصبة صغيرة المساحة لأدى الى عواقب وخيمة. لقد احتفظت يثرب بأسس التنظيم الاجتماعى السائد فى الصحراء، فكانت كل عشيرة مسئولة عن أعضائها فكان الأخذ بالثأر أو دفع الدية «12» . واذا دافع شخص عن ممتلكاته ففقد حياته، فان التضامن القبلى يضمن أمن الممتلكات. لكن لغياب عامل بعد المسافة الموجود فى   Welhausen ,Op.cit. ,passim. (11) (12) ابن هشام، 341- 344، عن دستور المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الصحراء، فان هذا الاساس للامن القائم على القوة (القوة المسلحة للمجموعة) يصبح نكبة مدمرة. فالمجتمع المستقر يحتاج الى سلطة واحدة قوية لحفظ السلام بين الأفراد والجماعات المتنافسة، وهذا الى حد ما خارج المدى الذى يمكن أن يصل اليه الفكر البدوى. لقد أدت المصالح التجارية فى مكة الى ربط الجماعات المختلفة معا ودعمت معنى واحدة قريش (رغم أن الظلم والشعور بالضيم الذى أحس به الفقراء وغير الأثرياء كان له تأثير انفصالى أو كان سببا للشفاق والنزاع) ولم يكن فى المدينة مثل هذا العامل الداعى لتوثيق الروابط؛ لأن سكانها أقل تجانسا من سكان مكة. فالأسرة الصغيرة كانت هى الواحدة الكافية؛ لأنها تتواءم مع العمل الزراعى. ومن ناحية أخرى، ربما كانت النزعة الفردية أقل مما هى فى المحيط التجارى لمكة؛ لأنه مما لا شك فيه أن ظروف الزراعة العربية لا تعطى فرصة للتفاوت الشديد فى الثروات، كما يحدث فى المجتمع التجارى. وفى كتاب الطبقات لابن سعد نجد أنه فى معرض الحديث عن غزوة بدر على الجانب الاسلامى تم ترتيب المقاتلين من القرشيين فى 15 عشيرة. بينما ذكر 33 من الأوس والخزرج، وربما كان ذلك لاظهار أن ظروف المجتمع الزراعى تعزز الانقسام (التحول الى شظايا. (fragmentation * وزيادة عدد التقسيمات (العشائر أو البطون.. الخ) فى قبائل المدينة، ربما يكون راجعا الى أن ذلك يلائم المشتغلين بالأنساب مادامت هناك تقسيمات كثيرة بالنسبة لأهل المدينة أكثر بكثير من تقسيمات قريش، أو- مرة أخرى- ربما كان ذلك- بشكل أو اخر- مرتبطا باستمرار تأثير النظام الأمومى matriarchy فى المدينة، أو لتوالى الأجيال فى الفترة ما بين أنصار بدر (الأنصار زمن غزوة بدر) من ناحية، وجدهم المشترك من ناحية أخرى. وعلى أية حال، فبصرف النظر تماما عن صحة هذه التعليلات، فقد كان أهل المدينة أكثر تقسيما بكثير، وكانت تنقصهم الواحدة بالاضافة الى   * بمعنى تتفكك وتتحول الى كيانات صغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الحروب العنيفة (الانتحارية (Suicidal التى كانت تنشب بينهم، ومن هنا فان نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم- بما فيها من مضامين سياسية- كانت من الزم الأمور للمدينة لبعث الامل فى السلام. وربما عبرت الاية القرانية التالية «13» عن هذه الفكرة: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)) السورة 10 (يونس) . فالنبى- بسلطته القائمة على الدين لا على الدم- يمكنه أن يعلو فوق الأعراق المتحاربة وأن يكون حكما بينها. وتحدثنا المصادر أن الأنصار تصوروا محمدا صلّى الله عليه وسلم المسيح المنتظر الذى كان يتوقع اليهود مجيئه، فسارعوا- أى الأنصار- بقبوله «14» . لكن- ان كان فى هذه الرواية قدر من الصحة- فان هذه الفكرة عن المسيح هى التى ألفت بين الأنصار، بالاضافة الى فكرة الجماعة Community التى يتحلق أفرادها حول شخصية دينية ذات مواهب خاصة. لقد كان لدى الأنصار اذن سبب قوى لقبول محمد صلّى الله عليه وسلم نبيا، وكان لهذا السبب- بلا شك- تأثيره. وبالاضافة لهذا، فقد كانت الأمراض الاجتماعية فى يثرب ذوات جذور دينية. فالنظرة البدوية التى يشارك فيها الأوس والخزرج تجعل معنى الحياة يكمن فى الشرف وشجاعة القبيلة أو العشيرة. وتتحقق مثل هذه الفكرة كأفضل ما يكون فى الجماعة الصغيرة المتماسكة نسبيا. انها لا تنطبق على الواحدة الكبيرة كالأنصار (يقصد اذا نظرنا للأنصار كواحدة كبيرة واحدة) ، ففى هذه الواحدة الكبيرة ليس من الضرورى أن يكون لكل فرد فيها ارتباطات خارج المجموعة الكبيرة (الأنصار) . فالحياة البدوية لا تدعم روح التضامن الا فى نطاق المجموعات الصغيرة. وبالاضافة لذلك، ففى يثرب لم يكن هناك ما يدعو للفخر- الا قليلا- فى هذا القتال المرير الذى استمر فترة طويلة.   (13) أوردنا الاية ورقمها بالمتن. Welhausen ,Op.cit. 34. 55 f. 59 -62. (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ويبدو أن عبد الله بن أبى حاول أن يتخذ موقفا حياديا فى معركة بعاث أو على الأقل لم يشارك فيها، وربما دل هذا على مرض عضال اعترى نفسه نتيجة الثارات والعداوات التى لا نهاية لها. وبالنسبة لهذه المشكلة الدينية- ان جاز لنا وصفها بهذا الوصف- كان لدى الاسلام الحل. انه عقيدة تشير لليوم الاخر وهو ما يعنى أن معنى الحياة يظهر فى نوعية سلوك الفرد. هذه الفكرة قابلة لأن تصبح أساسا يقوم عليه مجتمع كبير، لأنها ان تم قبولها فمعناها أنه لم يعد مكسب انسان مؤديا الى خسارة اخر.anothers Loss One mans gain no longer entails والذى لا شك فيه، أن الأنصار كان لديهم بعض التحقق من هذه المضامين عندما قبلوا بالدين الاسلامى، لكن غالبهم- كما نفترض- قد أصبحوا مسلمين لايمانهم بأن الاسلام هو الدين الحق. أو بتعبير أوضح لايمانهم بأن الله سبحانه أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلم برسالة الى العرب. (المترجم: الاسلام دين عالمى النزعة، كما كررنا مرارا، لكن السياق هنا يعنى أنه بعد انتهاء المرحلة القرشية «المكية» انتقل الاسلام الى مرحلة أخرى «المرحلة المدنية» ) . (ب) بيعتا العقبة، الأولى والثانية تسجل الروايات مزاعم متعلقة بفردين من الأوس قتلا قبل معركة بعاث وكانا على الاسلام، أى أنهما قتلا كمسلمين. وعلى أية حال، فان أول المسلمين المعروفين بشكل محدد (المقصود أول المسلمين من المدينة) كانوا ستة رجال من الخزرج قدموا الى محمد صلّى الله عليه وسلم، ربما فى سنة 620 م، وفى موسم حج سنة 621 م عاد خمسة أو الستة جميعا وقد صحبوا معهم سبعة اخرين، منهم اثنان من الأوس. ويقال ان هؤلاء الاثنى عشر رجلا تعهدوا بترك المعاصى المختلفة وتعهدوا بطاعة النبى صلّى الله عليه وسلم. وعرفت بيعتهم هذه ببيعة النساء «15» . وأرسل محمد صلّى الله عليه وسلم معهم الى المدينة مصعب بن عمير المسلم الصادق، والمجيد لحفظ ايات القران الكريم.   Buhl ,Muhammad ,186 ,n. 147. (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وخلال العام التالى، كان فى كل اسرة من اسر المدينة مسلمون، فيما عدا أسر قسم من الأوس كان معروفا باسم أوس مناة أو أوس اللات. وفى موسم حج سنة 622 م، ذهب الى مكة 73 رجلا وامرأتان وقابلوا محمدا صلّى الله عليه وسلم سرا فى الليل عند العقبة وعاهدوه لا على الطاعة فقط وانما على الجهاد معه أيضا، فكانت تلك هى بيعة الحرب. وحضر هذه البيعة العباس عم النبى صلّى الله عليه وسلم ليبين أن هاشما لم تتخل عن محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن المسئولية عن سلامته قد انتقلت للأوس والخزرج. وطلب محمد صلّى الله عليه وسلم من هذا الوفد تعيين اثنى عشر نقيبا (ممثلا) وتم ذلك بالفعل، وسمعت قريش عن هذه المفاوضات التى بدت لهم عدائية وسألوا عنها بعض وثنيى المدينة الذين أجابوهم بحسن نية- نظرا لعدم علمهم بها- أنه لا صحة لوجود مثل هذه المفاوضات. وبدأ محمد الان يشجع أتباعه على الذهاب للمدينة، بل انه ليقال ان أبا سلمة قد ذهب للمدينة حتى قبل بيعة العقبة وأخيرا وصل المدينة سبعون مسلما، بمن فيهم محمد صلّى الله عليه وسلم نفسه، وكلمة الهجرة التى ارتبطت بهذا الحدث يقابلها بالانجليزية الكلمة المنقولة من العربية حرفا حرفا، Hijrah أما كلمة flight وتعنى الفرار فليست ترجمة دقيقة، ويتم اعتبار هجرة النبى التى بدأت فى 16 يوليو 622 م بدا للتاريخ الهجرى أو بداية الحقبة الاسلامية «16» ، وقد وقع هذا الاختيار فيما بعد (فى وقت لاحق) . وقد حفظ لنا الطبرى رواية عروة بن الزبير التى يمكن مقارنتها بما ذكرناه انفا، فرواية عروة من الروايات المبكرة، وفيما يلى نص ما أورده الطبرى «17» : «وحدثنى على بن نصر بن على، وعبد الوارث بن عبد الصمد ابن عبد الوارث- قال على بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثنى أبى- قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا   (16) الطبرى، 1207- 1222، ابن هشام، 286- 325. (17) الطبرى، 1224- 1225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 هشام بن عروة، عن عروة، انه قال: لما رجع من أرض الحبشة من رجع منها ممن كان هاجر اليها قبل هجرة النبى صلّى الله عليه وسلم الى المدينة، جعل أهل الاسلام يزدادون ويكثرون، وانه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الاسلام، فطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت ذلك قريش تذامرت على أن يفتنوهم، ويشتدوا عليهم، فأخذوهم وحرصوا على أن يفتنوهم فأصابهم جهد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، وكانت فتنتين: فتنة أخرجت من خرج الى أرض الحبشة، حين أمرهم بها، وأذن لهم فى الخروج اليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم انه جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبا، رؤوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم، على أنا منك وأنت منا، وعلى أنه من جاء من أصحابك أو جئتنا فانا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج الى المدينة؛ وهى الفتنة التى أخرج فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه وخرج، وهى التى أنزل الله عز وجل فيها: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) » *. وعندما ننظر الى رواية عروة لا بد أن نضع فى اعتبارنا أنه ينتمى الى أسرة الزبير التى كانت معادية لبنى أمية، وأن تراث أسرته كان بالتالى يميل الى المبالغة فى الاضطهاد وتأثيره على مسيرة الأحداث؛ نظرا لأن بنى أمية كانوا مشاركين وبعمق فى المعارضة ضد محمد صلّى الله عليه وسلم. ومن هنا فان الدوافع التى ذكرها عروة لا يمكن اعتبارها رواية متوازنة، فالاية القرانية التى استشهد بها تعود لحقبة مدنية متأخرة «18» ؛ وبالتالى فليس يصلح الاستشهاد بها هنا. واغفال عروة لذكر بيعتى العقبة قد يكون وراء ميل بعض الباحثين الغربيين الى القول بأنه لم تكن هناك الا بيعة واحدة. والأرضية التى   * استخرجنا النص من الطبعة المتاحة لنا (بيروت، دار الكتب العلمية) ج 1، ص 564. Bell ,translation of Quran. (18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 انطلقوا منها فى ذلك هو أن العهد الذى قطعوه للرسول فى الاجتماع الأول- وهو المعروف ببيعة النساء- قائم على نص قرانى «19» . (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)) السورة رقم 60 (الممتحنة) . لكن حتى اذا كان هذا هو المعنى الدقيق للبيعة- أى كما ورد بالاية- فليس هناك ما يمنع من وجود بيعة أخرى (ثانية) . بل العكس، فانه من الواضح أنه لا بد أن تكون هناك مفاوضات طويلة ودقيقة بين محمد صلّى الله عليه وسلم وأهل المدينة. فعندما أرسل الرسول مصعبا لم يكن ذلك فقط ليعلم المسلمين الجدد دينهم، وانما أيضا ليرسل للرسول تقارير عن الوضع هناك (فى المدينة) . وعلى هذا قد يكون من المقبول أن نوافق على هذه الرواية، فالاتصالات (أو الاتفاقات) الفعالة الأولى كانت مع الخزرج؛ لكن محمدا صلّى الله عليه وسلم اصر على مقابلة مزيد من ممثلى الجماعات من أهل المدينة؛ لأنه لم يكن ليأمن على نفسه ان هو اعتمد على عشيرة واحدة من بين العشائر المتنافسة دون العشائر الاخرى. ولا بد أن التفاصيل الدقيقة- على أية حال- قد تم تناولها فى هذا الاجتماع (البيعة) ، ولا بد أن اتفاقية قد عقدت بين محمد صلّى الله عليه وسلم وأهل المدينة تضمنت بعض المعلومات عن نبوة محمد (رغم أن هذه المعلومات قد تكون أقل- بلا شك- مما أصبح معروفا بعد صلح الحديبية) . ومرة أخرى، ففى سياق بيعة العقبة الثانية وهى البيعة الرئيسية (الاجتماع الرئيسى) كانت هناك تفاصيل محل بحث، لكن الخطوط الدينية أو الأفكار العامة كانت محل قبول بصرف النظر عن التفاصيل. وربما كانت الاشارة الى موقف العباس عم النبى اشارة يمكننا رفضها؛   Buhl ,Muhammad ,186. (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 باعتبارها وضعت بعد ذلك لشجب المعاملة السيئة التى لاقاها الرسول صلّى الله عليه وسلم من بنى هاشم فى هذا الوقت. وعند عودة الرسول صلّى الله عليه وسلم من الطائف دخل فى جوار (حمايه) زعيم عشيرة نوفل ونظرا لعدم وجود ايه اشاره فى المصادر تفيد تغير هذا الوضع، فمن المؤكد انه ظل تحت حمايه بنى نوفل وليس تحت حماية عشيرته. فاذا قيل ان حكايه العباس عم النبى وتوثقه من حماية أهل المدينة لمحمد صلّى الله عليه وسلم جائزة حتى لو كان العباس لم يسلم- فان هذا قول غير صحيح، والرواية المنسوبة الى وهب بن منبه والتى حفظتها لنا أوراق البردى «20» تميل الى تأكيد الرأى المذكور انفا. ففى رواية وهب امتدح العباس محمدا صلّى الله عليه وسلم مدحا عظيما، الا أن أهل المدينة زادوا فى مدحه ليروه أنهم أكثر حبا لمحمد صلّى الله عليه وسلم منه، وأكثر تقديرا له منه. والانطباع الذى نخرج به من هذه الرواية أنها رد على دعاية العباسيين الذين أقاموا الدولة العباسية بعد ذلك (بعد سقوط الدولة الأموية) ، وبصرف النظر تماما عن رواية وهب هذه (التى تثير فى حد ذاتها بعض الأسئلة الصعبة) فان الغرض الذى يكاد يكون مرضيا، هو أن حكاية زيارة العباس للعقبة ما هى الا مجرد اختراع (تلفيق) صرف من وضع أبواق الدعاية العباسية. وثمة بعض الصعوبات الاخرى فيما يتعلق بتعيين الاثنى عشر نقيبا لأن المهام المنوطة بهم غير واضحة، ويظن الباحثون الغربيون أن ما يتعلق بهؤلاء النقباء موضوع بعد ذلك لتشبيه محمد صلّى الله عليه وسلم بموسى وعيسى عليهما السلام (فكما كان لكل منهما نقباء، فلم لا يكون لمحمد صلّى الله عليه وسلم نقباء أيضا؟!) . ففى رواية وهب بن منبه نجد واحدا من أهل المدينة يبايع محمدا صلّى الله عليه وسلم بالمصطلحات نفسها التى بايع بها نقباء قبيلة اسرائيل، موسى (عليه السلام) ، وواحد اخر يستخدم فى مبايعته المصطلحات نفسها التى استخدمها الحواريون فى مبايعة عيسى ابن مريم «21» وعلى أية حال، فان الرواية التى تشير الى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم أصبح نقيبا لبنى النجار عندما مات ممثلهم (نقيبهم) الأصلى تبين أن الشك فى رواية النقباء هذه لا أساس   (20) G.Melamede, The meetings at Al- kaba, in le monde Orienale.xxviii.1939.pp.17- 58. (21) السورة Melamede ,Op.Cit. ,p. 4..15 /5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 له، كما أنه لا مجال- بالتالى- للقول بمحاكاة أقوالهم لنقباء بنى اسرائيل أو حواريى المسيح. والاحتمال الأرجح هو أن يكون نظام النقباء كان جزا من النظام الأولى أو الأساسى للمجتمع الجديد أو الأمة الجديدة فى المدينة، وأنه سرعان ما دخل فى طوايا النسيان أولم يعد مستخدما. ومن ناحية أخرى، فان النقطة الاساسية حول هذا اللقاء أو الاجتماع (البيعة) ، وهى الحرب (الجهاد) ، غير واضحة فالى أى مدى ذهب المبايعون فى وعدهم بالحرب* واستمرارهم فيها فى حالة حدوثها، ولا بد أن أهل المدينة قد وافقوا أيضا على استقبال المهاجرين من مكة بشروط ودودة. وما هو غير واضح هو الى أى مدى قيد أهل المدينة أنفسهم بمعاداة قريش. والذى لا شك فيه أن تزايد قوة مكة أمر غير مؤكد، كما أن الحقيقة التى مؤداها أن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يكن شخصا مرغوبا فيه فى مكة Persona non grata تجعلنا نتأكد أنه من المحال أن يستخدم أى محمد- لمد نفوذ مكة. لكن أكان الترحيب بمحمد صلّى الله عليه وسلم فى المدينة والتخلى له عن النفوذ فيها بمثابة القاء القفاز فى وجه أهل مكة؟ (المقصود أكان ذلك بمثابة اعلان للحرب على أهل مكة؟) . ان الاجابة عن هذا السؤال مرتبطة بالاجابة عن أسئلة أخرى. ماذا أعد محمد صلّى الله عليه وسلم من خطط لأصحابه بعد ذهابهم للمدينة؟ وكيف كانت طبيعة وجودهم فى المدينة كما اقترحها عليهم؟ انه لا يستطيع أن يجعلهم ضيوفا عاطلين بشكل دائم على أهل المدينة، ولم يكن يكاد يتوقع منهم أن يقيموا فى المدينة ويعملوا كفلاحين. انهم فى المدينة لا يستطيعون العيش الا كتجار يرسلون القوافل، أو ينظمون أنفسهم لشن الغارات على قوافل أهل مكة. وحتى اذا كان الخيار الأول هو القائم أو هو الخطة الأصلية (مع قلة الشواهد على ذلك) ، أليس هذا مؤديا لقيام عداوة ضارية مع قريش؟ وأ لم يكن محمد صلّى الله عليه وسلم يتوقع ذلك؟! وباختصار، فلا بد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان على يقين من أن هجرته الى المدينة ستؤدى عاجلا أم أجلا للحرب مع   * عن هذه النقطة (وهى الحرب مع الرسول) يقول ابن هشام ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال لوفد يثرب: أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم فبايعوه على ذلك وأضافوا أنهم يبايعونه على هلاك الأموال وقتل الأشراف والاحتمال فى كل الأحوال (ابن هشام: ج 1 ص 475- 476. (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أهل مكة. الى أى مدى أخبر محمد أهل المدينة بذلك؟ وبأية طريقة صاغ لهم هذا؟ والى أى مدى كان أهل المدينة واثقين من أنفسهم «22» ؟ وقد عبر كيتانى «23» Caetani عن وجهة النظر التى مؤداها أن أهل المدينة قد قبلوا محمدا ككاهن أعلى Superior Soothsayer لمجرد أنهم كانوا راغبين فى استتباب سلام داخلى فى المدينة، وليس لقبولهم كل تعاليم القران الكريم، على الأقل بالمعنى المقصود، ويظن كيتانى أن عدد المتحولين للاسلام تحولا صحيحا كان قليلا. وهذه النظرة تؤكد فعلا العوامل المادية (كما فعل ابن اسحق حقا) لكن ليس من الضرورى أن نقلل من شأن العوامل الدينية أو الأيديولوجية، فالعوامل المادية من ناحية والعوامل الدينية من ناحية أخرى ليس من الضرورى أن تكونا متعارضتين، بل انهما متكاملتان. وقد نتفق على أن الانقسام الأساسى فى المدينة كان بين أولئك الراغبين فى حضور محمد صلّى الله عليه وسلم للمدينة، وأولئك المعارضين لحضوره، وأن التحول للاسلام لم يكن يعنى التحول النهائى، وانما كان مرهونا بالنجاحات السياسية التى سيحرزها محمد صلّى الله عليه وسلم (المترجم: هذا التعبير لا يزيد عن كونه: نجاح دعوته) . ومن الممكن أيضا أن يكون أهل المدينة كما افترض كيتانى قد فسروا الأفكار اليهودية والمسيحية الواردة فى القران وفقا لمصطلحات وثنية عربية، وبالتالى لم يفهموها على حقيقتها. ومع هذا، فلا بد أن نصدق أن جمهور أهل المدينة الذين آمنوا بمحمد رسولا قد فهموا فحوى الاسلام وجوهره ومبادئه وقبلوها: لقد آمنوا بأن الله هو الخالق، وهو المهيمن على الكون، وهو الحكم العدل يوم القيامة وآمنوا أن محمدا هو حامل رسالة الله الى العرب (المترجم: سبق أن أوضحنا أن هذا لا يعنى أن الاسلام لم ينزل للناس كافة، وانما المؤلف يتعامل مع مراحل: المرحلة القرشية، والمرحلة العربية.. الخ) . لقد كان المسلمون يوجدون مجتمعا من نوع جديد فى المدينة، وهذا يتطلب أسسا أيديولوجية واضحة ومحددة. وبالنسبة لأهل المدينة   (22) ابن هشام، 313. Studi ,iii ,27 -36. (23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المسلمين، فان قلة منهم كانت تمتلك يقينا دينيا متحمسا، وكان غائبهم بالضرورة- مقتنعين اقتناعا كافيا بحقيقة العلاقات الدينية، وربطوا ذلك بتجربة قيام مجتمع على أسس من الروابط الدينية بدلا من الروابط العرقية. 5- هجرة النبى صلّى الله عليه وسلم الى المدينة أما وقد بايع أهل المدينة محمدا على دعمه وتأييده، فانه لم يضيع وقتا فشرع فى تنفيد خططه. لقد ظلت البيعة سرية وكان لا بد من انجاز أكبر قدر ممكن قبل القيام بأعمال واضحة صريحة تعطى لأعداء محمد صلّى الله عليه وسلم دلالات على ما يريد عمله. وعلى هذا، فقد أمر أتباعه بمغادرة مكة الى المدينة، ورواية ابن اسحق «24» توضح أن دوافع النبى صلّى الله عليه وسلم وأصحابه لذلك كانت هى امكانية ازدهار الحركة فى المدينة، أما قول عروة بن الزبير أنهم هاجروا للمدينة هربا من الاضطهاد، فالتركيز على ذلك يعطى انطباعا خاطئا. فلم تكن هناك سلسلة جديدة متواصلة من الاضطهاد قبل الهجرة، اللهم الا اذا استثنينا من ذلك حالة أبى سلمة «25» ، والاهانات التى لاقاها محمد صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، لكن ربما تحركت نوازع الاضطهاد بعد ذلك عندما تحقق زعماء قريش مما سيفعله محمد صلّى الله عليه وسلم. وفى ظل هذه الظروف، يمكننا أن نفترض أن توجيهات محمد صلّى الله عليه وسلم لأصحابه كانت حثا وتشجيعا ونصحا وليست أوامر. فقد بقى فى مكة نعيم النحام وكان مسلما بارزا، وبقى اخرون، ولم يكن ذلك يعنى ارتدادهم عن الاسلام «26» وقد أشار القران الكريم الى ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى   (24) ابن هشام، 314، 316 وما بعدها. (25) ابن هشام، 314 وما بعدها. Caetani.Ann ,p. 364. (26) وقد أشار القران الكريم الى ذلك فى السورة رقم 8 (الأنفال) ، الاية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)) السورة 8 (الأنفال) . لقد كانت هذه الموجة الأولى المهاجرة تتكون فيما يقال من حوالى سبعين شخصا، رحلوا فى مجموعات صغيرة ووصلوا الى المدينة بأمان، وقدم لهم أهل المدينة المأوى «27» . وأخيرا- وفقا للرواية المتداولة- لم يبق مع محمد صلّى الله عليه وسلم فى مكة سوى على وأبى بكر (رضى الله عنهما) ، وربما ترجع أسباب محمد صلّى الله عليه وسلم لانتظاره حتى وصول غالبية أتباعه الى المدينة، الى رغبته فى التأكد من أن المترددين لم يمنعهم ترددهم من اكمال الشوط، وليتأكد من أنه سيكون فى موقف قوى ومستقل وألا يكتفى بالاعتماد على مسلمى المدينة وحدهم عندما يصل الى المدينة. وفى هذه الأثناء، كان زعماء قريش على وعى بأن شيئا ما يجرى فعقدوا اجتماعا ووافقوا- بعد بعض المناقشات- على خطة أبى جهل أن يكونوا مجموعة من الشباب، من كل قبيلة شاب، فينهالوا على محمد صلّى الله عليه وسلم بسيوفهم فى وقت واحد فيتفرق دمه بين القبائل، أى تشارك كل القبائل فى قتله، فلا يمكن تحديد قاتل بعينه «28» . والجدير بالملاحظة أن عشيرة نوفل كانت ممثلة فى هذا الاجتماع؛ اذ حضر عنها طعيمة Tuaymah بن عدى، وجبير بن مطعم، والأول هو أخو الرجل الذى سبق أن قدم الحماية (الجوار) لمحمد عند عودته من الطائف، والثانى ابنه. أكان هذا الرجل (المطعم بن عدى) قد مات أم فضل البقاء بعيدا عن الأحداث؟ لا ندرى. أما القبائل الاخرى التى شاركت فى هذا الاجتماع فهى: عبد شمس، وعبد الدار، وأسد، ومخزوم، وسهم، وجمح، وهى فى الحقيقة مكونة من المجموعتين (ب) و (ج) فى القائمة التى وردت فى فصل سابق. والذى يبدو أنه ليس من سبب يجعلنا ننكر عقد مثل هذا الاجتماع، ان الذين حضروه- كما يقول ابن اسحق- قد   Ibid ,p. 365. (27) (28) ابن هشام، 323 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 تحققوا- أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان يخطط لنشاطات معادية لهم. ومن ناحية أخرى، فان توالى الأحداث وضح أنه لم يكن هناك محاولة تتسم بالتصميم على قتل محمد، وعلى هذا فالاتفاق الذى اتفق عليه زعماء قريش فى هذا الاجتماع كان أقل خطورة مما تؤكده المصادر. وعلى أية حال، فان الخطر المحدق (الخطر وشيك الحدوث) ربما عجل برحيل محمد صلّى الله عليه وسلم (هجرته) . ومن الصعب أن نكون متأكدين من طبيعة هذا الخطر ومداه، فالرواية عن الهجرة بشكل عام تتسم بوجود كثير من الزخارف المقحمة، وحتى المراجع الأولى ربما لا تخلو من الاضافات. ومن الممكن أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلم- بعد الاجتماع الذى عقده زعماء قريش- قد تعرض للازعاج والمضايقة فى مكة، وان كان الخطر الأعظم كما نفهم من تصرفات الرسول كان أثناء الطريق الى المدينة، فالذى لا شك فيه أنه كانت هناك مرحلة فى الطريق يفترض أنه ان وصلها أصبح خارج زمام الحماية التى يقدمها له حماته فى مكة، بينما لا يكون قد وصل الى المنطقة التى يكون فيها تحت حماية مسلمى المدينة، اذ كان من الممكن أن يتعرض للقتل فى هذه المنطقة الانتقالية دون أن يتعرض قاتله للقتل ثارا، وربما كان أبو بكر الذى صاحب الرسول فى هجرته فى الوضع نفسه؛ لأن عشيرته- فيما يبدو- قد تخلت عنه «29» . ويروى ابن اسحق أن محمدا صلّى الله عليه وسلم- وقد تأكد أنه لا بد مهاجر- عهد الى على بأن ينام مكانه حتى يظن أهل مكة أنه لازال نائما فى أمان، ثم انسل هو- أى محمد صلّى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر بعيدا عن ملاحظة قريش الى كهف غير بعيد عن مكة الى الجنوب منها، وفى الكهف قضى مع صاحبه يوما أو يومين حتى جاء الخبر من ابن أبى بكر أن قريشا قد كفت عن البحث عن الرسول، فانطلق الرسول وصاحبه ومعهما عتيق أبى بكر واسمه عبد الله بن أرقط *Arqat على الجمال، وفى المرحلة الأولى من   (29) ابن هشام، 245 وما بعدها. * فى السيرة النبوية لابن هشام فى معرض الحديث عن هجرة الرسول: ابن أرقط، وابن أريقط، فكلاهما صحيح. (طبعة مكتبة الايمان، ج 2، ص 88) . (المترجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الرحلة تعمدا المسير فى الممرات النائية بعيدا عن الطرق المطروقة التى لم يسيرا فيها الا بعد أن ابتعدا عن مكة، ووصلا ومعهما عبد الله بن أرقط بسلام الى قباء على حافة الواحة (المدينة) فى 12 ربيع الأول «30» الموافق 24 سبتمبر سنة 622 م. وتؤكد اية مدنية مبكرة قصة الغار (الكهف) : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) السورة رقم 9 (التوبة) . وهناك اية أخرى ربما تشير الى اجتماع قريش، وان كنا غير متأكدين من ذلك، والاية هى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)) السورة 8 (الأنفال) . وبوصول النبى صلّى الله عليه وسلم الى قباء بدأت المرحلة المدنية، وهى المرحلة الثانية التى باشر فيها الرسول مهمته. 6- حصاد الحقبة المكية كان ظهور الدين الجديد (الاسلام) هو الانجاز الكبير فى الحقبة المكية، فالخطوط العريضة أو المفاهيم الأساسية لهذا الدين- يمكن أن يقال- انها اكتملت فى وقت الهجرة. وان كانت معظم مؤسساته لازالت فى حالة لم تتطور فيها بعد. فالصلوات المفروضة لم تكن قد تحددت بشكل نهائى رغم أنها- بلا شك- عرفت فى المرحلة المكية. ومن ناحية   (30) ابن هشام، 325- 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أخرى، فيبدو أن صلاة الليل كانت الى حد كبير منتشرة (رائجة) «31» . وكانت بقية أركان الاسلام فى هذه الحقبة معروفة، وهى: الصيام وايتاه الزكاة والشهادتان والحج، وان كانت أقل تطورا الى حد ما مما حدث بعد ذلك. بل لقد شهدت الحقبة المكية الماما بالأفكار الأساسية عن الله سبحانه واليوم الاخر والجنة والنار، وارسال الله سبحانه للرسل. ويناقش بعض الباحثين الغربيين مدى صحة الروايات عن غالبية المتحولين الى الاسلام، ومالوا الى التأكيد على أن معظم المتحولين كانت دوافعهم فى الأساس مادية. وهذه مسألة من الافضل ألا نأخذ بها مادامت الأفكار الاسلامية تعتبر غريبة بالنسبة للغرب (يقصد أن الغربيين لم يفهموا روح الاسلام) . ربما كان صحيحا أنه كان هناك تحول قليل، وقليل من التقوى الحقيقية بالمفهوم السائد فى الغرب، لكن هذا يرجع الى أن الأفكار الغربية لا يمكن تطبيقها على مظاهر الدين فى الشرق الأدنى. أما بالنسبة للمقاييس السائدة فى الشرق الأدنى فربما كان التحول (للاسلام) والتقوى أمرين صحيحين، فربما كان الاعلان عن الاسلام (دخول الاسلام) يعنى أمرا مهما بالنسبة للعربى فى ذلك الوقت، أكثر بكثير مما يعنيه لدى الغربى فى أيامنا هذه. فالدوافع المادية غير بعيدة عن الدوافع الدينية وربما كانتا متكاملتين. حقا، ان الأفكار الدينية من الضرورى أن تجعل البشر واعين بأوضاعهم العامة ككل وواعين بأهداف نشاطاتهم (أعمالهم) ، ففى حركة التفكير الدينى مع الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية يجعلها- أى الحركة- واعية بذاتها. وهذه الفكرة (عدم انفصال الدين عن الدنيا) غالبا- وربما دائما- تعد حقيقة واقعة فى الشرق الأدنى. انها فكرة يراها الغرب غريبة. فغربة هذه الأفكار بالنسبة للغرب- على أية حال- لا يجب أن تعمى بصائرنا عن الحقيقة التى مؤداها أن الجوانب الدينية فى الاسلام كانت دائما مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجوانب الاخرى.   (31) كما تشير سورة المزمل (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) ..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ولأن هذا الدين الجديد قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمعات غير البدوية فى غرب شبه الجزيرة العربية، فقد كان قادرا على احداث تغيير اجتماعى عميق. ففى مكة والمدينة كانت الأخلاق البدوية والنظرة البدوية- على أية حال- مناسبة تماما للظروف البدوية التى ثبت انها غير صالحة لاقامة مجتمعات مستقرة. وفى مكة ربما كانت المشكلة الرئيسية متمثلة فى الفردية الأنانية، أما فى المدينة فقد كانت الحاجة الى قيام سلطة عليا تفرض العدل هى الأكثر وضوحا. وبمعنى من المعانى، فان انجاز الاسلام العظيم هو مواءمة الأخلاق البدوية لتصبح صالحة للمجتمعات المستقرة، وكان مفتاح ذلك هو وضع مبدأ جديد لتنظيم المجتمع. وحتى اليوم فان رابطة المجتمع اعتبرت هى رابطة الدم، لكن هذه الرابطة الأخيرة تعتبر ضعيفة جدا فى حالة المجموعات أو الجماعات الأكبر، فالأصل المشترك للأوس والخزرج لم يمنع الثارات المريرة بينهما، كما أن الولاء للمجموعة برهن على أنه وازع غير كاف للسلوك طالما أن النزعة الفردية فى حالة نمو. من الصعب أن نصيغ هذا المبدأ الجديد الذى أدخله الاسلام بشكل محكم، لكن نواة هذا المبدأ هى فكرة (النبى) كمحور لتكامل المجتمع. ان الواحدة الاجتماعية الجديدة قد تضم عشائر مختلفة (قد تكون ذوات قرابة بعضها ببعضها الاخر أولا) ، لكنها تترابط معا بمقتضى الحقيقة التى مؤداها أن النبى قد أرسل لهم جميعا. وعلى هذا، فان أفراد المجتمع يقع عليهم اطاعة أوامر الله لهم كما أوحاها الى نبيه. وعلى هذا وجد مبدأ التضامن ومبدأ السلطة العليا التى تعلو فوق الجماعات المتنافسة، أعنى النبى صلّى الله عليه وسلم أو- كما يمكننا أن نقول- كلمة الله. وتطور هذه الفكرة الجديدة يظهر واضحا فى القران الكريم، بازدياد استخدام كلمة (أمة) فى الايات التى نزلت فى فترة متأخرة. خاصة فى سياق الحديث عن اليوم الاخر، حيث يبعث الله كل أمة ويحاسبها وهذا لا يمنع من أن يلقى كل (فرد) جزاءه من ثواب أو عقاب وفقا لما يستحقه، وأشار القران الكريم الى (أمم) لم تصدق أنبياءها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)) السورة 27 (النمل) . وتضاد كلمة (أمة) كلمة (قوم) التى تعنى قبيلة tribe of people التى تشير الى مجموعة لا تربطها سوى صلة الدم. واستخدام كلمة (أمة) كوصف رسمى فى (دستور المدينة) «32» مسألة جديرة بالملاحظة، فالمؤمنون من قريش ويثرب ومن امن معهم هم جميعا أمة واحدة. ولا شك أن هذه المعانى والأفكار لم تتبلور تبلورا تاما الا بعد الهجرة بفترة، لكن لا بد أنها كانت حاضرة فى حالتها الجنينية عندما بدأ محمد صلّى الله عليه وسلم مفاوضاته مع رجال المدينة (بيعتى العقبة) ، فلا بد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان واعيا بأفكار ومعان (أيديولوجية) يمكن تطويرها لتكون أساسا لحركة التوسع العربى العظيمة، وهذا يعد مقياسا لاتساع ادراكه لحاجات عصره، وعظمة انجازاته خلال الحقبة المكية.   (32) ابن هشام، 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الملاحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الملحق (أ) الأحابيش لم يدعم هـ. لامانس H.Lammens وجهة نظره الساخرة فى مقاله عن «الأحابيش) والتنظيم العسكرى فى مكة ... » «1» بالمصادر. فقد رأى لامانس أن أهل مكة المناوئين لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) قد كفوا عن ولعهم بحربه، وأنهم كانوا فى شئونهم العسكرية يعتمدون بصفة رئيسية على قوات الأحابيش المكونة من عبيد من الحبشة ومن الزنوج، أما العمود الفقرى لهذه القوات فمن بدو يحملون رماحا كانوا أفضل قليلا من قطاع الطرق. وهناك الكثير مما هو صحيح فى أقوال لامانس، خاصة تأكيده على أن الأحابيش لم يكونوا مجرد «حلفاء «Confederates» «كما ذهب الى ذلك فلهوزن.Wellhausen وعلى أية حال، فقد غالى لامانس لسوء الحظ- فى الاتجاه المناقض لما ذهب اليه فلهوزن، وكانت معالجته للمصادر معالجة غير علمية، فقد رفضها ورضى أن ينساق وراء أفكاره وأحكامه المسبقة ولم يخضع للمبادئ الموضوعية. ففى عبارة «أحابيش وعبيد أهل مكة» تعتبر (الواو) بين (الأحابيش والعبيد) واوا شارحة   (1) Les Ahabis et lorganisation militaire de la Macque, au siecle dhegire.Arabe, pp.237- 94, journal Asiatique, 1916, pp.423- 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وليست واو اضافة (واو عطف) ، أى أن الأحابيش مرادفة للعبيد، بينما فى عبارة «الأحابيش ومن أطاعهم من قبائل كنانة وأهل تهامة» - والضمير فى أطاعهم عائد لقريش- فان (الواو) فى عبارة «الأحابيش ومن أطاعهم» تضع لنا فاصلا حادا، (أى تعد واو عطف) . لكن لماذا؟ السبب هو أن لامانس يفترض صدق النظرية التى يحاول اثباتها. ولكى نصل الى نظرة أكثر حيادا، سيكون من المفيد أن نتعرض أولا للمصادر التى تناولت الأحابيش (ابن هشام والواقدى والطبرى) . (أ) ففى سياق خروج أبى بكر الصديق من مكة وطلبه الحماية من ابن الدغنة (أو ابن الدغينة) يقال ان ابن الدغنة الذى كان من بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة، كان فى ذلك الوقت هو «سيد الأحابيش ... والأحابيش هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة والهون ابن خزيمة بن مدركة وبنو المصطلق بن خزاعة» «2» . أما سبب تسميتهم بالأحابيش، فهو أنهم «تحالفوا» فى واد اسمه وادى أحبش. «3» Ahbash (ب) .. وعندما فعل أبو سفيان وشركاؤه فى القافلة ذلك (دفعوا مالا) وافقت قريش أن تحارب رسول الله بأحابيشهم ومن أطاعهم- أى أطاع قريشا- من قبائل كنانة وأهل تهامة «4» . وفى كتاب المغازى للواقدى، ص 199 «ومن تبعنا من الأحابيش» ، وفى المرجع نفسه، ص 201 أن واحدا من الثلاثة كانوا «من بين الأحابيش» .. وكل هذا فى سياق الحديث عن غزوة أحد. (ج) وفى غزوة أحد «لما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة» «5» . (د) «كان الحليس بن زبان) Zabban فى الطبعة التى بين أيدينا- مكتبة الايمان بالأزهر: زيان بالياء) أخو بنى عبد الحارث بن   (2) ابن هشام، 245. (3) ابن هشام، 246 وهناك قراات أخرى لاسم هذا الوادى. (4) ابن هشام، ص 556 والطبرى، 1384. (5) نفسه، 561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش قد مر بأبى سفيان، وهو يضرب فى شدق حمزة بن عبد المطلب ... » «6» . (هـ) من قصيدة لحسان بن ثابت فى غزوة أحد: جمعتموها أحابيشا بلا حسب ... أئمة الكفر غرتم طواغيها وفى قراءة «بلا عدد» بدلا من «بلا حسب» وفسرت كلمة «حسب» هنا بمعنى «شرف» . والنص على أية حال غير مؤكد، والتفسير أيضا غير مؤكد، ومن هنا فلا قيمة كبيرة يمكن أن نخلص بها من طريقة استخدام الكلمة «7» . (و) وفى قصيدة كعب بن مالك: فجئنا الى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة الاف ونحن نصية ... ثلاث مئين ان كثرنا وأربع «8» والنصية هم خيار القوم. (ز) وفى سياق الحديث عن غزوة الخندق (حصار المدينة المنورة) نقرأ: «ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومه بين الجرف وزغابه فى عشرة الاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وأهل تهامة..» «9» . (ح) وفى الحديبية كان الحليس بن علقمة (أو ابن زبان) هو سيد الأحابيش، وهو من بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة فلما راه   (6) ابن هشام، 582. (7) نفسه، 613. (8) ابن هشام، 614. (9) ابن هشام، 673. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) قال: «ان هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه ... » ، وقد تأثر الحليس بمنظر «الهدى الذى ساقه الرسول» فهدد قريشا بالانضمام الى محمد (صلّى الله عليه وسلم) بمن معه من الأحابيش، اذا لم يسمح أهل مكة لمحمد بزيارة «10» البيت الحرام. (ط) وفى قصيدة الأخزر بن لعط الدؤلى (فى الطبعة التى بين أيدينا من السيرة: «الدعلى» ) نقرأ: ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا ... رددنا بنى كعب بأفوق ناصل حبسناهم فى دارة البعد رافع ... وعند بديل محبسا غير طائل ويفهم من القصيدة أنه لا حرب لأن الأحابيش بعيدون. والقصوى: أنثى الأقصى وهو البعيد. بأفوق ناصل: من قول العرب بأفوق ناصل أى رددته خائبا، والأصل فيه أن الأفوق هو السهم الذى انكسر فوقه أى طرفه الذى يكون من ناحية الوتر، والناصل الذى ذهب نصله أى حديده الذى يكون فيه. ودارة العبد: الدار، والدارة بمعنى واحد «11» . (ى) الأحابيش الذين كانوا فى مكة عندما فتحها محمد صلّى الله عليه وسلم كانوا من بين القليلين الذين قاوموا قوات المسلمين «12» . وبالاضافة لما ذكرناه انفا، يمكن أن نضيف المراجع الاتية للوقائع السابقة على الهجرة. (ك) بعد الوقائع التى أدت لحرب الفجار (بكسر الفاء) ، فان قريشا وقبائل أخرى من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش وهم قبائل: الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل والقارة   (10) ابن هشام، 743، الطبرى 153 وما بعدها، الواقدى، 252 وما بعدها. (11) ابن هشام، 804. (12) المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ودش والمصطلق من خزاعة- بسبب حلفهم مع بنى الحارث بن عبد مناة- ظلوا مستعدين تماما لهذا الصراع «13» . (ل) قبل حربى الفجار، كان حرب بن أمية زعيم قريش فى الحرب مع بكر بن عبد مناة بن كنانة. وكان الأحابيش أثناء هذه الحرب مع بكر الانف ذكره وعقدوا حلفهم هذا على جبل يقال له الحبشى (بحاء مضمومة) ، ضد قريش وترجع تسميتهم بالأحابيش نسبة لهذا الجبل «14» . من خلال ما اقتبسناه انفا من المصادر- وهى مختلفة كثيرا عن المصادر التى رجع اليها لامانس- تبدو النتائج التالية مؤكدة بدرجة معقولة: 1- ليس هناك ما يدعونا للافتراض بأن الأحابيش لم يكونوا عربا، بل ان هناك ما يؤكد أنهم عرب بالفعل. انظر ما أوردناه انفا فى الفقرة (ى) على نحو خاص. واستنتاج لامانس قائم أساسا على أصل الكلمة، لكن القول انها مشتقة من الحبش أو الأحباش نسبة الى الحبشة، ليس هو الاحتمال الوحيد. وهناك الاشتقاق الذى أورده ابن هشام، فقد تكون الأحابيش هى جمع أحبوش أو أحبوشة وتعنى مجموعة رجال ليسوا من قبيلة واحدة. (Lane) وحتى اذا كانت مشتقة من (حبش) ، فان هذا لا يعنى أن الأحابيش كانوا زنوجا فقد يكونون عربا من ناحية ابائهم، مع احتمال أن تكون أمهاتهم زنجيات، ومن هنا كانت بشرتهم داكنة. وعلى هذا فليست هناك أسباب ملزمة للاعتقاد بأن الأحابيش كانوا عبيدا من الحبشة، فهناك أدلة كثيرة لرفض ذلك. 2- لقد كان الأحابيش- بشكل واضح- تنظيما قبليا، فكلمة (سيد) تطلق عادة على زعيم قبلى «15» . وعلى أية حال، فان بعض   (13) الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 1، 81، ج 8، 11. (14) الأزرقى، (تحقيق فستنفلد) ، 71، 14. Lammans ,Berceau ,208. (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 العبارات المستخدمة تشير الى أن الأحابيش لم يكونوا قبيلة بالمفهوم المعتاد أو مجموعة قبائل، كعبارة «أحابيشهم» «16» . فالكلمة فى هذه العبارة تتفق مع المعنى الذى أورده لين Lane للأحبوشة، واذا كان الأمر كذلك فقد يكون الأحابيش مكونين أساسا من رجال غير قبليين أصبحوا متحالفين مع القبائل الوارد ذكرها فى الفقرة (أ) . فهذه القبائل يمكن- بالكاد- أن تعتبر هى الحلفاء المعتادين لقبيلة قريش والتى ربما حاربت جنبا الى جنب مع الاسرات (القبائل) التى ارتبطوا بها. وكان بعض الحلفاء أشخاصا ذوى أهمية فى مكة، مثل الأخنس بن شريق الذى طلب محمد (صلّى الله عليه وسلم) حمايته فى موقف من المواقف. أما عبارة (بلا نسب) «17» - ان كانت صحيحة- فهى تعنى ببساطة- تواضع الأصل (ذوو أصل متواضع) . وحقيقة أن ظهورهم للمرة الأولى كمناوئين لقريش (انظر الفقرة ل) تجعلنا نميل الى التأكيد أنهم كانوا مجموعة ضعيفة تشكل ما يشبه التنظيم القبلى، فى المناطق المجاورة لمكة. 3- وأفعال ابن الدغنة يمكن أن تشير الى وضع خاص له فى مكة، لكن أهميته مغالى فيها فهو لم يكن فى الحقيقة مستعدا للعمل ضد قريش. وفى الفقرتين: (د) و (ح) نجد الحليس يتصرف كزعيم مستقل يتعامل مع قريش على قدم المساواة ومثل هذا التصرف قد يكون كافيا لتوضيح ما اذا كانت العلاقة بين الأحابيش وقريش- مثلا- مثل علاقتها ببنى بكر بن عبد مناة. 4- لقد كان لدى أهل مكة عبيد سود- ربما كان عددهم كبيرا- وقد اشترك هؤلاء العبيد فى المعارك، ويبدو أن بعضهم كانوا يحاربون عن سادتهم (أو فى صف سادتهم) ؛ لكن الفقرة (ج) تشير الى وجود تشكيل عسكرى خاص بهم فى معركة أحد، وهو تنظيم منفصل عن تنظيم الأحابيش. فالعبيد يعيشون فى مكة كما هو مفترض، أما الأحابيش فيعيشون على بعد رحلة قوامها يومان من مكة (الفقرة أ) .   (16) الواقدى، 225 فهناك اشارة الى (أحابيش) سفيان الهذلى. (17) انظر الفقرة (هـ) انفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 5- ولا بد أن نتذكر امكانية الخلط فى بعض الفقرات بين معنى (الاثيوبيين- الأحباش) وهم رجال ليسوا من قبيلة واحدة، و «رجال الأحباش، men or Ahbash «فمثل هذه الاشتقاقات المزعومة، يفترض أنها مرتبطة بمؤرخين حوليين متأخرين- أتوا فى زمن لاحق. 6- مهما يكن أمر الأحابيش، ومهما كان الغموض الدائر حولهم، فلم يكونوا ذوى أهمية كبيرة فى المعارك المذكورة، رغم أن عددهم قد يكون أضاف شيئا للصعوبات التى واجهها المسلمون. فالافتراض الضار (غير الصحيح Wicked (الذى ذهب اليه لامانس بأن قوة مكة كانت قائمة على جيش من العبيد- افتراض لا حقيقة له. فلم يكن تجار مكة الكبار مولعين بالحرب بل لقد كانوا يحاولون تحاشيها، وان كان هذا لا يمنع من اتخاذهم الحيطة لأنفسهم عند الضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الملحق (ب) التوحيد عند العرب والتأثيرات اليهودية المسيحية ظل الكتاب طوال جيل أو جيلين يتسائلون عن مدى امتداد التأثيرات اليهودية والمسيحية على محمد (صلّى الله عليه وسلم) نفسه، وكان الفرض المهم السائد بينهم- مع استثناات بسيطة- أنه لم يكن بين العرب الذين دعاهم* محمد للاسلام «توحيد» . على أية حال، لقد اتضح بشكل متزايد- أن هذا الفرض غير صحيح. فالسور القرانية التى نزلت فى فترة مبكرة، تفترض أن العرب كانوا يعرفون فكرة التوحيد (الايمان باله واحد) وأنها ليست غريبة عليهم، ولا كان القبول بها غريبا عليهم. وثمة أدلة أخرى تنحو الى التأكيد أن الحياة الفكرية فى شبه الجزيرة العربية بشكل عام وفى مكة بشكل خاص قد نفذت اليها فكرة التوحيد (عبادة اله واحد مهيمن. «1» (Supreme being ويقدم لنا مرجليوث D.S.Margoliouth فى مقاله عن أصول الشعر العربى the Origins of Arabic Poetry عددا من الأمثلة عن ورود فكرة التوحيد- كما نادى بها الاسلام بعد ذلك- فى الشعر الجاهلى. حقيقة لقد استخدم مرجليوث ذلك ليدلل به على أن الشعر الجاهلى موضوع (يشكك فى مصداقية نسبة هذا الشعر الى فترة ما قبل الاسلام) ؛ لكن التفسير الأبسط لذلك هو أن القران (الكريم) قدم بدوره   * انظر الملحق رقم (ج) عن الحنقاء. Nicholson ,Lit.His. 139 f. (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فكرة التوحيد. ومرة أخرى نجد أن تورى C.C.Torrey فى كتابه «الأساس اليهودى للاسلام The Jewish foundation of Islam فى مجال سوقه الأدلة لتأكيد فكرته، يقدم الادلة لاثبات العكس، فهو يقول: «ان القران بلغته العربية- كعمل عبقرى يعد انجازا عظيما لرجل عظيم قد قام حقا على أسس كانت سائدة فى شبه الجزيرة العربية (أى اتخذ مادته منها) ، فكل الأسلوب القرانى حتى بما يتضمنه من كلمات أجنبية وأعلام- كان شائعا مألوفا فى مكة قبل ظهوره- أى ظهور القران الكريم» ** «3» . وتورى- الى حد ما- يفكر فى المصطلحات الدينية التى كانت شائعة على السنة اليهود المتحدثين باللغة العربية، لكنه من المؤكد أن كثيرا من هذه المصطلحات كان يستخدمها أيضا العرب الخلص. والان، فان وجود الألفاظ لا بد أن يكون دليلا على وجود الأفكار التى تعبر عنها. على الأقل على نحو أسميه «التوحيد البدائى» أو الفج Vague monotheism وأقصد به التوحيد الذى لا يعبر عنه بممارسات عبادية محددة، والذى لا يكون الوعى فيه كاملا بالفرق بينه وبين الوثنية. وعلى هذا فالعلم الصحيح، وكذلك النزاهة اللاهوتية التى ينبغى أن يتحلى بها المؤرخ تقتضى أن القضية المطروحة عن تأثير الأفكار اليهودية   * من الواضح أن المسلمين وعددا من غير المسلمين يؤمنون أن القران الكريم لا يمكن أن يكون الا من عند الله سبحانه، وقد أورد منتجمرى وات فى كتابه Islamic revelation in the Modern World أن بعض المذاهب المسيحية باتت مقتنعة أن القران الكريم وحى، وذهب وات فى كتابه هذا أن الاسلام هو دين المستقبل. ترجم هذا الكتاب للعربية فى سلسلة الألف كتاب الثانى (الهيئة المصرية العامة للكتاب) . ** العبارة الانجليزية Before he appeared on Scene: والمقصود طبعا كما يفهم المسلمون (قبل نزوله) . JRAS ,1925 ,pp. 417 -49. (3) خاصة 434 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 والمسيحية (وربما غيرهما) على أهل مكة فى القرن السابع للميلاد، وليس على محمد (صلّى الله عليه وسلم) نفسه (بل وأكثر من هذا على القران الكريم) - هذه النزاهة تقتضى منا أن نقول أن هذا التأثير غير مؤكد، كما أنه قضية غير بسيطة، أى لا يمكن اطلاق القول فيها على عواهنه. ووجود هذا التأثير غير المباشر، أو التأثير الناتج عن البيئة المشتركة لا يعنى أن التأثير المباشر يجب انكاره تماما. (المترجمان: تشابه بعض الأفكار فى الأديان الثلاثة يعنى أن لها جميعا مصدرا واحدا هو الله سبحانه، ولا يعنى أن أحد الأديان قد تأثر بالدينين الاخرين، بالمفهوم الدنيوى لكلمة التأثر) . وعلى أية حال، فالافكار لو كانت فى الهواء) in the air أى ليس لها بذور فى البيئة) لما استطاع محمد (صلّى الله عليه وسلم) أن يبلغها بسهولة للعرب (المترجمان: من المفهوم أن الاسلام دين عالمى نزل للعالمين، عرب وغير عرب، وحديث المؤلف هنا عن العرب فقط أمر اقتضاه السياق ولا أكثر) ، لذا فانه يبدو من الأفضل أن نفترض بشكل عام أنه لا بد أن نتعامل مع تأثيرات توحيدية فى بيئة مكة، وأن نفترض فقط أن التأثير المباشر لظهور داعية للتوحيد فى هذه البيئة يعد دليلا جيدا على ذلك. والجانب الرئيسى من هذا الدليل يتمثل فى الاشارة الى معلم يتحدث لغة غير عربية، فى سورة النحل: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) ... » . وتورى Torrey الذى بنى كثيرا من النتائج على هذه النقطة (ص 43 وما بعدها) لاحظ أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) لم ينكر أنه «التقى بمعلم من البشر*، لكنه- أى محمد صلّى الله عليه وسلم- أكد على أنه تلقى تعاليم الاسلام من الله سبحانه» . واذا افترضنا أنه كان لمحمد صلّى الله عليه وسلم مثل هذا المعلم، فسيكون من الطبيعى جدا أن نربطه بشىء يبدو حقيقيا، وبالتحديد علاقة القران   * لا نقر أن الرسول صلّى الله عليه وسلم التقى بمعلم من البشر تلقى عنى أصول الدين وتشريعاته، أما اللقاء العابر ببعض اللاهوتيين دون تلق فهو ممكن- (المراجع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الكريم بالقصص التوراتى وهو أمر ملحوظ فى القران الكريم* (المترجمان: التشابه أو حتى التماثل ناتج عن أن المصدر واحد هو الله   * ويضرب المؤلف أمثلة من القصص القرانى المتشابه مع ما ورد فى العهد القديم (التوراة) كالتالى: (-) السورة 37 (الصافات) : «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (111) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ... الخ) . (-) والسورة 26 (الشعراء) : «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) ... » ففى هذه الايات، والايات السابقة نجد أن المرأة التى لم تنج من العذاب هى امرأة عجوز (فى الغابرين) ، بينما نجد فى ايات أخرى سنوردها فى السطور التالية أن التى لم تنج من العذاب هى زوجة لوط (المترجمان: ليس هناك تناقض بين الايات، فالايات التى ذكرت عجوزا فى الغابرين لم تقل انها زوجته، والايات التى ذكرت أنها زوجته لم تذكر أنها هى العجوز (فى الغابرين) فما المانع أن تكونا شخصيتين منفصلتين، وعلى أية حال نورد الايات التى استشهد بها المؤلف ليؤكد أن زوجة لوط هى التى لم تنج) . (-) السورة 27 (النمل) : «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) » . (-) السورة 7 (الأعراف) : «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) » . (-) السورة 15 (الحجر) : «إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) » . (-) السورة 11 (هود) : « ... فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ.. (81) » . (-) السورة 29 (العنكبوت) : «قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) » . ويواصل المؤلف قوله: «ومرة أخرى فاننا لا نجد فى الاقتباسات الأربعة الأولى أى ادراك للصلة بين ابراهيم (الخليل) ولوط، ومن ناحية أخرى فاننا فى النصوص الثلاثة الأخيرة نلمح ادراكا لهذه الصلة، فالاية الأخيرة مسبوقة باية تشير الى ابراهيم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 سبحانه، ولم يأت الاسلام ليهدم كل أفكار الدينين السابقين وانما ليصحح ما شابهما من فساد فى الأفكار لكثرة تداول النصوص بين اللغات المختلفة، ونسبة بعض الأحبار والرهبان ما يكتبونه الى الله سبحانه..) . والمسلم السنى اذا تقبل هذه الملاحظة- أى وجود تطور بالزيادة فى المعلومات الواردة فى النص القرانى- فربما يذهب مذهب أن الله سبحانه قد صاغ كلمات القران (الكريم) لتكون لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) وأتباعه، وربما بناء على هذا يذهب الى أن هذه القصص كانت معروفة بالفعل للبشر، وأن الله سبحانه يركز على ما بها من عظات وعبر، لكن هذا يتعارض مع الاية الكريمة: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» السورة 11/ هود/ الاية 49.   (-) «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) » / العنكبوت. واية سورة هود مسبوقة باية كريمة تشير الى ابراهيم: «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) » هود. وفى سورة الحجر: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) » . فاذا كان هناك مثل أو مثلان من هذا النوع لأمكن استيعابهما، لكن الحقيقة أن هناك أمثلة كثيرة؛ مما جعل الباحثين الغربيين يجدون صعوبة فى انكار أن معلومات محمد (صلّى الله عليه وسلم) عن هذه القصص كانت فى حالة تطور أو نمو، وعلى هذا خلصوا الى أنه استقى معلوماته من شخص أو أشخاص يعرفهم. (المترجمان: ليس فى مجموعة الايات التى استشهد بها المؤلف ولا فى غيرها ما يفيد تطور معلومات النبى صلّى الله عليه وسلم مادام هناك ايمان يقينى بأنه يتلقى الوحى من الله سبحانه، والقصص القرانى ليس مقصودا فى حد ذاته وانما لما فيه من عظة وعبرة، ومن هنا يرد المضمون بما يتمشى مع الحقيقة التاريخية وجوهر العظة أو العبرة فى الوقت نفسه، ومرة أخرى، فان التشابه بين بعض ما ورد فى العهد القديم (التوراة) وما ورد فى العهد الجديد (الانجيل) لا يعنى أن المسيح عليه السلام نقله من العهد القديم، والقول نفسه ينطبق على القران الكريم. فالتشابه ناتج عن أن المصدر واحد هو الله سبحانه، ثم ان الاسلام أتى ليصحح بعض ما ورد فى الدينين السابقين باعتباره خاتم الأديان، فالقران الكريم لم ينكر كل ما ورد فى الأديان السابقة وانما بعضه، فاتحا ذراعيه لاستقبال كل الداخلين فى رحاب الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 واذا أردنا أن نجمع بين تصديقنا لمحمد صلّى الله عليه وسلم كنبى من ناحية، ووجود مصادر بشرية لمعلوماته، فان أمامنا ثلاثة احتمالات: 1- ان محمدا صلّى الله عليه وسلم خلط بين القصة نفسها و «العظة» الكامنة فيها، ولأن العظة أتته عن طريق الوحى، فقد اعتبر القصة، والعظة، معا وحيا. (المترجمان: نورد الترجمة الأمينة لنعرف كيف يفكر المستشرقون وهذا أمر ضرورى، لكن القارىء الفطن أيا كان دينه يستنكر ذلك فكيف تكون العظة وحيا، والقصة بشرية؟! وبالتالى، فان هذا الفرض غير قائم) . 2- وربما أتته القصة وحيا* بطريقة استشعارية. 3- وربما كانت الترجمات التى بين أيدينا للقران الكريم غير دقيقة خاصة كلمة (نوحى) التى تعنى ايصال المعلومات بالوحى، فقد تعنى أيضا معنى مختلفا اختلافا يسيرا عن ذلك مثل (افهام العظة أو العبرة أو التعاليم الكامنة فى هذه القصة أو بيان معناها) ، وربما كمنت الحقيقة بين الاحتمالين الأول والثالث. فالقصص القرانى دائما يتم الاخبار به انطلاقا من نقطة بعينها، ويتم الاخبار به مرة أخرى بطريقة فيها تلميح أكثر more allusive وبطريقة أكثر ايجازا.elliptic fassion فعلى سبيل المثال، فهذا القصص يبين كيف أن المناوئين للنبى الذين يرفضون رسالته سينطبق عليهم فى النهاية أسوأ ما فى القصة، وكيف سيتم خلاص المؤمنين. وأيضا، فان هذا القصص القرانى ككل ربما يحمل معانى أبعد، وهو أن يوضح للعقلية العربية الواعية بالأنساب أن هذه الحركة الجديدة (الاسلام) لها أجداد (لها أصول) روحيون مشرفون. ليست هناك صعوبة كبيرة فى القول أن الشكل المحكم لهذه القصص ومعناها البعيد ومقاصدها التى تقصد اليها، قد وصلت لمحمد (صلّى الله عليه وسلم) عن طريق الوحى، وليس نتيجة اتصاله بمصدر بشرى مزعوم.   * النص: The stories may have come to him by Some Supernomral method of a telepathic character وهى تفيد الوحى ولكن بأسلوب علمانى: بوسيلة فوقية أو فوق طبيعية، وفقا لشخصيته التليباثية (التى تستشعر عن بعد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 tnamrofni degella sih fo noitac -inummoc eht morf ton dna noitalever yb dammahuM ot emaC seirots eht fo ecnacitingis roiretlu eht dna tniop eht ,morf esicerp eht taht gnimialc ni ytluciffid taerg on si erehT فالارتباك الذى تسببه مثل هذه الايات لأولئك الراغبين فى التشكيك فى صدق محمد (صلّى الله عليه وسلم) ، لا يجب أن يصرف الانتباه عن الأهمية الضئيلة نسبيا للرسالة التى يريد أن يبلغها لهم أحد المواحدين. فمحمد (صلّى الله عليه وسلم) والمسلمون كانوا مهتمين بالأنبياء الأوائل السابقين عليه (أى على محمد صلّى الله عليه وسلم) (وكانوا- من المحتمل- يحاولون تحصيل مزيد من المعلومات عنهم) ؛ لأن ذلك- من ناحية- يعطيهم مزيدا من التشجيع والسلوى، ولأن- وهذا هو الأساس- ذلك يعد بمثابة فخر بالأجداد (من قبيل فخر الانسان بمزايا أجداده) ، وقبل كل ذلك لأن الرسالة الأساسية للقران (الكريم) كانت بالفعل متغلغلة فى مجتمع مكة، فتفاعل الشكل القرانى المحكم (الدقيق (Precise مع الوضع المعاصر له (القائم فعلا) والذى لم يكن ينقصه سوى دعوة نبى (النص: حدس النبوة. (Prophetic intuition ما أخبر يهودى أو مسيحيي محمدا أنه نبى*. ومن هنا فلكى نفهم الاسلام، فان القضية الأساسية المطروحة هى بأى الوسائل، والى أى مدى كانت الأفكار اليهودية والمسيحية قد تأقلمت فى الحجاز!   * تزخر سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السيرة بيهود دخلوا فى الاسلام وبأحبار ورهبان تنبأوا بنبوته (الراهب بحيرا مثلا) . (المترجمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الملحق (ج) الحنفاء يذكر ابن اسحق «1» أربعة رجال من جيل سابق لجيل محمد (صلّى الله عليه وسلم) اتفقوا معا على ترك عبادة الأوثان وأن يقصدوا الحنيفية- دين ابراهيم (عليه السلام) . وابن قتيبة «2» يذكر لنا ستة أشخاص كان الاخرون يسمونهم حنفاء، منهم: أمية بن أبى الصلت، وأبو قيس بن الأسلت. كيف نتصرف ازاء هذه الاشارات؟ ألا تدل على وجود نوع من التوحيد فى شبه الجزيرة العربية غير التوحيد اليهودى والتوحيد المسيحيي «3» ؟ لقد أراق المؤرخون أحبارا كثيرة فى هذا الموضوع الخلافى منذ تناوله Sprenger وحتى الان، بحيث أصبح من المستحيل هنا حتى مجرد تلخيص وجهات النظر المختلفة، ولا بد أن نرضى أنفسنا بالاكتفاء بأكثر جوانب الموضوع اتصالا بحياة محمد (صلّى الله عليه وسلم) «4» . واستخدام كلمة (حنيف) فى القران (الكريم) يصلح كمنطلق وثيق ومؤكد. فهنا نجد أن «الحنفاء» كانوا هم أتباع الدين العربى الأصلى والمثالى، ولم يكونوا يمثلون مجرد (مذهب) أو (فرقة) أو   (1) ابن هشام، 143- 149. (2) المعارف، 28- 30. (3) ابن هشام، أيضا، 40، 178، 293. (4) F.Buhl, Art Hanif, EI, Caetani, Ann, I, pp.181- 192.R.Bellz Who were the Hanifs Zthe Muslim World.XX.1930, pp.120- 124.N.A.Faris H.W.Gidden.z The development of the mean- ing in the Koranic Hanif Zin:Journal of the Palestine oriental Society, XIX, 1939, pp.1- 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 جماعة انقرضت «5» (النص: جماعة تاريخية (historical أولم يكن لها وجود عند ظهور الاسلام. وما أظهره القران الكريم فى بواكير المرحلة المدنية- عندما كانت علاقة محمد صلّى الله عليه وسلم باليهود متوترة- هو أن المسلمين قد استعادوا دين ابراهيم (عليه السلام) فى شكله النقى، بينما حرفه اليهود والنصارى «6» . ويبدو اكثر وضوحا، أن كل الاشارات الى الحنفاء فى المراجع المبكرة تعمد الى ايجاد الحقائق التى توضح ما ذكره القران (الكريم) ، ولا تذكر شخصا واحدا بالاسم يسمى نفسه حنيفا أو كان يبحث عن الحنيفية. وهناك عدة أمثلة حقيقية على استخدام كلمة (حنيف) بالعربية قبل محمد (صلّى الله عليه وسلم) (رغم أنه ليس من السهل دائما أن نذكر أى هذه الأمثلة حقيقى وأيها موضوع أو زائف) ؛ لكنه استخدام مختلف ذو معان متباينة. والدارسون المحدثون الذين درسوا هذه المسألة، يعتقدون أن الكلمة- بصفة أساسية- مستعارة من النبط *Nabateans فهى   Bell ,op.cit. (5) (6) Snouck, Hurgronje, Het Mekkaansche Fest, 29 ff.Vers- preide Geschriften, i, 22 ff. * والنبط عرب من عبدة اللات وذى الشرى، نقرأ فى معجم المصطلحات الاثارية: «قبائل عربية دخلت أرض أدوم جنوب فلسطين (فيما يعرف الان بمملكة شرقى الأردن) فى القرن الخامس ق. م وتركوا حياة الرعى الى حياة الزراعة، ومن هنا عرفوا بالأنباط أو النبط أى الذين يستنبطون الأرض من أجل الزراعة وجعلوا من سلع عاصمة لهم عرفها الاغريق باسم البتراء التى تقع فى جنوب البحر الميت، وأسسوا مملكة فى القرن الثالث ق. م. استمرت حتى حول الامبراطور تراجان أرضهم الى ولاية رومانية باسم الولاية العربية Provincia Arabia عام 106 م واتخذ الرومان من بصرى عاصمة لها، حيث كشفت الأبحاث المصمك (1282 هـ) وقصر الشمسية (وهو معاصر لقصر المربع) . وتتنوع واجهات المقابر النبطية فى أشكالها المعمارية، بين الحجم الصغير والحجم الكبير، وتغلب أسلوب واحدة زخرفية على أسلوب واحدة زخرفية أخرى، واضافة واحدات زخرفية جديدة، الا أنها بقيت فى جوهرها تحافظ على السمات الفنية الأساسية للأسلوب الهندسى التماثلى. وبالرغم من أن واجهة واحدة من هذه الواجهات لم تأخذ شكل التكوينات المنمقة فى مقابر البتراء، الا أن واجهات مقابر الحجر (مدائن صالح) بقيت تكتسب أهمية لما تحمله من نقوش مؤرخة بالاضافة الى فنونها وبذلك تمدنا بكثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فى لغتهم تعنى من يعتنق بعض فروع دينهم الشامى- العربى المتاثر- جزئيا- بالثقافة الهيلينيه «7» . وعلى أية حال، فمسالة أصل الكلمة مسألة ثانويه، وحتى اذا كانت الفكرة السابقة صحيحة فليس من الضرورى ان هذا التحوير (التكييف) للهيلينية* يشكل اى اسهام حقيقى فى تغلغل أفكار التوحيد فى شبه الجزيرة العربية، فما البال اذا كانت فكرة أصل الكلمة كما ذكرناه سابقا- فكرة بعيدة الاحتمال. ورغم أن الاشخاص الأربعة فى رواية ابن اسحق لم يطلقوا على أنفسهم اسم الحنفاء، الا أنهم مع هذا كان لديهم شعور (وعى) بطريقهم نحو التوحيد. واثنان من هؤلاء الأربعة من عشيرة أسد القرشية: ورقة ابن نوفل ابن عم خديجة بنت خويلد (رضى الله عنها) وعثمان بن الحويرث، وكلاهما كان قد تحول للمسيحية، رغم أن مسيحية هذا الأخير (عثمان) - على الأقل- كان لها مضامين سياسية. واخر هو عبيد الله بن جحش كان متحالفا مع عشيرة عبد شمس وابنا لابنة عبد المطلب، وقد تحول- بعد ذلك- للاسلام وكان من بين من هاجروا للحبشة، وهناك ارتد للمسيحية، والرابع هو زيد بن عمرو من عدى، وقد ظل مواحدا دون انتماء محدد. ونجد فى كتاب الأغانى مزيدا من المعلومات عن هؤلاء الرجال «8» . وعلى هذا، فعندما تتم ازاحة كل ما علق بالموضوع من بدع وسوء فهم- بطريقة موضوعية، ستبقى الحقائق المسلم بها، لكنها لا تعطينا رخصة كافية لاعادة صياغة الأحداث، فلسنا متأكدين من وجود صلة بين الرجال الأربعة، فان كانت هناك صلة، فلا بد أن يكون لهذه الرابطة بعد سياسى الى جانب البعد الدينى، وفى   من المعلومات الأثرية والتاريخية عن الأنباط أنفسهم، مكتوبة بالخط النبطى. لمزيد من المعلومات، راجع. .36 -95.pp ,) 4191 (siraP ,noissiM) ret -faereH (cibarA ne euqigoloehcrA noissiM ,cangivaS.F dna nessuaJ.A (المترجمان) . Faris ,Glidden ,op.cit. ,p. 12. (7) * الاغريقية والهيلينستية كما هو معروف مزيج من حضارة الشرق والحضارة اليونانية. (8) عن المراجع، انظر Caetni ,Loc.Cit.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 هذه الحالة ربما لا يكون الأمر بعيدا عن محاولة عثمان السيطرة على مقاليد الأمور فى مكة*. لكن قد يكون كل واحد منهم- ببساطة- قد اتخذ طريقة لهذا التوحيد بشكل مستقل. ومن الممكن أن نسلم بأن أحدا منهم لم يكن غائب الوعى تماما عن العوامل غير الدينية التى أدت للوضع المزعج الذى وصلت اليه حال بلادهم، مع أنه من المحتمل أن يكونوا أكثر اهتماما بالعامل الدينى. ورغم الغموض الذى استمر يحيط بهؤلاء الرجال الذين ارتبط بهم مسمى الحنفاء، الا أن ما نعرفه عنهم يعد كافيا بدرجة تجعلنا نعتبرهم عاملا اضافيا يوضح لنا الطريقة التى تغلغلت بها أفكار التوحيد فى البيئة التى نشأ بها محمد (صلّى الله عليه وسلم) ، والتى جذبت بعض أكثر العرب تنورا. فهؤلاء المسلمون بالحنفاء لم يكونوا هم واحدهم الذين انجذبوا لفكرة التوحيد، لقد كان هناك اخرون بين أتباع محمد (صلّى الله عليه وسلم) الأوائل، مثل عثمان بن مظعون وواحد على الأقل فى المدينة المنورة هو أبو عامر عبد عمرو بن صيفى الذى عارض الرسول (صلّى الله عليه وسلم) معارضة مريرة. وبالنسبة للدارس لحياة محمد (صلّى الله عليه وسلم) ، يعد الحنفاء ذوى أهمية لأنهم يقدمون برهانا على أن أفكار التوحيد كانت موجودة بالفعل فى البيئة التى ظهر فيها- أى ظهر فيها محمد النبى (صلّى الله عليه وسلم) .   * عن هذه الواقعة يحدثنا هيكل فى حياة محمد. يقول: «وأما عثمان بن الحويرث، وكان من ذوى قرابة خديجة، فذهب الى بزنطية وتنصر وحسنت مكانته عند قيصر ملك الروم. ويقال: انه أراد أن يخضع مكة لحماية الروم وأن يكون عامل قيصر عليها، فطرده المكيون فاحتمى بالغساسنة فى الشام، وأراد أن يقطع الطريق على تجارة مكة، فوصلت الى الغساسنة هدايا المكيين؛ فمات ابن الحويرث عندهم مسموما» - (المترجمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الملحق (د) مبحث حول (تزكى) ترجمة لفظ تزكى، وغيرها من مشتقات الأصل [ز ك ا] (بصرف النظر عن زكاة) . كما ورد فى القران (الكريم) يثير بعض الصعوبات. فأحد الباحثين جعل لها مقابلا انجليزيا purify oneseir أى تطهير النفس، لكنه أضاف بين قوسين فى الحواشى موضحا أن تطهير النفس يكون [بتقديم الصدقات. «1» [almsgiving وهناك باحث اخر جعل لها مقابلا بسيطا هو، «2» be charitable أى أحسن أو تصدق. واذا نحينا لفظ (زكاة) ، فان الجذر (زكا) ومشتقاته ورد فى القران (الكريم) حوالى 26 مرة، ومن المفيد أن نتناول ما هو مهم من هذه الأمثلة (المقصود الايات القرانية التى ورد فيها الجذر ومشتقاته) . انها تقع فى أربع مجموعات: المجموعة الأولى: نجد فيها المعنى واضحا، فهى كلها أمثلة للجذر الثانى زكى (بتشديد الكاف) المستخدم بمعنى «التبرئة من الاثم Justify «أو، count just تماما بنفس معنى الكلمة الانجليزية فى الأناجيل. ففى مثل هذه الحالات نجد أن الفكرة التى يدور حولها السياق هى ألا يزكى أحد نفسه، وانما الله هو الذى يزكى من يشاء. وكل الاشارات هنا مرتبطة بالايمان بالاخرويات، وكلها تشير الى اليهود فيما عدا الاية الأخيرة (سنورد الايات فى السطور التالية) . لقد ارتبط   Bell ,translation of Quran. (1) J.Obermann -in the Arabic heritage ,1946 ,p. 108. (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 استخدام الكلمة بهذا المعنى بتوجيه انتقادات لليهود، على النحو نفسه الذى وجهت الأناجيل (العهد الجديد) النقد لليهود: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» البقرة/ الاية 174. «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ال عمران/ الاية 77. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» 4 (النساء) / الاية 49. «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» 53 (سورة النجم) / الاية 32*. وفى المجموعة الثانية يبين السياق أن الرسول (صلّى الله عليه وسلم) قد أرسله الله (ليزكى) الناس بمعنى يطهر، Purify وتعود الايات التى تستخدم الكلمة بهذا المعنى الى بواكير منتصف الحقبة المدنية (سنورد الايات فيما يلى) فالاية الأولى فى سياق خطاب لليهود، والايات الاخرى تشير الى محمد (صلّى الله عليه وسلم) . ومادام الرسول لا يمكنه أن يطهر الناس (يزكيهم Purify (بالمعنى نفسه الذى نقصده عندما نتحدث عن أن الله (سبحانه) هو الذى (يطهر) أو (يزكى) ، ومن هنا فاستخدامنا للفعل Justify لا بد أن يعنى (تزكية) الله سبحانه كنتيجة لبعثة محمد (صلّى الله عليه وسلم) ، وعلى النحو نفسه يجب أن يكون استخدامنا للكلمة الانجليزية.Purify وعلى أية حال، فربما كان من الممكن أن يمتد معنى الكلمة ليصبح «التوجيه   * أرقام الايات كما أوردها المؤلف مختلفة ولعله خطأ مطبعى- (المترجمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 نحو التزكية أو الهداية. «to dired to Justification of Purification ومن ناحية أخرى فانها قد تعنى (دفع زكاة) وهذا مناسب اذا لم تكن كلمة (الزكاة) قد أخذت معناها الاصطلاحى وان احتفظت بشىء من الارتباط «بوسائل التطهر أو التزكى» . وعلى هذا، فحيثما تستخدم كلمة (يزكى) مرتبطة بالرسول، ربما كان معناها (أن يتطهر بفرض الزكاة) : «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» البقرة/ الاية 129. «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» البقرة/ الاية 151. «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . ال عمران/ الاية 164. «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» السورة 62 (الجمعة) / الاية 2. أما استخدام أهل مكة (وربما فى المرحلة المدنية المبكرة أيضا) لكلمة (تزكى) وكلمة (التزكى) التى تمثل المجموعة الثالثة، فمختلف اختلافا يسيرا، ولنبدأ بذكر الايات: «جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» السورة 20 (طه) الاية 76. «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» السورة 35 (فاطر) الاية 18. «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» السورة 79 (النازعات) / الاية 18. «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» السورة 80 (عبس) الاية/ 3. «وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى» السورة 80 (عبس) الاية/ 7. «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» السورة 87 (الأعلى) الاية/ 14. «الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى» السورة 92 (الليل) الاية/ 18. ففى الايتين 3 و 7 من سورة عبس (المذكورة أعلاه) ، يبدو أن هدف الدعوة الاسلامية هو الوصول بالانسان الى رحلة التزكى التى تبدو- فى الغالب- مساوية للتحول للاسلام. وفى اية سورة طه (الواردة انفا) وعد بجنات عدن لمن تزكى، وشىء من هذا المعنى فى معظم الايات الاخرى (التى أوردناها انفا) . وعلى هذا، فان التزكى يبدو دليلا على الامتياز الخلقى الذى هو جزء من الأهداف السامية للحياة. وهذا متفق مع ما كتبه الباحثون الغربيون عن الاستخدام المتماثل للكلمات الشبيهة فى العبرية والارامية والسريانية «3» . فالجذر العربى (ز ك ا) يعنى فى المعنى الأساسى نما أو ازدهر، لكن استخدامه قد تأثر بهذه اللغات الاخرى (المترجمان: ليس من الضرورى ذلك. فالزكاة مثلا مع أنها مال يدفعه المزكى، الا أن المفهوم دينيا أنها تزيد فى حسنات المزكى، فما نقص مال من صدقة..) . ففى هذه اللغات تعنى الكلمة المقابلة- على نحو خاص- الطهارة الأخلاقية. وغرابة هذه الفكرة بالنسبة للعرب- رغم أنها قد لا تكون وصلتهم عن طريق القران الكريم- قد تساعدنا فى تفسير استخدامهم لمصطلح مثل تزكى لوصف هذه الفكرة. انها منفصلة عن الطهارة كنسك   Jeffery ,Vocabulary ,S.V. (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أو طقس (انظر: طهر فى سورة المدثر: «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» الاية/ 4) التى كانت معروفة- بلا شك- فى الديانة القديمة (السابقة على الاسلام) . وعلى هذا، فان معنى (تزكى) ربما كان أفضل- ليعبر عن (الصلاح - (righteousness ومن (الطهارة؛ (Purity وبذلك ارتبط بالفعل (زكى) الوارد فى الايات التى أوردناها فى المجموعة الأولى. وأية صعوبة فى افتراض أن الناس كانوا «صالحين» بالفعل يمكن أن نتجنبها باعتبار الكلمة تعنى «القصد الى الصلاح أو العمل ليكونوا صالحين aim at reightness واتخاذه مبدا» ؛ ولكن التمييز الكامن هنا ربما لم يكن موجودا بالنسبة للعرب. وربما أضفنا لهذه المجموعة مثالين اخرين من الجذر الثانى، هما: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» السورة 24 (النور) / الاية 21. «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» السورة 91 (الشمس) / الاية 9. وربما يكون معنى يتزكى فى السورة 92 (الليل) / الاية 18 (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) هو المعنى نفسه فى الايات السابقة لكن لاحتمال انها فى مرحلة مدنية متأخرة [المترجمان: سورة الليل مكية وليست مدنية] * ولأنها تتعرض للمال، فربما كان المعنى الأقرب هو: الذى يقدم ماله ليطهر نفسه بالزكاة. وربما كانت تشير الى الزكاة كمصطلح فقهى لكن هذا لا ينفى معنى التطهر. فليس هناك اية مكية تشير الى رباط بين (تزكى) والمال، بل العكس، فهناك اشارة خاصة تبدو أحيانا فى غير سياقها كما فى حالة فرعون:   * ما بين القوسين توضيح من المترجمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) » السورة 79 (النازعات) . وفى سورة عبس رغم الاشارة الى رجل (أو رجال) ثرى، فقد ورد ذكر الرجل الأعمى كاحتمال أن يتزكى (يزكى) . وهناك أيضا مجموعة رابعة (من الايات) يسود فيها الاستخدام العربى الأصلى للجذر، نوردها كما يلى: «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» البقرة/ 232. «وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» السورة 18 (الكهف) / الاية 19. «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ، قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» السورة 18 (الكهف) / الاية 74. «قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا» السورة 19 (مريم) / الاية 19. «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» السورة 24 (النور) / الاية 28. «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» السورة 24 (النور) / الاية 30. وهذا لا يضيف عناصر جديدة لمشكلتنا ولا يحتاج الى مناقشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أما كلمة زكاة فتتردد فى القران (الكريم) بمعناها الفنى (الفقهى) وعادة ما يقترن ذكرها بذكر الصلاة، لكن هذا لا يمنع من استخدامها فى بعض الحالات فى غير معناها الاصطلاحى (الفقهى) كمعنى التميز الخلقى أو الصلاح، أى بالمعنى الوارد فى المجموعة الأولى من الايات التى أوردناها انفا، وأفضل أمثلة على ذلك تتضح من الايات التالية: «فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» السورة 18 (الكهف) / الاية 81. «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» السورة 23 (المؤمنون) / الاية 4*. وربما كانت الايات الواردة فى سورة مريم (13، 31، 55) أمثلة أخرى على هذا الاستخدام، لكن لارتباطها بالأنبياء فقد يكون معناها مما يندرج تحت المعنى الوارد فى المجموعة الثالثة التى أوردناها انفا، وهذه الايات هى: «وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا» مريم/ 13. «وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» مريم/ 31. «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» مريم/ 55. وأخيرا، فان الاية 103 فى السورة رقم 9 (التوبة) تبدو مرتبطة بالمعنى الأخلاقى للفعل زكى مرتبطا بالطهارة كطقس (طهر) . «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم أن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم» فقد أمر الله محمدا أن يجمع من الناس صدقة لتطهيرهم وتنقيتهم (من الاثام) . ويميل بعض المفسرين الى معنى «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، ثم انك بدفعهم الصدقة ستزكيهم» ، وفى تفسير اخر أن التزكية والتطهير فكرتان متصلتان مترابطتان. وقد يكون   * ليس هناك ما يمنع أن يكون لفظ الزكاة فى هذه الاية الكريمة بمعناه الفقهى أى أداء الزكاة المعروفة- (المترجمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 المفسرون غير مصيبين فيما يتعلق بسبب نزول هذه الاية، لكنهم بلا شك على حق فيما ذهبوا اليه من أن الفكرة كانت مهضمومة ومستوعبة فى الأفكار العربية السائدة. فلا بد أن هؤلاء الناس قد فعلوا شيئا جعلهم يعتقدون أنهم فى حاجة الى تطهير وتزكية، فهم أنفسهم الذين يريدون التطهر والتزكية. هذا التدقيق يوضح لنا أنه فى الحقبة المكية- المجموعة الثالثة- ارتبط الفعلى (زكى) باستخدام دينى يشير الى الصلاح والتقوى. وقد أورد الطبرى «4» تفسيرا لابن زيد جعل التزكى والاسلام شيئا واحدا. والاشارة للتزكى قد تكون مقرونة بالطهارة الخلقية (المعنوية) لكن ليس هناك ما يشير الى ارتباطها بالطهارة الطقسية (كالوضوء مثلا) ، ولم يكن التزكى فى هذه المرحلة المكية مرتبطا بدفع الصدقات. وفى المرحلة المدنية كما هو واضح من ايات المجموعة الثانية، ارتبط التزكى بدفع مال بقصد التطهر (التخلص من الذنوب) ، كما ارتبط الى حد ما بأمور طقسية. فما سبب تغير المعنى؟ ما الذى ربط الزكاة بأداء مال؟ ربما كانت هذه الكلمة مشتقة من الارامية حيث الزكاة تعنى التطهر وليس أداء مال. أم أن تغير المعنى كان بفعل اليهود المستقرين فى شبه الجزيرة العربية، أم أن هذا كان بفعل محمد نفسه (المترجمان: المؤلف هنا يسوق فروضا بعضها غير معقول، منها أن محمدا صلّى الله عليه وسلم هو الذى غير المعنى، وهذا محال لأن القران الكريم منزل من عند الله، بل ان المؤلف يؤكد هذه الحقيقة فى أكثر من موضع فى كتابه هذا وكتبه الاخرى التى ترجمنا بعضها فى هذه السلسلة، بل ويذكر أن هناك اتجاها بين بعض المذاهب المسيحية بالاقرار بأن النص القرانى وحى من الله سبحانه. المسألة اذن لا تعدو مجرد فرض ينقضه المؤلف بعد ذلك. أما تشابه بعض الألفاظ العربية مع لغات سامية أخرى فليس غريبا؛ لأن العربية من بين مجموعة اللغات السامية، فهذا المشترك مشترك سامى) . أما سبب هذا التغيير أو التحول فى معنى الكلمة فمسألة صعب فهمها أيضا «5» ، فما الصلة بين (الصلاح والتقوى) و (الطهارة الطقسية) و (دفع المال كصدقات) ؟   (4) تفسير الطبرى. (5) انظر Jeffery ,Vocabulary ,s ,v.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ورغم ان (تزكى) لم يكن لها ارتباط فى معناها الأساسى بدفع الصدقات، الا أن «فضيلة» الكرم كانت سائدة فى ايات القران الكريم فى أوائل ما نزل من القران، وكانت هذه الفضيلة تتضمن- بطبيعة الحال- دفع الصدقات، لكن الباحث سنوك هرجرونك C.Snock Hurgronic «6» ناقش مسألة أن دفع الصدقات فى الشرق لم تكن (وحتى الان) لسبب اجتماعى أو نفعى ولكن لأنها أم الفضائل أو الفضيلة الرئيسية، وربما كان سنوك مثاليا فى قوله ان الصدقات (أو الزكوات) مقصودة لذاتها فى الشرق. وفكرة التضحية بشىء نفيس فكرة عميقه فى الفكر السامى الذى شهد حتى التضحية بالابن البكر- وهذا بلا شك للاعتقاد فى أن مثل هذا العمل يرضى الاله، وليعبر المضحى عن سعادته ببقية ممتلكاته. وبالنسبة لبشر هذا تفكيرهم، فانه قد وقر فيهم- حتى العظام- أنه من الطبيعى مراعاة الصدقات (الزكوات) التى تعنى التنازل عن جزء من ممتلكاتهم أو أموالهم، كنوع من أنواع التضحية لاسترضاء الاله. «7» Propitiatory sacrifice وربما لم يكن شىء من هذه الفكرة موجودا فى الايات التى نزلت فى فترة مبكرة مشتملة على كلمة تزكى ولا حتى بمفهوم الكرم، لكن ايات القران الكريم التى نزلت فى فترة متأخرة تحمل شواهد على انبعاث الأفكار القديمة عن الكلمة، وهذا مرتبط بالتأكيد بتطور تطبيق شعيرة الزكاة فى الفترة الأخيرة من نزول القران، وتؤكد الشواهد من الأحاديث النبوية ذلك. ففى سورة البقرة (الاية 271) ، نفهم أن الصدقات التى يتم دفعها خفية تكفر السيئات- أى تمحوها- وفقا للتفسيرات المتداولة. وفى السورة نفسها حديث عن الصدقات كفديه يستعاض بها للتكفير عن تقصير، كعدم حلق الشعر فى وقته أثناء شعيرة الحج، ويرى لين Lane أن الفدية   (6) The Nouvelle Biographie de Mohammad, in Revue de lhistoire des religion.xxx 167 f Verspreide Geschriften, 1, 353 f. وانظر أيضا: المراجع التى أوردها. M.Gaudefroy -Demombynes ;Muslim Institutions ,105. (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 تقدم ليحفظ المرء نفسه من الشر (اتقاء الشر) الذى ربما يلحق به نتيجة تقصير فى أداء المناسك أو الشعائر الدينية، أو بسبب حنثه فى يمينه. ومرة أخرى، فان الزكاة الشرعية وفقا لهذه النظرية الأخيرة تفسر أن ما كان يدفع من الزكاة كان دائما جزا من ممتلكات المزكى وليس ما يقابلها من مال «8» . وهناك مرويات كثيرة عن التبرع بالمال أو دفع الصدقات تبين أن الشخص الذى لا يجد من يقبل صدقته هو شخص بائس سيىء الطالع» ، وأكثر من هذا فما دفع الشخص صدقة أو هبة لا يجب أن يسترده «10» .   (8) الغزالى، احياء، مج 5، الفصل 2. (9) البخارى، ونورد هنا الأحاديث الدالة على ذلك: (-) حدثنا معبد بن خالد قال سمعت حارثة بن وهب قال سمعت النبى صلّى الله عليه وسلم يقول: «تصدقوا فانه يأتى عليكم زمان يمشى الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها يقول الرجل لو جئت بها بالأمس لقبلتها فأما اليوم فلا حاجة لى بها» . حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذى يعرضه عليه لا أرب لى» . حدثنا عبد الله بن محمد أبو عاصم النبيل أخبرنا سعدان بن بشر حدثنا أبو مجاهد حدثنا محل بن خليفة الطائى قال سمعت عدى ابن حاتم رضى الله عنه يقول: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه رجلان أحدهما يشكو العيلة والاخر يشكو قطع السبيل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أما قطع السبيل فانه لا يأتى عليك الا قليل حتى تخرج العير الى مكة بغير خفير وأما العيلة فان الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه ثم ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له ثم ليقولن له ألم أوتك مالا فليقولن بلى ثم ليقولن ألم أرسل اليك رسولا فليقولن بلى فينظر عن يمينه فلا يرى الا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى الا النار فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة فان لم يجد فبكلمة طيبة» . حدثنا محمد ابن العلاء حدثنا أبو أسامة عن يزيد عن أبى بردة عن أبى موسى رضى الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدا يأخذها منه ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة تلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء. (10) البخارى. وفيما يلى الأحاديث الدالة على ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والجدير بالملاحظة أن الغزالى عندما أعد قائمة بالممتلكات التى تجب فيها الزكاة، وضع على رأس القائمة: الماشية ثم المحاصيل، ثم النقود والبضائع والمعادن. ونقول ان ما ذكر أولا (الماشية والمحاصيل) ، هو ما كان يستوجب التضحية Sacrifices وفقا لما ورد فى التوراة*. واذا كان صحيحا أن نذهب الى أنه فى المرحلة المكية كانت (تزكى) تعنى القصد الى الصلاح أو التقوى أو الطهارة المعنوية، فان اختفاء هذا المعنى بعد ذلك قد يكون راجعا الى حقيقة أن هذه الطريقة فى التعبير عن فكرة جديدة بالنسبة للعرب أصبحت تتناقض مع المفاهيم الأقدم للطهارة الطقسية؟؟؟؟؟؟. لقد ربط القران الكريم المثالية الأخلاقية بالأوامر الالهية وبالتالى بالحكم الالهى، لكن اعادة تأكيد ملحوظة أن الطهارة الطقسية (بمعناها الطقسى) قد تفسد هذا الرباط. ومن هنا، فان (تزكى) قد مالت الى الانزواء قبل الحنيفية والاسلام**.   حدثنا مسلم بن ابراهيم حدثنا هشام وشعبة قالا حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «العائد فى هبته كالعائد فى قيئه» . حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم «ليس لنا مثل السوء الذى يعود فى هبته كالكلب يرجع فى قيئه» . حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول حملت على فرس فى سبيل الله فأضاعه الذى كان عنده فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص فسألت عن ذلك النبى صلّى الله عليه وسلم فقال: «لا تشتره وان أعطاكه بدرهم» - (المترجمان) . * هذا مجرد صدفة ولا يعنى أى شىء، فالبخارى فى صحيحه مثلا لم يبدأ بالماشية وانما كان تناوله كالاتى: باب وجوب الزكاة، باب الورق،، باب الابل، باب الغنم ... أى أنه بدأ بالورق- (المترجمان) . ** المعنى غير واضح. النص: Hence ,Tazakka tended to fade out before hanifiyah and Islam. انظر، ص 76 من النص الانجليزى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الملحق (هـ) كثير من الحقائق الأساسية التى أوردها الكتاب المسلمون الأوائل يمكن اعادة تنظيمها فى جداول. فأسماء المسلمين التى سأوردها فى الجداول التالية هى ما أورده ابن سعد فى المجلدين الثالث والرابع، أما أسماء المشركين فهى من قوائم القتلى والأسرى فى بدر (Caetani ,Ann ,i ,pp. 512 -517) ، بالاضافة الى عدد قليل ورد فى المصادر الأساسية كأعداء للرسول (صلّى الله عليه وسلم) . ويضم الجدول التالى المعلومات التالية: قبيلة الأم، وقد حصلنا على المعلومات بهذا الشأن من ابن سعد، وفى حالة ما اذا كان الشخص حليفا أو عتيقا، فمن الطبيعى ألا يقدم لنا هذه المعلومة حتى لو كانت معروفة. السن- والمقصود السن وقت الهجرة، وغالب ما يتم حسابها من بيانات أو معلومات أخرى أوردها ابن سعد، وغالبا ما يكون هذا البيان غير دقيق. ترتيبه فى قائمة أوائل المسلمين ومصدرنا فى هذا كيتانى (Ann ,i 229) Caetani وابن هشام (62- 65) ، والاشارة فى العمود تشير الى أن الشخص المدرج أمامه هذه الاشارة كان أسبق اسلاما من المدرجين فى القائمة. الرمز AA يشير الى الرقم فى قائمة كيتانى الأولى للمهاجرين الى الحبشة. (من كيتانى وابن هشام، 208 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 - الرمز AB يشير الى الرقم فى قائمة كيتانى الثانية عن المهاجرين (من كيتانى، 277 وابن هشام 209- 215 بعد حذف الأسماء الواردة فى القائمة الأولى) . الرمز R يشير الى الرقم فى قائمة كيتانى بالنسبة للمهاجرين الذين عادوا (كيتانى، 283، وابن هشام 241- 243) ، والرمز SH يشير الى من عاد فى احدى السفينتين (ابن هشام 781- 786) والرمز X على من عاد ولا ندرى عن عودته شيئا والذى لم يشهد بدرا كمسلم. الرمز H يشير الى الرقم فى قائمة كيتانى عن المهاجرين للمدينة (كيتانى، وابن هشام 316- 323) . الرمز، B المشاركة فى غزوة بدر: بالنسبة للمسلمين الرقم فى قائمة كيتانى (كيتانى وابن هشام 485- 491) و PK و PP تعنى أن هذه الأسماء موجودة فى قوائم كيتانى عن قتلى المشركين PK وأسرى المشركين) .PP المعلومات من كيتانى وابن هشام، 507- 515) و P تعنى أنه حضر الغزوة كمشرك. و IS تشير الى أن ابن سعد ذكر الشخص كمهاجز للحبشة حضر بدرا. وعلامة النجمة* تشير الى أن الشخص لا بد أن يكون موجودا فى هذه القائمة، رغم أنه لأسباب عادة ما تكون واضحة لم يأخذ رقما فى قائمة كيتانى. مثال: قائمة كيتانى الثانية عن المهاجرين للحبشة لا تضم الأسماء التى وردت فى قائمته الأولى، رغم وجودها فى قوائم ابن هشام التى اعتمد عليها كيتانى فى قائمته الثانية. بالاضافة للرموز التالية: موالى، تابعين أو عتقاء، (وجعلنا لها الحرف العربى م) حليف (وجعلنا لها الحرف العربى ح) . h/ Tamim حليف من قبيلة تميم (وجعلنا مقابلا لها: ح تميم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الملحق (و) المرويات عن عروة المادة المنسوبة الى عروة بن الزبير فيما يتعلق بالحقبة المكية من حياة محمد (صلّى الله عليه وسلم) ذات أهمية كبيرة، بخاصة شذرات خطابه لعبد الملك التى نقلها لنا الطبرى، فهى مسألة جديرة بالتمعن خاصة عند التركيز على مسألة التعويل على عروة كمصدر. وفيما يلى سنفترض أن ما هو منسوب الى عروة، قد صدر عنه فعلا. وعلى أية حال، فسنفرض أيضا أنه من الطبيعى ألا يذكر من أين حصل على مادته وأن نذكر احتمال أن يكون قد نسبها اليه شخص اخر فى زمن الحق. مثل هذا الفرض قد يكون صحيحا تماما، لكن لابد أن يكون هناك دائما عنصر غير مؤكد فيما يتعلق به. وعروة هو ابن الزبير بن العوام أحد المسلمين الأوائل وصديق قريب لأبى بكر بن الصديق، وأم عروة هى أسماء بنت أبى بكر، لأن عائشة بنت أبى بكر رضى الله عنها كانت هى خالته. فهو أخ من أبيه وأمه لعبد الله بن الزبير الذى بويع بالخلافة مناوئا بذلك خلفاء بنى أمية. وكان عروة من المؤيدين لأخيه عبد الله، لكن بعد موت (عبد الله) يقال انه أسرع للخليفة الأموى عبد الملك وناشده باسم أمهما أن يسلمه جسد أخيه ليدفنه وتم له ما أراد. وتالف عروة مع الحكم الأموى وعاش فى المدينة المنورة بهدوء. واختلف المؤرخون فى تاريخ وفاته اختلافا تراوح بين سنة 93 هـ و 101 هـ، لكن التاريخ الملائم هو 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ويقال ان عروة هو أول من جمع المواد المتناثرة عن حياة محمد (صلّى الله عليه وسلم) . والشذرات المتفرقة التى أوردها الواقدى (ap.Wellhausen) نقلا عنه أو عن طريقه (أى عن عروة الذى نقلها بدوره عن اخرين) تؤكد أنه- أى عروة- لابد قد قام بمحاولة من هذا النوع. ومن ناحية أخرى، فان المواد المنقولة عنه فى السيرة النبوية لابن هشام هى فى غالبها مواد متصلة بالأسرات التى ارتبط بها. وعلى هذا، فهناك مواد متصلة بجده لأمه (أبو بكر) : ص 205، 245 وما بعدها، 327، 333، 650 (فى مدح تحرير أبى بكر لعامر بن فهيرة) 731 وما بعدها، 1016، وانظر أيضا الواقدى (كتاب المغازى) 167. وهناك فقرة واحدة عن أبيه (809) وبعض الفقرات الاخرى عن عشيرة أسد أو أشخاص ذوى صلة بها. ومن بين الفئة الأخيرة لابد أن نذكر عبد الله بن مسعود الذى اخى محمد (صلّى الله عليه وسلم) بينه وبين الزبير، والذى تنازل (أى عبد الله) فى وصيته عن ممتلكاته للزبير وعبد الله بن الزبير. وربما يمكننا أيضا أن نعتبر زيدا بن الحارثة مرتبطا بعشيرة أسد؛ لأنه كان فى وقت من الأوقات عبدا لخديجة وربما أيضا عبدا لابن عمها حكيم بن حزام*، وتزوج أيضا لفترة من عمة عروة هند بنت العوام. وأيا ما كان السبب، فان عروة كان مهتما بزيد وابنه أسامة ويذكر الطبرى نقلا عن عروة أن زيد كان أول من أسلم من الرجال (وليس جد عروة: أبو بكر الصديق) . كل هذا يجعل عروة مرتبطا بظروف سياسية بعينها فى الدولة الاسلامية- المجموعة ذات النفوذ (المقربة) فى حياة محمد (صلّى الله عليه وسلم) : أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة، كما ارتبط بعد ذلك بمجموعة: عائشة وطلحة والزبير الذى كان مناوئا فى سنة 36 هـ لكل من على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان، ثم ارتبط- أى عروة- بالمجموعة (الحزب) التى كانت مسئولة عن مناوأة بنى أمية منذ حوالى 62 هـ الى 72 هـ (وهذه المجموعات الثلاث ليست متماثلة فى مواقفها، وان كان   * حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، أبو خالد ابن أخى خديجة وليس ابن عمها، كان صديقا للنبى قبل البعثة وبعدها، أسلم يوم الفتح. أزمنة التاريخ الاسلامى للدكتور عبد السلام الترمانينى، ج 1، م 2، ص 592. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 هناك نوع من الاستمرار يجمعها) . وعلى هذا، فليس هناك غرابة أن نجد بين الروايات التى وصلت عن طريقه بعض المرويات التى تجعل أمية واخرين مسئولين عن معاداة محمد (صلّى الله عليه وسلم) وأبى بكر الصديق، فعلى سبيل المثال نجده فى احدى الروايات المنسوبة اليه يذكر أن محمدا (صلّى الله عليه وسلم) شكا من معاملة ابن عبد مناة، وقوائم المعارضين، وغلظة أبى جهل وبروزه للقتال. وعلى أية حال، فان الأمر ليس بهذه البساطة، فالمجموعة القديمة كانت فى طريقها للتفكك، وقد بذل عبد الملك غاية جهده لاستقطاب رجل مثل عروة، ومن هنا فنحن نعلم من ابن سعد أنه كان من بين زوجات عروة حفيدة أبى البخترى (؟!) من عشيرة أسد وهى عشيرة عروة وحفيدة الخليفة عمر (من عدى) وامرأة من بنى أمية وأخرى من مخزوم. ولسوء الحظ، فان المراجع لم تخبرنا عن تواريخ هذه الزيجات، فاذا كان زواجه من هذه الأموية قبل الحرب الأهلية فان ذلك يفسر كيفية وصوله الى عبد الملك (باتخاذه هذه الزيجة مدخلا لذلك) . وفى المواد التى بين أيدينا أيضا نلاحظ نصا فى مدح عتبة بن ربيعة من عبد شمس، لكن هذا يتعارض مع حقيقة أن عتبة وان كان من عبد شمس الا أنه ليس من أمية بن عبد شمس. يبدو أن هذه الحقائق تشير الى أنه بينما لم يسارع عروة فى مناوأة الأمويين- وهذا أمر مؤكد- فهو كان متعاطفا لفترة طويلة مع معارضيهم، رغم أن ذلك قد تغير شيئا ما بعد عام 72 هـ. وأكثر من هذا، فان تراث أسرته (ما مر بها من أحداث) قد أثر فى نظرته للأحداث، ولا بد أنه قد جعله معاديا للأمويين. وعلى هذا، فهناك بعض الصحة فى الظن فى أن خطابه لعبد الملك رغم أنه منسوب له بالفعل، الا أنه ليس معبرا تعبيرا صادقا عما فى نفسه. ويؤكد هذا الشك أن بعض رواة هذا الخطاب كانوا يتحركون فى نطاق عقيدة القدر التى كانت ضد الأمويين: أبان بن يزيد اعتنق عقيدة القدر (بالمفهوم المعتزلى) وكذلك فعل عبد الوارث بن سعيد أبو عبد الصمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وبالنظر الى هذا، فمن غير المعقول أن نظن- على سبيل المثال- أن الخطاب الموجه الى عبد الملك يعول كثيرا على الحاجة الى الهرب من الاضطهاد كدافع للهجرة للحبشة، فهذا الاضطهاد كان فى غالبه من فعل بنى أمية والعشائر الاخرى التى كانت عدوة تقليدية لمجموعة أبى بكر والزبير وأسرتيهما. وحتى اذا كانت سياسة أبى بكر وأصحابه يمكنها فعل الكثير ازاء الهجرة للحبشة، فان تراث الأسرة والعشيرة لم يكن ليصرف الانتباه لهذه الحقيقة غير المؤكدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الملحق (ز) قوائم مختلفة كى نفهم طبيعة القائمة الأولى التى رمزنا لها بالحرفين (AA) وهى قائمة بمن هاجروا الى الحبشة، لابد أن نضع فى اعتبارنا قائمتين أخريين: قائمة العائدين من الحبشة التى رمزنا لها بالحرف، (R) والتى كررها الباحث كيتانى Caetani بالأرقام نقلا عن ابن هشام. وقائمة الذين هاجروا الى المدينة مع محمد (صلّى الله عليه وسلم) والتى رمزنا لها بالحرف، والتى نقلتها عن كيتانى. وفيما يتعلق بالقائمة) R قائمة العائدين من الحبشة) ، فالنقطة الجديرة بالملاحظة هو أن الذين هاجروا للحبشة وحاربوا فى غزوة بدر (فى جانب المسلمين) كانوا أيضا فى قائمة الذين عادوا الى مكة، الا أن هناك استثناءين: اياد بن زهير (الحارث بن فهد) وشجاع بن وهب (عبد شمس) وهذا الأخير لم يرد ذكره فى قائمة ابن هشام عن المهاجرين. لذا، فمن غير المتوقع أن يورده فى قائمة العائدين. ومن ناحية أخرى، فان كل العائدين كانوا من المحاربين المسلمين فى بدر، باستثناء أربعة: سكران (عامر) الذى مات قبل أن يهاجر الرسول، وثلاثة شبان كان أقرباؤهم من قادة المعارضين للاسلام: سلامة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة (كلاهما من مخزوم) وهشام بن العاص (سهم) وثمة رواية أنهم استسلموا لضغوط أسرية. وعلى هذا، فان القائمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 (قائمة العائدين) تعد هى القائمة الأساسية التى تعبر عن اولئك الذين اشتركوا فى الحدثين: الهجرة للحبشة، والمشاركة فى غزوة بدر. والأكثر صعوبة فى شرح القائمة التى تعبر عن المهاجرين للمدينة (مع الرسول صلّى الله عليه وسلم) ، انها لا تحوى أسماء كل الذين ذهبوا مهاجرين للمدينة قبل معركة بدر، والذين ظهروا فى قائمة المهاجرين الذين حضروا بدرا. واذا قارنا القائمتين، وجدنا أن القائمة قد حذفت ثلاثة أشخاص من عبد شمس، وشخصين من أسد، وسبعة أشخاص من زهرة (من بين اجمالى من شهد بدرا وهم ثمانية) وشخصين من تيم وأربعة أشخاص من مخزوم (من بين اجمالى من شهد بدرا وعددهم خمسة) وشخصا واحدا من عدى وخمسة أشخاص من جمح (من بين خمسة حضروا بدرا) وستة أشخاص من عامر (من بين سبعة) وسبعة أشخاص من الحارث (من بين سبعة) . هذا أمر مربك! هل هى مجرد صدفة أن تحذف هذه الأسماء؟! أم أن هناك غرضا وراء حذفها؟ فعلى سبيل المثال، هل الذين تم حذفهم من القائمة غير معدودين من بين من هاجروا- أى لم يهاجروا فعلا- نتيجة قيامهم بالهجرة فى زمن مبكر عن المجموعة الرئيسية المهاجرة أو فى زمن متأخر عنها؟ لقد قيل ان البعض هاجر بين العقبتين، لكن قد يكون ذلك مجرد محاولة متأخرة لتفسير هذا التعارض. ويقال ان عثمان بن مظعون ذهب الى المدينة وأغلق داره فى مكة مع أن اسمه غير وارد فى القائمة. انه يمكن أن نقول ببساطة ان هذه القائمة (قائمة المهاجرين) غير كاملة. وعن القائمة، AA فان أول ما يمكن أن نقوله ان كل من ورد اسمه بها، وارد أيضا فى) R قائمة العائدين) . ان هذا يغرينا بأن نفترض أن القائمة AA *هى قائمة أولئك الذين كانوا فى الحبشة وتم اعتبارهم من المهاجرين للمدينة، ولكن رغم أن معظمهم ممن شاركوا فى الحدثين: الهجرة الى الحبشة وشهود بدر وتم حذفهم من القائمة H قد تم حذفهم أيضا من القائمة AA والدليل غير قوى، وفيما يلى احصاء كامل:   * عن دلالات الرموز فضلنا تركها كما هى مراعاة للايجاز، ويمكن الرجوع للملحق (هـ) لمعرفة دلالاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 - الوارد ذكرهم فى القوائم الثلاثAA: وR و8 H الوارد ذكرهم فى AA وR ولم يرد ذكرهم فى) 4 H منهم واحد محل شك) الوارد ذكرهم فى AB وR وكذلك فى4 H الوارد ذكرهم فى AB وR وليسوا فى14 H ومع أن هذا الدليل ضعيف، فان هذا الفرض ربما كان لا يزال مقبولا (لأننا نفتقد ما هو أفضل منه) ذلك لأن القائمة AA كما هو مقترح هى قائمة بمن قام بالهجرتين (الى الحبشة والى المدينة) ، وقد نفترض ما هو أكثر وهو الاعتماد على معلومات (قوائم) فيها نقص شديد فيما يتعلق بالمهاجرين الى المدينة. لكن دعنا نقول كما يقول المسلمون: الله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الملحق (ح) عودة المهاجرين قائمة العائدين (ممن شهدوا بدرا) وهى القائمة R قد ناقشناها لتونا. لكن هذه تحسب فقط حوالى نصف المهاجرين الى الحبشة. فما معلوماتنا عن تاريخ عودة الاخرين؟ نجد فى كتاب ابن هشام (781- 788) قوائم مختلفة تهدف الى اكمال الصورة. أول هذه القوئم قائمة بأولئك الذين صحبوا جعفر بن أبى طالب فى السفينتين، والذين التحقوا بمحمد (صلّى الله عليه وسلم) فى خيبر فى العام السابع للهجرة. وهذا يبدو مستقيما تماما بقدر ما أن الستة عشر شخصا هم المقصودون وهذا ما يهمنا هنا. وبعد ذلك فى الصفحة 787 نجد أسماء سبعة الأشخاص الذين ماتوا فى الحبشة. هذه الأسماء (أسماء من ماتوا) موجودة فى القائمة السابقة التى ذكر فيها (34) اسما لرجال لم يلحقوا بمحمد (صلّى الله عليه وسلم) فى مكة ولم يشهدوا بدرا ولم يعودوا فى السفينتين. فهذه ببساطة قائمة قد جمعت معا كل أولئك الذين كانوا فى الحبشة والذين لا يعرف شىء محدد عنهم. وقائمة ال 27 الذين عادوا أحياء قد يكون من الملائم أن نسميها القائمة المجهولة أو (س) . ومن بين السبعة والعشرين لا نعرف عن 22 منهم أية تفاصيل تمكننا من الحديث عن أى شىء متعلق بعودتهم، رغم أنه يقال ان بعضا منهم قد شهد معركة الطائف وما أعقبها من أحداث. ونعرف أن بعضهم قد يكونون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 بقوا فى الحبشة بعد مغادرة جعفر. وهناك أربعة تذكر روايات محددة أنهم شهدوا غزوة أحد: قيس بن عبد الله (حليف عبد شمس) وأبو الروم ابن عمير (عبد الدار) وأبو قيس بن الحارث (سهم) وسليط بن عامر (عامر) . وهؤلاء اما أن يكونوا قد غادروا الحبشة متوجهين مباشرة الى المدينة، أو- وربما كان هو الأكثر قبولا- ذهبوا الى مكة حيث أقربائهم ثم استطاعوا بشكل أو باخر أن يهاجروا من مكة الى المدينة. وأخيرا هناك الحجاج بن الحارث بن قيس أو الحارث بن الحارث بن قيس أو الحارث ابن الحارث واذا كان هذان الاسمان يشيران الى شخص واحد، فاننا نواجه موقفا طريفا؛ ذلك لأن الحجاج قد أسر فى بدر اذ كان يحارب ضد المسلمين. وابن هشام ذكر فقط الحارث فى القائمة AB والحجاج كأسير، لكن ابن سعد يقول ان الحجاج شهد الهجرة الثانية للحبشة، ولم يذكر الحارث. ويذكر ابن حجر أن المصادر المختلفة- بما فيها ابن اسحق- تتحدث عنه باعتباره ذهب للحبشة، وهو أيضا يلاحظ أن بعض الرواة يقولون انه لم يتحول للاسلام الا بعد أسره فى بدر. وعلى هذا، فيبدو أن ابن هشام قد صحح معلومات قائمة ابن اسحق AB فى هذه النقطة، فمما لا شك فيه أنه مادام قد تم أسره فى بدر فلا يمكنه الهجرة للحبشة كمسلم. لكن هل هذا أمر محال حقا؟ ألا يمكن أن «يضل» حتى بعد الهجرة؟ ثم ألا يساعدنا هذا الفرض فى تفسير بعض الاضطراب فى المصادر (حيث لا شىء ورد عن الحارث ولا الحجاج؟) . ان الشخصيات غير واضحة المعالم والبراهين واهية جدا، مما يجعلنا لا نعول عليها كثيرا. مما يدعونا الى القول ان بعض المهاجرين الى الحبشة قد تركوا- لفترة- جماعتهم المسلمة وانضموا لأعداء الاسلام، ربما حتى من بين من حاربوا فى أحد الى جوار محمد (صلّى الله عليه وسلم) . وبالنسبة للباحثين المسلمين المتأخرين زمنا، فان هذه الردة أمر لا يمكن التفكير فيه وربما محوا أخبارها وعموا على اثارها، لكن تبقى حالة الحجاج بن الحارث السهمى ذات دلالة. كما أن الحقيقة التى مؤداها أن يزيد بن زمعة (أسد) والسائب بن الحارث (سهم) كانا حاضرين فى الطائف، تعد دليلا مؤكدا على أنهما كانا فى مكة الى جانب المشركين، حتى تم فتحها على يد محمد (صلّى الله عليه وسلم) والمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379