الكتاب: شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: أحمد بن عبد الفتاح زواوى الناشر: دار القمة - الإسكندرية الطبعة: - عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحمد بن عبد الفتاح زواوى الكتاب: شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: أحمد بن عبد الفتاح زواوى الناشر: دار القمة - الإسكندرية الطبعة: - عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الأول [ مقدمات ] مقدمة الشيخ أحمد فريد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. ثم أما بعد ... فإني قد تصفحت موسوعة أخي الحبيب الأخ أحمد الزواوي، التي سماها «فوائد التربوية من سيرة خير البرية» فألفيتها جامعة نافعة، وقد وفّق- حفظه الله- في اختيار الموضوع، فإن الكلام عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ونهجه ووجوب متابعته، وما يؤخذ من ذلك من فوائد تربوية جمّة، كلام حبيب إلى نفوس المؤمنين، لمحبتهم لشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم، وذلك عقد من عقود الإيمان، فلا يكمل إيمان عبد حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لأبيه وولده والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه، وموضوع الكتاب مما يزيد هذه المحبة، ثم يكثر في موضوع الكتاب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ويستلزم ذلك كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أكثرهم عليه صلاة، وقد بذل الباحث جهدا كبيرا في جمع مادته الطيبة من كتب السنة المعتبرة، وقد تحرى الصحيح المسند من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، مما ورد في الصحيحين أو أحدهما، ومن خاض غمار هذا البحث فقد وفق إلى دخول بستان فسيح، فيه الثمار اليانعة، والأزهار الفواحة، فهو ينتقل من شجرة إلى شجرة، ومن ثمرة إلى ثمرة، ومن زهرة إلى زهرة، فهنيئا للمسلمين هذا العسل المصفى، مما يزيدهم حبّا واتباعا وتعظيما وتوقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله- تعالى- أن يتقبل هذا العمل الصالح، والبحث العلمي من أخي الزواوي، وأن يجعله له ذخرا يوم الورود عليه، وأن ينفع به من انتهى إليه، وألايحرمنا معه من الثواب، فإن المصاب من حرم الثواب، وصلّى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للعالمين، وحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتبه أحمد فريد بالإسكندرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 مقدمة الشيخ/ محمد حسين يعقوب الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، رب يسر وأعن بخير يا كريم، قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] ، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وقال جل شأنه: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] ، أما بعد.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم له علينا حق عظيم، ومهما قدمنا فلن نوفيه بعض حقه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكيف لا وكل خير من خيري الدنيا والآخرة أصبناه فسببه النّبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، وإن بعض حقه علينا معرفة سيرته العطرة وتفاصيل حياته المباركة، ونشر ذلك وبثه وتعلمه وتعليمه، والمؤلفات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مهما بلغت لن تؤدي شيئا من حقه، ومازلنا بحاجة إلى سد ثغرات تحتاج أن تجتنى لها فوائد من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. لذا جاء هذا الكتاب الذي دفعه إليّ صديق قديم وأخ حبيب هو الأستاذ/ عاطف أحمد شرف الدين، وهو صديق عمري ترجع مدة أخواتي له وعلاقتي به إلى أكثر من ثلاثين سنة، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا لأحد إخوانه وأصفيائه وهو الأستاذ/ أحمد الزواوي أكرمه الله، وقد طوفت بأبواب الكتاب طوافا سريعا فوجدته كتابا قيما يعتمد طريقة السلف الصالح في التأليف وهي سرد النصوص من الكتاب والسنة مع التبويب والترجمة التي تستخرج الفوائد، ورأيته في بعض النصوص قد ذكر أكثر من عشرين فائدة، وفي بعض الفوائد ذكر عشر نقاط في الفائدة الواحدة، وهذه طريقة جليلة أسأل الله أن ينفع بها، ورأيته في بعض المواضع الآخرى قد استطرد استطرادات طويلة تناسب ما يحتاجه أهل عصرنا فجمع الكتاب الحسنيين: الأصالة والمعاصرة. ولم يقع في يدي في هذه النظرة العجلى على الكتاب ما أنكره إلّا كلامه على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم في القبر، فإنه خلص في النهاية إلى أنه ينبغي السكوت عن هذه المسألة، فكان من الأولى عدم عرضها أصلا، ثم الكتاب في مجمله كتاب قيم جامع شامل أرجو أن يكون كذلك، أنصح باقتنائه، وأسأل الله أن ينفع به. وأسأل الله عز وجل أن يجزي مؤلفه كل خير، وأن يجزي الأستاذ عاطف شرف الدين الذي عرفنا به كل خير، فالدال على الخير كفاعله، وأسأل الله جل وعلا أن يستعملنا لنصرة الدين، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعافينا من البلاء، وأن ينجينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا حسن الخاتمة، والجنة بغير حساب إنه ولي ذلك والقادر عليه. وكتب/ محمد بن حسين يعقوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مقدّمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد.. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] . يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) [النساء: 1] . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) [الأحزاب: 70، 71] . ثم أما بعد.. فإن الله- تعالى- منّ على هذه الأمة بأكبر وأعظم منّة على الإطلاق تلك المنة التي غبطتنا عليها الأمم السابقة ويتمناها بعضهم، لكن حال بينهم وبينها الكبر تارة والعناد تارة أخرى، تلك المنة هي رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين، وقد ذكر الله- تعالى- ذلك في كتابه صراحة حيث قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران: 164] . ورغبة مني في خدمة ديننا الحنيف، فقد استخرت الله عز وجل أن أجمع وأرتب مصنفا يشتمل على فوائد تربوية مهمة، ولما كانت أحب الموضوعات وأكثرها تشويقا إلى قلوبنا جميعا تلك التي تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت أن تكون موضوعات الكتاب شمائل وخصوصيات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى دلائل نبوته ومكانته عند خالقه عز وجل، وحب الصحابة رضى الله عنهم لشخصه الكريم، وبذلك يتسنى للقارئ الحبيب معرفة قدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيزداد حبا له واتباعا لسنته الشريفة، وتعظيما وإجلالا لقدره وهي أمور نحن في أمسّ الحاجة إليها، كما يقف القارئ من خلال فوائد الكتاب على أمور كثيرة من هديه صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة، وقد اقتصرت في الأدلة على آيات الذكر الحكيم، وما ورد في الصحيحين. وأسأل الله العليّ القدير أن ينفع به كل من قرأه وعمل به وساهم في نشره وتوزيعه إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 منهج البحث قسمت الكتاب إلى: 1- مقدمة. 2- تمهيد . 3- الباب الأول: أهمية السنة النبوية، ووجوب اتباعها. 4- الباب الثاني: إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم بالدلائل والمعجزات. 5- الباب الثالث: في خصائص أفضل المخلوقين وسيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم. 6- الباب الرابع: صفات وجوانب من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. 7- الباب الخامس: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند خالقه سبحانه وتعالى 8- الباب السادس: مظاهر حب وإجلال الصحابة رضى الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم. 9- الباب السابع: أيام من حياة النبي صلى الله عليه وسلم. 10- وضعت خاتمة مختصرة في نهاية الكتاب. 11- وضعت فهارس للكتاب تسهل البحث فيه بأسهل عبارة وطريقة: فهرست كل ما يمكن أن يفهرس على النحو التالي: 1- فهرس للآيات الكريمة. 2- فهرس لأطراف الأحاديث. 3- فهرس للأشعار. 4- فهرس للفوائد. 5- فهرس للموضوعات. وأسأل الله- تعالى- أن ينفع به كل من نظر فيه، أو قرأه أو استفاد به، إنه على ذلك قدير كتبه مؤلفه أبو محمد/ أحمد عبد الفتاح الزواوي بمحافظة الطائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تمهيد آثرت أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض الأصول والقواعد الهامة التي يدور عليها موضوع الكتاب وهي من المسلمات عند أهل الحق والأتباع فمن ذلك: 1- ذكر الآيات القرآنية في أمر النبوة والرسالة والشمائل على سبيل الإجمال أولا: تسلية الله عزّ وجلّ للنبي صلى الله عليه وسلم: أ- تسليته صلى الله عليه وسلم بذكر استهزاء الكفار لمن قبله من الرسل: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [فاطر: 4] . وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10] . ب- تسليته صلى الله عليه وسلم بذكر أسباب تولي الكفار وتكذيبهم: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ج- تسليته صلى الله عليه وسلم بتعذيب أعدائه والانتقام منهم: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] . د- تسليته صلى الله عليه وسلم بالنصر على عدوه في الدنيا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] . ثانيا: الشفقة عليه صلى الله عليه وسلم وتخفيف حزنه على عدم هداية الناس أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] . وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثالثا: أمره صلى الله عليه وسلم بأعظم شرائع الدين أ- بإخلاص العبادة لله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] . ب- بإخلاص حياته ومماته صلى الله عليه وسلم وكل شأنه لله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 162] . ج- بالتوكل على الله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] . د- بشكر الله عزّ وجلّ على آلائه العظيمة: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 66] . هـ- بالاعتصام بالوحي: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] . وبالاقتداء بأفضل خلقه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [الأنعام: 90] . ز- بالصبر على الدعوة وأذى الأعداء: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ [الأحقاف: 35] . رابعا: تزكيته صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي كل ما يخصه أ- تزكيته صلى الله عليه وسلم بالصدق: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] . ب- تزكيته صلى الله عليه وسلم بعظيم حسن الخلق: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . ج- تزكية من علمه صلى الله عليه وسلم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 د- تزكية من نزل عليه بالوحي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] . هـ- تزكية كتابه صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء: 9] . وتزكية سنته صلى الله عليه وسلم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . ز- تزكية قلبه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 97] . ح- تزكية لسانه صلى الله عليه وسلم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] . ط- تزكية بصره صلى الله عليه وسلم: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] . خامسا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سوء الأخلاق واتباع الأهواء: أ- نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع الهوى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] . ب- نهيه صلى الله عليه وسلم عن سماع الباطل وحضوره: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] . سادسا: أمر المؤمنين بتعظيمه صلى الله عليه وسلم وحبه وإيثاره على كل من سواه أ- بتوقيره وإجلاله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] ، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9] . ب- الوعيد لمن أحب شيئا من الدنيا أكثر منه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة: 24] . ج- إعلامهم أن إرضاءه صلى الله عليه وسلم مقدم على إرضاء الناس: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة: 62] . د- إلصاق أقبح الصفات بمن رغب بنفسه عنه صلى الله عليه وسلم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] . هـ- رفع الحرج عن ضعفاء المسلمين وفقرائهم شريطة النصح له صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 91] . ز- إرشادهم أن ملازمته ونصرته صلى الله عليه وسلم سبب من أسباب توبة الله على العباد: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 117] . ح- تربية المسلمين على تقديمه صلى الله عليه وسلم على النفس: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الأحزاب: 6] . سابعا: تعظيم أمر طاعته صلى الله عليه وسلم وتغليظ العقوبة على مخالفته صلى الله عليه وسلم أ- بجعلها طاعة لله عزّ وجلّ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء: 80] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ب- هي علامة حب العبد لله- تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] . ج- بترتيب الجزاء العظيم على التمسك بها: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 71] . د- الوعد بمرافقة أفضل الخلق ومن يلونهم في جنات الفردوس لمن أطاعه صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] . هـ- التحذير الشديد من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: 115] . وذم من أعرض عن التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: 48- 50] . ثامنا: إثبات عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للثقلين (الإنس والجن) وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . تاسعا: حفظ الله عزّ وجلّ ورعايته البالغة له صلى الله عليه وسلم أ- ذكر الرعاية الشاملة: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] . ب- ضمان رزقه صلى الله عليه وسلم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: 132] . ج- تأييده صلى الله عليه وسلم بأحسن الحجج والبراهين: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] . د- تهيئة صدره صلى الله عليه وسلم للقيام بأعباء الرسالة على أحسن وجه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عاشرا: تربيته صلى الله عليه وسلم على أحسن التربية وأقومها أ- بالأمر بقيام الليل منذ بدء البعثة: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 1، 2] . ب- أمره صلى الله عليه وسلم بحسن معاملة الناس: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] . ج- تعليمه صلى الله عليه وسلم حسن التأدب مع الله عزّ وجلّ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50] د- توجيهه صلى الله عليه وسلم بطلب الاستزادة بما ينفعه: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . هـ- أمره صلى الله عليه وسلم بالدوام على ذكر الله تعالى آناء الليل والنهار: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: 130] . وإرشاده صلى الله عليه وسلم بإلانة الجانب والكلام تواضعا لمن اتبعه: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] . ز- أمره صلى الله عليه وسلم بتعهد القرآن وتلاوته: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45] . ح- أمره صلى الله عليه وسلم باتباع أفضل الملل: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] . ط- أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الزائل الفاني: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف: 28] . ي- أمره صلى الله عليه وسلم بمواصلة العبادة حتى انتهاء الأجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ك- تربيته صلى الله عليه وسلم على الأخذ بعزائم الأمور: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52] . ل- عدم أخذ الأجر على الدعوة: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23] . الحادي عشر: رفع ذكره صلى الله عليه وسلم في الأولين والآخرين أ- دعا ببعثته صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . ب- بشّر به صلى الله عليه وسلم عيسى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] . ج- الثناء عليه صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] . د- رفع ذكره المطلق صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] . هـ- تقديم ذكره صلى الله عليه وسلم على بقية الأنبياء مع أنه آخرهم بعثة: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء: 163] . وقسم الله سبحانه بحياته صلى الله عليه وسلم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ز- نعته صلى الله عليه وسلم باسمين من أسماء الله الحسنى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] . الثاني عشر: امتنان الله عزّ وجلّ على الأمة ببعثته صلى الله عليه وسلم لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164] . الثالث عشر: ذكر منته عزّ وجلّ بفضله الواسع السابغ على النبي صلى الله عليه وسلم إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً [الإسراء: 87] . وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] . الرابع عشر: ذكر منّته صلى الله عليه وسلم على أمته رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً [الطلاق: 11] الخامس عشر: إثبات سلامته صلى الله عليه وسلم مما رماه به المشركون أ- من الجنون: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] . ب- من الشعر: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] . ج- من الكهانة: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 42] . د- من السحر: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 السادس عشر: وعده صلى الله عليه وسلم بالأجر الدائم الموصول وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم: 3] . السابع عشر: توالي المنح عليه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة والتي منها أ- مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وسلم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح: 2] . ب- الفتح المبين: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] . ج- إظهار دينه صلى الله عليه وسلم على كل الأديان: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] . د- المقام المحمود: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] . هـ- إعطاؤه صلى الله عليه وسلم الكوثر: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] . وإرضاؤه صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] . ز- ضمان ترضيته صلى الله عليه وسلم (في الدنيا والآخرة) : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] . الثامن عشر: تعظيم البلد الحرام بإقامته فيه صلى الله عليه وسلم: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1، 2] . التاسع عشر: الثناء عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل ما جاء به ودعا إليه: أ- الثناء على شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ب- الثناء على دعوته صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون: 73] . ج- الثناء على هديه صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67] . العشرون: تعدد وسائل نصر الله عزّ وجلّ له صلى الله عليه وسلم أ- النصر بالرعب: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران: 151] . ب- النصر بالملائكة الأطهار البررة: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 125] . ج- النصر بإنزال السكينة على قلبه صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التوبة: 26] . د- النصر بتقليل العدو في عينيه صلى الله عليه وسلم: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الأنفال: 43] . الحادي والعشرون: تعظيم أمر صلاته واستغفاره صلى الله عليه وسلم للمؤمنين وبيان أن الزهد فيها سيمة المنافقين: أ- صلاته صلى الله عليه وسلم على المؤمنين طمأنينة للقلوب: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103] . ب- الحث على الإنفاق طمعا في صلاته صلى الله عليه وسلم عليهم: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 99] . ج- استغفاره صلى الله عليه وسلم للمؤمنين سبب لتكفير الذنوب والخطايا: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] . د- ذم المنافقين على الزهد في صلاته صلى الله عليه وسلم: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون: 5] . الثاني والعشرون: كفاية الله- تعالى- له صلى الله عليه وسلم من كل الوجوه أ- كفايته صلى الله عليه وسلم شرعا: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء: 166] . ب- كفايته صلى الله عليه وسلم قدرا: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [المائدة: 67] . ج- كفايته صلى الله عليه وسلم العامة الشاملة: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 36] . يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] . الثالث والعشرون: إثبات عصمته صلى الله عليه وسلم أ- عصمته صلى الله عليه وسلم في أمره كله (عاداته وعباداته) : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . ب- عصمته صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن ربه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44. 46] . ج- عصمته صلى الله عليه وسلم عن الميل للباطل ولو يسيرا: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الرابع والعشرون: ضمان نصره صلى الله عليه وسلم ولو تخلى عنه الناس جميعا: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40] . الخامس والعشرون: بعثته صلى الله عليه وسلم رحمة عامة وخاصة: أ- رحمة عامة: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . ب- رحمة خاصة: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] . السادس والعشرون: تغليظ العذاب لمن آذاه أو حادّه أو استهزأ به صلى الله عليه وسلم. أ- لمن استهزأ به صلى الله عليه وسلم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 65- 66] . ب- لمن آذاه صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً [الأحزاب: 57] . ج- لمن حادّه صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة: 5] . السابع والعشرون: صلاة الله- تعالى- وملائكته عليه صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين بذلك إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] . الثامن والعشرون: تأديب أصحابه في التعامل معه صلى الله عليه وسلم من كل وجه أ- عدم رفع الصوت في حضرته صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ب- عدم تسوية دعائه صلى الله عليه وسلم بدعاء غيره: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] . ج- عدم التقديم بين يديه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] . د- وجوب إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم على الفور (ولو في الصلاة) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24] . التاسع والعشرون: تعظيم نسائه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. أ- تحريم الزواج من نسائه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] . ب- لنسائه صلى الله عليه وسلم ما للأمهات من التوقير والإجلال: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الأحزاب: 6] . ج- تطهير أهل بيته صلى الله عليه وسلم من كل سوء ودنس: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] . د- نساء الأمة دون منزلة نسائه صلى الله عليه وسلم: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب: 32] . هـ- تربيتهن على أحسن الأخلاق والأفعال والأقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33] . الثلاثون: ولاية الله عزّ وجلّ وأهل السماء وصالح أهل الأرض له صلى الله عليه وسلم. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . الواحد والثلاثون: تكليفه صلى الله عليه وسلم بما لا يطيقه غيره. فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا [النساء: 84] . الثاني والثلاثون: رؤية الله عزّ وجلّ له صلى الله عليه وسلم. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 217- 219] . الثالث والثلاثون: تثبيت قلبه صلى الله عليه وسلم. أ- تثبيت القلب بإنزال القرآن مفرقا بخلاف بقية الكتب: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . ب- تثبيت القلب بذكر قصص الأنبياء وسنن الله عزّ وجلّ في الذين خلوا من قبل: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الباب الأول أهمية السنة النبوية ووجوب اتباعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تقديم في البداية لا بد لنا من تعريف مبسط لمعاني السنة عند علماء اللغة وعند أهل العلم بالحديث. تعريف السنة في اللغة: عرف اللغويون السنة بتعريفات عدة منها: [التعريف] الأول: السنة هي الطريقة الحميدة أو غيرها: قال- تعالى-: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا [الإسراء: 77] . وقال صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» «1» . غير أنها إذا أسندت للنبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون إلا حسنة. [التعريف] الثاني: هي القيام على الشيء ورعايته حسن الرعاية. [التعريف] الثالث: وهي الأمة والأمم كسنة وسنن، قال- تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137] . [التعريف] الرابع: وتطلق على العود إذا كان معوجا أو مستقيما. [التعريف] الخامس: تطلق أيضا على القائد، وعلى الماء، وكل هذه المعاني ترجع من وجه أو آخر على المعنى الأول. قال القنوجي «2» في (أبجد العلوم) : السنة صنو القرآن الكريم وإنما فارقها لكونه للتحدي، وهي مشاركة له في التشريع، وقد تكفل الله بحفظ الكتاب، ويلزم منه حفظ السنة لكونها وصفت بأنها وحي. تعريف السنة في الاصطلاح: اصطلح أهل الحديث فيما بينهم على تعريف السنة والحديث والخبر، وكذلك الأصوليون ومن أهم التعريفات وأشملها التعريف التالي:   (1) مسلم، كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، برقم (1017) ، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) هو محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، أبو الطيب: من رجال النهضة الإسلامية المجددين، ولد ونشأ في قنوج بالهند، وتعلم في دلهي، توفي عام (1307 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 السّنة كل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية حقيقة أو حكما حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام. وبعد هذا التعريف أستفتح الكتاب بالصلاة والسلام على خير الأنام نبينا وحبيبنا سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم حيث قال ربنا جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] . 1- للرسول صلى الله عليه وسلم طاعة مستقلة: إن من أعظم ما تقرب به المتقربون لربنا، جل وعلا، طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ فإن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، ومعصية الرسول من معصية الله- تعالى.، وقد أمرنا ربنا- جل وعلا- في كتابه العزيز باتباعه حيث قال- تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الحشر: 7] . أولا: مدخل لفهم الآية: أمر الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وألزمهم بها في مواضع كثيرة من القرآن العظيم، وكذا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه الله إليه من الحكمة، وهذا الأمر معلوم في الدين بالضرورة لا يسع أحدا إنكاره، ولكن الذي أحب أن يعلمه الناس في هذا الموضع، وهو مدخل لفهم عنوان الباب، أن الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم جاء في القرآن على ثلاثة أضرب: [الضرب] الأول: أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم داخلة ضمنا في طاعة الله عزّ وجلّ: قال- تعالى-: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران: 32] ، وتلك الطاعة تمثل الانقياد لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أوامر قد أمر بها الله عزّ وجلّ، مثل عموم الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والصوم وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [الضرب] الثاني: وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شرعه الله من أمر ونهي وتحريم وحلال: فقد جاءت السنة الشريفة لتبين مجمل الكتاب وتوضح ما اشتمل عليه من الأوامر، بل وتخصص عمومه، يدلنا على ذلك، قوله- تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، فالسنة هي التي بينت أركان الصلاة وواجباتها وسننها ونواقضها ومكملاتها، وليس في القرآن شيء من ذلك، وكذلك فرائض الصيام والزكاة والحج، وقد تأتي السنة بما يخصص عموم القرآن، كقوله- تعالى-: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [النساء: 24] ، فجاءت السنة فخصصت عموم الآية بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها. وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» «1» . [الضرب] الثالث: طاعة مستقلة للنبي صلى الله عليه وسلم في أوامر ونواه لم تذكر في القرآن: وهي أوامر النبي صلى الله عليه وسلم المستقلة- أي التي ليس فيها نص من القرآن الكريم- أكثر من أن تعد أو تحصى، ومنها على سبيل المثال في الصلوات: تشريع صلاة الاستسقاء والجنازة وصلاة العيدين وسجود الشكر، وفي الزكوات: سن زكاة الفطر، وفيما يحرم لبسه: تحريم الذهب والفضة على الرجال، وفيما يتعلق باداب الأكل والشرب وتحريم الأكل في آنية الذهب والفضة وسنة الأكل والشرب قاعدا وحمد الله بعد الأكل، كما أن في السنة: الأمر بحضور الجماعات وتغسيل الميت وتكفينه ودفنه، ودليل وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في مثل تلك الأوامر والنواهي هو قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56] ، مع آية الباب الصريحة الواضحة: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الحشر: 7] . وأجمل وأبلغ ما يؤكد أن المراد بالآية أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي التى ليس لها ذكر في كتاب الله عزّ وجلّ، وأننا ملزمون بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيها كالتزامنا بطاعة الله سواء بسواء، ما رواه عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: «لعن الله الواشمات والموتشمات، والمتنمّصات، والمتفلّجات «2» للحسن المغيّرات خلق الله» . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أمّ يعقوب، فجاءت فقالت: إنّه بلغني عنك أنّك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب الله؟! فقالت: لقد قرأت ما بين اللّوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى. قال: فإنّه قد نهى عنه. قالت: فإنيّ أرى أهلك   (1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، برقم (5109) ، ومسلم، كتاب النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، برقم (1408) . (2) الواشمات: جمع واشمة، وهي التي تقوم بعمل الوشم وهو أثر وخز الجلد بالإبر. الموتشمات: جمع موتشمة أو مستوشمة وهي التي تطلب لنفسها الوشم. المتنمصات: جمع متنمصة وهي التي تطلب إزالة الشعر من الوجه أو الحاجب. المتفلجات: المفرقات بين الأسنان طلبا للجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يفعلونه. قال: فاذهبى فانظري، فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا. فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها «1» . ثانيا: بعض أقوال العلماء- رحمهم الله- في تفسير الآية : وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ: قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر) «2» ، ونقل القرطبي عن المهدوي أنه قال في تفسير الآية: (هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله- تعالى.، والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها) «3» ، وقال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم الشيء كنص الله- تعالى.، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله صلى الله عليه وسلم) «4» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: الأصل في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب، إلا ما دل دليل على أن الأمر فيه للاستحباب، كما أن الأصل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم التحريم إلا ما دل الدليل على أن النهي فيه للكراهة، ودليله أن أوامر الله- سبحانه وتعالى- في القرآن للوجوب والآية تقول: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ. الفائدة الثانية: الزعم بأن اتباع أوامر ونواهي القرآن فحسب، واعتقاد البعض أن القرآن يكفيهم هو ضلال، وردّ للقرآن الذي أمرنا صراحة بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر ونهى، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم طاعة مستقلة، وأنه صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى بأمور لم يرد ذكرها في القرآن، ما كان لهذه الآية الكريمة من معنى، ويؤكد ذلك ما رواه البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم؛ إنّما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» «5» .   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، برقم (4886) ، ومسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة، برقم (2125) . (2) انظر تفسير القرآن العظيم، (4/ 337) . (3) انظر الجامع لأحكام القرآن (18/ 17) . (4) انظر تيسير الكريم الرحمن، (851) . (5) البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (7288) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الفائدة الثالثة: عظيم اعتناء الله- سبحانه وتعالى- لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مع حث المسلمين أبلغ الحث على اتباعها، وقد ظهر هذا الاعتناء جليّا واضحا على أحسن ما يكون في الآية الكريمة، وقد جاءت مظاهر هذا الاعتناء على النحو التالي: 1- جاءت ألفاظ الآية الكريمة مطلقة بوجوب اتباع السنة، فقال- تعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ. فلم تقيد الآية وجوب اتباع أمر دون أمر أو حال دون آخر، ولا زمان دون زمان، فعلم من ذلك وجوب الاتباع على كل حال وفي كل زمان وفي كل الأمور. 2- لم تقتصر الآية على عموم الأمر بالاتباع مثل قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، ولكن جاء الأمر مفصلا بوجوب الأخذ بما وردت به السنة ووجوب الانتهاء عما نهت عنه، فقال- تعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. 3- أمرت الآية الكريمة المؤمنين بتقوى الله عزّ وجلّ بعد الأمر باتباع كل ما ورد بالسنة واتقوا الله، للدلالة على أن اتباع السنة علامة على تقوى الله، فالتقوى واتباع السنة أمران مطردان فكلما زادت تقوى المسلم كلما كان أشد اتباعا للسنة وأكثر تمسكا بها، كما علمتنا الآية ومن ثمّ فمن ادعى تقوى الله عزّ وجلّ وهو مفرط في اتباع السنة فإنه كاذب في دعواه. 4- ختمت الآية بالوعيد الشديد لمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو جفاها، بذكر صفة من أعظم صفات الله التي ترد لتخويف العباد، وهو أنه- تبارك وتعالى- شديد العقاب، ولا شك أن هذا التهديد موجه لمن فرط في السنة أو رغب عنها. الفائدة الرابعة: استحالة وجود تعارض بين أوامر الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم وبين أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الشريفة الصحيحة، لأن الله عزّ وجلّ أمرنا بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولو قدّر وجود تعارض بين الكتاب والسنة لاستلزم الأمر أن الله عزّ وجلّ قد أمرنا بالشيء ونقيضه، وهذا يستحيل في الشرع الحكيم الذي أنزله فاطر السماوات والأرض، ويتفرع عليه أن الذي ادعى وجود التعارض لم يقدح في النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدح في المولى- سبحانه وتعالى- كما بينت، فما كان من تعارض في ظاهر اللفظ فقد أزال العلماء هذا التعارض، بإثبات النسخ أو حمل المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، وقد قال الإمام الشافعي- رحمه الله- تعالى-: (على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصّا في كتاب الله، طلبوه في سنة رسول الله، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فعن الله قبلوه، بما افترض من طاعته) «1» . الفائدة الخامسة: دلت الآية الكريمة دلالة مباشرة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما فعله وكل ما أمر به أو نهى عنه، ووجه ذلك أن الله عزّ وجلّ ما كان ليأمرنا أمرا مطلقا باتباع كل ما جاء بالسنة، إلا لعلمه بعصمة صاحب هذه السنة صلى الله عليه وسلم في جده وضحكه، في رضاه وغضبه، في صحته ومرضه، بل في يقظته ومنامه وفي حلّه وتر حاله، فمن شكك في تلك العصمة فقد طعن في حكمة الله عزّ وجلّ. 2- الاتباع دليل محبة الله وسبب مغفرة الذنوب: قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] . قال الشيخ السعدي- رحمه الله- في تفسير الآية الكريمة كلاما جامعا مانعا، حيث قال ما نصه: (هذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله- تعالى-، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبّا لله- تعالى-؛ لأن محبة الله توجب له اتباع رسوله فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله وما نقص من ذلك نقص) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: أن الله عزّ وجلّ يحبّ ويحبّ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافا لمن أنكر أن الله عزّ وجلّ يحب، لحجج عقلية، دفعوا بها النصوص الصريحة الصحيحة، ومن تلك الحجج أن الحب فيه ليونة، والله عزّ وجلّ منزه عن ذلك، وأن الحب يكون من اثنين من جنس واحد، ويؤولون الحب بأنه إرادة الثواب «3» ، وهذا المذهب خاطئ، من عدة وجوه:   (1) انظر «الرسالة» للشافعي، (1/ 138) . (2) تيسير الكريم المنان (ص 128) . (3) قال بذلك الإمام النووي على صحيح مسلم، (6/ 95) ، وانظر «فيض القدير» ، (1/ 179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الوجه الأول: نقول كيف تقيسون صفات الله عزّ وجلّ على صفات البشر؟! فتقولون إن حب الله عزّ وجلّ إن حدث منه الحب، يقتضي أن يكون عنده، مثل ما عند البشر من رقة وليونة، والله- تعالى- يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . الوجه الثاني: إن إرادة الثواب ليست هي الحب، فمن ادعى اشتراكهما في المعنى، فقد عارض اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، فمعلوم أن الثواب يأتي بعد الرضى والحب. الوجه الثالث: هل يعقل أن الله- سبحانه وتعالى- يأتي يوم القيامة، يسأل الناس لم أثبتم لي صفة الحب، وهي صفة نقص لا تليق بجلالي؟! مع أنه سبحانه أثبت لنفسه تلك الصفة في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سننه، وعليه فإن المذهب الصحيح، هو مذهب أهل السنة والجماعة، حيث لا اجتهاد مع النص، وقد أثبت الله عزّ وجلّ لنفسه صفة الحب في آيات كثيرة، منها: قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] ، وتأمل كيف بدأ الله المؤمنين بالحب، فقال: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، كما بدأهم بالتوبة، فقال- تعالى-: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: 118] ، بل بدأهم بالرضى فقال- عز من قائل.: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا [المائدة: 119] . وعلى المسلم الحريص على دينه، ألا يقدم عقلا على نصّ في جميع أمور الدين، سواء كانت مسائل أصولية أو فرعية، وما تفرقت الأمة إلا بعد تقديم العقل على النقل، وإذا كان الله عزّ وجلّ قد تعبدنا بالعقل، فلماذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب، والحاصل أن الآية أثبتت أن الله يحب لقوله- تعالى- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، وأنه يحب قال- تعالى-: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وكيف تنكرون أن الله يحب وقد أثبت ما هو أعظم من المحبة، بل منتهى المحبة وهو الخلة، لإبراهيم ومحمد- صلى الله عليهما وسلم تسليما كثيرا، قال- تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] ، وسيأتي ذلك إن شاء الله مفصلا عند الكلام عن الخلة. الفائدة الثانية: لما ادعى قوم حب الله عزّ وجلّ، وكان لكل دعوى دليل لإثبات صدقها، اشترط الله لصدق هذه الدعوى- بل أقول: والمثوبة عليها- متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كانت دعوتهم صادقة اتبعوه، وإلا حادوا عن الاتباع، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» «1» ولهذا قال: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» «2» . وفي الآية أن الشرط الوحيد لإثبات حب العبد لله، وما يترتب عليه من حب الله، هو الاتباع، فإن قال قائل: كيف يكون هو الشرط الوحيد، فالجواب من جهتين: الجهة الأولى: أن النص الذي معنا هو النص الوحيد، الذي اشترط المتابعة لنيل حب الله عزّ وجلّ، ولو كان هناك شرط آخر، أو سبيل آخر للفوز بحب الله لبينه- سبحانه وتعالى-. الجهة الثانية: أن كل عمل يحب الله عامله، مثل إقامة الصلاة وبقية فروع الشريعة، لن يتقبله الله عزّ وجلّ إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم بل المتابعة شرط لصحة هذا العمل، الذي يرتضيه الله عزّ وجلّ، ويرتب عليه الجزاء، ومن ذلك يتأكد لنا أن المتابعة هي الشرط الوحيد، لحب الله عزّ وجلّ، فلا غرابة في ذلك، وكفى ذلك تشريفا لسنته صلى الله عليه وسلم وتعظيما لأمر متابعته، وقد فهم الصحابة رضى الله عنهم ذلك، فلم يألوا جهدا في متابعته صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر ونهى، بل تجاوزت المتابعة الأمر والنهي، فشملت عاداته التي قد لا تتصل بالشرع، كما ذكرت ذلك في مواضع كثيرة. الفائدة الثالثة: يؤخذ من الآية الكريمة، أنه كلما كان الإنسان صادقا في حب الله عزّ وجلّ، كانت المتابعة عليه أسهل وأخف والعكس بالعكس. الفائدة الرابعة: إذا كان شرفا لك أن تحب الله عزّ وجلّ، فإن الله يكافئك على هذا الحب (إذا اتبعت) بما هو أعظم من حبك، ألا وهو أن يحبك الله، وشتان بين الأمرين، وكما قالوا: ليس الشأن أن تحب ولكن الشأن أن تحب، وهل في الوجود أعظم من أن يحبك الله عزّ وجلّ، وهل يعذب الله أحدا يحبه، فتأمل ما يترتب على هذه المتابعة. على وما يترتب على المخالفة الظاهرة والباطنة. الفائدة الخامسة: كما أن الناس يختلفون في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك يختلف حب الله لهم، فكلما قوي الاتباع قوى الحب، وكلما ضعف الاتباع ضعف الحب؛ لأن القاعدة: (أنه إذا ارتبط الحكم بوصف معين، قوى الحكم كلما قوى الوصف) ، وهذا كثير في القرآن   (1) انظر تفسير القرآن العظيم، (1/ 359) ، والحديث رواه مسلم، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718) ، من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) انظر تفسير القرآن العظيم، (1/ 359) ، والحديث رواه مسلم، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718) ، من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والسنة، ومثاله قوله- تعالى-: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 2، 3] ، فكلما قوي إيمان العبد بالغيب، وكان على الصلاة محافظا وللزكاة فاعلا، كان له نصيب أكثر من هدي القرآن، ورأى في القرآن من الآيات والهدايات ما لم ير غيره، وهذا مشاهد، وكلما كثرت الشبهات في قلب الإنسان، وانقاد لها ولم يجاهدها، بل دعا إليها، كان انتفاعه بهدايات القرآن أقل، حتى يصل إلى عدم الانتفاع بالكلية، بل يكون سماعه القرآن وبالا عليه، كما في قوله: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: 44] ، فلا يرتاب أحد أن أناسا يسمعون القرآن فلا يؤمنون، بل يجادلون ويخاصمون ويجدون في كل آية شبهة، والله بعدله يجازيهم على ظلمهم لأنفسهم، وتكبرهم على الحق وتكذيبهم لأنبيائه، فيجعل على قلوبهم أغطية، وفي آذانهم صمما، فلا تتدبر القلوب موعظة، ولا تسمع الآذان نصحا، فسبحان الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، يسمع أقوام ذكر الله عزّ وجلّ، فتوجل قلوبهم، وتخشع أبدانهم وتدمع عيونهم، قال- تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] ، ويسمع آخرون ذكر الله عزّ وجلّ، الذي تخشع له الجبال الصم، فتشمئز قلوبهم، قال- تعالى.: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] . الفائدة السادسة: إن ادعى أحد أمامك، مهما كانت منزلته بين الناس، أنه يحب الله عزّ وجلّ، فلا تغتر بهذه الدعوى، إلا إذا رأيت منه حسن الاتباع، ولو مشى على الماء، وطار في السماء، كما قال الإمام الشافعي- رحمه الله- تعالى- ويبقى بعد ذلك الإخلاص في العمل، وهذا لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، فو الله رأيت بعيني، رجلا يدعي أصحابه أن له من الكرامات ما لا يعد ولا يحصى، ويحفونه بكل أنواع الإجلال والإعظام، حتى إنهم أنكروا عليّ كيف أسلم عليه ولا أقبل يديه، وأنا لم أره من قبل، فلما سألته لماذا لا تحفّ شاربك، وقد تعدى شفتيك، ولماذا لا تقص أظافرك مع اتساخها الظاهر، ذكر لي أنها مقامات، فلنا نحن العوام مثل هذه الأمور الشكلية كما يعتقد، أما أصحاب الكرامات، فقد انشغلوا بما هو أعظم من ذلك، فبينت له ولهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المقام الشريف، هو الذي أمر بذلك، وأبلغنا أنها من سنن الفطرة، ويأثم المسلم بتركها، وذكرت له في معرض الجدال آية الباب، وأنها حجة عليه، فكاد أصحابه في المسجد أن يوقعوا بي، لولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أنه أمرهم بالترفق بي بحجة جهلي بمقاماتهم، وما أنعم الله عليهم من العلوم والفهوم. وأقول: إن الذي شغلهم عن الاتباع، في أمر مثل سنن الفطرة، هو الشيطان، واتباع الهوى، فإنه مصدر كل ردى. وبلوى كل من غوى، فسبحان الذي بيّن طريق الهدى، فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ. فليس بعد ذلك البيان بيان. الفائدة السابعة: لم يعد الله عزّ وجلّ المتبعين للسنة بمحبته فقط، وإن كان فيها الكفاية والوقاية، بل زاد على ذلك مغفرة الذنوب وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31] ، فماذا بقى، فسينال العبد المطلوب بحب الله إياه، ويأمن من المرهوب بمغفرة الذنوب، فتأمل كيف كان في الاتباع كل خير، وفي الابتداع كل شر، ومن المهم أن نشير هنا إلى أن المسلم قد يجد حلاوة، عند القيام ببدعة، خاصة فيما يتعلق بالذكر الممنوع شرعا، الذي يحتوي على ألفاظ وحركات لم ترد في السنة، يكون فيها الرجل أشبه بالسكران، ويقولون: إن هذا هو الوجد، الذي لا تشعر به، إلا بمثل هذا الذكر، والذي قد يصاحبه طبل ومزمار، فكيف تنكرون هذا الذكر؟ مع عظيم ما يشعر به المتلبس من روحانيات وقرب من الله عزّ وجلّ، يسميها البعض الجذب والفناء، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لم ترد في الآيات المنزلة، ولا في السنة المطهرة، والإجابة على كل هذه الأسئلة سهلة، بعون الله- تعالى.، الذي أبان كل حق وأبطل كل باطل. فأقول: إنّ ما تفعلونه ليس عليه دليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمرتم باتباعها، وجعل الله عزّ وجلّ اتباعها شرطا في محبته. فإن قالوا: هى من السنة. قلت لهم: قال- سبحانه وتعالى- لكل مبطل أو مدّع: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111] وحيث لا دليل على هذا الذكر، علم كذبكم على النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا: لم تأت به السنة، ولكن فيه خير كثير، وما المانع إن كان هذا يقربنا إلى الله زلفى. قلت: قولكم: لم تأت به السنة، حجة عليكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» «1» . أي مردود على صاحبه، لن يقبله الله عزّ وجلّ. أما قولكم: فيه خير كثير، فهذا طعن في نبيكم صلى الله عليه وسلم فكيف يكون خيرا ولم يدلنا عليه صلى الله عليه وسلم قبل موته؟! فإن كان يعلم أنه خير ولم يبلّغه، فقد اتهمتموه بعدم البلاغ، وكتمان   (1) سبق تخريجه، انظر ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الوحي، فقد روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: (ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على الله الفرية «1» ، وفيه: من زعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وفيه: لو كان محمّد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا ممّا أنزل عليه لكتم هذه الآية وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ «2» . وإن لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم أنه خير، فقد اتهمتموه بجهل ما يحبه الله ويرضاه، وحاشاه ذلك، والمتبعون لسنته ينزهون النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما ذكر. وإن ادعيتم: أن هذا يقربكم إلى الله زلفى. قلت لكم: كيف تدعون أن شيئا ليس في الكتاب والسنة يقرب إلى الله ويرضى به، وقد أحكم الله أمر الدين، وأكمل الشرع، وامتن على عباده المؤمنين بذلك فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] . فأمركم لا يخرج عن قولين: إما أن تقولوا: إن الذى تفعلونه دينا، فبذلك تكونون قد كذبتم القرآن، لقوله- سبحانه وتعالى.: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وإما أن تقولوا: إن هذا ليس بدين. فأقول لكم: أتستهزئون بالله عزّ وجلّ! تعبدونه بما لم يشرعه لكم. أما قولكم: إننا نشعر بلذة وقرب، لا نعهده فيما سوى ذلك من أذكار. فأقول لكم: إنكم أثبتم لأنفسكم مقامات وأحوالا، لم تثبت في السنة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفضل من سجد وركع لله عزّ وجلّ، كما أن هذه المقامات والأحوال من تلبيس وتزيين الشيطان، قال- تعالى-: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر: 8] ، وقال تعالى-: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63] . وقطعنا أن ذلك التزيين من الشيطان، لأننا أثبتنا أن الله لا يرضى بذلك الفعل، ولا يثيب عليه، وإن لم يكن هذا من البدع ومن المحدثات في الدين، فما البدعة التي حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم منها؟!. وأي فائدة من هذه المقامات والأحوال إن كنا لن نثاب عليها؟!، وهذا التفصيل ينسحب على كل بدعة، فعلى المسلم أن يسأل عن كل أمر، قبل أن يأتيه، إن كان من السنة أو ليس   (1) الفرية: الكذب. (2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] ، برقم (177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 منها، فقد حكم الله على كل من اتبع بالهدى، وعلى كل من ابتدع بالردى. الفائدة الثامنة: ما ثواب حب الله للعبد في الدنيا قبل الآخرة؟ أقول: إن الثواب عظيم، لما حدّث به أبو هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فقال: إنيّ أحبّ فلانا فأحبّه. قال: فيحبّه جبريل، ثمّ ينادي في السّماء. فيقول: إنّ الله يحبّ فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السّماء. قال: ثمّ يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إنيّ أبغض فلانا فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل. ثمّ ينادي في أهل السّماء: إنّ الله يبغض فلانا فأبغضوه. قال: فيبغضونه، ثمّ توضع له البغضاء في الأرض» «1» . الفائدة التاسعة: قد يسأل سائل: هل في آية الباب اشتراط حبّ المسلم للنبي صلى الله عليه وسلم لنيل حب الله عزّ وجلّ، أم يكفي الاتباع وحده؟ أقول: يجب حب النبي صلى الله عليه وسلم لأن الآية اشترطت المتابعة، وهي الطاعة الكاملة، في كل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهى، فيدخل في ذلك حبه أكثر من النفس، لما ورد عن عبد الله بن هشام بن زهرة رضي الله عنه قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: والله لأنت يا رسول الله أحبّ إليّ من كلّ شيء إلّا نفسي. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون عنده أحبّ إليه من نفسه» . قال عمر: فلأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» «2» . وفي رواية عند مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين» «3» . 3- ليس للمسلم اختيار في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم ومن خالفها فقد ضل ضلالا مبينا: ونحن في عصر يتشدق الناس جميعا، إلا من رحم ربي، بمتابعة الغرب وعاداتهم وتقاليدهم، وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث يقول في الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضى الله عنه: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتّى لو سلكوا جحر ضبّ لسلكتموه» . قلنا: يا رسول الله اليهود والنّصارى؟ قال: «فمن؟!» «4» . وتركوا هدي   (1) البخاري مختصرا، كتاب: بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3209) ، ومسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، برقم (2637) . (2) البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (6632) . (3) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (44) . (4) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3456) ، ومسلم، كتاب: العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى، برقم (2669) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 نبيهم، وهذا من شدة الجفاء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتحولت عباداتهم عادات واستشكلت عليهم أمور دينهم فينكرون منها أكثر مما يعرفون والأدهى والأطم أنهم يقارنون أقوالهم بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرضون أعمالهم على الغرب قبل عرضها على الهدي النبوي الشريف وما ذلك إلا جزاء تركهم وبعدهم عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال- تعالى-: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً [الأحزاب: 36] . أولا: سبب نزول الآية الكريمة: قال القرطبي- رحمه الله-: (روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش وكانت بنت عمته فظنت أن الخطبة لنفسه فلما تبين أنه يريدها لزيد كرهت وأبت وامتنعت فنزلت الآية فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته) «1» . وهذا ذكره الحافظ ابن كثير والشيخ السعدي- رحمهما الله- وغيرهما من المفسرين. ثانيا: بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظّمت الآية وجوب الامتثال والانصياع لكل ما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأكدت الآية من أولها إلى آخرها هذا المعنى على نسق بديع وبيان ذلك على النحو التالي: 1- بدأت الآية بقوله- تعالى-: وَما كانَ قال الإمام القرطبي: (معناها الحظر والمنع فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله- تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] ، وربما كان للعلم بامتناعه شرعا، كقوله- تعالى-: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] «2» . وأقول: إنما تأتي هذه الصيغة لتأكيد شدة الانتفاء واستحالة حدوث الأمر لمعارضته الشرع أو العقل أو الاثنين معا، كقوله- تعالى-: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 35] . وتصدير آية الباب بقوله- تعالى-: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ يفيد استبعاد مخالفة أمر الله ورسوله لمن اتصف بالإيمان سواء كان رجلا أم امرأة.   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن، (14/ 186) . (2) انظر المصدر السابق، (14/ 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 2- جاءت الآية الكريمة بلفظ: أَمْراً، نكرة للتقليل، لتفيد أي أمر وإن صغر، فبذلك أوجبت الآية الطاعة في كل الأمور. 3- نفت الآية الكريمة عن كل ذكر أو أنثى قد لبس لباس الإيمان أن يكون له حق الاختيار في أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فبينت الآية الكريمة أن العقل ليس له مجال في تلك الأوامر، من حيث اختيار الفعل وعدمه، أي أن العقل لم يخلق لمثل هذا، إنما خلق لتدبر الأمر من حيث كيفية تنفيذه على الهيئة التي يرضاها الله ورسوله. وأهمس في أذن العقلانيين فأقول لهم: إذا كان العقل لم يخلق لمثل هذا الاختيار (وهو أفعل أو لا أفعل) فمن باب أولى لم يخلق للحكم على شرع الله الحكيم الخبير (أصالح هو أم لا) حاشا لله- سبحانه وتعالى-. 4- نسبت الآية الكريمة الأمر الذي ليس للمؤمنين اختيار فيه إلى أنفسهم فقالت: مِنْ أَمْرِهِمْ؛ لتدلل على أن المؤمن ليس له اختيار في طاعة الله ورسوله، وعليه أن ينطرح بين يدي ربه يصرف له أموره ويدبر له شئونه، ليس في شئون العبادات وحدها ولكن في أخص شئونه المنسوبة إليه، وأفسر ذلك فأقول: ليس للمؤمن حق أن يقول: هذا أمر خاص بي أفعل فيه ما أشاء إذا كان لله ورسوله في هذا الأمر حكم وأمر، وهل هناك أمر أخصّ من زواج المرأة، التي نزلت الآية بشأنها؟!. 5- من أبلغ مظاهر تعظيم الآية لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما جاء في ختامها وهي قوله- تعالى.: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، فهو حكم إلهي على كل من أبى طاعة الله ورسوله في أموره العامة والخاصة وفي عاداته وعبادته بالضلال في الدنيا والآخرة، وهذا الضلال من شناعته وعظم أمره أنه ضلال بيّن ظاهر لا يخفى على أحد، ولكن الشيطان يوحي لأوليائه أنهم على الحق ويزين لهم ذلك بينما هم في ضلال مبين. وأختم هذه الفائدة بكلام نفيس للشيخ السعدي- رحمه الله- يجمل ما قلت ويؤكده، قال رحمه الله: (لا ينبغي ولا يليق ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة: إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً من الأمور، وحكما به وألزما به أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، أي: الخيار هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابا بينه وبين أمر الله ورسوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، أي: بينّا، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة الله، إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 غيرها من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولا السبب الموجب لعدم معارضته أمر الله ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو التخويف بالضلال الدال على العقوبة والنكال) «1» . الفائدة الثانية: مدى البلاء والاختبار الذي تعرض له الصحابة رضى الله عنهم في طريقهم إلى الله ورسوله، فهذه امرأة حسيبة شريفة في قومها تؤمر أن تتزوج من رجل كان بالأمس عبدا وهو الصحابي الجليل زيد بن حارثة رضى الله عنه وينزل بشأنها قرآن يخبرها أنه ليس لها اختيار في رفض أو قبول مثل هذا الزواج، وهي لا تعرف الحكمة الإلهية من هذا الزواج، ولكن انظر أخي القارئ بركة طاعة الصحابية الجليلة أم المؤمنين زينب بنت جحش لأمر الله ورسوله كان عاقبتها الحسنى في الدنيا والآخرة إن شاء الله، زوّجها الله عزّ وجلّ من نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم بقرآن يتلى. 4- من اتبع سنته صلى الله عليه وسلم دخل الجنة: بيان معنى الاتباع في اللغة: الاتباع مصدر، واتبع الشيء: سار في أثره وتلاه وله معان كثيرة تدور حول التطلب والاقتداء والاقتفاء واللحاق والتأسي ويقال: اتبع القرآن، ائتمّ به وعمل بما فيه، واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم: اقتدى به واقتفى أثره وتأسى به) «2» . إن من أحد أركان الإسلام وركائزه حسن اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه من أساسيات الدين ومسلّماته، وقد استفاضت النصوص القرآنية والسنة النبوية الصحيحة في توضيح ذلك أيما وضوح: فعن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا من أبى» . قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى» «3» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني دخل الجنّة» . وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي اتباع سنته الشريفة، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: ( «أبى» أي: امتنع، وظاهره أن العموم مستمر؛ لأن كلّا منهم لا يمتنع من دخول الجنة ولذلك قالوا: (ومن يأبى؟!) بيّن لهم أن إسناد   (1) انظر تيسير الكريم الرحمن، (665) (2) انظر «لسان العرب» ، (13/ 412- 413) (3) البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (7280) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الامتناع إليهم عن دخول الجنة مجاز عن الامتناع عن سنته، وهو عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم) «1» . قلت: في الحديث أبلغ رد على من زعم- كذبا- أن اتباع ما جاء في القرآن- دون الأخذ بالسنة- يكفيه ويدخله الجنة. 5- جعل الله عز وجل الهداية في طاعته صلى الله عليه وسلم: قال- تعالى-: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] . الشاهد في الآية قوله- تعالى-: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (جعل الاهتداء مقرونا بطاعته) «2» ، وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (ذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 35] «3» ، وقال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (وإن تطيعوه تهتدوا إلى الصراط المستقيم قولا وعملا، فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته، وبدون ذلك لا يمكن بل محال) «4» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: بلاغة القرآن الكريم وإعجازه، إذ حددت الآية العظيمة المنهج الذي يجب أن تسير عليه الأمة لتضمن الهداية، كما حددت- بمقتضى مفهوم المخالفة- سبيل الغواية، وذلك في ثلاث كلمات، أداة الشرط وفعله وجوابه. الفائدة الثانية: في الآية أعلى مراتب تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأن الآية أثبتت كمال الهداية للمقتدي وهو الفرع، فكيف يكون حال المقتدى به صلى الله عليه وسلم وهو الأصل. الفائدة الثالثة: تفاوت المسلمين تفاوتا بينا في مراتب الهداية، بحسب تفاوتهم في اتباع السنة النبوية- على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم- فبقدر ما يكون عند المسلم من اتباع بقدر ما يكون عنده من الهداية. ويتفرع عليه خطورة تلك الجماعات التي تبتدع في العبادات ما لم يأذن به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الفائدة الرابعة: يجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقادا جازما لا يخالطه أدنى شك، أن   (1) انظر «فتح الباري» ، (13/ 254) . (2) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (12/ 296) . (3) انظر «تفسير القرآن العظيم» (3/ 300) . (4) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (572- 573) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 كل مذهب أو فكر أو فلسفة أو نظرية تخالف ما جاءت به السنة الشريفة فهي ضلال وغواية، وهذا الاعتقاد هو مقتضى التصديق بقوله- تعالى.: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، حيث يستحيل عقلا أن تجتمع الهداية في الأمر وضده. 6- الإيمان به صلى الله عليه وسلم سبب السعادة في القبر: عن أنس رضى الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه، حتّى إنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرّجل محمّد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنّه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النّار أبدلك الله به مقعدا من الجنّة» . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فيراهما جميعا، وأمّا الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول النّاس، فيقال: لا دريت ولا تليت. ثمّ يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلّا الثّقلين» «1» . الشاهد في الحديث: أن العبد إذا سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب إجابة المؤمنين أراه الله- سبحانه وتعالى- مقعده من الجنة. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في علو قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم شأنه، يتبين ذلك من الأمور الآتية: 1- أن العبد يحاسب على الإيمان به صلى الله عليه وسلم والتصديق برسالته فور تولي أصحابه عنه. 2- شهادة العبد أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله وتوفيقه للنطق بها، هي سبب سعادة العبد طيلة بقائه في قبره، وكفى بذلك شرفا ورفعة للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث: «فيقال: انظر إلى مقعدك من النّار أبدلك الله به مقعدا من الجنّة» . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فيراهما جميعا» ، كما في قول قتادة: (وذكر لنا أنّه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون) «2» . وفي المقابل ذكر الحديث العذاب الشديد للمنافق والكافر الذي لا يوفّق لتلك الشهادة. 3- في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للأمة أنه عبد لله- سبحانه وتعالى- وأنه لا يشارك الله أبدا في أي أمر من أمور الألوهية، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك أحسن   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفقة النعال، برقم (1338) . (2) مسلم، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، برقم (2870) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 البيان وأوضحه، ما حاسب الله العباد في القبر على إيمانهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد لله، بل إن شهادة المؤمن يسبق فيها إثبات صفة العبودية للرسول صلى الله عليه وسلم على صفة الرسالة، وكأنها الصفة التي غلبت عليه صلى الله عليه وسلم وأراد أن يحققها طوال حياته وبالفعل حققها صلى الله عليه وسلم كأحسن ما يكون. ويتفرع عليه: أن من اعتقد في النبي صلى الله عليه وسلم درجة أعلى من درجة العبودية لله- سبحانه وتعالى- (وهي أعظم منازله صلى الله عليه وسلم) بأن أثبت له شيئا يعلم أنه لا ينبغي إلا لله عزّ وجلّ فلن يوفق في إجابة سؤال الملكين. كما أقول: إن من ابتدع في هذا الدين ما ليس منه، ورغب عن سنته صلى الله عليه وسلم قد يؤخر عن إجابة الملكين وقد يتلعثم فيها وقد لا يوفق لها أصلا وذلك بقدر ما ابتدع في هذا الدين أو رغب عن السنة الشريفة، ودليل ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فأمّا المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأجبنا وآمنّا واتّبعنا فيقال له: نم صالحا» «1» ، فكيف يوفق الله من ابتدع في الدين لقول: (آمنا واتبعنا) . وهو في الحقيقة لم يتبع. 4- في الحديث دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث للناس كلهم جميعا، وأنهم كلهم مطالبون بالإيمان به وتصديقه صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره» ، وكلمة العبد تشمل كل جنس البشر، ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم: «وأما المنافق والكافر» . فهو دليل آخر على أن السؤال يشمل الناس جميعا، فالناس لا يخرجون عن أصناف ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وكافر، وأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم يدخلون في لفظ (كافر) . فإن قال قائل: كيف يكون سؤال الملكين عن النبي صلى الله عليه وسلم كافيا لدخول العبد الجنة دون السؤال عن الله عزّ وجلّ ودين الإسلام؟ قلت: وردت أحاديث أخرى بسؤال العبد عن الرب- تبارك وتعالى-: من ربك؟ ما دينك، ولكنها ليست في الصحيحين، لذلك لم أوردها في الكتاب، لما التزمت به من التقيد بأحاديث الصحيحين، ثم إنني أحببت أن أورد هذا الحديث الذي ليس فيه إلا ذكر السؤال عن النبي صلى الله عليه وسلم ليستقر في قلب وعقل كل مسلم عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإيمان به واتباعه هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة وما بينهما وهي حياة البرزخ. ثم أقول: إن إقرار العبد بأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، يتضمن الإيمان بالله- تعالى- ودين الإسلام، وأوصي نفسي وإخواني من المسلمين بإجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وكثرة الصلاة عليه وحبه أكثر من المال والأهل والولد، لعل الله عزّ وجلّ يثبتنا   (1) البخاري، كتاب الوضوء، باب: من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل، برقم (184) ، من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 في قبورنا ويلهمنا إجابة الملكين، إنه نعم المولى ونعم المجيب. تنبيه: قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- ما نصه: (واختلف أيضا في النبي صلى الله عليه وسلم هل يسأل) «1» ، أقول- والله تعالى- أعلم: لا ينبغي أن يطرح هذا الاحتمال أصلا؛ وذلك للأسباب التالية: أ- علو قدره صلى الله عليه وسلم فوق الخلق كلهم جميعا فكيف يسأله من هو أقل منه مرتبة. ب- السؤال يستلزم إقعاد المسئول، وأعتقد أن إثبات ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم من سوء الأدب مع مقامه الرفيع. ج- لم يأت دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل في قبره، فعدم الخوض فيه أولى بل أوجب، خاصة إذا كانت صورة السؤال لا تناسب مقام النبوة. د- ما الحكمة من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، حيث إن الناس يسألون؛ فتنة لهم في قبورهم وامتحانا، ونجزم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى لن يتعرض لأدنى فتنة أو اختبار، لما ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة- رضى الله عنها- عند موته: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» «2» ، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لن يتعرض لأدنى أدنى أذى أو فتنة أو امتحان، وأنه في أمن وأمان من ذلك طوال فترة البرزخ اللائقة به صلى الله عليه وسلم إلى يوم أن يحشر ويستفتح الجنة، مرورا بنشر الصحف وإقامة الموازين وضرب الصراط على ظهراني جهنم والمرور عليه، والوقوف بين يدي ربه- تبارك وتعالى- شافعا ومشفعا في الخلق كلهم جميعا، كل هذا وغيره لن يمسه فيه صلى الله عليه وسلم أدنى خوف أو فزع. فإن قال قائل: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لن يتعرض قطعا لسؤال القبر وفتنته، فلماذا كان يتعوذ من هذه الفتنة كثيرا خاصة قبل السلام من الصلاة؟ قلت: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك عبودية لله تبارك وتعالى، وإعلان الافتقار إليه والحاجة لعونه ومدده، وتعليما للأمة. الفائدة الثانية: الثناء الحسن على النبي صلى الله عليه وسلم وذكره الطيب المبارك دائم وموصول إلى يوم القيامة، ليس فوق الأرض فحسب بل تحتها أيضا، فها هو كل مؤمن يشهد له بالعبودية والرسالة، ويشهد أن ما جاء به هو الحق والهدى. الفائدة الثالثة: الإيمان الذي ينجي العبد في قبره وبين يدي ربه، هو الإيمان الذي لا   (1) انظر «فتح الباري» (3/ 293) . (2) البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4462) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يخالطه شك ولا يساوره ارتياب، والدليل على ذلك أن المؤمن يقول: (أشهد) . والشهادة لا تكون إلا عن يقين، والمنافق يقول: (كنت أقول ما يقول الناس) . فمع أن المنافق كان يقول الشهادتين إلا أنها لن تنفعه يوم القيامة لعدم وجود اليقين. وقد بينت في باب: (يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يسمعه أحد) فوائد عن القبر وسؤاله وعذابه مما يغني عن إعادته هنا. 7- نفي إيمان من لا يحكّم سنته صلى الله عليه وسلم: قال- تعالى.: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] . أولا: سبب نزول الآية: عن عروة بن الزّبير: أنّ الزّبير صلى الله عليه وسلم كان يحدّث أنّه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج «1» من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزّبير: «اسق يا زبير ثمّ أرسل إلى جارك» . فغضب الأنصاريّ فقال: يا رسول الله آن كان ابن عمّتك؟! فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ قال: «اسق ثمّ احبس حتّى يبلغ الجدر» . فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ حقّه للزّبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزّبير برأي سعة له وللأنصاريّ، فلمّا أحفظ الأنصاريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزّبير حقّه في صريح الحكم، قال عروة: قال الزّبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلّا في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) «2» . ثانيا: أقوال أهل العلم في شرح الحديث: ذكر الإمام القرطبي- رحمه الله- شرحا مبسطا للحديث فقال ما نصه: (سلك النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: «اسق يا زبير» ؛ لقربه من الماء، «ثم أرسل الماء إلى جارك» ، أي: تساهل في حقك ولا تستوفه وعجّل في إرسال الماء إلى جارك فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب؛ لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: آن كان ابن   (1) الشراج: أي مسيل الماء. (2) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، برقم (4585) ، وأخرجه في كتاب: المساقاة، باب: شرب الأعلى إلى الكعبين، برقم (2362) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 عمتك؟! على جهة الإنكار، أي: أتحكم له عليّ لأجل أنه من قرابتك؟ فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له) «1» . أقول: هذه الآية من أعظم الآيات التي تدلل على تعظيم أمر السنة ووجوب الطاعة المطلقة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث نفت الآية نفيا قاطعا إيمان العبد حتى يحكّم النبي صلى الله عليه وسلم بل ولن يكتمل الإيمان بمجرد التحاكم، بل يجب توفر الرضى والانقياد ومطلق التسليم، كما سيأتي في الفوائد. ثالثا: بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظمت الآية الكريمة شأن التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم (في حياته) وإلى سنته (بعد مماته) أشد التعظيم. ومظاهر ذلك في الآية: 1- بدأت الآية الكريمة بصيغة النفي: فَلا وَرَبِّكَ؛ للدلالة على شدة انتفاء المقسم عليه، وهو الإيمان، حتى تتحقق الشروط المذكورة، وهي الرضى بالتحكيم مع الانقياد والتسليم. 2- أقسم الله- تعالى- بنفسه الكريمة على انتفاء الإيمان حتى يتم التحكيم والرضى، وأضاف ضمير المخاطب، والذي يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لزيادة تعظيم القسم والمقسم عليه. قال- تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ. 3- نفت الآية الإيمان ابتداء عن المسلم حتى يتم التحكيم، ونفي الإيمان أمر عظيم يدلّ على خطورة الأمر، وكان يمكن أن تأتي الآية بصيغة اشتراط اكتمال الإيمان فحسب. قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (يقسم الله- تعالى- بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرا وباطنا ولهذا قال: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً، أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة) «2» . انتهى.   (1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (5/ 267) . (2) انظر تفسير القرآن العظيم، (1/ 521) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وتدبر أخي القارئ قول الإمام: (من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة) . فيجب على كل مسلم أن يقارن حاله مع أوامر الكتاب والسنة على ضوء هذه الكلمات الثلاث المباركات، ويعمل على استيفائها على أحسن ما يكون حتى يضمن لنفسه كمال الإيمان بإذن الله- تعالى-. 4- لم تكتف الآية باشتراط مجرد التحكيم لاستيفاء العبد صفة الإيمان، ولكنها اشترطت شرطين، هما: عدم وجود الحرج في القلب مع التسليم، ولا يسعني هنا إلا أن أذكر الكلام الجميل النفيس الذي ذكره الشيخ السعدي- رحمه الله- في تفسير هذه الآية، حيث قال ما نصه: (ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج عن قلوبهم والضيق، ولا يكفي في هذا التحكيم أن يكون على وجه الإغماض، حتى يسلموا لحكمه تسليما بانشراح صدر وطمأنينة نفس وانقياد بالظاهر والباطن، فالتحكيم في مقام الإسلام وانتفاء الحرج في مقام الإيمان والتسليم في مقام الإحسان، فمن استكمل هذه المراتب وكمّلها فقد استكمل مراتب الدين كلها، ومن ترك هذا التحكيم غير ملتزم له فهو كافر، ومن تركه مع التزامه له فله حكم أمثاله من العاصين) «1» . أي: أن نفي الإيمان المذكور في الآية لا يقصد به نفي كمال الإيمان ولكن نفي الإيمان أصلا كما ذكره الشيخ- رحمه الله-، وهي الحالة التي لا يرضى فيها العبد بالتحكيم. الفائدة الثانية: سعة علم الله- سبحانه وتعالى-، الذي أحاط بكل شيء، فوسع مكنون الضمائر وما تخفيه السرائر، التي لا يطلع عليها الجار من جاره، ولا الزوج من زوجته، ولا الأم من ابنتها، ودليله من الآية أن الله- سبحانه وتعالى- رتب كمال الإيمان على عمل قلبي محض وهو التسليم، ولولا علم الله- تعالى- بدقائق ما في القلوب ما اشترطت الآية هذا الشرط. الفائدة الثالثة: أثبتت الآية الكريمة للنبي صلى الله عليه وسلم كمال العدل البشري والحكمة وفهم المسائل في القضاء بين المتخاصمين، حيث أوجبت الآية على كل مسلم الرضى بحكمه صلى الله عليه وسلم والتسليم له، ولو أن في حكمه صلى الله عليه وسلم شيئا (مهما دق وصغر) منافيا لكمال العدل والحكمة لقال قائل إن الله- سبحانه وتعالى- قد حمّل العباد أكثر من طاقتهم، وهذا ينافي ما وعد الله به عباده المؤمنين، فكيف يأمر الله عزّ وجلّ العباد بالرضى والتسليم لأمر أو حكم يخالف العدل أو الحكمة أو الفهم الصحيح، والذي أقصده من كمال العدل، هو كمال العدل   (1) انظر تيسير الكريم الرحمن، (185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الذي ينبني على تساوي المتخاصمين في بيان دعواهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون، إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئا فلا يأخذ فإنّما أقطع له قطعة من النّار» «1» ، أما عدل الله عزّ وجلّ بين المتخاصمين فهو العدل المطلق الذي لا يقدر عليه إلا الله- سبحانه وتعالى-. ويتفرع عليه براءة النبي صلى الله عليه وسلم براءة ربانية أن يكون قد مال في حكمه- طيلة حياته- لأحد المتخاصمين ضد الآخر ولو كان من قرابته وأهل بيته صلى الله عليه وسلم. وأدل دليل على عدله صلى الله عليه وسلم في الحكم، هو قول الله- تعالى-: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] ، قال الشيخ السعدي- رحمه الله- (أي بما علمك الله وألهمك) «2» . الفائدة الرابعة: الإيمان الذي يرضي الله- سبحانه وتعالى- ويرضى به على العبد المسلم، هو إيمان قلب وجوارح، إيمان عمل واعتقاد، إيمان رضى وتسليم، حيث إن الله عزّ وجلّ أمر بالتحاكم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر بمطلق الانقياد والرضى والتسليم. ويتفرع عليه كذب من ينهمك في المعاصي والذنوب ويدعي بأن الله رب قلوب، يقصد بذلك أنه إذا كان القلب نظيفا فلا داعي لعمل الجوارح، والآية ترد عليهم، كما هي حجة على من يهتم بالعبادات الظاهرة ويهمل العبادات الباطنة. الفائدة الخامسة: إذا كانت الآية قد نزلت بمناسبة التحكيم بين اثنين من الصحابة- في أمر من أمور الدنيا- إلا أنها عامة في وجوب الرضى والتسليم بكل ما قضاه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به، من أمور الدنيا والآخرة، بل أقول: إن الرضى بأمور الآخرة أوجب وأوجب، والقاعدة الأصولية تنص على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الفائدة السادسة: لا يدخل شخص النبي صلى الله عليه وسلم في عموم نهيه عن حكم القاضي وهو غضبان، فعن عبد الرّحمن بن أبي بكرة قال: كتب أبو بكرة إلى ابنه- وكان بسجستان- بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان فإنّي سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان» «3» . ودليله من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غضب وتلوّن وجهه من قول   (1) البخاري، كتاب: الأحكام، باب: موعظة الإمام للخصوم، برقم (7169) ، ومسلم، كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، برقم (1713) ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (199) . (3) البخاري، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، برقم (7158) ، ومسلم، كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، برقم (1717) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الأنصاري حكم في المسألة حكما ثانيا، كما ذكر القرطبي في أسباب نزول الآية، ويتفرع عليه إثبات عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في حال غضبه، ولولا علمه صلى الله عليه وسلم بهذه العصمة في حال غضبه ما حكم في المسألة في المرة الثانية. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (ولا يقال: كيف حكم صلى الله عليه وسلم في حال غضبه، لأنا نقول: إنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله- تعالى- فليس مثل غيره من الحكام) «1» . الفائدة السابعة: جواز أن يقضي الحاكم بين متخاصمين أحدهما من قرابته، شريطة أن يضمن العدل بينهما وعدم محاباة أهله وقرابته. الفائدة الثامنة: عدم رضى أحد المتخاصمين، واعتراضه على حكم القاضي وتظلّمه منه لا يدل على أن الحكم جائر، بل قد يكون الحكم في مصلحة المتظلم، ولكن طبيعة النفس البشرية تأبى إلا أن يكون الحكم حسب هواها، إلا من رحم الله. 8- وجوب رد النزاع إلى سنته صلى الله عليه وسلم: قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] . سبب نزول الآية الكريمة: عن عليّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثمّ قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثمّ قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنّما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النّار. فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النّار، فلمّا رجعوا ذكروا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنّما الطّاعة في المعروف» «2» . بعض فوائد الآية والحديث الوارد في سبب النزول:   (1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (5/ 267) . (2) البخاري، كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم (7145) ، ومسلم، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية..، برقم (1840) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الفائدة الأولى: أوجبت الآية الكريمة ردّ الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله، ومن مظاهر هذا الإيجاب: 1- قوله- تعالى- فَرُدُّوهُ وهو فعل أمر، وفعل الأمر يدل على الوجوب. قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (ثم أمر بردّ كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله ورسوله، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما أو إيماء أو تنبيه أو مفهوم أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه؛ لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين ولا يستقيم الإيمان إلا بهما) «1» . 2- وضحت الآية الكريمة أن رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر، فجعلت علامة الإيمان بهما هو التحاكم إلى الكتاب والسنة. قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: «فالرد إليهما شرط في الإيمان؛ فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فدل ذلك على أن من لم يردّ إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة» . وقال الإمام القرطبي: (أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالسؤال في حياته أو بالنظر إلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومن لم ير هذا اختلّ إيمانه لقوله- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) «2» . 3- جعلت الآية الكريمة الرد إلى الله ورسوله فيه خير الدنيا والآخرة، وبذلك يكون عدم الرد سببا في حصول الشر في الأولى والآخرة، قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (أي ردّكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع وأحسن تأويلا أي مرجعا) «3» . وأوضح الشيخ السعدي وجه الخيرية في الرد إلى الله ورسوله فقال: (لأن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم) . وهذا توجيه آخر إذا ضمّ إلى كلام الإمام القرطبي كملت الفائدة. الفائدة الثانية: ليس لولي الأمر طاعة مستقلة عن طاعة الله ورسوله، ولكن طاعته داخلة في طاعة الله ورسوله، بل إن طاعته مشروطة بعدم الأمر بمعصية، أما طاعة   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ص (184) . (2) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (5/ 261) . (3) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (5/ 263) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الرسول صلى الله عليه وسلم فغير مشروطة بشيء، وقد وضّح ذلك الشيخ السعدي- رحمه الله- بقوله: (أمر الله بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم ألايكون معصية) «1» . الفائدة الثالثة: عظيم أمر العلماء؛ إذ جعل الله- سبحانه وتعالى- مرجع التنازع إليهم في كل ما اختلفت فيه الأمة، قال الإمام القرطبي- رحمه الله- (فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليس لغير العلماء معرفة الرد إلى الكتاب والسنة، ويدل على صحته كون سؤال العلماء واجبا وامتثال فتواهم لازما) . ومظهر تعظيم العلماء في ذلك، أن الأمة كلها مأمورة أن ترجع إليهم في كل المتنازع فيه، ومأمورة بطاعتهم وامتثال أمرهم، أما هم- أي العلماء- لا يرجعون إلا إلى الكتاب والسنة، فدل ذلك إلى علو شأنهم على من سواهم، بالإضافة إلى أن وجود العلماء الربانيين يضمن نجاة الأمة من الفتن والزيغ والضلال. ويتفرع عليه وجوب قيام الأمة بتبجيل العلماء وتوقيرهم والدعاء لهم بالثبات والسداد. الفائدة الرابعة: أثبتت الآية أن مسائل الشريعة والأحكام تنقسم إلى قسمين: الأول: قسم ظاهر الدلالة والمعنى: يستوي في فهمه العلماء والعوام. ومثاله: وجوب الصلاة والزكاة والصوم وبقية أركان الدين وتحريم عقوق الوالدين وقول الزور والزنا والميسر، وغيرها. الثاني: قسم غير ظاهر الدلالة والمعنى يشكل فهمه على العوام، ويفهمه العلماء، ويختلف فهمهم له باختلاف رسوخهم في العلم. ومثاله: ما استحدث من معاملات في التجارة والبنوك، فتلك الأمور لو ردت إلى الراسخين في العلم لرفع الإشكال. ودليل ذلك من الآية الكريمة: أن الله أمرنا جميعا   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ص (184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم أمرنا برد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة أي إلى العلماء. الفائدة الخامسة: اختلف الصحابة رضي الله عنهم في فهم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المطلق منها والمقيد، والعام والخاص، وهو اختلاف يرجع إلى تفاوتهم رضي الله عنهم في الفهم والفقه، فطائفة فهمت أن أوامر الله ورسوله بوجوب طاعة ولي الأمر، تشمل كل ما يأمر به سواء في طاعة أو معصية، وطائفة فهمت أن الأمر بطاعة الأمير لا يفهم منه العموم، فلا طاعة له في معصية، والنبي صلى الله عليه وسلم خطّأ الطائفة الأولى بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو دخلوها ما خرجوا منها» . وصوّب الطائفة الثانية لقول الراوي: (وقال للآخرين قولا حسنا) . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: «وفيه أن الأمر المطلق لا يعمّ جميع الأحوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يطيعوا الأمير، فحملوا ذلك على عموم الأحوال حتى في حال الغضب وفي حالة الأمر بالمعصية فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر بطاعته مقصور على ما كان منه في غير معصية» «1» . وقد ذكرت في موضع آخر من الكتاب أن اختلاف العلماء في المسائل الفقهية إنما يرجع غالبا إلى تباين فهمهم في العام والخاص والمطلق والمقيد، ونعذرهم في ذلك لاختلاف من هم أفضل منهم في الفهم، وهم الصحابة رضي الله عنهم. الفائدة السادسة: شعور الصحابة بعظيم فضل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم والنعمة التي هم فيها ببعثه صلى الله عليه وسلم واعتقادهم أنه لولا اتباعه لدخلوا النار يقينا، لما ورد في الحديث: (إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار) . ويدل الحديث أيضا على أن همّ الصحابة الأول في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو اتقاء النار يوم القيامة. الفائدة السابعة: ليس لأحد حجة شرعية في طاعة الإمام في معصية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى روايات الحديث عند مسلم: «لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف» . وهو قول فصل بيّن، ورد في شرح سنن أبي داود: (هذا يدل على أن طاعة الولاة لا تجب إلا في المعروف؛ كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة والنفوذ لهم في الأمور التي هي الطاعات ومصالح المسلمين، فأما ما كان منها معصية كقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا طاعة لهم في ذلك، إنما الطاعة في المعروف، والمراد بالمعروف ما كان من الأمور المعروفة في الشرع، وهذا تقييد لما أطلق في الأحاديث المطلقة القاضية بطاعة ولي الأمر على العموم) «2» .   (1) انظر «فتح الباري» (8/ 60) . (2) انظر «عون المعبود» ، (7/ 208) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وإذا كان هذا هو حكم طاعة ولي الأمر- الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بمعصية، فمن باب أولى وأولى ينسحب هذا الحكم إلى كل من هو دونه من الرئيس والمدير والزوج والزوجة وحتى الوالدين لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية الله وإنما الطاعة في المعروف» ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن لأصحابه أن هؤلاء لو دخلوا النار فلا عذر لهم عند الله في طاعة أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: «لو دخلوها ما خرجوا منها» ، فهل يعقل أن يكون لغيرهم عذر في طاعة ولي الأمر إذا أمر بمعصية؟!. الفائدة الثامنة: حب الصحابة رضي الله عنهم بعضهم لبعض وتناصحهم فيما بينهم أشد ما يكون النصح، ودليله أن نصح بعضهم بعضا لم يقتصر على اللسان وبيان الحق في المسألة، وقد يقول قائل: هذا يكفي، ولكنه تعدى إلى تغيير المنكر باليد، لما ورد عند البخاري: (وجعل بعضهم يمسك بعضا) «1» . الفائدة التاسعة: وجوب طاعة الأمير في حال غضبه- إن لم يأمر بمعصية- لأن أمير السرية قد غضب وأمرهم أن يجمعوا له حطبا ويوقدوا نارا ففعلوا وذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فأقرهم على فعلهم ولم ينههم إنما أنكر فقط طاعته في دخول النار، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (يؤخذ من الحديث أن الحكم في حال الغضب ينفذ فيه ما لا يخالف الشرع وأن الغضب يغطي على ذوي العقول) «2» . وأقول: أما حكم القاضي بين المتخاصمين وهو غضبان فلا يجوز لوجود النهي في ذلك. الفائدة العاشرة: في الحديث دليل على أن من قتل نفسه خلد في النار، والتخليد على مذهب أهل السنة هو طول المكث في النار، لما ورد في إحدى روايات البخاري: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا» ، ويؤيده قوله- تعالى-: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: 93] ، وما ورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيه خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: سرية عبد الله بن حذافة السهمي ... ، برقم (4340) ، من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه. (2) انظر «فتح الباري» (8/ 60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا» «1» ، أما ما نقله صاحب الفتح عن الداودي قوله: (يريد تلك النار لأنهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء) . فهذا مستبعد جدّا؛ لأن لا أحد من الصحابة يتصور أنه لو ألقى بنفسه في النار أنه سيخرج منها حيّا، خاصة إذا كان هو الذي ألقى بنفسه فيها متعمدا، وأظن أن الأمر الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوضحه لأصحابه في هذا المقام هو الحكم الشرعي الذي يتعلق بدخول النار، وليس طبيعة النار، ويؤيده ما ورد أيضا عند البخاري: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة» . الفائدة الحادية عشرة: نقل الحافظ ابن حجر- رحمه الله- عن الشيخ أبي محمد بن أبي جمرة قوله: (وفيه أن من كان صادق النية لا يقع إلا في خير، ولو قصد الشر فإن الله يصرفه عنه) «2» ، وهذا حكم يحتاج إلى دليل بذاته، ولا ينهض ما ورد في الحديث، وهو واقعة عين، أن يكون حكما عامّا. ومن الخطأ أن نقول: إن صادق النية لن يقع إلا في خير، والأسوأ أن نقول: ولو قصد شرّا، فالذي يقصد الشر قد أساء النية، ولكن نقول: الأمر لله إن شاء نجاه وإلا فلا، وقد وقع كثير من الناس (خاصة العوام) صادقي النية في شرور كثيرة لقلة علمهم واتباعهم الغير بدون سؤال أو دراية، وهذا مشاهد لا يحتاج إلى دليل، وخطورة هذه الأحكام بالإضافة إلى أنها حكم على الله بغير دليل، أنها تستلزم منا أن نحكم على كل من وقع في شر أنه سيئ النية وهذا حكم خطير. 9- الوعيد الشديد لمخالفة سنته صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» «3» .   (1) البخاري، كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به ... ، برقم (5778) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ... ، برقم (109) . (2) انظر «فتح الباري» (8/ 60) . (3) البخاري، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، برقم (5063) ، ومسلم، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... ، برقم (1401) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ، وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وعدم اتباع سنته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» «1» . وهذا مصداق قوله- تعالى-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء: 80] ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لكل أمته بدخول الجنة إلا من عصاه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا من أبى» قالوا: يا رسول الله ومن يأبى قال: «من أطاعني دخل الجنّة ومن عصاني فقد أبى» «2» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم أمر السنة الشريفة، ووجوب اتباعها، والرضى بها منهجا وسلوكا، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على من رغب عنها بوصف قاس حيث قال: «فليس مني» . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (وقوله: فليس مني، إن كانت الرغبة عن السنة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فيكون المعنى: ليس على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج من الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى «فليس مني» أي ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر) . انتهى «3» . الفائدة الثانية: كما أن النقص في أمور الدين مذموم، فإن الزيادة أيضا مذمومة، فهؤلاء النفر أرادوا أن يزيدوا في أمور العبادة بما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فزجرهم صلى الله عليه وسلم عن تلك الزيادة. وأقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وبخ من زاد في عبادة لها أصل في الدين، كان صلى الله عليه وسلم يفعلها، بل يداوم عليها، وهي صيام النفل وقيام الليل، فكيف الحال بأناس ابتدعوا في دين الله عزّ وجلّ ما ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، وتمسكوا بهذه البدع وتعلقوا بها أشد التعلق أكثر من تعلقهم بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كابتداع أوراد وصلوات واحتفالات- يزعمون أنها دينية- ليست على هدي النبوة في شيء، أسأل هؤلاء كيف سيكون توبيخ   (1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، برقم (2957) ، ومسلم، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ... ، برقم (1835) . (2) البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (7280) . (3) انظر «فتح الباري» (9/ 106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 النبي صلى الله عليه وسلم لهم يوم القيامة؟ بل كيف سيكون تبرؤه منهم، وهو الذي قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» ، وقد عقدت بابا منفصلا لهذا الحديث في كتابي هذا لأهميته. ويتفرع عليه أن مدار الأمر ليس على كثرة العبادة والتشدد فيها، ولكن مدار الأمر على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، دون تفريط أو مغالاة. الفائدة الثالثة: قد تطلق السنة في الأحاديث النبوية ولا يراد بها الأعمال التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل يقصد بها الهدي النبوي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، ومعنى الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني) «1» . 10- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على من استكبر عن سنته صلى الله عليه وسلم: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أنّ رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: «كل بيمينك» . قال: لا أستطيع. قال: «لا استطعت؛ ما منعه إلّا الكبر» . قال: فما رفعها إلى فيه «2» . الشاهد في هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: «لا استطعت» . واستجابة الدعاء حالا لقول الراوي: (فما رفعها إلى فيه) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: وجوب تعظيم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، والتواضع لسنته والمبادرة إلى طاعته، حيث إن هذا الرجل لما لم يبادر لطاعته صلى الله عليه وسلم كبرا، دعا عليه بأمر عظيم وهي أن تشلّ يده، واستجاب الله دعاءه على الفور، مما يؤكد عظم أمر الطاعة، ووجوب التواضع للسنة، ونخشى أن يصيب هذا الدعاء كلّ من ترفّع عن السنة إلى قيام الساعة، فيصيبه وبال ذلك في الدنيا أو الآخرة. الفائدة الثانية: كيف يدعو النبي صلى الله عليه وسلم على أحد من أصحابه بهذا الدعاء العظيم، وهو الذي زكاه الله عزّ وجلّ فقال فيه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وقال عزّ وجلّ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] .   (1) انظر «فتح الباري» (9/ 105) . (2) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2021) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أقول: إن هذا الخلق كان هو السّمة الغالبة عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يمنع ذلك أن يظهر الشدة في بعض الأوقات، مضطرّا ويكون ذلك لصالح الفرد والأمة، فهذا الرجل الذي تكبّر عن الطاعة فيما أمر، هل ترون أنه سيستمر على ما كان عليه، أم سيتوب إلى الله ويستغفره مما بدر منه، ويستقيم بقية حياته، بالطبع سيستقيم، فيكون الدعاء في حقه، رحمة منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علاج لداء عظيم، فأن يذهب هذا الكبر بذهاب يده، خير له من أن يبقى في قلبه وتبقى يده. وهناك احتمال آخر أن هذا الرجل كان من المنافقين، لذلك استجاز النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليه بذلك. وقد نقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض هذا الاحتمال. وهناك أمر آخر وهو ظهور معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم وتجلّى ذلك في استجابة الله له في الحال، ومن ثمّ يكون في هذا الأمر موعظة وزجر لمن يتكبر على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذا مصلحة عظيمة لهذا الرجل ولغيره من المسلمين. الفائدة الثالثة: في الحديث دليل على أن الصحابة يمكن أن تقع منهم المعاصي بل الكبائر، لأنهم بشر، وغير معصومين، والشاهد على ذلك أن حدود السرقة والخمر والزنى والقذف، قد أقيمت كلها في عصر النبوة وإن كان ذلك على ندرة شديدة. الفائدة الرابعة: في الحديث تعظيم أمر الكبر وخطورته؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل، كان بسبب الكبر الذي منعه من امتثال الأمر، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الكبر، وتهديد ووعيد لمن تلبس بهذه الصفة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر» ، قال رجل: إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة!! قال: «إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكبر: بطر الحقّ وغمط النّاس» «1» . وعن عبد الله رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النّجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلّا سجد فأخذ رجل من القوم كفّا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا «2» . يتفرع عليه أن على المسلم إذا وجد في قلبه غضاضة في الانصياع للحق، أو العمل   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، برقم (91) . (2) البخاري، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، برقم (3972) ، ومسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة، برقم (576) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بالتنزيل، فعليه أن يفتش في نفسه، فلعل الذي رده عن الانصياع وعدم العمل هو الكبر والعياذ بالله فيتدارك ذلك بالتوبة. الفائدة الخامسة: من عظيم أمر الكبر، أنه هو المعصية الوحيدة، التي أبى الله عزّ وجلّ، إلا أن يفضح عبده بها في الدنيا، فالإنسان المتكبر المتلبس بهذه الصفة، لا يمكن أن يسترها عن الناس، فتظهر في احتقاره الناس، أو ردّ الحق كما في الحديث السابق، أو جرّ ثوبه، لما ثبت من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» . قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ أحد شقّي إزاري يسترخي إلّا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لست ممّن يصنعه خيلاء» «1» . وقد يظهر الكبر على الرجل من عطف عنقه إذا دعي إلى الحقّ قال- تعالى-: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج: 9] . أو يظهر ذلك عليه من ليّ رأسه إذا دعي إلى الحق، قال- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون: 5] ، وفضيحة المتكبر في الدنيا هي أعظم رادع له ليتخلص من هذا الخلق السيئ المشين، ولكن كيف يعلم العبد أن به هذه الصفة؟ وهي الفائدة التالية. الفائدة السادسة: من السهل واليسير على المسلم، إذا فتش في نفسه أن يعلم أنه متكبر أم لا، ومن ذلك كما أشرنا سابقا أن يستصغر الناس وأن يترفع عن الحق، وأن يجر ثوبه، وأن يجد صعوبة في أن يلقي السلام على الناس خاصة من هو دونه، أو لا يرد السلام على من سلم عليه، أو يرد بصوت خافت لا يكاد يسمعه أحد، أو أن يتعفف عن الأكل مع الفقراء، خاصة خادمه، أو أن يتعاظم في نفسه جدّا أن يساعد من دونه، حتى لو رآه في شدة، بل قد يصل الأمر كما رأيت بنفسي، أن يحب وهو في الصلاة أن تكون هناك فرجة بينه وبين جاره، ويكره أن يسدّ هذه الفرجة، ومنها أيضا ألايسلم إلا بأطراف أصابعه، وأن يكون هو الذي يبدأ بنزع يده أولا، وقد تراه في الصلاة لا يمكّن جبهته أو أنفه من الأرض، وأعظم هذه العلامات ألاتسمع منه أبدا: (إني أخطأت) . فيستكبر عن أن يعترف بخطئه.   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا ... » . برقم (3665) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أما علاج الكبر، فهو كبقية المعاصي، على المتلبس بها: أن يتذكر عقوبتها، وأن يتدبر ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله عزّ وجلّ السّماوات يوم القيامة، ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى، ثمّ يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟ ثمّ يطوي الأرضين بشماله، ثمّ يقول: أنا الملك أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟» «1» . فيتأمل كيف ينادي الجبار عزّ وجلّ يوم القيامة، وقد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله أبدا، ولن يغضب بعده مثله أبدا، فيقول: أين الجبارون أين المتكبرون؟ هل ينادي عليهم نداء رضى وحبّ؟ أم نداء سخط وغضب؟ وكيف أن الله- تعالى- قرن المتكبرين بالجبارين؟ وكيف أنه لم يناد على أحد غيرهم؟ وكأنهم أعظم الناس ذنوبا، كيف لا؟ وهم الذين نازعوا الله في صفة ما يحب أن ينازعه فيها أحد أبدا، وهي صفة الكبرياء بحقّ التي هي من أعظم صفات الكمال لذي الجلال والإكرام. وعلى من يريد أن يطهّر نفسه من تلك الصفة القبيحة أن يفعل الأمور الآتية: أ- أن يتوب إلى الله تعالى من هذا الفعل توبة نصوحا. ب- أن يعتاد مصاحبة الأخيار، ومساعدة الفقراء، ومد يد العون للمساكين. ج- وأن يكثر من السلام على من يعرف ومن لا يعرف. د- وأن يتواضع للخدم وأن يأكل معهم بين الفينة والآخرى. هـ- وأن يبتهل إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء أن يعافيه من هذا المرض العضال. الفائدة السابعة: في الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على تعليم الأمة كلّ أمور دينها حتى آداب الأكل، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه) «2» . ومثاله: ما رواه البخاري عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصّحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام سمّ الله، وكل بيمينك، وكل ممّا يليك» فما زالت تلك طعمتي بعد «3» . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الغلام ويقول:   (1) مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2788) . (2) انظر «فتح الباري» (9/ 523) . (3) البخاري، كتاب: الأطعمة، باب: التسمية على الطعام والأكل باليمين، برقم (5376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يعلمه أهله، أو يتعلم لما يكبر ويشب، أو هو صغير لم يكلّف بعد، بل علمه آداب الأكل، التسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه، وانظروا إلى الغلام ماذا قال؟ (فما زالت تلك طعمتي بعد) ، أي أن الطاعة الفورية، والمحافظة على السنة، لم تكن سمة الصحابة البالغين فقط، بل هي حتى في الغلمان، فالغلام سمع المقال ووعاه عمل به، بل أدّاه وعلمه عامة المسلمين، فكانت تلك طعمة المتبعين لسنة نبيهم إلى قيام الساعة، وللغلام في ذلك الأجر العظيم. الفائدة الثامنة: في الحديث وجوب الأكل باليد اليمنى، قال الإمام النووي- رحمه الله: (نص الشافعي في الرسالة، وفي موضع آخر من كتابه (الأمّ) على وجوب الأكل باليمين، وقال: وما يدل على الوجوب ورود الوعيد في الأكل بالشمال، ثم أورد حديث الباب) «1» . وأنا حريص على تدوين هذه الفائدة لما أراه الآن من تهاون الناس في تلك السنة النبوية، بل وصل الأمر غايته بأن البعض يستحي أن يأكل باليمين، خاصة إذا تناول الطعام بالشوكة.   (1) انظر «فتح الباري» ، (9/ 522) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الباب الثاني إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم بالدلائل والمعجزات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 تقديم إن الدارس لعلم النبوات في أي أمة يرى بوضوح آثار قدرة الله تعالى المؤيّدة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم خير البشر ولو كان هذا الدارس متخصصا في النقد التاريخي مفندا لمزاعم النبوة فإنه يحار عقله وقلبه أمام ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة المؤيدات والمثبتات لنبوته صلى الله عليه وسلم وإن دفعه غروره لإنكار نبوته صلى الله عليه وسلم فبالعقل قبل النقل يستطيع أن يقيس تلك المعجزات والدلائل على ما عنده من معايير وأقيسة فإذا به يجد نفسه أمام نبي عظيم أتاه الله سبحانه وتعالى من المعجزات المعنوية والحسية ما على مثله يؤمن الناس كلهم جميعا. ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله أو من أو آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أنّي أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» رواه الشيخان. وهنا يجدر بنا ذكر الصفات العامة التي عليها يقيس البشر صحة نبوة الأنبياء، وتلك الصفات التي دعت قساة القلوب وغلاظها إلى الإيمان والتسليم، فهذا ضماد يسمع من الرسول بعض الكلمات فيسلم، كما روى مسلم في صحيحه أن ضمادا لما وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد: أعد عليّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن ناعوس البحر، هات يدك أبايعك ... » «2» . فقد أظهر الله على يده صلى الله عليه وسلم تصديقا لدعوته من المعجزات والدلائل ما لا يحصى ولا يعد، فهو صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء وأظهرهم برهانا وسنذكر لك في هذا الباب من الآيات ما تقرّ به عينك ويزداد به يقينك مما رواه الأئمة الأعلام في صحاح كتب الحديث.   (1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزول الوحي أول ما نزل، (4681) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا ... ، برقم (152) . (2) رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة، برقم (868) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أولا- صفات النبوة العامة 1- خاتم النبوة: عن السّائب بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثمّ توضّأ فشربت من وضوئه، ثمّ قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النّبوّة بين كتفيه مثل زرّ الحجلة «1» . (رواه البخاري) . وهذه أيضا من الصفات التي اشترك فيها الأنبياء كلهم جميعا لتبقى شاهدا على صدق نبوتهم. بعض فوائد الحديث الفائدة الأولى: جعل الله تبارك وتعالى لكل نبي دليلا في نفسه على نبوته، يأنس به ويطمئن به قلبه، خاصة أول البعثة بل ومن قبلها، وهذا من بالغ عنايته تبارك وتعالى بأنبيائه. الفائدة الثانية: أقام الله تبارك وتعالى الحجة على كل العباد- خاصة من عاصر الأنبياء على صدق أنبيائه، بشيء مادي ملازم للأنبياء، يسهل على كل أحد أن يراه، ولا يختلف اثنان أن مثل هذا الخاتم لا يمكن أن يصنعه بشر، بل هو خلقي لا يقدر على صنعه إلا الله تبارك وتعالى. الفائدة الثالثة: مكان خاتم النبوة من جسد النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلى الكتف من الجهة اليسرى قدر قبضة الكف على هيئة حبيبات بارزة عن سطح الجسد، لما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزا ولحما أو قال: ثريدا قال: فقلت له: أستغفر لك النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: نعم ولك ثمّ تلا هذه الآية وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] قال: ثمّ درت خلفه فنظرت إلى خاتم النّبوّة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثّاليل «2» . الفائدة الرابعة: اشتهار أمر خاتم النبوة عند الصحابة ومعرفة اسمه ومكانه، لما ورد عند مسلم من حديث عبد الله بن سرجس: فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه.   (1) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، برقم (190) . (2) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته، برقم (2346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الفائدة الخامسة: حرص الصحابة رضي الله عنهم على التبرك باثار النبي صلى الله عليه وسلم ومنها فضلة وضوئه صلى الله عليه وسلم. تنبيه: قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: وأما ما ورد من أنها كانت كأثر محجم أو كالشامة السوداء أو الخضراء أو مكتوب عليها: محمد رسول الله، أو سر فأنت المنصور، أو نحو ذلك، فلم يثبت منها شيء. انتهى «1» . 2- الرؤية الصالحة: عن أبي سعيد الخدريّ أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرّؤيا الصّالحة جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة «2» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا: «جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» . فالرؤيا الصالحة إذن أمر مشترك بين الأنبياء كلهم جميعا، قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- عن طبقات الناس في الرؤيا ما نصه: فالناس ثلاث درجات: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وهي ثلاثة أقسام: مستورون فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث ويقلّ فيها الصدق، وكفار ويندر في رؤياهم الصدق جدّا. انتهى. وقد بينت في باب: (تزكية أخلاقه صلى الله عليه وسلم) بعض الأمور التي تتعلق بالرؤيا فلا حاجة للتفصيل هنا. وهناك دليل آخر من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّؤيا الصّالحة فجاءه الملك فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 1- 3] «3» . 3- الرعي: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» فقال   (1) انظر فتح الباري (6/ 563) . (2) رواه البخاري، كتاب التعبير، باب: الرؤيا الصالحة برقم (6989) . (3) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، برقم (4955) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيّا إلا رعى الغنم» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: قال الإمام النووي: (والحكمة في رعاية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم للغنم؛ ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتصفى قلوبهم بالخلوة ويترقوا بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة) «2» . الفائدة الثانية: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ المنتهى في التواضع، قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: (وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء) «3» . الفائدة الثالثة: في الحديث دليل على أن الله عز وجل يتكفل الأنبياء بالرعاية والحفظ والتربية الربانية من قبل بعثتهم، وهذا دليل على شرفهم وعلو منزلتهم وعظيم الأمانة التي حملها الله لهم. 4- التحذير من الدجال: عن ابن عمر قال: قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ ذكر الدّجّال فقال: «إنّي أنذركموه، وما من نبيّ إلّا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبيّ لقومه: تعلمون أنّه أعور وأنّ الله ليس بأعور» . «4» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه» فهذا دليل أن التحذير من الدجال من الصفات المشتركة بين الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام.   (1) رواه البخاري، كتاب الإجارة، باب: رعي الغنم على قراريط، برقم (2262) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 6) . (3) انظر فتح الباري (4/ 441) . (4) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: كيف يعرض الإسلام على الصبي، برقم (3057) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: من المهام العظيمة للأنبياء تحذير أقوامهم من الفتن، وهذا يدل على شفقة الأنبياء بمن بعثوا إليهم. نقل الإمام بن حجر- رحمه الله- عن ابن العربي قوله: «إنذار الأنبياء قومهم بأمر الدجال تحذير من الفتن وطمأنينة لها حتى لا يزعزعها عن حسن الاعتقاد» «1» . الفائدة الثانية: تفضيل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، من حيث تخصيصه هنا ببعض العلوم التي لم يشاركه فيها نبي من قبله، يتمثل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه: إنه أعور» ولا يقال: إن الأنبياء من قبله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون هذه الخصلة في الدجال ولم يذكروها لقومهم؛ لأن هذا القول قدح في الأنبياء، حيث يقتضي أنهم أخفوا شيئا من الوحي وهذا محال في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم جميعا. ويتفرع عليه تفضيل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة على سائر الأمم السابقة من نفس الحيثية. قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- (قيل: إن السر في اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالتنبيه المذكور مع أنه أوضح الأدلة في تكذيب الدجال، أن الدجال إنما يخرج في أمته دون غيرها ممن تقدم من الأمم) «2» وأقول: لا يناقض ما قال الحافظ- رحمه الله- ما ذكرته آنفا. الفائدة الثالثة: عظيم فتنة الدجال، ودليله من الحديث أن كل نبي يحذر أمته من شره المستطير، وذلك لما أعطاه الله سبحانه وتعالى من أمور خارقة للعادة لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى، روى مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا عن الدّجّال فكان فيما حدّثنا به قال: «يأتي الدّجّال وهو محرّم عليه أن يدخل نقاب المدينة بعض السّباخ الّتي بالمدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير النّاس- أو من خير النّاس- فيقول: أشهد أنّك الدّجّال الّذي حدّثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدّجّال: أرأيت إن قتلت هذا ثمّ أحييته هل تشكّون في الأمر؟! فيقولون: لا فيقتله ثمّ يحييه فيقول حين يحييه: والله ما كنت قطّ أشدّ بصيرة منّي اليوم فيقول: الدّجّال أقتله، فلا أسلّط عليه» «3» ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن حفظها من فتنة الدجال العظيمة بعمل قليل وهو   (1) انظر فتح الباري (13/ 96) . (2) انظر فتح الباري (13/ 96) . (3) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب: في صفة الدجال، برقم (2938) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، روى مسلم في صحيحه، عن أبي الدّرداء أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدّجّال» «1» . كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّنّ لأمته كذب الدجال في ادعائه الألوهية بدليل حسي ودليل عقلي، أما الدليل الحسي الشاهد فهو حديث الباب وما رواه مسلم في صحيحه عن قتادة، حدّثنا أنس بن مالك أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدّجّال مكتوب بين عينيه ك ف ر أي كافر» «2» . وأما الدليل العقلي، فما رواه مسلم أيضا في صحيحه من حديث ابن الصياد الطويل: «تعلّموا أنه لن يرى أحد منكم ربّه عز وجل حتى يموت» «3» . عن طاوس عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم هذا الدّعاء كما يعلّمهم السّورة من القرآن يقول: «قولوا: اللهمّ إنّا نعوذ بك من عذاب جهنّم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات قال مسلم بن الحجّاج بلغني أنّ طاوسا قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك فقال لا قال أعد صلاتك؛ لأنّ طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة أو كما قال» «4» . 5- التخيير بين الدنيا والآخرة: ع ن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: «إنّ عبدا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر وقال: فديناك بابائنا وأمّهاتنا، فعجبنا له وقال النّاس: انظروا إلى هذا الشّيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بابائنا وأمّهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذا خليلا من أمّتي لاتّخذت أبا بكر، إلّا خلّة الإسلام، لا يبقينّ في المسجد خوخة إلّا خوخة أبي بكر» «5»   (1) رواه مسلم، كتاب صلاة صلاة المسافرين، باب: فضل سورة الكهف، برقم (809) . (2) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب: ذكر الدجال، برقم (2933) . (3) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب: ذكر ابن صياد، برقم (2931) . (4) رواه مسلم، كتاب المساجد، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (590) . (5) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، برقم (3904) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الشاهد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده» ، وقد حضرت عائشة رضي الله عنها واقعة التخيير، لما ثبت عند البخاري عن عائشة قالت: كنت أسمع أنّه لا يموت نبيّ حتّى يخيّر بين الدّنيا والآخرة، فسمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الّذي مات فيه وأخذته بحّة يقول: «مع الّذين أنعم الله عليهم» ... «1» الآية فظننت أنّه خيّر. بعض فوائد الحديث الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا إخوانه من الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- ويظهر ذلك في تخييرهم قبل الوفاة، بين الدنيا والآخرة، ودليل اشتراكهم جميعا في ذلك، قول عائشة، رضي الله عنها: (كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة) ولفظ «نبي» نكرة في سياق النفي فيقتضي العموم. 2- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إن عبدا» ولم يقل: نبيّا ولا رسولا، بل أتى بلفظ «عبد» نكرة، وقد مر أكثر من مرة شرف مقام العبودية لله، عز وجل، وأنها أسمى المقامات. 3- زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتقديمه جوار الله عز وجل على البقاء في الدنيا، مع أن هذا التخيير لم يقع على الدنيا بما فيها من أفراح وأتراح، مقابل الآخرة، بل وقع التخيير بين ما يختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من زهرة الدنيا- أي ما يشاء من صحة وعافية ومال وبنين، ويكون كل ذلك بلا هموم ولا غموم ولا أمراض ولا أسقام؛ لأن الإنسان لا يختار لنفسه إلا كل ما يسعده ويفرحه- وبين ما عند الله سبحانه وتعالى فاختار النبي صلى الله عليه وسلم ما عند الله، وذلك من كمال زهده وتمام حكمته وشوقه إلى لقاء ربه. يتفرع على ذلك، أن ما عند الله، جل وعلا، هو خير وأبقى وأكمل للعبد المسلم، من دنيا فاز فيها بكل مرغوب، ونجا فيها من كل مرهوب، فإن وجدت مثل هذه الدنيا، وهو من أمحل المحال، فلا يفضلها عبد مؤمن على ما عند الله، من مساكن عاليات وأنهار   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4435) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 جاريات وحور مقصورات، وزينة من الفضيات، وملابس من الحريرات، وأكواب مذهبات، ونمارق من الاستبرق مشغولات، فضلا عن رؤية وجه الله العظيم، وصحبة النبي الكريم، ومجالسة الصحب الميامين، مع ما أعده الرب الشكور من دائم السرور وعميم الحبور. 4- عظيم وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم جميعا، خاصة أبا بكر، صدّيق هذه الأمة، وسابقها لكل خير، ودليله من الحديث: «إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر» «1» ، وهذا منتهى الوفاء والاعتراف بفضل أهل الخير وردّ صنيعهم بما هو أجمل وأكمل. وقد ذكر صاحب الفتح أن معنى: «إن من أمنّ الناس عليّ» أي أبذل الناس لنفسه وماله؛ لأن المن هنا بمعنى العطاء والبذل، لا بمعنى المنة التي تفسد الصنيعة. وكان من مظاهر رد النبي صلى الله عليه وسلم لأيادي أبي بكر البيضاء على الإسلام والمسلمين ما يلي: أ- وجّه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إليه، وهو على المنبر، بقوله: «يا أبا بكر لا تبك» كما في إحدى روايات البخاري، وهي منقبة عظيمة لأبي بكر، رضي الله عنه، حيث ناداه بكنيته، وواساه في حزنه بأمره بعدم البكاء وذكر فضله. ب- أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكثر الصحابة صحبة وملازمة له، صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم إنفاقا، ودليله: «إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر» . ج- أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أهلية أبي بكر لأن يكون خليلا له، لولا وجود المانع، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم، خليل الرحمن، قال: «ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا» ، ولو أن في الصحابة من هو أفضل صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم لكان هو أولى من أبي بكر رضي الله عنه بخلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام بيان فضل الناس ولا ينبغي في حقه صلى الله عليه وسلم رفع المفضول على الفاضل. د- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإغلاق جميع الأبواب التي تفتح بيوت الصحابة على المسجد، إلا باب أبي بكر الصديق، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يبقين في المسجد خوخة إلى خوخة أبي بكر» ، وفي رواية عند البخاري: «لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر» «2» ، وهي منقبة عظيمة لأبي بكر، رضي الله عنه، وقد يكون من أسباب الأمر بسد جميع الأبواب، هو إظهار فضل   (1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، برقم (466) . (2) سبق تخريجه قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أبي بكر رضي الله عنه، وقد ذكر الإمام ابن حجر، رحمه الله، في فتح الباري أن باب علي رضي الله عنه قد استثني أيضا، في غير هذا المقام؛ لأن باب بيته كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره. انتهى كلامه «1» ، ومن ثمّ ترى أن هنا فرقا بين باب أبي بكر وباب علي رضي الله عنهما. الفائدة الثانية: في مناقب الصديق رضي الله عنه: 1- فقهه: حيث علم مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالعبد الذي خيره الله بين زهرة الدنيا وما عنده، ولولا أن أبا بكر رضي الله عنه يعلم أن الأنبياء يخيرون قبل قبضهم ما بكى، أو أنه كان يعلم مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الأمثلة التي كان يضربها للناس، قال الراوي: (وكان أبو بكر هو أعلمنا به) ، وهو إقرار من الصحابة بفضل أبي بكر وعلمه رضي الله عنهم جميعا. أضف إلى ذلك توقيرهم له من قولهم: (وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ) يعنون أبا بكر. 2- حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ومفاداته بالآباء والأمهات ويوضح ذلك: أ- بكاؤه لما علم بقرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم وأظن أن البكاء قد غلبه من شدة الحزن، وإلا لما بكى أمام الناس، فهم كانوا أحرص الناس على ملازمة الإخلاص ومجانبة الرياء. ب- قوله: (فديناك بابائنا وأمهاتنا) وهذا يدل على فرط حبه للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يود لو سلم الرسول، صلى الله عليه وسلم من كل أذّى، مقابل تعرض الآباء والأمهات لمثل هذا الأذى، وكان هذا أهون عليه. ويتفرع عليه ما كان عليه الصديق رضي الله عنه من إجلال وإكبار لقدر الآباء والأمهات، حيث أراد أن يفتدي الرسول صلى الله عليه وسلم بهما، ولو كان يرى شيئا أعظم قدرا منهما لذكره في هذا المقام. 3- مكانته: يتضح مما سبق أن أبا بكر رضي الله عنه هو خير الأصحاب بلا منازع، ولا يجادل في ذلك إلا مكابر، خاصة إذا أضيف إلى هذا الحديث، أنه هو الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة المباركة، وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو الذي طلب الزواج من ابنته رضي الله عنها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلي بالناس عند ما حضرته الوفاة، وهو أدل دليل على أنه الأولى بالخلافة وكان يسأل من أحبّ الناس إليك، فيقول: أبو بكر. ويضاف إلى   (1) انظر فتح الباري (7/ 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ذلك كثرة الأحاديث التي تظهر فضله، رضي الله عنه، وأحقيته بالخلافة وهى أكثر من أن نحصيها، ونذكر هنا ما (رواه البخاري) ، بإسناده عن محمّد بن جبير أنّ أباه جبير بن مطعم أخبره أنّ امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمته في شيء فأمرها بأمر فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر «1» . زاد لنا الحميديّ عن إبراهيم بن سعد كأنّها تعني الموت. فإن قال قائل: كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، يدل على الواقع، ولا يدل على الأفضلية والأحقية الشرعية، لأبي بكر في الخلافة، قلت: لو كان الأمر يدل على الواقع فقط، لقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة: (إن لم تجديني فستجدي أبا بكر) ، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» ومن جهة أخرى، إن لم يكن أبو بكر، رضي الله عنه، هو الأحق بالخلافة، لوجود من هو أفضل منه، لأمرها النبي، صلى الله عليه وسلم، أن تذهب إلى الأفضل، وكيف لا يفعل ذلك، وهو الناصح الأمين لهذه الأمة، صلى الله عليه وسلم، فأعتقد أن في هذا الحديث إخبارا من الرسول، صلى الله عليه وسلم، بخلافة أبي بكر ورضائه بهذه الخلافة الراشدة. الفائدة الثالثة: وهي متفرقات: 1- تفاوت الصحابة رضي الله عنهم في بذل المال والنفس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علي» فذكر كلمة «أمنّ» على صيغة أفعل التفضيل، مما يدل على التفاوت. 2- ليس بالمال وحده ينصر دين الله، ولكن يكون أيضا ببذل النفس، وهذا لا يعدمه أحد على قدر استطاعته، بل قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصحبة على المال. 3- أخوة الإسلام صلة وثيقة وعظيمة بين المسلمين، يجب على المسلمين اعتبارها في كل معاملاتهم وتصرفاتهم، حيث أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه، ولو كان هناك ما هو أعظم من هذه الرابطة لأثبتها النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا قوتها ومكانتها وفضلها، ما أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم في مقام يريد فيه أن يكافئ أفضل الصحابة وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم. 6- عدم أكل الصدقة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهديّة أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل وإن قيل: هديّة ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) «2» .   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا» ، برقم (3659) . (2) رواه البخاري، كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، برقم (2576) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تختلف الصدقة عن الهدية في الأمور التالية: 1- تخرج الزكاة لتطهير مال الغني، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103] ، أما الهدية فتخرج لكسب ودّ الناس وحبهم. 2- من يستحق الزكاة من المسلمين هم الفقراء والمصارف الآخرى التي ذكرها القرآن، أما الهدية فتخرج للفقراء والأغنياء على حد سواء. 3- الزكاة فريضة على كل مسلم غني، قد يدفعها المسلم بغير طيب نفس ولكن بغرض أداء الواجب أو خوف السلطان، أما الهدية فهي ليست واجبة على العبد، فالأصل أنه يخرجها عن طيب نفس. 4- قد يشعر الغني بمنة على الفقير عند إعطائه الزكاة، أما الهدية فلا. 5- أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس إذ هم منعوا زكاة أموالهم، روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا ألاإله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة: فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله» «1» . وهذا غير موجود في الهدية. لهذه الأسباب أو لبعضها حرّم الله على الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- الأكل من الصدقات والزكوات. ويتفرع عليه: إرادة الله تعالى حفظ أعراض أنبيائه وصون ماء وجوههم، وأن تكون أيديهم هي العليا. الفائدة الثانية: ليس التضييق على العباد في أمور أو أحكام معينة معناه أن الله عز وجل لا يحبهم، فهؤلاء هم خير الخلق أجمعين، ضيق الله عليهم بتحريم أكلهم من الصدقة حبّا لهم وإعلاء لشأنهم. الفائدة الثالثة: بيان ورعه صلى الله عليه وسلم حيث كان يسأل عن الطعام قبل أن يأكله، قال الإمام النووي- رحمه الله-: (فيه استعمال الورع والفحص عن أصل المأكل والمشرب) «2» .   (1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، برقم (25) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كما يؤخذ من الحديث تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث كان يأكل من الهدية. فعن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل: هديّة أكل منها وإن قيل: صدقة لم يأكل منها. (رواه مسلم) «1» . 7- عدم التوريث عن عائشة رضي الله عنها أنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنّ، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» «2» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» ومقصود الجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث» أي: نحن معاشر الأنبياء. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عدم توريث الأنبياء من الأمور التي حفظ الله بها أعراض الأنبياء من الطعن والذم في حياتهم، وحفظ بها أهل قرابتهم بعد مماتهم من التطاحن والاختلاف. وعدم التوريث من الأمور التي كانت بلا شك تضيقا في الظاهر على قرابة الأنبياء، ولكن الله عز وجل عوضهم عن ذلك ما هو أعظم بركة وأجرا وذكرا في الدنيا والآخرة، قال الإمام النووي- رحمه الله- (قال العلماء: الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته- أي النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك؛ ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثه فيهلك الظان، وينفر الناس عنه) «3» . الفائدة الثانية: في الحديث دليل على فقه عائشة رضي الله عنها، وسعة حفظها واطلاعها على ما لم يطلع عليه غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أنها احتجت بما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة، وهي فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها. الفائدة الثالثة: ليس هناك حرج أن يطلب المسلم (مهما علا قدره في الدين والعلم   (1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب: قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية، برقم (1077) . (2) رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، برقم (6730) . (3) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والوجاهة) حقه الشرعي من الميراث: (مهما صغر مقدار هذا الميراث) ، ودليله أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مع فضلهن قد طلبن ميراثهن، وما أنكرت عائشة رضي الله عنها طلبهن إلا من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، وفي حديث فاطمة والعباس دليل على ذلك؛ فعن عروة عن عائشة: (أنّ فاطمة والعبّاس عليهما السّلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «لا نورث ما تركنا صدقة إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال» . قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلّا صنعته. قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّى ماتت) «1» . 8- رؤية مقاعدهم في الجنة أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ قطّ حتّى يرى مقعده من الجنّة ثمّ يحيّا أو يخيّر» . فلمّا اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه فلمّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثمّ قال: اللهمّ في الرّفيق الأعلى «2» . الشاهد في الحديث: قوله: (إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة) . وهذا دليل على علو منزلة الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام، حيث إنهم يرون في الدنيا- قبل موتهم- مقاعدهم من الجنة، ثم يأتي بعد ذلك التخيير، والحكمة من ذلك- والله أعلم- ترغيبهم وحثهم على اختيار جوار الله، وهذا يعد من عظيم محبة الله لهم وإرادته جوارهم منه سبحانه. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتفصيله الدار الآخرة ولقاء ربه، حيث إنه صلى الله عليه وسلم ما تردد بل اختار من أول تخيير له الدار الآخرة. الفائدة الثانية: أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه، وحرصه على تعليم الأمة هذا الأدب، حيث   (1) رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، برقم (6725) . (2) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4437) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وصف صلى الله عليه وسلم الرفيق- الذي هو جوار ربه والدار الآخرة- بوصف أتم أكمل وهو الأعلى. ويتفرع عليه سوء أدب من يزهد في الدار الآخرة أو يفضل عليها الدنيا، ويأمل فيها ويتعلق بها أكثر من تعلقه بالدار الآخرة. وليعلم كل مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم على الدار الآخرة بصفة (الأعلى) فقد تضمن هذا الحكم على هذه الحياة التي نسكنها (بالدنيا) ويصدق ذلك قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء: 77] . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار الرفيق الأعلى مع أن كل لحظة في حياته كانت بركة ونفعا لأمته صلى الله عليه وسلم، أفلا نختار نحن الرفيق الأعلى وحياتنا كلنا أقل نفعا- قطعا- من حياته صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثالثة: في مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: 1- فقهها رضي الله عنها حيث علمت من حال النبي صلى الله عليه وسلم لما أشخص بصره إلى السقف ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» أنه يخير، وقد ربطت ذلك بما سمعته منه صلى الله عليه وسلم حال صحته حيث قال لها: «إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير» ، وهذا يدل أيضا على قوتها رضي الله عنها ورباطة جأشها إذ لم يذهب عقلها أو يذهل قلبها، وهي ترى النبي صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت، فداه أبي وأمي. 2- علمها بحال النبي صلى الله عليه وسلم، وزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة حيث علمت أنه صلى الله عليه وسلم سيختار الرفيق الأعلى، حيث قالت: (إذا لا يختارنا) . 3- من فضائلها رضي الله عنها وفضائلها كثيرة- ولكن هذه فضيلة لا يساميها فيها أحد أبدا- أن النبي صلى الله عليه وسلم خير واختار ثم قبض في حجرها، ودفن في غرفتها، بل لها ما هو أعظم من ذلك وأشد بركة، أنها كانت آخر أحد من البشر اختلط ريقه بريق النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الّذي مات فيه: «أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟» يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتّى مات عندها قالت عائشة: فمات في اليوم الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي فقبضه الله وإنّ رأسه لبين نحري وسحري وخالط ريقه ريقي «1» . وما كان هذا إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى. وسيأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في باب أيام من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، (4450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 9- تحريم أجسادهم على الأرض: فقد روى أبو داود في سننه بإسناده عن أوس بن أوس قال: حدّثنا هارون بن عبد الله، حدّثنا حسين بن عليّ، عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصّنعانيّ، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النّفخة، وفيه الصّعقة، فأكثروا عليّ من الصّلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ» . قال: قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون: بليت. فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أجساد الأنبياء» «1» . ثانيا: ذكره صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة وأخذ العهد على الأنبياء بنصرته 1- هو دعوة إبراهيم: قال تعالى (على لسان إبراهيم صلى الله عليه وسلم) : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . إجماع أهل التفسير، بل أهل القبلة كلهم جميعا على أن المقصود بهذه الدعوة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ: هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونقل عن قتادة قوله: (ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور ويهداهم إلى صراط العزيز الحميد) «2» . وقال صاحب «المنتخب» في معنى الآية الكريمة: (ربنا وابعث في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك ويعلمهم ما يوحى إليه به من كتاب وعلم نافع وشريعة محمودة ويطهرهم من ذميم الأخلاق إنك أنت الغالب القاهر الحكيم فيما تفعل وما تأمر به وما تنهى عنه) . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: علو مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته الرفيعة العالية عند ربه تبارك وتعالى، ثم   (1) رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم (1047) ، وهو حديث صحيح: وقد أوردنا هذا الحديث في خارج الصحيحين لعدم وجود حديث بهذا اللفظ أو المعنى في أحدهما. (2) انظر تفسير الطبري (1/ 557) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عند أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يتبين ذلك من صيغة الدعاء وكيفية استجابة الله له ونجمل ذلك فيما يلي: 1- استفتح إبراهيم صلى الله عليه وسلم دعاء بلفظ رَبَّنا استدرارا لرحمات الله تبارك وتعالى وأنه بمقتضى ربوبيته لخلقه التي تستلزم الرعاية والتربية والهداية يبعث في الأمة مثل هذا الرسول الكريم. وقد حذف الخليل من دعائه حرف النداء (يا) إشعارا بقربه من الرب جل في علاه. 2- اختار إبراهيم صلى الله عليه وسلم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أشرف نسب على وجه الأرض، وهي ذرية إسماعيل عليه السلام، قال صاحب التفسير الميسر في تفسير الآية: (ربنا وابعث في هذه الأمة رسولا من ذرية إسماعيل يتلو عليهم آياتك ويعلمهم القرآن والسنة ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق) . 3- اختار إبراهيم صلى الله عليه وسلم لختم الدعاء- وهذا من فقهه وعلمه- اسمين كريمين يتوسل بهما إلى الله تعالى لتحقيق دعائه على أحسن ما يكون، وهو العزيز الحكيم، فبعزته تبارك وتعالى أرسل رسولنا الكريم ونصره وأيده بالآيات الباهرات، الكونية والشرعية، فأظهر دينه على كل الأديان والملل والنحل، وبمقتضى حكمته تبارك وتعالى اختار خير خلقه أجمعين ليحقق به دعوة الخليل صلى الله عليه وسلم. قال عز من قائل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] . 4- من فضله ومنته تبارك وتعالى أن أجاب دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على أحسن ما يكون، بل زاد عليها، بأن جعل النبي المبعوث شاهدا ومبشرا ونذيرا، وجعله خير الأولين والآخرين، وختم به سلسلة الأنبياء والمرسلين. الفائدة الثانية: كان دعاء الخليل صلى الله عليه وسلم والذي استجابه الله تبارك وتعالى على أحسن ما يكون، خير تزكية لنبينا عليه الصلاة والسلام من قبل بعثته بقرون طويلة، يتبين ذلك من: 1- أنه يكفيه صلى الله عليه وسلم شرفا ورفعة أن تكون بعثته ببركة دعاء خير الأنبياء- بعد نبينا صلى الله عليه وسلم- الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم. 2- أنه صلى الله عليه وسلم سيأتي بكتاب يتعبّد لله تبارك وتعالى بتلاوته، وهو الذي سيعلم الأمة قرآنه ويعلمهم تلاوته، كما سيعلمهم السنة الشريفة، جاء في دعاء الخليل يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 129] والحكمة هي السنة الشريفة، راجع ما قاله صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 التفسير الميسر والذي ذكرته آنفا، وكفى النبي صلى الله عليه وسلم تزكية أن تطلق الحكمة على سنته الشريفة. 3- أنه صلى الله عليه وسلم سير بي هذه الأمة على خير الأخلاق والأقوال والأفعال، بما يضمن لها طهارة القلوب والعقول، ورد في دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم وَيُزَكِّيهِمْ. الفائدة الثالثة: وجوب امتنان هذه الأمة للخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي دعا ربه واجتهد- كما رأينا- في دعائه، فكان من بركة دعائه أن بعث الله فينا وإلينا خير خلقه أجمعين صلى الله عليه وسلم. الفائدة الرابعة: ليس تأخير استجابة الدعاء أو عدم معاينة العبد لاستجابة الله دعائه، شاهد أو قرينة على رد دعاء المؤمن، كلا، فالله تبارك وتعالى قد استجاب دعاء الخليل كأحسن ما يكون ولم يعاين صاحب الدعاء الإجابة، ولكن تأخّر الإجابة كان لحكمة بليغة ترفع مقام الداعي الخليل فقد استجاب الله دعاءه في خاتم النبيين. الفائدة الخامسة: علو مكانة إبراهيم عليه السلام عند ربه، وذلك بأن وفقه لمثل هذا الدعاء وألهمه إياه وجعل هذا الدعاء مقدمة لبعثة خير الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ثم جعله أبا أكبر للمصطفى صلى الله عليه وسلم، بل جعل كل الأنبياء من بعده من ذريته، قال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] ، وهذا الذي جعل العلماء يقولون: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء جميعا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. 2- ذكره صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل: قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] . من نعم الله سبحانه وتعالى المتتالية والمتعاقبة على نبيه صلى الله عليه وسلم أن جاء ذكره بل نعته وما يؤمر به وما ينهى عنه في التوراة والإنجيل. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: من دلائل رفع الله تبارك وتعالى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ ذكره قد ورد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 التوراة والإنجيل بأحسن الصفات وأتمها وكان ذلك بمثابة أعظم التزكية له قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، والصفات هي: 1- صفة النبوة التي هي أعظم الصفات وأجلّها. 2- صفة الأمية وهي ليست صفة يراد بها إثبات الذم والنقص، بل هي صفة يراد بها المدح والكمال، وموطن المدح في اللفظ، أن هذا النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب كان خير معلم للبشرية، أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا يشك عاقل أن الأمي لا يأتي بكتاب عظيم مثل هذا القرآن إلا إذا أوحى الله له به. 3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (المعروف هو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه، والمنكر هو كل ما عرف قبحه في العقول والفطر، فيأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم وصلة الرحم وبر الوالدين والإحسان إلى الجار والمملوك وبذل النفع لسائر الخلق والصدق والعفاف والنصيحة، وينهى عن الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا وشرب ما يسكر العقل والظلم لسائر الخلق والكذب والفجور ونحو ذلك) انتهى «1» . وأقول: إن من أوضح دلائل نبوة أي نبي، هو حسن ما يأمر به وقبح ما ينهى عنه، وبه استدل هرقل عظيم الروم على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. 4- تحليله صلى الله عليه وسلم الطّيّب من كل شيء، فيدخل فيه المطاعم والمشارب واللباس والأقوال والأخلاق والأفعال، وتحريمه الخبيث من كل شيء سواء من المطاعم أو المشارب أو العلاقات السيئة والأخلاق الرذيلة والمعاملات الفاسدة التي توقع في القلوب الحسد والبغضاء. 5- رحمته الكبيرة بأمته؛ إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن ييسّر لأمته أمر الدين وألا يكلفهم ما لا يطيقون، وضرب صاحب التفسير الميسر أمثلة على ذلك فقال: «ويذهب عنهم ما كلفوه من الأمور الشاقة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتما من القاتل عمدا كان القتل أم خطأ» . أقول أخي الكريم: سبحان من ضمن لنبينا صلى الله عليه وسلم الذكر الحسن والثناء الجميل في الكتب   (1) انظر تفسير السعدي (305) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المنزلة من عنده وأعظمها- بعد القرآن الكريم- التوراة والإنجيل. الفائدة الثانية: لم يتعبد الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وحدها بالإيمان بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، بل تعبد الله تبارك وتعالى أهل التوراة والإنجيل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم بصفته واسمه ونعته، والدليل على ذلك أنّ ذكره صلى الله عليه وسلم قد جاء في كتبهم وفرض عليهم أن يؤمنوا بما أنزل من عند الله على وجه التفصيل ويتفرع عليه أن من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فقد كفر أولا بالكتاب الذي أنزل على نبيه. الفائدة الثالثة: جواز أن ينسب التحليل والتحريم والأمر والنهي إليه صلى الله عليه وسلم، من جهة أنه مبلغ الشرع عن الله سبحانه وتعالى سواء بالقرآن أو السنة. ورد في الآية الكريمة: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ [الأعراف: 157] . الفائدة الرابعة: فصاحة القرآن العظيم وبلاغته إذ قسّمت المهام، التي يضطلع بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة جوانب كلية بألفاظ قليلة جامعة مانعة وهي: أ- جانب دعوى: يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويتفرع عليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان هذا الدين، حيث ذكره الله- تبارك وتعالى- كأول مهام النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفرع عليه أيضا بيان شرف من يقوم بهذه المهمة من عموم المسلمين حيث هي وظيفة الأنبياء. ب- جانب تشريعي: يتمثل في التحليل والتحريم، ونأخذ من الآية قاعدة أصولية عظيمة تنسحب على كل أمر لم يأت فيه نص، وهي: كل أمر اجتمع أهل الاختصاص من المسلمين أنه طيب لا ضرر منه فهو حلال، وكلّ أمر اجتمعوا على أنه ضار مفسد للصحة أو للعقل والمال ولا نفع فيه فهو حرام ولا يحتاج الفتوى بحل القسم الأول أو تحريم القسم الثاني إلى دليل خاص من الشرع، بل يكفي هذا الدليل العام وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] فالدخان مثلا نقطع أنه حرام ويأثم شاربه، لاجتماع أهل الاختصاص كلهم جميعا على ضرره البالغ الذي لا يقاربه النفع المتوهّم من شربه. ج- جانب اجتماعي: ويتمثل في التخفيف عن الأمة تلك التكاليف التي كانت تشق على الأمم السابقة. ويؤخذ من هذا الجانب أن هذه الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها أبدا ما يشق على الأمة أو يسبب لها العنت والحرج، وأن كل أصول وفروع هذه الشريعة قائمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 على التيسير والتسهيل. الفائدة الخامسة: حددت الآية الكريمة أربعة شروط لفلاح العبد في الدنيا والآخرة، والشروط هي: 1- الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إيمان به وبكل ما جاء به من أصول وفروع، ومن عقائد وشرائع. 2- تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتبجيله: تعظيمه في نفسه وفي كل ما جاء به من كتاب وسنة، وتبجيله، وتبجيل كل ما يتعلق به، من أزواج وأولاد وأهل بيت كرام، وكذا من اتبعه ونصره من المهاجرين والأنصار. شريطة أن يظهر هذا التعظيم في أقوالنا وسلوكنا وجميع تصرفاتنا. 3- نصرته صلى الله عليه وسلم ، وتشمل نصرة كتابه- القرآن الكريم- ونصرة سنته بالعمل بها والدفاع عنها وتطهيرها مما يشوبها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. 4- اتباعه صلى الله عليه وسلم ، أي التقيد بكل ما ورد بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وعدم الابتداع في الدين. وتلحظ في الآية الكريمة أن كل أسباب الفلاح جاءت مطلقة غير مقيدة، لتشمل جميع ما ذكر، فالإيمان به مثلا يجب أن يشمل جميع أوجه الإيمان التي يمكن أن تتعلق به صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء به، حتى يشمل الإيمان بشمائله صلى الله عليه وسلم وحسن صفاته الخلقية والخلقية ومعجزاته الكونية والشرعية. قال صاحب التفسير الميسر: (فالذين صدقوا بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم وأقروا بنبوته ووقروه وعظموه ونصروه واتبعوا القرآن المنزل عليه وعملوا بسنته أولئك هم الفائزون بما وعد الله به عباده المؤمنين) . 3- تبشير عيسى عليه السلام به صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] . البشرى: هي ما يفرح به العبد ويسرّ له، وسميت بهذا الاسم لتغير بشرة الإنسان بسماعها. فعيسى عليه السلام وهو آخر أنبياء بني إسرائيل زفّ إلى قومه ومن سمعه من غير قومه خبرا سعيدا وهو مقدم النبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: تزكية النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل، حيث ذكر باسم طيب جميل يدل على ثناء الناس عليه لكثرة بركته ووفرة خيره، وأحمد هو الذي يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره) . الفائدة الثانية: اشتهار أمر بعثته صلى الله عليه وسلم في الأولين والآخرين باسمه الصريح، وخصاله الخلقية وشريعته السمحة، بل والكتاب الذي سيأتي به، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره ومؤازرته إذا بعث، وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده حيث دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم وكذا على لسان عيسى ابن مريم) «1» . الفائدة الثالثة: واجب على كل مسلم ومسلمة أن يفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، وبكل ما جاء به، ومن لم يفعل فقد رد بشرى الله تبارك وتعالى على لسان نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم. الفائدة الرابعة: بيان أخوة الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام مع اختلاف الأعراق والأجناس، فهذا عيسى عليه السلام وهو من أنبياء بني إسرائيل يبشر بمقدم الرسول العربي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الفائدة الخامسة: ليس بين عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي آخر، لقوله تعالى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] . الفائدة السادسة: تعدد أسمائه صلى الله عليه وسلم فقد ورد في القرآن، محمد وأحمد، وورد عند البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ لي أسماء: أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدمي، وأنا العاقب» «2» . 4- ذكره في كتب الأولين: قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] . وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ   (1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 361) . (2) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، برقم (4896) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] . والزبر اسم جنس لجميع الكتب المنزلة. إن كان قد ثبت بالأدلة التفصيلية ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على لسان إبراهيم وكذلك في التوراة والإنجيل، كما ذكرت سابقا، فقد أوردت هذا الباب للدلالة على أن ذكره صلى الله عليه وسلم قد ورد في جميع الكتب المنزلة من الله على أنبيائه عليهم جميعا الصلاة والسلام، بدليل عام وهو قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] ، وإن كان هناك خلاف بين المفسرين على من المقصود بالآية، هل هو النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء السابقين، أم القرآن الكريم، فالأمر لا يختلف أبدا، فإن ذكر القرآن يتضمن ذكر من نزل عليه هذا الكتاب العزيز. قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (وإنّ ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين) «1» وقال الإمام القرطبي- رحمه الله- (أي أنّ ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء، وقيل: أي أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين، والزبر الكتب، والواحد منها زبور) «2» وقال صاحب المنتخب: (وإن ذكر القرآن والإخبار عنه بأنه من عند الله نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لثابت في كتب الأنبياء السابقين) . 5- أخذ العهد على الأنبياء بنصرته صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] . قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (هذا ميثاق أخذه الله على النبيين، أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلّغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصروه) «3» وقال صاحب التفسير الميسر: (واذكر- يا محمد- إذ أخذ الله العهد المؤكد على جميع الأنبياء: لئن آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، فهل أقررتم واعترفتم بذلك وأخذتم على ذلك عهدي الموثق؟ قالوا: أقررنا بذلك، قال: فليشهد   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 348) . (2) انظر الجامع لأحكام القرآن (13/ 138) . (3) انظر تفسير الطبري (3/ 332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بعضكم على بعض، واشهدوا على أممكم بذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم، وفي هذا أن الله أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ الميثاق على أمم الأنبياء بذلك) . انتهى. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: إرادة الله سبحانه وتعالى إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء كلهم جميعا، إذ أخذ عليهم العهود والمواثيق أن ينصروه ويتبعوه، كما ذكر في تفسير الآية. فإن قال قائل: إذا كان هذا الميثاق قد أخذه الله سبحانه وتعالى على جميع الأنبياء فلماذا فضّل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء بهذا الميثاق؟ قلت: فضل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في أخذ هذا الميثاق أظهر مقارنة بإخوانه من الأنبياء، وذلك لسببين: السبب الأول: إذا كان كل نبي أخذ الله عليه العهد بنصرة من يدرك من الأنبياء، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم، هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلن يبعث معه ولا بعده نبي آخر، لذلك أقول: إنه لم يؤخذ عليه هذا الميثاق، ولو فرض- على سبيل الفرض- أنه أدرك نبيّا آخر فسيكون هو صلى الله عليه وسلم المتبوع المنصور وليس التابع الناصر. ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماما ليلة الإسراء؟!. السبب الثاني: إذا كان الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بنصرة من سيأتي بعده من الأنبياء، علمنا أن الأنبياء كلهم جميعا قد أخذ عليهم العهد بنصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم آخرهم بعثة، فيكون هذا من دلائل فضله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (وعموم ذلك أنه أخذ على جميعهم الميثاق بالإيمان والنصرة لمحمد صلى الله عليه وسلم) «1» . الفائدة الثانية: من مظاهر اعتناء الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم، أن جعل العهد الذي أخذه على الأنبياء بالإيمان به ونصرته في غاية التوكيد، يتبين ذلك من: 1- تسمية العهد (ميثاق) ، وهي كلمة تدل على إحكام العهد وشدته والمبالغة في تعظيمه. 2- ذكرهم الله عز وجل بمنته عليهم، إذ أعطاهم الكتاب والحكمة، ليرغبهم في الوفاء بهذا الميثاق فيكونوا أشد حرصا على الالتزام به. قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (هذا إخبار منه تعالى أنه أخذ عهد النبيين وميثاقهم كلهم بسبب ما أعطاهم ومنّ به عليهم   (1) انظر تفسير السعدي (1/ 137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 من الكتاب والحكمة المقتضى القيام بحق الله) «1» . 3- حث الله عز وجل أنبياءه على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته بإثبات أن الذي سيأتي به موافق لما في أيديهم من كتاب ربهم. قال تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ [آل عمران: 81] وقوله تعالى: مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ هي صفة كاشفة وليست صفة مقيدة يمكن أن تتخلف. 4- ورد التوجيه الرباني بوجوب الاتباع والنصرة، بلام التوكيد، في قوله تعالى: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81] . 5- طلب الله عز وجل إقرارهم على كل ما جاء بالميثاق، قال تعالى: قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا [آل عمران: 81] ، قال صاحب التفسير الميسر: (فهل أقررتم واعترفتم بذلك وأخذتم على ذلك عهدي الموثق؟ قالوا: أقررنا بذلك) . 6- لتعظيم الميثاق في قلوب الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- بل وفي قلوب أتباعهم، أشهد الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض بما جاء فيه وبإقرارهم على الوفاء به، قال تعالى: فَاشْهَدُوا. قال صاحب تفسير الميسر: (قال: فليشهد بعضكم على بعض واشهدوا على أممكم بذلك) . 7- من أعظم أوجه تعظيم هذا الميثاق، أن الله تبارك وتعالى شهد عليه، فهي شهادة الحق على من أرسلهم عز وجل بالحق، وفي هذا أبلغ التخويف من نقض هذا العهد، وكذا أبلغ الترغيب في الوفاء به. الفائدة الثالثة: دعوة الأنبياء كلها واحدة من لدن آدم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت شرائعهم وسننهم، قال تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ [آل عمران: 81] . الفائدة الرابعة: إذا كان على جميع الأمم نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى تكون نصرتنا له صلى الله عليه وسلم أولى وأوجب، والحساب على عدم نصرته أشد وأبقى.   (1) انظر تفسير السعدي (1/ 136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ثالثا: تأييده صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الباهرات 1- معجزة القرآن العظيم: إذا كانت معجزة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ومعراجه إلى السماوات السبع وإلى ما بعدها حتى سمع صريف الأقلام هي أعظم معجزاته الحسية، وإذا كانت الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة هي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الملائكة الكرام والأنبياء العظام، ويحمده عليه أهل السماوات السبع والأرضين، فإن أعظم ما امتن الله به على عبد من عباده على مر العصور وتتابع الدهور، هو إنزال القرآن العظيم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فو الله إنه لتشريف يتضاءل عنه وعنده كل تشريف، ويتقاصر عنه وعنده كل تكريم، واعتقد اعتقادا جازما- والله أعلى وأعلم- أنها منزلة لا تساميها ولا تزاحمها، بل لا تدانيها أية منزلة بل أقول بملء الفم: إنها نعمة لا يقدر قدرها إلا الذي أنعم بها- جل في علاه- على خليله وصفيه من خلقه، وإذا كنا لا نتصور تلك المنة العظيمة وتلك المعجزة الخالدة فلا أقل لنا وبنا أن نلتمس بعض ما فيها من المعجزات والأسرار والدلائل؛ لعلنا نقترب من تصور تلك النعمة. وقد قال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- كلاما جميلا نفيسا في تفسير صدر سورة «النمل» حيث قال: «هي أعلى الآيات، وأقوى البيانات، وأوضح الدلالات، وأبينها على أجلّ المطالب وأفضل المقاصد، وخير الأعمال وأزكى الأخلاق آيات تدل على الأخبار الصادقة، والأوامر الحسنة، والنهي عن كل عمل وخيم، وخلق ذميم، آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة مبلغ الشمس للأبصار، آيات دلت على الإيمان، ودعت للوصول إلى الإيقان، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة، على طبق ما كان ويكون. آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الكاملة، آيات عرفتنا برسله وأوليائه، ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا، ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين، ولم يهتد بها جميع المعاندين؛ صونا لها عن من لا خير فيه ولا صلاح، ولا ذكاء في قلبه، وإنما اهتدى بها، من خصهم الله بالإيمان، واستنارت بذلك قلوبهم، وصفت سرائرهم» انتهى. وقد جمعت ما يوضح عظيم شأن هذا الكتاب الكريم من كلام رب العالمين دون تعليق، حيث إن التعليق والشرح يحتاج إلى مجلد قد يتصدى- إن شاء الله- له مستقبلا أهل الخبرة والاختصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فأقول وبالله التوفيق: كتاب لا ريب ولا شك: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] . وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 37] . لا يقدر على إنزاله إلا الله: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 37] . وصف من أنزله بأحسن الصفات: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 2] . الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] . وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6] . وصف من نزل به بأحسن الصفات: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102] . هو أحسن الحديث: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] . عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه حتّى كأنّه منذر جيش يقول: «صبّحكم ومسّاكم» ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السّبّابة والوسطى» ، ويقول: «أمّا بعد فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» «1» . (رواه مسلم) .   (1) رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (867) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إنزاله في أحسن الشهور وأفضل الليالي: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] . إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] . إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] . فيه الهدى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] . فيه البشرى: هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: 2] . فيه الرحمة: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان: 3] . فيه الشفاء: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] . فيه الموعظة والتذكرة: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [يوسف: 104] . كتاب مبارك: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الأنبياء: 50] . بيّن الدلالات والمعاني: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] . وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ [البقرة: 99] . وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور: 34] . كتاب يرقق القلوب: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] . وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 109] . محكم الآيات: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] . كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] . وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] . بشّرت به الكتب السابقة: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] . فيه بيان كل شيء: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] . يفترق في سماعه أهل الحق وأهل الباطل: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً [الكهف: 57] . وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . إثبات أحسن الصفات لمن يؤمن به: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الأنعام: 92] . إثبات أحسن الصفات لمن ينتفع به: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الأمر بالعمل به: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] . الحث على تدبره وذم من غفل عن ذلك: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] . أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] . أحسن الجزاء على تلاوته: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر: 29] . نزول الملائكة والسكينة عند قراءته: هكذا بوب الإمام البخاري لهذا الحديث: عن أسيد بن حضير قال: (بينما هو يقرأ من اللّيل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس فسكت وسكتت الفرس، ثمّ قرأ فجالت الفرس، فانصرف وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه فلمّا اجترّه رفع رأسه إلى السّماء حتّى ما يراها فلمّا أصبح حدّث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير» قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي فانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السّماء فإذا مثل الظّلّة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتّى لا أراها قال: «وتدري ما ذاك؟» قال: لا. قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر النّاس إليها لا تتوارى منهم» ، قال ابن الهاد: وحدّثني هذا الحديث عبد الله بن خبّاب عن أبي سعيد الخدريّ عن أسيد بن حضير) «1» . عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» «2» . (رواه مسلم) .   (1) رواه البخاري معلقا، كتاب فضائل القرآن، باب: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، قبل حديث رقم (5019) . (2) رواه مسلم، كتاب الذكر، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، برقم (2699) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أحسن الجزاء على حفظه: عن عائشة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الّذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السّفرة الكرام البررة ومثل الّذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران» «1» . (رواه البخاري) . عن زيد أنّه سمع أبا سلّام يقول: حدّثني أبو أمامة الباهليّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤا القرآن فإنّه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤا الزّهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنّهما تأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان أو كأنّهما غيايتان أو كأنّهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤا سورة البقرة؛ فإنّ أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» قال معاوية: بلغني أنّ البطلة السّحرة «2» . (رواه مسلم) . أحسن الجزاء على الإيمان والعمل به (في الدنيا والآخرة) : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [المائدة: 66] . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [محمد: 2] . فيه الإنذار والوعيد: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2] . يهدي إلى أحسن الطرق وأقومها: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1] . نزل بأحسن اللغات وأفصحها: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] . وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف: 12] . بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] .   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: عَبَسَ وَتَوَلَّى، برقم (4937) . (2) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم (804) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كتاب معظّم في الملأ الأعلى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة: 78] . رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة: 2] . وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] . فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) [عبس: 13- 15] . أعظم الوعيد لمن كتم شيئا منه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 174] . أعظم الوعيد لمن لم يؤمن به: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] . الوعيد الشديد لمن كرهه، والثناء على من فرح به: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [محمد: 9] . وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] . وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: 4] . الوعيد الشديد لمن ادعى قدرته على الإتيان بمثله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] . فيه الحكم بين الناس: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] . فيه بيان كل ما اختلف فيه: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فيه أحسن القصص: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] . تعظيم الجهة التي جاء منها: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] . إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان: 23] . العزة لمن عمل به واتبعه: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] . وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 71] . كفى به حجة على العباد: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51] . كتاب تتصدع منه الصم الشامخات: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] . وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [الرعد: 31] . هو نور: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8] . تعظيمه من حيث شهادة الله على إنزاله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء: 166] . تعظيمه من حيث علم الله بنزوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 14] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 تعظيمه من حيث وجوب الإنصات إليه: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204] . هو القيم على بقية الكتب والمصدق لما فيها: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] . سلامته من العيوب والخلل والاختلاف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1] . قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 28] . لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] . أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] . فيه خبر من قبلنا: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] . تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] . ثناء الجن عليه ومبادرتهم بالإيمان به: قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30] . قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الجن: 1- 2] . ثناء المؤمنين عليه: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وصفه بأحسن الصفات وأتمها: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج: 21] . تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] . وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] . وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] . هدايته إلى أحسن الأخلاق والأقوال والأفعال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء: 9] . وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] . كتاب تحدى الله به الإنس والجن فأعجزهم: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 23] . قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود: 13] . تكفل الله تبارك وتعالى بحفظ من قرأه: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] . تيسير الله تبارك وتعالى قراءته للتالين له: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17] . تكفل الله عز وجل بحفظه على الوجه الأتم الأكمل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 جعل الله آدابا لقراءته وحمله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] . لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] . إنزاله منجما خلافا لبقية الكتب: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . فيه الأمثال وتصريف الآيات: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: 113] . وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الإسراء: 89] . لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد: 14] . أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد: 17] . اعتراف الكفار أن للقرآن الغلبة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] . تهافت الكفار على سماعه: (ثمّ بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه) «1» . (رواه البخاري) من حديث عائشة رضي الله عنها الطويل عن الهجرة. المنافق لا يعدم بركة تلاوة القرآن. عن أبي موسى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن الّذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجّة طعمها طيّب وريحها طيّب، والمؤمن الّذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتّمرة طعمها طيّب ولا ريح لها، ومثل المنافق الّذي يقرأ القرآن كالرّيحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الّذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مرّ أو خبيث وريحها مرّ» .   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، برقم (3906) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 نعم الرقية هو: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: (أنّ ناسا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتوا على حيّ من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيّد أولئك فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنّكم لم تقرونا ولا نفعل حتّى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيعا من الشّاء فجعل يقرأ بأمّ القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ فأتوا بالشّاء فقالوا: لا نأخذه حتّى نسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه فضحك وقال: «وما أدراك أنّها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم» «1» . (رواه البخاري) . 2- الإسراء والمعراج: عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذرّ يحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكّة فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم ففرج صدري ثمّ غسله بماء زمزم ثمّ جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثمّ أطبقه ثمّ أخذ بيدي فعرج بي إلى السّماء الدّنيا فلمّا جئت إلى السّماء الدّنيا قال جبريل لخازن السّماء: افتح قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمّد صلى الله عليه وسلم فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم فلمّا فتح علونا السّماء الدّنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والابن الصّالح قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنّة، والأسودة الّتي عن شماله أهل النّار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، حتّى عرج بي إلى السّماء الثّانية فقال لخازنها: افتح فقال له خازنها مثل ما قال الأوّل ففتح قال أنس: فذكر أنّه وجد في السّماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم ولم يثبت كيف منازلهم غير أنّه ذكر أنّه وجد آدم في السّماء الدّنيا وإبراهيم في السّماء السّادسة قال أنس: فلمّا مرّ جبريل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس ثمّ مررت بموسى فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى ثمّ مررت بعيسى فقال: مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى ثمّ مررت بإبراهيم فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والابن الصّالح قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن   (1) رواه البخاري، كتاب الطب، باب الرقي بفاتحة الكتاب. برقم (5736) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 شهاب: فأخبرني ابن حزم أنّ ابن عبّاس وأبا حبّة الأنصاريّ كانا يقولان: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثمّ عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» . قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ففرض الله عزّ وجلّ على أمّتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتّى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمّتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربّك فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك فراجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها فقال: راجع ربّك فإنّ أمّتك لا تطيق فراجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربّك فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدّل القول لديّ فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربّك فقلت: استحييت من ربّي، ثمّ انطلق بي حتّى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثمّ أدخلت الجنّة فإذا فيها حبايل اللّؤلؤ وإذا ترابها المسك» «1» . لا شك أن معجزة الإسراء والمعراج، هي من أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رأى فيها من آيات ربه الكبرى، وكانت فيها إمامته الأنبياء، ورفعه بعد السماوات السبع حتى سمع صريف الأقلام، واطلاعه على النار، وما يجري فيها من عذاب الكفار وأهل المعاصي، ودخوله الجنة، وما رأى فيها من الحسن والجمال، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها كلم الله تكليما. وقبل البدء في التعليق على حديث الباب نذكر بعض النقاط الرئيسة المهمة في حادثة الإسراء: 1- مناسبتها: جمهور العلماء أنها جاءت تسرّي عن النبي صلى الله عليه وسلم، همه وحزنه بعد وفاة خديجة بنت خويلد، والتي كانت خير معين له في مسكنه، تصبره وتواسيه بمالها، وكذلك وفاة عمه أبي طالب، والذي حماه من كيد المشركين، فكان خير معين له خارج المسكن، وأيضا كانت تسلية له بعد أن رده أهل الطائف، فقد كذبوه وعابوه وأغروا صبيانهم به، فجاءت حادثة الإسراء لتزيل عنه كل تلك الأحزان والأشجان، وتؤكد له أن الأرض إذا ضاقت به وبدعوته، فإن له في السماء منزلة عالية، بين الأنبياء والملائكة، وأن الله عز وجل يسمع ويرى ما يحدث له، من تكذيب وإيذاء وأنه هو الذي يقدر على نصرته وإعلاء دينه، وبحق كانت تلك الحادثة، مظاهرة في إكرام النبي وإعلاء شأنه في السماوات السبع وما بعدها. 2- ثبوت القصة: وردت حادثة الإسراء- أي الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد   (1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء، برقم (349) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، برقم (163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الأقصى- صريحة في القرآن، فالتكذيب بها كفر بلا شك، قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] . والآية الكريمة فيها فوائد منها: أ- بدأت الآية بتنزيه الله- عز وجل- وتمجيده ، ليستقر في قلب السامع أنه قادر على كل شيء، فإذا استقر ذلك، أخبر أنه أسرى بعبده، فيرد الخبر على قلب لا يتعجب من خرق النواميس الكونية، بقدرة الله العظيمة، كما أنه لا مجال لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يدّع أنه هو الذي سرى، بل أسري به، والذي أسرى به هو الله، فالذي يستبعد الواقعة فإنما يكذب الله ويستعظم ذلك على قدرته. ب- أثبتت الآية أن وقت الإسراء هو الليل، وهذا أدعى لحضور القلب ، ومصداق ذلك قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] ، كما بينت الآية بداية الإسراء وهو المسجد الحرام، ونهايته وهو المسجد الأقصى، وبذلك يكون المسجد الأقصى هو بادية المعراج بلا خلاف. ج- أثبتت الآية أن الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح لقوله تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] ولفظة: «العبد» لا تطلق على الروح فقط، كما نقطع أنها لم تكن رؤية منام، لقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] ، ولا أحد يقول: إن رؤيا المنام فتنة، فكل إنسان يرى في المنام ما يتصوره العقل وما لا يتصوره، ولا أحد يتهمه بالكذب، كما أن الكفار لو فهموا من كلام النبي أن الحادثة كانت رؤيا في المنام، ما كذبوه، وما طلبوا الدليل على صدقه، حيث سألوه أن يصف لهم بيت المقدس، كما ورد في الصحيح- وبوبت له بابا- وما ارتد بسبب ذلك بعض الناس، بل كانت فضيلة ظاهرة لأبي بكر وذلك أنه صدقها بمجرد معرفته أن النبي هو الذي أخبر بها. د- مقام العبودية، هو أعظم مقامات الأنبياء بلا شك، علمنا ذلك من الآية حيث ذكرت النبي، بصفة العبودية، وهي في معرض الحديث عن أعظم معجزاته، وأرقى مقاماته، فقطعنا أن العبودية لأي مسلم، خاصة الأنبياء، هي أشرف المنازل؛ ولذلك ذكرها الله في الآية، لتناسب أعظم أحواله صلى الله عليه وسلم، فكلما زاد المسلم في تحقيق عبوديته لله، زاد من الله قربا، يصدق ذلك، أن الله عز وجل قد أتى بنفس الصفة، وهي صفة العبودية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 في معرض الحديث عن أعظم نعمة أنعمها على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نعمة إنزال القرآن وذلك في أكثر من موضع بالقرآن الكريم، مثاله قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1] . هـ- كما بينت الآية الحكمة والسبب في الإسراء ، أما الحكمة فهي أن يرى النبي من آيات ربه، قال تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء: 1] ، فكل ما رآى النبي في تلك الحادثة، فهو من آيات الله، الدالة على قدرته وإعجازه. أما السبب فقد أشار الله تعالى إليه بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] فأشعرت الآية، أن الحدث جاء بسبب ما سمعه الله عز وجل من نبيه من دعاء، وما سمعه من الكفار من تكذيب واستهزاء، جاءت الحادثة لبيان إحاطة علم السميع البصير بحال النبي صلى الله عليه وسلم، عند موت أحب الناس إليه، وأكثرهم عليه شفقة، وأشدهم له ناصرا ومعينا، فتأمل كم في الآية من فوائد، غير ما خفي علينا، هذا بالنسبة لثبوت الإسراء في القرآن. أما المعراج فقد قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) [النجم: 13- 16] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] . فالحمد لله، الذي أقر أعيننا وأسماعنا، بإكرام نبينا في الدنيا والآخرة، وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة في الحادثة بلغت بحمد الله حد التواتر، فلا يسع أحدا إنكارها أو التشكيك فيها. [ فوائد الحديث ] أما فوائد الحديث فلا أظن أني أستطيع الإحاطة بها؛ وذلك لكثرتها ودقتها؛ ومن ثم أورد بعضها: الفائدة الأولى: القدرة العجيبة التي منحها الله ملائكته، فجبريل عليه السلام، قد فرج عن سقف بيت النبي صلى الله عليه وسلم ونزل منه، دون معول ولا خراب ولا ترميم، كما أنه أسرى وعرج بالنبي على البراق، وأراه من آيات ربه الكبرى، ثم عاد به إلى بيته بمكة، في جزء من الليل، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا في القرآن أمثلة من ذلك، ألم تر كيف أتى جبريل عليه السلام بالعرض العظيم لبلقيس ملكة سبأ، قبل أن يرتد طرف نبي الله سليمان عليه السلام؟ قال تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 40] ، ألم تر كيف حمل قرية لوط فجعل عاليها سافلها، قال تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود: 82] ، وهذا ليس بمستغرب؛ لأننا لا ننظر إلى عظم المخلوق، ولكن ننظر إلى عظم الخالق عز وجل، الذي خلق هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المخلوقات العظيمة وأودع فيها هذه القدرات العجيبة. الفائدة الثانية: تلطف جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: «ثم أخذ بيدي يعرج بي إلى السماء الدنيا» وكيف لا يتلطف وهو أعلم الخلق بقدر النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه. الفائدة الثالثة: السماء الدنيا غير السماء الأولى، التي عليها خازن ولا تفتح أبوابها إلا بإذن، وفيها آدم عليه السلام، وأما السماء الدنيا، فهي التي زينها الله عز وجل بالمصابيح، قال تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً [فصلت: 12] . وذلك لقوله: «فيعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح» ثم قال: «فلما فتح علونا السماء الدنيا» . الفائدة الرابعة: عظيم أمر السماء قدرا وخلقا، ويتبين عظيم قدرها حيث جعل الله لها أبوابا مغلقة، وعلى كل باب خازن لا يفتح الباب حتى يعلم من الطارق ومن معه، وهل أرسل إليه أم لا، فالخازن مأمور ألايفتح إلا لمن أرسل إليه، والذي يخبره أنه أرسل إليه أم لا، هو جبريل عليه السلام لأنه الأمين، علمنا ذلك من قوله: «قال جبريل لخازن السماء: افتح» وقد تكرر ذلك في كل سماء، حسب ما ورد في طرق أخرى صحيحة للحديث. أما عظم السماء خلقا، فبينتها بعض طرق الحديث، وفيها أن ما بين كل سماء وأخرى خمسمائة عام، وعلمنا من عظم السماء قدرا وخلقا عظم خالقها سبحانه وتعالى، فعظم الخلق- كما قلت سابقا- يدل على عظم الخالق، لا أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتفكر في هذا الخلق العظيم، خاصة السموات والأرض، لنستدل به على قدرة المولى سبحانه وتعالى، وعظيم صنعه، وإحكام خلقه، قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران: 190] . الفائدة الخامسة: واجب على كل مسلم، أن يفرح بالطاعة ويحزن بالمعصية، خاصة إذا كانت في نفسه أو ذريته، يدل على ذلك قوله: «فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى» . الفائدة السادسة: العجيب في الواقعة، أن آدم وبقية الأنبياء استقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم، استقبال من يعرفه، فيحتمل أن الأنبياء عرفوه من أوصافه المذكورة في كتبهم، أو أن هذا المكان لا يصعد إليه إلا نبي، وليس نبي بعد إلا محمد، أو أن الله أوحى إليهم بقدومه صلى الله عليه وسلم، ليستقبلوه استقبالا يليق به، وهذا الذي حدث، فما من نبي رآه إلا قال له: مرحبا بالنبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الصالح والأخ الصالح، إلا آدم قال له: مرحبا بالابن الصالح لأنه أبوه الأول، وكذا إبراهيم لأنه جده الأكبر، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم من بطن إسماعيل، وبقية الأنبياء من ذرية إسحاق عليه السلام، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعلمهم قطعا؛ لأنه كان يسأل جبريل في كل مرة، عن اسم النبي الذي يسلم عليه، علمنا من ذلك أنه لم يوح إليه بأوصاف إخوانه من الأنبياء، كما أنه لا يعرف الغيب وإلا ما سأل جبريل عنهم. الفائدة السابعة: ثبوت حياة البرزخ، وهي الحياة التي بين موت الإنسان ونشوره بعد النفخ، وهي حياة غيبة، لا نعلم منها شيئا، إلا ما علمناه من الكتاب أو السنة، والذي نقطع به أن المؤمن فيها ينعّم ويرى مقعده من الجنة، والكافر فيها يعذب ويرى مقعده من النار، يصدق ذلك قوله تعالى حاكيا عن عذاب آل فرعون في حياة البرزخ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] ، ويؤيده ما ورد في صحيح البخاري، عن أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العبد إذا وضع في قبره وتولّي وذهب أصحابه حتّى إنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرّجل محمّد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنّه عبد الله ورسوله، فيقال انظر إلى مقعدك من النّار أبدلك الله به مقعدا من الجنّة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا وأمّا الكافر أو المنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول النّاس فيقال لا دريت ولا تليت ثمّ يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلّا الثّقلين» «1» . فرؤية المؤمن مقعده في الجنة، هو من النعيم، لما فيه من الرؤية والبشارة العظيمة، بالإضافة إلى إفساح القبر، أما عذاب الكافر، فهو واضح في الحديث، وإذا كان للناس كلهم حياة برزخية، المؤمن منهم والكافر، فإن للأنبياء أيضا حياة برزخية ولكنها أكمل وأتم، ويدلنا على ذلك حديث الباب. الفائدة الثامنة: أن الجنة والنار، موجودتان الآن، ولا عبرة لمن ينكر ذلك، ويرد الأحاديث الصحيحة الصريحة، لشبهة عقلية، وهي أنه لا حكمة لوجودها الآن، فيرد النقل بالعقل، وهذا أسخف ما يكون، وأدلة ذلك كثيرة، لا يمكن استقصاؤها، في هذا الكتاب، ولكن نذكر ببعضها، لعل المنكر يعود لرشده، روى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، برقم (1338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرؤا إن شئتم» : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] «1» . كما روى عن ابن عبّاس قال قال النّبيّ: صلى الله عليه وسلم «أريت النّار فإذا أكثر أهلها النّساء يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهنّ الدّهر ثمّ رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قطّ» «2» . وروى أيضا، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اطّلعت في الجنّة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطّلعت في النّار فرأيت أكثر أهلها النّساء» «3» . وعنده عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال خسفت الشّمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثمّ رأيناك تكعكعت قال: «إنيّ أريت الجنّة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا» «4» . فيجب علينا أن نؤمن يقينا أن الجنة والنار موجودتان، ومن ينكر وجود الحكمة من خلقهما الآن، أقول له: نؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة، سواء علمنا الحكمة أم جهلناها، مع تسليمنا أن كل ما يقضي به الله عز وجل إنما يكون لحكمة بالغة، فحاشاه عن اللهو والعبث، ومع ذلك أقول: إن حكمة وجودهما ظاهرة، ولله الحمد، فمن ذلك، أن الكفار يعذبون في قبورهم بعرضهم على جهنم، صباحا ومساء، والمؤمنين ينعّمون برؤية مقاعدهم في الجنة، قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] ، كما أن الترهيب والترغيب بالشيء الموجود، أعظم أثرا من الشيء غير الموجود، وهذا يدركه كل عاقل، وانظر أثر ما قصّه النبي علينا من مشاهد الجنة والنار، على نفوس المؤمنين. الفائدة التاسعة: فضل التيامن، فأهل الإيمان والطاعات، على يمين آدم، أما أهل الكفر والمعاصي، فهم على شماله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في أمره كله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عائشة قالت: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التّيمّن في تنعّله وترجّله وطهوره وفي شأنه كلّه) «5» ، والله عز وجل قد سمى أهل الجنة بأصحاب اليمين، وسمى أهل النار بأصحاب الشمال.   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ ... [السجدة: 17] ، برقم (4779) . (2) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: كفران العشير وكفر دون كفر، برقم (29) . (3) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة، برقم (3241) . (4) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، برقم (748) . (5) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل، برقم (168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الفائدة العاشرة: وهي فائدة جليلة، وهي أن الأمر قد ينسب إلى الأمر به، وقد ينسب إلى الموكول بتنفيذه، قال تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] ، فنسب سبحانه، الفعل إلى نفسه؛ لأنه هو الذي أمر جبريل بالإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد ينسب الفعل إلى من باشر القيام به، قال: «ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا» فنسب الفعل هنا إلى جبريل؛ لأنه هو الذي باشر العروج بالنبي، مأمورا من الله، وهذه القاعدة، تحل إشكالات قد يقع فيها القارئ. فيقول مثلا: كيف ينسب الله توفي الأنفس إلى نفسه فيقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] وينسب ذلك في موضع آخر إلى الملائكة فيقول: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11] ، فالأمر كما أسلفت، أن الله عز وجل هو الآمر بقبض الروح، وهو الذي جعل لها أجلا تقبض عنده، أما ملك الموت، فهو الذي وكلّ بقبض الروح، عند حلول الأجل المسمى. الفائدة الحادية عشرة: بيان علو منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبلوغه حيث بلغ ما بلغ من ملكوت السموات، وهو دليل على علو درجته وإبانة فضله، هكذا قال القاضي عياض، حيث ورد في الحديث: «حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» . وأقول: عجبت أشد العجب، لمن يتقولون على الله ورسوله، ويذكرون أحاديث موضوعة، ويختلقون حكايات هي أشبه بالأساطير، يريدون بذلك، أن يرفعوا من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في الحقيقة يتبغضون إليه بتلك الحكايات والأقاويل، ويعدون لأنفسهم مقاعد في النار، بشرى النبي صلى الله عليه وسلم لهم في قوله: «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار» . أقول لهم: إن لم يكن للنبي فضيلة، في كتاب ولا سنة، إلا أنه ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، لكفاه ذلك رفعة وسؤددا، وإثباتا لفضله وشرفه ومكانته، عند ربه عز وجل، فما بالكم بما يحتويه الكتاب من شمائل عظيمة في كل ما يخصه وفي كل شئونه، ما ترك الله له من شيء، حتى جعل له من ذلك آية على شرفه، من شعر رأسه إلى أصابع قدمه، ومن ولادته حتى مماته، ومن أحبائه حتى أعدائه، ومن دنياه حتى آخرته، كل ذلك ولله الحمد ثبت في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فلماذا التقول على الله بغير علم؟ قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الفائدة الثانية عشرة: في سماعه صلى الله عليه وسلم صريف الأقلام مسائل نذكر منها: 1- إثبات كتابة الملائكة المستمرة إلى قيام الساعة؛ لأن صريف الأقلام هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، ففيه إثبات كتابة الملائكة، وأنها تكتب بأقلام، وأن هذه الأقلام عند كتابتها لها صوت مسموع ويتفرع على ذلك أن الكتابة كتابتان: الأولى: هي التي في اللوح المحفوظ، وفيه ما كتبه الله وقدره قبل الخلق، لما (رواه البخاري) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: آنت الّذي أشقيت النّاس وأخرجتهم من الجنّة؟ قال آدم: أنت موسى الّذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التّوراة؟ قال: نعم قال: فوجدتها كتب عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحجّ آدم موسى» «1» . وعن اللوح المحفوظ قال تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] ، فالذي باللوح المحفوظ، لا يتبدل ولا يتغير أبدا، إذ فيه الأمر الثابت في كل شيء، إلى قيام الساعة، قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] . الثانية: الكتب التي في أيدي الملائكة الكرام وهي التي تكون فيها كتابة ما يجري الآن في ملكوت الله، وهي التي ذكرت في حديث الباب، وهي التي يكون فيها المحو والإثبات، وقد جمع الله عز وجل، ما في اللوح المحفوظ، وما في أيدي الملائكة من كتب في قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] . 2- كتابة الله لكل شيء في اللوح المحفوظ، ليس لأنه سبحانه تعالى قد ينسى أو يغافل، سبحانه فإنه منزه عن ذلك، قال تعالى في قصة موسى مع فرعون: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: 51- 52] ، فأثبتت الآية أن الكتابة ليست لغافلة قد تحدث أو نسيان، ولكن الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، فلعل حكمة الكتابة إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، وقدرته التي أعجزت العقول، وحيرت الفحول، فالكتابة هي زائدة عن العلم، فالذي علم كل شيء وقدر على كتابة كل شيء، أقدر وأعظم وأحكم من الذي علم ولم يكتب، خاصة إذا كانت الكتابة لا تنقص ولا تزيد عن الذي قدّره وقضاه، وقد تكون الكتابة ليطمئن العبد، ويتأكد أن الذي   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] ، برقم (4736) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الذي أخطأه لم يكن ليصيبه؛ لأن الكتابة عند الناس أبلغ وآكد بكثير من العلم وحده، ألم تسمع لقولهم إذا أصابهم شيء، ويريدون أن يخففوا وقعه على قلوبهم يقولون (هذا مكتوب) ، ولا يقولون: معلوم، وقد تكون الكتابة لحكم أخرى لا يعلمها إلا الله سبحان وتعالى. 3- نتعلم مما سبق، أن العلم يجب أن يوثّق بالكتابة، فإذا كان الله عز وجل قد كتب، وهو الذي لا يلحقه نسيان ولا غفلة، فكيف بنا، فالذي نتعلمه اليوم قد ننساه غدا، وقد سمي الإنسان إنسانا لكثرة نسيانه، والكتابة سنة العلماء قديما وحديثا. 4- إذا تيقن العبد أن الله علم كل شيء، وكتب كل شيء، وأن الذي كتبه الله كائن لا محالة، وجب عليه الرضا والتسليم، وعدم الجزع للمصائب، وألا يندم على شيء فاته، ولا يحزن على شيء أصابه، فتخفّ بذلك همومه وتقل غمومه، وكلما يتقين العبد من أنّ كل شيء مكتوب، كلما كان لقضاء الله أرضى، وعند نزول المصائب أصبر. 5- إذا احتج العبد بالقدر، وقال: لم يحاسبنا الله، وقد كتب كل شيء علينا؟، قلت له: تدبر ما يلي: أ- إن الله الذي كتب كل شيء وقدر كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، هو الذي أمر ونهى، ووعد المطيع بالثواب، وتهدد المسيء بالعقاب، فهل تتصور أن الله سيحاسبنا على ما أجبرنا على فعله، أو ما اضطرنا لتركه؟ والذي يظن ذلك، فقد أساء الأدب مع الله عز وجل؛ لأنه تصور أن الله يصدر منه الظلم- حاشاه جل في علاه- وهو الذي قال في محكم التنزيل: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ، وقال في الحديث القدسي الذي رواه مسلم، في سياق المتمدح لنفسه عز وجل على أفعاله عن أبي ذرّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنّه قال: «يا عبادي إنيّ حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا» «1» . أتصدق الله أم تكذبه؟ فالذي يحتج بالقدر فهو بلسان حاله وبلسان مقاله في بعض الأحيان، يشكك في عدل الله، بل يدعي كذبا أنه يظلم العباد، وهذا منكر عظيم يصل بالإنسان للكفر، وهو أعظم من التكاسل عن العمل، احتجاجا بالقضاء والقدر. ب- أنت لا تعلم ما كتبه الله لك أو عليك، فمن رحمته أن حجب ذلك عن العباد. لذلك لا ينبغي لك أن تحتج بالقدر.   (1) رواه مسلم، كتاب البر، باب: تحريم الظلم، برقم (2577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأسأل سؤلا يبين لك مدى سخف هذه المقولة، وهذا السؤال هو: لماذا إذا وفقت للطاعة لا تحتج بالقدر، بل تطلب الثواب من الله، وتحتج به فقط على المعاصي والذنوب؟ وهل إذا هممت بالطاعة وجدت من يمسك بتلابيبك عنها؟ ولماذا لم تتقاعس مرة واحدة في أمور دنياك بحجة أن الله كتب كل شيء، فتجتهد في كل أمور الدنيا، ولا تركن لما كتب الله؟ بل إنك إذا احتج عليك ولدك بقضاء الله، فترك المذاكرة أو الذهاب إلى الاختبار، عاقبته عقوبة شديدة، بل تتهمه بالجنون، أو الاستخفاف بك، بل لماذا تأمره بالاجتهاد والمصابرة على طلب العلم، وأنت الذي تحتج على الله بالقدر؟. والمشاهد في الدنيا أن الذي يسهر ويتعب يفوز بالمطلوب، وأن الذي يتقاعس ويكسل يفوته المرغوب. فهل هي سنة الله في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ لا والله، وهذا أكبر دليل على أن ذلك الاحتجاج السخيف من نزغات الشيطان، فهو الذي يزين للعبد كل ما يحول بينه وبين طاعة الرب سبحانه وتعالى. ج- أنت باحتجاجك بالقدر، قد سلكت مسلك الكفار في احتاجهم به، وكفى بذلك قبحا وتشنيعا لمقولتك، والله قد حكى عنهم ذلك في سياق الذم والإنكار فقال سبحانه وتعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا [الأنعام: 148] ، فقد سمى الله احتجاجهم بالقدر كذبا، وأثبت أن هذه الحجة إنما هي حجة الكفار في عصر البعثة المحمدية والعصور الأولى، وجعل مغبّة ذلك وجزاءه، أنهم ذاقوا بأس الله أي عذابه الشديد، فهل ينتظر هذا المحتج بقضاء الله أن يحل عليه العذاب وينزل به الانتقام؟ ولو كانت هذه الحجة حقّا، فحاشا لله أن يذمها؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، وحاشاه أن يعاقب عليها، فهو العدل ولا يحكم إلا بالعدل، قال سبحانه وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] . فضلا عن أن هذا الاحتجاج من الكفار بالقدر يكون في الدنيا فقط، أما في الآخرة فلن يحدث؛ لأنه لم تأت آية واحدة في القرآن، تثبت أنهم سيحتجون بالقدر يوم القيامة، ولو علموا أنها حجة مفيدة يعتذرون بها إلى الله لقالوها، ولو قالوها لحكاها الله لنا ليدحضها ويبين بطلانها، فلما لم يحكها الله تعالى علمنا أنهم لن يحتجوا بها، ولما لم يحتجوا بها علمنا أنها حجة باطلة، وإذا كانت باطلة في الآخرة فبطلانها في الدنيا التي هي زمن الأعمال والإمهال من باب أولى فتدبر. د- الذي يرى أن القضاء والقدر، حجة على الله عز وجل في ترك الأعمال، وعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الحساب، قد كذب بظاهر القرآن؛ لأن الله بين في كتابه العزيز، أنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، قد قطعت حجة العباد على الله، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء: 165] ، فقد بينت الآية، أن حجج العباد، قد انقطعت، وأن أعذارهم قد ردت، بعد إرسال الرسل، فالذي يقول أو يعتقد أن القضاء والقدر حجة له على الله عز وجل، فقد ادعى أن الله لم يقطع حجج الناس، وبهذا فقد كذب ظاهر القرآن؛ لأن الآية تنفي أي حجة بعد إرسال الرسل، وإذا كانت الآية قد ختمت بإثبات صفة الحكمة لله، بقطع الحجج للناس، فالذي يحتج بالقدر، ويرى أن ذلك حجة، فقد طعن- بل كذب- بحكمة الله؛ لأنه ادعى بقاء حجة للناس لم يستطع الله أن يقطعها أو يردها. هـ- وأقول للمحتج بالقضاء: إذا كان عقلك لا يتصور أن الله كتب كل شيء، ولم يجبر أحدا على شيء، فسلّم أمرك لله، وبادر بالعمل وترك الشبهات، وأحسن الظن بالله في كل ما قدره وقضاه، وأسألك في النهاية سؤالا واحدا، أتريد من الله أن يخلق الخلق، ويجهل ماذا سيفعلون في الغد؟ أيكون إلها ولا يعلم سلفا ماذا سيفعل العباد! ولو فرض من باب التنزل معك حدوث ذلك، لاحتججت بذلك على عدم العمل؛ لأن الذي لا يعلم لا يستحق أن يكون إلها أبدا، والعاقل هو الذي يرى في علم الله وقدرته وكتابته، بالغ حكمته وعظيم قدرته، فيدفعه ذلك دفعا لطاعته وابتغاء مرضاته. الفائدة الثالثة عشرة: فرض الصلاة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الحادثة وفي ذلك المقام الشريف الأعلى يستحق منّا وقفة نقول فيها: 1- كان النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا على الملأ الأعلى في هذه الليلة المباركة، وقد مدح الله عز وجل من يكرم ضيفه، قال تعالى مادحا إبراهيم عليه السلام: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26] ، ويقولون: لكل ضيف قرى، ويختلف القرى بغنى المضيف وكرمه، وكذلك بمكانة الضيف عنده، فالمضيف هنا هو الله سبحانه وتعالى، أغنى من عبد، وأكرم من سئل، وأجود من أعطى، والضيف هنا هو أحب الخلق إلى الله، الخليل محمد صلى الله عليه وسلم، فأراد الله سبحانه تعالى أن يكرم زائره، بل يكرم كل أمته من بعده، فأمره بعبادة تكون له ولأمته، عزّا في الدنيا وذخرا في الآخرة، يرفع الله بها الدرجات، ويمحو بها الزلات، ويكفر بها السيئات، ويعلي به الدرجات في الجنات العاليات، فكانت هذه الصلوات- وهي الركن الركين في هذا الدين الحنيف- خير تكليف في هذا المكان الشريف، الذي لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يقبل الله ممن تركها صرفا ولا عدلا، نقول الركن الركين؛ لأن كل الأركان الباقية، الزكاة والصوم والحج، قد تسقط على المسلم كليّا أو جزئيّا، بسبب سفر أو مرض أو فقر، إلا الصلاة، فتفرض على المسافر والمقيم، والصحيح والعليل، والغني والفقير، تلازمه في يومه وليلته، لا تنفك عنه أبدا، في شغله وفراغه، يؤديها الإنسان قائما، فإن لم يستطع فجالسا أو متكأ أو على جنبه أو نائما، بخلاف الأركان الآخرى، فالزكاة تخرج مرة في العام، وتسقط عن الفقير، والصيام شهر واحد في السنة، ويسقط عن بعض المرضى طوال عمرهم، ويأتي الحج مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا، أما الصلوات فهى، خمس مرات في اليوم والليلة، فهي بحق هدية الله لهذه الأمة. 2- أما كونها فرضت بغير وحي ولا واسطة، بل كانت تكليفا مباشرا من الله إلى رسوله، فهذا يعطينا دلالة واضحة على عظيم قدرها، ومكانة منزلتها، فمن أراد أن يكلم الله عز وجل بغير واسطة فليصلّ، فالله يسمعه ويراه، بل يردّ عليه، كما ورد في صحيح مسلم قال الله تعالى: «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرّحمن الرّحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدّين، قال: مجّدني عبدي- وقال مرّة: فوّض إليّ عبدي- فإذا قال: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «1» . فإذا كان الله عز وجل قد عرج بنبيه إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وكلمه تكليما، فهو سبحانه من كرمه لم يحرم هذه الأمة من هذا الفضل الكبير، فعوضهم بالصلاة، فالذي لا يصلي، إنما رد على الله هديته وأبى فضله، ورفض لقاءه، ومن فعل ذلك، فقد أساء الأدب مع خالقه وسيده وولي نعمته من كل جهة، من ذا الذي يدعوه الله فلا يقبل دعوته، ويفتح له الباب فلا يدخل، ويأذن له بمناجاته بغير واسطة فيعرض، أفبعد هذا الذنب من ذنب؟ بل لا أعلم جفاء بعد هذا الجفاء، فضلا عما ورد في الأحاديث الصحيحة من كفر تارك الصلاة، فقد روى مسلم عن أبي سفيان قال: سمعت جابرا يقول: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ بين الرّجل وبين الشّرك والكفر ترك الصّلاة» «2» ، فمن حرم نفسه   (1) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (395) . (2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم (82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الصلاة، فقد حرم نفسه فضل حادثة المعراج، وخرج منها صفر اليدين، فكانت للناس فضلا وإكرما، وكانت عليه حسرة ووبالا، الناس فيها وبها قد سعدوا، وهو بسبب تركها- مع من يماثله- قد خسروا، ولو كان في الإسلام ركن أعظم من الصلاة، أو يساميها لفرض في هذه الليلة المباركة، ولكن لم يزاحمها شيء من عظائم التكاليف. 3- فرض خمسين صلاة ابتداء، ثم تخفيفها إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، مع ثبوت أجر الخمسين نأخذ منه: أولا: بيان مكانة النبي عند ربه. ثانيا: علم النبي بهذه المكانة العظيمة. فالأولى: نعرفها من كون الله سبحانه تعالى قبل سؤال النبي التخفيف حتى جعلها خمس صلوات. والثانية: من كون النبي تجرأ وراجع ربه عدة مرات، وهو في هذا المكان المقدس، ويراجعه في ماذا؟ في أمر عظيم كالصلاة، لم يفعل ذلك، إلا وهو يعلم أن الله حفيّ به، ولن يخزيه ولن يسوءه، ألم يقل الله له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] ، ولا أظن أن هذه المراجعة تحدث بين وزير وملك من ملوك الدنيا، حتى ولو كان الوزير مفضلا، والملك متفضلا، فنحمد الله عز وجل أولا وآخرا، على ما أنعم به على نبينا في الدنيا والآخرة. ثالثا: إرادة الله عز وجل رفع الحرج عن هذه الأمة، والتخفيف عنها، مع شفقه النبي عليها، نأخذه من مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ربّه عدة مرات واستجابة الله له في مراجعته. رابعا: عظيم امتنان الله سبحانه وتعالى على نبيه وعلى أمته، حيث خفف الصلاة عنها، من خمسين إلى خمس صلوات، مع ثبوت أجر الخمسين، وهذا الفضل شمل الضعيف صاحب الهمة المحدودة، الذي لا يستطيع الخمسين، كما شمل هذا الفضل صاحب الهمة العالية، الذي قد يتمنى أن تبقى الخمسين لينال أجرها، فعمّ خير الله ووسع فضله الجميع، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. خامسا: حكم موسى عليه السلام على هذه الأمة أنها لا تستطيع الخمسين، رغم أن الفريضة لم يعمل بها بعد، والأمة لم يعالجها من قبل، قياسا على معالجته لأمة بني إسرائيل. ونحن نمتن لموسى عليه السلام هذا الصنيع، ونشكره على هذا المعروف، فهكذا أهل الخير، خاصة الأنبياء من أولي العزم، ينفع الله بهم العباد حتى بعد وفاتهم، فهم رحماء بعباد الله، حتى بعد انقطاع تكليفهم ولو لم تكن الأمة أمتهم، فمن اعتاد على بذل الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وإسداء النصح، وأصبح هذا الخلق له سمة وهذا الطبع له صفة، لا يعرف للمعروف، زمانا ولا مكانا، ولا أمة دون أمة، انظر إلى مؤمن القرية الذي تمنى بعد وفاته أن لو علم قومه ماذا أعد الله له من النعيم المقيم، حتى يؤمنوا بالله وحده، قال تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 26- 27] ، فإن كنا نحن من الذين يعرفون للناس فضلهم، ولا يجحدون معروفهم، فقد وجب علينا أن نشكر موسى عليه السلام، عرفانا منا بهذا الجميل، كما علّمنا نبينا صلى الله عليه وسلم. الفائدة الرابعة عشرة: الذي نعرفه من الجنة والنار أسماء فقط، ولكن طبيعة الأشياء تختلف عما نعرفه ونعلمه في الدنيا، وما هي إلا تشابه أسماء، وذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي» فالنبي قد رأى وعلم أن السدرة قد تجملت وتزينت بألوان، ولكنها ألوان لا يعلمها ولا يعرف أسماءها، ولكن يعلم فقط أنها ألوان. الفائدة الخامسة عشرة: يوضح الحديث طرفا يسيرا مما أعده الله لعباده المؤمنين في جنته دار كرامته فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» ، فإذا كان التراب الذي هو في الدنيا أرخص ما يكون، لا يبالي الناس به يكون في الجنة مسكا، فإذا كان الذي يمشي عليه المؤمنون في الجنة مسكا، فما بالكم بالأسرّة والفرش، والمأكل والمشرب، واللباس والحور العين. إنه- والله- لنعيم مقيم لا يزول ولا يحول، فهل من العقل، أن نبيع جنة عرضها السماوات والأرض، النعيم فيها دائم، والسرور فيها قائم، والأمن فيها شامل، والغل فيها زائل، بدنيا النعيم فيها يزول، والسرور فيها يحول، والغل فيها يطول، وما من صحة إلا بعدها مرض، وما من فرح إلا بعده ترح. الفائدة السادسة عشرة: هل الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج مشروع أما لا؟ أقول: 1- لم يثبت أن النبي احتفل بهذه الليلة، وهو أولى من يحتفل ويحتفي بها؛ لأنه المقصود بها، وليكون الاحتفال سنة، فيأخذ بذلك الأجر على تعليم الأمة، بل تكون مناسبة- كما يدعي البعض- أن يشكر الرسول ربّه على هذه النعمة العظيمة، ويتذكرها ويذكر أصحابه بها، وحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل، ولم يأمر الأمة بالاحتفال، علمنا قطعا أن ذلك غير مشروع، ولو كان في ذلك خير لدلنا النبي عليه، وكيف لا يدلنا على هذا الخير، وهو الذي علمنا كيف نصلي وكيف نصوم، وكيف يأتي الرجل أهله، وعلمنا أيضا كيف نأكل ونشرب، حتى شمل التعليم دخول الغائط والخروج منه، كيف يعلمنا كل ذلك، ويغافل أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ينسى أن يعلمنا شيئا يتعلق بالإسراء والمعراج، وإن كان غفل أو نسي، فكيف بالذي لا يغافل ولا ينسى، لماذا لم ينبه نبيه على ذلك بل كيف لم يأمره بالاحتفال، ويبين له ما فيه من خير، أيترك الله شيئا ينفع نبيه وأمته من بعده فلا يبينه؟. إن من اعتقد ذلك فقد أساء الأدب مع الله، وإذا كان الله سكت عنه، أفلا يسعنا نحن السكوت، وهل نرد قول الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] ، فالذي يرى أن الاحتفال بالإسراء والمعراج من الدين، ويؤجر العبد عليه وأن فيه خيرا لنا في الدنيا والآخرة، وأن هذا عمل يحبه الله ويرضاه، فكيف يوفق بين قوله هذا مع الآية التي أكدت إكمال الدين وإتمام النعمة، أيكذب بها؟ وكيف يرد ما (رواه البخاري) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ «1» » ، أيكون هذا العمل ردّا على صاحبه ويؤجر عليه، أيحكم الرسول بالرد، ويحكم الله بالقبول؟ هذا من أمحل المحال، وقد تم التنبيه على خطر البدعة، وكيف كان الصحابة يحافظون على السنة ولا يتجاوزونها بقول أو فعل، في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، تحذيرا منها. وأقول: إن أدل دليل على عدم مشروعية الاحتفال بها، هو عدم علمنا بتاريخها على وجه التحديد، ولو كان الرسول شرع للصحابة الاحتفال بها، لتناقلوا تاريخها، وعلموه لمن بعدهم، فهم الذين لم يفرطوا في حفظ أي أمر من أمور السنة، وإذا لم يحافظوا هذا التاريخ، علمنا من ذلك أنهم لم يتوقفوا عنده، وما كان لهم فيه عبادة، انظر كيف حافظوا خبر الإسراء وتناقلوه، حتى بلغ حد التواتر؛ لأن لهم فيه دروسا وعبرا، فلنتبع أثرهم ونكتفي بعملهم، أليس لنا فيهم قدوة وفي رسولنا أسوة؟! فإذا قال قائل: الأمة الآن مشغولة بأمور عظيمة، أولى أن نبحثها ونتفق عليها، بدلا من الاختلاف على أمور يسيرة مثل مشروعية الاحتفال أو عدم الاحتفال بليلة الإسراء. أقول باختصار: إن التمسك بسنة الهادي البشير، والعمل بها، ونبذ البدع، لهو أقرب طريق إلى توحيد الأمة، واستنصار المولى، فالله تعالى قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ   (1) أخرجه البخاري، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697) ، مسلم، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718) ، وأبو داود برقم (4606) ، وابن ماجه، برقم (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى [النور: 55] والبدعة أبعد ما تكون من العمل الصالح، الذي هو أحد شرطي الاستخلاف. واعلم أخي المسلم، أن كل بدعة تعملها، تباعدك من الله خطوة، حتى تصير في شق، والله ورسوله في شق آخر، نعوذ بالله من ذلك. كما يجب أن تعلم أخي المسلم، أن أعظم احتفال بهذه الليلة المباركة، أن تحافظ على الصلوات المكتوبة، وتقيم فروضها ومسنوناتها، وتستشعر فيها أنك تعبد الله كأنك تراه، فتقرّ بها عينّك، وتهدأ بها نفسك، وتعلم أنها هدية الله إلى خلقه. فهذا بحق أعظم احتفال بهذه الليلة، احتفال يحبه الله ويرضاه. أما الكلام عن شق صدره صلى الله عليه وسلم، في هذه الليلة المباركة، وملأه حكمة وإيمانا، فقد أفردت له بابا مستقلا، حتى أساعد القارئ، أن يتأمل هذه الواقعة العظيمة، ليستشعر فيها اعتناء الله سبحانه وتعالى بخاتم النبيين، وحتى لا تضيع الواقعة في زحمة الكلام، عن الرحلة المباركة. 3- وصف بيت المقدس: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به» «1» . الشاهد في الحديث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به» . هذه القصة، وهي سؤال قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أوصاف بيت المقدس، غداة إخباره بحادثة الإسراء، كان من المفترض أن أثبتها في سياق الحديث عن الإسراء والمعراج، ولكني وددت أن أفرد لها حديثا خاصّا لعظيم شأن هذه القصة، ورغبتي أن يستشعر كل مسلم منة الله على عبده ورسوله، وحتى لا يضيع الكلام عنها في خضم الكلام عن معجزة الإسراء والمعراج التي أذهلت العقول وأخذت بالألباب. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- عظيم اعتناء الله سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم وتأييده بالمعجزات الباهرات،   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، برقم (182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الخارقات للعقول والعادات، والتي هي للأعداء مفحمات ملزمات، وللأصحاب مقويات مثبّتات، ويتضح ذلك من: 1- سماع الله عز وجل لتحدي الكفار لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو سماع تأييد ونصرة، ودليل ذلك أن ثبّته بمعجزة عظيمة على الفور، ترفع عنه ما وجده من كرب عظيم، ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكربت كربة ما كربت مثله قط» . 2- رفع الله سبحانه وتعالى بيت المقدس لنبيه صلى الله عليه وسلم فرآه رؤية عين واضحة جلية لقوله: «فرفعه الله لي أنظر إليه» وللعلماء في المسألة أقوال منها: أن الله كشف الحجاب بين نبيه وبين بيت المقدس، أو أنه حمل البيت كله ووضعه أمام النبي صلى الله عليه وسلم حتى رآه ثم أعيد إلى مكانه، أو أنه مثل قريبا منه، ذكرها ابن حجر في الفتح، وكل تلك الأقوال لا نستغربها ولا نستبعدها في قدرة الله، تبارك وتعالى، وما قصة إحضار عرش بلقيس- من اليمن إلى الشام مع عظمته في أقل من طرفة عين- منا ببعيد. ولكن اللافت للنظر والمثير للدهشة، قوله صلى الله عليه وسلم: «فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به» . فلا نتصور أنهم سألوا فقط عن أوصاف المسجد من الخارج كحدوده وأبوابه ونوافذه، ولكن من المؤكد أنهم سألوا عن أوصافه الداخلية، ليزيد تعجيزيهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى المسجد من مكانه الذي يقف عند الحجر بمكة، فيرى ما بداخل المسجد كما يرى خارجه سواء بسواء، من جميع الزوايا ومن كل المساقط، حتى يستطيع أن ينبئهم عن كل ما سألوه، فما خفي عليه أي جزء من المسجد. من يقدر على ذلك غير الله تعالى؟!. 3- ومن مظاهر اعتناء الله سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم الطريقة التي رفع الله بها عنه الكرب الذي ألّم به، فكان من الممكن أن يلهمه الله، سبحانه وتعالى، إجابات شافية لكل ما سألوا عنه، أو يرسل له جبريل عليه السلام، ليلقنه إياها، أو يجعل نبيه صلى الله عليه وسلم يثبتها ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى، ولكن كل هذا لم يحدث مع إمكانيته؛ لأن الله، سبحانه وتعالى، أحب أن يكون التأييد بمعجزة ظاهرة عظيمة تثبّت قلب نبيه صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: خوف النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على هذه الأمة، ورد في الحديث: «فكربت كربة ما كربت مثله قط» ، فهذا الكرب كان من خوفه ألايرد على أسئلة المعاندين، فتفتن الأمة، ويكذّب الله ورسوله، ولكن الله، عز وجل، قد حول هذه الخوف إلى معجزة ظاهرة، وأعجز من أرادوا تعجيزه، وبدلا من أن يظهروا كذبه- حاشا لله- ظهر لهم كمال صدقه، وازداد الذين آمنوا إيمانا، بل وازداد هو يقينا من نصر الله سبحانه وتعالى له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الفائدة الثالثة: إثبات أن كفر المشركين يعود جلّه إلى العناد والاستكبار عن الحق، وليس إلى عدم رؤيتهم الآيات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن ربه. فالحاصل أنهم كانوا يوقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير بيت المقدس من قبل، وإلا لما سألوه عن أوصافه، وإنما سألوه ليعجزوه ويظهروا عدم صدقه في خبر إسرائه، وكان من المفترض مع كل جواب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يزدادوا تصديقا به وتشككا فيما هم عليه من مسلك، ولكن هذا لم يحدث، لما انطويت عليه قلوبهم من الحسد والعناد. والغريب أيضا في الأمر، أنه ما قال لهم: إنه مكث أياما في بيت المقدس، أو حتى يوما واحدا بل أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد وصلى بالأنبياء في جزء من الليل، فهل الذي يدخل مكانا مثل بيت المقدس في مثل هذا القدر من الزمان بهدف الصلاة، هل يقدر أن يجيب عن كل سؤال يوجّه له؟ خاصة إذا كان السائل يريد تعجيزه، بالطبع لا يستطيع. فأقول: كان على الكفار لما سمعوا الإجابات الشافية عن كل أسئلتهم ألا يصدقوا فقط بصدق قصة الإسراء، بل كان عليهم أن يعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوحي إليه بأجوبة أسئلتهم، ولكن أين العقول؟. الفائدة الرابعة: ثبوت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يعلم الغيب، في قليل أو كثير، وأن الله عز وجل هو الذي يؤيده بالمعجزات، وأنه صلى الله عليه وسلم يعتريه ما يعتري البشر من عدم التثبت من أشياء رآها سريعا، ودليل كل ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أشياء لم يثبتها في حافظته كرب كربا شديدا، فكيف نثبت له علم أشياء لم يرها أصلا، أو لم يسمع بها من قبل؟. فكل ما يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من ماض أو مستقبل، أو حتى حاضر لم يره، فهو قطعا وحي من الله عز وجل، ولا داعي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة: إن الله تعالى أوحى لي بكذا وكذا، ولكن هذا معلوم لنا من الدين بالضرورة، علمناه من صريح آيات الكتاب الكريم، مثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] ، وعلمناه أيضا من وقائع كثيرة حدثت في السنة الشريفة، مثل واقعة الحديث الذي معنا، وغير ذلك مما ذكرته متفرقا في هذا الكتاب. 4- انشقاق القمر: قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] . عن ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشهدوا» «1» . وفي الحديث المتفق عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنّ أهل مكّة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقّتين حتّى رأوا حراء بينهما) «2» . قصة انشقاق القمر بلا شك من أعظم المعجزات الحسية التي أيد الله تبارك وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث شق الله له القمر فلقتين حتى ظهر بينهما جبل حراء، وهي من أعظم المعجزات للأسباب التالية: 1- حدثت المعجزة بناء على طلب من الكفار، لما ثبت عند الشيخين من رواية أنس رضي الله عنه: «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين» ، ولما ورد في حديث الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشهدوا» . والآية التي تكون على طلب المتحدي أبلغ في إظهار قوة المتحدّى وألزم للخصم. 2- حدثت المعجزة في آية من أعظم الآيات الكونية وهي القمر، الذي يتعلق به قلوب الناس وأبصارهم كل ليلة، خاصة في مثل هذا الزمن- فكون المعجزة في القمر نفسه أفاد الأمور التالية: أ- كانت معجزة عامة لا يسع أحدا أن ينكرها فقد شاهدها المسلم والكافر، والكبير والصغير، والحاضر والبادي، فهي بذلك تختلف عن بقية معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي غالبا ما تقتصر رؤيتها على أصحابه رضي الله عنهم، كتكثير الطعام. ب- يجمع أصحاب العقول السليمة والفطر السوية أنها معجزة لا يقدر عليها إلا الذي خلق الشمس والقمر، وهو الله تبارك وتعالى، كما يجمعون على أنها معجزة لا تأتي عن طريق السحر والشعوذة والإيحاء، وهل قدر السحرة من قبل ومن بعد على مثلها؟!. فهل يعقل أن الحكيم العليم يؤيد من يكذب عليه- حاشا لله أقولها فقط تنزلا مع الخصم- بمعجزة تكون في واحد من أعظم مخلوقاته وهو القمر، فيجعل عباده في شك وريب من أمرهم، إن أخف الناس عقولا يقرون أن حكمة الله سبحانه وتعالى تأبى ذلك. قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، برقم (4864) . (2) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: انشقاق القمر، برقم (3868) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 جاء به وصدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى فانشق فلقتين، فلق على جبل أبي قبيس، وفلق على جبل قيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها أو التخييل، فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه من قدر على سحركم، لا يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك) «1» . 3- هذه المعجزة هي المعجزة الحسية الوحيدة- فيما نعلم- القائمة بأمر الله إلى الآن، ذلك أن علماء الفلك في عصرنا هذا قد ضبطوا أثر الانشقاق في جسم القمر؛ لأن القمر بعد الانشقاق لم يلتئم تماما، فقد ترك الانشقاق أثرا فيه كالشرخ، والذي أفادنا بذلك هو أحد علماء الفلك الأمريكيين الذي أعلن إسلامه بعد رؤيته لهذا الأثر في جسم القمر وقد أسس هذا العالم جميعة للدعوة إلى الإسلام، وأقول: إن الله عز وجل أراد أن تبقى هذه المعجزة ظاهرة للعيان أبد الدهر، ولو شاء الله لالتأم القمر تماما بعد الانشقاق. 4- أثبت القرآن الكريم تلك المعجزة الحسية للنبي صلى الله عليه وسلم دون بقية المعجزات. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تتجلى في هذه المعجزة العظيمة قدرة الله سبحانه وتعالى، وليس هذا بعجيب، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل شيء في قدرته سواء، فليس في قدرته أصعب ولا أسهل، فكل ما يريده يكون بكلمة كن، قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، ثم إن القمر خلق من خلقه يفعل فيه وبه ما يشاء وقتما شاء. الفائدة الثانية: حب الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإرادته سبحانه وتعالى إعلاء شأنه ودينه على كل من عاداه وتحداه، ولذلك أيده بمعجزة عظيمة مثل انشقاق القمر، ما سمعنا أنها كانت لأحد من الأنبياء من قبله عليهم جميعا الصلاة والسلام. الفائدة الثالثة: نجزم قطعا أن آية انشقاق القمر قد حدثت فعلا في مكة زمن   (1) انظر تفسير السعدي (1/ 824) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حجة لمن قال: إنها من علامات يوم القيامة واستدلوا لقولهم بقول الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] أي أن الانشقاق سيكون بعد قيام الساعة كتكوير الشمس وانشقاق السماء، والأحاديث الصحيحة حجة عليهم، أما توجيه الآية القرآنية، فقد نقل القرطبي- رحمه الله- عن القراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر واستشهد بقوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النجم: 8] ، كما أن قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 2] دليل واضح على أن الآية قد حدثت بالفعل؛ لأن الآيات المصاحبة ليوم القيامة لا يكون فيها تصديق ولا تكذيب، وليس المقصود بها إلزام المعاندين الحجة. الفائدة الرابعة: وهي فائدة متكررة مع كل معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وسلم وهي أن الكفار لا يعوزهم المعجزات حتى يسلموا، فقد رأوا من المعجزات الباهرات ما يلزمهم الحجة، وكانت بعضها بناء على طلبهم ومع ذلك أعرضوا واتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر، قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 2] . 5- حنين جذع الشجرة: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار- أو رجل-: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم» . فجعلوا له منبرا فلمّا كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النّخلة صياح الصّبيّ ثمّ نزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فضمّه إليه تئنّ أنين الصّبيّ الّذي يسكّن قال: «كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذّكر عندها» «1» . أقول بدون مبالغة أو مغالاة: إن هذه المعجزة البينة للنبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم من أن يتكلم عنها أحد مهما بلغ شأنه وشأوه، ومن تدبرها عرف جلالة قدر النبي صلى الله عليه وسلم ليس عند ربه تبارك وتعالى وعند ملائكته الكرام وليس عند الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام الذين احتفوا به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج غاية الحفاوة وسلموا له بالإمامة والسيادة، أو عند أصحابه وأزواجه رضي الله عنهم جميعا، ولكن يبين الحديث الشريف جلالة قدره عند الشجر الذي نظن أنه لا يسمع ولا يرى ولا يحس، والذي نضرب به المثل بالقسوة والغلظة والجفاء لأنه لا قلب له ولا شعور، ولكن هل كل الجمادات هكذا؟ لا والله! شتان بين حجر   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة، برقم (3584) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 نمر نحن عليه فلا يشعر بنا ولا نشعر به، وحجر يمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه معلنا الإيمان به صلى الله عليه وسلم نبيّا ورسولا، شتان بين نخلة نرويها ونسقيها لننتفع من ثمرها الطيب ليس بيننا وبينها علاقة حب ومودة، وبين نخلة كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ عليها في خطبة الجمعة فكانت تسمع منه الذكر الحكيم وتعيه وتخشع له فأحبت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأحبت الذكر الذي كانت تسمعه أعظم الحب، ثم لما تركها صلى الله عليه وسلم وخطب على المنبر اشتاقت إليه أشد الاشتياق وشعرت بفداحة المصيبة التي ألمت بها بفراق النبي صلى الله عليه وسلم، فلن يمسها- بعد صناعة المنبر- جسد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت تحظى بهذا الشرف وتنال من بركته ما لم يحظ به من جنسها أحد مثلها، فما كان منها إلا أن بكت بكاء الصبي، الذي أصابته مصيبة، وأقول: فارق كبير- والله- بين حبنا وحب النخلة، وأسأل هل قست قلوبنا فعجزت أن تحب النبي صلى الله عليه وسلم وتشتاق إليه؟! كما أحبته الشجرة واشتاقت إليه؟! هل وصل بنا الأمر أن يكون غاية أملنا أن يصل حبنا كحب الشجرة وقليل منا من يبلغه، والله لا نملك أن نقول في مصيبتنا هذه إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون. أيها المسلمون هل يقبل عقلا أو شرعا أن يكون حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أقل من حب الشجرة، وكان الأجدر والأولى هو العكس؛ لأننا الذين تنعمنا بخيره من كل وجه، حيث خرجنا به من الظلمات إلى النور؛ لأننا الذين استنقذنا الله به من النار ويدخلنا به الجنة إن شاء الله؛ لأننا الذين نطمع في شفاعته يوم الدين، ولأننا المقصودون أولا وآخرا ببعثته الميمونة صلى الله عليه وسلم. أيها المسلمون: بعد هذا البيان هل لنا أن نتصور حب الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه وتعالى الذي اصطفاه على العالمين ورضي به خاتما لأنبيائه ومرسليه، وأمينا على أعظم كتبه وأكمل شرائعه، وكذا حب أصحابه وأزواجه له صلى الله عليه وسلم. وأختم بكلام جميل يؤكد ما ذكرته آنفا ويبين ما في نفسي من المعاني التى لم أستطع أن أعبر عنها، قال الإمام الشافعي- رحمه الله- فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في «مناقب الشافعي» عن عمرو بن سواء عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبيّا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك «1» . فإن قال قائل: كيف يكون حنين جذع نخلة أعظم إعجازا من إحياء عيسى عليه السلام   (1) انظر فتح الباري (6/ 603) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الموتى، قلت: الأمر ظاهر من وجوه: 1- إحياء الموتى- في الدنيا- على يد نبي معجزة فعلا وهو أمر قد حدث وتكرر في الدنيا على مرأى ومسمع من الناس من قبل عيسى عليه السلام، قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 56] وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] أما بكاء جذع شجرة ثم تسكينها حتى سكونها هو أمر غير معهود ولم يحدث من قبل فيما نعلم. 2- إحياء الموتى سنة من سنن الله في خلقه، فإن حدث في الدنيا فلا غرابة في ذلك، فالإحياء هو الإحياء سواء في الدنيا أو الآخرة، وهذا الذي بعث بعد موته على يد عيسى عليه السلام كان في الأصل إنسانا يمشي ويتكلم ويعقل، وكل ما حدث أن الله سبحانه وتعالى رد له روحا خرجت منه، أما حنين الجذع فهو أمر مختلف، فلم يكن مجرد إحياء لموتى، حيث إنه استلزم أن يخلق في الجذع روحا جديدة- لم تكن موجودة أصلا- روحا أشبه ما تكون بروح الإنسان الذي له عقل يعي الذكر وأذن تسمعه وقلب يفرح برؤية وملامسة الحبيب ويحزن لفراقه، وما كان الجذع ليحزن ويئن إلا إذا توفر فيه ذلك على هيئة لا يعرفها إلا الله تبارك وتعالى، وهذا قطعا يختلف تماما عن مجرد إحياء الموتى. 3- إحياء عيسى عليه السلام للموتى كان لإثبات نبوته، وأما حنين جذع النخلة وما بعث الله فيها من روح وغيره إنما كان لإثبات حبّ الشجر وحنينه للنبي صلى الله عليه وسلم. 6- يسمع ما لا يسمعه أحد: عن زيد بن ثابت قال: بينما النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النّجّار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستّة أو خمسة أو أربعة فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟» فقال رجل: أنا. قال: «فمتى مات هؤلاء؟» ، قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إنّ هذه الأمّة تبتلى في قبورها فلولا ألاتدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الّذي أسمع» «1» .   (1) رواه مسلم، كتاب الجنة، باب: عرض مقعد الميت من الجنة، برقم (2867) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فلولا ألاتدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع» فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يمشون معه صلى الله عليه وسلم وقد مروا على تلك القبور التي تعذب، ومع ذلك لم يسمعوا ما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في النبي صلى الله عليه وسلم: 1- عناية المولى سبحانه وتعالى به، إذ أسمعه ما لم يسمعه أحدا من الإنس والجن، وأظن أن الحكمة من ذلك أن يكون صلى الله عليه وسلم أشد الناس خوفا من الله وأتقاهم له وأعلمهم به، وقد تحقق ذلك على أحسن ما يكون، فلله الحمد والمنة. 2- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة وشفقته بها، وذلك أنه لم يسأل الله عز وجل أن يسمع الأمة صوت عذاب القبر خوفا ألايدفن بعضهم بعضا. 3- حكمته صلى الله عليه وسلم، إذ وازن بين المصلحة المترتبة على سماع الأمة صوت عذاب القبر والتي تتمثل في شدة خوفها من الله وتجنبها المعاصي، حسب طاقتها، والمفسدة المترتبة على السماع والمتمثلة في ترك الدفن، وهي بلا شك مفسدة عظيمة بل مفاسد بعضها أعظم من بعض، ويمكن الاحتجاج بهذا الحديث كأصل في القاعدة الشرعية الجليلة والتي تقول: إن درء المفاسد أولى من جلب المنافع. 4- عدم علمه صلى الله عليه وسلم الغيب- إلا ما أطلعه الله سبحانه وتعالى عليه- وتعليمه الأمة هذا الأمر، حيث قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟» فقد سأل عن أصحاب هذه القبور وزمن موتهم. 5- قوته صلى الله عليه وسلم في الحق ورباطة جأشه، حيث كان يدفن أصحابه ويباشر ذلك بنفسه مع علمه بما في القبر من بلاء وفتن ومحن بل قد سمع ذلك، أما غيره من الناس- بما فيهم الصحابة- فيخشى عليهم إذا سمعوا ما يحدث في القبر ألا يتدافنوا. لذلك ما كان هناك من ضرر من سماع النبي صلى الله عليه وسلم لعذاب القبر. 6- تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث كان يركب البغلة ولا يترفع عن ذلك. الفائدة الثانية: إثبات سماع الحيوانات وغيرها عذاب القبر، ودليله أن بغلة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 انحرفت به عن الطريق وكادت أن تلقي النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا لسماعها صوت عذاب القبر، كما أن فيه دليلا على أن تلك الحيوانات تتأثر بما تسمع بل تتجنب مثل هذه الأصوات، ولا أقول: إن الحيوانات فقط تسمع، بل ورد في الحديث الصحيح الذي (رواه البخاري) وغيره: «ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصبح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» «1» أي أن كل شيء يسمع ذلك إلا الإنس والجن، وبذلك يثبت السماع للجمادات والجبال والحيوانات في البر والبحر وكذا النباتات. الفائدة الثالثة: في عذاب القبر: 1- هو من الأمور الغيبية، حيث لم يسمعه ولم يره أحد من عموم هذه الأمة، ولكن أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. 2- وجوب الإيمان به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» والإيمان بعذاب القبر يدخل في عموم الإيمان بالغيب الذي زكى الله تبارك وتعالى صاحبه بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] . 3- عذاب القبر أمر مادي حيث ثبت في الحديث أن له صوتا، وأخطأ من قال: إنه أمر معنوي. 4- هو عذاب مستمر مع الكافر، فلا ينقطع عنه بعد السؤال كما لا ينقطع عنه بتحلل رفاته فيما نرى- لأن أصحاب هذه القبور التي سمع النبي صلى الله عليه وسلم عذابهم قد مر على وفاتهم سنوات. 5- حياة البرزخ لا تقاس على الحياة الدنيا بأي وجه من الوجوه، لذلك فلا مدخل للعقل في تصور كيفيتها، فلا يعلم ما فيها إلا بالنقل، وعلى العقل والقلب التسليم المطلق، فهذا صوت العذاب في هذه الحياة الغيبية يسمعه كل أحد إلا الثقلين، ويعذب فيها صاحب القبر عذابا أليما مع أنك إذا فتشت في قبره فلن تجد إلا بقايا رفات أو لن تجد شيئا أبدا إلا الأثر. 6- عظيم عذاب القبر، يدلك على ذلك أن الناس إذا سمعوا صوته فقط هان عليهم أن يتركوا ذويهم وأصحابهم بدون دفن، على أن يدفنوهم، مسّهم ذلك العذاب أو لم يمسهم، بالرغم من المفاسد العظيمة المترتبة على عدم الدفن. ومما يدلل أيضا على عظيم عذاب القبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منه كثيرا خاصة بعد التشهد وقبل السلام من الصلاة ويعلم أصحابه ذلك، فعن مالك بن أنس فيما قرئ عليه عن أبي الزّبير عن طاوس عن ابن عبّاس أنّ   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر، برقم (1374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم هذا الدّعاء كما يعلّمهم السّورة من القرآن يقول: قولوا: «اللهمّ إنّا نعوذ بك من عذاب جهنّم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» قال مسلم بن الحجّاج: بلغني أنّ طاوسا قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا. قال: أعد صلاتك. لأنّ طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة «1» . وكأن طاوسا رحمه الله كان يرى أن ذلك الدعاء واجب تبطل الصلاة بتركه. الفائدة الرابعة: الناس الذين وصلتهم دعوة نبي، قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وماتوا على الشرك يعذبون في قبورهم، وهم من أهل النار؛ لأن هؤلاء الذين سمع النبي صلى الله عليه وسلم عذابهم قد ماتوا في زمن الشرك. 7- يرى ما لا يراه أحد: عن ابن عبّاس قال وذلك في حديث الكسوف: قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثمّ رأيناك كففت؟ فقال: «إنّي رأيت الجنّة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا. ورأيت النّار فلم أر كاليوم منظرا قطّ ورأيت أكثر أهلها النّساء» ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهنّ» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «بكفر العشير وبكفر الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهنّ الدّهر ثمّ رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ» «2» . وعن جابر قال: انكسفت الشّمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النّاس: إنّما انكسفت لموت إبراهيم، فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصلّى بالنّاس ستّ ركعات بأربع سجدات بدأ فكبّر ثمّ قرأ فأطال القراءة ثمّ ركع نحوا ممّا قام ثمّ رفع رأسه من الرّكوع فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثمّ ركع نحوا ممّا قام ثمّ رفع رأسه من الرّكوع فقرأ قراءة دون القراءة الثّانية، ثمّ ركع نحوا ممّا قام ثمّ رفع رأسه من الرّكوع ثمّ انحدر بالسّجود فسجد سجدتين ثمّ قام فركع أيضا ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلّا الّتي قبلها أطول من الّتي بعدها وركوعه نحوا من سجوده ثمّ تأخّر وتأخّرت الصّفوف خلفه حتّى انتهينا وقال أبو بكر «3» : حتّى انتهى إلى النّساء ثمّ تقدّم وتقدّم النّاس معه حتّى قام في مقامه فانصرف   (1) رواه مسلم، كتاب المساجد، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (590) . (2) رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، برقم (907) . (3) هو الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة صاحب المصنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 حين انصرف وقد آضت الشّمس فقال: «يا أيّها النّاس إنّما الشّمس والقمر آيتان من آيات الله وإنّهما لا ينكسفان لموت أحد من النّاس» - وقال أبو بكر: «لموت بشر- فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلّوا حتّى تنجلي، ما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه لقد جيء بالنّار وذلكم حين رأيتموني تأخّرت مخافة أن يصيا بني من لفحها، وحتّى رأيت فيها صاحب المحجن يجرّ قصبه في النّار كان يسرق الحاجّ بمحجنه فإن فطن له قال: إنّما تعلّق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، وحتّى رأيت فيها صاحبة الهرّة الّتي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتّى ماتت جوعا، ثمّ جيء بالجنّة وذلكم حين رأيتموني تقدّمت حتّى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثمّ بدا لي ألاأفعل، فما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه» «1» . الشاهد في الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى هو يصلي، الجنة شاخصة أمامه، ورأى النار، وأطلع على أهلها وهم يعذبون، والصحابة خلفه ينظرون إليه، فلا يرون جنة ولا نارا، بل يرون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول شيئا، كما يرونه وهو يتكعكع. وهذا دليل على ما بوّبت به، أنه يرى ما لا يراه أحد، وقد أثبتّ هذين الحديثين للاستزدادة من الفوائد، وإن كان أحدهما يكفي في الاستشهاد. بعض فوائد الحديثين: الفائدة الأولى: اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة، علمناه من تطويله جدّا، في جميع أركان صلاة الكسوف، بما في ذلك الركوع والسجود. الفائدة الثانية: جواز أن يطيل الإمام الصلاة جدّا، وأن النهي عن الإطالة ليس في كل الأحوال، إنما هو في حال خشية وجود من يتأذى من ذلك التطويل، كالضعيف والمريض وذي الحاجة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الصلاة يريد التطويل، فيعرض له عارض فيتجوز فيها، روى البخاري عن أبي قتادة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّي لأقوم في الصّلاة أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصّبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه» «2» . الفائدة الثالثة: الحركة الخفيفة في الصلاة لا تبطلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تناول عنقودا، وتكعكع، واستمر في صلاته، كما أن مسارقة النظر لا تبطلها أيضا، لقول الصحابة:   (1) رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، برقم (904) . (2) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، برقم (707) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 (رأيناك تناولت شيئا) ولكن يجب أن يدافع المسلم نفسه في الصلاة، فيلزم بصره موضع سجوده؛ لأن ذلك أدعى للخشوع في الصلاة. الفائدة الرابعة: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- رؤيته الجنة والنار في الحياة الدنيا، وكانت رؤية واضحة لا التباس فيها، بدليل أنه ميّز في هذه الفترة الوجيزة، أن أكثر أهل النار النساء، كما رأى امرأة تخدشها هرة، وقال صلى الله عليه وسلم كما ورد في مسلم: «وحتى رأيت صاحب المحجن، يجر قصبه في النار» ونجزم أنها ما كانت رؤية بالقلب، بل كانت رؤية بالعين، لقوله: «لقد جيء بالنار حيث رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيا بني من لفحها» ، ورؤية القلب ما يتضرر الإنسان منها، كما أنه لا يمد يده ليتناول ما يراه بقلبه. والحاصل أنها كانت رؤية يقظة واضحة بينة. 2- ظهور خوفه صلى الله عليه وسلم من الله تعالى، حيث قال: لما دنت منه النار: وأنا معهم، وفي رواية عند مسلم: «لقد جيء بالنار حيث رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيا بني من لفحها» ولولا خوفه من الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يأمن مكر الله، ما تكعكع من مكانه، وما أعلن للناس خوفه من عذاب الله عز وجل ويتفرع على ذلك جهل من يقول: إني أعبد الله ليس طمعا في جنته ولا خوفا من عذابه: (فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يخاف فقط أن يصيبه لفح جهنم) وقد بينا سفه هذا القول فيما تقدم. ومن علامات خوفه صلى الله عليه وسلم أنه هرع إلى الله سبحانه وتعالى بالصلاة والدعاء، لما رأى الكسوف والخسوف، ويصلي فيطيل الصلاة حتى تنجلي الشمس. 3- أدبه مع الله؛ لأن عنقود الجنة كان في متناول يده، وكان يود أن يأخذه ليراه الصحابة، فيزدادوا بالله ورسوله إيمانا ويقينا، ولكن لم يفعل، ورد في رواية مسلم: «وقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي ألاأفعل» وأظن أن عدم فعله قد يكون بسبب عدم الإذن له بقطف العنقود، وفي رواية عند البخاري: «قد دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها» «1» . وإن صح هذا الاستنباط فيكون فعله هذا هو منتهى الأدب مع الله سبحانه، وقد يكون عدم التناول لحكم أخرى. 4- إطلاعه على كل ما وعدت به هذه الأمة إلى قيام الساعة، لما ورد عند مسلم «فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه» «2» أي أن الرؤية لم تقتصر على الجنة والنار، ولا   (1) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، برقم (745) . (2) رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، برقم (904) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يخفى على أحد ما تنطوي عليه هذه المعجزة من تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم وإظهار لفضله وسبقه على الأولين والآخرين. 5- ظهور حرصه صلى الله عليه وسلم على نصح الأمة، وتعبيدها لله عز وجل وبيان ما وقعت فيه من خطأ حال وقوعه، وذلك أن الناس ظنوا أن كسوف الشمس حدث بسبب موت ابنه إبراهيم عليه السلام فقام فيهم فقال: «يا أيها الناس إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس» . الفائدة الخامسة: بيان عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، ويتمثل ذلك في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في مكانه، ورؤية كل ما توعد به الأمة إلى يوم القيامة، يرى ذلك ويعقله، ولا يراه أحد غيره، ممن يقف وراءه حتى دنت منه النار بلهيبها وحرها، كما أن قدرته، سبحانه وتعالى، تتمثل أيضا في قصر الوقت الذي استغرقته تلك المعجزة العظيمة، خاصة أنه رأى كل ما وعدت به الأمة، يتفرع على ذلك، أن قدرة الله عز وجل، لا يعقلها عقل، ولا يحدها وصف، ولا يعجزها شيء، فعلى المسلم ألايقيس تلك الأخبار على قدرة الإنسان المحدودة، بل يسلم بكل ما ورد بالكتاب والسنة دون إدخال العقل، اللهم إلا في التفكر في عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى. الفائدة السادسة: بيان أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، ولله الحكمة البالغة في ذلك، بل فيهما من يعذب وينعم، لما ورد في هذا الحديث من تعذيب صاحبة الهرة، أما التنعيم في الجنة، فقد روى البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال حدّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإنّي سمعت دفّ نعليك بين يديّ في الجنّة؟» قال: ما عملت عملا أرجى عندي أنّي لم أتطهّر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلّا صلّيت بذلك الطّهور ما كتب لي أن أصلّي «1» . أما كيف دخلت هذه المرأة النار قبل يوم القيامة، فهذا غيب، ليس عندنا علم به من كتاب أو سنة، فلا نخوض فيه. الفائدة السابعة: بطلان قول من يقول: إن الكسوف والخسوف ظواهر طبيعية، لا علاقة لها بأعمال العباد، وأنه لا ينبغي لنا أن نخاف من حدوثها أو كثرة تكرارها، فقد ورد في رواية عند البخاري: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله تعالى يخوف بها عباده» ، وفي رواية عنده أيضا: «فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: فضل الطهور بالليل والنهار ... ، برقم (1149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الصلاة» ، وعنده: «فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي» . ومعرفة موعدها لا يخرجها عن كونها آية يخوّف الله بها عباده. الفائدة الثامنة: عظيم ما أعده الله عز وجل لعباده المؤمنين في الجنة، وأن ما فيها يختلف تماما عما نعرفه في الدنيا، لقوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري: «فتناولت منه عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» فلو أن الناس كلهم جميعا من عهد الصحابة إلى قيام الساعة، أكلوا من هذا العنقود، كفاهم من الجوع ولم ينفد، أي أن نعيم الجنة وما فيها لا ينتهي، قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل: 96] ، وهذا أيضا من دلائل عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى. الفائدة التاسعة: عظيم ما أعده الله سبحانه وتعالى، للكافر من عذاب أليم موجع، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط» في رواية البخاري. ونلحظ في النار أيضا عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى من جهة أن أهلها يذوقون هذا العذاب فلا يموتون، بل إن أجسادهم تتضخم، لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيّام للرّاكب المسرع» «1» . الفائدة العاشرة: عدم الاستهانة بأي ذنب مهما صغر في عين العبد؛ لأن المرأة دخلت النار في قطة حبستها، كما لا نقلل من أي عمل صالح فقد دخل رجل الجنة في سقاية كلب ظمان، فعند البخاري، عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّ رجلا رأى كلبا يأكل الثّرى من العطش فأخذ الرّجل خفّه فجعل يغرف له به حتّى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنّة» «2» . يتفرع على ذلك أن يكون المسلم دائما على حذر من أدنى الذنوب، فلعله يطيع ويكثر من الخيرات، ويقع في ذنب صغير يأخذه الله به، أو يختم له به فيكون من المعذبين في النار، كما أن عليه ألا يترك عملا صالحا إلا ويفعله ويحرص عليه قدر استطاعته، فلعله يختم له به فيكون من أصحاب الجنة، أو يقع هذا العمل الصالح موقع رضى من الله عز وجل فيغفر له به ذنوبا عظيمة، ويتبين من ذلك أن من يقترف السيئات دون مبالاة ودون توبة في خطر عظيم. الفائدة الحادية عشرة: وفيها أن المرأة دخلت النار لأنها حبست الهرة ولم تطعمها، أي أنها لو أطعمتها مع حبسها لم يتوجه إليها اللوم.   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، برقم (6553) . (2) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان ... ، برقم (174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الفائدة الثانية عشرة: في قوله: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط» ، وانظر إلى مقابلة إحسان الدهر، بقولها: «ما رأيت منك خيرا قط» . وإذا كان هذا الوعيد للزوجة التي تجحد فضل زوجها، وهو بشر مثلها، ولم يكن هذا المعروف من محض فضله، كما أنها ولا شك أسدت إليه في مقابل هذا المعروف معروفا، ولو قليلا، فما بالكم بالذي يجحد فضل الله عز وجل عليه، وفضله هو أصل كل فضل، يصل إلى العبد قديما وحديثا، فضله الذي لا ينقطع، بل هو مع الإنسان من يوم أن كان نطفة في رحم أمه، إلى أن تفيض روحه إلى بارئها، بل إن فضله عليه من قبل ذلك وبعده، وهو فضل لا يقابله فضل من العبد. أظن أن من يجحد فضل الله عليه أن عذابه سيكون أشد وأشد، مقارنة بعذاب من جحدت فضل زوجها فحذار أن يجحد المسلم فضل ربه، وألا يقرّ به آناء الليل وآناء النهار، وألا يقابله بالشكر والعمل الصالح، حتى وإن تعرض لبعض المحن والابتلاآت، والمجال لا يتسع أن نذكر طرفا من أفضال الله المتتابعة وآلائه المتوالية ورحماته المتعاقبة استدلالا على ما ذكر، ولكن يكفي أن نتذكر قوله تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] . الفائدة الثالثة عشرة: قوله: «ورأيت أكثر أهلها النساء» ولم يقل: (ورأيت النساء أهلها) ، وهذا هو المشاهد لأن بعض النساء مهما رأين من أزواجهن لا يجحدون فضلهم ومعروفهم. الفائدة الرابعة عشرة: وهي في كيفية شد انتباه السامعين: حيث قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن سبب أن أكثر أهل النار من النساء «يكفرن» وسكت ولم يبين أي أنواع الكفر يقصد، حتى يسترعي انتباه الجميع، ويجعلهم يخافون من كلمة (يكفرن) حتى ظنوا أنهن يكفرن بالله، فيأتي بعد ذلك البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالمقصود من قوله «يكفرن» على قلوب وعقول قد سألت عن المقصود، وقد شدّ انتباهها. الفائدة الخامسة عشرة: ما كان عليه الصحابة من فقه وأدب، أما الفقه، فقد علموا أن هناك سببا ظاهرا لكون أكثر أهل النار من النساء، فقالوا: (بم يا رسول الله) ، وأما أدبهم فيتضح من صيغة السؤال عن علة الحكم، فلم يكن سؤال المتشكك أو المعترض أو الطاعن في حكمة الله، بل كان سؤال من يريد التعلم فقالوا: «بم يا رسول الله» ، فالذي يقر أنه رسول الله، ويناديه بصفته في السؤال، يوحي بإيمانه بالحكم وتسليمه له، وعدم اعتراضه، وأنه يريد معرفة العلة، حتى لا يقع فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يتفرع على ذلك وجوب أن يتأدب المسلم عند السؤال عن علة أي حكم من أحكام الدين، ويظهر من كلامه أن يسلم بحكمة الله البالغة في كل أمر ونهي، وأنه يسأل سؤال المتعلم لا المتشكك، وأن الأمر عنده لا يختلف كثيرا إذا علم أو جهل حكمة الحكم؛ لأن عنده مطلق الإيمان بالله ورسوله. ومن أمثلة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يراه أحد، ما رواه الشيخان بإسناديهما عن أسامة رضي الله عنه قال: أشرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة فقال: «هل ترون ما أرى؟ إنّي لأرى؟ مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر» «1» . قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- (أشرف) أي نظر من مكان مرتفع، قوله: (مواقع) أي مواضع السقوط (خلال) أي نواحيها. قد شبه سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم. وهذا من علامات النبوة لإخباره بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان رضي الله عنه وهلم جرا ولا سيما يوم الحرة، والرؤية المذكورة يحتمل أن تكون بمعنى العلم أو رؤية العين، بأن تكون الفتن مثّلت له حتى رآها، كما مثلت له الجنة والنار في القبلة حتى رآهما وهو يصلي «2» . وقال- رحمه الله- في موضع آخر: (والرؤية بمعنى النظر أي كشف لي فأبصرت ذلك عيانا) «3» . وأقول: هذا هو الصحيح- إن شاء الله- لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: «هل ترون ما أرى؟» والأقرب أن يكون هذا الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء يراه ويبصره بالعين لا لشيء يعلمه، كما أنه لا حاجة لتأويل الرؤية بالعلم حيث إن النقل أثبتها والعقل لا ينفيها، والقول بظاهر النص هو الأسلم. 8- رؤيته صلى الله عليه وسلم غيره من وراء ظهره: روي البخاري بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هل ترون قبلتي ها هنا؟ فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إنّي لأراكم من وراء ظهري» «4» .   (1) رواه البخاري (3597) ، ومسلم (2885) . (2) انظر فتح الباري (4/ 95) . (3) انظر فتح الباري (13/ 13) . (4) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب: عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، برقم (418) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأراكم من وراء ظهري» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كثرة المعجزات التي أيد الله سبحانه وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه واحدة من أجل تلك المعجزات، وهي أنه صلى الله عليه وسلم يرى من وراء ظهره. وإليك بعض حكم هذه الرؤية: 1- إظهار الله للناس فضله وتأييده لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإظهار مكانته على الأولين والآخرين، وذلك بخرق العادات الكثيرة له، ومنها أنه يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه، وأقول: إن الرؤية من الأمام والخلف تستوي في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث بدأ بقوله: «هل ترون قبلتي هنا» وهو سؤال يستنكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم على من يظن أنه يرى الذي أمامه فقط، واختتم حديثه بقوله: «إني لأراكم من وراء ظهري» ، وهذا الإظهار لفضل الله، ليزداد الذين آمنوا إيمانا، إيمانا بقدرة الله على خرق العادات والنواميس، وأن هذه العادات والنواميس إنما هي ملزمة للناس فقط، ولا يمكن عقلا أن تكون ملزمة للذي خلقها، كما يزداد الذين آمنوا إيمانا بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذه الحكمة هي حكمة مشتركة في جميع المعجزات. 2- تطمين الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن الله ناصره ومؤيده بمعجزة ملازمة له، يراها ويشعر بها صباحا ومساء. 3- إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ما يحدث خلفه، كإطلاعه على خشوع أصحابه، رضي الله عنهم، في الصلاة، وكذا جميع حركاتهم وسكناتهم، فقد يحتاج الأمر إلى تصويبها وتعديلها، وتنبه أخي القارئ إلى أن رؤيته صلى الله عليه وسلم توسع دائرة تكليفه من حيث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو لا يكلف بالذي يراه أمامه فحسب، بل بما يراه من خلفه أيضا. كما أن رؤيته صلى الله عليه وسلم من وراء ظهره، تضمن له ألا يغتال غيلة، كما يزيده شجاعة وإقداما، على عدوه في الحروب، وهو ما كان يحدث بالفعل. الفائدة الثانية: في كيفية تلك الرؤية، فقد ذكر ابن حجر، رحمه الله، في الفتح عدة أقوال عن غيره من العلماء، وقد أبطلها جميعا بدون محاجة أصحابها، ولذلك أحب أن أسردها هنا وأذكر حجتي في إبطالها فأقول وبالله التوفيق: 1- الرأي الأول: انطباع الصورة في حائط الجدار الذي أمامه صلى الله عليه وسلم، وهذا مردود عليه، بأنه لن يرى طالما ليس أمامه جدار، والحديث لم يقيد الرؤية بالجدار أو غيره، بل لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يقيد الرؤية بالصلاة أصلا. 2- الرأي الثاني: أنها رؤية لمن عن يمينه وشماله، ممن تدركه عينه من التفات يسير في النادر، وهذا القول يتعارض مع ظاهر الحديث؛ لأن الرؤية الناشئة عن التفاتة يسيرة عن اليمين أو الشمال، ليس فيها بالتأكيد رؤية من يقف في الخلف تماما، وليس فيها أيضا إلا رؤية أجزاء من الصف الأول، أما رؤية ما يلي الصف الأول، فهي مفقودة قطعا، وهذا تقييد بلا دليل ولا مسوغ؛ وذلك لعموم الرؤية التي وردت في الحديث، كما هو مناقض لرواية مسلم وفيها: «فو الله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم» فالذي يرى من خلفه بالتفاتة يسيرة لن يرى قطعا الساجدين خلفه في أثناء سجوده هو. 3- الرأي الثالث: يقول: إن المراد بالرؤية هنا العلم، إما بوحي أو إلهام. وهذا أيضا فيه منافاة لظاهر الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عدم خفاء الركوع والسجود إنما هو ناتج عن الرؤية، وقد قيد هذه الرؤية أنها من وراء ظهره، والإلهام والوحي إنما ينزل على القلب وليس من وراء الظهر، والغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكد أن الرؤية إنما هي من وراء ظهره بمؤكدين، هما «إنّ» في قوله «إني» ، واللام الموطئة للقسم في قوله: «لأراكم» ، كأنه صلى الله عليه وسلم يرد على من يتأول الرؤية. كما أن الرؤية لا تنزل منزلة الوحي، حتى تطلق إحداهما على الآخرى، فالوحي- بلا شك- أعظم من مجرد الرؤية، سواء في الإعلام بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من جهة تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لها، فالحاصل أنها لو كانت وحيا لكان ذكرها أولى ووقعها أعظم. وبعد تفنيد هذه الأقوال، نجزم قطعا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه، سواء بسواء. الفائدة الثالثة: في عضو الرؤية، أي هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بعين محسوسة من وراء ظهره. أقول: إن البحث في هذا الأمر من التكلف؛ لأنه من الغيب، الذي ليس فيه نص من كتاب ولا سنة، ولو كنا متعبدين أن نعرف عضو الإبصار، لبينته لنا السنة، غاية البيان كما بينت لنا الرؤية، ولكني هنا أرد على من قال: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائما، وعلى من قال: كانت له عينان بين كتفيه. وقد ذكر هذين القولين ابن حجر، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يعلق عليهما، وأنا أستبعد أن يكون هذا الكلام صحيحا، للأسباب التالية: 1- ورد في الصحيحين من حديث عائشة، رضي الله عنها، قول الرسول صلى الله عليه وسلم «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» «1» ، ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم، أكثر من عينين، لقال (إن أعيني تنام) وكيف لا يذكر ذلك، والكلام في سياق إظهار فضل الله عليه صلى الله عليه وسلم، كما أن الكلام سيكون مخالفا للواقع. 2- لو كانت له صلى الله عليه وسلم عينان وراء ظهره، لو صفهما الصحابة رضي الله عنهم ولنقل لنا وصفهما، فإنهم لم يتركوا شيئا يتعلق به صلى الله عليه وسلم إلا وصفوه، فكيف يصل إلينا وصف عرقه وشعره، ولا يصل إلينا وصف ما هو أعظم من ذلك، عينان هما له معجزتان ظاهرتان، ألم يصفوا لنا خاتم النبوة، وكان وراء ظهره، صلى الله عليه وسلم؟! ولو كانت له عينان محسوستان، ما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم لإخبار الصحابة رضي الله عنهم بهما بل وتوكيد الخبر- كما بينت- بمؤكدين لتتيقن قلوبهم. 3- لو كان عضو الإبصار هما عينان في ظهره أو بين كتفيه صلى الله عليه وسلم لتعذر عليه رؤية أصحابه أثناء سجوده وركوعه؛ لأن الظهر يكون في هذه الحالة متوجها إلى السماء، ولا يقابل من خلفه، بل ما استطاع صلى الله عليه وسلم أن يرى جميع من يصلي خلفه. ولذلك نقطع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه، رؤية عين حق، ونفوض تلك الكيفية لعلم الله، سبحانه وتعالى، فقد يكون الأمر أعظم من مجرد عينين من حيث قوة الإدراك وتمام الإحاطة، فمن حيث قوة الإدراك فهي ترى كل من يصلي بالخلف ولو كثروا، ومن حيث تمام الإحاطة، فهي عين لا يشترط فيها مقابلة المرأي. ولا يسعنا إلا أن نقول: سبحان الذي أبدع كل شيء خلقه وأحكم كل شيء شرعه. الفائدة الرابعة: إجلال وإكبار الصحابة، رضي الله عنهم، للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك لزيادة خشوعهم وسكونهم في الصلاة، لعلمهم أن خشوعهم لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك ما كان هناك داع أن يعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن خشوعهم وركوعهم لا يخفى عليه، بل يقسم لهم بالله على ذلك. ولا يقال: إن في هذا منافاة للإخلاص ومراقبة الله سبحانه وتعالى، فأحدنا قد يصلي بجوار أحد الأئمة الذين يجلهم فيشعر في نفسه بزيادة الخشوع والرهبة في الصلاة مما لو كان   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، برقم (1147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 يصلي بجوار صاحبه، وتحدث هذه الخشية والرهبة ولو كان هذا الإمام أعمى لا يبصر، وهذا- والله- مشاهد، عاينته بنفسي. الفائدة الخامسة: مع أن الخشوع محله القلب، إلا أن أثره يظهر على الجوارح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «لا يخفى عليّ خشوعكم» ، ما كان قطعا يقصد اطّلاعه على خشوع القلب بل على أثره الذي يظهر على الجوارح. يتفرع عليه، أن على المصلي أن يحافظ على سكون جوارحه؛ لأن ذلك يساعده على خشوع قلبه. وأما من يدعي خشوع قلبه، وجوارحه لا تسكن أثناء صلاته، فادعاؤه ادعاء كاذب وهو يدل أيضا على عدم تعظيمه للرب، تبارك وتعالى. الفائدة السادسة: لا يؤثر على خشوع النبي صلى الله عليه وسلم رؤيته ومراقبته للصحابة في ركوعهم وسجودهم أثناء صلاته، وأعتقد أن هذه مزية خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد. 9- تسليم الحجر عليه صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث إنّي لأعرفه الآن» «1» . هذا بلا شك معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسلّم عليه الحجر، خاصة أن هذا السلام كان قبل البعثة، وحكمة ذلك- والله أعلم- هي تهيئة النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة وأن تكون تلك الأمور بمثابة إرهاصات النبوة، وأن يوطن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على أن الله عز وجل قد خلقه لأمر عظيم وأنه ليس كبقية البشر، وقد بينت ذلك عند الحديث عن الرؤية الصالحة. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عناية الله سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم ليس بعد البعثة فحسب، ولكن قبل البعثة أيضا، وتدبر أخي القارئ أن سلام الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مرة واحدة، ولكن يبدو أنه تكرر كثيرا لقوله صلى الله عليه وسلم: «كان يسلم علي» . الفائدة الثانية: إرادة الله سبحانه وتعالى إظهار قدرته لنبيه صلى الله عليه وسلم خاصة، ولجميع خلقه عامة، إذ جعل حجرا يسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله لهذا الحجر تمييزا خاصّا يتعرف به على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل له صوتا مسموعا لإلقاء السلام يفهمه البشر، وأعتقد أن   (1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه، برقم (2277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الاختيار الإلهي لحجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كان لهذه الحكمة البالغة، وهي أن يعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة- بقدرة الله سبحانه وتعالى التي لا يمكن أن يتصورها البشر، ويوقن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله على كل شيء قدير. قال الإمام النووي- رحمه الله- في شرح الحديث ما نصه: (وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74] . وقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء: 44] وفي تفسير هذه الآية خلاف مشهور، والصحيح أنه يسبح حقيقة ويجعل الله تعالى فيه تمييزا بحسبه، ومنه الحجر الذي فرّ بثوب موسى صلى الله عليه وسلم، وكلام الذراع المسمومة، ومشي إحدى الشجرتين إلى الآخرى حين دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم وأشباه ذلك) . انتهى كلامه- رحمه الله- «1» . وإن تعجب أخي القارئ من حجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فالعجب أن جذع شجرة يئن كالطفل الرضيع من فراق النبي صلى الله عليه وسلم كما بينت في باب- حنين جذع الشجرة. 10- رؤيته جبريل على هيئته: عن مسروق قال: كنت متّكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على الله الفرية قلت ما هنّ قالت: من زعم أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية قال: وكنت متّكئا فجلست فقلت: يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] فقالت: أنا أوّل هذه الأمّة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّما هو جبريل لم أره على صورته الّتي خلق عليها غير هاتين المرّتين رأيته منهبطا من السّماء سادّا عظم خلقه ما بين السّماء إلى الأرض» . فقالت: أو لم تسمع أنّ الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] أو لم تسمع أنّ الله يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] «2» .   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 37) . (2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، برقم (177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الشاهد في الحديث: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: هناك اختلاف كبير بين سلف هذه الأمة في ثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء، فعائشة رضي الله عنها تنفي ثبوت الرؤية، بينما يثبتها حبر الأمة، ابن عباس، رضي الله عنهما، على اختلاف عند العلماء بقصده بالرؤية، هل هي رؤية عين، أم رؤية قلب، ولست ممن يستطيع الخوض في هذا الأمر ولكن أقول ردّا على من شكك في حجة عائشة رضي الله عنها في نفي الرؤية: 1- سؤال عائشة رضي الله عنها النبيّ عن هاتين الآيتين: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] إنما كان القصد منه التثبت من رؤية النبي لمولاه؛ لأن ظاهر الآيتين يوحي بذلك، كما فهمها مسروق راوي الحديث، وكان رد النبي، أن المرئي، هو جبريل عليه السلام، ولو كان النبي رأى ربه، لأخبر عائشة بعد أن أعلمها بالمقصود من الآيتين؛ لأنه من المؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم مقصود عائشة من السؤال، وهناك اتفاق على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم، ولماذا يخفي النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك الأمر العظيم على أقرب الناس إليه، بل أحبهم إلى قلبه، وحديث الباب كان بعد وفاة النبي، فهل يعقل ألا يحدثها بذلك طوال حياته، وهي أول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرؤية. 2- حجة عائشة، رضي الله عنها، في عدم الرؤية، لم تأخذه من قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] وإنما كان من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤالها، وأظن أنها أتت بهذه الآية للاستئناس فقط، أو أنها حملت الإدراك هنا على معنى الرؤية لاعتقادها الجازم باستحالة الرؤية في الدنيا، لتأكدها أنها لم تقع لخير البشر، وهذا ما جعلها تشتد على من يقول بها، أما استدلالها، رضي الله عنها، بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ [الشورى: 51] فهو استدلال في محله، ويقوي ما نعتقده. 3- يقوي ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها ما رواه مسلم عن أبي ذرّ قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربّك؟ قال: «نور أنّى أراه» «1» .   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: في قوله عليه السلام: نور أني أراه ... ، برقم (178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ولا نستبعد رؤية النبي ربه في الدنيا، والله سبحانه وتعالى، قادر على أن يخلق فيه ما يجعله قادرا على تحمّل هذه الرؤية، ولكن نحتاج إلى دليل صحيح صريح، يثبت الرؤية ويقوى على معارضة حديث الباب الصحيح الصريح. الفائدة الثانية: رؤية الله عز وجل في الآخرة، ثابتة في الكتاب والسنة، ولا ينكرها إلا مبتدع، أما في الكتاب، ففي قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] فنفي الأعلى يدل على إثبات الأدنى، فالآية بنفيها إدراك الله عز وجل، فقد أثبتت الرؤية؛ لأنها دون الإدراك، ولو أن الرؤية محالة في الآخرة، لنفاها الله عز وجل، ودخل الإدراك في النفي من باب أولى لأنه أعظم من الرؤية. ومن أدلة القرآن أيضا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22- 23] ، وقوله تعالى موبخا الكافرين: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، ولو حجب المؤمنون أيضا عن رؤية ربهم، لاشتراك المؤمنون والكافرون في هذا التوبيخ. ومن أدلة السنة، ما رواه البخاري عن جرير بن عبد الله قال: كنّا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة- يعني البدر- فقال: «إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامّون في رؤيته؛ فإن استطعتم ألاتغلبوا على صلاة قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها فافعلوا ثمّ قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] » «1» . الفائدة الثالثة: تعظيم عائشة رضي الله عنها لحرمات الله؛ لأنها لما سمعت ما تعتقد أنه ينافي تنزيه الرب تبارك وتعالى، قالت في رواية في الصحيح: (لقد قفّ شعري) ، وقالت في الرواية التي معنا (لقد أعظم على الله الفرية) ، أي أنها اتهمته بأعظم القبائح وما ذلك إلا لتعظيمها ربّها. الفائدة الرابعة: حرص عائشة رضي الله عنها، على تعلم العلم والسؤال عما يستشكل عليها، وأنها تسبق الأمة في السؤال، لقولها: (أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، كما أن من فقهها أيضا استدلالها على عدم الرؤية بقول الله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] ، فرأت أن الآية عامة في كل أحد، فلا يمكن إثبات الرؤية في الدنيا   (1) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر، برقم (554) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 إلا بدليل من كتاب أو سنة، فلما انعدم الدليل عندها انعدمت الرؤية. الفائدة الخامسة: عظم خلق الملائكة، خاصة جبريل عليه السلام، وذلك من قوله: «سادّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» ، ويتفرع على ذلك أن نعلم عظيم قدرة الله على الخلق والإيجاد، وإذا كنا لا نستطيع أن نتصور قدرته في خلق جبريل على هذا القدر من العظم، فكيف لنا أن نتصور ذاته أو حتى نتفكر فيها. فسبحان الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا. الفائدة السادسة: رؤية النبي لجبريل على هيئته التي خلقه الله بها، من صور إكرام الله سبحانه وتعالى لنبي هذه الأمة؛ لأن الآيات ذكرت هذه الرؤية في معرض الحديث عما تفضل الله به على نبيه، ومن ثمّ فقد أتيت بها ضمن شمائله صلى الله عليه وسلم. 11- أعطي مفاتح خزائن الأرض: عن عقبة بن عامر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت ثمّ انصرف إلى المنبر فقال: «إنّي فرط لكم وأنا شهيد عليكم، وإنّي والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإنّي أعطيت مفاتيح خزائن الأرض- أو مفاتيح الأرض- وإنّي والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض» . قال الإمام النووي- رحمه الله- وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض وقد وقع ذلك، وأنها لا ترتد جملة، وقد عصمها الله من ذلك وأنها تتنافس في الدنيا، وقد وقع كل ذلك. انتهى «2» . وأقول: في الحديث بشرى عظيمة لأمة الإسلام، وهي أنها ستفتح كل أقطار المعمورة، بلا استثناء، وأعتقد أن ذلك بتمامه لم يقع بعد، فهناك بعض الأقطار لم يفتحها المسلمون. كما أن في الحديث دلالة على منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه من وجوه وهي: 1- إعطاؤه مفاتيح خزائن الأرض في حياته صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه الفتوحات وهذا التمكين   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، برقم (1344) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لم يحدث إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، إعلاما له ولأمته صلى الله عليه وسلم أن هذا التكريم والفتح العظيم هو إكرام له في الحقيقة. 2- رؤيته صلى الله عليه وسلم الحوض، وهو على منبره، قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن» : هو على ظاهره وكأنه كشف له عنه في تلك الحالة «1» . 3- حفظ الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك بعده، وهي بشرى عظيمة له صلى الله عليه وسلم في حياته بأنه دينه سيبقى إلى يوم القيامة. وغير ذلك من قبول الله لشهادته صلى الله عليه وسلم في كل أمته من رآه ومن لم يره. مع إذن الله له أن يسبق أمته إلى الحوض ليكون كالمستقبل لهم والمرحّب بهم، إكراما لعموم هذه الأمة. 12- إمامة الأنبياء: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قطّ، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلّي فإذا رجل ضرب جعد كأنّه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم عليه السّلام قائم يصلّي أقرب النّاس به شبها عروة بن مسعود الثّقفيّ، وإذا إبراهيم عليه السّلام قائم يصلّي أشبه النّاس به صاحبكم- يعني نفسه- فحانت الصّلاة فأممتهم، فلمّا فرغت من الصّلاة قال قائل: يا محمّد هذا مالك صاحب النّار فسلّم عليه فالتفتّ إليه فبدأني بالسّلام» «2» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فحانت الصلاة فأممتهم» . وهذه الواقعة قد حدثت في ليلة الإسراء والمعراج حيث إنها وردت في سياق حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال المشركين له عن أوصاف بيت المقدس، كما ورد في حديث الباب، ولا يهمني هنا أن أسرد كلام العلماء عن توقيت هذه الواقعة في تلك الليلة المباركة، أي: هل حدثت الصلاة بالأنبياء جماعة بعد عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أم قبل العروج، ولكن الذي   (1) انظر فتح الباري (3/ 211) . (2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، برقم (172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يهمني هو أن يعلم كل مسلم أن نبيه صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأنبياء إماما، وفيهم من فيهم من أولي العزم من الرسل، حيث ورد في الحديث أن فيهم إبراهيم وموسى وعيسى، صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، ومعلوم أنّ من السنة أن يؤم القوم أعلمهم، فهو دليل قطعي على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل جميعا، وقد بينت ذلك في مواضع مختلفة من هذا الكتاب فلله الحمد والمنة على ما تفضل به على نبينا صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت كل أمة من الأمم السابقة قد ادعت كذبا وزورا انتسابها إلى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لشرفه وإمامته، فحقيق بأمة الإسلام أن تفتخر وتتباهى وترفع عقيرتها بين سائر الأمم أنها تنتسب صدقا إلى أمة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم الذي صلى الخليل وراءه مأموما، شريطة أن يكون هذا الانتساب بالقول والعمل لا بالقول وحده. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: حياة البرزخ وأحوالها تختلف تماما عن الحياة الدنيا وأحوالها، فلا تقاس حياة البرزخ على حياة الدنيا، ولذلك لا مجال لإيراد إشكالات قد تدور في أذهان بعض المسلمين مثل: كيف رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره ثم رآه في السماء الخامسة ثم صلى به إماما ببيت المقدس. وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة. الفائدة الثانية: للأنبياء- عليهم السلام- حياة خاصة بعد انتقالهم من الحياة الدنيا، وأن أعمالهم الصالحة تتواصل ولا تنقطع بانقطاعهم عن الحياة الدنيا وهذا من فضل الله عليهم وتميزهم عن سائر الخلق. ويتفرع على ذلك أن الأنبياء لا يدخلون في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة» «1» ، وأن أعمالهم الصالحة لا تقتصر على أعمالهم في حياتهم الدنيا. الفائدة الثالثة: في الحديث فضيلة ظاهرة لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهى أن أشبه الناس به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبالمناسبة أقول: إن للخليل صلى الله عليه وسلم فضيلة أخرى عظيمة، وهى أن الله عز وجل، ما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة نبي بعينه إلا إبراهيم الخليل حيث قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .   (1) رواه مسلم، كتاب الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فإن قيل: ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح؟ بمعنى: أن الشبه في الخلقة والأمر بالاتباع في الملة هما فضيلتان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قلت: لا، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من الخليل صلى الله عليه وسلم إجماعا، فتكون الفضيلة للمفضول إذا كان الفاضل يشبهه أو أمر باتباعه. الفائدة الثالثة: إرادة الله سبحانه وتعالى الشرعية والكونية في إظهار فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بهم إماما، وفي ذلك غاية التشريف والتكريم له صلى الله عليه وسلم، كما تتضمن هذه الإرادة الإلهية إعلام الأنبياء أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو إمامهم وأتقاهم وأعلمهم بالله تبارك وتعالى. ويتفرع على ذلك أن الأنبياء لو قدر لهم أن يجتمعوا في عصر واحد ما وسعهم إلا أن يتبعوا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، حيث رضى الله عز وجل وقدر أن يكون صلى الله عليه وسلم هو إمامهم في أعظم وأجل العبادات وهى الصلاة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] . وأكتفي بنقل ما ذكره الشيخ السعدي- رحمه الله- في تفسير الآية، حيث قال ما نصه: (فكل الأنبياء لو أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم) . انتهى. وأقول: لا استبعد أن يكون رضى الأنبياء بالصلاة مأمومين خلف النبي صلى الله عليه وسلم وتسليمهم بأحقيته صلى الله عليه وسلم في الإمامة يدخل ضمن الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليهم. وأود أن أبين ما عناه الشيخ السعدي- رحمه الله- بقوله: (فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته..) فالشاهد في الآية أن كل نبي من لدن آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام قد أخذ الله عليهم العهد بنصرة واتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، إلا هو صلى الله عليه وسلم فلم يؤخذ عليه مثل هذا العهد، فلم يؤمر باتباع أو نصرة أي نبي حيث إنه صلى الله عليه وسلم خاتمهم. الفائدة الرابعة: قال القاضي عياض- رحمه الله- في صلاة إبراهيم عليه السلام: (وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الذكر والدعاء وهي من أعمال الآخرة) «1» . انتهى، ولكني أرجح- والله تعالى أعلم- أنها صلاة حقيقية وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا إبراهيم قائم يصلي»   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 238) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فالقيام هو ألصق صفة بالصلاة المعروفة لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة: 238] عكس الدعاء والذكر لا يشتهر عنهما تلك الصفة، ثم إن لفظ الحديث يجب ألا يصرف عن معناه الشرعي إلى المعنى اللغوي إلا بدليل أو مسوغ، وحيث فقد الدليل أو المسوغ في الحديث وجب الأخذ بالمدلول الشرعي للفظ. الفائدة الخامسة: بيان أن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ناسخة لكل شرائع الأنبياء من قبله، حيث إنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم قطعا بالصلاة التي علمه الله إياها وفرضها عليه، فدل ذلك أن شريعة الإسلام قد هيمنت على كل الشرائع السابقة، وقد تكون من حكمة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء بيان هذا النسخ وإعلامه للخلق، وقد تكون من ضمن حكم هذه الصلاة تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء الصلاة التي فرضها الله عليه، ليتقربوا بها إلى الله، والدليل أن هذه الصلاة هي الصلاة المفروضة علينا- في أول البعثة- قوله صلى الله عليه وسلم: «فحانت الصلاة» أي أنها صلاة لها وقت محدد، ولا نعلم في الشرع صلاة لها وقت محدد إلا الصلاة المفروضة. الفائدة السادسة: بيان أن مالك- عليه السلام- هو خازن النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: 77] ، وفيه فضيلة السلام وأن المفضول هو الذي يبدأ الفاضل بالسلام وأن للملائكة أسماء يسمون بها، أطلعنا الله على بعضها، ولكن لا نجزم أن لكل واحد منهم اسما لعدم ورود دليل على ذلك. 13- قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12] . عن سعد قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل عليهما السّلام «1» . رواه مسلم، وفي رواية «يقاتلان عنه أشد القتال» . وعند البخاري: عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشدّ القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد «2» .   (1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب: في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، برقم (2306) . (2) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران: 122] ، برقم (4054) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قال الإمام النووي- رحمه الله.: (فيه بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه وبيان أن الملائكة تقاتل، وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر. وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاصه، وفيه فضيلة الثياب البيض وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء بل يراهم الصحابة والأولياء وفيه منقبة لسعد بن أبي وقاص الذي رأى الملائكة) . انتهى «1» . وإن كان لي أن أضيف شيئا إلى كلام الإمام النووي- رحمه الله- فأود أن ألقي الضوء على مظاهر تشريف الله سبحانه وتعالى لنبيه والتي تظهر جليلة في: 1- قتال جبريل وميكائيل- عليهما السلام- عن يمين وشمال النبي صلى الله عليه وسلم، أبلغ دليل على مدى اعتناء المولى سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، كما أنه دليل على أن الملكين- عليهما السلام- نزلا خصيصا لحمايته والدفاع عنه، وإلا لقاتلا في أي من صفوف الجيش، ودليله قول الراوي (ومعه رجلان يقاتلان عنه) . 2- كان يمكن أن يعمي الله عز وجل أعين الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة، فلا يحتاج لمن يقاتل دونه، ولكن الله عز وجل أراد أن يؤيد النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة حسية يثبّت بها فؤاده ويعلم بها رعاية الملأ الأعلى له، ويراها الصحابة عيانا فيعرفوا قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم عند ربهم ويزدادوا بها إيمانا مع إيمانهم ويتحقق نفس الشيء بالنسبة لنا. فالحمد على ما أنعم به وتفضل. 3- لم تكن غزوة أحد هي الغزوة الوحيدة التي قاتلت فيها الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها قاتلت من قبل في غزوة بدر الكبرى، ونزل بذلك قرآن يتلى، قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12] . وأود أن أبين بعض اللفتات الجميلة في تلك الآية الكريمة ليتبين للقارئ مدى اعتناء المولى سبحانه وتعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. اللفتة الأولى: بدأ الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات معية الله الخاصة للملائكة المأمورين بالقتال في الغزوة، قال تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال: 12] وإعلام الله الملائكة بهذه المعية الخاصة قبل أمرهم بالقتال، إما لحثهم على القتال أبلغ الحث أو طمئنتهم أن الله ناصرهم، وأن هذه   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الغزوة هي لله وبأمر الله وهي تجري على أعين الله، وأن الله يريد أن ينصر فيها محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه، وقد يكون نزول الملائكة لأسباب وحكم أخرى يعلمها هو سبحانه وتعالى. اللفتة الثانية: بينت الآية أن قتال الملائكة في الغزوة كان بأمر من الله عز وجل، لقوله تعالى: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] بل الغريب في الآية أن يوضح المولى سبحانه وتعالى للملائكة المواضع التي تضرب من هامات المشركين، فلا يترك للملائكة الاجتهاد في ذلك، وهذا من أظهر مواطن اعتناء المولى سبحانه وتعالى بتلك الغزوة. وحدوث البركة قطعا في ضرب الملائكة لتلك المواضع من هامات المشركين لأنها بأمر الله. اللفتة الثالثة: بيّن الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة عمل الملائكة، وهو تثبيت المؤمنين والقتال معهم، وعمله سبحانه وتعالى، هو إلقاء الرعب في صفوف المشركين، ولنا أن نتخيل خصمين في غزوة واحدة، الخصم الأول قد ثبّت الله أركانه وقوّى عزائمه بأن جعل الملائكة تقاتل معه أشد القتال وذلك بضرب رقاب ومفاصل عدوه، والخصم الثاني قد ثبط الله عزائمه وزلزل أركانه بأن ألقى في قلبه الرعب، فلأي الفريقين تكون الغلبة والنصر؟!. 14- إعلامه صلى الله عليه وسلم بكثير من أمور الغيب: عن سهل بن سعد السّاعديّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلمّا مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذّة إلّا اتّبعها يضربها بسيفه فقالوا: ما أجزأ منّا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنّه من أهل النّار» فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدا قال فخرج معه كلّما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال: فجرح الرّجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت؛ فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثمّ تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرّجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنّك رسول الله قال: «وما ذاك؟» قال: الرّجل الّذي ذكرت آنفا أنّه من أهل النّار، فأعظم النّاس ذلك فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه حتّى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثمّ تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إنّ الرّجل ليعمل عمل أهل الجنّة فيما يبدو للنّاس وهو من أهل النّار وإنّ الرّجل ليعمل عمل أهل النّار فيما يبدو للنّاس وهو من أهل الجنّة» «1» . (رواه مسلم) .   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم (112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على رجل، أعجب أصحابه بقتاله وشجاعته أنه من أهل النار، وقد تحققت علامات ذلك عيانا للصحابة، وهذا من أعظم دلائل نبوته، أن ينبّأ بخاتمة أحد، ظن الناس أنه من أهل الجنة لعمله الصالح فيما يبدو لهم، وقد فهم الصحابة أن هذا الحكم على الرجل، بفعل سيفعله قبل موته يوجب له النار، لذلك اتبعه أحد الصحابة ليعلم أسباب سوء خاتمة الرجل، ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، يوحى إليه من ربه، ما تجرأ وحكم على الرجل في حياته بأنه من أهل النار. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: قد يوفق الإنسان إلى أعمال تتشابه صورتها مع الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها، سواء في غزو أو نصح أو قراءة للقرآن أو بذل مال للمحتاجين والمساكين أو إعانة ضعيف، ولكن مع أن هذه الأعمال تشابه صورتها الأعمال الطيبة، وينظر الناس إليها نظر المعجبين بها، والمثنين على صاحبها، الغابطين له، إلا أن الله عز وجل، لا يحبها ولا يتقبلها، بل يردها في وجه صاحبها، لتخلف أحد شروط العمل الصالح المقبول، بل يعاقبه عليها. ونتعلم من ذلك عدم الحكم بأن الله عز وجل يحب فلانا لأعماله الكثيرة الخيرة، أو أن نثني عليه ونبالغ في الثناء جازمين، بل قد نتجرأ ونحكم أنه من أهل الجنة، كما نتعلم ضرورة أن نفتش في أعمالنا ونياتنا دوما، لنصلح من الاتباع والإخلاص، ونعلم أن الشيطان حريص على أن يفسد علينا أعمالنا، خاصة أهل العلم والتقوى والصلاح. الفائدة الثانية: على المسلم أن يعمل، ويجتهد في عمله، ويسأل الله، عز وجل، دوما الثبات في الأمر وحسن الخاتمة، وألا يعجب بعمله ولا يركن له، ويعتقد أن عمله سيدخله الجنة، وينجيه من النار؛ لأنه ورد في رواية عند البخاري: «وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» «1» ويصدق ذلك ما (رواه البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن ينجّي أحدا منكم عمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة؛ سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدّلجة، والقصد القصد   (1) رواه البخاري، كتاب القدر، باب: في القدر، برقم (6594) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تبلغوا» «1» ، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء، يدعون الله لأنفسهم بدخول الجنة والنجاة من النار، وهم الذين يعلمون مكانتهم عند الله، ولكنه التزام الأدب، وإعلان كامل الافتقار لله عز وجل. الفائدة الثالثة: إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أمور الغيب، كان سببا في زيادة إيمان الصحابة رضي الله عنهم، حيث قال الصحابي لما عاين وتحقق مما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق الرجل الذي قتل نفسه، (أشهد أنك رسول الله) ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابي إنما قال تلك المقولة بسبب زيادة إيمانه بما رأى من معجزاته. الفائدة الرابعة: يتفرع على ما سبق، أن على المؤمن أن ينظر ويتأمل ويتدبر، في المعجزات التي وردت في السنة الصحيحة باختلاف أنواعها؛ لأنها من أسباب تقوية إيمان العبد، وقد يكون هذا الجانب من أسباب قوة يقين الصحابة أكثر من غيرهم؛ لأن من رأى ليس كمن سمع. الفائدة الخامسة: على المؤمن أن يعمل على تقوية إيمانه، ويجعله عملا بعد علم، وأن يقره في قلبه بعد أن استقر في عقله، ويعود نفسه وجسمه على تحمل الصعاب، ويبتعد عن الترف الزائد، ولو لفترات من حياته، وعليه ألا يهتم بالظاهر دون الباطن، تعويدا لنفسه لما قد يلاقيه من محن وابتلاآت من الله عز وجل، ويحرص أن تأتي هذه المحن على قلب ثابت راسخ عامر بالإيمان؛ لأن هذا الرجل الذي ذكر في حديث الباب، قد استعجل الموت وقتل نفسه لمجرد أنه ابتلي، فكان من أهل النار، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] ، فذم الله تبارك وتعالى هذا الصنف من الناس، الذي يرتد على عقبيه مع نزول الفتنة، وبينت الآية عاقبته في الدنيا والآخرة، وما ذلك إلا أنه ضعفت عبادته فضعف إيمانه، ومن ضعف إيمانه، كان حاله كمن يقف على شفير، مع أول هزة يهوي في الهاوية، وهذا درس لنا جميعا أن العبادة لها عامل عظيم في تربية النفس، فكلما كانت خالصة لوجه الله تبارك وتعالى، لا يريد بها ثناء الناس، ولا وجاهة الدنيا، مع موافقة تلك العبادة لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أدّت تلك العبادة إلى تقوية الإيمان في القلوب. الفائدة السادسة: هل من علامات يعرفها العبد من نفسه يستدل بها على ثباته إذا تعرض للفتنة؟   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل، برقم (6463) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أقول: يجرب العبد نفسه فيما يقدر عليه الآن، فإذا رأى نفسه لا يستطيع أن يصدق القول إن كان على نفسه، ولا يمسك لسانه عن الخوض في أعراض الناس، ويجد شهوته في أكل لحوم إخوانه بالغيبة والنميمة، ولا يفي بالوعد، ولا يعطف على الصغير ولا يوقر الكبير، وإذا رأى من نفسه عدم الصبر على الأمور البسيطة، التي لا تتطلب أدنى مجاهدة، وإذا شح بحقوق الآخرين التي في ذمته، ومن قبل ومن بعد، إذا تكاسل عن أداء العبادات، فلا يؤمل أن يصبر عند الشدائد، أو يثبت عند المصائب؛ لأن الإنسان إذا سقط في السهل كان سقوطه في الصعب آكد. الفائدة السابعة: لا يجوز للأطباء أن يستعجلوا وفاة أحد المرضى، مهما بلغ وجعه، ولو كان ميؤسا من شفائه؛ لأن الرجل الذي معنا ما أقدم على الانتحار، إلا لأنه جرح جرحا شديدا، فكان انتحاره من علامات سوء الخاتمة. وشواهد إخبار النبي بأمور الغيب- التي أطلعه الله عليها- أكثر من أن تحصى، وقد ورد في ثنايا هذا الكتاب أحاديث كثيرة تشهد بذلك، وسأورد هنا مثالين اخترتهما لبيان أن إخبار النبي بأمور الغيب كان من أعظم صدق دلائل نبوته، فالحديث الأول والذى أخبر فيه النبي بانتشار الإسلام وظهوره وتمكنه في الأرض كان قبل الهجرة، والمسلمون في غاية الضعف، بل يعذبون وينكل بهم غاية التنكيل، أما الحديث الثاني فقد أخبر فيه النبي بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة، في خطبة استغرقت نهارا كاملا، من صلاة الفجر حتى صلاة المغرب، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي قد عاينوا وعايشوا الكثير من وقائع تلك الأخبار، خاصة ما يتعلق بالفتن، ولولا صدق النبي فيما يخبر به عن ربه، وتأييد المولى سبحانه وتعالى له، لحدث اختلاف كثير بين ما قال وما حدث. الحديث الأول: عن خبّاب بن الأرتّ قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون» «1» .   (1) رواه البخاري، كتاب الإكراه، باب: من اختار الضرب والقتل ... ، برقم (6943) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الحديث الثاني: عن عمرو بن أخطب قال: (صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتّى حضرت الظّهر فنزل فصلّى، ثمّ صعد المنبر فخطبنا حتّى حضرت العصر، ثمّ نزل فصلّى، ثمّ صعد المنبر فخطبنا حتّى غربت الشّمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا) «1» . رواه مسلم. وعند البخاري عن طارق بن شهاب قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: قام فينا النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتّى دخل أهل الجنّة منازلهم وأهل النّار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه «2» . وعنده أيضا، عن حذيفة رضي الله عنه قال: لقد خطبنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام السّاعة إلّا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشّيء قد نسيت فأعرف ما يعرف الرّجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه «3» . 15- استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم: أ - استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: المثال الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أمّ حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أمّ حرام تحت عبادة بن الصّامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة- أو مثل الملوك على الأسرّة» - شكّ إسحاق- قالت فقلت: يا رسول الله؟ ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ وضع رأسه ثمّ استيقظ وهو يضحك، فقلت وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله ... » كما قال في الأوّل قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: «أنت من الأوّلين» فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابّتها حين خرجت من البحر فهلكت.   (1) رواه مسلم، كتاب: الفتن، باب: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، برقم (2892) . (2) رواه البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27] ، برقم (3192) . (3) رواه البخاري، كتاب: القدر، باب: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب: 38] ، برقم (6604) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للصحابية أم حرام بنت ملحان، أن تركب البحر غازية في سبيل الله فدعا لها، واستجاب الله دعاءه فغزت هذه الصحابية في زمن الخليفة الراشد- على أحد القولين- عثمان بن عفان، وصرعت عن دابتها في قبرص، وكان معها زوجها الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وقيل: غزت في زمن معاوية رضي الله عنه، ولا يهمنا في هذا البحث في أي زمن غزت، ولكن الذي يهمنا أن الله استجاب دعاء نبيه، ونالت المرأة شرف الغزو في سبيل الله، ثم الشهادة في سبيل الله عز وجل. وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: نجزم قطعا أن أم حرام، كانت محرّمة تحريما أبديّا على النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان يدخل عليها، وينام عندها، بل كانت تفلي رأسه صلى الله عليه وسلم، والذي جعلنا نجزم بذلك حديث عائشة رضي الله عنها عن بيعة النبي للنساء، والذي رواه مسلم «1» وفيه: قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا الشّرط منهنّ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك» كلاما يكلّمها به، والله ما مسّت يده يد امرأة قطّ في المبايعة وما بايعهنّ إلّا بقوله. وهذا موضع اتفاق بين العلماء، كما ذكر النووي في شرحه للصحيح، وقد ذكر أيضا اختلاف العلماء في سبب التحريم. الفائدة الثانية: رؤيا الأنبياء حق، وليس للشيطان فيها مجال؛ لأن النبي رأى- وهو نائم- ناسا من أمته يغزون، فقام وهو يضحك، وما كان ذلك إلا لعلمه أن هذا وحي من الله، وهو متحقق لا محالة. الفائدة الثالثة: فرح النبي بما سيفعله أفراد من أمته- من بعده- من أنواع الطاعات، والدليل على ذلك أنه ضحك فرحا وسرورا، ورضى بهذا الغزو والذي يحبه الله، ولا شك أن من أسباب فرحه بطاعة من بعده، أن له في ذلك أجرا ومثوبة من الله، وأن كل نصر لأمته فهو نصر له. الفائدة الرابعة: حرص الصحابة على التعلم من النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامهم بجميع شئونه؛ لأنهم يعلمون أن كل أعماله لهم فيها سنة وتأسّ، بل كان ذلك وحيا من الله، حتى نقلوا للأمه ضحكه صلى الله عليه وسلم.   (1) رواه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: كيفية بيعة النساء، برقم (1866) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الفائدة الخامسة: ما كان عليه الصحابة من الأدب مع رسول الله، فهذه المرأة محرم للنبي صلى الله عليه وسلم، وينام عندها، فقد تتساهل في الكلام معه، خاصة وقت الانبساط، ولكن هذا لم يحدث من جهة الصحابة، رضي الله عنهم، لما يعلمون من عظيم حقه، وأنهم تأدبوا بتأديب الله إياهم، لما قال لهم في محكم التنزيل: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . ودليله من الحديث أن أم حرام قد نادت الرسول أربع مرات في هذه المحادثة القصيرة جدّا، وفي كل مرة تقول له: (يا رسول الله) ولم تناده ولو مرة واحدة خطأ (يا محمد) أو (يا ابن عبد الله) كما يحلو للبعض أن يسميه، وفي هذا الأخير مجافاة وسوء أدب مع مقام النبوة. الفائدة السادسة: أطلع الله عز وجل نبيّه على كثير من أمور الغيب، ومنها ما حدث بعد مماته؛ بعضها رآها وعلمها على وجه التفصيل لا الإجمال، كما سيأتي- إن شاء الله- في بابه. الفائدة السابعة: يشترط للغزو أن يكون في سبيل الله، حتى يرضى الله عز وجل عنه، ويرضاه نبيه صلى الله عليه وسلم حيث إنه علل ضحكه أنهم يغزون في سبيل الله، ولو لم تكن النية والاحتساب شرطا لصحة الأعمال وقبولها ما كان لذكرها في الحديث فائدة، وهذا مما يعلم من الدين بالضرورة. الفائدة الثامنة: بيان الأمانة التي كان عليها رواة الأحاديث النبوية، الذين بهم حفظ الله سنة نبيه، فقد شك فيه الراوي، هل قال النبي: ملوكا على الأسرة أو قال: كالملوك على الأسرة؟ فلم يستح الراوي أن يقرّ أنه قد شك في اللفظ، ولم يدفعه حب ثناء الناس على حفظه، ألا ينص على الشك، حتى لا يكذب على نبيه، تخوفا أن يشمله وعيد الكذب عليه، لما (رواه البخاري) في صحيحه. عن عليّ قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تكذبوا عليّ فإنّه من كذب عليّ فليلج النّار» «1» . مع أن الاختلاف في هذا اللفظ الذي شك فيه الراوي يسير جدّا بالنسبة لعقولنا، ولكن دفع الرواة إلى ذلك حرصهم على حفظ سنة نبيهم، وعلى أداء الأمانة التي حملوها على أكمل وجه، فما بالنا بأقوام، يشار إليهم بالبنان، لا يتحرجون من الكذب الصريح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتون بأحاديث أبعد ما تكون عن كلام النبوة بل عن كلام الصحابة، ولا   (1) رواه البخاري، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 عذر لهم في كونهم لا يعلمون أن هذا ليس بحديث؛ لأن عليهم أن يتحروا الصدق في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويثبتوا قبل أن يتكلموا، وإلا ضاعت السنة بحجة عدم علمنا بالصحيح من الموضوع. فعلى الشيوخ وطلبة العلم، بل وعوام الناس، أن يتقوا الله فيما ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالكذب عليه ليس كالكذب على غيره. كما ورد في الصحيح. الفائدة التاسعة: حرص الصحابة أن تنالهم بركة دعاء النبي، لعلمهم أن دعاءه مستجاب من الله عز وجل، وقد حدث هذا من الصحابة في مواضع كثيرة. الفائدة العاشرة: في الحديث الحكم للصحابية أم حرام بالشهادة في سبيل الله حيث إنها طلبت من النبي أن يدعو الله أن يجعلها منهم، أي من الذين يغزون في سبيل الله، فلما قال لها النبي: إنها من الأولين، علمنا أنها ستغزو سيكون غزوها في سبيل الله لأن مجرد الخروج للغزو ليس له فضيلة إلا أن يكون في سبيل الله، وفي الجملة فهي منقبة عظيمة لأم حرام لأنها غزت، وكان غزوها في سبيل الله، والأجمل أن هذا كان ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم. الفائدة الحادية عشرة: في الحديث تلميح من النبي أن أم حرام ستموت في الغزوة الأولى؛ لأنها لما طلبت من النبي الدعاء لها أن تشهد الغزوة الثانية قال لها: «أنت من الأولين» أي أنها لن تحضر الغزوة الثانية. فما السبب؟ السبب هو الشهادة في الغزوة الأولى. الفائدة الثانية عشرة: على المسلم أن يستكثر من الخير، والزيادة في الطاعات، وعليه أن يدعو الله كثيرا، ويعلم أن الله لن يمل بدعائه؛ لأن أم حرام لم يقتصر طلبها على شهود الغزوة الأولى، بل طلبت الثانية، وأمّلت في الله خيرا، فعلمنا أن طلب الزيادة من الخير مشروع، بل نقول: إنه محبوب إلى الله عز وجل. الفائدة الثالثة عشرة: جواز أن نقول على الذي يموت في سبيل الله، ومن هو أدنى منه، من باب أولى: هلك أو صرع، وهذه اللفظة ليست للكافر أو الذي يموت عاصيا. المثال الثاني: عن الجعيد قال: (سمعت السّائب يقول: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ ابن أختي وجع؛ فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثمّ توضّأ فشربت من وضوئه وقمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النّبوّة بين كتفيه مثل زرّ الحجلة) «1» .   (1) رواه البخاري، كتاب: المرض، باب: من ذهب بالصبي المريض ليدعى له، برقم (5670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفي إحدى روايات البخاري أيضا: (عن الجعيد بن عبد الرّحمن رأيت السّائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا فقال: قد علمت ما متّعت به سمعي وبصري إلّا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنّ خالتي ذهبت بي إليه، فقالت: يا رسول الله إنّ ابن أختي شاك، فادع الله له، قال: فدعا لي) «1» . الشاهد في الحديث: قول السائب بن يزيد: (فمسح رأسي ودعا لي بالبركة) ، والمناسبة التي قال فيها السائب هذا الكلام، أن الجعيد بن عبد الرحمن رآه وقد بلغ السائب الأربع والتسعين سنة، وهو ما زال جلدا معتدلا، فبرر له ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- عظيم بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث دعا للسائب بالبركة، فكان من أثر ذلك الدعاء، أن بلغ السائب أربعا وتسعين سنة، وهو ما زال جلدا (أي قويّا صلبا) معتدلا، أي لم تظهر عليه علامة من علامات الشيخوخة، مثل انحناء الظهر وضعف السمع والبصر أو تجاعيد الوجه، ودليله ما قاله التابعي، الجعيد بن عبد الرحمن: (رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا) . 2- ثبوت بركة النبي صلى الله عليه وسلم في يديه الشريفتين ودعائه وفضلة وضوئه، وهو بقية الماء الذي يغترف فيه ليتوضأ منه، ولولا بركة هذا الماء، ما أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحابة الشرب منه. 3- شفقته بالأطفال، خاصة المرضى منهم، حيث مسح صلى الله عليه وسلم على رأس السائب بن يزيد، وكان عمر السائب وقتها ثمان سنين، والمسح على رأس الصبي فيه اللفتة الحانية مع حدوث البركة منه صلى الله عليه وسلم، وما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بل جمع له مع المسحة الدعاء بالبركة، وهي شفقة على شفقة، ولا يخفى على أحد تواضعه صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعة، وأشباهها كثير. الفائدة الثانية: مناقب السائب بن يزيد رضي الله عنه: 1- نال في جزء يسير من الزمن عدة بركات من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المسح على الرأس والدعاء له بالبركة وشرب فضلة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فكم من الصحابة تجمع له كل ذلك   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: كنية النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3540) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الفضل في يوم واحد؟ وهي منقبة عظيمة للسائب بن يزيد، وللأسف الشديد فإن كثيرا من المسلمين الآن يجهلون حتى اسمه. 2- عظيم البركة التي حلت في حياة السائب بن يزيد، من يوم أن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره أقل من ثمان سنوات حتى بلغ الرابعة والتسعين من عمره، ونعتقد أن البركة حلت في عمله وصحته وماله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بالبركة، هكذا عامة، فشملت جميع أنواع البركة، حيث إن طول العمر بدون صلاح العمل وبركة المال، لا ينفع صاحبه، ويكفي للدلالة على ذلك أنه بلغ هذا السن وما زال يروي الحديث. ونلفت انتباه القارئ الكريم إلى أن الصحة التي تمتع بها السائب بن يزيد مع طول عمر في قوة واعتدال، لم تكن معروفة في زمن الصحابة، وإلا ما قال التابعي، الجعيد بن عبد الرحمن: رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا، ولما برر السائب أسباب هذه القوة. 3- حسن وفائه للنبي صلى الله عليه وسلم واعترافه بفضله بعد أن بلغ مثل هذا السن، لقوله: (لقد علمت ما متّعت به سمعي وبصري إلا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ويتفرع عليه، جواز نسبة النتائج إلى مسبباتها الظاهرة، ولا يحتاج الأمر في كل مرة أن نقول مثلا: (بفضل استجابة الله لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم) خاصة إذا كان السامع يوقن تماما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعا الله وحده، وأن الله سبحانه وتعالى هو مقدر كل شيء، وهو وحده الذي يسمع الدعاء ويجيب النداء، وأنه لا يقدر أحد غيره على إيصال نفع أو دفع ضر. الفائدة الثالثة: ما كان عليه الصحابة، رضي الله عنهم، من الحرص على الخير لهم ولمن يعولون، لقول السائب: (إن خالتي ذهبت بي ليلة فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي شاك فادع الله له) ، مع يقينهم الراسخ بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله عز وجل يستجيب له كل دعاء في المسلمين. ويظهر من ذلك أيضا عقيدتهم الصافية في علمهم أن المدعو هو الله وحده لقولها: (فادع الله له) ، فقد تعلموا أن على العبد الدعاء وعلى الله الإجابة، وأن الناس تتفاوت في استجابة الله سبحانه وتعالى لدعائهم بقدر ما عندهم من الإيمان وشدة اليقين والتقرب إلى الله بما يحب من الطاعات، ولولا علمهم بذلك ما ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب الدعاء، ولدعوا لأنفسهم، ولا يعني هذا أن المسلم لا يدعو لنفسه خاصة بعد انقضاء زمن النبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 المبارك، بل على المسلم أن يدعو الله بيقين وإخلاص، وأن يقدم بين يدي دعوته كل عمل صالح يحبه الله ويرضاه، فهذا أرجى لاستجابة الدعاء، وقد مر ذلك مبسوطا في مواضع أخرى من هذا الكتاب. أما الكلام عن خاتم النبوة، فقد ذكرته في موضعه. المثال الثالث: عن أنس بن مالك يذكر أنّ رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السّبل فادع الله يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: «اللهمّ اسقنا، اللهمّ اسقنا، اللهمّ اسقنا» . قال أنس: ولا والله ما نرى في السّماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس فلمّا توسّطت السّماء انتشرت ثمّ أمطرت. قال: والله ما رأينا الشّمس ستّا، ثمّ دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السّبل فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثمّ قال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا، اللهمّ على الآكام والجبال والآجام والظّراب والأودية ومنابت الشّجر» ، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشّمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك، أهو الرّجل الأوّل. قال: لا أدري «1» . (رواه البخاري) . الشاهد في الحديث: لما اشتكى الأعرابي قلة المطر، وما نتج عن ذلك من هلاك المواشي والزروع، وجوع العيال لعدم وجود ما يتيعشون عليه من الأقوات، رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء يدعو الله بالغيث، ولم يكن في السماء سحاب مجتمع ولا متفرق، ولا أي شيء من علامات المطر، كما ورد في بقية روايات البخاري، فهاجت ريح شديدة، أنشأت سحابا ثم اجتمع، فصار من كثرته كأمثال الجبال، واستمر المطر أسبوعا، وذلك بفضل بركة دعائه صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما اشتكى الأعرابي من الجمعة المقبلة كثرة المطر دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المطر على الآكام ومنابت الشجر، فاستجاب الله دعاءه، وهذا الحديث من أعظم دلائل النبوة، حيث استجاب الله الدعاء، وأنشأ السحاب وأمطرت السماء، ليس مع انتهاء الدعاء ولكن مع الدعاء، وهذا من عظيم بركته ومنزلته العالية الرفيعة، عند مولاه سبحانه وتعالى.   (1) رواه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، برقم (1013) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فوائد الحديث: الفائدة الأولى: الجدب وقلة الزرع والجوع، قد يحدث مع صلاح الحال وقلة الذنوب والمعاصي، كما يحدث بسبب ابتعاد الناس عن منهج الله سبحانه وتعالى، لقول أنس: (أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) ، ولقول الأعرابي: هلك المال وجاع العيال، ولا شك أن قرن الرسول هو خير القرون، وقد حدث فيه الجدب الشديد. الفائدة الثانية: بعض آداب خطبة الجمعة: 1) جواز حديث المأموم مع الإمام، وهو يخطب، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة المسلمين العامة، لقول الأعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم: (هلك المال وجاع العيال) ، ولكن يحظر كلام الناس بعضهم مع بعض، لما (رواه البخاري) أنّ أبا هريرة أخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت» «1» ، ويستوي في ذلك الكلام، وما يقوم مقامه كالإشارة؛ لأنها تفضي إلى ما يفضي إليه الكلام، من انشغال الناس عن الخطبة. 2) يجب على الإمام أن يخطب واقفا، لقول الله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: 11] ، ولما ورد في بعض طرق الحديث عند البخاري، (ورسول الله قائم يخطب) . 3) جواز أن يتكلم الإمام أثناء الخطبة، في أمر خارج عن موضوع الخطبة، ولا يعد ذلك ناقضا للخطبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الباب والحديث الذي رواه مسلم، عن جابر بن عبد الله قال: جاء سليك الغطفانيّ يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال له: «يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما» ، ثمّ قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما» «2» . وعجبت من بعض الأئمة، لا يقطعون الخطبة أبدا لأي مصلحة، فيرون الرجل يدخل أثناء الخطبة، ويتعدى رقاب المصلين جميعا، فلا يأمرونه بالأدب الواجب، ويرون الرجل يقف يصلي ركعتين، أثناء جلسة الإمام بين الخطبتين، فلا يبينون عدم مشرعيتها، وكذلك يرون بعض الأولاد، يتكلمون ويشوشون عليه وعلى المصلين، فلا ينهونهم، وهذا كله مخالف للسنة، ويضيع مصالح كبيرة.   (1) رواه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، برقم (3934) . (2) رواه مسلم، كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، برقم (875) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الفائدة الثالثة: كان الصحابة الذين يعيشون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يتحرجون من سؤال النبي، بينما لا يتحرج الأعراب من ذلك، وذلك لتأثرهم بالبيئة التي يعيشون فيها، وقلة صحبتهم للنبي، وكان الصحابة يفرحون أن يأتي الأعرابي فيسأل النبي عن أشياء، وهم جلوس يستمعون، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ... الحديث «1» . الفائدة الرابعة: في الدعاء: أ- بيان أنّ الدعاء لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى ، فهو القادر وحده على جلب النفع، ودفع الضر، فمع قلة علم الأعراب وفقههم، يدخل الأعرابي المسجد، ويقول للرسول: (فادع الله لنا) ، ولو كان أحد يمكن أن يدعى من دون الله، لكان أولى الناس بأن يدعى، هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعظيم فضله، ولكان أولى الناس أن يتوجهوا له بالدعاء، هم أصحابه لأنهم أعلم الناس بمكانته، فلما لم يفعل الصحابة ذلك، مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، علمنا قطعا أن الدعاء لا يكون إلا لله وحده؛ لأنه من العبادة، بل هو من أعظم العبادة، قال تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] فأطلق العبادة على الدعاء، من باب إطلاق الكل على الجزء؛ لبيان عظيم شأنه، ولو كان أحد يدعى مع الله، لبينت الآية ذلك، ولكن الله قال: ادْعُونِي. كما بينت الآية أن الدعاء من مقتضيات الربوبية، فالرب هو الذي خلق ورزق وربى، فكيف نتوجه لغيره بالدعاء؟! لا شك أن ذلك من نواقض توحيد الرب تبارك وتعالى. كما بينت الآية الكريمة الجزاء العظيم لمن يستكبر عن دعاء الرب تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] . ويتفرع على عدم جواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، عدم جواز دعاء غيره من باب أولى، وقد بين الله تبارك وتعالى سخف من يدعو غيره، فقال سبحانه وتعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57] ، فبينت الآية أن هؤلاء الذين يتوجه الناس إليهم بالدعاء، هم أنفسهم يتقربون إلى الله بكل أنواع الطاعات تزلفا إليه وقربى، كما بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى ضلال من يدعو أحدا غيره، وذلك في قوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ   (1) أخرجه البخاري، رقم (263) ، ومسلم (12) واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] فبينت الآيتان ضلالهم من عدة وجوه: 1- أنهم يدعون من هو دون الله، فقد تركوا الغني من كل الوجوه ودعوا الفقير من جميع الوجوه، تركوا من يخلق ودعوا من لا يخلق، قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] ، فكل أحد غير الله هو دون الله. 2- أنهم يدعون من لا يستجيب لهم بجلب نفع أو دفع ضر، ولو استمر دعاؤهم إلى يوم القيامة، وهم- مع عدم استجابتهم- غافلون عمن يدعونهم، لعدم سماعهم الدعاء. 3- أنهم يدعون من يناصبهم ويظهر لهم العداوة يوم القيامة، وينكرون عليهم دعاءهم، ويتبرؤن إلى الله من ذلك، وانظر كيف أطلقت الآية الكريمة العبادة على الدعاء، قال تعالى: وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: 6] . أخيرا أهمس في أذن كل من يذهب إلى القبور لدعوة أموات، يرجون منهم الرزق والولد، وحل العقد، وأقول لهم: كيف تعرضون عن الله، وتتوجهون لمن هو دونه؟! إنّ من تدعونه هو في أشد الحاجة إلى من يدعو الله له- ولو كان من أهل بيت النبوة رضي الله عنهم جميعا- وأقول لهم: هذا العمل يخرجكم من ملة الإسلام بالكلية، لماذا تضيعون عليكم الدنيا والآخرة؟ لماذا لا تتلذذون بدعاء الغني الحميد وحده؟ فإذا قلتم: إنهم واسطة لنا عند الله عز وجل، قلت لكم: هذه حجة كفار قريش في عبادة الأصنام، قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، والعبد لا يحتاج إلى واسطة لدعوة خالقه، قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186] ، فإن السؤال مع أنه كان موجها إلى النبي، فقد جاءت الإجابة مباشرة من الله عز وجل، إلى السائلين عنه بغير واسطة، فلم يقل الله تعالى: قل: إني قريب، فإذا جاءت إجابة السؤال بغير واسطة، فكيف يشرع الدعاء بواسطة، وهذا إيذان بأنه لا واسطة أبدا لمخلوق عند دعاء المولى سبحانه وتعالى. وتدبر أخي القارئ بقية أسئلة القرآن، مثل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] ، وقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: 222] ، وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: 219] ، فإذا قال قائل: أريد واسطة بيني وبين الله، لكثرة ذنوبي وقلة طاعتي، قلت له: ألم تسمع لقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، فالله سبحانه وتعالى نسب الذين أسرفوا في ارتكاب المعاصي والكبائر إلى نفسه الكريمة، فقال: يا عِبادِيَ ، وتأمل مواطن رحمة الله العظيمة في هذه الآية، وكيف تلطّف الله عز وجل بأصحاب الكبائر؟ بأن وجه إليهم النداء، ووصفهم بأعظم الصفات، صفة العبودية، ونسبهم إلى نفسه، ونهاهم عن اليأس والقنوط من رحمته التي وسعت كل شيء، وفتح لهم باب التوبة ورغبهم فيها بأن بين لهم أنه سبحانه وتعالى يغفر جميع الذنوب، ويدخل في ذلك الشرك، ثم ختم الآية بأن ذكرهم بصفتين كريمتين من صفاته، المغفرة والرحمة، توكيدا لكل ما ذكر بالآية، وليعلمهم أن يتوسلوا بهما، إذا أرادوا الإنابة إليه والاستغفار، أبعد كل ذلك يزين لنا الشيطان أن نترك دعاءه سبحانه وحده لا شريك ونذهب إلى غيره؟! أما من يقول: إنه يذهب إلى القبور، لا ليدعو أهلها، ولكن ليدعو عندها، أقول له: إنها بدعة منكرة؛ لأن القبور ليست مكان دعاء، وليس الغرض من زيارة القبر الدعاء، بل الغرض المشروع هو التذكرة بالموت، والدعاء لصاحب القبر، ولو كان الدعاء للنفس عند القبر أرجى في القبول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله ولأمرنا به، إذ كيف يخفي علينا شيئا فيه مرضاة للرب جل وعلا وفيه خير لنا، وهو الناصح الأمين، وإذا كان ذلك مشروعا، لفعله الصحابة، وهم يمرون على قبر سيد البشر في الغداة والعشي، فهل عرفوا أن هذا خير ولم يفعلوه؟! وأقول لمن يذهب إلى القبر، ليدعو الله: كيف تذهب إلى مكان يشرك فيه بالله، وينذر فيه لغير الله؟ ويطاف بصاحب القبر، وتقال فيه أوراد وأذكار ما شرعها لنا الله ورسوله، ويختلط فيه الرجال والنساء، ويكثر فيه المشعوذون، وهذه كلها منكرات تغضب الله ورسوله، كيف تقول: إن هذا مكان يستجاب فيه الدعاء؟ هذا مكان أبعد ما يكون لاستجابة الدعاء. فائدة: قد يحدث أن يدعو الرجل عند القبر، أو يدعو صاحب القبر، وتتحقق في اعتقاده الدعوة، أقول: إن دعوة الرجل صادفت قدر الله عز وجل برفع النقمة أو حدوث النعمة، ويكون ذلك ابتلاء من الله عز وجل للرجل الذي ظلم نفسه بابتداعه في الدين، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] . ب- الدعاء لا يناقض التوكل ، ولا يناقض اليقين بأن الله عز وجل يرى حاله، ويعلم حاجته، كما أن الدعاء لا يشغل المسلم عن عبادة الله؛ لأن الدعاء هو العبادة، وأدلة ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 كثيرة نذكر منها على سبيل المثال: 1- أمرنا الله بالدعاء في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وقد وضحت بعضها في الفقرة السابقة، وكفى أنه سمى الدعاء عبادة، وأكثر من ذلك أن الله وضح أن التوجه إليه بالدعاء والتضرع هو استجابة له وإيمان به، قال تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] ، كما أن ذم الذين يصرفون الدعاء لغير الله، والتشنيع بهم هو في ذاته مدح وثناء لمن يدعو الله مخلصا له الدين. 2- إن الله عز وجل يحب أن يظهر العبد الافتقار إليه، والتذلل بين يديه، والثناء عليه ومدحه بما هو أهله، وإنما يتحقق ذلك بوضوح وجلاء إذا رفع العبد يديه إلى السماء، معلنا بالغ عجزه، وكمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وأبلغ ما يدلل على حب الله للدعاء، الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مضى شطر اللّيل- أو ثلثاه- ينزل الله تبارك وتعالى إلى السّماء الدّنيا فيقول: هل من سائل يعطى؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتّى ينفجر الصّبح» «1» . فالنزول الإلهي- على الوجه الذي يليق بالعلي القدير- الحكمة منه أن يتفضل الرب تبارك وتعالى، على السائل وعلى الداعي وعلى المستغفر، ولولا رضى الله عز وجل، على هؤلاء ما توجه إليهم خطاب المولى سبحانه وتعالى في هذا الوقت المبارك، ولو أن أحدا أفضل منهم لتوجه إليه الخطاب بدلا منهم، أو معهم؛ لأنه لا يعقل من الشارع الحكيم أن يتفضل على هؤلاء، وفيه من هو أفضل منهم، ولا يتوجه إليه الخطاب. 3- الدعاء هو سبيل الأنبياء كلهم جميعا، دعوا الله بخيري الدنيا والآخرة، منهم من دعاه أن يرزقه الذرية الصالحة، قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: 89] ، ومنهم من دعاه بالملك العظيم، قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص: 35] ، ومنهم من دعاه بأن يكتب له الذكر الحسن، قال تعالى على لسان إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] ، ومنهم من دعاه بالجنة ومرافقة الصالحين، قال تعالى على لسان يوسف: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] ، ومنهم من دعاه بهلاك الكافرين، قال تعالى: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، ومنهم   (1) رواه مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، برقم (758) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 من دعاه بالنجاة من الهلاك، قال تعالى على لسان يونس عليه السلام: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الأنبياء: 87] ، ومنهم من دعاه بمغفرة الذنوب، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص: 16] ، ولو كان عدم الدعاء أولى، لكان أولى الناس بذلك صفوة الخلق، وكيف يذكر الله عز وجل في كتابه الكريم كل هذه الأدعية للأنبياء في سياق المدح والثناء عليهم، ولا يبين لنا أن الأولى في حقهم عدم الدعاء، ولا يختلف اثنان أن الأولى في حق الأنبياء هو فعل الأولى من كل الطاعات. 4- ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو- وبغير طلب من أحد- خاصة في أوقات المحن والشدائد، كدعائه في غزوة بدر، وإلحاحه الشديد على الله بطلب النصرة، وكدعائه على قريش لما آذته، ووضعوا على ظهره الشريف سلى الجزور، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بخيري الدنيا والآخرة بطلبهم كدعوته لأنس بن مالك في الحديث الذي (رواه البخاري) عن أنس، وفيه: (فقالت أمّ سليم: يا رسول الله إنّ لي خويصة قال: «ما هي؟» ، قالت: خادمك أنس فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلّا دعا لي به قال: «اللهمّ ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه» ) «1» ، وبغير طلبهم، كان النبي يدعو ربه ويجتهد في الدعاء، ويعلم أمته ذلك، مع كامل توكله على الله، ورضاه بقضائه وقدره، وهو أعلم الأمة، بل أعلم الأنبياء، بما ينبغي أن يسلكه مع الله عز وجل من الأدب. 5- يتفرع على ما ذكر، أن نقطع بأفضلية الدعاء، وأنه عبادة مستقلة، وأن الذي يدعو مع الصبر على البلاء، والشكر على النعماء- خير من الذي لا يدعو مع صبره وشكره، فعلينا جميعا أن نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء بكل ما نرجوه ونأمله من أمري الدين والدنيا، والأولى والآخرة، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع صوت عبده. فإن احتج أحد بحديث المرأة التي سألت الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها بالشفاء من الصرع، فخيّرها بين الشفاء أو الصبر ودخول الجنة، فاختارت الصبر والجنة، هذا الحديث ليس بحجة في عدم الدعاء، وذلك لأن النبي عرض عليها الدعاء، وهذا حجة في مشروعيته، ولو كان عدم الدعاء لها أولى لبين ذلك لها، ولكنه عرض عليها الصبر مقابل أن تدخل الجنة، فوجدت المرأة أن الصبر والجنة أعظم مما تلاقيه من شدة الصرع، ومع هذا فقد طلبت   (1) رواه البخاري، كتاب: الصوم، باب: من زاد قوما فلم يفطر عندهم، برقم (1982) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 من النبي الدعاء لها بألا تتكشف، فدعا لها. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منها ترك الدعاء بالكلية، والحديث (رواه البخاري) عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عبّاس: ألا أريك امرأة من أهل الجنّة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السّوداء أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنيّ أصرع وإنّي أتكشّف فادع الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنّة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك» «1» . فقالت: أصبر. فقالت: إنّي أتكشّف فادع الله لي ألاأتكشّف. فليس في هذا الحديث حجة للمخالف كما ترى بل هو حجة عليه. ج- آداب الدعاء: للدعاء آداب وشروط، يجب أن يتحلى بها الداعي، حتى يكون دعاؤه أقرب للإجابة، ومن تلك الآداب والشروط ما يلي: 1- أن يستحضر أثناء الدعاء تعظيم الله عز وجل في نفسه، وأنه قريب منه، قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] ، وأن يكون قلبه حاضرا، فلا ينبغي أن يكون الدعاء من قلب لاه، وعيون زائغة، ولسان يتمتم، دون أن يفقه ما يقول، وأنّى للرجل الذي ينشغل في الدعاء بكل صور الشعر من طباق وجناس وغيرها، من حضور وخشوع القلب، بل كيف يخشع من خلفه من المأمومين، فقد روى مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «2» . وينبغي أن يتيقن الداعي أن الله يسمع كلامه ويرى مكانه ويعلم حاله، وأن يكون الدعاء في حقه عبادة وليست عادة، وقد بدأت بهذا الأدب في الدعاء لتقصير كثير من الناس فيه. 2- أن يطيّب الداعي مأكله ومشربه، فإن من أعظم أسباب رد الدعاء أن يأكل الداعي أو يشرب من مال حرام؛ لما رواه مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّها النّاس إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه   (1) رواه البخاري، كتاب: المرض، باب: فضل من يصرع من الريح، برقم (5652) . (2) رواه مسلم، كتاب: البر، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، برقم (2564) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 إلى السّماء، يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنّى يستجاب لذلك؟!» «1» . 3- أن يتخير من الدعاء جوامعه، فلا يقول مثلا في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من النار ومن سعيرها ومن أغلالها ومن زقومها) يكفيه ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم من التعوذ من النار، لما رواه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النّار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدّجّال» «2» . واسمع إلى جامع الدعاء الذي دعا به الخليل إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 41] ، وقد أمر الله المؤمنين بعدم التعدي في الدعاء في قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] ، ومن أوجه التعدي: الدعاء بمحرم مثل قطيعة الرحم، أو التفريق بين الزوجين، أو الدعاء بما لا يمكن حدوثه، كطلب منازل الأنبياء في الجنة. 4- أن يتخير الداعي الأوقات والأحوال الفاضلة التي يرجى فيها القبول، كدعاء الصائم عند الإفطار، وعند السفر، وعند المرض، وعند لقاء العدو، وفي الثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، ونزول المطر، وكل ذلك وردت به السنة الصحيحة. 5- ألايتعجل الإجابة، لما ورد في البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي» «3» ، ومن علامات تعجّل الإجابة أن يملّ العبد فيترك الدعاء بالكلية. 6- على الداعي أن يبدأ دعاءه بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكثر أثناء الدعاء من الثناء على الله بما هو أهله، فإن الله يجب الثناء عليه، لما ورد في «صحيح مسلم» عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد أحبّ إليه المدح من الله عزّ وجلّ؛ من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش. وليس أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرّسل» «4» .   (1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب، برقم (1015) . (2) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: التعوذ من عذاب القبر، برقم (1377) . (3) رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، برقم (6340) . (4) رواه مسلم، كتاب التوبة، باب: غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، برقم (2760) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 7- على الداعي أن يظهر في الدعاء شدة الافتقار إلى الله عز وجل، وأن يظهر ما هو فيه من الحاجة، قال تعالى في معرض الثناء على دعاء زكريا: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 3- 4] ففي الآية بعض آداب الدعاء التي يجب التأدب بها مثل: التيقن أن الذي تدعوه هو ربك، الذي خلقك ورزقك ورباك على نعمائه وآلائه، وأن تثبت له كل ما يتعلق بصفات الرب تبارك وتعالى، من الخوف والرجاء والتوكل وحسن الظن والطمع فيما عنده، وأنه الغني عن السؤال وأنت الفقير إلى الجواب، وأنه سميع عليم مجيب، وبغير التيقّن من ذلك أثناء الدعاء، فلا يرجى للدعوة الإجابة، علمنا ذلك من قوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ [مريم: 3] فلولا أن زكريا قد استشعر أن الذي يناديه ويدعوه هو الرب تبارك وتعالى، وأنه تيقن في نفسه كل ما ينبغي للرب، ما زكاه الله بأنه كان يدعو ربه؛ لأن الدعوة إذا كانت باللسان دون القلب لا يعول عليها. الإخلاص لله في الدعاء، وألا ترى غيره إلها نافعا ضارّا لأنه لا يملك من الأمر شيئا، فزكريا عليه السلام إنما نادى ربه، وأخلص في ذلك، ولو أنه كان يرجو أحدا مع الله، ما قال الله تبارك وتعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ. إخفاء الدعاء، فإن السر يعين على تحقيق الإخلاص في الدعاء، والبعد عن المراآة والسمعة، قال تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا. إظهار شدة الافتقار إلى الله عز وجل، وما يوجد في الداعي من علامات الضعف الخفية والجليلة، قال تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، ووهن العظم هو من علامات الضعف الخفية، واشتعال الرأس بالشيب من العلامات الجلية، فلم يترك سببا لإظهار افتقاره إلا بذكره، حتى ضعف زوجته، فقال: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً [مريم: 5] . التوسل إليه سبحانه وتعالى أثناء الدعاء بصفاته وسابق إنعامه وفضله، حيث بدأ زكريا دعاءه بذكر صفة الربوبية التي بها ينعم الرب على عباده، قال تعالى: قالَ رَبِّ، ثم توسل إليه بقوله: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4] فهذا توسل بإقراره أن الله قد سمع كل دعواه السابقة، وأنه بفضله ورحمته استجاب لها كلها، وكان من فضل الاستجابة أنها رفعت عن زكريا كل أسباب الشقاء، وهذا كله كان استدرارا من زكريا لرحمات الله المتتابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 - الأدب في الدعاء وعدم ذكر ما يفيد التضجر من قضاء الله وقدره، فزكريا عليه السلام، قد بلغ منه الضعف ما ذكرت، وليس عنده ذرية، وامرأته عاقر، ومع ذلك لم يذكر في الدعاء ما يفيد عدم الرضا بقضاء الله وقدره، بل أقر بين يدي ربه أن دعاءه قد رفع عنه الشقاء. إظهار المصلحة في إجابة الدعاء، أو المفسدة الحاصلة من عدم الإجابة، قال تعالى على لسان زكريا: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] . وقال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6] . عدم استعظام أي دعاء على قدرة الله تبارك وتعالى، حيث دعا زكريا بالولد، مع انقطاع كل الأسباب، وكأن قوله في الدعاء: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم: 5] هو اعتراف بانقطاع كل الأسباب، وأن الولد سيكون هبة خالصة من الله. دعاء المضطر أرجى في الإجابة، خاصة إذا كان في أمور الدنيا، فزكريا ما دعا بالولد إلا بعد كبر سنه وخوفه على ضياع الدين من بعده، وقد يكون هذا من أدب الأنبياء في الدعاء، أنهم ما يدعون إلا مضطرين، وبما يرفع الحرج عنهم، انظر إلى دعوة موسى عليه السلام لما أرسل إلى فرعون: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي [طه: 27] ، فما طلب فك كل عقد لسانه بل طلب واحدة، يحصل معها أن يفقه المرسل إليهم قوله، وما دعا قبل الرسالة، إنما دعا بعد الإرسال مضطرا. قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] . وانظر أخي القارئ، إنه عندما استوفى الدعاء غاية الكمال، كيف تحقق به غاية المنال؟! 8- أن يتوسل إلى الله في الدعاء بأسمائه وصفاته التي تناسب الدعاء، قال تعالى على لسان زكريا: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ [آل عمران: 38] ، وتوسل سليمان فقال: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص: 35] ودعا إبراهيم متوسلا ربه بصفتين من صفاته فقال: وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 128] ، وكان النبي يتوسل إلى الله بأنه هو الشافي المعافي روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم: يعوّذ بعضهم يمسحه بيمينه «أذهب الباس ربّ النّاس، واشف أنت الشّافي، لا شفاء إلّا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» «1» . 9- أختم آداب الدعاء، بأدب عظيم، وهو أن على المسلم أن يبذل وسعه في الأخذ   (1) رواه البخاري، كتاب: الطب، باب: مسح الراقي الوجع بيده اليمنى، برقم (5750) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 بالأسباب، مع دعائه، وألا يركن للدعاء ويترك الأسباب، لمنافاته لعمل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي يستطبّ ويرقي نفسه، وكان يقاتل المشركين في بدر، ويبتهل بالدعاء، واعلم- يا من تريد التفريط في الأخذ بالأسباب- أن لله في خلقه سننا ما نقضها لأحب الخلق إليه، ولن ينقضها لمن هو دونه من باب أولى، ومن سنن الله في هذا الكون الأخذ بالأسباب، فإذا عجز العبد عن ذلك، فعليه بالدعاء، والله يعذره، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] ، وقد بينت ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب. الفائدة الخامسة: عظيم اعتناء المولى سبحانه وتعالى بنبيه، ومن ذلك استجابة دعائه قبل الانتهاء منه، علمناه من قول أنس: (فو الذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال) «1» . فقبل الدعاء كانت السماء صافية كالزجاجة ليس فيها أي شيء من علامات المطر لا فوق المسجد، ولا فوق جبل سلع، قال أنس: (والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار) ، وأثناء الدعاء ظهرت سحابة صغيرة، ورد في رواية أنها مثل رجل الطائر، فانتشرت وأصبحت مثل الجبال، وقبل أن ينزل من المنبر كان المطر المبارك الذي رآه الصحابة يتقطر من لحيته صلى الله عليه وسلم، وتكررت استجابة دعاء الرسول أثناء الدعاء في الجمعة التالية، فقط رفع يديه إلى السماء يدعو بأن يكون المطر حول المدينة، فأمسك الله المطر في وقته، وتمزق السحاب، وطلعت الشمس بعد أن غابت جمعة كاملة لا يراها أحد فوق المدينة، بل الأعظم من ذلك، أنه كان يشير إلى كل ناحية من نواحي السحاب، فيتحول بإشارته صلى الله عليه وسلم، ورد عند البخاري (فما يشير بيده إلى ناحية من نواحي السحاب إلا انفرجت) ، وفي رواية عند مسلم: (ولقد رأيت السحاب يتمزق كأنه الملاءة حين تطوى) «2» . قال ابن حجر- رحمه الله-: فانظر كيف امتثل السحاب أمره بمجرد الإشارة «3» ، انتهى. وأظن أن السحاب كان مأمورا بطاعته، كما أمر الله ملك الجبال أن يمتثل أمره، فعند البخاري من حديث عائشة: «فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، برقم (933) . (2) رواه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء، برقم (897) . (3) انظر فتح الباري (2/ 507) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 جبريل فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت» «1» . وقلت: إن السحاب مأمور بطاعته؛ لأن السحاب آية من آيات الله سبحانه وتعالى مسخر بأمره، قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9] ، وقد بسطت الحديث هنا مرة أخرى عن هذه التكرمة العظيمة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كي يستشعر كل مسلم، ويتيقن منزلة النبي عند ربه، ويتفرع على ذلك الفائدة التالية. الفائدة السادسة: إذا علمت أخي المسلم عظيم حب الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، مع أن الله هو الذي تفضل عليه بكل نعمة وتكرم عليه بكل منّة، أما سألت نفسك أخي القارئ، أين أنت من حب النبي صلى الله عليه وسلم؟ والنبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي دلّك على كل خير لتفعله، وبيّن لك كل شر لتتجنبه، ودعا الله لك بكل خير دون أن يراك أو يعرفك، وخبأ دعوته العظيمة إلى يوم القيامة، لينالك من بركتها فتفوز بالمطلوب، وتنجو من المرهوب، ولن تقر عينه وتهدأ نفسه حتى يخرج آخر مسلم من أمته من النار، أخي المسلم هل بادلت نبيك هذا الحب؟ هل شكرت معروفه؟ هل رددت له جميله؟ هل همّك أمره كما همّه أمرك؟ إن كانت الإجابة ب «لا» ، فأسرع أخي المسلم لتعوض ما فاتك، فإذا كان الإنسان مجبولا على حب الخير، وحب من يسدي الخير، حتى وإن لم يصل إليه هذا الخير، فكيف بالذي أسدى إليك الخير، وأخرجك- بفضل الله- من ظلمات الوثنية إلى نور الوحدانية. ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم، اتباعه وطاعته فيما نحب ونكره، وتعظيم أمر سنته في نفوسنا، والتأدب معه، والتسليم لكل ما أمر ونهى، وأن نفتديه بأموالنا وأنفسنا وأهلينا، وأن نود رؤيته- في المنام- بالدنيا وما فيها، وأن نغضب لكل ما يؤذيه، وأن نحرص على كل ما يرضيه، وأن نقدم أهل بيته الميامين الأطهار على كل أحد، وأن نحب أصحابه الأخيار الأبرار، ونود لو أن نفتديهم بالنفس والنفيس. واعلم أخي المسلم، أنك لو فعلت ذلك ما كافأته على معروفه، ولا وفّيته حقه، فحقه أعظم من ذلك بكثير، والحمد لله الذي لم يكلفنا ما لا نطيق، ولكن معذرة إليه سبحانه وتعالى على تقصيرنا في حق نبينا، والله من فضله ورحمته يقبل القليل ويبارك فيه، ويعذر   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، برقم (3231) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عباده، فما من أحد أحب إليه العذر من الله. واعلم أخي المسلم أن كل ما ستفعله في حق نبيك وسنته وأصحابه، ستجده في موازين حسناتك أضعافا كثيرة، ستكون أول من يفرح بها يوم القيامة، مثال ذلك ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا علّي؛ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» «1» . وأقول أخيرا: إن كل من يحب يبذل من وقته وجهده وعقله لمن أحب، وكلما زاد الحب زاد البذل، فانظر أخي السلم كم تبذل لتعرف كم تحب، والسعيد هو الذي أحب وبذل، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وعده الله عز وجل المقام المحمود واللواء المعقود والكوثر المقصود، والله سيفي له بالوعد ولو لم يؤمن به أحد إلى يوم القيامة. والذي ذكرت في هذه الفائدة هو مقصودي الأول من هذا الكتاب. الفائدة السابعة: الأدب الجمّ الذي كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه في الدعاء، حيث لم يدع بإمساك المطر، لما هدم البناء وغرق المال؛ لأن المطر نعمة من الله، وهو رزق السماء، فكيف ندعو بتوقفه، ولكن الأدب أن ندعو بالسلامة من أضراره، مع الانتفاع من إدراره، فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم: «اللهم حوالينا ولا علينا» ، وتحقق المراد من الدعوة. ويتفرع على ذلك عدم تأدب من يدعو على أولاده بالهلاك، وهم نعمة من الله سبحانه وتعالى، فإن رأى منهم شيئا، فعليه أن يدعو لهم بالصلاح والتقوى، ويجتهد في الأسباب العملية لهدايتهم مع الدعاء. الفائدة الثامنة: مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأهل الفضل والصلاح، لقول الأعرابي: (فادع الله لنا) ، ولو كان دعاء الأعرابي والنبيّ سواء، لأعلم النبيّ الأعرابيّ بذلك، وحيث لم يأت أن التوسل لله، خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، علمنا مشروعية طلبه من جميع أهل الصلاح والتقوى، ولكن بشرطين عظيمين: الشرط الأول: أن يكون المتوسّل به إلى الله عز وجل حيّا وليس بميت، لما (رواه البخاري) عن أنس بن مالك: (أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى   (1) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن ... ، برقم (384) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال: اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيسقون) «1» . فهذا أعلم الأمة، الذي وافق كلامه كلام الرب سبحانه وتعالى، يستسقي بالعباس رضي الله عنه، ولو كان التوسل بغير الأحياء جائزا، لتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعظم قدرا من العباس، ولكن عدل الصحابة عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، يقول عمر في الحديث: (إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا) ، وقول عمر رضي الله عنه: «كنا» تفيد أن ذلك كان في حياته، وأنهم توقفوا عن ذلك بعد مماته، وإذا كان التوسل به صلى الله عليه وسلم غير جائز بعد مماته، فهو غير جائز بمن دونه بعد مماته من باب أولى. وأهمس في أذن من يتوسل الآن بالنبي أو بغيره من الأموات، فأقول لهم: أأنتم أعلم بقدر النبي من عمر؟ أأنتم أعلم بمشروعية التوسل من أصحاب النبي؟ أأنتم أشد تعظيما للنبي منهم؟ كيف تتوسلون إلى الله بمحرّم؟ أكان عمر رضي الله عنه يعلم أن التوسل بالنبي بعد موته جائز، ويعدل إلى من هو دونه؟ أم كان يجهل أن التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته جائز، ويقره على هذا الجهل- عياذا بالله- كبار الصحابة؟ أيها الناس عودوا إلى رشدكم، وتمسكوا بسنة نبيكم، إن كنتم حقّا تحبونه، فكذب من ادعى الحب بغير اتباع، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] . الشرط الثاني: أن يتخير العبد من يتوسل به إلى الله عز وجل، فيشترط فيه الصلاح والتقوى والامتثال للكتاب والسنة، فمن العبث أن نتوسل بأصحاب البدع، كالذين يطوفون بالقبور، ويتوسلون بالأموات، ويتمسحون بالأحجار، وفي المقابل ليتهم تمسكوا بالسنة، فقد ضيعوا صلاة الجماعة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانظر إلى عمر بمن توسل إلى الله بعد نبيه، توسل بعم النبي، فنعم المتوسّل به هو، وهي فائدة جليلة، أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يجلّون أصحاب بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمر سأل العباس أن يستسقي لهم، بصفته عم النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أنواع التوسل الشرعي: 1- التوسل بالأعمال الصالحة ، فقد روى البخاري «2» ، حديث الثلاثة الذين سدّ عليهم فم الغار، فتوسلوا بالأعمال الصالحة، والشاهد في الحديث أن النفر الثلاثة،   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم (1010) . (2) رواه البخاري، كتاب الإجارة، باب: من استأجر أجيرا فترك الأجير أجره، برقم (2272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 كانوا في أشد الحاجة إلى استجابة الله لدعائهم، فهم في ضر، ما بعده ضر، إذ لا حول لهم ولا قوة في دفع ما هم فيه ونجاتهم من الموت إلا الدعاء، فرأوا أن أرجى ما يتوسّل به إلى الله أعمالهم الصالحة، ولو كانوا يرون شيئا أنفع وأرجى في استجابة الدعاء لتوسلوا بها. 2) التوسل بأسماء الله وصفاته: قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] ، وقد مر قريبا ضرب الأمثلة على ذلك في سياق الحديث عن آداب الدعاء، وهنا أقول: إن على الداعي أن يلتمس المناسب من أسماء الله وصفاته للدعاء الذي يدعو به، فلا يدعو ويقول: (اللهم أهلك الكافرين إنك أنت الغفور الرحيم) . والمناسب أن يتوسل في هذا الدعاء بصفات العزة والحكمة والقوة، فيقول: إنك أنت القوي الحكيم، أو العزيز الحكيم، وهكذا. الفائدة التاسعة: من آداب الدعاء، رفع العبد يديه إلى السماء؛ لأن ذلك من علامات الخضوع والذل والافتقار، كالفقير الذي يمد يديه إلى أحد الأغنياء، وقد وردت أحاديث برفع اليدين بالدعاء، كحديث الباب، والحديث الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب، وفيه: (فاستقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثمّ مدّ يديه فجعل يهتف بربّه: «اللهمّ أنجز لي ما وعدتني اللهمّ آت ما وعدتني» «1» ، وهذه حجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتصر على رفع يديه في دعاء الاستسقاء فقط، بل في دعاء الباب أنه رفع يديه بطلب الاستصحاء، وعلمنا من هذا الأدب أن السماء هي قبلة الداعي. المثال الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أمّ سليم فأتته بتمر وسمن قال: «أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإنّي صائم» ثمّ قام إلى ناحية من البيت فصلّى غير المكتوبة فدعا لأمّ سليم وأهل بيتها فقالت أمّ سليم: يا رسول الله إنّ لي خويصة قال: «ما هي؟» قالت: خادمك أنس فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلّا دعا لي به قال: «اللهمّ ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه» فإنّي لمن أكثر الأنصار مالا وحدّثتني ابنتي أمينة أنّه دفن لصلبي مقدم حجّاج البصرة بضع وعشرون ومائة) «2» .   (1) رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر ... ، برقم (1763) . (2) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب: من زار قوما فلم يفطر عندهم، برقم (1982) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لخادمه أنس، رضي الله عنه، فاستجاب الله دعاءه، كأحسن ما تكون الاستجابة، كما سنرى مفصلا، إن شاء الله، في الفوائد التالية. [ فوائد الحديث ] الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- تواضعه صلى الله عليه وسلم، حيث كان يزور خادمه في منزله، ويأكل عنده، بل يصلي غير المكتوبة. 2- تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع من يقدم له شيئا لا يستطيع أن يقبله لعلة شرعية، ففي هذا التلطف تطييب للخاطر وتهدئه للنفس، وحتى لا يظن مقدم الهدية أو غيره أن علة عدم القبول يرجع للزهد في الهدية، أو عدم ملائمتها والترفع عنها، أو عدم الرضا من الشخص الذي قدمها، علمناه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم» ، ومع أن هناك مصلحة لإخفاء النبي صلى الله عليه وسلم صومه؛ لأنه عبادة، إلا أن دفع الضرر الذي قد يقع على المضيف، مقدم عن تلك المصلحة، وهذا أدب رفيع، يجب أن نتحلى به في تعاملنا مع الناس خاصة من هم دوننا، فلا عبوس في الوجه، ولا ترفع عن قبول هديتهم، ولا رد لقولهم بدون إبداء مبررات، ولا تحقير لشأنهم، وهذا الأمر نقع فيه صباحا ومساء، مع مخالفته لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. كما أن من تلطفه أيضا، أنه استجاب لطلب أم سليم لما طلبت منه أن يدعو لأنس، فما رد سؤالها بحجة أنه قد دعا لكل أهل البيت، وأنس من ضمن أهل البيت وستصله قطعا الدعوة. 3- ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم حتى في الدعاء؛ لأنه في هذا المقام قد دعا لأنس بكل أنواع الخير قال أنس: (فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به) «1» . 4- عظيم بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رزق أنس- بهذا الدعاء- أولادا كثيرين، أحصت ابنته من مات من صلبه بضعا وعشرين ومائة، ولا ندري كم إجمالي ما رزقه الله من أولاد وكم عدد أحفاده، أما المال فحدث ولا حرج عن البركة التي شملته بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، يقول أنس: (فإني لمن أكثر الأنصار مالا) فهل كان يظن أنس عندما سمع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن ماله وولده سيبلغان هذا القدر؟!، وهو الذي لم يقدم للنبي عندما زاره في بيته إلا التمر والسمن.   (1) سبق تخريجه، وانظر الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الفائدة الثانية: في أنس وأم سليم: 1- حب النبي صلى الله عليه وسلم لهما، حيث زارهما في منزلهما، وصلى ودعا فيه، لتعم البركة البيت بالصلاة، والأهل بالدعاء، ثم خص أنسا بالدعاء، بناء على طلب الأم. 2- إيثار أم سليم أنسا بدعاء مخصوص من النبي صلى الله عليه وسلم وكأن الأم من حنانها وحبها العظيم لأولادها تؤثرهم حتى في أمور الآخرة، ونلمح أيضا من قولها: إنها كانت تحب أنسا حبّا خاصّا، عن بقية أولادها، وهذا جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عتب عليها هذا المسلك في تفضيل أنس، وأعتقد أن سبب هذا الحب قرب أنس من النبي صلى الله عليه وسلم. 3- فصاحة أم سليم، حيث وصفت أنسا أنه خويصة لها، وأبهمت بادئ الأمر اسمه للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى يسأل هو عنه، وأظن أن إبهام اسمه، إما لتسترعي انتباه النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى لا تحرجه، فتجعله في فسحة من أمره، وتدبر كيف سيكون حال أنس إذا ذكرت أم سليم اسمه للنبي ابتداء ولم يلبّ النبي طلبها بالدعاء؟! ومن فصاحتها أيضا أنها ذكرت صفة أنس قبل اسمه فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (خادمك أنس) وذلك حتى تستدر عطف النبي صلى الله عليه وسلم بذكر منزلة أنس منه. فكل من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم يشترك في فضل الصحبة، ولكن كم منهم نال شرف الخدمة والقرب، كما نال هذا الشرف العظيم أنسا؟ وما التمسته أم سليم في قولها: (خادمك أنس) قد تحقق بجوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء. 4- حب أم سليم، رضي الله عنها للاستزادة من الخير، حيث طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لأنس، وهو يدل أيضا على علمها ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأن دعاءه مستجاب، وأن الله حفيّ به يسمع دعاءه ويحقق رجاءه. 5- تعظيم الصحابي أنس رضي الله عنه لأمور الآخرة، وتقديمها عن أمور الدنيا، حيث قال: (فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به) . 6- منزلة أنس، رضي الله عنه، في الدنيا والآخرة: ففي الدنيا رزق المال الوفير الذي استخدمه في طاعة المولى سبحانه وتعالى، والأولاد الكثر الصالحين البارين بأبيهم، وعلمنا أن هذا المال وهؤلاء الأولاد كانوا على هذا النحو من الخير والبركة؛ لأن دعاء النبي قيد بالبركة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه» ولولا بركة المال والأولاد لكان الدعاء عليه لا له، فنعتقد أن البركة قد حلت في كل أوجه مال وأولاد أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ولك أخي القارئ أن تتخيل بركة هذا الدعاء في آخرة أنس، وماذا أعد الله له من الثواب العظيم، فإذا كان بركة الدعاء جاءت على هذا الوجه في الدنيا- وهي دار وضيعة عند الله- فمن باب أولى أن يبلغه الدعاء في الآخرة على أكمل ما يكون، ويكفيه أن سيكون له أكثر من مائة وعشرين ابنا، نرجو الله عز وجل أن يكونوا فرطه على الحوض، أرأيتم فضل خادم النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. 7- حفظ أنس رضي الله عنه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصه على نشرها وتفقد أحواله التي تثبت تحقق دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والذي هو من دلائل نبوته، علمنا ذلك لأنه بعد عدة عقود- وقد بلغ أكثر من مائة عام- يحدث حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول فيه: (فإني لمن أكثر الأنصار مالا وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة) ونستفية أيضا من الحديث كيف بارك الله سبحانه وتعالى لأنس في صحته، حتى يكون له مثل هذا العدد من الأولاد والأحفاد، وفي عقله حتى يقص علينا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم رغم تعديه المائة عام. ومن تعجّب من حفظ أنس لكل تلك الأحاديث النبوية، وروايته لها كما سمعها لم يبدل منها شيئا حتى بعد تعديه مائة عام، فليقرأ ما (رواه البخاري) ، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقولون: إنّ أبا هريرة يكثر الحديث، والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدّثون مثل أحاديثه، وإنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق بالأسواق، وإنّ إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني؛ فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوما: «لن يبسط أحد منكم ثوبه حتّى أقضى مقالتي هذه ثمّ يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا أبدا» فبسطت نمرة ليس عليّ ثوب غيرها حتّى قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته ثمّ جمعتها إلى صدري، فو الّذي بعثه بالحقّ ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدّثتكم شيئا أبدا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله: الرَّحِيمُ [البقرة: 159- 160] «1» . الفائدة الثالثة: الأمر بعدم تعريض الطعام للتلف، وذلك بوضعه في الإناء أو المكان الذي يحفظه، وهو فرع من حفظ المال وهذا الأمر للوجوب لقوله صلى الله عليه وسلم: «أعيدوا سمنكم   (1) رواه البخاري، كتاب المزارعة، باب: ما جاء في الغرس، برقم (2350) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 في سقائه وتمركم في وعائه» ، ولولا أن هذا الأمر كان لحكمة حفظ الطعام، فما الحكمة منه إذن؟ الفائدة الرابعة: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: 1- مشروعية التوسل إلى الله، بدعاء الصالحين، لقول أم سليم: (إن لي خويصة) ، وقد مر من قبل. 2- مشروعية الدعاء لشخص باسمه، ودليله قول أم سليم: (خادمك أنس) . 3- مشروعية الدعاء بخير الدنيا، وأن هذا الدعاء لا يعارض التوكل، أو الرضا بقضاء الله وقدره، مع ملاحظة أن أم سليم لم تطلب من الرسول الدعاء لأنس بخير الدنيا، ولكنه دعا له بذلك من تلقاء نفسه مما يؤكد مشروعية الحكم. 4- مشروعية تمني كثرة المال، والدعاء بذلك، وأن كثرة المال من خير الدنيا شريطة أن يكون مالا مباركا، يأتي من حلال ويصرف في طاعة وقد يؤخذ منه تفضيل كثرة المال المبارك على الفقر. ب- استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم على الكافرين بالهلاك: المثال الأول: عن مسروق قال: كنّا عند عبد الله فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رأى من النّاس إدبارا قال: «اللهمّ سبع كسبع يوسف» ، فأخذتهم سنة حصّت كلّ شيء حتّى أكلوا الجلود والميتة والجيف وينظر أحدهم إلى السّماء فيرى الدّخان من الجوع فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمّد إنّك تأمر بطاعة الله وبصلة الرّحم وإنّ قومك قد هلكوا فادع الله لهم. قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدخان: 10] إلى قوله: إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 15- 16] فالبطشة يوم بدر وقد مضت الدّخان والبطشة واللّزام وآية الرّوم «1» . الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إبطاء قريش عن الدخول في الإسلام، وصدهم عن سبيل الله كثيرا، دعا الله أن ينزل عليهم عذابا من جنس ما نزل على قوم يوسف عليه السلام، وهو الجفاف الذي يسبب هلاك الزرع وموت الضرع، فاستجاب الله دعاءه، وكانت سنة سوداء   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، برقم (1007) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 على قريش، حتى اضطروا إلى أكل ما يستقبح أكله كالجلد والحيوانات التي ماتت ونتنت، ثم استجاب الله لنبيه مرة أخرى فأنزل عليهم الغيث. [ فوائد الحديث ] وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: حفاوة الله سبحانه وتعالى بنبيه إذ استجاب دعاءه وأنزل على قريش عذابا من جنس ما طلب النبي، بل زاد الأمر إلى أكلهم كل ما يتقذر ويستقبح، وهذا انتقام من الله عز وجل لمن كذب وآذى النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفرع على ذلك تهديد كل الأمم التي تكذب بالكتاب والسنة بأن ينزل بهم ما نزل بقريش لما آذوا الله ورسوله، وما يحدث من جفاف أو أعاصير شديدة، وأوبئة وزلازل تدمر كل شيء، ليس ذلك ببعيد، ولو هلك في هذه الكوارث مسلمون صالحون، فإنهم يبعثون يوم القيامة على نياتهم، ولن يضرهم- إن شاء الله- أنهم أخذوا مع الكافرين، شريطة أن يكونوا قد أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر قدر استطاعتهم، وتغيرت وجوههم مما رأوا من المعاصي. الفائدة الثانية: إقرار كفار قريش باستجابة الله لدعاء النبي، مما يعني إقرارهم بصدقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب أبدا لمن يكذب عليه، أو من يريد أن يضلّ عباده، وذلك أنهم أقروا أن ما حدث لهم من جفاف كان بدعوته صلى الله عليه وسلم، كما أنهم طلبوا منه مرة أخرى أن يدعو الله بكشف ما هم فيه، فهذا إقرار آخر منهم، ويتفرع على ذلك، إيمانهم بوجود الله عز وجل، الذي يسمع الدعاء ويجيبه، وهذا ما وضحته في الحديث اللاحق. الفائدة الثالثة: وجوب أن يرى المسلم فضل الله عز وجل في إنزال رزق السماء، وهو المطر، وإخراج رزق الأرض، وهو النبات، وعلى العبد أن ينظر إلى حال من يفتقد هاتين النعمتين العظيمتين، وألايكون إيلافهما سببا في عدم رؤية فضل الله والشكر الجزيل عليهما، وأسوا ما في الأمر ألايشعر الإنسان بنعمة المولى عز وجل إلا بعد أن يفقدها. الفائدة الرابعة: إقرار كفار قريش بحسن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به من طاعة الله وفضائل الأعمال والأقوال، لقول أبي سفيان: (يا محمد إنك تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم) وهذا يدل على أن كفرهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان استكبارا عن الحق. الفائدة الخامسة: جواز الدعاء على الكافرين، بما قد يضر بعض المسلمين معهم، خاصة لو كان هذا الدعاء فيه مصلحة ترجح على الضرر الواقع بالمسلمين، وفيه أيضا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 جواز الدعاء لرفع الضرر الواقع على الكافرين، وكل ذلك تحكمه المصلحة، سواء الدعاء لهم بالهداية، أو الدعاء عليهم بالهلاك. الفائدة السادسة: لا يريد الله، سبحانه وتعالى، إيمانا جبريّا؛ لأن هذا الإيمان إيمان القالب وليس القلب، ولا قيمة له، والدليل من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما اشترط على أبي سفيان إيمان كفار قريش حتى يرفع عنهم القحط، ولكن دعا لهم واستجاب الله الدعاء، ويكفي ذلك في إقامة الحجة على الكفار، بصدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] ، ونشير هنا إلى أن قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ليس المراد منه، تخيير العباد بين الإيمان أو الكفر، كما يفهم ذلك الكثير من الناس، ولكن الفهم الصحيح للآية أنها من باب التهديد والوعيد لمن لا يؤمن، وأن العبد ليس مخيرا بين الإيمان والكفر. والدليل من نفس الآية قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الكهف: 29] . الفائدة السابعة: في الحديث بيان للمقصود من قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدخان: 10] ، وقوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 16] ، فالآيتان يقصد بهما ما حدث للكفار- في حديث الباب- من المجاعة والهزيمة العظيمة التي لحقت بهم في غزوة بدر، وكثير من الناس يفهم أن هاتين الآيتين- الدخان والبطشة- هما من علامات يوم القيامة، وهذا خطأ. الفائدة الثامنة: بيان ما عليه الكفار من النكوص على الأعقاب ونقض الوعود؛ لأن الكفار قد وعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، لو كشف عنهم ما وقع بهم من القحط، ولكنهم أصروا على الكفر بعد أن كشف الله عنهم، قال تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] ، وهى سنة من قبلهم، قال تعالى على لسان بني إسرائيل لنبيهم موسى عليه السلام: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 49- 50] . الفائدة التاسعة: قد يستجيب الله عز وجل، ويكشف العذاب عن الكافرين لو وعدوا أنهم سيؤمنون، مع أن الله عز وجل يعلم كذبهم، كما حدث مع اليهود، ومع كفار قريش، ويكون هذا من باب الاستدراج لهم، وتسجيل مواقف تبين كذبهم وعنادهم، وتقيم عليهم الحجة الدامغة، لأنهم قد رأوا من الآيات ما يجعلهم يؤمنون، ولكنهم أبوا. المثال الثاني: عن ابن مسعود قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي عند البيت وأبو جهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيّكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه فلمّا سجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنّبيّ صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتّى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت- وهي جويرية- فطرحته عنه ثمّ أقبلت عليهم تشتمهم، فلمّا قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثمّ دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا ثمّ قال: «اللهمّ عليك بقريش» ، ثلاث مرّات، فلمّا سمعوا صوته ذهب عنهم الضّحك وخافوا دعوته، ثمّ قال: «اللهمّ عليك بأبى جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأميّة بن خلف وعقبة بن أبي معيط» وذكر السّابع ولم أحفظه، فو الّذي بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ لقد رأيت الّذين سمّى صرعى يوم بدر ثمّ سحبوا إلى القليب قليب بدر) «1» . الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا على سبعة من كفار قريش لما آذوه، فاستجاب الله دعاءه في السبعة كلهم جميعا، فهلكوا في غزوة بدر الكبرى، ودفنوا في القليب، والقليب هو البئر. فوائد الحديث: الفائدة الأولى: بيان عظيم الأذى الذي لاقاه النبي من كفار قريش، يتبين ذلك من: 1- إلقاء سلا الجزور على ظهره في أشرف الأماكن- في البيت الحرام- وهو في أشرف الأوضاع- ساجدا لله- مما يؤذيه أكثر وأكثر. 2- ضحك الكفار عليه بعد إلقاء القاذورات، وهم أحقر الناس عند الله وعند رسوله، حتى مال بعضهم على بعض من كثرة الضحك. مما يزيد الإيذاء، فالإيذاء هنا نفسيّ وبدني. 3- لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من أصحابه يدافع عنه، في هذا الموقف فبقي ساجدا صابرا حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها فطرحت عنه الأذى. ومما كان يزيد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ما اعتاد الأذى والاستهزاء قبل نبوته، بل كان   (1) رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1794) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 معززا مكرما، حسيبا نسيبا في قومه، يتحدث الناس عنه ويثنون عليه خيرا، فيكون الضرر الواقع عليه بسبب أذى الناس بعد النبوة مضاعفا، ويحتاج تحمله إلى صبر مضاعف، ورباطة جأش أكبر مما لو كان مهينا بين الناس قبل البعثة. الفائدة الثانية: مناقب فاطمة رضي الله عنها: 1- حضورها من بيتها، لما سمعت ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم، وتجرؤها على طرح الأذى، وكان طرحه يحتاج إلى شجاعة؛ لأن عبد الله بن مسعود لم يجترأ أن يفعله، وقد تمنى أن لو كان له منعة وقوة يركن إليهما ليطرحه، تجرأت فاطمة، مع أنها كما ذكر الراوي، جويرية، أي حديثة السن. 2- كما تجرأت فاطمة مرة أخرى، بأن سبت أكابر قريش، وتدبر أنها لم تسبهم خفية في نفسها، ولم تسبهم مدبرة عنهم ولكن أقبلت عليهم تشتمهم، وكما ذكرت من قبل كانت جارية حديثة السن. 3- حبها العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، مما دفعها إلى طرح الأذى عنه، وسبها لمن فعل ذلك، معرّضة حياتها للخطر؛ لأن قيام الكفار بإيذائها كان أمرا واردا. 4- حفظ الله عز وجل لها عرضها وشرفها، بأن وقاها من رد صناديد الكفار عليها، ولو باللسان، بالرغم أنها قد سبتهم في وجوههم، وأعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد ألقى في قلوبهم الرعب منها، وإلا فما الذي يمنعهم من رد سبها، مع أنهم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ الايذاء. الفائدة الثالثة: بعض شمائله صلى الله عليه وسلم: 1- شجاعته وصدعه بالحق، وعدم خوفه من أذى الكفار، حيث كان يصلي عند البيت على مسمع ومرأى من الكفار، وهو يعلم تربصهم به، وحرصهم على إيذائه. 2- ومن شجاعته أنه دعا عليهم بصوت عال حتى يسمعوا، ولو كان خائفا لأسر بالدعاء. بل إنه دعا عليهم ثلاثا، كعادته في سائر دعائه، فلم يكتف بواحدة اتقاء لشرهم. 3- انتقام الله سبحانه وتعالى من الذين أغضبوه وآذوه وألقوا عليه سلى الجزور، بأن أهلكهم جميعا في أول موقعة بينه وبين المشركين، وأذلهم بعد موتهم غاية الإذلال، بأن نتنت أجسادهم وكان مثواهم الأخير أن قلبوا في البئر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الفائدة الرابعة: تسلية كل من يتعرض للإيذاء في سبيل الله، وأن هذا سبيل الأنبياء، الابتلاء والصبر على الإيذاء، وتكفل الله أن تكون العاقبة لهم ولأتباعهم. الفائدة الخامسة: في أبي جهل وأصحابه: 1- الذي يباشر المعصية، أعظم خطرا، وأكبر وزرا، من الذي يدل عليها أو يرضى بها، فأبو جهل هو الذي اقترح إلقاء سلا الجزور، وبقية القوم رضوا عن هذا العمل وضحكوا منه، ولكن راوي الحديث، حكم على عقبة بن أبي معيط، أنه أشقى القوم؛ لأنه هو الذي باشر تلك الفعلة. 2- يعلم كفار قريش، خاصة المدعو عليهم، أن لهذا الكون إلها، حيث ورد في رواية البخاري (فشق عليهم إذ دعا عليهم) ، دل ذلك على إيمانهم بالرب سبحانه وتعالى، وأنه يسمع الدعاء ويلبي النداء، وينتصر للمظلوم. 3- علم هؤلاء الأشقياء صدق نبوة الرسول، لأنهم خافوا أن يستجيب الله دعاءه، ولولا يقينهم بأنه رسول الله حقّا ما خافوا دعاءه لأن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من يكذب عليه، ويدعي النبوة. 4- تعظيم الكفار لبيت الله الحرام، وأنهم يرون فضله وشرفه على بقية البقاع، حيث ورد في رواية البخاري: (وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة) «1» . الفائدة السادسة: جواز الدعاء على الكافرين بالهلاك وسوء الخاتمة، مع تعيين أسمائهم، وإن كان الرسول قد دعا لبعض الكافرين بالهداية، فنتعلم من ذلك أن النبي كان يرجح بين المصالح والمفاسد، ويختار الأصلح في كل واقعة، وهذا يدل على حكمته وتوسّطه في الأمر. الفائدة السابعة: سفاهة الكافرين، وخفة عقولهم، حيث استعجلوا نزول العذاب من الله، بالتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء والإيذاء، وكان من العقل والحكمة، حتى وإن كفروا، ألا يبالغوا في العداوة والبغضاء، ويجعلوا لأنفسهم مجالا للعودة والتوبة، بدلا من أن يحكموا على أنفسهم في فترة الإمهال بسوء الخاتمة، ولكن انطبق في حقهم قوله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ [الشعراء: 204] . يتفرع على ذلك، أن على كل مسلم، أن يأخذ من الحديث الدرس والعبرة، فلا   (1) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب: إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة، برقم (240) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يستعجل عذاب الله، فلا جدال في آيات الله بغير حق، ولا إنكار لما جاء في الكتاب والسنة، ولا استهزاء بحرمات وشعائر الله، فهذا كله يعجل عذاب الله، ولا أحد يقدر عليه، انظر ماذا فعل الله بالمستهزئين برسوله، وقد كانوا في فسحة من أمرهم، ولكن بالضحك والهزل وبكثير من الكبر، أذلهم الله بعد أن كانوا أكابر، وجعلهم أحاديث بعد أن كانوا أساطير، ولا أحد يتصور ما أعده الله لهم من العذاب الأليم يوم الدين، فلو لم يعذبهم الله على أي عمل اقترفوه، غير هذه الفعلة النكراء، فسيرون من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وليحذر كل مسلم يستهزئ بالكتاب والسنة أن تصيبه شؤم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثامنة: التحذير من رفقاء السوء، فالظاهر من الحديث، أن بعضهم حرّض بعضا على هذه الفعلة، ولو أن فيهم صالحا أو عاقلا لنهاهم عن هذا المنكر ولنصحهم بالمعروف. الفائدة التاسعة: اعتناء الصحابة بسنة نبيهم، حيث حفظ الصحابي، عبد الله بن مسعود، أسماء من دعا عليهم النبي بمكة، ولما حضر غزوة بدر بعد الهجرة، كأنه راقب الذين آذوا رسول الله، وتأكد برؤية العين أنهم قتلوا وألقوا في القليب، وهذا أيضا من اهتمامهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون أن يعرفوا مال من دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. ويماثله ذلك أيضا مراقبة أحد الصحابة للرجل الذي أبلغهم النبي أنه من أهل النار، فراقبه حتى علم سر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الأمور تزيدهم إيمانا ويقينا بالله ورسوله. ج- استجابة دعائه في هداية الكافرين: عن أبي هريرة قال: (كنت أدعو أمّي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إنّي كنت أدعو أمّي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ اهد أمّ أبي هريرة» فخرجت مستبشرا بدعوة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فلمّا جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف فسمعت أمّي خشف قدميّ فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثمّ قالت: يا أبا هريرة أشهد ألاإله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أمّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرا، قال: قلت: يا رسول الله ادع الله أن يحبّبني أنا وأمّي إلى عباده المؤمنين ويحبّبهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ حبّب عبيدك هذا يعني أبا هريرة وأمّه إلى عبادك المؤمنين وحبّب إليهم المؤمنين» فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلّا أحبّني) «1» . (رواه مسلم) . الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد دعا لأم أبي هريرة، بأن يهديها الله للإسلام، فما بلغ أبو هريرة البيت، إلا وقد أسلمت أمه، بعد أن كانت منذ وقت قصير جدّا، تقول في النبي صلى الله عليه وسلم ما نكره جميعا، فاستجاب الله عز وجل دعوة نبيه على الفور، وأسلمت المرأة وهي وحدها في بيتها، دون أن يدعوها أحد للإسلام، أي أسلمت بالدعاء وحده. ولنقف- أخي المسلم- على عظيم بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، اسمع لقول أبي هريرة آخر الحديث لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم له أن يحببه وأمه إلى عباد الله المؤمنين، قال: (فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني) ، أي أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على المؤمنين في وقت الدعاء، ولم يقتصر على المؤمنين الذين رأوا أبا هريرة وتعاملوا معه، بل عم الدعاء كل المؤمنين في زمن النبوة وما بعدها، وشمل كل من سمع عن أبي هريرة، حتى وإن لم يره، وهذا مشاهد لا ينازع فيه أحد. وعلى المسلم أن يقف مليّا عند هذا الدعاء ليتدبره ويزيد به إيمانه. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: وجوب دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، خاصة ذوي القربى؛ لأنهم أولى بالمعروف، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، وعلى المسلم ألا يمل من دعوتهم، ويكرر عليهم الدعوة ما أمكنه، لقول أبي هريرة: (كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشكرة فدعوتها يوما) وعلى المسلم أيضا أن يدعو لغير المسلمين بالهداية، كما فعل أبو هريرة. الفائدة الثانية: ما يجب أن يكون عليه المسلم من غيرة على محارم الله، خاصة الأنبياء، وأن يحزن لما يسوءهم وينال من أعراضهم، وعليه أن يظهر ذلك؛ لأن أبا هريرة كان يدعو   (1) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه، برقم (2491) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أمه دائما، لكنه لما سمع ما يكره في حق النبي، بكى، وهو الذي لم يبك من قبل لرفضها دعوته للإسلام، وما ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يشكو حال أمه إلا هذا اليوم، كل ذلك يدل على غيرته على رسول الله وأن يمسه أحد بسوء، ولو كانت أمه. كما أن على المسلم أن يحزن ويبكي إذا سمع أحد ينتقص من قدر الله ورسوله، ويكون ذلك خوفا على المتكلم من سوء الخاتمة، وكل من لا يظهر ذلك ولا يتأثر به، ففي قلبه شيء حال بينه وبين هذا الحزن، فعليه أن يفتش في نفسه ويتدارك أمره. الفائدة الثالثة: ما يجب أن يكون عليه المسلم من تعظيم لأبويه، ولو كانا مشركين؛ لأن أبا هريرة سمع من أمه ما يكره ويبكيه في حق أحب الخلق إليه، ولم ينهرها أو يوبخها عما قالت، والدليل على صحة ما فعله أبو هريرة، أن الرسول ما لامه عن سكوته لما سمع ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم. وكان هذا هو التوجيه الرباني لهم، قال تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان: 15] ، فأمرنا الله عز وجل بمصاحبتهما بالمعروف في حال كونهما كفارا، يبذلون ما في وسعهم لدعوتنا للشرك، وترك ما نحن عليه من الإيمان، فما بالكم لو كان الوالدان كفارا ولم يصدّانا عن الإيمان، أو كانا مسلمين لكن فيهم بعض المعاصي، وكيف يجب أن يكون حالنا معهم، إذا كانا مسلمين طائعين بارين، كيف تكون معاملتنا معهم؟ أرى أن كثيرا من المسلمين قد فرطوا في هذا الجانب أشد التفريط، حتى وقع فيه من يبدو عليه علامات الصلاح والتقوى، ووالله إنه لنذير شؤم على الأمة كلها، فعلى الجميع أن يتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ألا يعقل المسلم صاحب الدين كيف قرن الله عز وجل بين الشرك وعقوق الوالدين؟! قال تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: 23] ، وقد عدّ النبي العقوق من أكبر الكبائر، وتأمل أخي المسلم حديث الثلاثة الذين مالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة، فتوسلوا إلى الله بأحسن أعمالهم حتى ينجيهم من الموت، فما وجد أحدهم لنفسه عملا أعظم من أنه أتى ذات ليلة باللبن ليسقي والديه، فوجدهما نائمين، فكره إيقاظهما من نومهما، وكره أن يبدأ بالصبية، وهم يتضاغون تحت رجليه ليسقيهم اللبن فأبى، حتى طلع الفجر، وهو واقف يحمل اللبن والأولاد يبكون، لقول الرجل في الحديث: (فما زال ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر) «1» وتقبل الله دعاءه بسبب هذا   (1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب: إجابة دعاء من برّ والديه، برقم (5974) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 العمل، وانفرجت فرجة في باب الغار، والغريب في الحديث، أن الله سبحانه وتعالى قد قبل منه العمل، مع ما لقاه الأطفال من شدة، وكان يمكن أن يسقيهم ويبقي ما يكفي والديه، ولكنه كره فقط أن يقع في شبهة تقديم أولاده على والديه ولو صوريّا. من منا الآن يقدر على بر والديه مثل هذا أو حتى قريبا منه؟ وقد أطلت في العرض لخطورة الأمر. الفائدة الرابعة: ثقة الصحابة، ببركة دعاء النبي، لقول أبي هريرة: (فخرجت مستبشرا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم) . وفيه جواز طلب الدعاء من أهل الدين، ومن نظن فيهم خيرا، وفيه رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، إذ كانوا يذهبون إليه ويشتكون إليه ما يجدون حتى من أقرب الناس إليهم، ولا يتحرجون أن يقولوا له عظيم الأمور، يقول أبو هريرة: (فأسمعتني فيك ما أكره) ، ولا يجد هو صلى الله عليه وسلم في نفسه غضاضة من هذا القول، بل يدعو الله لها بالهداية فتهتدي، وهذا من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته بالناس، مؤمنهم وكافرهم، وصدق الله الذي يقول: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . الفائدة الخامسة: عدم غضب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه والانتقام لها، حيث دعا لمن قالت في حقه السوء، ودعا لها في نفس المجلس، ولو أنه شعر في نفسه غضبا منها، ما دعا لها حتى يذهب ما في قلبه. الفائدة السادسة: ما كان عليه الصحابة من تحقيق أمر العقيدة الصحيحة، وكانوا على علم وبصيرة بالأمور التي تخص الله وحده، ولا يشاركه فيها أحد، حتى أحب الخلق إليه، هو النبي صلى الله عليه وسلم والذي علمهم ورباهم على التوحيد الخالص، قال أبو هريرة: (فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة) . ثم لما أسلمت أمه عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة) . فعلم الصحابي الجليل، أبو هريرة، رغم حداثة سنه، أن الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والهداية لله وحده، فلم يخلط بين الأمرين، كما خلط كثير من الناس هذه الأيام. الفائدة السابعة: من السنة حمد الله والثناء عليه، عند نزول النعم ورفع النقم، خاصة إذا كان بسبب استجابة الله لدعاء العبد، وعلى العبد ألا ينسى بعد استجابة الدعاء وتفريج الكروب صاحب الفضل سبحانه وتعالى، قال أبو هريرة حاكيا عن النبي: (فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرا) ، كما لم ينس أبو هريرة أن يبشر من دعا له وأجرى الله الخير على يديه، فبعد إسلام أم أبي هريرة، رجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه يشكره (فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح) . وهذه السنة يجب أن نتمثل بها، وألا ننسى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أسدى إلينا معروفا، وألا نتنكر لأصحاب الفضل بعد أن يقضي الله لنا حوائجنا بفضل شفاعتهم. الفائدة الثامنة: ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رقة القلب، وهذا ما يجب أن يكون عليه حال المسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذم الفظ الغليظ، روى البخاري، عن معبد بن خالد قال: سمعت حارثة بن وهب الخزاعيّ قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟ كلّ ضعيف متضعّف لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النّار؟ كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» «1» ، انظر إلى أبي هريرة بكى في الأولى من الحزن، وبكى في الآخرة من الفرح، وهذه عائشة رضي الله عنها تحكي عن أبيها فيما (رواه البخاري) (إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس) «2» ، والأسيف، هو رقيق القلب، كثير البكاء، ومن يرى في نفسه قلة البكاء، فعليه أن يبكي على حاله. الفائدة التاسعة: على المسلم أن يستزيد من الخير، خاصة إذا كان في حضرة الصالحين، وقد ذكرت ذلك، في حديث أم حرام، ويبدو هنا أن أبا هريرة قد أغراه استجابة الله دعاء نبيه بهداية أمه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، ويحبب المؤمنين إليهم. الفائدة العاشرة: فضيلة الحب في الله عز وجل، وهو أن تحب المؤمنين، وأن يحبك المؤمنون، ليس لغرض دنيوي، ولكن لكونك مؤمنا وهم مؤمنون، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحب، فروى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النّار» «3» . والدليل على فضيلة الحب من الحديث، أن أبا هريرة، سأل النبي أن يحبب فيه المؤمنين وأن يحببه إلى المؤمنين، وما ذاك إلا لفضيلة الحب في الله، ولو لم يكن ذلك شيئا مستحبا شرعا، ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الطلب، بل دعا له به، واستجاب الله الدعاء. الفائدة الحادية عشرة: على كل مؤمن أن يحب أبا هريرة وأمه، وأن يجد في قلبه أثر هذا الحب، ومن لم يجده، فعليه أن يقرأ مناقب أبي هريرة وأمه، حتى يتشبع قلبه بحبهما، فإن لم   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] ، برقم (4918) . (2) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (664) . (3) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، برقم (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 يجد هذا الحب، فليعلم أن في قلبه شيئا وأن إيمانه لم يكمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهما أن يحبهما كل عباد الله المؤمنين، ولم يخص طائفة دون طائفة، ولا زمنا دون زمن، فكونك لا تحبهما فمعناه أن إيمانك ناقص، وأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم تشملك. 16- تكثير الطعام والشراب: عن أبي هريرة كان يقول: (ألله الّذي لا إله إلّا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثمّ قال: «يا أبا هرّ» قلت: لبّيك يا رسول الله قال: «الحق» ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: «من أين هذا اللّبن؟» قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة قال: «أبا هر» قلت: لبّيك يا رسول الله قال: «الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي» قال: وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة؟ كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال: «يا أبا هر» قلت: لبّيك يا رسول الله قال: «خذ فأعطهم» قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى ثمّ يردّ عليّ القدح فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى ثمّ يردّ عليّ القدح فيشرب حتّى يروى ثمّ يردّ عليّ القدح حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلّهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: «أبا هرّ» قلت: لبّيك يا رسول الله قال: «بقيت أنا وأنت» قلت: صدقت يا رسول الله قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت فقال: «اشرب» فشربت فما زال يقول: «اشرب» ، حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكا قال: «فأرني» فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة) «1» .   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، برقم (6452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الشاهد في الحديث: أن قدح اللبن قد شرب منه سبعون من أهل الصفة كما ورد في روايات الحديث، وشرب منه أبو هريرة والنبي صلى الله عليه وسلم، وبقى منه، ويبدو أن القدح لم يكن مملوآ، لقول أبي هريرة (فوجد لبنا في قدح) ، ولم يقل: وجد قدحا مملوآ لبنا، وهي معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وانظر كيف شرب كل رجل عن جوع حتى روي. فوائد الحديث: الفائدة الأولى: فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم: 1- فراسة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث عرف ما في نفس ووجه أبي هريرة، دون أن يسأله عن شيء، فعلم أنه يريد أن يدعوه أحد إلى طعام يسد جوعه، وما في وجهه هو علامات الجوع، وأقول: إن ذلك كان فراسة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قد مرّا على أبي هريرة وكلماه ولم يفطنا إلى ما يريد، أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرف ما به دون أن يكلمه، ويتفرع على ذلك، أن الفراسة منحة من الله سبحانه وتعالى وأن الناس يتفاوتون فيها بين مكثر ومقل. 2- تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ، ولو كانوا خدما أو فقراء يتبين ذلك من المواقف التالية: أ-) تبسمه لأبي هريرة، حين رآه يجلس على الطريق، وذلك ليطمئنه أنه قد عرف ما به، ويبشره بالخير. ب) مناداته أبا هريرة، بكنيته، بل بصيغة التصغير «أبا هر» زيادة في التلطف، وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المسلم، مع الخدم والفقراء، لا أن يترفع عليهم ويزدريهم، ويستكبر أن يناديهم بأسمائهم، فيشير إليهم إشارة، والبعض يترفع غاية الترفع، أن يأكل معهم، وكل ذلك مخالف للسنة. ج) تبسمه مرة أخرى لأبي هريرة، بعد أن شرب القوم جميعا، كأنه يقول له: كنت أعلم ما في نفسك وخوفك أن اللبن لن يبلغك، وتلطفه بقوله: «بقيت أنا وأنت» . 3- تورعه صلى الله عليه وسلم عن أكل الحرام وحرصه على ذلك، حيث سأل عن اللبن الذي وجده في القدح، ليعلم أهو صدقة أم هدية؛ لأن الأكل من الصدقة حرام على الأنبياء، ويتفرع على هذا أن المسلم إذا وجد مالا أو طعاما، واستشكل عليه أمره، يجب عليه أن يسأل عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ولو كان في بيته، خاصة إذا اعتاد أن يضع الناس عنده أمانات، ولا يقول: الأصل الإباحة، وليعلم كل مسلم أن أكل الحرام يذهب تقوى القلب، ونضرة الوجه، وهو الذي يرد دعوة المسلم، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم وفيه: (ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك؟) «1» . 4- مراقبة الله عز وجل لأحوال نبيه ، وعدم إساءته في ضيفه، ولذلك رزقه اللبن، فالنبي دعا أبا هريرة لما رأى عليه علامات الجوع، وما كان النبي يعلم أن في البيت شيئا يطعمه ضيفه، قال أبو هريرة: (فوجد لبنا في قدح) ، وهذه تكرمة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. 5- تواضعه صلى الله عليه وسلم ، ويتبين ذلك من: أ) دعوته أبا هريرة إلى بيته، ولم يحله إلى أحد الصحابة الأغنياء، ليتولى ذلك، ثم دعوته بقية أهل الصفة الفقراء، ليشاركوه الشراب. ب) شربه من القدح، بعد أن شرب القوم جميعا، ولم يترفع عن ذلك، ولم يجد غضاضة أن يشرب من نفس القدح، ويقول أبو هريرة: (فشرب الفضلة) أي الذي بقي بعد شبع القوم. 6- تربيته القولية والفعلية للأمة: تتمثل القولية في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «اقعد فاشرب» فأمره بأدب الشراب والطعام، وهو القعود، أما التربية الفعلية، فقد سمى قبل أن يشرب، فتعلمها أبو هريرة، وحفظها ونقلها للأمة، فكانت التسمية أدبا لها إلى يوم القيامة. 7- إيثاره صلى الله عليه وسلم: ويتبين ذلك من: أ- تعوده صلى الله عليه وسلم أن يشاركه أهل الصفة الهدية، مع أنه كان يرسل إليهم كامل الصدقة، ولم يقل: الصدقة لهم، والهدية لي. ب- أمره أبا هريرة أن يشرب قبله، ويأمره أن يشرب عدة مرات، حتى غاية الشبع. 8- كمال عبوديته لله عز وجل ، حيث حمد الله، بعد أن شرب القوم كلهم، فثناؤه على الله، كان بمناسبة البركة التي جرت على يديه في اللبن، حتى شرب القوم عن آخرهم، وكان من دأبه صلى الله عليه وسلم، أن يرجع الفضل لله، سبحانه وتعالى، ويثني عليه بذلك،   (1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1015) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فتتعلم أمته هذا الهدي النبوي، قال أبو هريرة: (فحمد الله وأثنى عليه) . الفائدة الثانية: مناقب أبي هريرة: 1- استعفافه: حيث إنه لم يسأل الناس رغم شدة جوعه، حتى ظن من يمر به أن به صرعا أو جنونا، ومع ذلك استعفف ولم يسأل، والله قد رباهم على ذلك، حيث مدح في كتابه العزيز هذه الطائفة، فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة: 273] ، كما رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقد روى البخاري بإسناده عن الشّعبيّ قال: حدّثني كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن اكتب إليّ بشيء سمعته من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكتب إليه سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال» «1» ، فإذا كان أبو هريرة قد تعفف عن سؤال ينجيه من الهلاك، فمن باب أولى، أن يتعفف المسلم عن سؤال ما يكمل به حياته، وأن يتعفف من باب أولى في باب العبادات، ومثاله، الذين يطلبون الحج مع الناس لينفقوا عليهم، ولا يجدون في ذلك غضاضة في أنفسهم، أو يخرجون من بيوتهم قاصدين الحج، وليس معهم زاد، ويقولون نحن المتوكلون، وفي نيتهم النزول عالة على غيرهم، هذا كله مخالف لسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم. 2- كمال طاعته للرسول صلى الله عليه وسلم: يتبين ذلك من: أ- مسارعته إلى دعوة أهل الصفة، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما كان يشعر به من جوع، واعتقاد أنه أولى الناس بهذا اللبن، ليتقوى به، فلم يجادل أو يراجع النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، بل لم يطلب منه أن يشرب من اللبن قبل دعوة أهل الصفة، ليذهب ما يجده من شدة الضعف، وهذا أدب ما بعده أدب، امتثلوا أمر الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] ، وفهموا أن عدم التقديم يشمل كل شيء، في العبادات والعادات. ب- طاعته للرسول، في تكرار الشرب من القدح حتى امتلأت معدته، ولم يتوقف عن الشرب إلا بعد عدم وجود منفذ للزيادة، كأنه إذا زاد من اللبن، فلن يصل إلى معدته، وكان من أدبه أنه لم يردّ أمر النبي بزيادة الشرب تصريحا، بل قدّم العذر الخارج عن إرادته، فقال: ما أجد له مسلكا.   (1) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب: قول الله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة: 273] ، برقم (1477) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 3- فقهه رضي الله عنه: أ- جعل طاعة الرسول من طاعة الله سبحانه وتعالى، ولم يفرق بينهما، ورأى أن ذهابه بأمر الرسول لدعوة أهل الصفة، هو طاعة لله عز وجل فيكون عدم ذهابه، معصية لله عز وجل، هكذا كانوا يرون طاعة الرسول من طاعة الله، سبحانه وتعالى، في كل كبير وصغير، قال أبو هريرة: ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بدّ. يتفرع على ذلك، أن نحكم على كل من يفرق بين طاعة الله وطاعة رسوله، بالضلال المبين، فتارة يقولون: ما كان في كتاب الله أخذنا به، وما كان في السنة ففيه نظر، وتارة يقولون: أوامر القرآن واجبة، أما أوامر السنة فهي على سبيل الاستحباب، لا الوجوب، وفهم الصحابة حجة على هؤلاء، بل قول الله تعالى حجة على الجميع، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء: 80] ، فمن فرق بين أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كذب بهذه الآية الكريمة. ب- تعظيمه لأمر الوحي، من جهتين: الأولى: أقسم به ليغلظ القسم. الثانية: وصفه بالحق، فقال: (لا والذي بعثك بالحق) . 4- خبرته وعلمه بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يعلم أن أهل الصفة إذا جاؤا سيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يناولهم القدح، وذلك من كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم ودخوله عليه، قال: (فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم) . 5- كمال أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يرد نداءه بقوله: (لبيك يا رسول الله) ، وأرى أن ذلك يدل على كمال الأدب، مع عظيم الحب، وليس الأدب وحده، ويتفرع على ذلك أن جملة (لبيك وسعديك) لا يختص بها الله عز وجل، ويجوز أن يردّ بها الرجل دعوة أهل العلم والفضل، حيث لم يثبت أنها من خصوصيات الرسول، ولكن ينبغي ألا نتوسع فيها، حتى لا تصبح كلمة فارغة عن محتواها فتكون كلمة لا معنى لها ولا قيمة، كما يمشي الرجل فيقول لكل من يقابله: (ادع الله لي) . الفائدة الثالثة: وجود الفقراء وأهل العوز في المجتمع الإسلامي، وهذا علقت عليه بالتفصيل في حديث: «ذهب أهل الدثور» ولكن أزيد هنا، أن على أفراد المجتمع أن يطعموهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، خاصة الوالي لقول أبي هريرة: (إذ أتته صدقة بعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم) . الفائدة الرابعة: لا حرج أن يجد المسلم في نفسه شيئا، إذا علم أن أحدا سيشاركه طعاما أو شرابا هو أحوج الناس إليه، وهذا الأمر مجبول عليه الناس، يتبين ذلك، من قول أبي هريرة لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الصفة (فساءني ذلك) ، وقوله أيضا: (كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن) ، وما ذهب ودعا أهل الصفة ليشاركوه في اللبن إلا اضطرارا، ولو كان الأمر بيده ما ذهب، وقال مبررا ذهابه لأهل الصفة: (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) ، وعلمنا أن ما شعر به أبو هريرة ليس فيه مذمة له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم ما شعر به أبو هريرة، ولم يلمه على ذلك، أو يبين له أن ما شعر به خطأ، قال أبو هريرة بعد ما شرب القوم: (فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسم) وتبسمه صلى الله عليه وسلم لعلمه بما كان يجول في خاطر أبي هريرة. يتفرع على ذلك أن الإسلام دين فطرة، لا يصطدم مع طبيعة الإنسان البشرية، وما تشعر به في بعض الأوقات، مثل إيثار النفس على الغير عند مشارفة الهلاك ليس فيه شيء. وتعاليم الإسلام تهذب مشاعر الإنسان وتطوعها وتربيها، ولكن لا تلغيها وتقضي عليها. وأضرب مثلا لذلك للتقريب، ما يشعر به الشاب المسلم من غريزة تجاه الجنس الآخر، وقد تكون في بعض الأحيان قوية جدّا، لم يحرم الإسلام ما يجده الشاب من هذه الغريزة، ولم يجعل وجودها محرما، بل أرشد إلى العلاج الناجع، فقد روى البخاري، عن علقمة قال: بينا أنا أمشي مع عبد الله رضي الله عنه فقال كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «من استطاع الباءة فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء» «1» . وسبحان الذي جعل الإسلام وسطا، بين الإباحية التي دمرت العالم، حيث أعطت للإنسان حرية أن يقضي شهوته بأي وسيلة كانت، حتى ولو كانت الوقوع على المحارم، أو زواج الجنس الواحد، وبين التبتل والرهبنة، والتي تفضي على قطع الحرث والنسل، وقبل ذلك وبعده، تصطدم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها. الفائدة الخامسة: وجوب الاستئذان، حتى لو كان الضيف مرافقا لصاحب البيت، فعليه أن يستأذن منه قبل أن يدخل، والاستئذان شأنه عظيم، علمنا ذلك، أن الله أمرنا به في القرآن الكريم، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا   (1) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، برقم (1905) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] ، قال المفسرون: الاستئناس يشمل الاستئذان، بل هو خلق أعلى من مجرد الاستئذان؛ لأننا لن ندخل بيتا، حتى نعلم استعداد أهل البيت لاستضافتنا، فقد يكون الوقت غير مناسب، أو عندهم ما يشغلهم فلا تجوز الزيارة أصلا، ومن كمال الاستئناس أن نستأذن حتى يأخذ أهل البيت أهبتهم. والحكمة من الاستئذان، هو النظر، حتى لا يقع بصر الضيف إلى عورات الناس، أو إلى ما يكره، ومن تمام أدب الاستئذان ألا يتعدى ثلاث مرات فإن أذن له وإلا رجع. ومن آداب الاستئذان، أن يرجع الضيف إذا قيل له: ارجع، قال تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ [النور: 28] وهذا الأدب الأخير ندر من يعمل به، رغم أننا نقرأه في القرآن صباحا ومساء، فيستحي صاحب البيت أن يقول للضيف: ارجع، ويشق على الضيف أن يسمعها. الفائدة السادسة: أدب الضيافة، أن يناول المضيف القدح ضيفا ضيفا، فلا يجعلهم يتناولونه فيما بينهم، قال أبو هريرة: (فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليّ القدح فأعطيه الرجل) هكذا فعل أبو هريرة حتى شرب أهل الصفة عن آخرهم، وهذا الأدب هو حق للأضياف، ولو كانوا فقراء، انظر إلى أدب إبراهيم عليه السلام مع أضيافه كيف قرّب إليهم الطعام، ولم يقل لهم: هلموا إلى الطعام، قال تعالى: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 27] . والذي يدلنا على حب الله لهذا الأدب ذكره في القرآن في معرض الثناء على ابراهيم صلى الله عليه وسلم. الفائدة السابعة: ذم امتلاء المعدة من الأكل والشرب، والحث أن يجعل المسلم جزآ لطعامه وجزآ لشرابه وجزآ لنفسه هو الأصل، ولكن يجوز في بعض الأحوال أن يشبع المسلم حتى الامتلاء، وذلك في حالة جوعه الشديد، خاصة إذا علم أنه قد لا يجد بعد ذلك طعاما أو شرابا، أو في حالة معرفته وجود بركة في الطعام المقدم له، وأن الذي يأمره بالزيادة، هو من أهل الصلاح والتقوى. الأحاديث التي وردت في هذه المعجزة الظاهرة، وهي تكثير الطعام والشراب ببركة يد الرسول صلى الله عليه وسلم أو دعائه كثيرة جدّا، أورد بعض الأمثلة منها: الحديث الأول: عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد- شكّ الأعمش- قال: لمّا كان غزوة تبوك أصاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 النّاس مجاعة قالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنّا!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا» قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قلّ الظّهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثمّ ادع الله لهم عليها بالبركة؛ لعلّ الله أن يجعل في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال: فدعا بنطع فبسطه ثمّ دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرّجل يجيء بكفّ ذرة قال: ويجيء الآخر بكف تمر قال: ويجيء الآخر بكسرة حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة ثمّ قال: «خذوا في أوعيتكم» قال: فأخذوا في أوعيتهم حتّى ما تركوا في العسكر وعاء إلّا ملئوه قال: فأكلوا حتّى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد ألاإله إلّا الله وأنّي رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنّة» «1» . (رواه مسلم) . الحديث الثاني: عن أمّ مالك كانت تهدي للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في عكّة لها سمنا فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندهم شيء فتعمد إلى الّذي كانت تهدي فيه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتّى عصرته فأتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «عصرتيها؟» قالت: نعم. قال: «لو تركتيها ما زال قائما» «2» . (رواه مسلم) . الحديث الثالث: عن سالم بن أبي الجعد قال سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشّجرة فقال: لو كنّا مائة ألف لكّفانا كنّا ألفا وخمس مائة «3» . رواه مسلم مختصرا من حديث طويل. هذا مختصر من الحديث الصحيح في بئر الحديبية، ومعناه أن الصحابة لما وصلوا الحديبية وجدوا بئرا إنما تنزّ مثل الشراك فبصق النبي فيها، ودعا فيها بالبركة وكأن السائل في هذا الحديث علم أصل الحديث والمعجزة في تكثير الماء ولم يعلم عددهم فأخبره جابر أنهم كانوا ألفا وخمسمائة ولو كانوا مائة ألف لكفاهم الماء. 17- الشفاء بالتفل عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطينّ هذه الرّاية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله»   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، برقم (27) . (2) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب: في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2280) . (3) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. برقم (1856) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قال: فبات النّاس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها، فلمّا أصبح النّاس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّهم يرجو أن يعطاها فقال: «أين عليّ بن أبي طالب» فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتّى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الرّاية فقال عليّ: يا رسول الله أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا فقال: «انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم» «1» . (رواه البخاري) . الشاهد في الحديث: أن عليّا رضي الله عنه قد اشتكى عينه، فبصق فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له، فطابت مباشرة، ورجعت كما كانت قبل الوجع، وهي معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته، ويبدو أن الوجع كان شديدا، لمعرفة الصحابة أنه يشتكي عينيه، ولو كان أمرا عارضا بسيطا، ما اشتهر وتناقله الصحابة ولما تخلف عليّ عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والذي سيبشر فيه أصحابه بمن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال الراوي: «فقال أين علي بن أبي طالب؟» فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. ولفظ: (أتي به) يدل على الوجع الشديد، ففي الحديث فضل ريق النبي صلى الله عليه وسلم التي تشفي- بإذن الله- من الأمراض، بمجرد أن تصيب مكان الداء، وسبحان من قضى أن يجعل في كل ما يتعلق برسوله صلى الله عليه وسلم البركة، حتى بصاقه، حيث كان من الممكن أن يضع النبي يديه الشريفتين على عينيه فتبرأ، أو يكتفي بالدعاء فتشفى، ولكن الله عز وجل، أراد أن يظهر لنا عظيم قدر نبيه، واعتناءه به، فنوع له المعجزات وجعل كل شيء منه وفيه مباركا، فيزداد الذين آمنوا إيمانا. وفي الحديث فوائد: الفائدة الأولى: إطلاع الله عز وجل، نبيه صلى الله عليه وسلم ببعض أمور الغيب، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث أعلم أصحابه رضي الله عنهم أنه ستكون مواجهة بين المسلمين واليهود، وستكون الغلبة فيها للمسلمين، قال: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه» ، وأقول: إنها من دلائل نبوته؛ لأن المعركة لا يعلم المنتصر فيها والمهزوم، إلا الله سبحانه وتعالى، الذي بيده الأمر كله، والغيب عنده حاضر، فمن أوحى لنبيه بنتيجة الموقعة   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، برقم (3701) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 إلا الله عز وجل، ولو لم يكن نبيّا، ما تجرأ أن يقول لأصحابه ما سيحدث في الغد القريب، بل إنه لم يستثن، أي لم يقل: «إن شاء الله» لأن الذي أخبره بالنصر غدا لن يخلف وعده، فكأنه يخبر بما أوحى الله إليه. الفائدة الثانية: تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الفتح والنصر بيد الله عز وجل، لا بيد غيره، وهي من أمور العقيدة، التي ينبغي أن نتعلمها جميعا، ونعلمها أولادنا. فإذا كان الأمر كذلك، وجب على المسلمين أن يستنصروا الله وحده على أعدائهم، وألا يأملوا في وجه أحد غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه» ، يصدق ذلك قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160] ، فبينت الآية غاية البيان، أن النصر بيد الله، وإذا كان الله مع فئة ونصرها، فلن يغلبها أحد، حيث لا قوة تنفع مع قوته، سبحانه وتعالى، وكما يكون النصر من عنده، فالخذلان وعدم التوفيق أيضا بيديه، وإذا حدث، فلا ينفع أبدا نصر أحد لنا مع عدم توفيق المولى جل في علاه. يتفرع على ما سبق، وجوب طاعة الله سبحانه وتعالى، بالتزام أوامره واجتناب نواهيه، وكذا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا شرط في نصرة الله لنا، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد: 7] ، وما عند الله لا يؤخذ إلا بطاعته وإرضائه. الفائدة الثالثة: مناقب علي رضي الله عنه: 1- جعل الله فتح خيبر على يديه، وهذه تكرمة عظيمة من الله له؛ لأن الفتح عمل يحبه الله ورسوله، لما فيه من انتشار الإسلام وعلو كلمة التوحيد. 2- ثبوت حب الله ورسوله لعلي، وثبوت حب علي لله ورسوله، وهما معا منقبتان عظيمتان لعلي رضي الله عنه. الفائدة الرابعة: الحث على حب علي، لكون الله يحبه وكذلك رسوله، ولا يسع أحدا من المسلمين ألا يحب أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة الخلفاء الراشدين، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل العقبة الأولى والثانية، ثم بقية الأصحاب رضوان الله عليهم جميعا، الذين اصطفاهم الله عز وجل، لنصرة نبيه، وحمل راية الإسلام، ونشر الدعوة، وهم الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض. الفائدة الخامسة: حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير ومعرفة أهل الفضل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وحبهم أن ينالهم شرف حب الله ورسوله وأن يكون النصر على أيديهم، لقوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها) ، وقوله: (فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها) ومعنى «يدوكون» أي يخوضون في الحديث، كأنهم قضوا ليلتهم كلها، كل منهم يخمن من ينطبق عليه شروط إعطاء الراية، ويمكن أن نستدل بقوله: (كلهم يرجو أن يعطاها) أنهم كانوا جميعا يحبون الله ورسوله، كما يأملون حب الله ورسوله لكل واحد منهم، لذا رأى كل منهم الشرط ينطبق عليه، وهذه فضيلة ظاهرة لهم. الفائدة السادسة: تغليب جانب الدعوة لغير المسلمين على جانب القتال، وقد ذكر ابن حجر، بأن تالف الكافر حتى يسلم، أولى من المبادرة إلى قتله، لقوله: «فو الله لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» . ويتفرع على التبشير بهذا الأجر العظيم، المترتب على هداية أحد الناس، حث المسلمين على الدعوة إلى الله، وترغيبهم في ذلك، وأن على المسلم أن يبذل غاية جهده ليتحقق مراد الله وهو هداية الناس. الفائدة السابعة: الهداية بيد الله، سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء وقتما شاء، وأن الداعي إلى الله، هو سبب فقط في تلك الهداية، لقوله: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا» ، ونأخذ منه أيضا، حب الله سبحانه وتعالى، أن يعود الناس لحظيرة الإسلام، وأن رحمته قد سبقت غضبه، وأن العفو عنده مقدم على العقاب، ودليله، أنه رتب الأجر العظيم على هداية رجل واحد. 18- طيب عرقه وكفه صلى الله عليه وسلم: عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللّون كأنّ عرقه اللّؤلؤ، إذا مشى تكفّأ، ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) «1» . (رواه مسلم) . الشاهد في الحديث: قول أنس رضي الله عنه: (كأن عرقه اللؤلؤ) وقوله: (ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) .   (1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب: طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم ولين مسه ... ، برقم (2330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- جمال وجهه صلى الله عليه وسلم لقول أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون) ، ومعناه الأبيض المستنير، وهي أحسن الألوان، ذكره ابن حجر «1» . وجمال وجهه صلى الله عليه وسلم دلت عليه أحاديث كثيرة، منها ما (رواه البخاري) ، عن أبي إسحاق قال: سئل البراء أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر، كما ورد في حديث الثلاثة الذين خلفوا في الصحيحين: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر) ، ولم يحرمه الله سبحانه وتعالى، من هذا الجمال في الوجه، حتى يوم موته فعند البخاري من حديث أنس بن مالك: (فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأنه وجهه ورقة مصحف) . ويتفرع عليه، أن حسن الوجه وجماله، شيء محمود في المرء، يشكر العبد ربّه عليه. 2- جمال عرقه: لقول أنس: (كأن عرقه اللؤلؤ) ، فهذا وصف جمال شكل العرق فهو كاللؤلؤ في الصفاء والبياض، وورد في حديث الإفك عند البخاري من حديث عائشة «2» : حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، والجمان حبات اللؤلؤ، أما عن جمال الرائحة، فيقول أنس: (ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) . قال ابن حجر: الأول معروف، والثاني طيب معمول من أخلاط يجمعها الزعفران وقيل: هو الزعفران نفسه. انتهى «3» . والدليل أن عرقه صلى الله عليه وسلم أطيب وأجمل رائحة من كل أنواع العطر، أن الصحابة كانوا يخلطون عرقه بطيبهم، فقد روى مسلم، عن أم سليم أن النبي كان يأتيها فيقيل عندها فتبسط له نطعا فيقيل عليه وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أم سليم، ما هذا؟» قالت: عرقك أدوف به طيبي. ومعنى أدوف به طيبي، أي أخلطه به، وأظن أنها كانت تفعل ذلك ليزداد الطيب طيبا على طيبه، بخلاف البركة التي تحل به. وتأمل أخي القارئ كم يصرف أصحاب المناصب والوجاهة من أموال لتكون لهم   (1) انظر فتح الباري (6/ 573) . (2) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ ... [النور: 12] ، برقم (4750) . (3) انظر فتح الباري (6/ 577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 رائحة زكية عطرة تعجب الناس فلا يتقززون منهم، وكم تمكث هذه الرائحة الزكية، ثم ما تلبث أن تذهب وتخرج الرائحة الكريهة إذا لم يتدارك الإنسان نفسه، فضلا عن اضطراره إلى الاغتسال صباحا ومساء ليحافظ على رائحته الجميلة، ولكن الله، سبحانه وتعالى، قد كفى نبيه صلى الله عليه وسلم مؤونة ذلك، فما كان يزيده العرق إلا جمالا في الوجه وطيبا في الرائحة، إذن ما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أبدا أن يغتسل ليذهب أثر العرق، كما يفعل بقية الخلق، ولا نعلم أحدا يشابهه في ذلك إلا أهل الجنة الذين سلموا من كل سوء ومكروه، حيث ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة عن بعض صفات أهل الجنة: «ورشحهم المسك» «1» . فسبحان الله العظيم، الذي جمع لنبيه صلى الله عليه وسلم، حسن الخلق والخلقة، وجمال الباطن والظاهر. 3- لين كفه صلى الله عليه وسلم، لقول أنس: ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والديباج نوع من أنواع الحرير) ، قال ابن حجر في الفتح: لا تعارض بين هذا الحديث وما رواه أنس أنه كان ضخم اليدين والقدمين وأنه كان شئن الكفين والقدمين أي غليظهما في خشونة، والجمع بينهما، أن المراد اللين في الجلد والغلظ في العظام فيجتمع له نعومة البدن وقوته أو حيث وصف باللين واللطافة حيث لا يعمل بهما شيئا كان بالنسبة إلى أصل الخلقة وحيث وصف بالغلظ والخشونة فهو بالنسبة إلى امتهانها بالعمل. انتهى كلامه رحمه الله. وأعتقد أن من ضمن ما حبا الله كف نبيه صلى الله عليه وسلم بما يلائم ليونته، ويزيد الكف جمالا على جماله، أن جعل الله سبحانه وتعالى هذا الكف أبرد من الثلج، فقد روى البخاري: «عن أنس رضي الله عنه قال: ولا مسست خزة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب رائحة من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم» فاليد أطيب من المسك والجلد ألين من الحرير والملمس أبرد من الثلج، فهل بقي بعد ذلك شيء. وهذا أيضا من أنواع الكمال والجمال البشري الذي حبا الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فلو اقتصر الأمر على ليونة ونعومة اليد لكان نقصا في الكمال، ولو اقتصر على الغلظ في العظام لكان نقصا في الجمال، وفيه أيضا إظهار لكمال قدرة الله في الخلق، إذ خلق الأشياء في أحسن صورة وأجملها مع مناسبتها تماما لما خلقت من أجله، وهذا يتحقق في خلقه الناس على تفاوت. الفائدة الثانية: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في عيون الصحابة رضي الله عنهم: ما كانوا   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة، برقم (3246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يرون أحدا أجمل منه وجها، ولا ألين منه كفا، ولا أطيب منه رائحة. ورؤيتهم له على هذا الوجه، يدل على حبهم الشديد له وصفاء قلوبهم؛ لأن القلب الصافي من الشبهات هو الذي يرى الأشياء على حقيقتها، انظر إلى كفار مكة لظلمة قلوبهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، كما رآه الصحابة، ألم تسمع إلى قول الصحابي الجليل عمرو بن العاص، رضي الله عنه: (وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه) «1» وقد ذكرت الحديث بطوله في باب (تعظيمه صلى الله عليه وسلم في نفوسهم) . 19- نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قد رأيتني مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد حضرت العصر وليس معنا ماء غير فضلة، فجعل في إناء فأتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم به فأدخل يده فيه وفرّج أصابعه ثمّ قال: «حيّ على أهل الوضوء البركة من الله» فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه فتوضّأ النّاس وشربوا فجعلت لا آلوا ما جعلت في بطني منه فعلمت أنّه بركة قلت لجابر كم كنتم يومئذ قال ألفا وأربع مائة) «2» . (رواه البخاري) . الشاهد في الحديث: هو قول جابر بن عبد الله: (فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: بيان ما حبى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من عظيم المعجزات، فالمعجزة هنا تختلف جدّا عن بقية المعجزات التي وردت في تكثير الطعام والشراب؛ لأن زيادة الماء هنا ما جاءت من دعاء الرسول على الماء بالبركة، بل جاءت المعجزة من تفجر الماء من بين أصابعه الشريفة، ولفظ يتفجر، يشعر بكثرة الماء جدّا، وخروجه بقوة، وهذا هو الذي حدث، فقد توضأ من هذا الماء ألف وأربع مائة رجل، ولك أن تتصور كمية الماء التي تكفي لوضوء هذا العدد من الرجال، بل ولشربهم أيضا. الفائدة الثانية: علم الصحابة، رضي الله عنهم، أن هذا الماء فيه بركة عظيمة، لذلك حرصوا على الشرب منه، بل إن راوي الحديث، جابر بن عبد الله، استكثر جدا ما استطاع   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة، برقم (121) . (2) رواه البخاري، كتاب الأشربة، باب: شرب البركة والماء المبارك، برقم (5639) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 من الشرب، وقد ذكرت في حديث أنس مع أهل الصفة، أنه يجوز أن يشرب ويأكل المسلم حتى الامتلاء مما يعلم أن فيه البركة. الفائدة الثالثة: حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى أصحابه رضي الله عنهم فضل الله عز وجل في كل شيء، وأن يوصلهم دائما بخالقهم، وأن يعلموا أن مسبب هذه المعجزات الظاهرات هو الله وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم: «البركة من الله» . 20- حب الصم الشامخات له صلى الله عليه وسلم: الحديث الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه فلمّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم راجعا وبدا له أحد قال: هذا جبل يحبّنا «1» . الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه برجله قال: «اثبت أحد؛ فما عليك إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيدان» «2» . بعض فوائد الحديثين: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- إن كان عجيبا أن يحب النبيّ صلى الله عليه وسلم ما فيه روح مما لا يعقل، كالشجر الذي كان يعرفه ويسلم عليه، وجذع النخلة التي تشتاق إليه صلى الله عليه وسلم وتبكي لفراقه، فالأعجب حقّا، أن يحب النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه روح ولا عقل، شيء إن نظرت إليه ظننت أنه لا يعقل ولا يسمع ولا يرى، ولكنه في الحقيقة يحب، مما يستدعي أن يكون له إحساس، إنه جبل أحد الذي أحب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رجح الإمام ابن حجر- رحمه الله- أن حب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد وحب الجبل له هو على حقيقته فقد قال ما نصه: «الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب: اسكن أحد» ، وقد نقل- رحمه الله- عن السهيلي سبب حب النبي صلى الله عليه وسلم للجبل ما نصه: «كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية» «3» .   (1) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: فضل الخدمة في الغزو، برقم (2889) . (2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب ... ، برقم (3686) . (3) انظر فتح الباري (7/ 378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقال الإمام النووي- رحمه الله-: «الصحيح المختار أن معناه أن أحدا يحبنا حقيقة جعل الله فيه تمييزا يحب به، كما قال: سبحانه وتعالى.: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] وكما حن الجذع اليابس، وكما فر الحجر بثوب موسى صلى الله عليه وسلم» «1» . 2- بيان ما أعطاه الله- عز وجل- نبيه صلى الله عليه وسلم من القدرة على مخاطبة الجمادات، ولولا أنها تعقل كلامه صلى الله عليه وسلم ما كان لتوجيه الكلام لها من معنى، ورد في الحديث: «فضربه برجله قال: اثبت أحد؛ فما عليك إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيدان» ، وهو من جنس تسليم الشجر عليه صلى الله عليه وسلم. قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «فضربه برجله وقال: «اثبت» بلفظ الأمر من الثبات وهو الاستقرار، وأحد: منادى ونداؤه وخطابه يحتمل المجاز، وحمله على الحقيقة أولى» «2» . 3- فرح جبل أحد بصعود النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ارتجف، ورد في الحديث: «فرجف بهم» ، وما يكون الرجف إلا فرحا واستبشارا، ولا يتصوّر عظيم هذا الأمر إلا من رأى هذا الجبل الضخم الشامخ الراسي فيتخيل كيف أنه اهتز واضطرب. 4- في الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره أن عمر وعثمان. رضي الله عنهما. سينالان الشهادة في سبيل الله. تعالى. وقد وقع الأمر كما قال وأخبر صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: بيان قدرة الله عز وجل: والتي بلغت المنتهى في الكمال، فهذا جماد أصم جعل الله فيه إحساسا يحب به، وجعل له إدراكا يشعر ويعرف من يقف عليه فيضطرب لذلك. وفي الحديث أيضا بيان عظيم حبّ الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم إذ ألقى في الجمادات حبه صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثالثة: الحديث منقبة عظيمة لأبي بكر وعمر وعثمان. رضي الله عنهم. جميعا: فأبو بكر أثبت له النبيّ صلى الله عليه وسلم منزلة الصّدّيقيّة، أما عمر وعثمان- رضي الله عنهما-،   (1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (9/ 140) . (2) انظر فتح البارى (7/ 38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فأثبت لهما النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الشهادة، ويتفرع عليه أن هؤلاء قد أفضوا إلى ربهم وهو راض عنهم تمام الرضا، وأن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان مأجورا في قتاله الذي استشهد فيه، وأنه كان يبتغي به وجه الله- تبارك وتعالى-، وإلا لما أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم درجة الشهادة. الفائدة الرابعة: إذا كان جبل أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبّا على سبيل الحقيقة لا المجاز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليه، وليس له عليه منة ظاهرة كمنته صلى الله عليه وسلم على جميع الأمة، فكيف يجب أن يكون حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم والذي شملتنا منّته صلى الله عليه وسلم من كل وجه، كما أن من السنة أن نحب جبل أحد لحب النبي صلى الله عليه وسلم إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الباب الثالث في خصائص أفضل المخلوقين وسيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 تقديم بادئ ذي بدء أود أن أقر أمرا هامّا ينبغي على كل أحد أن يعلمه ويضعه نصب عينيه ألا وهو أن خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى فروع كثيرة ونواح شتى وأذكر هنا أربعة أصناف يندرج تحتها بقية الأنواع من وجه أو من آخر، وتلك الأربعة هي: الأول: فيما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات، وهذا الصنف له أربعة أقسام: 1- خصوصيات في فضائله وكرامات في ذاته المباركة في الدنيا. 2- خصوصيات في فضائله وكرامات في ذاته في الآخرة. 3- خصوصيات في فضائله وكرامات في أمته وشريعته في الدنيا. 4- خصوصيات في فضائله وكرامات في أمته وشريعته في الآخرة. بأن جعل أمته شهداء على الناس يوم القيامة. الثاني: فيما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات والتخفيفات، وذلك تعظيما له وكرامة بأن فعل المباحات لا يلهيه عن واجبات الرسالة، وهذا أكثر ما تراه وتجده يكون في أمور الزواج والنكاح. الثالث: فيما اختص به صلى الله عليه وسلم من المحرمات وذلك تكرمة له، كما قال ابن الملقن: (فإن أجر ترك المحرم أكثر من أجر ترك المكروه وفعل المندوب، إذ المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات) «1» . وذلك مثل الزكاة فإنها محرمة عليه صلى الله عليه وسلم وكذلك الصدقة، وكذلك حرم عليه إذا لبس عدة الحرب (لأمته) أن ينزعها حتى يلقى عدوه ويقاتله. الرابع: فيما اختص صلى الله عليه وسلم به من الواجبات. والحكمة في ذلك رفع الدرجات وزيادتها، حيث إن الفريضة أفضل من النافلة اتفاقا. وذلك مثل وجوب قضائه صلى الله عليه وسلم دين من مات من المسلمين معسرا، وذلك عند وجود السعة، كما ورد في الصحيحين. وبعد ذكر هذا التقسيم أنبه إلى أنني لم ألتزم هذا الترتيب في كتابي؛ وذلك أني قد أجد الخاصة من خصائصه تشتمل على أكثر من صنف مما سبق فاثرت أن أورد الخصائص بدون الترتيب السابق الذكر، وإنما ذكرت هذا الترتيب بداية حتى يستحضر المسلم أنواع خصائصه صلى الله عليه وسلم فيسهل عليه حفظها أو استحضارها وقتما يريد بأسهل طرق، والله تعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل.   (1) انظر غاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن عمر بن على ص 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أولا: تفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين أ- تفضيله في الآخرة 1- الشفاعة العظمى: قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] . والمقام المحمود: هو المقام الذي يحمده فيه الخلائق كلهم جميعا (حتى الأنبياء) ، وهو مقام الشفاعة العظمى وقد تواترت بذلك الأحاديث الشريفة. عن أبي هريرة قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم، فرفع إليه الذّراع- وكانت تعجبه- فنهس منها نهسة، فقال: «أنا سيّد النّاس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الدّاعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشّمس، فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض النّاس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض: ائتوا آدم. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشّجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرّسل إلى الأرض، وسمّاك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إنّ ربيّ قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضّلك الله برسالاته وبتكليمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 على النّاس، اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى صلى الله عليه وسلم فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلّمت النّاس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى صلى الله عليه وسلم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله- ولم يذكر له ذنبا- نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّد صلى الله عليه وسلم. فيأتونّي فيقولون: يا محمّد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فاتي تحت العرش فأقع ساجدا لربّي، ثمّ يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثّناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثمّ يقال: يا محمّد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفّع. فأرفع رأسي فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: يا محمّد أدخل الجنّة من أمّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب. والّذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة لكما بين مكّة وهجر، أو كما بين مكّة وبصرى» . [رواه البخاري] «1» . وفي رواية عند البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة ماج النّاس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربّك. فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم، فإنّه خليل الرّحمن. فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنّه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنّه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمّد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فأقول: أنا لها. فأستأذن على ربّي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدا فيقول: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفّع فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل ثمّ أعود فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدا فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرّة أو خردلة من إيمان فأخرجه. فأنطلق فأفعل ثمّ أعود فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدا، فيقول: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: انطلق   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً، برقم (4712) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبّة خردل من إيمان فأخرجه من النّار. فأنطلق فأفعل» «1» . وعنده أيضا: «قال ثمّ أعود الرّابعة فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدا فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ ائذن لي فيمن قال لا إله إلّا الله فيقول: وعزّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لآخرجنّ منها من قال لا إله إلّا الله» «2» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: 1- أنه سيد الناس يومئذ، وهو سيدهم، في الدنيا أيضا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» . وهذا الحديث لم يقيد التسييد بالدنيا أو الآخرة، ولكن في الحديث الذي معنا قيّد الأمر بيوم القيامة، لسببين: أولهما: أنه في ذلك اليوم لن ينازعه أحد أنه سيد الناس، بخلاف الأمر في الدنيا، حيث كذب المنافقون والكافرون بنبوته وأنه سيد ولد آدم. ثانيهما: أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم وسيادته للبشر أظهر وأعظم يوم القيامة، لحاجة الأولين والآخرين إليه في أن يرفع عنهم ما هم فيه، وهذا الذي ذكرته يشبه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، مع أنه- سبحانه وتعالى-، يملك أمر الدنيا والآخرة، ولكن الآية ذكرت الآخرة دون الدنيا، للأسباب التي ذكرتها آنفا. 2- ظهور فضل النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على بقية البشر كلهم أجمعين، حيث يبلغ الناس غمّ وكرب، لا يطيقونه ولا يحتملونه، ويسلم هو من هذا الغم والكرب، بل يأتي معززا مكرما، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون» . 3- ظهور فضل النبي صلى الله عليه وسلم على بقية الأنبياء بما فيهم أولو العزم من الرسل، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم جميعا الصلاة والسلام، حيث إنهم لم يجترئوا على التقدم للشفاعة، وأحال كل منهم الأمر إلى غيره، وما قبل ذلك إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى يقول: أنا لها. فكفى بذلك بيانا لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم، وتدبر أخي المسلم، حال الأنبياء يوم القيامة، إذ   (1) البخاري، كتاب التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء، برقم (7510) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 يقول كل منهم: نفسي، نفسي، نفسي، وينطلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، لا يسأله نفسه، ولا أمته، بل يسأله أن يفرج ما الناس كلهم ملاقوه في هذا اليوم العظيم، ولا يفهم أحد، أن هذا الكلام يراد به التقليل من شأن الأنبياء، عليهم جميعا الصلاة والسلام، فهذا منكر عظيم، ولكن هذا الكلام بيان لفضل الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو فضل الله يؤتيه من يشاء. 4- ظهور ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من عصمة في الدنيا، ما بعدها عصمة، حيث إن كل نبي من الأنبياء قد ذكر شيئا يمنعه من الشفاعة، إلا عيسى عليه السلام، ولأنه لم يذكر شيئا فعله يمنعه من الشفاعة، فقد ذكر أن الذي يمنعه منها، وجود من هو أحق بها، وهو العبد الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك أحال- عليه السلام- الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويجب الإشارة هنا إلى أن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، ترجع إلى أنه ما اقترف أي شيء في الدنيا، يلام عليه، ويحتاج فيه إلى مغفرة ربه، - تبارك وتعالى-، وأن قول الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [سورة الفتح: من الآية 2] ، إنما هو من باب رفع شأنه ومنزلته وطمأنته أنه وإن فعل شيئا، يحتاج إلى مغفرة، فإن هذه المغفرة حاصلة. والدليل على ذلك، أن موسى قد قتل نفسا، واستغفر ربه، فغفر له وجاء يوم القيامة مشفقا من هذا الذنب، وذكره على سبيل المانع من القيام بالشفاعة، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ارتكب أي شيء، وغفره الله له، لاستوى الأمر مع موسى ومحمد- عليهما الصلاة والسلام- يوم القيامة، ولكن هذا لم يحدث، بل فضل النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر من جهتين، الأولى: أنه لم يفعل شيئا مطلقا يلام عليه، صغيرا أو كبيرا، يحتاج فيه إلى التوبة، والثانية: أنه لو صدر منه شيء، فإن الله- عز وجل- قد وعده بمغفرته ومحو الذنب قبل أن يقع الذنب، وقبل أن يحدث التوبة، وهذا أعظم المقامات، بل منتهاها، ولعلم عيسى عليه السّلام بهذا المقام العظيم، لم يجرؤ على الشفاعة، مع أنه لم يذنب ذنبا. 5- عظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عند ربه، تظهر هذه المنزلة في النقاط التالية: أ- أنه اختصه بالشفاعة العظمى في ذلك اليوم العظيم، وهو المقام المحمود، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم به، في القرآن الكريم، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] . ب- جعل الله- تبارك وتعالى- الناس يذهبون للأنبياء، فيتعذرون عن الشفاعة، حتى يذهبوا آخر المقام إلى خاتم النبيين، وكان من الممكن أن يقدّر الله ذهابهم إليه ابتداء، ولكن قد يظن ظان أنه يوجد مع النبي أحد يقدر على الشفاعة العظمى، أو أن أحدا يزاحمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 هذه المكانة، فأراد الله- سبحانه وتعالى-، أن يبين فضله مقرونا باعتذار الأنبياء جميعا، وأقول جميعا، لأن الذي اعتذر، هم أولو العزم من الرسل، فمن باب أولى أن غيرهم كان سيعتذر إذا طلب منه الشفاعة، فكأن الجميع قد اعتذر. كما أن الاعتذار للناس عن الشفاعة، من قبل الأنبياء نبيّا من بعد نبي، يجعل الناس في كل مرة أشد حزنا، وأعظم كربا، ويجعلهم يتعلقون أكثر وأكثر بالنبي الذي بعده، فلا يصلون إلى خاتم النبيين إلا بعد أن يصل الغم والكرب بهم أبلغ الحد، كالمريض الذي طاف على الأطباء بمرضه العضال، فلم يجد عندهم الدواء، ولم يبق أمامه إلا طبيب واحد، إما أن يجد عنده الدواء، أو يموت بمرضه، فإذا وجد عند الطبيب الأخير الدواء، كان أكثر له امتنانا، وأشد يقينا بفضله وسبقه، عمن سواه وهكذا ستكون حال النبي صلى الله عليه وسلم، مع الناس يوم القيامة، أرأيت أخي القارئ، الحكمة من سؤال الناس الأنبياء الشفاعة واحدا بعد الآخر، أعلمت أخي القارئ فضل هذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم يوم القيامة، ففي الوقت الذي لا يسمع فيه إلا الهمس كما قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] ، ترى النبي صلى الله عليه وسلم يشفع عند ربه أن يقضي بين الناس، فهل بعد هذا الفضل من فضل؟. ج- تظهر أيضا منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه- سبحانه وتعالى- إذا تدبرنا وتأملنا أحد أسباب اعتذار الأنبياء عن الشفاعة، في قول كل منهم: «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» ، ومجال التأمل أنه في مثل هذا الغضب العظيم، من الرب- تبارك وتعالى-، ينطلق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي العرش ويخر ساجدا لله، حتى يأذن الله له بالشفاعة بقوله: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه ... د- ومن عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم أنه يؤذن له بالسجود تحت العرش، وهذا أبلغ القرب، بل هو القرب نفسه، ولم يأت دليل أن أحدا من المخلوقين سينزل هذه المنزلة، وهو السجود تحت العرش، من الأولين والآخرين. ويتفرع على السجود بعض الأمور وهى: أن السجود لله، هو أعظم مظاهر العبودية لله- عز وجل-، وهي الهيئة التي يكون فيها العبد أقرب ما يكون لله- سبحانه وتعالى- والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «فاتي تحت العرش فأقع ساجدا» ، ولو أن هناك هيئة أشرف من السجود، وأقرب إلى الله- سبحانه وتعالى-، لبينها الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا المقام الرفيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 - ثبوت عرش الرحمن، وكذب من ادعى، أن العرش، إنما يراد به الملك، وثبوت أن العرش له مكان معلوم، فوق السماوات السبع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فأنطلق فاتي تحت العرش» ، وأن العرش شيء مادي محسوس، يقع تحته العبد ساجدا، يصدق ذلك ما ورد عند البخاري، عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «النّاس يصعقون يوم القيامة فأكون أوّل من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطّور» «1» . ثبوت استواء الله- سبحانه وتعالى- على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله، ودليله: «فأقع ساجدا لربي- عز وجل-» . ولولا استواء الله على العرش، ما كان للسجود تحت العرش من معنى، ولكان السجود للعرش، وليس لله المستوي على عرشه، ومع اعتقادنا هذا، فإننا ننزه الله من مشابهة خلقه، وأن كل أسمائه وصفاته إنما هي على وجه يليق بعظمته وكبريائه، ولا يجب الخوض في مثل هذه الأمور، لأنه يستحيل على العبد تصورها، وذلك لقصور العقل وعدم وجود النقل. عدم خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة العبودية، التي هي أعظم المنازل، ودليله: «فأقع ساجدا لربي- عز وجل-» . فالسجود لا يكون إلا من العبد للمعبود، وقوله: «لربي» إقرار أنه- سبحانه وتعالى- هو الرب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المربوب، وكفى ذلك شرفا له، والذين يثبتون للنبي صلى الله عليه وسلم أمورا لم يثبتها هو لنفسه، ويريدون بذلك أن يرفعوا من قدره، هم في الحقيقة قد جهلوا قدر الله- عز وجل-، لأنهم لو عقلوا قدر الله، لعلموا أن إثبات عبودية النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة لله- عز وجل-، هي من أجل المقامات، وأعظم التشريفات، ولا نحتاج معها لإثبات ما لا ينبغي إثباته للنبي صلى الله عليه وسلم. هـ- من أعظم مظاهر، حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يختصه من دون الأنبياء والملائكة، بفتوحات مباركة من المحامد وحسن الثناء عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتح على أحد قبلي» . و «شيئا» هنا جاءت نكرة لتعظيم أمر الفتح الرباني. ويتفرع على هذا الفتح من المحامد والثناء علمنا بعظيم قدر الله- تبارك وتعالى-، فمع كل هذا الثناء وتلك المحامد، التي ذكرها الأنبياء في الدنيا، خاصة نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قصة أبي طالب، برقم (3885) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الملائكة بالملأ الأعلى، لم يصل أحد منهم، إلى الثناء على الله بما هو أهله، حتى يفتح الله يوم القيامة على النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير من أنواع المحامد والثناء. والشيء اللافت للنظر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف تلك المحامد والثناء، بأنها شيء لم يفتحه الله على أحد قبله، ولم يصف تلك المحامد بأنها المحامد والثناء التي يستحقها الله- عز وجل-، أو أنها المحامد التي تبلغ ذات الله الأعز والأكرم، مما يدل على أن كل المحامد والثناء مهما بلغت، لن تبلغ ما يستحقه الله- عز وجل-، وما الله أهل له. كما يتفرع عليه أيضا حب الله- سبحانه وتعالى- للثناء والمحامد، وأنها تذهب غضب الرحمن، وأنه ينبغي أن يبدأ بها العبد مسألته؛ لأن تلك المحامد، كانت السبيل لاستدرار رحمات الله الرؤف الرحيم في هذا اليوم العظيم، وإطفاء غضبه- تبارك وتعالى- ولو كان شيء أحب إلى الله من المحامد والثناء، لالتمسه النبي صلى الله عليه وسلم. وومن دلائل حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه: بعثه صلى الله عليه وسلم صيغة إجابة المولى- سبحانه وتعالى- لدعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال- عز من قائل-: «يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع» . ونلحظ فيها: أن الله- عز وجل- قد بدأ خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم، بأداة النداء، وهذا مبلغ الاعتناء، ولما ناداه كانت المناداة باسمه: «يا محمد» ، وهذا شرف على شرف، وأعتقد أن المناداة كانت بالاسم، وليست بالصفة؛ لأن زمن التكليف قد انتهى، وزمن التشريف قد ابتدى. قوله: «ارفع رأسك» دليل على علو منزلته ورفعة شأنه بين الخلائق يوم القيامة، وتدبر أنه كان أول أمر من الرب- سبحانه وتعالى- وكان يمكن أن يأمر الله نبيه، أن يسأل ما يريد، حال سجوده، ودون أن يرفع رأسه، أو يأمره فيقول له: (قم يا محمد) . كانت الإجابة قبل السؤال؛ لقوله تعالى: «سل تعطه واشفع تشفع» فوعده الله- سبحانه وتعالى- بإجابة كل سؤله، وقبول كل أنواع شفاعته، قبل أن يبين النبي ما يريد، وهو قول يوضح مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، ولا يحتاج الأمر إلى شرح وإسهاب، لأجعل القارئ يتدبر ويتأمل، فقد تعجز الكلمات عن الشرح والبيان. ويكفي أن ننبه إلى أن الأمر بالسؤال، كان مفتوحا غير مقيد بشيء، فقال له- عز وجل-: «سل» دون تحديد مجال السؤال، وستكون الإجابة- إن شاء الله تعالى- على كل ما سأل، وذكرت المشيئة هنا للتبرك، وليس للتعليق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ويتفرع على ذلك، أن نحكم بكمال علم وأدب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كمال علمه، أنه لن يسأل ممنوعا، ومن كمال أدبه أنه لن يتعدى في السؤال، ولو كان من الممكن أن يصدر عنه شيء من ذلك ولو في أقل من القليل- حاشا لله- ما توجه إليه الخطاب الإلهي بالسؤال والإجابة بدون تقييد لماهية السؤال، ومجال الإجابة- فسبحان من علمه وأدبه، وجعله حقيقا بهذا المقام الرفيع. وتشرف النبي صلى الله عليه وسلم بكل هذا الكلام والحوار، مع ربه- تبارك وتعالى- بغير واسطة، ويكون كل الكلام على وجه الرضى والامتنان، بالإضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أول من حظي بشرف الكلام مع ربه يوم القيامة. ز- أمر الله- سبحانه وتعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقوم هو بإدخال من لا حساب عليه من أمته الجنة، ومباشرة النبي صلى الله عليه وسلم إدخال المؤمنين الجنة، شرف عظيم له، وحكمته- والله أعلم- أن يشعر المؤمنون في الآخرة بنعم الله التي أجراها على يد النبي صلى الله عليه وسلم، كما شعروا بذلك في الدنيا، وأن يعلموا أن طاعتهم للرسول، واجتهادهم في اقتفاء أثره، كانت موصلة لهم على يديه لجنات الحنّان المنّان، وانظر كيف أضاف المولى- سبحانه وتعالى- أول طائفة تدخل الجنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: «أدخل من أمتك» كأن هذا الشرف لهذا الطائفة إنما كان لكونها من أمته صلى الله عليه وسلم. ح- ومن الأمور التي تبين منزلته صلى الله عليه وسلم أن الله- سبحانه وتعالى-، قد نوع له الشفاعات الممنوحة له، فمنها: الشفاعة العظمى، التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي مختزلة في هذا الحديث، حيث لم يرد ذكرها، وإنما انتقل الحديث من طلب الناس شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ليزاح عنهم الغم والكرب، إلى الشفاعة في المؤمنين. الشفاعة في إدخال أمته الجنة، وهي أنواع تبدأ من إدخال من لا حساب له من الباب الأيمن من الجنة، وتتدرج حتى تنتهي إلى إدخال من قال لا إله الله، لما ورد عند البخاري: ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر ساجدا فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لآخرجنّ منها من قال: لا إله إلا الله، وهذا منتهى إكرام نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم، كما أن كثرة مرات سجوده تحت العرش وتكرار الثناء والمحامد على الله- سبحانه وتعالى- والإذن له كل مرة أن يخرج من النار طائفة من أمته كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لبيان شرفه، وعظيم منزلته عند ربه، لأنه لا يمكن أن يتردد على الملك ويكثر عليه في الطلب، إلا من يحبه الملك أشد الحب. شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب؛ لما ورد عند البخاري، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمّه فقال: «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» «1» . ط- ومن أتم الأمور التي تبين منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، أنه أخبره في حياته بكل ما خبأه له يوم القيامة، من شرف ورفعة وسؤدد على الخلق كلهم جميعا، وذلك على وجه التفصيل لا الإجمال، وما كان هذا الإخبار ليحدث، لولا علم الله التام، بأدب النبي صلى الله عليه وسلم، مع ربه، وبالغ خوفه وتقواه وخشيته لله- عز وجل-، ومن فوائد ذلك الإخبار: أن يزداد النبي صلى الله عليه وسلم شكرا لله، على هذه المنزلة العظيمة، وتقرّ عينه في الدنيا، بعلمه القرب من خالقه، ومنزلته يوم القيامة. أن تعلم الأمة منزلة نبيها، صلى الله عليه وسلم، في الآخرة، كما علمت منزلته في الدنيا، فيزداد حبها واتباعها له، طمعا أن ينالها شفاعته في الآخرة. 6- رحمة وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة، حيث كان أول سؤال له في أمته، قال: «فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب» ، فاجتهاده في السؤال والتوسل إلى الله، يدل على حبه لأمته، وكذا تكرار الشفاعة، حتى يرضى بخروج من قال لا إله إلا الله من النار، ويجب أن ننتبه إلى أنه صلى الله عليه وسلم أضاف الأمة إلى نفسه، من باب التوسل إلى الله- عز وجل- أن يرحمها، فبهذه الإضافة تتنزل رحمات الله المتتابعة، ولو كان هناك إضافة أعظم من نفسه، لأضاف الأمة إليها، كأن يقول مثلا: (يا رب أمة الإسلام) أو (يا رب خير أمة أخرجت للناس) ؛ لأن الموقف يستلزم تأدبا مع الله أن يتوسل بأعظم الأمور حتى ينفرج الكرب والهم. ومن دلائل شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم، أنه خبأ دعوته شفاعة لأمته في هذا الموقف العظيم، فلكل نبي دعوة مستجابة، وقد استنفذ هذه الدعوة نوح، ولذلك اعتذر عن الشفاعة، وقد ورد عند البخاري، عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمّتي في الآخرة» «2» .   (1) البخاري، كتاب: الدعوات، باب: لكل نبي دعوة مستجابة، برقم (6304) . (2) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، برقم (3358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الفائدة الثانية: مظاهر إكرام أمته ، وهو فرع من إكرام الله له صلى الله عليه وسلم. 1- أنها أول أمة، تدخل الجنة، ولا تفتح الأبواب لأمة قبلها. 2- أن طائفة كبيرة منهم تدخل الجنة، بلا حساب، لقوله تعالى: «أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة» . 3- تخصيص باب لهذه الطائفة في الجنة، لا يشاركهم فيه أحد، وهو الباب الأعظم من الأبواب، لوصفه أنه الأيمن من الأبواب، ومعلوم في الدين، أن الأيمن من الأشياء هو المكرم، أما اختصاصهم بهذا الباب فيعلم من قوله تعالى: «وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» . 4- عدم تخليد أحد من هذه الأمة في النار، شريطة أن يكون مات على التوحيد الخالص. الفائدة الثالثة: في منزلة الأنبياء المذكورين في الحديث ، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم جميعا الصلاة والسلام، يتبين ذلك من: 1- عصمة الله- سبحانه وتعالى- لهم، ودليله: أن كلّا منهم، قد ذكر في هذا الموقف العظيم، أكبر ما فعله ويلام عليه، ليعتذر إلى الناس عن عدم قدرته على الشفاعة، ولو كان بدر منه ما هو أكبر من ذلك لذكره، لأنه مقام ذل وخضوع لله- سبحانه وتعالى-، فماذا فعلوا: أ- أكل آدم من الشجرة وكان هذا قبل أن يكون نبيّا، وقد تاب وقبل الله- عز وجل- توبته. ب- دعا نوح عليه السلام على قومه، قال تعالى ذاكرا دعاءه: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، وقد جاء دعاؤه بعد أن أعلمه الله بعدم إيمان أحد من قومه، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [هود: 36] ، فلم يصدر الدعاء إلى على من يئس من إيمانه، فضلا أنه لم ينه عن الدعاء على قومه. ج- ذكر إبراهيم عليه السّلام، أنه كذب ثلاث كذبات، تمنعه من الشفاعة، ومعلوم أنه لم يصرح فيهن بالكذب ولكنه استخدم المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وكانت اثنتان منهن في الله، والثالثة ليحفظ عرضه صلى الله عليه وسلم، روى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلّا ثلاث كذبات ثنتين منهنّ في ذات الله- عز وجل- قوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا. وقال: بيننا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له: إنّ ها هنا رجلا معه امرأة من أحسن النّاس فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي» «1» . د- أما موسى عليه السّلام، فقد ذكر أنه قتل نفسا لم يؤمر بقتلها، وهو في الحقيقة، لم يقتلها عمدا، لقوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص: من الآية 15] ، فكان القتل خطأ، وعموم المؤمنين يعذرون فيما بدر منهم على سبيل الخطأ. هـ- أما عيسى عليه السّلام، فلم يذكر شيئا، ولو بدر منه أقل شيء، لذكره في هذا الموقف العظيم. 2- شدة تقوى الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لله- عز وجل-، وخوفهم العظيم منه- سبحانه وتعالى- وعلمهم الكامل بقدره- عز وجل-، حيث لما بدر منهم مثل هذه الأمور البسيطة في نظر عموم المسلمين، استعظموها في حق الله، فكانت بالنسبة إليهم كالجبال، وتظهر مظاهر هذا الخوف من: أ- عدم تجرئهم على الشفاعة العظمى، وقولهم جميعا: «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» . ب- قولهم جميعا: «نفسي نفسي نفسي» ، مما يدل على استعظامهم ما فعلوه. يتفرع على ذلك، علمنا بكمال عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أنه لم يفعل شيئا يلام عليه قبل النبوة، مثل آدم، ولم يفعل شيئا عن طريق الخطأ يلام عليه، مثل موسى، وأنه لم يستخدم حتى المعاريض في كلامه، مثل إبراهيم، عليهم جميعا الصلاة والسلام. الفائدة الرابعة: عظيم أهوال يوم القيامة ، يتبين ذلك من: 1- دنوّ الشمس من الخلائق، حتى يغرق الناس في عرقهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون» . يتفرع على ذلك، أن أمور الآخرة، تختلف عن أمور الدنيا، فلو أن الشمس دنت، في الدنيا من الناس قليلا، لاحترقوا، أما في الآخرة، فيكون بينها وبين الرؤس شبرا، ولا   (1) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة، برقم (400) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يموتون، وهكذا يقال عن عذاب القبر وعذاب النار، أعاذنا الله من ذلك بفضله وكرمه. 2- من أعظم دلائل وجود الأهوال يوم القيامة، أن الرب- تبارك وتعالى-، يغضب غضبا شديدا، قال صلى الله عليه وسلم على لسان جميع الأنبياء: «إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله» . ويتفرع على هذا أمران هما: الأول: ثبوت صفة الغضب لله- تبارك وتعالى- قال تعالى عن قوم فرعون: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] ، ومعنى آسفونا: أغضبونا، فما دامت الصفة قد ثبتت لله- عز وجل- في القرآن والسنة، علمنا أنها صفة كمال، لأن كل صفات العزيز الحميد صفات كمال، وأقول: كيف ننفي عن الله ما أثبته لنفسه من صفات، وتزول الشبهة عن المنكرين لهذه الصفات إذا نزهوا الله- تبارك وتعالى- عن مشابهة الخلق، وإذا علموا أن تشابه الصفات بين الله وخلقه، كالضحك والغضب والفرح، لا يستلزم تشابه الخالق مع الخلق، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . الثاني: الخوف من هذا اليوم العظيم، الذي يغضب فيه الرب مثل هذا الغضب الشديد، وذلك بكثرة التوبة والاستغفار وتجنب المعاصي، والإكثار من الطاعات، وفعل كل ما يحبه الله ويرضاه، فكيف يأمن الإنسان المسلم مهما بلغ من التقوى والعلم والصلاح يوما يغضب فيه الرب، وعجبت ممن يسرف على نفسه من المعاصي والكبائر، مع قلة الطاعات أو انعدامها، بحجة أن الله غفور رحيم، ماذا يفعلون مع هذا الحديث الشريف، كيف يأمنون يوما يقول فيه الأنبياء المقربون: نفسي نفسي نفسي. ومن علامات الخوف الذي سينتاب الخلائق يوم القيامة، أنهم سيذهلون عن كون النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشفاعة العظمى، وأن الأنبياء كلهم سيعتذرون عنها ودليله، أن المؤمنين من هذه الأمة يعلمون بالأخبار المتواترة من صاحب الشفاعة، ومع ذلك لا يذهبون إليه ابتداء وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الفتح. الفائدة الخامسة: ثبوت دخول طائفة من أهل التوحيد النار ، يعذبون فيها على ما اقترفوا من المعاصي والذنوب، وهذا رد على المرجئة. الفائدة السادسة: عظيم قدرة الله- سبحانه وتعالى- التي تذهل العقول ، وتحير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الألباب، ومن دلائلها في الحديث: 1- أن الله تعالى يجمع الناس، كلهم جميعا، في هذا اليوم العظيم، من لدن آدم حتى آخر نفس منفوسة عند قيام الساعة، لا يغيب منهم أحد نسيانا أو سهوا من الله، ولا يهرب منهم أحد عجزا من الله، قال تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 94] ، فأيّ قدرة هذه التي تقدر على ذلك، بغير تعب ولا تكلف، وإنما بكلمة كن. وتدبر أخي القارئ وتأمل قوله- سبحانه وتعالى-: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [ق: 4] ، فلم يقتصر علمه- عز وجل-، على ما يحدث فوق الأرض للأحياء، بل نفذ بصره ووسع علمه فيما يحدث للكائنات تحت الثرى والتراب، فالأمر بالنسبة إليه سواء ودليله من الحديث: «يجمع الله الناس الأولين والآخرين» . 2- أن الجمع سيكون، في صعيد واحد، فأي صعيد يتسع لهذا الجمع العظيم، فلن يكون الجمع، على فترات وكذا الحساب، وقد يظن ظان، أن أحدا قد يخفى على الله- سبحانه وتعالى-؛ لكثرة الخلق، الذي لا يحصي عددهم إلا هو- عز وجل-، فيقول تبارك وتعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة: 18] ، ولم يقل لا يخفى منكم أحد، فمن لا يخفى عليه أدنى الأمور التي ستكون في الصدور يوم القيامة، كيف يغيب عنه شخص بأكمله؟! 3- قدرة الله تعالى في الخلق ويتبين ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «يسمعهم الداعي» . والداعي ملك، إذا تكلم أسمع الأولين والآخرين، وهي قدرة عجيبة خارقة، وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق وبديع صنعه وإحكام خلقه. 2- الكوثر: قال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. وورد عند مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثمّ رفع رأسه متبسّما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت عليّ آنفا سورة» ، فقرأ: بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناك َ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: 1- 3] ثمّ قال: «أتدرون ما الكوثر؟» فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنّه نهر وعدنيه ربّي- عز وجل- عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد النّجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: ربّ إنّه من أمّتي!! فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مما أفاض الله- تبارك وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم من النعم العظيمة المتوالية والآلاء الجسيمة المتتابعة- ليرضيه كما وعده- تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة- والتي يغبطه عليها الأنبياء والمرسلون والخلق كلهم أجمعون: نعمة الكوثر، الذي لا يعلم جمال منظره وصفاء لونه وحلاوة طعمه وكثرة أكوابه وعظم اتساعه إلا الله- تبارك وتعالى-، وإذا كانت أقصى أماني الخلق يوم القيامة هو عفو الله وصفحه ومقعد في الجنة، فإن الله- تبارك وتعالى- لم يضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك فحسب، بل أعطاه الدرجة العالية الرفيعة في الجنة والشفاعة العظمى والكوثر، وهي كلها عطايا لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي: الخير الكثير والفضل الغزير الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من النهر الذي يقال له: الكوثر ومن الحوض طوله شهر وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا) «1» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم (وهي فائدة مشتركة في جميع نعم الله على خير عباده صلى الله عليه وسلم) وتظهر صور هذا الحب من تنوع عطاياه- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أبلغ تنويع، فقد رفع شأنه عند الخلق كلهم جميعا بسؤاله الشفاعة، ورفع قدره ومكانه في الجنة فجعل له الوسيلة، ورفع شأن زيارته والورود عليه فقصده المؤمنون طمعا في الشراب الهنيء والطعم اللذيذ والكفاية من الظمأ أبد الآبدين. وصدق من قال: وأنت حقّا حبيب باريكا ... يا صاحب الحوض من يدانيكا الفائدة الثانية: بلغت عناية الله- سبحانه وتعالى- بحوض نبيه صلى الله عليه وسلم أتم العناية وأكملها فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن عمرو: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللّبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السّماء من شرب منها فلا يظمأ أبدا» «2» . وعند مسلم عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (935) . (2) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: في الحوض، برقم (6579) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السّماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا» «1» . وعنده أيضا عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال: «والّذي نفس محمّد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السّماء وكواكبها ألا في اللّيلة المظلمة المصحية آنية الجنّة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنّة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله ما بين عمّان إلى أيلة، ماؤه أشدّ بياضا من اللّبن وأحلى من العسل» «2» . وبذلك تكون مظاهر اعتناء المولى- تبارك وتعالى- بكوثر رسوله صلى الله عليه وسلم قد شملت الأوجه التالية: 1- اللون: فهو أبيض من اللبن، لما ورد عند مسلم: «أشد بياضا من اللبن» ، واللون الأبيض يعطي منظرا أجمل للشراب، كما أنه يوضح صفاء الشراب ونقاءه. 2- الريح: فهو أطيب من ريح المسك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ريح المكلوم «3» في سبيل الله هي ريح مسك، كما ورد في صحيح البخاري «4» ، إلا أن الله سبحانه وتعالى- فضل شراب الكوثر بأن جعل ريح مائه أجمل من ريح المسك. 3- الطعم: هو أحلى مذاقا من العسل، فعند مسلم: «لهو أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل» . 4- سعته: لما رواه مسلم في صحيحه: «حوضي مسيرة شهر» . وسعة الحوض هكذا يدل على سعة ملكه- تبارك وتعالى-، ويدل على إكرامه نبيه صلى الله عليه وسلم. 5- وفرة آنيته: وأعتقد أن كثرتها تكفي كل الأمة لو وفدت عليه صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة، ونرى في الدنيا أن الملك الكريم إذا صنع طعاما وأعد مأدبة فإنه يجهزها بحيث لو ورد عليه كل من دعاه كفتهم المأدبة، ورد عند مسلم: «والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها» . قال الإمام النووي رحمه الله «5» : (المختار الصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره   (1) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، برقم (2292) . (2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، برقم (2300) . (3) المكلوم: أي المجروح. (4) البخاري، كتاب: الذبائح والصيد، باب: المسك، برقم (5533) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) انظر شرح النووي (15/ 56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وأنها أكثر عددا من نجوم السماء ولا مانع عقلي أو شرعي يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكدا) ، يقصد بذلك قسم النبي صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم. 6- جمال آنيته: فجمال الآنية وتزيينها للكوثر كان بمثابة تزيين النجوم للسماء ورد عند مسلم: «كأن الأباريق فيه النجوم» فقد تكون كثرة الشيء- في الدنيا- تعيب منظره، ولكن كثرة الآنية ستعطي الحوض جمالا خلابا كما تعطي النجوم للسماء منظرا جميلا. 7- نفاسة آنيته: حيث إنها مصنوعة من الذهب والفضة، ورد عند مسلم: «ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء» . 8- مصدر مائه: ينبع ماؤه من جنات عدن، ورد في الحديث: «يشخب فيه ميزابان من الجنة» . 9- زينته الخارجية: اعتنى الله- سبحانه وتعالى- بالشكل الخارجي للكوثر حتى يتمتع المؤمن يوم القيامة وهو يشرب منه بمنظره الجميل، حتى تشبع الروح كما يشبع الجسد، فقد جعل- سبحانه وتعالى- على حافتي الكوثر قبابا مصنوعا من اللؤلؤ المجوف وهو أغلى المعادن وأنفسها، ورد عند البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا عرج بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السّماء قال: «أتيت على نهر، حافتاه قباب اللّؤلؤ مجوّفا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر» «1» . 10- طيب طينته: إذا كان أصحاب البساتين والجنات في الدنيا لا يستطيعون أن يجملوا طينة البستان فهي دائما سيئة المنظر سيئة اللون وكذا الرائحة، إلا أن الله- عز وجل- من عنايته بكوثر الحبيب صلى الله عليه وسلم جعل طينته مسكا أذفر، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أسير في الجنّة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدّرّ المجوّف، قلت: ما هذا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر» «2» . 11- كفايته من الظمأ: وهي مزية لشراب الكوثر لا يشترك معه فيها أي شراب آخر في الدنيا والآخرة- فيما نعلم- ورد في الصحيحين: «فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا» ، ويستفاد من ذلك أن كل شراب أهل الجنة بعد هذه الشربة الهنية لن يكون عن ظمأ، إنما سيكون الشرب على سبيل التفكه والتلذذ فقط، ويستفاد منه أيضا قدرة الله- سبحانه   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، برقم (4964) . (2) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: في الحوض، برقم (6581) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وتعالى- العجيبة الذي وضع في هذه الشربة من الكوثر ما يقطع عن الإنسان الإحساس بالظمأ طوال حياته الأبدية في الجنة. 12- سلامة معتقدات وارديه: قد يكون الملك الداعي إلى الطعام في الدنيا تقيّا ورعا لا يحب أن يأكل طعامه إلا الأخيار من الناس فيدعوهم إلى مأدبته، ولكن لا يأمن أن يدخل معهم المنافقون وأصحاب الأهواء ومرضى القلوب، ولكن الله- سبحانه وتعالى- من بالغ عنايته لكوثر نبيه حرسه وأمر ملائكته أن يردوا تلك الأصناف فلا يردون الكوثر، ورد عند البخاري عن سهل بن سعد يقول: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بينني وبينهم، فأقول: إنّهم منّي!! فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» «1» . ويتفرع عليه: شؤم الابتداع في الدين حيث يحرم من ابتدع بركة الشرب من الكوثر، بل يحرم من ورود الحوض أصلا، ويا ليتهم حرموا الشراب من الكوثر فحسب، وإن كانت هذه مصيبة، ولكنهم حملوا معها المصيبة الأعظم، وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم. 13- اختيار الاسم: من أوجه عناية الله- سبحانه وتعالى- لكوثر حبيبه صلى الله عليه وسلم وجه قد يغافل عنه الكثير، ولكني أعتقد أنه ذروة الاعتناء، هو الاعتناء باسم النهر، فقد أكرم الله سبحانه وتعالى- تسميته، حين جعل له اسما كريما يتضمن معاني كثيرة، فإن الكوثر معناه في اللغة: الخير الكثير، قال الإمام القرطبي: (والكوثر فوعل من الكثرة: مثل النوفل من النفل والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شي كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا، قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر، أي: بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير) «2» . وبعد أن ذكر رحمه الله ستة عشر قولا لمعاني الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ختمها بقوله: (وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا) «3» . انتهى. 14- ذكره في القرآن العظيم: أختم أوجه اعتناء الله- سبحانه وتعالى- لكوثر نبيه صلى الله عليه وسلم بأعظم هذه الأوجه وأعلاها منزلة ألا وهي ذكر الكوثر في القرآن الكريم، بل نزول سورة باسمه، وهذا أبلغ التشريف للنبي صلى الله عليه وسلم.   (1) سبق تخريجه. (2) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (20/ 216) . (3) انظر المصدر السابق، (20/ 218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أخي المسلم: تعمدت بسط أوجه اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بالكوثر ليقف كل مسلم على منزلة الرسول الكريم عند ربه- تبارك وتعالى- فيزداد لشخصه حبّا وإجلالا، ولرؤيته صلى الله عليه وسلم شوقا وحنانا، ولسنته صلى الله عليه وسلم تمسكا واتباعا، وللبدعة تجنبا ونفورا، وللصلاة عليه والتسليم فرحا وابتهاجا ولسماع سيرته العطرة انشراحا وسرورا. الفائدة الثالثة: وجوب الإيمان بالكوثر؛ وذلك لتضافر أدلة الكتاب والسنة على إثباته، وبصفته ونعته والتي ذكرت طرفا منها آنفا. الفائدة الرابعة: أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام إذا نامت عيناه، ورد في الحديث: «إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما» «1» . 3- شهادته على أمته: قال تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فيشهد هو صلى الله عليه وسلم على أمته، بينما تطلب بقية الرسل عليهم الصلاة والسلام شهادة أمته على أممهم. 4- أول من تفتح له أبواب الجنة: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنّة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمّد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» . رواه مسلم «2» . الشاهد في الحديث: قول خازن الجنة: (بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شخص النبي صلى الله عليه وسلم: 1- علو منزلته صلى الله عليه وسلم على الأنبياء كلهم جميعا، والشاهد على ذلك أنه آخرهم بعثة وأولهم دخولا للجنة، بل له ما هو أعظم من ذلك- قطعا- أن الجنة لا تفتح لأحد قبله. ولا أقول: إنه صلى الله عليه وسلم سيشرف بأن يكون أول من يدخل الجنة، ولكن أقول: إن الجنة هي التي   (1) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة، برقم (400) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة ... » ، برقم (197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 تشرف بأن يكون أول من يطرق بابها ويدخلها هو النبي صلى الله عليه وسلم. 2- ثبت أن الله- تبارك وتعالى- قد فضّل نبيه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين من كل وجه، ولم يثبت أن أحدا يفضله صلى الله عليه وسلم في أي وجه، ومن ثمّ نعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعبد الخلق لله- تبارك وتعالى- وأعلمهم به وأطوعهم له. 3- تواضعه صلى الله عليه وسلم في وقت ومكان وحال لو أعطي أحد غيره معشار ما أعطيه لم يأمن على نفسه الفتنة، فمن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه أجاب على الخازن بقوله: (محمد) فلم يذكر صفته ولا نعته، حتى لم يقل: (أنا محمد) ، منتهى التواضع والخشوع لله- تبارك وتعالى-. 4- إرادة الله- سبحانه وتعالى- إظهار فضل نبيه صلى الله عليه وسلم وشرفه عند ملائكته وأنبيائه والناس أجمعين، فقد كان في مقدور الله- تبارك وتعالى- أن تفتح الجنة أبوابها بمجرد أن يطرق النبي صلى الله عليه وسلم بابها، أو يأمر الخازن أن يفتح لأول طارق ولن يتجرأ أحد أن يطرق قبله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله- تبارك وتعالى- أراد أن يعلم الثقلين أن أبواب الجنة مغلقة وأن أول من يطرقها هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخازن عنده أمر من الله تعالى ألا يفتح إلا له صلى الله عليه وسلم فتزداد بذلك فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. 5- كما أن للنبي صلى الله عليه وسلم منّة على الناس أجمعين بالشفاعة العظمى عند ربه، أراد الله- سبحانه وتعالى- أن يكون له منّة أخرى على المؤمنين، وهي أن الجنة ما كانت لتفتح لهم إلا بعد طرقه أبوابها. وهل يمكن أن ينسى كل ساكني الجنة مهما طال عليهم العمر فيها، أن الذي فتح لهم أبوابها هو النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: أدب خازن الجنة مع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من جهتين: الجهة الأولى: أنه بدأ حديثه مع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بك) للدلالة على اختصاصه صلى الله عليه وسلم وحده بذلك الأمر، ولإشعاره باستحالة فتح الباب لأحد قبله، وكان يمكن أن يقول الخازن: (أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) . الجهة الثانية: إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الخازن مأمور بألا يفتح لأحد قبله. الفائدة الثالثة: عناية الله- سبحانه وتعالى- بالجنة إذ جعل لها أبوابا، وجعل على الأبواب خازنا. 5- أول من تنشق عنه الأرض: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهوديّ فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقال: «من؟» قال: رجل من الأنصار. قال: «ادعوه» . فقال: «أضربته؟» قال: سمعته بالسّوق يحلف: والّذي اصطفى موسى على البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قلت: أي خبيث، على محمّد صلى الله عليه وسلم؟! فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تخيّروا بين الأنبياء فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة فأكون أوّل من تنشقّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى» . رواه البخاري «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فأكون أول من تنشق عنه الأرض» . وقد مر شرح هذا الحديث مبسوطا. 6- أنه صلى الله عليه وسلم صاحب الوسيلة: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ؛ فإنّه من صلىّ عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» . رواه مسلم «2» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- علو منزلته صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء في الآخرة- كما هو الحال في الدنيا- حيث إنه صلى الله عليه وسلم أرفعهم منزلة في الجنة، ويدل هذا على عظيم حب الله له صلى الله عليه وسلم، وأنه أخشى الناس وأتقاهم لله- عز وجل-. 2- في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفضّل على الأنبياء بخمس أو ست خصال فقط، وهي المذكورة في الحديث الذي رواه الشيخان «3» ، وأن هذه الخصال الخمس ليست على سبيل الحصر، والدليل على ذلك أن درجة الوسيلة لم تذكر في هذا الحديث، وقد ذكرت العديد من تلك الصفات والخصال في كتابي هذا.   (1) البخاري، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والخصومة ... ، برقم (2412) . (2) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (384) . (3) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، برقم (438) ، ومسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 3- أدبه الجم صلى الله عليه وسلم مع مقام الألوهية، حيث قال صلى الله عليه وسلم في أدب رفيع عن درجة الوسيلة: «لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو» . مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنه أحب العباد إلى الله وأقربهم منه منزلة يوم القيامة، ولكنه الأدب الذي يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم. 4- حسن تعبده صلى الله عليه وسلم لله رب العالمين وشعوره الدائم بالافتقار إلى خالقه ومسدي النعم إليه- عز وجل-، حيث لم يركن إلى عمله، بل سأل كل أحد من أمته أن يدعو الله له بإحراز تلك المرتبة العالية الرفيعة في الجنة. 5- عظيم ما أعده الله- سبحانه وتعالى- لنبيه المختار المجتبى صلى الله عليه وسلم في دار كرامته، فإذا كان الله- تبارك وتعالى- أعد لعموم عباده المؤمنين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فماذا أعد- سبحانه وتعالى- لمن كان السبب في هداية هؤلاء العباد المؤمنين، فماذا أعد الله لمن ثقلت موازينه بأجور متساوية مع أجور الأمة بأكملها ويزيد. والله إن العقل ليقصر عن تصوّر ذلك. الفائدة الثانية: ليست الجنة كلها منزلة واحدة، بل هي منازل، وأعلاها درجة الوسيلة، التي لا تنبغي إلا للحبيب صلى الله عليه وسلم، وتلك المنازل متفاوتة جدّا، ودليله ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ في الجنّة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدّرجتين كما بين السّماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنّه أوسط الجنّة وأعلى الجنّة» «1» . الفائدة الثالثة: ورد في هذا الحديث شروط يجب توفرها في هذا العمل لنيل شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم (ولقد اخترت فيها الأحوط من كلام العلماء) وهي: 1- الاستماع للأذان وترديده. 2- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان. 3- طلب الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد علّمنا النبيّ صلى الله عليه وسلم صيغة الدعاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي عنهما الله: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النّداء: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الّذي، وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «2» . وهو بلا شك عمل قليل (في وقته   (1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم (2790) . (2) البخاري، كتاب: الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، برقم (614) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وجهده) ولكن يترتب عليه فضل عظيم، وهذا من بركاته صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة الفاضلة. تنبيه: في الحديث دليل على أن المؤذن لا يصلي على النبي بصوت مرتفع بعد الانتهاء من الأذان كما يحدث في بعض الدول الإسلامية- لما ورد في الحديث: «فقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم صلوا علي» «1» . فلو كان المؤذن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم صلوا علي» . واكتفى بقوله: «فقولوا مثل ما يقول» . 7- أنه صلى الله عليه وسلم أول من يمر على الصراط: ورد في حديث أبي هريرة أنّ النّاس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فهل تمارون في الشّمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنّكم ترونه كذلك يحشر النّاس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتّبع فمنهم من يتّبع الشّمس ومنهم من يتّبع القمر ومنهم من يتّبع الطّواغيت، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: أنت ربّنا فيدعوهم فيضرب الصّراط بين ظهراني جهنّم، فأكون أوّل من يجوز من الرّسل بأمّته ولا يتكلّم يومئذ أحد إلّا الرّسل وكلام الرّسل يومئذ: اللهمّ سلّم سلّم، وفي جهنّم كلاليب مثل شوك السّعدان، هل رأيتم شوك السّعدان؟ قالوا: نعم. قال: فإنّها مثل شوك السّعدان غير أنّه لا يعلم قدر عظمها إلّا الله، تخطف النّاس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل «2» ثمّ ينجو حتّى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النّار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم باثار السّجود وحرّم الله على النّار أن تأكل أثر السّجود، فيخرجون من النّار، فكلّ ابن آدم تأكله النّار إلّا أثر السّجود فيخرجون من النّار قد امتحشوا «3» فيصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل ثمّ يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنّة والنّار وهو آخر أهل النّار دخولا الجنّة مقبل بوجهه قبل النّار فيقول: يا ربّ اصرف وجهي عن النّار قد قشبني ريحها «4» وأحرقني ذكاؤها «5»   (1) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (384) ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (2) يخردل: أي يجرح ويقطع من لحمه. (3) امتحشوا: أي احترقوا. (4) قشبني ريحها: أي سمني وآذاني. (5) أحرقني ذكاؤها: أي أحرقني لهيبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فيقول: هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا، وعزّتك. فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النّار فإذا أقبل به على الجنّة رأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثمّ قال: يا ربّ قدّمني عند باب الجنّة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق ألاتسأل غير الّذي كنت سألت؟ فيقول: يا ربّ لا أكون أشقى خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك ألاتسأل غيره؟ فيقول: لا وعزّتك لا أسأل غير ذلك، فيعطي ربّه ما شاء من عهد وميثاق فيقدّمه إلى باب الجنّة فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النّضرة والسّرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول: يا ربّ أدخلني الجنّة فيقول الله ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهود والميثاق ألاتسأل غير الّذي أعطيت فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله- عز وجل- منه ثمّ يأذن له في دخول الجنّة، فيقول: تمنّ. فيتمنّى حتّى إذا انقطع أمنيّته قال الله- عز وجل- من كذا وكذا، «1» أقبل يذكّره ربّه حتّى إذا انتهت به الأمانيّ، قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه» . قال أبو سعيد الخدريّ لأبي هريرة رضي الله عنهما: أما إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله» . قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا قوله: «لك ذلك ومثله معه» . قال أبو سعيد: إنّي سمعته يقول: «ذلك لك وعشرة أمثاله» . رواه البخاري «2» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته» . هذا فضل عظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، يشهده يوم القيامة الداني والقاصي، فيعرف له فضله، ويشهد له بقدره ويسلم له بعلو مكانته وتميزه على الخلق أجمعين، والعجيب في الأمر أنه صلى الله عليه وسلم لن يمر وحده على الصراط لجلال قدره، بل سيأخذ أمته معه، فتكون بذلك أول من يمر من الأمم، بل تمر قبل الأنبياء، مع أن الأنبياء أفضل من آحاد الأمة قطعا، ولكنها نالت ذلك ببركة إيمانها واتباعها للنبي صلى الله عليه وسلم وكونها أمته صلى الله عليه وسلم، ولا أستبعد أن يتمنى كل أحد في ذلك الوقت أن يكون من أمته صلى الله عليه وسلم ليعبر الصراط أولا، ولكني لا أجزم به لعدم وجود نص- حسب علمي- يدل عليه. فيا أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم افرحوا بهذا الحديث واقدروا لنبيكم صلى الله عليه وسلم قدره واتبعوا دينه ولا تبتدعوا في سنته حتى تفوزوا بالمرور معه على الصراط وتهون عليكم أهوال يوم القيامة.   (1) أي يخاطبه الله تعالى فيقول له: «تمنّ كذا وكذا..» ، لأمور لم يذكرها العبد في أمانيه. (2) البخاري، كتاب: الأذان، باب: فضل السجود، برقم (806) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: ظهور فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على بقية الرسل وفضل أمته صلى الله عليه وسلم على بقية الأمم جميعا، ودليله من الحديث: المرور على الصراط أولا، ليس هذا فحسب، بل إن الأفضلية تؤخذ أيضا من قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم» . في الوقت الذي يذهب فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرش ويسجد تحته ليشفع للخلق كلهم أجمعين كما ورد في باب حديث الشفاعة العظمى. ويتفرع عليه بيان فضل هذه الأمة على بقية الأمم، من جهة أنها أقل الأمم تعرضا لأهوال يوم القيامة، وهو من لوازم مرورها على الصراط أولا. الفائدة الثانية: رحمة الله العظيمة يوم القيامة بعباده الموحدين، ويظهر ذلك جليّا من كلامه- عز وجل- مع آخر من يخرج من النار وفيه: 1- تلطفه- سبحانه وتعالى- مع هذا الرجل الذي يعطى كل مرة العهود والمواثيق لله تعالى ثم لا يبر بها- وهو واضح من قوله تعالى: «أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنت تسأل؟ فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك ... » . والغريب أن الرجل في كل مرة يقسم بصفة عظيمة من صفات الله وهي: العزة، ثم يعود لما قال. ويحلم الله عليه. بل يقول- سبحانه وتعالى- له: «ويحك يا ابن آدم ما أغدرك» . 2- ومن تلطفه- سبحانه وتعالى- مع الرجل أنه لا يكتفي بإدخاله الجنة، بل يأمره أن يتمنى على الله ما يريد فيقول له الرب- تبارك وتعالى-: «تمنّ» بل لم يقتصر الأمر على ذلك أيضا، ولكن الله يذكره من الأماني ما نسي، ورد في الحديث: (حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله- عز وجل-: من كذا وكذا، أقبل يذكره ربه) . 3- أما جوده- تبارك وتعالى- فواضح في قوله للرجل: «لك ذلك وعشرة أمثاله» . وأقول: لو لم يكن لله على هذا الرجل الذي لم يعمل صالحا قط إلا اعتقاده التوحيد- من فضل إلا إدخاله الجنة: لكفى، فكيف والحال كما ذكرت. الفائدة الثالثة: في رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة: 1- ثبوت رؤية الله تعالى يوم القيامة وهي أعظم ما يفيض الرب- تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين، وإثبات هذه الرؤية هو مذهب أهل السنة والجماعة. قال الإمام النووي رحمه الله: (مذهب أهل السنة أن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ممكنة، ونفتها المبتدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والخوارج، وهو جهل منهم، فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين) «1» . 2- هذه الرؤية المباركة رؤية واضحة جلية لا ارتياب فيها ولا شك، رؤية لا مشقة فيها ولا اختلاف عليها، ولا تزاحم فيها بين العباد، لا يضارون بها من أي جهة، وما ذكرت هو لوازم الألفاظ التي وردت في الروايات المختلفة للحديث ومنها: «هل تمارون» ، «هل تضامون» ، «هل تضارون» . 3- علم الصحابة- المقرر عندهم- أن رؤية الله- سبحانه وتعالى- غير ممكنة في الدنيا، وإن كانت ثمة رؤية فستكون في الآخرة، وهذا من فقههم رضي الله عنهم، ورد في الحديث: (يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟) . الفائدة الرابعة: عظيم أمر إقامة الصلوات الخمس والمحافظة عليهن، ورد في الحديث: (أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم باثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود) . وأقول للذي فرط في الصلاة وتهاون فيها: كم ستندم وتبكي طويلا وتعض على شفتيك إذا رأيت أهل الصلاة يخرجون من النار وتحبس أنت لتفريطك فيها، فتدارك الأمر قبل فوات الأوان. ويتفرع عليه ظهور قدرة الله- سبحانه وتعالى- إذ يأمر النار أن تأكل كل جسد العبد إلا أثر السجود، فتطيع النار أمر ربها، ويكون لها من التمييز ما تعرف به أثر السجود من جسد العبد، مع وجود جسده كله في النار. فسبحان الله العظيم. الفائدة الخامسة: جعل الله الأنبياء رحمة لأممهم، ليس في الدنيا فحسب، بل في الآخرة أيضا، ومن علامات ذلك أن كل نبي لا يجوز الصراط إلا بقومه. ب- تفضيله في الدنيا 8- إعطاؤه صلى الله عليه وسلم نورين (فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة) : عن ابن عبّاس قال: بينما جبريل قاعد عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السّماء فتح اليوم لم يفتح قطّ إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (3/ 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة؛ لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته» . رواه مسلم «1» . الشاهد في الحديث: قول الملك: «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: بيان تعدد نعم الله- تبارك وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم بما يميزه عن الأنبياء جميعا، ودليله من الحديث: 1- حب الله تبارك وتعالى أن يدخل السرور والفرح على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ أرسل إليه الملك بالبشارة بنورين عظيمين، ورد بالحديث: «أبشر بنورين» . 2- تفضيل كتابه صلى الله عليه وسلم على كل الكتب السماوية، ودليله أن سورة واحدة وخواتيم سورة أخرى يعتبران وحدهما نورين لم يعطهما أي نبي من قبل، فكيف لو اجتمع معهما بقية كتاب الله الكريم. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 48] . 3- إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن يبين لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته، بل ولملائكته عليهم السلام شدة اعتنائه بمصطفاه وبما أنزل عليه من كتاب عظيم، فأنزل عليه بعض آي الذكر الحكيم من باب لم يفتح من قبل وبملك لم ينزل إلى الأرض من قبل، وهذا غاية التشريف والبر. الفائدة الثانية: فضل فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة على بقية القرآن الكريم، ليس في أجر التلاوة فحسب، بل من جهة أنهما نوران، ومن جهة الكيفية التي نزلا بها. الفائدة الثالثة: بيان ما أعطاه الله- تبارك وتعالى- للملائكة من قوة علمية وسمعية وبصرية وخوارق للعادات، يتبين ذلك من: 1- سماع جبريل عليه السلام صوت الباب، ورؤيته للملك الذي نزل، وهو جالس مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض. 2- سعة علم جبريل عليه السلام، فقد عرف أن هذا الملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل ذاك اليوم، مع كثرة عدد الملائكة، كما علم أن هذا الباب لم يفتح أيضا من قبل. 3- نزول الملك من السماء إلى الأرض، في مدة زمنية يسيرة جدّا، وهذا أمر عجيب   (1) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة ... ، برقم (806) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يدل على مدى عظمة الله تعالى وقدرته القوية. الفائدة الرابعة: فضيلة السلام، حيث كانت هي تحية الملك للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت هناك تحية أفضل منها لذكرها الملك تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ أيضا أن السلام سنة متبعة عند الملائكة وفي الملأ الأعلى، قال تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم: 23] . الفائدة الخامسة: وجوب استبشار المؤمنين وفرحهم بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، ومن لم يفعل ذلك، فقد رد بشرى الله- تبارك وتعالى- له، أو أنه قد جهل فضل تلك الآيات المباركات. الفائدة السادسة: وجوب شكر هذه الأمة لنبيها صلى الله عليه وسلم واعترافها بفضله؛ لأن هذا الخير العميم الذي نزل من السماء كان المقصود الأول به هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطيت الأمة هذا النور ببركة اتباعها له صلى الله عليه وسلم، قال الملك: «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك» . ولم يقل الملك: «بشر أمتك بنورين أوتيتهما الأمة» . 9- جعلت له الأرض مسجدا وطهورا: عن جابر بن عبد الله: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي، نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى النّاس عامّة» «1» . مما امتن الله- تبارك وتعالى- على هذه الأمة ببركة نبيها صلى الله عليه وسلم، أن جعل لها الأرض كلها طهورا ومسجدا، بمعنى أن الرجل إذا فقد الماء تيمم، وإذا أراد أن يصلي فليصل في أي بقعة من الأرض شاء، لا يختص الصلاة فيها بمكان دون مكان فكلها موضع سجود. وينبني على هذه المنة العظيمة عدة أمور نذكرها على هيئة فوائد: الفائدة الأولى: عظيم أمر الصلاة في شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنها ملازمة للعبد ولا تنفك عنه أبدا- إلا بجنون أو موت- ولتأصيل هذا الأصل ما ألزمنا الله- سبحانه وتعالى- بالصلاة في مكان معين ولا ألزمنا لرفع الحدث- الأصغر والأكبر- استخدام الماء إذا فقدناه.   (1) سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الفائدة الثانية: إرادة الله- سبحانه وتعالى- التخفيف الشرعي على هذه الأمة، وتظهر رحمة الله جلية إذا تعلق التخفيف بفريضة كالصلاة الملازمة للعبد في نهاره وليله، في صحته ومرضه، وفي حله وسفره، في كل أيامه وأحواله، ولو وكل أمر التشريع إلى عقولنا القاصرة، لكنا ضيقنا حدود التخفيف الشرعي كلما عظم أمر الفريضة، ولكن الله الأرحم بنا من أنفسنا وسع حدود التخفيف الشرعي جدّا في أهم وأعظم فرائض الإسلام وهي الصلاة، تخفيف في هيئتها للمريض وتخفيف في عدد ركعاتها، واختصار أوقاتها للمريض والمسافر، وتخفيف في شرط الطهارة لمن فقد الماء أو أضر بجسده، كما وسع في مكان أدائها لكل مسلم ومسلمة. الفائدة الثالثة: الأصل في الأرض الطهارة إلا ما ثبت نجاسته، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض طهورا» . الفائدة الرابعة: فيه سعة المكان الذي سيشهد للمسلم بعبادة ربه- تبارك وتعالى- حيث أبيح له أن يصلي في كل بقعة من الأرض، ولو حصر الشرع الصلاة في أماكن محدودة لشهدت له هذه الأماكن فقط. وفيه أيضا سعة علم الله- عز وجل- وإحاطته بالأرض كلها، إذ لن يصلي عبد في أي مكان من الأرض إلا وقد أحاط به علم الله تبارك تعالى. الفائدة الخامسة: فيه حث من الشارع الحكيم لكل مسلم على كثرة الصلاة ولو كان في سفره حيث إنه لن يفقد طهوره ولا مسجده. 10- أحلت له الغنائم: قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال: 69] . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلّت لي الغنائم» «1» . لم يأذن الله- سبحانه وتعالى- لنبي من أنبيائه أن يأكل من المغانم إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ابن حجر رحمه الله نقلا عن الخطابي قوله: (كان من تقدّم على ضربين: فمنهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم يكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له فيه لكن إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته) «2» . انتهى.   (1) البخاري، كتاب: فرض الخمس، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: أحلت لي الغنائم، برقم (3122) . (2) انظر «فتح الباري» ، (1/ 438) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: فيه إشعار للأمة أن الجهاد سيأخذ منها وقتا ومالا ودماء وأنفسا غالية وأنه باق معها إلى يوم القيامة، ولذلك كان من المناسب أن يعوضها الله عن ذلك- في الدنيا- بإحلال الغنائم. الفائدة الثانية: إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن يوسع على هذه الأمة أبواب رزقه، فأحل لها غنائم أعدائها. الفائدة الثالثة: فيه ترغيب للأمة للجهاد في سبيل الله، بإحلال الأكل من الغنائم. الفائدة الرابعة: الحكم الشرعي- وبعد العمل به دهورا طويلة- قد ينسخ بالكلية، ويأتي الله- سبحانه وتعالى- بحكم جديد مخالف تماما للحكم الأول، ألا وهو إحلال الغنائم لهذه الأمة بعد تحريمها على الامم السابقة. 11- صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا: قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] . ويؤخذ من الآية ألاأحد من الناس يسعه الخروج عن شرعه صلى الله عليه وسلم من وقت بعثته إلى يوم القيامة، وأنه لن يقبل دين إلا دينه. عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار» . رواه مسلم «1» . 12- بعثه صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن: قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29] . من أعظم ما فضّل به نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين أنه أرسل إلى الخلق كافة: العرب منهم والعجم، الأبيض منهم والأسود، الداني منهم والقاصي، بل أرسل صلى الله عليه وسلم أيضا إلى الجن. قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد يا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والأعجمي إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، أي: جميعكم. وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، برقم (153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ، والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تعدّ وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كلهم) «1» . عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النّبيّون» «2» . وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار» «3» . بعض فوائد الحديثين: الفائدة الأولى: تفضيل الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء- من جهة من أرسل إليهم؛ وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن كل نبي كان يبعث في قومه خاصة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة. قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] . الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن. قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . الفائدة الثانية: كثرة أعباء الرسالة التي تحملها النبي صلى الله عليه وسلم، دون سائر الأنبياء والمرسلين، إذ بعث إلى الخلق كافة، إنس وجن. ويتفرع عليه أن له صلى الله عليه وسلم من الأجر ما ليس لغيره. ومن أدلة كثرة أعبائه صلى الله عليه وسلم أن وفود الجن كانت تأتيه ويسألونه ما يحتاجون إليه. روى البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّه كان يحمل مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها فقال: «من هذا؟» فقال: أنا أبو هريرة. فقال: «ابغني أحجارا أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة» . فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتّى وضعتها إلى جنبه ثمّ انصرفت حتّى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والرّوثة!   (1) انظر «تفسير القرآن العظيم» ، (2/ 255- 256) . (2) مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523) . (3) سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قال: «هما من طعام الجنّ، وإنّه أتاني وفد جنّ نصيبين- ونعم الجنّ- فسألوني الزّاد فدعوت الله لهم ألايمرّوا بعظم ولا بروثة إلّا وجدوا عليها طعاما» «1» . وفي رواية عند مسلم عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنّا كنّا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشّعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم فلمّا أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجنّ فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن» . قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزّاد؟ فقال: «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكلّ بعرة علف لدوابكم» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنّهما طعام إخوانكم» «2» . الفائدة الثالثة: أنه لن يسمع ببعثته صلى الله عليه وسلم أحد ثم لم يؤمن إلا دخل النار خالدا مخلدا فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ... » . قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى) «3» . الفائدة الرابعة: التكاليف الشرعية لا تثبت في حق المكلف ولا يحاسب عليها، إلا بعد سماعه أو إبلاغه بها، ورد في الحديث: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة» . يصدق ذلك قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. قال الإمام النووي رحمه الله: (فيه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور وهذا جاء على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، والله أعلم) «4» . الفائدة الخامسة: ببعثته صلى الله عليه وسلم يبطل اتباع الأمم لأي ملة أو شريعة أو دين، ويتوجب على كل أحد أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم، قال الإمام النووي رحمه الله: (وفيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم) .   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: ذكر الجن، برقم (3860) . (2) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، برقم (450) . (3) لم أقف عليه من كلام ابن حجر، وهو عند النووي في شرحه لمسلم، (2/ 52) . (4) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» ، (2/ 188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الفائدة السادسة: كمال رسالته صلى الله عليه وسلم وعلو قدرها على جميع الرسالات السماوية السابقة، ذلك أن كل رسالة أنزلها الله- عز وجل- جعلها صالحة لزمن معين ولطائفة مخصوصة من الناس، أما رسالته صلى الله عليه وسلم فإنها رسالة صالحة للخلق كلهم جميعا تصلح لمعادهم ومعاشهم ودنياهم وأخراهم، لأول الزمان وآخره، لسنوات الأمن وسنوات الفتن، لأيام الرخاء وأيام الشدة، رسالة لا تعرف أي نوع من الحدود، لا حدود في زمان ولا مكان ولا جنس ولا لغة. الفائدة السابعة: اتساع أمة الدعوة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي الأمة الموجه لها الأمر الرباني بالدخول في الإسلام والإيمان ببعثته صلى الله عليه وسلم حيث إن الخطاب توجه لكل أحد بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. ويؤخذ من الحديث أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أكثر الرسل أتباعا يوم القيامة وقد بوبت لذلك بابا خاصّا. 13- أعطي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم: عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النّبيّون» . هذا الحديث من الأحاديث التي جمعت بعض ما فضّل به النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين، مما يدل على تفصيل الله- تبارك وتعالى- له وحبه إياه صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الأنبياء بست» ، لا يدل على أنه لم يفضل بغيرهن، لورود أحاديث صحيحة تثبت غيرهن من الفضائل، وقد أوردت طرفا منها في هذا الفصل، وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري «1» في كتاب شرف المصطفى أن عدد ما اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة. فلعل الله- تبارك وتعالى- أوحى إليه أولا بأنه فضّل بتلك الفضائل الستة الواردة في حديث الباب، ثم تتابع الوحي عليه بفضائل أخرى متفرقة.   (1) هو عبد الرحمن بن الحسين بن خالد القاضي شيخ أهل الرأي بخراسان أبو سعيد النيسابوري الحنفي، توفي في سنة (309 هـ) بنيسابور عن نيف وثمانين سنة، انظر سير أعلام النبلاء (14/ 284) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: فصاحته البالغة صلى الله عليه وسلم وحسن بيانه لما ورد في الحديث: «أعطيت جوامع الكلم» . نقل الإمام النووي عن الهروي قوله: (يعني به القرآن: جمع الله في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع، قليل اللفظ كثير المعاني) «1» . ويتفرع على ذلك: وجوب اعتقاد أن جميع الخلق أقل من النبي صلى الله عليه وسلم فصاحة وبيانا. الفائدة الثانية: من أوتي شيئا من جوامع الكلم، فقد أوتي خيرا كثيرا، فهي من الخصال المحمودة في الإنسان. والدليل على ذلك، أن الله- تبارك وتعالى- فضّل بها خير خلقه صلى الله عليه وسلم على الخلق أجمعين. 14- خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللّبنة؟ قال: فأنا اللّبنة وأنا خاتم النّبيّين» . رواه الشيخان «2» . سبق الحديث على ما تفضل به الله- سبحانه وتعالى- على نبيه بأن جعله خاتم النبيين في فضل (مظاهر حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم) ، وذكرت به الفوائد المتعلقة بهذا التفضيل والأحكام المترتبة عليه. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تواضعه صلى الله عليه وسلم إذ جعل نفسه كاللبنة الواحدة في بناء جميل جمع كل الأنبياء. الفائدة الثانية: لو تدبر أصحاب العقول السوية منظومة الأنبياء، بدون النبي صلى الله عليه وسلم لعلموا أن هذه المنظومة تنقصها لبنة واحدة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ولتمنوا بعثته صلى الله عليه وسلم لتكتمل المنظومة، ودلالة ذلك واضحة من الحديث حيث شبه النبي صلى الله عليه وسلم منظومة الأنبياء كالبيت الناقص لبنة واحدة.   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» ، (5/ 5) . (2) البخاري، كتاب: المناقب، باب : خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، برقم (3535) ، ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، برقم (2286) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الفائدة الثالثة: جمال وحسن منظومة الأنبياء وما بعثوا به من عند ربهم، لما ورد بالحديث: «كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله» . الفائدة الرابعة: فيه دليل على أن عيسى ابن مريم عليه السّلام إذا نزل- قبل يوم القيامة- لن ينزل بصفته نبيّا من أنبياء بني إسرائيل يحكم بشريعتهم، ولكن سينزل حكما بين الناس يحكم فيهم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ورد عند البخاري: «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا» «1» . قال ابن حجر رحمه الله: (المعنى أنه ينزل حاكما بهذه الشريعة فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ بل يكون عيسى عليه السلام حاكما من حكام هذه الأمة) «2» . 15- أحلت له مكة: عن أبي شريح العدويّ: أنّه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكّة: (ائذن لي أيّها الأمير أحدّثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به: أنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشّاهد الغائب» . فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة) «3» . رواه البخاري «4» . الشاهد في الحديث: «إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم» . وهذه أيضا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لم يشاركه فيها أحد من الأولين والآخرين. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: شرفه صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته عند ربه أن أحل له القتال بمكة ساعة من   (1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام، برقم (3448) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) انظر «فتح الباري» ، (6/ 491) . (3) الخربة: أي السرقة. (4) البخاري، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، برقم (104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 النهار، ولم يحلّ ذلك لأحد غيره، وحتى نتصور كم تعدّ هذه مكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن نعرفه حرمة مكة، وهي الفائدة التالية. الفائدة الثانية: عظيم حرمة مكة، ويتبين ذلك من الأمور التالية: 1- أن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي حرم مكة، لما ورد في الحديث: «إن مكة حرمها الله» ، أي: لم يكن تحريمها باجتهاد من أحد، وإضافة تحريمها إلى الله- سبحانه وتعالى- يدل على تعظيم هذا التحريم وغضب الله- سبحانه وتعالى- لمن انتهكه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: «ولم يحرمها الناس» . قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (وما ذكر من حديث أنس في البخاري: «إن إبراهيم حرم مكة» . فمعناه: أنه حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة، أو أن المعنى: أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس) «1» . 2- لم تكن مكة في يوم من الأيام حلّا قطّ فتحريمها كان مع خلق السماوات والأرض كما أنها لن تكون حلا أبدا إلى يوم القيامة، ورد في إحدى روايات البخاري: «فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» «2» . 3- لم يكن إحلال مكة للنبي صلى الله عليه وسلم باجتهاد منه لضرورة الفتح، وإنما كان بإذن من الله عز وجل-، وقد نص الحديث على ذلك: «إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم» . 4- مما يوضح عظيم حرمة مكة- حفظها الله وزادها شرفا- أن الله لما أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال فيها لم يكن الإذن مفتوحا بل كان إذنا مقيدا بوقت معين للضرورة فقط ثم عادت حرمتها مباشرة، ورد بالحديث: «وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس» . 5- إرادة الله- سبحانه وتعالى- الشرعية إبلاغ الأمة كلها أن حل الحرام لساعة من نهار إنما كان أمرا خاصّا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعادت بعدها حراما إلى يوم القيامة، مع إقامة الحجة على كل من أراد الترخص بما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الحديث: «وليبلغ الشاهد الغائب» . وورد أيضا: «فإن أحد ترخص لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا .... » .   (1) انظر «فتح الباري» ، (4/ 43) . (2) البخاري، كتاب: الحج، باب: لا يحل القتال بمكة، برقم (1834) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وأضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأمته أمر تحريم مكة بعد حلّها في اليوم التالي للفتح مباشرة، مما يدلل على أهمية الأمر، ورد في الحديث: (قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح) ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يعتقد الناس أن أمر الترخص بالقتال بمكة أمر مستمر. الفائدة الثالثة: التأدب مع الإمام أو من ينوب عنه، قال الإمام ابن حجر: (ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبولهم النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان أمر يعترض به عليه، وترك ذلك والغلظة له قد يكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه) «1» . ورد في الحديث: (ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا) . الفائدة الرابعة: أفادنا الصحابي الجليل، أبو شريح الخزاعي، بأفضل وسائل تحمل العلم وأتمها، وهي السماع بالأذن وحضور القلب ورؤية المعلم بالعين، ورد في الحديث: (سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي) . وينبني على ذلك: أن تخلف حاسة من تلك الحواس يؤثر سلبا على استيعاب العلم وتحصيله. 16- إنزال الكتاب منجما: مما اختص الله- سبحانه وتعالى- به نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء والمرسلين، أن أنزل عليه الكتاب العظيم، القرآن الكريم، منجما على حسب الأحداث والوقائع، وما كان ذلك إلا عناية بقلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: إرادة الله- عز وجل- تعظيم هذا الكتاب الكريم، ورفع منزلته على جميع الكتب السماوية المنزلة من لدنه جل في علاه، فكان من أوجه العناية به، أن الله- عز وجل- اختصه دون غيره بأحسن طرق التنزيل، وهو التنزيل على مراحل، ومن بركة هذه الطريقة أن تكون قلوب المؤمنين أوعى لحفظه وفهمه، والدليل من الآية الكريمة أن الكتب السابقة قد نزلت كلها دفعة واحدة، أن الله- عز وجل- رد على شبهة الكفار بعدم نزول القرآن جملة واحدة، بأن هذا كان لغرض تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت الكتب السابقة   (1) انظر «فتح الباري» ، (4/ 43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 نزلت مثل نزول القرآن الكريم، لكان الرد القرآني على الكفار أن هذه هي سنة الله في جميع الكتب السابقة، وهي النزول على دفعات، ولكان هذا الرد أكثر إفحاما للمعترضين؛ لأنه بيّن أن هذا القرآن ليس بدعا من الكتب، كما بين جهل المعترضين، بكيفية نزول الكتب السابقة. والدليل على ما قلت من كتاب الله- عز وجل-، أن الكفار لما اعترضوا على مشي النبي صلى الله عليه وسلم في الأسواق وأكله الطعام رد الله- عز وجل- هذه الشبهة بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان: 20] . قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ومصالحه الدينية) «1» . الفائدة الثانية: عظيم عناية الله- عز وجل- بقلب نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد أراد أن يثبته غاية التثبيت، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ: أي نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤن، والقرآن أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب) «2» . وهو كلام جميل من الإمام العالم، ولكني أعتقد أنه لا مدخل لأمية النبي صلى الله عليه وسلم في نزول القرآن منجما؛ لأن الآية أوضحت سبب النزول مفرقا أوضح بيان. الفائدة الثالثة: بيان ما كان عليه قلب النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وثبات ورسوخ، وهذا ظاهر وجلي لمن تتبع سيرته صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن، ازداد طمأنينة وثباتا، وخصوصا عند ورود أسباب القلق، فإن نزول القرآن عند حدوث السبب، يكون له موقع عظيم، وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك، ثم تذكّره عند حلول سببه) «3» . ويؤخذ منه أيضا ثبات قلوب المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم من أتباع   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (582) . (2) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (13/ 28) . (3) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (852) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام. الفائدة الرابعة: كثرة اعتراضات الكفار فيما لا يعنيهم ومحاولتهم رد الحق بشبهة باطلة، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتفننهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) . وأنبه إخواني المسلمين أن الاعتراضات على شرع الله نهج غير المسلمين، أما المسلمون فنهجهم واضح بيّن، مدحهم الله به في كتابه العزيز قال تعالى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: من الآية 285] . كما يؤخذ من الآية الكريمة سفاهة عقول الكافرين غاية السفاهة؛ لأنهم لو أعملوا عقولهم لعلموا أن ما اعترضوا عليه هو غاية الجمال والكمال والحكمة الإلهية، ولكن حبّ الاعتراض يعمي القلوب والعقول عن الحق الواضح الجلي. الفائدة الخامسة: حاجة القلوب دائما إلى التذكرة وسماع الذكر الحكيم، وهو أعظم ما يثبّت القلوب ويقوي الإيمان. الفائدة السادسة: من الحكمة أن يختار الواعظ عند وعظه، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي تراعي المقام وتناسب الأحداث التي تمر بالناس، فإن هذا أوعى للقلوب وأكثر تثبيتا لها. 17- تعدد أسمائه صلى الله عليه وسلم: من أظهر دلائل علو قدر النبي صلى الله عليه وسلم وسمو مكانته، هو تعدد أسمائه، فإن كثرة الأسماء مع حسنها تدل على كثرة الصفات والمحامد والوظائف التي يقوم بها المسمى بتلك الأسماء، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية في الكمال الإنساني فقد اختصه الله- سبحانه وتعالى- بتعدد أسمائه وصفاته، والتي تظهر بجلاء شمائله وخصائصه ونعوته التي تفضّل الله بها عليه في الدنيا والآخرة. وقد جعلت تعدد أسمائه وصفاته صلى الله عليه وسلم مما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء والمرسلين لسببين: السبب الأول: أننا لا نعرف من الكتاب والسنة نبيّا من الأنبياء له من الأسماء ما لنبينا صلى الله عليه وسلم. السبب الثاني: على سبيل الفرض، لو تعددت أسماء نبي من الأنبياء، فإن الصفات المشتقة منها أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، لا تنبغي لنبي غيره، كما سنرى في معاني تلك الأسماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء: أنا محمّد، وأحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدمي، وأنا العاقب» «1» . وعنه رضي الله عنه في رواية مسلم: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على عقبي، وأنا العاقب» . والعاقب الّذي ليس بعده نبيّ «2» ، وعند مسلم أيضا، من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمّي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمّد، وأحمد، والمقفّي، والحاشر، ونبيّ التّوبة، ونبيّ الرّحمة» «3» . بعض فوائد الأحاديث: الفائدة الأولى: حب الله- سبحانه وتعالى- للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن شرّفه بتعدد أسمائه وصفاته، والتي تدل على كثرة خيره ووفور بركته وعلو مكانته وتعدد شمائله، كما أن من علامات هذا الحب أن بعض تلك الأسماء والصفات قد ادخرها الله- عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم فلم يشاركه فيها أحد من الأولين والآخرين. قال الإمام ابن حجر رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن لي خمسة أسماء» ما نصه: (والذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء اختّص بها لم يسمّ بها أحد قبلي أو معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية) . كما نقل رحمه الله عن القاضي عياض قوله: (حمى الله هذه الأسماء أن يسمى بها أحد قبله، وإنما تسمى بعض العرب محمدا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيّا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمدا، فرجوا أن يكونوا هم فسموا أبناءهم بذلك) «4» . الفائدة الثانية: بعض أقوال العلماء في معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم: 1- محمد: قال الإمام القرطبي رحمه الله (محمد منقول من صفة، وهي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة، كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدّح ونحو ذلك، فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (3532) . (2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم، برقم (2355) . (3) انظر ما قبله. (4) انظر «فتح الباري» ، (6/ 556) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بالشفاعة فقد تكرر معنى الحمد- يقصد أسباب الحمد- كما يقتضي اللفظ) «1» . 2- أحمد: قال الإمام القرطبي رحمه الله: (هو اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل، فمعنى أحمد أي أحمد الحامدين لربه، والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون لله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا) «2» . لطيفة: لماذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل باسم أحمد وليس باسم محمد ، قال القرطبي رحمه الله: (ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى عليه السلام فقال: اسمه أحمد) . وأضاف رحمه الله: (إن حمده صلى الله عليه وسلم لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل، وكذلك بالشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته) «3» . 3- الماحي: فسرها الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: «الذي يمحو الله بي الكفر» ، قال الزرقاني: (أي يزيل الله به الكفر، لأنه بعث والدنيا مظلمة بغياهب الكفر، فأتى بالنور الساطع حتى محاه، قال عياض: أي من مكة وبلاد العرب وما زوى له من الأرض، ووعد أنه يبلغه ملك أمته قال- أي القاضي عياض- أو يكون المحو عامّا بمعنى الظهور والغلبة ليظهره على الدين كله) «4» . انتهى. 4- الحاشر: ويحتمل معنيين، الأول: أن الناس يحشرون على أثره صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فيكون أول من يحشر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» . ومن ثم يحشر الناس بعده، فهم له في ذلك تبع، والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم من علامات الحشر، فليس بعده نبي ولا شريعة، فإن قال قائل: النبي صلى الله عليه وسلم لن يحشر الناس ولكنه يحشر قبلهم، فلماذا سمي الحاشر وهو اسم فاعل؟ قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (لما كان لا أمة بعد أمته لأنه لا نبي بعده نسب الحشر إليه لأنه يقع عقبه) «5» ، أي أن الحشر نسب إليه مجازا لأنه سبب فيه، فالناس لن يحشروا إلا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. 5- العاقب: أي الذي جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبي، كما ذكر في رواية مسلم: «وأنا العاقب» . والعاقب: (الذي ليس بعده نبي) ، ويبدو أن هذه الزيادة في الحديث من إدراج الرواة.   (1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (18/ 84) . (2) انظر المصدر السابق، (18/ 83) . (3) انظر المصدر السابق، (18/ 84) . (4) انظر «شرح الزرقاني» ، (4/ 559) . (5) انظر «فتح الباري» ، (6/ 557) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 6- نبي التوبة ونبي الرحمة: قال الإمام النووي رحمه الله: (ومقصوده أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتوبة والتراحم، قال تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، وقال تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. الفائدة الثالثة: أما الأسماء التي وردت له صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، فهي كثيرة، وهي في الحقيقة صفات له صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق: (الشاهد، المبشر، النذير المبين، الداعي إلى الله، السراج المنير) ، وفيه أيضا: (المذكّر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر، أما من أسمائه المشهورة: المختار والمصطفى والشفيع المشفع والصادق المصدوق) «1» . وأضاف الحافظ رحمه الله (الحكمة في الاختصار على الخمسة المذكورة في الحديث أنها أشهر من غيرها وموجودة في الكتب السابقة وبين الأمم السالفة) «2» . تنبيه هام: قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (نقل ابن العربي في شرح الترمذي عن بعض الصوفية أن لله ألف اسم ولرسوله صلى الله عليه وسلم ألف اسم) «3» . انتهى. وهذا الكلام فيه مبالغة شديدة لا تخفى على أحد، والذي أريد أن أنبه عليه، هو التذكير بأن أسماء الله- سبحانه وتعالى- وكذا أسماء النبي صلى الله عليه وسلم توقيفية تعلم بالدليل الصحيح، ولا مجال للاجتهاد فيها، ولا ينبغي إطلاق اسم على النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد به حديث صحيح، توقيرا وإجلالا لمقام النبوة، ومن ذلك إطلاق البعض اسم يس وطه على النبي صلى الله عليه وسلم. 18- مغفرة ما تقدم وما تأخر من ذنبه: وهي منزلة عظيمة رفيعة لم يشارك فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم أحد من الأولين والآخرين، وهي منزلة ادخرها الله- عز وجل- لأحب الخلق إليه وأكرمهم عليه، قال الإمام ابن كثير: (هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح أحد غيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق وسيدهم في الدنيا والآخرة) «4» . قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح: 1- 2] .   (1) انظر «فتح الباري» ، (6/ 557) . (2) انظر المصدر السابق، (6/ 558) . (3) انظر المصدر السابق، (6/ 558) . (4) انظر «تفسير القرآن العظيم» ، (4/ 185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بعض فوائد الآيتين الكريمتين: الفائدة الأولى: نزلت الآيتان الكريمتان عند عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية، روى البخاري في صحيحه عن قتادة أنّ أنس بن مالك حدّثهم قال: لمّا نزلت: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ... إلى قوله: فَوْزاً عَظِيماً مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكابة وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا» «1» . أما مناسبة نزول الآيات بعد صلح الحديبية، فقال الإمام القرطبي رحمه الله: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة) «2» ، وقال صاحب التفسير الميسر: (فتحنا لك ذلك الفتح ويسرناه لك ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر بسبب ما حصل من هذا الفتح من الطاعات الكثيرة وبما تحملته من المشقات، ويتم نعمته عليك بإظهار دينك ونصرك على أعدائك ويرشدك طريقا مستقيما من الدين لا عوج فيه) «3» . الفائدة الثانية: الفتح المبين الذي ذكر في القرآن هو صلح الحديبية، وليس فتح مكة كما يتبادر للذهن، ودليله ما رواه البخاري عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: (تعدّون أنتم الفتح فتح مكّة وقد كان فتح مكّة فتحا ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان يوم الحديبية) «4» . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (فتحا مبينا: أي بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان) «5» . الفائدة الثالثة: الآيتان الكريمتان ما هما إلا ظاهرة قرآنية في الاحتفاء بالنبي المجتبى والرسول المصطفى، تدلل على عظيم حب الله لنبينا صلى الله عليه وسلم، يتبين ذلك من:   (1) بنحو مشابه أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، برقم (4172) ، كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (16/ 262) . (3) انظر «التفسير الميسر» . (4) البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، برقم (4150) . (5) انظر «تفسير القرآن العظيم» ، (4/ 184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 1- أوضحت الآيتان أن الله- تبارك وتعالى- قد يسر وهيأ الفتح المبارك ليكون مقدمة وسببا في مغفرة ذنوب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي منزلة عظيمة لم ينلها أحد من العالمين غيره صلى الله عليه وسلم كما بينت من أقوال العلماء. 2- إرادة الله- تبارك وتعالى- أن يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مغفور له كل شيء، فيطمئن صلى الله عليه وسلم على ما فات من حياته المباركة- قبل النبوة وبعدها- ويسعد بما يستقبل في بقية حياته، فلا حزن على ما فات ولا خوف على ما سيأتي، وهذا يحقق غاية السعادة وراحة القلب. ويتفرع عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الخوف من سؤال ربه- تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، وليس ذلك لأنه أمن مكر الله- حاشا لله- ولكن بسبب تصديقه صلى الله عليه وسلم لخبر ربه- عز وجل-. 3- لم تقتصر البشرى العظيمة على مغفرة الذنب كله ، بل ضم إلى ذلك إتمام النعمة والهداية إلى الطريق المستقيم. قال الإمام الطبري في معنى: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ما نصه: (بإظهاره إياك على عدوك ورفعة ذكرك في الدنيا وغفرانه ذنوبك في الآخرة) «1» . ويتفرع على هذا أمران عظيمان وهما: أ- أن نعم الله- عز وجل- على نبيه صلى الله عليه وسلم في الدارين الدنيا والآخرة، وفي أمري الدين والدنيا، وفي أمره خاصة وأمر أمته: قد بلغت الغاية والمنتهى في الكمال والجمال، وهذا مقتضى قوله تعالى: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ. ب- كمال عصمته صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، فمن شكك في عصمته فلا يخرج أمره عن حالين، إما أن يكون مكذبا لكلام الله- عز وجل-، وإما أن يظن بالله ظنّا سيئا، حيث ظن أن هدى الله فيه الخطأ والزلل. الفائدة الرابعة: هل يعني قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أصاب شيئا يستحق معه المغفرة؟ أقول: لا، بل نجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقترف في حياته- قبل البعثة وبعدها- صغيرة فضلا عن كبيرة، وقد بينت ذلك في أكثر من موضع في هذا الكتاب، ولكن أقول: إن تلك المغفرة هي درجة عالية رفيعة، حتى مع كونه صلى الله عليه وسلم معصوما، وقال آخرون: مغفرة ذنبه صلى الله عليه وسلم يكون على تركه الأولى من الأمور أو فعله   (1) انظر «تفسير الطبري» ، (26/ 71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 غير الأولى، بالنسبة لمقامه صلى الله عليه وسلم، فيعدّ إتيانه خلاف الأولى من الأمور ذنبا في حقه صلى الله عليه وسلم يستحق عليه المغفرة، أما في حق غيره من عموم المسلمين فلا يعتبر ذنبا، قال صاحب المنتخب: (ليغفر الله لك ما تقدم مما يعدّ لمثل مقامك ذنبا وما تأخر منه) «1» . أدلة على عظم أمر غفران الله- عز وجل- للنبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر: 1- من جهة نبينا صلى الله عليه وسلم: روى مسلم في صحيحة عن قتادة أنّ أنس بن مالك حدّثهم قال: لمّا نزلت إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [الفتح: 1- 2] ... إلى قوله: فَوْزاً عَظِيماً، مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكابة وقد نحر الهدي بالحديبية فقال: «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا» «2» . 2- من جهة عيسى عليه السلام: ورد في حديث الشفاعة الطويل أن عيسى قال للناس لما طلبوا منه الشفاعة: (ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ، فلم يذكر عيسى صلى الله عليه وسلم في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين أو أنه خليل الرحمن أو أنه سيد ولد آدم، ولكن ذكر فيه ما يعتقد أنه أعظم صفاته التي تؤهله صلى الله عليه وسلم للوقوف بين يدي ربه- تبارك وتعالى- للشفاعة العظمى، وهي أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فتدبر. 3- من جهة المسلمين: ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، فلقد هنّئوا النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التشريف الإلهي العظيم لما علموا من شرف هذه المنزلة. 19- النصر بالرعب: قال تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12] . 20- النصر بالصبا: عن ابن عبّاس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه: «قال نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» . رواه البخاري «3» .   (1) انظر «المنتخب» . (2) مسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية، برقم (1786) . (3) البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، برقم (4172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والصّبا: هي الريح التي تهب من مشرق الشمس، ونصرته بها صلى الله عليه وسلم كانت يوم الخندق، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب: 9] ، فقد أرسلها الله- تبارك وتعالى- على الأحزاب باردة في ليلة شاتية، فقلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم وقلبت قدورهم، فكان ذلك سبب انهزامهم، أما الدبور: فهي ريح تهب من مغرب الشمس، وبها كان هلاك قوم عاد، وصفها الله القوي العزيز في كتابه الكريم بالريح الشديدة، قال- عز من قائل-: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19] . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عجيب قدرة الله- تبارك وتعالى- فقد جعل الريح: (وهو هواء قوي لا يرى بالعين) جندا من جنده، يهزم به أعداءه وينصر به أولياءه، ومن عجيب قدرته أيضا أن نوّع بين أصناف هذه الريح، فهذه ريح تأتي من المشرق تسمى الصّبا، وأخرى تأتي من المغرب تسمى الدبور، وأخرى تأتي من الشمال والجنوب، بل إن هناك ريحا تأتي من بين جهتين، ويقال لها: النكباء. كما ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله. الفائدة الثانية: حب الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم، إذ نوّع له أسباب نصره على عدوه، ليبين له ولأمته شدة اعتنائه به صلى الله عليه وسلم، فتارة ينصره بالريح، وتارة ينصره بالرعب، وأخرى ينصره بالملائكة والروح القدس. بل نصره بأن أراه عدوه صلى الله عليه وسلم في منامه وكأنه فئة قليلة. قال تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الأنفال: 43] . وكان يمكن أن يكون سبيل النصر واحدا. الفائدة الثالثة: كان النبي صلى الله عليه وسلم حقّا رحمة للعالمين إنسهم وجنهم، مسلمهم وكافرهم، ودليله أن الله- تبارك وتعالى- لما أرسل على الأحزاب ريحا لم يجعلها تستأصلهم، بخلاف الريح التي أرسلت على قوم عاد فقد أهلكتهم عن بكرة أبيهم، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (ولما علم الله رأفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقومه رجاء أن يسلموا سلط الله عليهم الصبّا، فكانت سبب رحيلهم عن المسلمين لما أصابهم بسببها من الشدة، ومع ذلك لم تهلك منهم أحدا ولم تستأصلهم) «1» .   (1) انظر «فتح الباري» ، (2/ 521) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الفائدة الرابعة: النصر على العدو لا يشترط فيه المنازلة والالتحام، بل قد يحدث دون التقاء الفريقين، فالله- سبحانه وتعالى- قد أرسل على الأحزاب ريحا جعلتهم ينسحبون من حول المدينة بدون منازلة، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نصرا، ورد بالحديث: «نصرت بالصبا» . 21- تعظيم بيعته صلى الله عليه وسلم: قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [الفتح: 10] . مظاهر تعظيم بيعته صلى الله عليه وسلم: 1- جعل الله- تبارك وتعالى- بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كالبيعة معه تبارك وتعالى، سواء بسواء، قال صاحب المنتخب: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ أيها النبي بيعة الرضوان يوم الحديبية على الثبات في الجهاد وقتال قريش إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) . وقال صاحب تفسير الزيد: (إن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله- سبحانه وتعالى- من غير تفاوت) . ولتأكيد القرآن لهذا المعنى قال تعالى عند ذكر الثواب المترتب على الوفاء بهذه البيعة: وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ. فقد جعل البيعة كلها عهدا معه- سبحانه وتعالى-. 2- إثبات مباركة الله لهذه البيعة وأنه مطلع عليها وكذلك رضاه عنها، لقوله- تعالى-: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. 3- ذكر تلك البيعة في القرآن العظيم في سياق المدح والثناء عليها. 4- ترتيب أعظم الأجر والثواب لمن وفّى بتلك البيعة، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: شرف النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه- تبارك وتعالى- وعلو منزلته، حيث شرف بيعته صلى الله عليه وسلم من كل وجه كما رأينا. الفائدة الثانية: أن بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كالبيعة مع غيره- ممن يقوم مقامه- كالوالي والخليفة، فإن كانت مبايعة المؤمنين للسلطان عبادة، فلا شك أن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأشرف وأكثر بركة، والدليل على ذلك أن الله- تبارك وتعالى- أضاف البيعة إلى نفسه المقدسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الفائدة الثالثة: حث الصحابة رضي الله عنهم على مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم والوفاء بها بإعلامهم أن هذه البيعة إنما هي بيعة مع الله تبارك وتعالى. الفائدة الرابعة: من بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان يوم الحديبية ووفّى بهذه البيعة، فقد نال بركة مبايعة الله- تبارك وتعالى- له في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة. وهذا بلا شك فضل لا يدانيه فضل. الفائدة الخامسة: من نقض العهد مع الله- تبارك وتعالى- أو نكص على عقبيه أو فرط في جنب الله فلن يضر الله شيئا، فهو سبحانه الغني الحميد، فوبال المعصية وشؤمها يرجع على صاحبها وحده، قال- تعالى-: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح: 10] .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ثانيا: تفضيل أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم في الدنيا والآخرة 1- أمة مصطفاة: قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر: 32- 33] . الشاهد في الآية الكريمة: هو قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فكل من آمن بالله ورسوله وحقق بقية أركان الإيمان، ولم يأت بشيء ينقض تلك الأركان، فهو من الأمة المصطفاة، أي التي اختارها الله تعالى وفضلها على جميع الأمم السابقة. [ فضائل الأمة الإسلامية ] بينت الآية بعض فضائل هذه الأمة العظيمة ومنها: 1- إيراث الكتاب: قال القرطبي ما نصه: (الكتاب- هاهنا- يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكأن الله لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا (. انتهى كلامه «1» . فكأن الله- عز وجل- قد جمع لهذه الأمة في القرآن كل الكتب المنزلة السابقة، وجعل ذلك بمثابة الميراث الذي منحها إياها، وكفى بذلك شرفا وفضلا. 2- أضاف الله- عز وجل-، كل طوائف هذه الأمة إلى ذاته الشريفة فقال: الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، كما وصفهم بأشرف الأوصاف وهي العبودية، واسمع بماذا وصف الله منحته للأمة، أي توريث الكتاب والاصطفاء، قال تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، ولك أن تتخيل أن الله الكبير الغنيّ، إذا وصف الفضل بأنه كبير، كيف يكون كبير هذا الفضل؟ فسيكون كبيرا في قدره صفة ووصفا، وفي حجمه عددا وكمّا. 3- دخول جميع طوائف الأمة الجنة، بل جنات وصف ساكنيها بأحسن الأوصاف، ووصف ما فيها بأحسن الصفات قال تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] . وفي الآيتين فوائد منها: الفائدة الأولى: كل ما أعطاه الله- سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين، هو محض فضل   (1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ، (14/ 347) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 منه، قال تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، كما أن قيام المسلم بأداء العبادة، والمسابقة في ميادين الخير، إنما هو بإذن الله، قال تعالى: وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] ، يتفرع على ذلك أن على العبد المسلم ألا يرى لنفسه فضلا في عبادة الله، وأن يرجع الفضل كله لله، ويسأله دوما التوفيق لعمل الطاعات، وإذا وفّق كان عليه شكر المنعم المتفضل، الذي أذن له بالطاعة ووفقه لها. الفائدة الثانية: وجوب امتنان هذه الأمة لخالقها ومصطفيها- عز وجل-، إذا امتن عليها بواسع فضله، في الدنيا بالاصطفاء والكتاب، وفي الآخرة بالجنات العاليات. ويجب أن يكون هذا الامتنان بالعلم والعمل. الفائدة الثالثة: لا ينبغي لأحد أبدا من المؤمنين، أن يعتقد بأن ما عند غير المسلمين أفضل مما عنده، وكذلك من أعطاه الله الكتاب علما ودراية وعملا وحفظا، أن يعتقد أن غيره من المسلمين ممن هو أقل منه في العلم والعمل بالقرآن أنه أفضل منه وإن كان ذا حظ في المال والجاه والنسب، لأن هذا وذاك تكذيب لصريح الآية، قال تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، فجاء الإخبار بالجملة الاسمية التي تفيد الاستمرار والثبوت، مما يوجب الاعتقاد أن غير ذلك ليس بالفضل الكبير. والحاصل أن كل فضل في الدنيا، يحتقر مقارنة بفضل الكتاب والاصطفاء، أما في الآخرة فلا فضل إلا في الجنة. الفائدة الرابعة: تعظيم القرآن الكريم؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- قد جمع لهذه الأمة فيه كل الكتب المنزلة من قبل، فيجب على المسلمين الاهتمام به غاية الاهتمام، وألاتكون نعمة تداول القرآن بيسر وسهولة في طبعات مزينة مزخرفة، وأنه متوفر في كل بيت ومسجد ومكتب، سببا في عدم الشعور بهذه المنة العظيمة من الله، ومن غره ذلك، فليعلم أنه أتى على الناس زمن، كانوا يشترون القرآن بمئات الجنيهات من العملات الصعبة، ويوزعونه بينهم خفية، ويقسمونه على عدة أجزاء لصعوبة الحصول على نسخة كاملة، ومن ضبط عنده شيء منه يحكم عليه بالسجن أو القتل. الفائدة الخامسة: الحكم بتخليد أهل الكبائر من المسلمين في النار- أو أنه في منزلة بين منزلتين أو أنه كافر- تكذيب بظاهر القرآن، حيث إن الآية قسمت المصطفين من عباد الله إلى ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، فإذا لم يكن أصحاب الكبائر من الظالمين لأنفسهم، فليس في الدنيا ظالم لنفسه، كما أن الآية حكمت للفئات الثلاثة أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يدخلون الجنة، قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، ولو لم يكن الظالم لنفسه سيدخل الجنة برحمة الله، فلماذا ذكر في الآية التي يعدد الله- سبحانه وتعالى-، فيها أفضاله على هذه الأمة؟ وكيف تختم الآية الأولى والتي ذكر فيها الظالم لنفسه بقوله: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ؟ وإذا كان الظالم لنفسه سيخلد في جهنم، فلماذا لم يذكر في الآية التالية، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] . ومعلوم أنه لن يخلد في النار إلا كافر، كما ورد في أحاديث الشفاعة الصحيحة، وحديث أبي ذرّ المشهور والذي رواه البخاري، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثمّ أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال: لا إله إلّا الله ثمّ مات على ذلك إلّا دخل الجنّة» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: «وإن زنى وإن سرق» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: «وإن زنى وإن سرق» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرّ» «1» . ويصدق ذلك كله قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] ، وهذه الآية إنما هي للدار الآخرة، لأن في الدنيا يغفر الله الشرك والمعاصي لمن تاب وأناب، أما قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، فإنما هي للدار الدنيا وليست للدار الآخرة. وقد بينت في موضع آخر من الكتاب، أنه لا ينبغي لأحد من المسلمين، أن يستمرئ المعاصي والذنوب لعلمه بأن الله لن يخلده في النار، وأن ماله بعد التطهير من الذنوب إلى الجنة، وقد بينت أن هذا من سوء الأدب مع الله- سبحانه وتعالى-، كما ألاأحد يضمن لهذا العاصي المستبيح لحرمات الله- عز وجل-، أن يموت على الإسلام، وألا يختم له بخاتمة السوء، والعياذ بالله. 2- هي خير الأمم: قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . هي خير أمة أخرجها الله- سبحانه وتعالى- للعالمين بما استودع الله فيها من صفات   (1) البخاري، كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض، برقم (5827) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الخيرية، والتي نصت عليها الآية الكريمة، وهي أنهم أنفع الناس للناس بما يقومون به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبما استقر في نفوسهم من الإيمان بالله- عز وجل-، قال- تعالى-: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: في الآية بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم بالقليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه) . انتهى «1» . الفائدة الثانية: بيان فضل الإيمان بالله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن الآية لما أخبرت أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، أتت بوصفين هما بمثابة القيد لهذه الخيرية، لذا قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79] ؛ ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة بهذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ. انتهى «2» . ويتفرع على هذه عدة أمور؛ منها: أ- هذه الخيرية لا تثبت لكل أمة الإسلام على مر العصور بنفس القوة، وإنما تقوى وتضعف على حسب ما تقوم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. ب- لا ينبغي لأحد أن يتباهى بهذه الآية ويفرح بها إلا إذا اتصف بهاتين الصفتين، وإلا كانت الآية حجة عليه. ج- الحث على التمسك بهاتين الصفتين لتحقيق الخيرية التي منّ الله- عز وجل- بها على هذه الأمة. الفائدة الثالثة: لا ينبغي أبدا لأحد من المسلمين أن يظن أن أي أمة (غير أمة الإسلام)   (1) انظر «تفسير القرآن العظيم» ، (1/ 392) . (2) انظر المصدر السابق، (1/ 397) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 هي خير من أمتنا أو أن ما عندها هو خير مما عندنا- مما يتصل بأمور العقيدة والشريعة وما يتفرع منهما وما ينبغي عليهما-؛ لأن في ذلك تكذيبا لصريح القرآن الكريم، فلو قال قائل: إن هذه الخيرية قد نزعت منا لتقصيرنا في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قلت له: بحمد الله لم تنزع منا لأن معنا أصل الإيمان بالله ورسوله، وهذا الأصل لا يشاركنا فيه أحد ألبتة في كل أنحاء المعمورة. الفائدة الرابعة: في الآية دليل واضح على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أفضل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وآمن بالله، فمنهم نتعلم وبهم نقتدي؛ لأن الآية الكريمة قيدت الخيرية بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وورد في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان، عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم» . قال عمران: لا أدري أذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة «1» . الفائدة الخامسة: إرادة الله- سبحانه وتعالى- الشرعية أن تكون هذه الأمة هي خير الأمم، ولذلك يجب على هذه الأمة أن تأخذ بكل أسباب العزة والقوة والتقدم المحمود تحقيقا لإرادة الله- عز وجل-. الفائدة السادسة: يجب على كل مؤمن أن يربي نفسه على أن يكون نفعه متعديا لغيره وألا يقتصر على نفسه، تعلمنا ذلك من أمر الله لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من أعظم أبواب إيصال الخير إلى الغير. الفائدة السابعة: تختلف الأمم في الأفضلية والخيرية اختلافا بينا بحسب تفاضل أنبيائها وكتبها وشرائعها، ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء، وكتابنا القرآن الكريم هو خير الكتب وشريعة الإسلام هي أفضل الشرائع وأكملها، كانت هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس. 3- أمة وسط شاهدة على بقية الأمم: قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] .   (1) البخاري، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، برقم (2651) ، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم..، برقم (2535) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قال الشيخ السعدي رحمه الله في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي: (عدلا خيارا) ، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة لا تشديدات اليهود وآصارهم ولا تهاون النصارى، وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ولا يطهرهم الماء من النجاسات وقد حرّمت عليهم طيبات عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا، ولا يحرمون شيئا، بل أباحوا ما دب ودرج) . انتهى «1» . وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع يعترفون لكم بالفضل، والوسط هنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] . انتهى «2» . وقال الإمام القرطبي رحمه الله: (ووسط الوادي خير موضع فيه وأكثره كلأ وماء، ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا، أي أن هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم) . وفيما قاله علماؤنا رحمهم الله الكفاية وزيادة لبيان ما منّ الله- عز وجل- به على هذه الأمة من فضائل لا تحصى، سواء كان ذلك في العقائد أم في الشرائع، وكذا حفظها من الزيغ والضلال، وضمان عدم اجتماعها على الباطل، كما سيأتي في الفوائد. وخلاصة القول: أن الله- عز وجل- ما امتن منة على أمة من الأمم إلا امتن علينا بأحسن ما يكون من جنس هذه النعمة، فعلى سبيل المثال امتن على الأمم السابقة بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع، ولكن خصّنا دون الأمم السابقة بأفضل أنبيائه وأشرف كتبه وأحكم شرائعه، فضلا عما أولاه سبحانه وتعالى- لنا من نعم كثيرة وآلاء جسيمة لم يكن لأمة من قبلنا ما يناظرها أو حتى يقاربها، وقد   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (70) . (2) انظر «تفسير القرآن العظيم» ، (1/ 191) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بينت طرفا من هذه النعم في هذا الفصل من الكتاب، فلله الحمد كله وإليه يرجع الفضل كله. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: في الآية دليل على أن الإجماع حجة شرعية، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله: وَسَطاً، فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطا إلا في بعض الأمور، وقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه فإنها معصومة في ذلك) «1» . الفائدة الثانية: أن أمة الإسلام، أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعلو على جميع الأمم، ولا تعلو عليها أي أمة، حيث إنها تشهد على جميع الأمم وتقبل شهادتها عند ربها- سبحانه وتعالى- ويدخل بهذه الشهادة طوائف كثيرة النار، وفي المقابل لا تشهد عليها أي أمة من الأمم. ويتفرع عليه وجوب أن تعتز هذه الأمة بنفسها وأن تعتقد اعتقادا جازما أنها عالية- بفضل الله- على جميع الأمم. الفائدة الثالثة: وجوب توفر شرط العدالة في كل من يشهد أو يحكم بين الناس، لأن الله- سبحانه وتعالى- لما أراد تفضيل هذه الأمة بالشهادة على الأمم السابقة، جعلها أمة وسطا لتكون شهادتها مقبولة، قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ، فاللام في لِتَكُونُوا هي لام التعليل، ويتفرع على تلك الفائدة الفائدة التالية. الفائدة الرابعة: حرمان أهل البدع والزيغ والضلال- من أمة الإسلام- من الشهادة على الأمم السابقة، وذلك لعدم توفر شروط الوسطية فيهم ولوقوعهم إما في الغلو أو التقصير، كما أنهم يحرمون من الشهادة على الذين ماتوا في الدنيا من أهل القبلة. الفائدة الخامسة: هي منقبة عظيمة لهذه الأمة حيث إن الأنبياء هم أفضل الخلق وأحبهم إلى الله- عز وجل- وأعلى الناس شأنا وقدرا، يحتاجون إلى عموم هذه الأمة للشهادة لإثبات قيامهم بتبليغ أممهم، وكفى بذلك شرفا لهذه الأمة، روى البخاري في صحيحه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبّيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمّد وأمّته، فتشهدون أنّه قد بلّغ وَيَكُونَ   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، فذلك قوله- جلّ ذكره-: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. والوسط العدل «1» . كما يتفرع على ذلك أيضا علم الأنبياء كلهم جميعا بأن أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمة عادلة مقبولة شهادتها عند الله- عز وجل- ولولا ذلك ما طلبوا- صلوات الله عليهم جميعا- شهادتها، وهي منقبة أخرى، تختلف عن سابقتها، فتدبر. الفائدة السادسة: يقين هذه الأمة بكل ما جاء في القرآن العظيم من الأخبار الغيبية سواء الماضية أو المستقبلية، وقد بلغ هذا اليقين بالغيب درجة المشاهدة، ودليله أن أحدا من هذه الأمة المحمدية لم يعاصر نوحا أو غيره من الرسل- عليه الصلاة والسلام- ولكننا علمنا ما دار بينهم وبين أقوامهم من القرآن العظيم، فصدقنا القرآن وآمنا بما جاء به من هذه الأمور الغيبية وشهدنا بها أمام رب العزة كأننا شاهدناها وعاصرناها، ولولا هذا اليقين ما رضي الله- عز وجل- بتلك الشهادة. الفائدة السابعة: قبول الله- عز وجل- لشهادة هذه الأمة، لا يقتصر على شهادتها على بقية الأمم يوم القيامة، بل تعدى ذلك، فقد قبل الله- عز وجل- شهادتها على من مات من المؤمنين في الدنيا، ودليله ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: مرّ بجنازة فأثني عليها خيرا، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجبت» . ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّا، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجبت» . قال عمر: فدى لك أبي وأمّي، مرّ بجنازة فأثني عليها خير فقلت: «وجبت وجبت وجبت» . ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّ فقلت: «وجبت وجبت وجبت» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنّة، ومن أثنيتم عليه شرّا وجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» «2» . 4- أمة لا تجتمع على ضلالة: قال تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: 115] . عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمّتي قائمة   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» ، برقم (4487) . (2) مسلم، كتاب: الجنائز، باب: فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى، برقم (949) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على النّاس» . رواه مسلم «1» . الشاهد في الحديث: أن النبي قد حكم أنه لن يخلو قرن من القرون، ولا أمة من الأمم من طائفة مقيمة على الحق، أي متمسكون بكتاب الله وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولذلك يستحيل أن تجتمع هذه الأمة على الضلالة لأن اجتماعهم على ضلالة معناه أن تكون هذه الفئة الصالحة القائمة بأمر الله غير موجودة، أو غرّها اجتماع السواد الأعظم من الناس على منكر، فمالت إليهم، وهذا أيضا ينافي الحديث، ولذلك فاجتماع الأمة على أمر من الأمور، أو حكم من الأحكام، دليل قطعي على أن هذا الأمر هدى وليس بضلالة، حيث إن الفئة الصالحة، لا يمكن أن تقر أو ترضى بالباطل، فالأمر المجمع عليه من الأمة حق، وهذه الأمة لا تجتمع على باطل، وهي حكمة عظيمة من الله- عز وجل-، لأنها لو اجتمعت على باطل، فقد يستقر هذا الباطل إلى يوم القيامة، ويندثر الحق الذي هو ضد هذا الباطل، وحيث إنه لا نبي سيأتي بعد، يكون في استقرار الباطل واندثار الحق مفسدة عظيمة، وتكمن المفسدة، في أن الناس يبحثون عن الحق فلا يجدونه، ولذلك تكون لهم حجة على الله- عز وجل-، وهذا ينافي حكمة الله من إرسال الرسل وإنزال الكتب، قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] . وعدم اجتماع الأمة على ضلالة من أكبر نعم الله عليها، حيث ضمنت به الأمة عدة أمور من أهمها: 1- إضافة أصل أصيل تستند إليه الأمة بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا وهو (الإجماع) ، وهو أصل تحتاج إليه أمة سيبقى شرعها صالحا إلى يوم القيامة، كل يوم يظهر من الأمور والمصالح ما يحتاج إلى الإفتاء والاجتهاد، فما أجمعت عليه الأمة أنه معروف فهو معروف، وما أجمعت عليه أنه منكر فهو منكر، ولا شك أن هذا من باب التوسعة عليها؛ لأنه كلما زادت مصادر التشريع كان ذلك من أوجه مظاهر رحمة الله بالعباد. 2- ألّا ترتد الأمة على أعقابها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؛ لأن ارتدادها يعني أنها قد اجتمعت على ضلالة وهذا محال. 3- ضمنت الأمة بهذا الأصل ألا يندثر شيء من أمور دينها ولو كان من المكملات   (1) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة ... » ، برقم (1037) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 المحسنات؛ لأنه لو اندثرت سنة من السنن وسكتت الأمة على هذا الاندثار سواء بعدم الدعوة لهذه السنة أم عدم العمل بها لتحقق فيها الاجتماع على باطل، والأمة معصومة من ذلك. وقد بين الشيخ السعدي المسألة بيانا جميلا، حيث قال ما نصه: (وقد استدل بهذه الآية الكريمة، على أن إجماع هذه الأمة حجة، وأنها معصومة من الخطأ، ووجه ذلك أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، وسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مفرد مضاف، يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء، أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته- فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] ، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا، ولا شيء بعد المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء، فهو مما نهوا عنه، فلا يكون إلا منكرا، ومثل ذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] . فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا، أي عدلا خيارا؛ ليكونوا شهداء على الناس، أي: في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة، لكونهم عالمين بما شهدوا به، عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم، ولا عالمين بها، ومثل ذلك قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ، يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه، بل اتفقوا عليه، أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة، فلا يكون مخالفا، فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع، أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة) «1» . ويجب التنبه إلى أن حديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» والذي يتداوله الكثير من الناس، حديث ضعيف، والحمد لله أن هدى الله أهل العلم أن في آية وحديث الباب دليلين على حجية الإجماع، وأنه حجة في التشريع بعد الكتاب والسنة، ولا عبرة للمخالف.   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ، (203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تحريم أن يقول الإنسان: هلك الناس، سواء بقصد الإخبار أو بقصد الدعاء، فكيف يحكم أحد على الأمة بالهلاك، وفيها تلك الفئة، وهو بذلك يكون كالمكذب بخبر النبي بوجودها في كل القرون، أو كيف يدعو عليها بالهلاك؟ وفيها الفئة التي زكاها خير البرية، يصدق ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرّجل: هلك النّاس، فهو أهلكهم» . رواه مسلم «1» . الفائدة الثانية: في الحديث بشرى عظيمة لهذه الأمة، وهو وجود الخير والعلم والحق فيها، حتى يأتي أمر الله، وقد يضعف هذا الحق في بعض الأوقات، ولكنه موجود، يقوى في أكثر الأوقات. الفائدة الثالثة: في الحديث تكذيب من ادعى، أنه ترك الحق لعدم وجود النصير أو القائم على الحق، كما أنه حجة على من يتساهل في أمور دينه، لعدم وجود من يعلّمه ويرشده ويفتيه، ولا يشترط وجود هذه الفئة بأشخاصها في كل بلد أو قطر، بل يكفي أن علمها موجود بوسائل مسموعة أو مرئية أو مكتوبة. فلا حجة لأحد والحمد لله، ولكن بعض الناس قد اعتادوا على التساهل في أمور دينهم، بعكس حرصهم على أمور دنياهم. الفائدة الرابعة: المقصود من قوله: «حتى يأتي أمر الله» ، هي الريح التي تأتي قرب يوم القيامة، فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة، كما ذكر الإمام النووي في شرحه صحيح مسلم «2» . الفائدة الخامسة: في الحديث حث لأهل العلم والخير على الصبر وتحمل أذى الناس، وعليهم أن يعلموا أنهم سيجدون مشقة في دعوتهم لقوله: «لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم» ، فأثبت الحديث أنه سيوجد في الأمة من يخالف أهل الحق فلا يوافقهم، ويخذلهم فلا ينصرهم، وقد يزداد الأمر إلى إقامة كل حجة لدحض الحق الذي مع هذه الفئة، وإشاعة كل شبهة لفضّ الناس من حولهم، وقد يزداد الأمر إلى نصرة أعدائهم عليهم. الفائدة السادسة: كما أن في الحديث تسلية لهذه الفئة، ففيه بشرى عظيمة لهم، أنه سيأتي أمر الله وهم ظاهرون على الحق.   (1) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن قول: هلك الناس، برقم (2623) . (2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» ، (13/ 66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الفائدة السابعة: اختلف العلماء في هذه الفئة، فقيل: هم أهل الحديث، وقيل: هم أهل الجهاد، وقيل: هم العلماء، وقيل: هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وأرى أن المقصود من هذه الفئة هم هؤلاء جميعا لأن الدين لا يقوم إلا بهم مجتمعين، وكل منهم على ثغر من ثغور الإسلام. 5- أمة يعلّمها الروح الأمين: عن عمر بن الخطّاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب شديد سواد الشّعر، لا يرى عليه أثر السّفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتّى جلس إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه وقال: «يا محمّد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد ألاإله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا» . قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» . قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» . قال: فأخبرني عن السّاعة، قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السّائل» . قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: «أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان» . قال: ثمّ انطلق فلبثت مليّا، ثمّ قال لي: «يا عمر أتدري من السّائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبريل، أتاكم يعلّمكم دينكم» . رواه مسلم «1» . الشاهد في الحديث: أن جبريل عليه السلام، وهو أمين وحي السماء، وهو- بالإجماع- أفضل الملائكة وأعظمها، ولذلك اختصه الله- عز وجل- بأعظم الوظائف وأجلّ المهام، وهي تبليغ الوحي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، وقد وصفه الله- سبحانه وتعالى- في القرآن بصفات عظيمة فقال في حقه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] ، وقال: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] ، وقال: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى [النجم 6] ، أقول: الشاهد أن هذا الملك العظيم، جاء يعلم هذه الأمة أمر دينها، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» ، وهذا غاية اعتناء المولى- عز وجل- بهذه الأمة.   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، برقم (8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 [ فوائد الحديث ] وفي الحديث فوائد عظيمة قد يطول المجال في ذكرها، فهي تحتاج إلى كتاب منفصل، لاشتماله على كل أصول الدين، وسنقتصر على بعض الفوائد إجمالا وهي: الفائدة الأولى: الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه المتعلم مع العالم، في قوله: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه) ، وكذلك إعلام المتعلّم من حوله بتصديقه للعالم، لقوله: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) . الفائدة الثانية: ما ذكر من أصول الإيمان في هذا الحديث كان على سبيل الإجمال؛ لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك، وقد بين القرآن الكريم والسنة النبوية هذه الأصول أبلغ بيان، فمن ذلك: 1- الإيمان بالله ، هو أن نؤمن بأن الله واحد لا شريك له، ولا ند له، لم يلد، ولم يولد، له الخلق والأمر، وله الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأن له من كل صفة أتمها وأجملها، وأن نؤمن بهذه الصفات من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، ونؤمن أن الله هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وأن كل ما يحكم به وفق الحكمة البالغة، حكمة في صورة الأمر وحكمة في غايته، وأنه لا يشاركه أحد في ملكه ولا في حكمه، ولا في أمره، كما ذكرت في عدة مواضع من هذا الكتاب. 2- الإيمان بالملائكة ، يتوجب أن نعتقد أنهم مخلوقون من نور، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، لأنهم مجبولون على الطاعة، منهم الموكل بالوحي كجبريل عليه السلام، ومنهم الموكل بالنفخ في الصور كإسرافيل، ومنهم الموكل بالمطر وإحياء النبات بإذن الله، وهو ميكائيل، ومنهم الموكل بجهنم، وهو مالك، ومنهم الموكل بالجنة، ومنهم القائمون بعبادة الله، بين قيام وركوع وسجود، لا يملون ولا يفترون ولا يتقدمون بين يدي الله- عز وجل-، قال تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] ، كما نعتقد أن عددهم لا يعلمه إلا الله بل لا يمكن أن يستوعب عددهم بشر، لما ثبت في صحيح البخاري في حديث الإسراء قوله: صلى الله عليه وسلم «فرفع لي البيت المعمور فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه» . ومن الأدب مع الله، ألانسمي أي ملك باسم، لم يصل إلينا من طريق ثابت معصوم، كما يسمي بعض الناس ملك الموت بعزرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 3- أما الإيمان بالكتب ، فيستلزم أن نؤمن أنها كلها من عند الله- عز وجل-، إيمانا مجملا، وأن نؤمن بالقرآن إيمانا مفصلا، بكل ما جاء فيه، وأن كل أخباره صدق، وكل أوامره عدل، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ- رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] ، وأنه أفضل الكتب، وهو المهيمن عليها، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] ، وأنه محفوظ بحفظ الله- عز وجل- له، لم يدخله زيادة، ولم يطرأ عليه نقصان، إلى يوم القيامة، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . 4- أما الإيمان بالرسل فنؤمن بأنهم خير العباد وأتقاهم، وأحبهم إلى الله، وأن لهم من التبجيل ما ليس لأحد غيرهم، وكل من عداهم فهو دونهم، وأنهم جميعا أدوا الأمانة، وبلغوا الرسالة على الوجه الأكمل، نؤمن بهم جميعا على وجه الإجمال، ونؤمن بالمذكورين في القرآن على وجه التفصيل، ونؤمن أن الله- عز وجل- فاوت بين منازلهم، قال- تعالى- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: 253] ، وأن أفضلهم هم أولو العزم من الرسل، وقد ذكروا في موضعين من القرآن الكريم، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب: 7] ، وقال- عز من قائل- في الموضع الآخر: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى: 13] . ونعتقد أن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم، هو أفضلهم وإمامهم، ثم يليه في المنزلة، إبراهيم ثم موسى، واختلف العلماء في أفضلية نوح وعيسى- عليهم جميعا الصلاة والسلام-، وقد ذكر ذلك فضيلة الشيخ/ محمد العثيمين- رحمه الله تعالى. 5- كما نؤمن باليوم الآخر ، الذي يبعث فيه المولى- سبحانه وتعالى- الخلائق جميعا، من قبورهم ليحاسبهم على ما قدموا، ونؤمن بنصب الصراط على ظهراني جهنم، وبإقامة الموازين القسط، ونشر الكتب، ونؤمن بالشفاعة العظمى، لنبينا صلى الله عليه وسلم ونؤمن بلوائه المعقود والكوثر، ونؤمن بأن الموت يأتي، على هيئة كبش أملح، يذبح بين الجنة والنار فيقال لأهل الجنة وأهل النار: خلود فلا موت، ونؤمن أنه لن يخلد في النار أحد من أهل القبلة، ما دام لم يأت بما يناقض الشهادتين، ونؤمن أن للقرآن شفاعة، وللأنبياء شفاعة، وللصوم شفاعة، وللمؤمنين شفاعة. 6- أما الإيمان بالقدر خيره وشره ، فنؤمن فيه بأن الله علم كل شيء أزلا، وهو علم لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، ونؤمن بتقدير الله لكل شيء، وكتابته لكل ما سيكون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لما صح في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين وفيه عن النبي «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذّكر كلّ شيء وخلق السّماوات والأرض» «1» ، كما نؤمن أن ما أخطأ الإنسان ما كان ليصيبه، وما أصابه ما كان ليخطئه، ونؤمن أن الله بكتابته وعلمه كل شيء ما ظلم أحدا، لقوله تعالى في محكم التنزيل: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] . تنبيه هام: التعرض لأي من أصول الإيمان، باستهزاء أو غمز أو لمز أو تشكيك أو طعن أو إثارة الشبهات حوله، لغرض التكذيب أو غيره، يخرج فاعلها عن دائرة الإيمان، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التوبة: 65، 66] . الفائدة الثالثة: بيان بما أوتيه النبيّ من جوامع الكلم، وذلك في قوله عن تعريف الإحسان: «أن تعبد الله كأنّك تراه» . فبدلا من أن يقول: تعبد الله بإخلاص وتذلّل وخشوع ورهبة، وأن تقوم بأداء جميع أركان العبادات، على الوجه الأكمل، وأن تنتقي من الأعمال أحسنها، وأن تشعر في نفسك عند العبادة بالتقصير، فتكون متقلبا بين الخوف والرجاء، بدلا من أن يقول ذلك وغيره كثير، قال: ( «كأنك تراه» ، فالمسلم إذا استقر في نفسه، أنه يرى الله في عبادته أتى بما ذكر، بل أتى بكل ما هو الأكمل والأحسن في كل عبادة، وهذا هو المطلوب من كل مؤمن، قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] . الفائدة الرابعة: كل عيب أو نقص في العبادة، يرجع إلى خلل في تحقيق العبد لرؤيته لله، وبقدر ما تحقق للعبد من ذلك، بقدر ما تأتي العبادة على أحسن وجه. الفائدة الخامسة: السؤال عن الساعة، هكذا مجردا، في قوله: «فأخبرني عن الساعة» . يحتمل أن يكون عن وقتها، أو عن أماراتها، أو ما يقع فيها من أهوال عظام، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن السائل يريد وقتها، وكان هذا الفهم صحيحا؛ لأن جبريل عليه السلام، لما سمع إجابة النبي بنفي علم وقت قيام الساعة، ما راجعه وقال له: ما عن وقتها سألتك، وهذا يدل على فراسة وذكاء النبي صلى الله عليه وسلم، في فهم ماهية السؤال، ولكن لما أجاب بعدم العلم، أتى جبريل عليه السلام بسؤال آخر، وهذا يدل على أن السائل يجب عليه أن يسأل   (1) البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، برقم (3192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أولا عن عظائم الأمور، أي الأهم فالمهم، فلا شك أن علم وقت الساعة أعظم فائدة من العلم بأماراتها، لأننا إذا علمنا متى الساعة كنا في غنى عن معرفة أماراتها. الفائدة السادسة: في الحديث ما يجب أن يكون عليه العالم من عدم الإجابة بغير علم، وألا يستحي أن يقول: لا أعلم، فإنها بلا شك نصف العلم، كما يقولون. الفائدة السابعة: في الحديث أدب المتعلم وحسن إجابته لمعلمه، وأن يرد العلم إلى الله، خاصة إذا أدرك أن العالم يريد أن يعلمه شيئا لا يعرفه، كل ذلك من إجابة عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم، لما قال له: «أتدري من السائل؟» ، قال: الله ورسوله أعلم. ولم يقل: هو رجل لا نعرفه جميعا، أو أن الغموض يكتنف شخصيته، فهو لا يبدو عليه أثر السفر، ومع ذلك فهو ليس من أهل المدينة. وهذا أدب جم. الفائدة الثامنة: لا يجوز للمسئول، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقول إذا سئل عن المسألة: (الله ورسوله أعلم) ؛ لأن النبي بعد وفاته، قد انقطع عن أمور الدنيا، وما يستجد بها، بل قد يكون من الكذب أن يقال: الله ورسوله أعلم، وما زلنا نسمع أهل العلم بعد الفتاوى يقولون: (الله أعلم) . الفائدة التاسعة: من أفضل أساليب التعليم، إلقاء العلم على هيئة سؤال وإجابة، ليكون أوعى للسامع من اختلاط المعلومات لو ألقيت عليه سردا، وكذلك يكون أكثر تشوقا لها، وأن يعمل عقله قبل سماع الإجابة، وأن يوازن بين ما في خاطره والإجابة الصحيحة، والشاهد لذلك أن جبريل لما جاء يعلم الأمة دينها، استخدم أسلوب السؤال والجواب، ولو كانت هناك طريقة أفضل لاتبعها جبريل عليه السلام. الفائدة العاشرة: لفظة الإسلام، تدل على أعمال الجوارح، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، أما الإيمان فيختص بأعمال القلوب، وأنهما لو اجتمعا في نص واحد اختلفا في المعنى، يصدق ذلك قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] . أما إذا ورد أحد اللفظين في النص، فيشمل عمل القلب وعمل الجوارح معا، لذلك قالوا عن لفظي الإيمان والإسلام: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. الفائدة الحادية عشرة: قد يتمثل الملك بصورة إنسان، وهي هيئة شريفة، ولا يتمثل بصورة وضيعة، لأنه لم يأت دليل صحيح على ذلك، ويكون هذا من باب تشريف الله لهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أما الشيطان فيأتي على صورة شريفة، كما ثبت في الحديث الذي رواه أبو هريرة، وفيه أن الشيطان كان يأتيه كل ليلة على صورة رجل فقير، يريد أن يأخذ من مال الصدقة، كما أنه قد يأتي على صورة وضيعة كالكلب، كما ثبت في صحيح مسلم: عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلّي فإنّه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرّحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرّحل، فإنّه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» . قلت: يا أبا ذرّ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟! قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان» «1» . 6- أمة تصلي عليها الملائكة وتستغفر لها: قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7] . الشاهد في الآية الكريمة: قوله تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. صلاة حملة العرش ومن حوله على المؤمنين نعمة عظيمة امتن الله بها على عموم هذه الأمة. أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ابن كثير: (قيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال: الملك آمين ولك بمثله» ) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظيم اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بهذه الأمة ويظهر ذلك من الأمور التالية: 1- ورود الآية بصيغة الجملة الاسمية التي تفيد الثبوت. 2- أن الملائكة الذين قيدهم الله- عز وجل- بالاستغفار للمؤمنين هم من أفضل الملائكة، فهم حملة العرش ومن حوله. 3- عدم تقييد استغفار الملائكة للمؤمنين بزمن معين أو هيئة معينة أو إتيان نوافل الأعمال، ولكن هي صلاة دائمة مستمرة، تدرك المؤمن أثناء حياته وبعد مماته، شريطة   (1) أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، برقم (510) . (2) أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب برقم (2732) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 اتباعه سبيل الله- عز وجل- وملازمته للتوبة. وأذكّر نفسي والقارئ الكريم أن هذا الاعتناء من الله- عز وجل- لهذه الأمة ما كان إلا لانتسابها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: عظيم قدر عرش الرحمن إذ جعل له حملة من الملائكة يحملونه وآخرين يحفونه. الفائدة الثالثة: إثبات أن للملائكة وظائف خلقوا من أجلها، فملائكة تحمل العرش، وملائكة سيارة، وملائكة حفظة، بالإضافة إلى من هو موكل بالنفخ وآخر بالقطر وآخر بقبض الأرواح، وأعظمهم مطلقا الموكل بالوحي وهو جبريل صلى الله عليه وسلم. ويتفرع عليه عظيم قدرة الله- سبحانه وتعالى- وبديع تصريفه لأمور ملكوته الواسع، كما يتفرع عليه، أن من حسن تصرف الوالي، أو من ينوب عنه، أن يقسم المهام والوظائف بين رعيته حتى يسهل مراقبتهم والتأكد من إتقانهم لعملهم فضلا عن إنجازها، ألم تسمع لقوله تعالى ممتنا على رسوله سليمان عليه السلام: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص: 37، 38] . الفائدة الرابعة: فضل التسبيح للرب- تبارك وتعالى- والإيمان به، ودليله أن الله لما ذكر حملة العرش في سياق مدحهم وإظهار علو شأنهم ذكر لهم صفتين هما: التسبيح والإيمان به، ولو كان عندهم من الصفات ما هو أعظم من ذلك لنصّت عليه الآية من باب أولى. كما يؤخذ من الآية أن الإيمان بالله والتسبيح بحمده صفتان متلازمتان لا ينفكان عن العبد. ويتفرع عليه حث الأمة على الإيمان الصادق بالله- عز وجل- وكثرة التسبيح له سبحانه وتعالى. الفائدة الخامسة: وجوب حب الملائكة الكرام البررة والامتنان لهم، ذكر ابن كثير عن مطرف بن عبد الله: (وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ووجدنا أغشّ عباد الله لعباد الله الشيطان) «1» . الفائدة السادسة: استحباب التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وذكر محاسنه العظيمة وآلائه الجسمية بين يدي الدعاء، لقول الملائكة قبل دعائها: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وأن يكون التوسل مناسبا للدعاء.   (1) انظر «تفسير القرآن العظيم» ، (4/ 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الفائدة السابعة: إثبات أن صفتي الرحمة والعلم هما أوسع الصفات وأعظمها لقول الملائكة: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، ولم يرد هذا الوصف لغيرهما من الصفات. الفائدة الثامنة: جمعت الآية الكريمة بين الترغيب والترهيب، فالترغيب بمقتضى صفة الرحمة، والترهيب بمقتضى صفة العلم، فحقيق بالعبد إذا علم أن الله مطلع على كل أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته أن يخشى الله ويتقيه، وحقيق به أيضا إذا علم أن رحمة الله وسعت كل شيء ألايقنط من رحمة الله تعالى مهما بلغت ذنوبه وآثامه. قال الإمام ابن كثير: (أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم) «1» . وأضيف فأقول: إن علم الله الواسع لا يحيط بأعمال العباد وأفعالهم فحسب، بل هو محيط بكل ما يطلق عليه لفظ شيء في هذا الكون. الفائدة التاسعة: من صفات المؤمن الملازمة له والتي لا تنفك عنه صفة التوبة والاتباع، ودليله أن الآية ذكرت أولا أن الملائكة تستغفر للذين آمنوا، ثم لما ذكرت صفات المؤمنين المستغفر لهم قالت: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وأقول: أخشى ألا ينال أصحاب البدع في الدين بركة هذا الدعاء بشؤم ابتداعهم وانحرافهم عن سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الفائدة العاشرة: مشروعية أن يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب، وأن الله- سبحانه وتعالى- يقبل ذلك لدعاء الملائكة للمؤمنين. الفائدة الحادية عشرة: من أساليب البلاغة التي يتميز بها القرآن الكريم والتي تزيده حسنا على حسن، الإجمال ثم التفصيل، فأجملت الآية صيغة الدعاء وصفة من يشملهم الدعاء، ثم فصّلت الأمرين، فنصت على ما يقال في الدعاء وصفة المدعو لهم. قال تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. الفائدة الثانية عشرة: وجوب أن يعلم كل مؤمن أن الفوز بالجنة والوقاية من عذاب الجحيم، إنما هو محض فضل من الله- تبارك وتعالى-، فلو كان العبد يستحق ذلك بعمله، ما دعت الملائكة للتائبين والمتبعين بالنجاة من عذاب الجحيم، ولاستحقت لهم الجنة بعملهم دون الحاجة إلى فضل الله ورحمته. ويتفرع عليه أن العبد يجب عليه أن يلازم الدعاء بالفوز بالجنة والنجاة من النار، بناء على علمه أنه لا يستحق ذلك إلا بفضل الله،   (1) تفسير ابن كثير (4/ 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وأن عمله وحده مهما عظم لن يدخله الجنة. كما يتفرع عليه أن عذاب الجحيم من الأمور العظيمة التي يجب أن نستعيذ منها، حيث إن الملائكة لما استغفرت للمؤمنين بكلمات معدودة ضمت للدعاء الوقاية من عذاب الجحيم. الفائدة الثالثة عشرة: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، حيث اقتصر دعاء الملائكة على الاستغفار دون طلب الثواب، وعلى الوقاية من العذاب دون طلب الجنة. وقد يكون من حكمة الملائكة الدعاء بالوقاية من الجحيم، لأن العبد إذا ضمن عدم دخول النار فسيدخل الجنة، لأنه ليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، ولو أن الملائكة دعت بدخول المؤمنين الجنة فلا يغني ذلك عن دخول البعض منهم النار أولا ثم الجنة، كما نتعلم من دعاء الملائكة للمؤمنين أن الله عز وجل يجب الإجمال في الدعاء لا التفصيل، وهذا مثال آخر لصلاة الملائكة على المسلمين. عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة تصلّي على أحدكم ما دام في مصلّاة الّذي صلّى فيه، ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهمّ ارحمه» . رواه البخاري «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه» . شروط صلاة الملائكة: الشرط الأول: صلاة الفريضة في المسجد وأعتقد أن هذا هو مذهب الإمام البخاري حيث بوب بقوله: (باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة) . الشرط الثاني: البقاء في المسجد بنية انتظار صلاة أخرى، لما ورد في إحدى روايات البخاري: «ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة» «2» . قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (ويؤخذ من قوله: في مصلاه الذي صلى فيه، أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى، وبتقييد الصلاة الأولى بأنها مجزئة) «3» .   (1) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الحدث في المسجد، برقم (445) . (2) البخاري، كتاب: الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، برقم (659) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فرض الجمعة، برقم (876) ، ومسلم، كتاب: الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (855) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الشرط الثالث: عدم الإحداث، وهو حدث الفرج، أي: خروج ريح، وفي الفتح: (ويؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب أولى) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم فضل هذه الأمة؛ إذ قيد الله- سبحانه وتعالى- لها ملائكة تصلي عليها في أحوال وأوقات محددة، قال الإمام ابن حجر: (المراد بالملائكة الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك) «1» . وأظنه أعم من ذلك لعدم ورود تحديد في الحديث لنوع هؤلاء الملائكة. الفائدة الثانية: الصلاة من الملائكة هي الدعاء للمسلمين بالمغفرة والرحمة، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الملائكة تصلي، ثم ذكر آخر الحديث نص ما تقول: «اللهم اغفر له اللهم ارحمه» . ويؤخذ منه أيضا أن هناك فرقا بين المغفرة والرحمة، لأن الملائكة تدعو بالأمرين. الفائدة الثالثة: فضل التزام المصلّي للمصلّى الذي صلى فيه، وفضل محافظة المصلي على وضوئه، وكذا انتظار الصلاة بعد الصلاة في نفس المصلى. الفائدة الرابعة: الحدث في المسجد، هيئة مكروهة لا تليق بحال المصلّي وتتأذى منها الملائكة، ودليله أن صلاة الملائكة على المصلي تنقطع بها، ولما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل من هذه البقلة الثّوم، وقال مرّة: من أكل البصل والثّوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم» «2» ولا شك أن ابن آدم يتأذى من الحدث ورائحته. قال ابن حجر: (يدل الحديث على أن الحدث يبطل صلاة الملائكة ولو استمر جالسا، وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة لما تقدم من أن لها كفارة ولم يذكر لهذا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة) «3» . 7- اختصاصها بيوم الجمعة والذي فيه ساعة إجابة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثمّ هذا يومهم الّذي فرض عليهم فاختلفوا فيه   (1) فتح الباري (1/ 538) . (2) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (852) . (3) فتح الباري (1/ 538- 539) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فهدانا الله؛ فالنّاس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنّصارى بعد غد» . متفق عليه «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله» . هذه مزية أخرى عظيمة امتن الله بها على هذه الأمة الفاضلة المفضلة (أي الفاضلة في نفسها المفضلة على غيرها) ، وهو اختصاصها بيوم الجمعة الذي تكثر فيه الخيرات والتي من أعظمها: 1- وجود ساعة يستجاب فيها دعاء المسلم، لما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «إنّ في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلّي يسأل الله خيرا إلّا أعطاه إيّاه» وقال بيده: يقلّلها يزهّدها «2» . 2- مغفرة الذنوب والآثام ما بين الجمعة والجمعة، لمن حضر صلاة الجمعة لما روى البخاري عن سلمان الفارسيّ قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهّر ما استطاع من طهر ويدّهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته ثمّ يخرج، فلا يفرّق بين اثنين، ثمّ يصلّي ما كتب له، ثمّ ينصت إذا تكلّم الإمام: إلّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الآخرى» «3» . وعند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيّام، ومن مسّ الحصى فقد لغا» «4» ، وقد وضّح الحديثان شروط تكفير السيئات وهي: أ- الغسل مع استخدام ما يطهر البدن. ب- التطيب. ج- حضور صلاة الجمعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم راح» ، والإنصات إلى خطبة الجمعة، لقوله: «ثم إذا خرج الإمام أنصت» . د- عدم التفريق بين المصلين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فلم يفرق بين اثنين» ، وهذا يشمل التفريق للمرور أو الجلوس، إلا إذا كان هناك فرجة يريد أن يسدها. هـ- صلاة ما تيسر من النوافل، وأقلّها ركعتان تحية المسجد. 3- ترتيب الأجر العظيم لمن ذهب إلى الجمعة في الساعة الأولى؛ لما رواه البخاري عن   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فرض الجمعة، برقم (876) ، ومسلم، كتاب: الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (855) . (2) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (852) . (3) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الدهن للجمعة، برقم (883) . (4) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرّب بدنة، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجة، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر» «1» . وهذا بلا شك ثواب عظيم على عمل قليل، متيسر لكل مؤمن أن يناله كل جمعة، فلله الحمد والمنة. بعض فوائد حديث الباب: الفائدة الأولى: عناية الله- عز وجل- بهذه الأمة، يتبين من: 1- أن الله- عز وجل- جعلها آخر الأمم زمانا في الدنيا، وأعظم الأمم منزلة في الآخرة، ولا تخفى الفضائل المتنوعة لكون هذه الأمة آخر الأمم زمانا في الدنيا، فهي شاهدة على جميع الأمم، وشريعتها وكتابها لا ينسخان إلى يوم القيامة، وكل الأمم مأمورة أن تدخل في دينها، ولا تأتي أمة تستعلي عليها، وغير ذلك كثير قال ابن حجر رحمه الله: (والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضى بينهم وأول من يدخل الجنة) «2» . 2- هدايتها ليوم الجمعة دون غيرها من الأمم لقوله صلى الله عليه وسلم: «فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فغدا لليهود وبعد غد للنصارى» . وقال صاحب الفتح: (وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة زادها الله تعالى) «3» . 3- تمييز هذه الأمة عن الأمم السابقة، وذلك بتمسكها بما افترضه الله عليها، واستحالة اجتماعها على الباطل، ودليله أن الله افترض على اليهود يوم الجمعة فضلوا عنه وبدلوه بيوم السبت، وافترضه على النصارى فضلوا عنه وبدلوه بيوم الأحد، فاجتمعت الأمتان على ضلالة واحدة، وهي تبديل يوم الجمعة، وتعظيمهم يوما لم يؤمروا بتعظيمه مع حرمانهم من بركاته وفضائله. الفائدة الثانية: عظيم فضل يوم الجمعة، وأنه اليوم الفاضل على سائر الأيام منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، وأدلة ذلك:   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة، برقم (881) . (2) انظر «فتح الباري» ، (2/ 354) . (3) انظر المصدر السابق، (2/ 356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 1- أن الله خلق فيه آدم عليه السلام، فعند مسلم، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنّة، وفيه أخرج منها» «1» . 2- هو اليوم الذي فرضه الله- سبحانه وتعالى- على جميع الأمم، لما ورد عند البخاري: «ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم» . 3- هو أول أيام الأسبوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد» . هذا بالإضافة إلى ما ذكرته آنفا من بركة هذا اليوم العظيم. تنبيه: يعتقد بعض الناس أن يوم عرفة لو صادف يوم جمعة لعدلت هذه الحجة سبعين حجة، وهذا الاعتقاد غير صحيح، ويجب تنبيه الناس على خطأ هذا المعتقد، ولكن يمكن أن يقال: إن الدعاء في مثل هذا اليوم أرجى للقبول لمصادفته يوم عرفة ولوجود ساعة إجابة يوم الجمعة. الفائدة الثالثة: الهداية من الله وحده لقوله صلى الله عليه وسلم: «فهدانا الله» ، ويتفرع عليه وجوب طلب الهداية من الله، وأن المسلم يجب أن يكون دائما على حذر؛ لأن الأمر ليس بيده، وإنما هو بيد الله وحده. 8- لها ساعة إجابة كل ليلة: عن الأغرّ أبي مسلم يرويه عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يمهل حتّى إذا ذهب ثلث اللّيل الأوّل نزل إلى السّماء الدّنيا فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتّى ينفجر الفجر» . رواه مسلم «2» . وعند البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربّنا- تبارك وتعالى- كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» «3» . وتلك منة أخرى امتن بها الله- تبارك وتعالى- على هذه الأمة، بأن جعل في كل ليلة وقتا يتفضل به على عباده المؤمنين، فيغفر للمستغفر، ويعطي السائل، ويجيب الداعي،   (1) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة، برقم (854) . (2) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، برقم (758) . (3) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وهي تختلف عن ساعة الإجابة التي في يوم الجمعة، حيث إنها تتكرر كل ليلة، وليست مرة واحدة في الأسبوع، بالإضافة إلى أن وقتها معلوم بالتحديد وهو الثلث الأخير من الليل، كما يدل الحديث على أن ساعة الإجابة في الليل أطول من ساعة يوم الجمعة حيث جعلها الله من بداية ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: رحمة الله ومنته العظيمة على هذه الأمة ويتبين ذلك من: 1- جعل- سبحانه وتعالى- وقتا معلوما يستجيب فيه لكل من دعاه واستغفره. 2- هو- سبحانه وتعالى- الذي ينادي العباد ويدعوهم إليه، مع أنه هو الغني عنهم من كل وجه، وهم الفقراء إليه في كل أمر، وهل سمعنا ملكا من ملوك الأرض، مهما بلغت تقواه وغناه وفضله يفتح أبوابه كل يوم وينادي رعاياه متحبّبا إليهم ومرغّبا لهم في الإقبال عليه. 3- من أعظم مظاهر رحمته- سبحانه وتعالى- أن جعل النداء لعموم عباده، العاصي منهم والطائع، المدبر منهم والمقبل، وكان المفترض- على حسب عقولنا ومداركنا- أن ينادي في هذه الساعة الفاضلة على خيرة العباد دون سواهم ولكن الرب الكريم الودود الغفور أبى أن يمنعنا فضل ما عنده بسوء ما عندنا، فقضى أن تعم رحمته وبركاته الجميع، أرأيتم ملكا من ملوك الدنيا يدعو من أساء إليه ويعلمه بعفوه عنه إذا هو رجع إليه وانتهى عما سلف؟! الفائدة الثانية: كرمه وجوده وغناه- سبحانه وتعالى- إذ وعد كل من سأله أن يعطيه ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه وفيه: «يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي: لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك ممّا عندي إلّا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» «1» . الفائدة الثالثة: سوء أدب من يقضي مثل هذا الوقت الفضيل في معصية الله- عز وجل-، فكيف يتجرأ عبد أن يعصي الله في وقت ينادي فيه الله- سبحانه وتعالى- على العباد عارضا عليهم التوبة والاستغفار وإجابة الدعاء، كما يؤخذ من الحديث أيضا أن   (1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، برقم (2577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الذي يعتاد أن ينام في مثل هذا الوقت كل ليلة مغبون. الفائدة الرابعة: حبّ الله- سبحانه وتعالى- أن يسأله العبد ويتضرع إليه وأن يظهر فقره وحاجته بين يدي مولاه وخالقه، لقوله تعالى: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟) ، ولولا حب الله- سبحانه وتعالى- أن ينشغل العباد بالسؤال والدعاء، ما حثهم على ذلك في أفضل الساعات. الفائدة الخامسة: أن من المقاصد العظيمة لهذا الدين الحنيف، تربية أفراد الأمة على ترك المألوف وكذا عدم الإكثار من لذات النفس وشهواتها المباحة، ودليله من الحديث أن الفضل العظيم الذي بشّر به الحديث الشريف لن يناله إلا من ترك فراشه في أجمل أوقات الليل وهو الثلث الأخير منه، خاصة في أوقات البرد القارص. وفي الحديث أيضا أن العبد إذا أراد أن يرتقي الدرجات لا يجب عليه فقط أن يترك المحرمات والمكروهات ولكن يجب عليه أن يترك بعض حظوظ النفس، وأدلة ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. الفائدة السادسة: بعض الفوائد التي نصّ عليها الإمام ابن حجر رحمه الله حيث قال: (وفي الحديث من الفوائد تفضيل صلاة آخر الليل على أوله وتفضيل تأخير الوتر، لكن ذلك في حق من طمع أن ينتبه وأن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار؛ ويشهد له قوله: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ، وأن الدعاء في ذلك الوقت مجاب، ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو الاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله) «1» . 9- التخفيف الشرعي ورفع الأغلال التي كانت على الأمم السابقة: قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] . شاهد على التخفيف في العبادات: عن عائشة رضي الله عنها زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره   (1) انظر «فتح الباري» ، (3/ 32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 حتّى إذا كنّا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام النّاس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى النّاس إلى أبي بكر الصّدّيق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالنّاس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والنّاس وليسوا على ماء وليس معهم ماء! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التّحرّك إلّا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التّيمّم فتيمّموا فقال أسيد بن حضير: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الّذي كنت عليه فإذا العقد تحته) «1» . الشاهد في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه عندما أرادوا الصلاة، وقد افتقدوا الماء، لحبس عائشة رضي الله عنها الجيش بفقدها عقدها، لم يحمّلهم الله ما لا يطيقون، فلم يأمرهم أن يبحثوا عن الماء بجهد الأنفس، ولم يأمرهم أن يتوضئوا بالماء المخصص للشرب، بل أنزل عليهم آية التيمم. ولا شك أن الله قد خفف عن الأمة التكليف بمشروعية التيمم، فلا شك أن التيمم أيسر وأخف على المكلف من الوضوء، من حيث عدد الأعضاء التي يجب غسلها، وعدد مرات الغسل، كما أن هيئة التيمم أخف من حيث عدم الحاجة إلى تشمير الذراعين وخلع الخف، واستخدام الماء الذي قد يكون باردا أو ساخنا جدّا. وقد تكون الحكمة في التخفيف، أن فقد الماء- غالبا- ليس من كسب المكلف، فلا وجه لزيادة التكليف عليه، كما أن فقد الماء فيه عسر ومشقة لعدم استغناء الناس عنه، فعوض المشرع هذا العسر بتيسير التيمم. وفي النهاية فإننا ننظر إلى الأمر على أنه منحة من الله- سبحانه وتعالى- وأن الله قد أراد بهذا التخفيف رحمة العباد، وإظهار فضل هذه الأمة، وإكرام نبيها غاية الإكرام، بالتوسعة على أمته والامتنان عليها من كل وجه. وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: تعظيم الصحابة لمقام النبوة، فلم يجمعوا بين النبي صلى الله عليه وسلم والناس في لفظ   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، برقم (4607) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 واحد، فذكروه أولا ثم عطفوا بالناس، حتى ولو كانوا مشتركين في الأمر المخبر عنه، ففي الحديث: (فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه) ، وفيه: (ألا ترى ما فعلت عائشة؟ أقامت برسول الله وبالناس) ، وكذا قول أبي بكر معاتبا عائشة: (حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء) ، وأحسب أن ذلك أثر التربية الربانية للصحابة، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . الفائدة الثانية: مناقب عائشة رضي الله عنها: 1- حبس النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس لالتماس عقدها، مع علم النبي أنه ليس ثمة ماء، وهذا فيه تطييب لخاطرها، وإزالة الحزن عن نفسها بفقد عقدها، وقد يكون أيضا من باب المحافظة على المال، وقد بينت ذلك في التعليق على حديث الإفك. 2- نوم النبي صلى الله عليه وسلم واضعا رأسه الشريفة على فخذها، وهي منقبة عظيمة لمن تدبرها؛ لأنه يشعر بعظيم حبه لها. 3- إيثارها راحة النبي وعدم إزعاجه في نومه، على التحرك للنجاة من إيلام أبيها، فقدمت راحة الرسول على ألم جسدها، قالت: (فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان الرسول على فخذي) . 4- بركة عائشة رضي الله عنها، والبركة هي كثرة الخير وعموم نفعه، حيث إنها كانت السبب المباشر في نزول آية التيمم، بعد أن حبست الرسول والناس معه وليسوا على ماء، ولك أن تتصور مدى أهمية هذه البركة العظيمة، التي انتفع بها عموم المسلمين إلى يوم القيامة، وقد لمح الصحابي الجليل، أسيد بن حضير، عظيم هذه البركة، بمجرد نزول آية التيمم فقال: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر» ، وهذا تصريح منه بفضل أبي بكر وابنته وأهل بيته على الأمة. وقد ورد عند البخاري: «فو الله ما نزل بك من أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيرا» «1» . وهذا غاية إكرام الله لها. الفائدة الثالثة: لا يجب على المسلم، إذا كان في سفر وليس معه ماء، أن يتعجل السفر مخافة أن تتدركه الصلاة، وله أن يتوقف في السفر لكل أمر مباح، ولو للتنزه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس الناس في عقد، ولم تكن آية التيمم قد نزلت بعد، فالتيمم مشروع لكل من   (1) البخاري، كتاب: التيمم، باب: إذا لم يجد ماء ولا ترابا، برقم (336) ، من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فقد الماء، ولو لم يكن لضرورة. الفائدة الرابعة: جواز أن يذكر الرجل أخاه في غيبته، بفعل يعتقد أنه أساء به للناس، ولا يعتبر ذلك غيبة ما دام ملتزما في كلامه حدود الله وأن يكون لا يريد به طعنا في الشخص وإنما يريد به الشكاية، ونلحظ أيضا أن هذا الكلام قيل لأبيها وليس لأحد غريب عنها، قالت: (فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة) . الفائدة الخامسة: جواز أن يؤدب الرجل ابنته ولو كانت متزوجة، بل لو كان زوجها من أهل الفضل، ولا يعدّ ذلك تعديا على حق الزوج، وله أن يستخدم في التأديب، ما يؤلم قولا وفعلا، قالت: (فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي) . الفائدة السادسة: قضت حكمة الله، - سبحانه وتعالى-، أن يربط نزول آيات التشريع، بأسباب ومناسبات، وهذا هو الغالب، وحديث الباب حجة في ذلك، حيث جعل الله ضياع العقد سببا لتأخر الركب مع عدم وجود الماء، لتنزل آية التيمم. الفائدة السابعة: الحث على رد الخير لأهله، والاعتراف لأهل المعروف بصنيعهم الجميل، وجواز أن ينسب الخير لمن باشره أو تحقق على يديه، لقول أسيد بن حضير: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر) ، وفيه نسبة الفعل إلى من كان سببا فيه، لقولهم في حق عائشة: (ألا ترى ما صنعت عائشة) ، ويتضح من تلك الفائدة، تكلف من لا ينسب أي فعل لأحد من الناس، إلا يتعقبه بقوله: (بعد الله) ، أو ما شابه ذلك، فيقول: (أرجو من الله ثم منك) ، حتى إيصال النفع أو دفع الضر عن أحد، يمكن أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، إذا كان سببا فيه، دون أن يعلق الأمر بالله، لما رواه البخاري: عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمّه أبو طالب فقال: «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» «1» ، ولم يقل: تنفعه شفاعتي بعد الله. الفائدة الثامنة: من الحكمة استخدام كل من اللين والشدة، حسب متطلب الحال، وليس من الحكمة أن يكون الرجل لينا دوما، أو شديدا في كل حال، فلكل مقام مقال، فها هو أبو بكر الصديق، الرجل الأسيف، يعنف الزوجة الحبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وبيده في حال نوم النبي صلى الله عليه وسلم على فخذها، وقد بينت ذلك في أكثر من موضع، لحاجة الناس إلى هذا السلوك القويم.   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قصة أبي طالب، برقم (3885) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 شاهد على التخفيف في المخالفات: عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلّموا أو يعملوا به» . رواه مسلم «1» . وهذا شاهد آخر على إرادة الله- عز وجل- التخفيف على هذه الأمة، ولكن في مجال المخالفات الشرعية حيث لم يؤاخذها على حديث النفس والوسوسة. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه- تبارك وتعالى-، ودليله من الحديث قوله: «إن الله تجاوز لي» ، فكان هذا التجاوز إكراما له صلى الله عليه وسلم في أمته، ويتفرع عليه علمنا بكبير فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، إذ ببركته حدث هذا التجاوز عن الوسوسة. الفائدة الثانية: رحمة الله- تبارك وتعالى- بهذه الأمة، إذ اختصّها عن سائر الأمم بالتجاوز عن الوسوسة وحديث النفس، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي» ، ولو حدث ذلك لكل الأمم السابقة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل امتنان الله عليه. كما أن وجه الرحمة في هذا التجاوز أن حديث النفس والوسوسة من الأمور التي يصعب على الإنسان- إلا من رحم ربي- أن ينفك عنها، وهي ملازمه للإنسان في كل وقت، والمؤاخذة عليها تسبب قطعا الحرج الذي وعد الله أن يرفعه عن هذه الأمة بدليل قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] . الفائدة الثالثة: ما هي الوسوسة التي تجاوز الله عنها لهذه الأمة؟ قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (والمراد نفي الحرج عما يقع في النفس حتى يقع العمل بالجوارح أو القول باللسان على وفق ذلك، والمراد بالوسوسة تردد الشيء في النفس من غير أن يطمئن إليه ويستقر عنده، ولهذا فرق العلماء بين الهم والعزم) «2» . وقال الإمام النووي رحمه الله ما نصه: (فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم) «3» ، كما قال رحمه الله: (وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19] ، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] ،   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، برقم (127) . (2) انظر «فتح الباري» ، (5/ 161) . (3) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة المكروه بهم وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها) . انتهى «1» . والخلاصة أن هناك ثلاث حالات: الحالة الأولى: رجل خطر على باله المعصية، فدفعها احتسابا للأجر وخوفا من الله- عز وجل-، فلم تستقر في قلبه، فهذا له أجر المجاهدة وليس عليه شيء قطعا، وإن دفعها دون احتساب ولا خوف وإنما لحاجة في نفسه فليس له أجر على أحد قولي العلماء، وليس عليه إثم. الحالة الثانية: رجل راودته المعصية وعزم على فعلها، ولكن حال دونها ودونه شيء خارج عن إرادته، فعليه إثم قطعا، ولكن إثم عزم النية على المعصية، وليس إثم المعصية ذاتها؛ لكونه لم يعملها. ذكر معناه الإمام النووي في شرح الحديث. الحالة الثالثة: رجل خطرت على باله المعصية وعزم على فعلها وباشرها فعلا فعليه إثمان؛ إثم العزم وإثم المعصية نفسها، ذكره النووي أيضا. الفائدة الرابعة: إذا كان الشرع الحنيف لم يوجّه اللوم والعتاب إلى من وسوست له نفسه بالسيئة ولم يعزم على فعلها، فهل يستوي هو ومن لم يهم بالمعصية أصلا ولم توسوس له نفسه؟ الإجابة: إنهما لا يستويان مثلا. ودليله أن الأصل لحوق الإثم على من همّ بالمعصية أو وسوست له بها نفسه، ولكن رفع هذا الإثم عن هذه الأمة إكراما لرسولها صلى الله عليه وسلم، فإن كان التجاوز عن الهم قد رفع إلا أن ذمه موجود في الشرع، حيث إن التجاوز لا يكون إلا عن شيء مذموم، ومن جهة أخرى فإن القلب الذي انشغل بالطاعات والذكر وكذا المباحات طول الوقت ليس كالقلب الذي غفل بعض الوقت عن الطاعات بالانشغال بالوسوسة وحديث النفس بالمعصية. 10- ترتيب الأجور العظيمة على الأعمال القليلة: عن أبي هريرة: أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدّثور بالدّرجات العلى والنّعيم المقيم!!. فقال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون ولا نتصدّق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلّا من صنع مثل ما صنعتم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دبر   (1) انظر المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين مرّة» . قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤته من يشاء» «1» . [رواه مسلم] . الشاهد في الحديث: أن الصادق المصدوق- عليه الصلاة والسلام-، أبلغ الفقراء أن الذي يسبح ويحمد ويكبر بعد كل صلاة ثلاثا وثلاثين إلا التكبير أربعا وثلاثين، يدرك بها قائلها فضل من سبقه بأعمال عظيمة، كالحج والعمرة والجهاد والصدقة، وهو ما يسمى بختم الصلاة، والذي لا يستغرق عشر دقائق، إذا كان بروية وتفكر وبقلب حاضر، فهل أدركنا عظيم فضل الله على هذه الأمة، هل هناك مشقة على أي أحد أن يلزم هذا الذكر السهل الميسر، لينال أجر الحاج المعتمر المجاهد في سبيل الله، والله، إن هذا لهو الفضل المبين على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والعجيب أننا نرى بعض الناس لا يحافظون على هذا الذكر، بالرغم من ثوابه، فينتهون من الصلاة، وكأنهم كانوا في سجن طويل، يبادرون بالخروج من المسجد، كأن الخارج أولا، هو المقدم عند الله، فيضيعون على أنفسهم ما يثقّل موازينهم ويرفع درجاتهم، ويفوّتون عليهم إدراك من سبقهم من أهل العزائم والأموال الكثيرة. في الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: تطبيق شرع الله- عز وجل- في أمة من الأمم، لا يمنع أن يكون فيها فقراء، فالعهد النبوي رغم أنه خير القرون، فما زال فيه فقراء وأغنياء، ولم يؤمر الأغنياء أن يوزعوا جميع أموالهم بينهم وبين الفقراء، حتى يستوون في المعيشة، وهذه سنة الله في الكون أن يبتلي عبدا بالفقر، ليرى هل يصبر أم يجزع؟ هل يرضى بقضاء الله وقدره؟ أم يقول: لم جعلني الله فقيرا وغيري غنيا، ما حكمته في ذلك؟ أما كان الله يستطيع أن يغني الجميع؟ هل سيتمنى أن تزول نعمة أخيه الغني إن لم ينتفع بها؟!، مصداق ذلك قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان: 20] ، فمن صبر على البلاء، وسلم بالقضاء، فله الأجر الكامل، والله إنه أجر لا يوازي مصيبته، بل يفوقه كثيرا، ألم تسمع لقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] .   (1) أخرجه مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (595) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ولا يحسب الأغنياء أنهم قد سلموا من الامتحان والاختبار، كيف ذلك؟ والله يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ، ومن أعظم الخير وفرة المال، الذي يسعد صاحبه، في الدنيا والآخرة، فالغنيّ مبتلى في هذا المال، أيخرج زكاته أم يبخل بها؟ ألم يعلم أن هذا القدر المفروض في ماله ليس من حقه، بل هو حق للفقير، قدّره الله وشرعه، كيف يستحل العبد مالا ليس له، ويعيب على السارق الذي يسرق البيضة، ألم يعلم أن الله هو الذي استقرضه هذا المال؟ ويقع أولا في يديه الكريمتين قبل أن يقع في يد الفقير؟ ألم يعلم أن الله تعطيه بكل جزء سبعمائة جزء ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء؟ ألم يعلم أن الذي أعطاه قادر على أن يسلبه ما أعطاه؟ ألم يعلم الغني ماذا فعل الله بقارون، الذي أوتي من المال، ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، أين هو الآن؟ خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، لم يكن مطلوبا منه إلا أن يشكر مسدي النعمة ويخرج زكاتها، هل تراه الآن يصبر على ما هو فيه من العذاب، مسليا ومصبرا نفسه بتنعمه في الدنيا؟ كلا والله، نسي ما كان من نعمة، مع أول غمسة في العذاب، والغنيّ لم يبتل فقط بإخراج الزكاة، بل ابتلي بأكثر من ذلك، ابتلي بمرض الكبر والعجب، وتعلّق أنظار الفقراء به، لحاجتهم له، وترفّع نظره عنهم لغناه بما عنده، ابتلاه الله بالخادم في المنزل، والسائق في السيارة، والفقير عند باب المسجد، والمسكين على قارعة الطريق، هل عطف عليهم؟ هل تواضع لهم؟ هل اهتم بهمومهم، هل قضى لهم حوائجهم، كل ذلك فتنة؟ يسأل عنها الغنيّ يوم القيام لذلك فالفقير والغني في الابتلاء سواء. وأعود فأقول: مازالت الأمة فيها الفقير والغني، والرسول قد أوصى معاذا عندما ذهب إلى اليمن فقال له في حديث البخاري: «فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة المظلوم، فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب» «1» . أي لا يأخذ من أموالهم إلا حق الفقير وهو الزكاة، فالإسلام لا يعرف الشيوعية ولا الاشتراكية ولا التأميم ولا مصادرة الأموال، بل إن تعظيم الشرع لحرمة المال قد وصل إلى أن قرن الله- سبحانه وتعالى- بين القتل وأكل أموال الناس بالباطل، كأنهما في الإثم سواء، ومعلوم من الدين حرمة القتل وشناعة عقوبته. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا   (1) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء، برقم (1496) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء: 29] . فهل نتعلم هذا الدرس العظيم، ونعلم أن الغنى والفقر من الله لا محالة اختبارا وامتحانا، وأن الغنى الحقيقي يوم القيامة، وأن الفقر الحقيقي يوم تقوم الساعة، قال تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الواقعة: 1- 3] ، فالخفض والرفع الحقيقي في الآخرة، وليس في الدنيا، فالسعيد فيها من رفع، والشقيّ فيها من خفض. الفائدة الثانية: وهي منقبة عظيمة لفقراء الصحابة، فللفقراء في كل بلد مطالب وهموم بل ولهم آمال، ومن آمالهم زيادة قدر الصدقات الممنوحة لهم، لتخفف عنهم عوز الحاجة، وتضمن لهم المعيشة الهنية والعيشة السوية، وقد يذهبون إلى الحاكم، يشتكون إليه ما فيه الأغنياء من ترف ورغد، بل قد يثور الفقراء على الأغنياء، كما حدث قبل الثورة البلشفية في روسيا، فهل حدث هذا من فقراء العصر النبوي؟ لا، إنهم لم ينظروا إلى الأغنياء، يريدون ما عندهم، ما فكروا إلا في أمر واحد، وهو أن الأغنياء لهم فضائل أموال يتصدقون بها، ويحجون بها، ويجهزون بها المجاهدين، وليس عندهم- أي الفقراء- ما ينفقونه في سبيل الله، فتكون للأغنياء أجور عظيمة، والفقراء محرومون منها، فكيف المخرج وما السبيل؟ يريدون فضل الله في الآخرة، وانظر إلى قولهم في آخر الحديث: (سمع إخواننا أهل الأموال) وهم صادقون في قولهم: إن الأغنياء إخوان لهم. الفائدة الثالثة: في الحديث مناقب عظيمة لأهل الأموال من الصحابة رضي الله عنهم منها: 1- بيان مدى حرصهم على فضائل الأعمال، كالصدقة والعتق، وكذا الحج والعمرة والجهاد، كما ثبت في رواية عند مسلم، مع همتهم العالية في بقية العبادات، كالصوم والصلاة. 2- أنهم لم يستكثروا ما هم فيه من الخير الحاصل لهم، من الصدقة والحج والجهاد، بل سارعوا إلى مشاركة الفقراء في ذكر ختم الصلاة، فلم يقولوا: هذه عبادة الفقراء حتى يدركوا ما نحن فيه من فضل، ولم يقولوا: كفى ما نحن فيه من خير؟ بل سارعوا إلى الزيادة، وحرصوا على الريادة، فانظر كيف ربّى النبيّ الأغنياء والفقراء، على حد سواء، فلا حسد ولا غل عند الفقراء، ولا تكبر ولا ترفع عند الأغنياء. الفائدة الرابعة: التوفيق للطاعات والقربات، محض فضل من الله عز وجل، حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قال النبي: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» ، فعلى المسلم ألا يرى لنفسه فضلا في أداء الطاعات، ويجب عليه أن يقرّ ويعترف أنها من توفيق الله- سبحانه وتعالى-، يتفرع على ذلك وجوب شكرها، ولزوم سؤال الله أن يحفظها ويديمها. الفائدة الخامسة: وقد يؤخذ من الحديث، أن الغني الشاكر، المؤدي حق الله في المال، أفضل من الفقير الصابر المحتسب، إذا استووا في بقية الطاعات، وذلك للأسباب التالية: 1- قال الفقراء للنبي: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم) ، فأقر النبي هذه المقولة، ولو كان فيها خطأ لبينه، حيث إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. 2- قال النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء عندما علّمهم ذكر ختم الصلاة: «تدركون به من سبقكم» فعلمنا أن الأغنياء قد سبقوا الفقراء بالأعمال الزائدة غير المتاحة للفقراء. 3- إذا استوى الفقراء والأغنياء في الطاعات، زاد الأغنياء أعمالا لا يستطيع الفقراء أداءها، ولما أخبر الفقراء النبيّ بأن إخوانهم من الأغنياء عملوا بذكر ختم الصلاة، رد النبي بأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا يوحي بأن الله تفضل على الأغنياء إن شاركوا الفقراء في كل الطاعات، وزادوا بأعمال الصدقات. الفائدة السادسة: كثير من الناس مغبون في ذكر ختم الصلاة، فمنهم من لا يحافظ عليه أصلا وغبنه واضح، ومنهم من يحافظ عليه وهو مغبون أيضا، كيف ذلك؟ أقول: يقوله بلا تدبر ولا تفكر ولا استحضار للقلب، ينظر يمينا وشمالا ويطالع في كل أحد أمامه، إذا رأيت حركة يديه في العد تعجبت، وإذا سمعت نطقه بها ذهلت، لا تسمع منه إلا حرف السين من قوله (سبحان الله) ، أبهذه الطريقة يعطينا الله الأجر العظيم، الذي رتبه على هذا الذكر؟! مهلا مهلا في التسبيح، عليك بالتدبر. فإذا قلت: (سبحان الله) يجب أن تستحضر تنزيهه سبحانه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص، ومشابهة المخلوقين، وأنت تقول: (الحمد لله) يجب أن تستشعر الثناء عليه، بصفات الكمال والجمال والإجلال، وهو أهل لكل ذلك وزيادة، وإذا قلت: (الله أكبر) تستشعر أنه أكبر فعلا، أكبر في صفاته وفي أسمائه، أكبر في ذاته، أكبر في مخلوقاته الدالة على عظمته وكبريائه، هو أكبر في نفوسنا من كل شيء، فلا نقدم عليه شيئا، بل لا نساويه بشيء، أكبر لأنه الذي خلق، ورزق وأحيا وأمات، أكبر لأنه تفرد بالأسماء الحسنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والصفات العليا، له من كل صفة أتمّها، ومن كل اسم أكمله، فإذا ختمنا الصلاة على هذا النحو، رجونا الثواب وأملنا العطاء، والله- سبحانه وتعالى- أغنى الأغنياء عن القلب اللاهي، واللسان الذي يتحرك ولا يدري ما يقول، ومن غناه أنه لا يقبل من الأعمال إلا أحسنها، ومن النيات إلا أصدقها. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّا، تحتاج إلى مؤلّف خاص، ولعدم الإطالة سأورد طائفة منها، دون تعليق، ليتذكر القارئ كم حبا الله- سبحانه وتعالى- هذه الأمة العظيمة من نعم كثيرة. الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، في يوم مئة مرّة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيّئة، وكانت له حرزا من الشّيطان يومه ذلك حتّى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلّا أحد عمل أكثر من ذلك» «1» . الحديث الثاني: عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نزله من الجنّة كلّما غدا أو راح» «2» . الحديث الثالث: عن البراء قال: جاء رجل من بني النّبيت- قبيل من الأنصار- فقال: أشهد ألاإله إلّا الله، وأنّك عبده ورسوله، ثمّ تقدّم فقاتل حتّى قتل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «عمل هذا يسيرا وأجر كثيرا» . [رواه مسلم] «3» . الحديث الرابع: عن أبي هريرة أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمسا، ما تقول ذلك يبقي من درنه؟» قالوا: لا يبقي من درنه شيئا. قال: «فذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله به الخطايا» «4» . الحديث الخامس: عن سعد بن أبي وقّاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من قال حين يسمع المؤذّن: أشهد ألاإله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، رضيت   (1) أخرجه البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، برقم (3293) ، ومسلم، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2691) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، برقم (662) ، ومسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا ... ، برقم (669) . (3) مسلم، كتاب الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1900) . (4) البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة، برقم (528) ، ومسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا، برقم (667) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بالله ربّا، وبمحمّد رسولا، وبالإسلام دينا غفر له ذنبه» «1» . الحديث السادس: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» . [رواه مسلم] «2» . الحديث السابع: عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أنّه أخبره أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشّمس، أوتي أهل التّوراة التّوراة فعملوا حتّى إذا انتصف النّهار عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثمّ أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثمّ عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثمّ أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشّمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربّنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطا قيراطا، ونحن كنّا أكثر عملا! قال: قال الله عز وجل-: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء» «3» . الحديث الثامن: عن أبي مسعود الأنصاريّ قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة كلّها مخطومة» . [رواه مسلم] «4» . الحديث التاسع: عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اتّبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتّى يصلّى عليها ويفرغ من دفنها، فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين، كلّ قيراط مثل أحد، ومن صلّى عليها ثمّ رجع قبل أن تدفن فإنّه يرجع بقيراط» «5» . الحديث العاشر: عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف حدّثه عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الشّهادة بصدق بلّغه الله منازل الشّهداء وإن مات على فراشه» . [رواه مسلم] «6» .   (1) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (386) . (2) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (384) . (3) البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، برقم (557) . (4) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، برقم (1892) . (5) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان، برقم (47) . (6) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1909) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 11- أكثر أتباع الرسل وأكثر أهل الجنة: عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: كنّا مع النّبيّ في قبّة فقال: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة؟» قلنا: نعم. قال: «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟» قلنا: نعم. قال: «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنّة؟» قلنا: نعم. قال: «والّذي نفس محمّد بيده إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة، وذلك أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشّرك إلّا كالشّعرة البيضاء في جلد الثّور الأسود أو كالشّعرة السّوداء في جلد الثّور الأحمر» . [متفق عليه] «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم منة الله- عز وجل- على هذه الأمة، إذ جعلها نصف أهل الجنة، وفي بعض الروايات في غير الصحيحين، «ثلثي أهل الجنة» «2» ، وهي منة تكون في المقام الأول لنبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة والحب لأصحابه، يتبين ذلك من: 1- زفّ النبيّ صلى الله عليه وسلم البشرى لأصحابه رضي الله عنهم بصيغة الاستفهام مرتين وذلك لإرادة تقرير البشارة، ذكره ابن التين، وأقول: قد يكون الحكمة من ذكر البشرى على صيغة الاستفهام رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في إشعار أصحابه بفضلهم وإدلالهم، وأن الله- عز وجل- إكراما لهم سيعطيهم في الآخرة ما يرضيهم فقال: «أترضون» وما كان ذلك المعنى الجميل ليصل إليهم لو أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ثلث أهل الجنة» . 2- أبلغ النبي صلى الله عليه وسلم البشرى لأصحابه رضي الله عنهم، على ثلاث مراحل: الأولى كونهم ربع أهل الجنة، والثانية ثلث أهل الجنة، والثالثة شطر أهل الجنة، والحكمة من ذلك كما قاله الإمام النووي: أ- أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى   (1) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: كيف الحشر، برقم (6528) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: كون هذه الأمة نصف أهل الجنة، برقم (221) . (2) بهذا اللفظ أخرجه الحميدي في «مسنده» (2/ 367) ، برقم (831) ، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، تركه بعضهم وقال ابن معين: ليس بذاك القوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته. ب- حملهم على تجديد شكر الله تعالى وتكبيره وحمده على كثرة نعمه. وأقول: قد تكون الحكمة أيضا من ذلك، هو إشعارهم بفضل الله العظيم عليهم، وأنه- تبارك وتعالى- لم يعطهم ما يرضيهم فحسب بل أعطاهم الزيادة تفضلا وامتنانا، فهم رضوا وكبّروا لما علموا أنهم ربع أهل الجنة ثم جاءت الزيادة مرتين بعدها، وهذا أدعى للفرحة وأحرى بالشكر والامتنان للمنعم، ودافع للإنسان في تصور مقدار النعمة، وفيه أيضا حب النبي صلى الله عليه وسلم لأن ينقل أصحابه من فرحة إلى فرحة أعظم إلى فرحة عظمى. الفائدة الثالثة: وهي فوائد متفرقة: 1- مشروعية التكبير عند سماع المسلم ما يفرحه خاصة في أمور الدين، لما ورد في رواية مسلم: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» قال: فكبّرنا. 2- حسن تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، فمع أن البشرى كانت من النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم قد توجهوا لله بالشكر والحمد، ومظهره في الحديث تكبيرهم رضي الله عنهم. 3- بيان مدى قدر الأدب الجم الذي تجمل به النبيّ صلى الله عليه وسلم مع ربه- تبارك وتعالى- حيث قال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» . 4- كرامة الجنة على ربها، إذ جعلها دار كل نفس مؤمنة، وحرمها على كل نفس غير مؤمنة، في مقابل هوان الدنيا على ربها، إذ جعلها دارا للمؤمنين والكافرين. 5- كثرة أهل الشرك جدّا مقارنة بالمؤمنين لقوله صلى الله عليه وسلم: «وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأبيض» . 12- عاداتها بالنيات عبادات: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة» . قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا» . من حديث رواه مسلم «1» . وعن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله   (1) أخرجه مسلم، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 إلّا أجرت عليها حتّى ما تجعل في فم امرأتك» . رواه مسلم «1» ، كما روى الشيخان عن أبي مسعود الأنصاريّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» «2» . هذه من منن الله العظيمة على أفراد هذه الأمة إذ جعل لهم من أعمالهم الدنيوية التي يقومون بها بالليل والنهار- وهم مضطرون إليها ولا ينفكون عنها- جعل لهم فيها أجرا وثوابا إذ هم قاموا بها إيمانا واحتسابا، تقربا إلى الله وطلبا لفضله ومرضاته، ومن تلك الأعمال النفقة على الأهل وإطعام الزوجة اللقمة في فمها، وحتى معاشرتها لقضاء الوطر. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم منة الله- عز وجل- على هذه الأمة، ومظاهر ذلك: 1- أن الله جعل ما يفعله العبد ويقوم به من العادات كالإنفاق على الأهل والولدان، وما يتلذذ به كمضاجعة الزوجة وإطعامها اللقمة في فمها، جعل منها أعمالا يؤجر عليها العبد وتكون في ميزان أعماله يوم القيامة عبادات، قال الإمام النووي: (إن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه؛ لأن وضع اللقمة في فم الزوجة يقع غالبا في حال المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر ومع ذلك إذا وجد القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله) «3» . 2- مكّن الله- عز وجل- عبده المؤمن أن يكون دائما متصلا به مستحضرا ثوابه ورؤيته له، وذلك بأن شرع له أن يبتغي وجهه الكريم في كل عمل يقوم به سواء كان هذا العمل فيه مجاهدة أو كان لذة للنفس. 3- إرادة الله- عز وجل- الشرعية أن يغتنم العبد كل وقته بما يفيده وينفعه في الآخرة، فلا يضيع على نفسه شيئا من عمره هباء، لقدرته على أن يكون كل عمله بأجر وثواب، ويتفرع عليه عظيم قدر وقت المؤمن إذ يمكنه أن يستثمره كله في طاعته سبحانه وتعالى.   (1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، برقم (1628) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، برقم (5351) ، ومسلم، كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج، برقم (1002) . (3) نقله ابن حجر في الفتح (1/ 137) من كلام النووي رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 4- يسّر- سبحانه وتعالى- لكل مسلم أبوابا من خير كثيرة، ضمن بها لكل عبد ألا يعدم عملا صالحا له فيه الأجر والثواب، فمن منا يعجز أن ينوي بنومه ليلا التقوّي للعبادة وأداء صلاة الفجر في جماعة المسلمين وكذلك إذا أكل وشرب، ومن منا يعجز أن يجامع زوجته بنية إنجاب الذرية الصالحة التي تقوم بأمر الدين وهكذا. ويتبين من ذلك أن الكثير منا مغبون يضيع عليه حسنات كثيرة لعدم استحضار النية عند قيامه بعاداته. 5- كرمه- عز وجل- حيث يقبل- مع غناه عن العباد وافتقارهم إليه- القليل ويثيبهم عليه، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق المسلم نفقة» . قال ابن حجر رحمه الله: «وحذف المقدار من قوله: (إذا أنفق) لإرادة التعميم ليشمل الكثير والقليل» «1» . وأقول: إن تنكير كلمة «نفقة» يفيد التحقير أي أدنى نفقة. كما أن من كرمه- سبحانه وتعالى- أنه هو الذي رزق العباد ثم إذا هم أنفقوها فيما يحبونه ويتلذذون به باحتساب ونية أثابهم على ذلك. الفائدة الثانية: من شروط قبول العبادة واستحقاق العباد الأجر والثواب عليها أن يبتغي العبد بها وجه الله أي يطلب بها ثواب الله ورضاه والتقرب إليه، وأن يقصد بالقيام بها طلب الأجر، وهو المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: «وهو يحتسبها» ، ولكن كيف يحتسب العبد النفقة على أهله، قال الإمام النووي: (وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأولاده وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب إلى الإنفاق عليهم فينفق بنية أداء ما أمر به وقد أمر بالإحسان إليهم) «2» . الفائدة الثالثة: كل عمل يستطيع كسبه من الحرام فيعدل عنه إلى الحلال والمشروع من الدين فإن له فيه أجرا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال» ، فالرجل الذي يستطيع أن يكسب عيشه من حرام فعفّ عنه والتمس رزقا حلالا كان له في ذلك أجر.   (1) فتح الباري (9/ 498) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ثالثا: تفضيل مدينته ومسجده على سائر البقاع سوى (مكة) أ- تفضيل مدينته صلى الله عليه وسلم: لا شك أن من أعظم دلائل إكرام الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم أن أوجب لمدينته غاية التعظيم، وعدد مظاهر هذا التعظيم ونوّعه ليدلل على منتهى تكريم صاحبها صلى الله عليه وسلم. ومن أوجه ذلك أن جعلها الله حرما وبارك في صاعها ومدّها ولعن من آذى محدثا أو أحدث فيها ورغب في شد الرحال إلى مسجدها، وجعل فيه من دون مساجد الأرض روضة من رياض الجنة وتوعد من أراد بأهلها سوآ، فماذا بقي لهذه البلدة المباركة من أمر لم يعظّم شرعا أو لم يبارك فيه، وما كان ذلك إلا لوفور بركة من أقام ومات فيها صلى الله عليه وسلم ورفيع منزلته عند الله- تبارك وتعالى- كما سنرى إن شاء الله.. 1- مدينته حرم وثبوت اللعنة على من أحدث فيها حدثا: عن عليّ رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلّا كتاب الله وهذه الصّحيفة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل» . [رواه البخاري] «1» . وقد بدأت بتحريم الله لها لأنه أبلغ مظاهر الاعتناء بها فهي حرم، مثل مكة المكرمة، تأخذ نفس أحكامها فلا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها ولا يحمل السلاح فيها لقتال، قال صاحب تحفة الأحوذي ما نصه: (وفيه دليل على أن المدينة حرم كحرم مكة، وفي هذا أحاديث كثيرة مروية في الصحيحين وغيرهما قال الشوكاني: استدلّ بما في هذه الأحاديث- من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره- الشافعيّ ومالك وأحمد والهادي وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرما كحرم مكة محرم صيده وشجره، قال الشافعي ومالك: فإن قتل صيدا أو قطع شجرا فلا ضمان؛ لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية، وهو ظاهر قوله: كما حرّم إبراهيم مكة) «2» . انتهى.   (1) البخاري، كتاب: الحج، باب: حرم المدينة، برقم (1870) . (2) تحفة الأحوذي (6/ 270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كذب من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص عليّا- رضي الله عنه- بأمور من هذا الدين لم يطلع عليها أحد غيره، ودليله قول علي رضي الله عنه: (ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة) ، والمنفي هنا شيء اختصوا به عن الناس، ودليله أيضا ما رواه مسلم، قال أبو الطّفيل عامر بن واثلة: كنت عند عليّ بن أبي طالب فأتاه رجل فقال: ما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسرّ إليك؟ قال: فغضب، وقال: ما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسرّ إليّ شيئا يكتمه النّاس غير أنّه قد حدّثني بكلمات أربع قال: فقال: ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: قال: «لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غيّر منار الأرض» «1» . قال الإمام ابن حجر- رحمه الله تعالى: (في الحديث رد لما تدعيه الشيعة بأنه كان عند علي وآل بيته من النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة أعلمه بها سرّا تشتمل على كثير من قواعد الدين وأمور الأمارة) «2» . وقال الإمام النووي في شرح مسلم: (هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الشيعة والرافضة ويخترعونه من قولهم: إن عليّا رضي الله عنه أوصى إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه) . انتهى كلام النووي رحمه الله «3» . وأقول: بل يكفي في إبطالها أنها تقدح في أمانة النبي صلى الله عليه وسلم حاشا لله- في تبليغ رسالة ربه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [المائدة: 67] ، واختصاص أحد دون الناس بأمر من أمور الدين ينفي امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه عزّ وجلّ. الفائدة الثانية: التهديد الشديد والوعيد الأكيد لمن أحدث في المدينة حدثا أو آوى محدثا؛ لأن من فعل ذلك فقد استحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قال الإمام النووي   (1) مسلم، كتاب: الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم (1978) . (2) فتح الباري (4/ 86) . (3) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض: (معناه من أتى فيها إثما أو آوى من أتاه وضمه عليه وحماه) «1» ، كما نقل عنه قوله: (واستدلوا بهذا على أن ذلك من الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة، ومعناها: أن الله يلعنه وكذا يلعنه الملائكة والناس أجمعون وهذا مبالغة في إبعاده عن رحمة الله تعالى فإن اللعن في اللغة الطرد والإبعاد قالوا: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه والطرد عن الجنة أول الأمر وليست هي كلعنة الكفار الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الإبعاد) «2» . وقال صاحب تحفة الأحوذي: (فمن أحدث أي أظهر في المدينة حدثا وهو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعناه ولا معروف في السنة) ، كما ذكر رحمه الله أن معنى آوى أي: أجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتصّ منه «3» . وذكر الإمام ابن حجر نقلا عن ابن بطال قوله: (دل الحديث على أن من أحدث حدثا أو آوى محدثا في غير المدينة أنه غير متوعد بمثل ما توعّد به من فعل ذلك بالمدينة وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي أنه يشاركهم في الإثم فإن من رضي فعل قوم وعملهم التحق بهم، ولكن خصّت المدينة بالذكر لشرفها ولكونها مهبط الوحي وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها) «4» . الفائدة الثالثة: أقوال العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل منه صرف ولا عدل» . ذكر العلماء أقوالا كثيرة في المعنى، ذكر النووي رحمه الله طرفا منها حيث قال: (الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، الصرف: التوبة والعدل: الفدية، وقيل: الصرف: الشفاعة والعدل الفدية) «5» . ولكن هل معنى عدم القبول هنا هو عدم الإجزاء، أي ترد عليه مثلا صلاة الفريضة والنافلة كأنه لم يصلها؟ نقل النووي عن القاضي قوله: (المعنى: لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول رضا وإن قبلت قبول إجزاء، وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما) «6» . الفائدة الرابعة: التحذير كل التحذير من فعل المعاصي وارتكاب الآثام وإحداث البدع   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 140) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 141) . (3) تحفة الأحوذي (6/ 270) . (4) فتح الباري (13/ 281- 282) . (5) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 141) . (6) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخشى على من فعل ذلك وأصر عليه من سوء العاقبة. ويؤخذ من الحديث أيضا أن من فعل ذلك بالمدينة فقد أغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد المغاضبة؛ إذ لم يعظم مدينته ولم يعرف قدرها ولم يرع حرمتها وحرمة ساكنها صلى الله عليه وسلم ويكفيه ذنبا أنه قد أشاع المعاصي والمنكرات في مكان أشاع فيه النبي صلى الله عليه وسلم الهداية للعالمين، بل يكفيه وزرا أنه يعصي الله- سبحانه وتعالى- في مكان قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم جلس فيه أو مشى عليه ولو مرة واحدة والأدهى من ذلك أن يكون نزل عليه الوحي فيه. الفائدة الخامسة: بيان أن الذنوب تتعاظم في قبحها وآثامها باختلاف المكان والزمان التي ارتكبت فيه، قال تعالى فيمن باشر شيئا من ذلك في البلد الحرام: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: من الآية 25] ، وقال في حق الأشهر الحرم: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 36] ، وفي الحديث الذي معنا: «من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» . 2- حرمة أهلها: عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أراد أهل هذه البلدة بسوء- يعني المدينة- أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» . [رواه مسلم] «1» . وهذا تهديد شديد لمن أراد أهل المدينة بسوء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله- عز وجل- سينتقم منه، وأن الله لن يمهله حتى يتمكن من مراده، وقد ذكر العلماء عدة أقوال في معنى الحديث، منها: 1- من أراد المدينة في الدنيا بسوء فإنه لن يمهله، بل سيذهب سلطانه عن قرب، كما وقع لمسلم بن عقبة وغيره فإنه عوجل عن قرب فهلك في منصرفه عنها. 2- من أرادها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كفي المسلمون أمره واضمحلّ كيده كما يضمحل الرصاص في النار، حيث ورد في رواية مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلّا أذابه الله في النّار ذوب الرّصاص أو ذوب الملح في   (1) مسلم، كتاب: الحج، باب: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله، برقم (1386) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الماء» «1» . ذكر القول الأول الإمام ابن حجر، والثاني الإمام النووي- رحمهما الله تعالى- «2» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم حرمة أهل المدينة حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد توعد من أرادهم بسوء أن الله لن يمهلهم، وهذا التهديد لا يختص بزمن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يختص بالانتقام في الدنيا فحسب بل ينسحب قطعا على كل الأزمان، وأن الانتقام يحدث في الدنيا والآخرة. ويتفرع على ذلك وجوب حب أهل المدينة وتوقيرهم وعدم النيل منهم. الفائدة الثانية: إرادة الله الكونية بحفظ المدينة وأهلها من كيد الكائدين، ويتفرع على ذلك التحذير كل التحذير من إرادة المدينة وأهلها بأدنى سوء. الفائدة الثالثة: الترغيب والحث على سكناها وملازمة أرضها، وهذا عام في جميع الأحاديث التي وردت في فضل المدينة ومسجدها. 3- بركة المدينة: عن أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمّ اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكّة من البركة» . رواه البخاري «3» ، وعند مسلم: عن عبّاد بن تميم، عن عمّه عبد الله بن زيد بن عاصم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة» «4» . وهذا الحديث من جملة فضائل هذه البقعة المباركة الطيبة، ويتمثل هذا الفضل في بركة مدّها وصاعها، فإن كان في صاع مكة ومدّها البركة، ففي صاع المدينة ومدّها ضعف تلك البركة. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: ما المقصود بالبركة- التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم في المد والصاع؟ قال الإمام النووي رحمه الله: (الظاهر أن البركة حصلت في نفس المكيل بحيث يكفى المدّ فيها من لا   (1) مسلم، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1363) . (2) فتح الباري (4/ 94) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (9/ 138) . (3) البخاري، كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي الخبث، برقم (1885) . (4) مسلم، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها) «1» . ومعلوم أن البركة هي الزيادة والنماء وكثرة الخير في الشيء وهذا كله حصل- إن شاء الله- بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. تنبيه: إن قال قائل: ذهبت إلى المدينة فلم ألحظ هذه البركة في الطعام والشراب فما السبب؟ قلت: اعلم أن البركة في الطعام والشراب بل وفي الأجواء قد حدثت قطعا استجابة من الله- تبارك وتعالى- لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس من لازم ذلك أن تحصل البركة لكل أحد وفي كل وقت، فقد يمنع تلك البركة ارتكاب المسلم لبعض المعاصي أو عدم يقينه بالله- سبحانه وتعالى- أو إعراضه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون المانع لحدوث البركة عدم حل الطعام: إما لحرمته في نفسه أو حرمة المال الذي اشتري به. ولذلك فإن على كل من لم يلمس تلك البركة أن يتهم نفسه ويراجع حاله وماله. الفائدة الثانية: ليس في الحديث ما يدل على عموم أفضلية المدينة على بيت الله الحرام؛ لأنه لا يلزم من حصول الأفضلية للمفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق، كما أفاد الإمام ابن حجر رحمه الله ولكن ما نقطع به أن بركة الصاع والمد في المدينة ضعف بركة الصاع والمد في مكة، وهذا شرف عظيم للمدينة، تمتاز به على جميع بقاع الأرض، وفي هذا أبلغ الحث على سكناها. الفائدة الثالثة: ثبوت بركة مد وصاع مكة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» ، ولكن تأتي مكة في المرتبة الثانية من حيث البركة، وأقول: هذا التضعيف في بركة المدينة عن مكة، هو في أمر مخصوص من أمور الدنيا، وهو الصاع والمد، فلا يلزم أن يكون التضعيف يشمل أمور الآخرة أيضا، فعلى سبيل المثال فإن الصلاة في المسجد الحرام يتضاعف أجرها عن الصلاة في المسجد النبوي الشريف، على صاحبه الصلاة والسلام. الفائدة الرابعة: حث المسلم على أن يدعو ببركة صاعه ومده (أي طعامه وشرابه) وإن لم يكن من ساكني البقعتين الشريفتين؛ لثبوت إمكانية حلول البركة فيهما، كما حدث في صاع ومد مكة والمدينة، وبقدر إخلاص العبد في الدعاء واستقامته على الصراط، بقدر حدوث تلك البركة، وكما تحدث البركة في مأكل الإنسان ومشربه فقد تنزع تلك البركة جزئيّا أو كليّا؛ فليحذر المسلم من ذلك، وما يحدث الآن في أغلب الأقطار الإسلامية من غلاء الطعام والشراب لهو أكبر شاهد على نزع البركة   (1) نقله ابن حجر في الفتح (4/ 98) من قول الإمام النووي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 4- حفظها من الدجال والطاعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطّاعون ولا الدّجّال» . [رواه البخاري] «1» . وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدّجّال لها يومئذ سبعة أبواب على كلّ باب ملكان» . [رواه البخاري] «2» . النقب: هو الطريق الذي يسلكه الناس وقال ابن وهب: المراد به مدخل المدينة، وقيل: أبوابها، وأصل النقب: الطريق بين الجبلين. ذكره ابن حجر في الفتح «3» . وهذا أيضا من الفضائل العظيمة للمدينة على صاحبها الصلاة والسلام، ويشترك معها في عدم دخول الدجال مكة المكرمة لما رواه البخاري من حديث أنس: «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» «4» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه- سبحانه وتعالى-؛ إذ حفظ له مدينته وساكنيها من شرين عظيمين: يتمثل الأول في وباء شرّه مستطير، وهو الطاعون، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (قال صلى الله عليه وسلم: «ولكن عافيتك أوسع لي» . فكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة. وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة. قلت: وهو كلام صحيح) . انتهى كلامه رحمه الله «5» . أما الشر الثاني الذي حمى الله منه مدينة خليله صلى الله عليه وسلم، فهو شرّ الدجال، وهو بلا شك شرّ غائب منتظر، روى البخاري في صحيحه: قال ابن عمر- رضي الله عنهما-: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ ذكر الدّجّال فقال: «إنّي   (1) البخاري، كتاب: الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، برقم (1880) . (2) البخاري، كتاب: الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، برقم (1879) . (3) فتح الباري (4/ 96) . (4) البخاري، كتاب: الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، برقم (1881) . (5) فتح الباري (10/ 191) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لأنذركموه، وما من نبيّ إلّا أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكنّي أقول لكم فيه قولا لم يقله نبيّ لقومه: تعلمون أنّه أعور، وأنّ الله ليس بأعور» «1» . الفائدة الثانية: عظيم قدرة الله سبحانه، ويتبين ذلك من: 1- حفظه- سبحانه وتعالى- المدينة من دخول الطاعون، وهو وباء عظيم، لا يرى بالعين ولا يحس بالحواس، بملائكة يحرسونها، وكأن الملائكة- وهو الواقع- ستراه وترده عن دخول البلدة الطيبة، وتدبر أخي القارئ ما أودع الله في ملائكته من قدرة عجيبة في مقاومة الطاعون ورده، مع عجز العلم الحديث عن أن يقضي على هذا الوباء الخطير، فضلا عن أن يضع له مصلا يقي البلاد والعباد شره. 2- مع ما أوتيه الدجال من قدرات عظيمة تفتن كل أحد- إلا المؤمن- إلا أنه يعجز عن دخول مكة والمدينة مع حرصه على ذلك؛ لما رواه البخاري من حديث أنس وفيه: «فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله» «2» . وكان من الممكن واليسير على الله- عز وجل- أن يمنع الطاعون والدجال عن دخول المدينة دون حراسة الملائكة لها، ولكن أراد الله- عز وجل- أن يظهر للعباد فضل المدينة؛ فكرّمها بتقييد الملائكة على أبوابها وأنقابها. الفائدة الثالثة: ما الحكمة من عدم دخول الطاعون المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟. قال ابن حجر- رحمه الله- كلاما جميلا نصه: (الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة، ثم خيّر النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منها الأجر الجزيل، فاختار الحمّى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصحّ بلاد الله) «3» . وأضاف رحمه الله: (ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة) «4» . الفائدة الرابعة: وجوب الإيمان بظهور الدجال وما معه من آيات عظيمة وقدرات   (1) البخاري، كتاب: الفتن، باب: ذكر الدجال، برقم (7127) . (2) البخاري، كتاب: الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة، برقم (7134) . (3) فتح الباري (10/ 191) . (4) انظر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 خارقة، والتي منها أنه سيجوب البلاد كلها إلا المدينة ومكة؛ لرواية مسلم التي ذكرتها آنفا. الفائدة الخامسة: لم يقتصر الأمر على حفظ المدينة من وباء الطاعون، بل تعدى الأمر إلى تنقية أجوائها ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها، الذي رواه البخاري وفيه: فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا قال: «اللهمّ حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكّة أو أشدّ، اللهمّ صحّحها وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها إلى الجحفة» «1» . 5- فيها روضة من رياض الجنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي» . [رواه البخاري] «2» . هذه هي أعظم خصوصيات المسجد النبوي الشريف- والذي تضم المدينة أرجاءه- وهو أن فيه روضة من رياض الجنة، فمن أراد أن يجلس في الجنة ويعاينها ويشم رائحتها الزكية، قبل أن يراها عيانا يوم القيامة- إن شاء الله تعالى- فلا يسعه إلا أن يشد الرحال إلى هذه البلدة المباركة، ويلتزم المكان الذي بين منبره وبيته صلى الله عليه وسلم. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: الحث على ملازمة الروضة الشريفة وكثرة الصلاة والذكر فيها ووجوب حبها وتعظيمها لشرفها على بقية البقاع، وهذا لا يتأتى- لمن هو خارج المدينة- إلا بشد الرحال إليها. الفائدة الثانية: منة الله العظيمة على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل ما بين المكانين الذي كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتردد بينهما روضة من رياض الجنة، وهذا يدلل أيضا على شرف وبركة البقعتين الطاهرتين البيوت والمنبر، وأعتقد أن ذلك كان ببركة كثرة ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لها وبتلاوته فيهما آيات الله والحكمة، كما أن فيها امتنان الله العظيم على أمة الإسلام، إذ جعل لها بقعة مباركة في مسجد مبارك في بلد مبارك يتصبرون بها عن رؤية ودخول الجنة، بل ويتشوقون بكثرة ملازمتها إلى الجنة ونعيمها ولذاتها التي لا تحول ولا تزول. الفائدة الثالثة: ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: «روضة من رياض الجنة» . ذكر ابن حجر-   (1) البخاري، كتاب: المرضى، باب: من دعا بدفع الوباء والحمى، برقم (5677) . (2) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، برقم (1196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 رحمه الله- أقوال العلماء فقال: (أي: كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة، بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيها بغير أداة «1» ، أو المعنى: أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازا، أو على ظاهره وأن المراد أنه روضة حقيقية بأن ينتقل هذا الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة، هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث وهي على ترتيبها هذا في القوة) . انتهى كلامه رحمه الله «2» . وأعتقد- والعلم عند الله- أن القول الأخير هو المتعين لسببين: السبب الأول: أنه يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» أنها مزية خاصة لتلك البقعة دون سائر البقاع، ولو قلنا بالقول الأول والثاني لاشتركت جميع البقاع التي يكثر فيها حلق العلم والذكر. كما أن قوله: إن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة كلام مردود حيث إن العبادة في كل مكان تؤدي إلى الجنة، خاصة أنه لم يرد تضعيف ثواب العبادة في الروضة عن غيرها من أورقة المسجد النبوي. السبب الثاني: أن القول الأول احتاج إلى تقدير أداة تشبيه والقول الثاني أنزل المعنى منزلة المجاز، وحيث لا ضرورة إلى التقدير أو الذهاب إلى المجاز فلا يصير إليهما، فكلما استطعنا أن ننزل كلام الوحي منزلة الحقيقة بلا تشبيه ولا مجاز كان ذلك هو الأولى والأصوب خاصة إذا كانت هناك أسباب تدعو إلى ذلك وقد ذكرتها. الفائدة الرابعة: اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بمنبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ودليله أنه سيكون معه يوم القيامة وموضعه على حوضه صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ابن حجر- رحمه الله تعالى- في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: ( «ومنبري على حوضي» : أي ينقل يوم القيامة فينصب على الحوض، وقال الأكثر: منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل: المراد: المنبر الذي يوضع له يوم القيامة والأول أظهر) «3» . وهو الذي مال إليه القاضي عياض حيث نقل عنه الإمام النووي رحمه الله قوله: (قال أكثر العلماء: المراد: منبره بعينه الذي كان في الدنيا قال: وهذا هو الأظهر) «4» .   (1) أي تشبيه حذفت أداته وهي: «الكاف» . (2) فتح الباري (4/ 100) . (3) فتح الباري (4/ 100) . (4) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 6- علوها على بقية القرى: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي النّاس كما ينفي الكير خبث الحديد» . [رواه البخاري] «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقرية تأكل القرى» ، وقوله: «تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» ، أما الكير فمعناه كما رجح ابن حجر: حانوت الحداد والصائغ ومجمل المعنى كما ذكر ابن حجر: (أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده) «2» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: بيان فضل المدينة وعلوها على بقية المدن والقرى، يتبين ذلك من: 1- أن الله- عز وجل- هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة وملازمة سكناها وأنه- تبارك وتعالى- هو الذي اختارها له مقاما في حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلم، ودليله: «أمرت بقرية» ، فالآمر بلا شك هو الله- سبحانه وتعالى-. 2- كونها تأكل القرى، أي تغلبهم، وقال ابن حجر: (كنّى بالأكل عن الغلبة؛ لأن الآكل غالب على المأكول. وقيل: معناه: يفتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم ويسبون ذراريهم) «3» . وأعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم: «تأكل القرى» يحتمل معنى آخر وقد يكون هو الأوجه، وهو أن المدينة تغلب بقية المدن في الفضل والبركة في صاعها ومدها واشتياق الناس إليها وحبهم لها وهو مشهود جدّا إلى يومنا هذا، وهو ما نوه إلى بعضه المنير في الحاشية بقوله: (يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناها أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما) «4» . ويتوجب الجمع بين القولين وعدم رد أحدهما حيث إن اللفظ يحتملهما والنصوص الشرعية تؤيدهما. 3- قدرتها على إخراج الكافرين والمنافقين خارج حدودها، فكأنها تطّلع على قلوب الناس فتميزها فتخرج الرديء، وليس هذا لمدينة أخرى سواها، ولكن هل هذا النفي على   (1) البخاري، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفي الناس، برقم (1871) . (2) فتح الباري (4/ 88) . (3) فتح الباري (4/ 87) . (4) حاشية المنير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 مدار الزمن منذ أن قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقولة إلى قيام الساعة أم أنها تنقطع مدة من الزمان؟. فيه رأيان للعلماء، رجح الإمام النووي الرأي الثاني وهو أن هذه المقولة تختص بزمن حياته صلى الله عليه وسلم وقبل قيام الساعة، وحجته في ذلك قصة الأعرابي فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللا به خروج الأعرابي، وما ورد في أحداث آخر الزمان عندما ينزل الدجال فترجف المدينة بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه، وقال: وأما بين ذلك فلا. 4- كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسميها أحد باسم لا يليق بها فلا شك أن قوله صلى الله عليه وسلم: «يقولون: يثرب وهي المدينة» جاء في سياق الذم لمن يطلق على المدينة يثرب. قال الإمام ابن حجر رحمه الله-: (أي أن بعض المنافقين يسميها يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة، وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين) «1» . ونقل- رحمه الله- عن عيسى بن دينار قوله: (سبب هذه الكراهة؛ لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما مستقبح) «2» . الفائدة الثانية: من السنة اختيار الأسماء الحسنة، وكراهية الأسماء المشتقة من معان رديئة أو مستقبحة، وأن هذا ليس مختصّا بأسماء الأشخاص بل ينسحب إلى أسماء البلدان، كما أن من السنة تغيير الأسماء المستقبحة وحث الناس على عدم استخدامها. الفائدة الثالثة: ليس من لازم قوله صلى الله عليه وسلم: «تنفي الناس» أن يكون كل من خرج من المدينة يكون في قلبه شيء اقتضى أن المدينة قد أخرجته، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، والمنافق خبيث بلا شك وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون، وهم من أطيب الخلق فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت) «3» . الفائدة الرابعة: بيان أن لله مشيئة كونية وهي نافذة في العباد لا محالة، دليله أن أهل النفاق والزيغ قضت مشيئة الله الكونية أن يخرجوا من المدينة سواء من أراد ذلك أو لم يرد؛ لأن الحديث دل على أن جميعهم سيخرجون منها.   (1) فتح الباري (4/ 87) . (2) انظر السابق. (3) فتح الباري (4/ 88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 تنبيه هام: لا يفهم من هذا الثناء على المدينة- على صاحبها الصلاة والسلام- وذكر فضائلها ومحاسنها، أنها أفضل من مكة- بلد الله الحرام- أو أنني أريد أن أحبب الناس فيها فحسب، كلا والله، فإن هذا ليس من قصدي، ولكن المقام مقام ذكر المدينة وما ورد فيها، أما بلد الله الحرام فحقها عظيم جدّا يكاد الناس فعلا في غنى عن تذكيرهم به، وأقول على عجل: إنه يكفيها شرفا وعزّا أن فيها بيت الله الحرام قبلة الناس قديما وحديثا، البلدة التي يعظمها الناس جميعا، حتى في زمن الجاهلية، ومن هذا الذي يسعه ألايتوجه إليها بقلبه وبدنه في يومه وليلته خمس مرات، ذكرها الله- سبحانه وتعالى- في القرآن في عدة مواضع في سياق المدح والتشريف والثناء الحسن، كما ذكر لها- عز وجل- عدة أسماء للدلالة على شريف قدرها، كما استجاب الله- سبحانه وتعالى- لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لها، فجعل القلوب تهوي إليها من مشارق الأرض ومغاربها، ووالله ما تزداد القلوب بزيارتها ورؤيتها إلا شوقا وحنينا إليها، وأقول: إن فيها مزية فوق هذا وذاك لا تشاركها فيها بلدة أخرى أبدا، وهي أن قصدها للحج والعمرة فريضة على كل مسلم ومسلمة، ويستحيل أن تنعقد هذه الفريضة أو تسقط على القادر إلا بالذهاب إليها والمشي في أرضها المباركة زادها الله تشريفا وتعظيما، علاوة على أن فيها الماء المبارك- زمزم- والمقام المبارك- مقام إبراهيم- والحجر المبارك- الحجر الأسود، والمشعر الحرام. فالسعيد السعيد الذي جمع في قلبه حب المدينتين والشوق إليهما، والشقيّ من خلا قلبه من حبهما وزهد في العيش فيهما، وأما من حب إحداهما دون الآخرى فهو المحروم حقّا. كما يحسن التنبيه إلى أن ما يردده البعض وينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يزرني فقد جفاني، ومن جفاني دخل النار» هو حديث موضوع لا أصل له «1» . 7- الأجر العظيم على سكناها والتحذير من الرغبة عنها: قال عثمان بن حكيم: حدّثني عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أحرّم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها» . وقال: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلّا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلّا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . [رواه مسلم] «2» .   (1) موضوع: أورده الذهبي في «الميزان» (7/ 39) عن ابن عمر مرفوعا، وقال: هذا موضوع. (2) مسلم، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم ... ، برقم (1363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وعند البخاري عن عبد الله بن الزّبير، عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشّأم فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» ، وقوله: «ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . معاني بعض الكلمات: اللأواء: الشدة والجوع، الجهد: المشقة، يبسون: يسوقون دوابهم للرحيل من المدينة. قال النووي: (الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسّا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة) «2» . بعض فوائد الحديثين: الفائدة الأولى: الحث على سكنى المدينة وملازمتها، يتبين ذلك من: 1- قوله صلى الله عليه وسلم: «والمدينة خير» . وكرر هذا الحث في حديث البخاري ثلاث مرات؛ ليتأكد المعنى. ومواطن الخيرية في الإقامة في المدينة لا تخفى وهي كل ما ذكر في هذا الفصل من الكتاب وغير ذلك، قال ابن حجر رحمه الله: (والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات) «3» . وهذه الخيرية- ولله الحمد- دائمة إلى يوم القيامة لم تعدم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أن الأحاديث التي ذكرت في هذا الفصل لم تقيد خيرية المدينة بزمن دون زمن، نقل النووى عن القاضي عياض قوله: (قيل: هو مختص بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وقال آخرون: هو عام أبدا، وهذا أصح) «4» . 2- ذم من تركها وفضّل عليها غيرها من القرى لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه» .   (1) البخاري، كتاب: الحج، باب: من رغب عن المدينة، برقم (1875) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 159) . (3) فتح الباري (4/ 93) . (4) نقله النووي في شرحه على صحيح مسلم (9/ 137) من قول القاضي عياض رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو كانوا يعلمون» ، فوصف الذين يرغبون عنها ويفضلون الرخاء بعدم العلم، وفي هذا أعظم الذم والتقبيح لفعلهم، قال ابن حجر رحمه الله: (فيه تجهيل لمن فارقها وآثر عليها غيرها، وقال: أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا) «1» . كما أنه نقل عن الطيبي «2» موضع الذم بقوله: (نكّر الحديث قوما ووصفهم بكونهم يبسون ثم أكد بقوله: «لو كانوا يعلمون» ؛ لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك كرر قوما ووصفهم في كل قرينة بقوله: «يبسّون» استحضارا لتلك الهيئة القبيحة) «3» . 3- في الحديث أبلغ الحث، بل هو المنتهى في الحث، على سكنى المدينة حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد وعد أهلها وعدا عظيما وبشرهم بشرى فيها غاية الحبور والسرور لهم، من تحققت في حقه فقد فاز فوزا عظيما، ألا وهي شفاعته وشهادته صلى الله عليه وسلم لأهلها يوم القيامة، [ مسائل ] وهناك بعض المسائل يجب توضيحها وهي: المسألة الأولى: رجّح القاضي عياض أن (أو) في قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت له شفيعا أو شهيدا» ليست للشك من الرواة لاتفاق روايات كثيرة بإثبات (أو) ، وقال نقلا عن بعض شيوخه: (فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن يكون (أو) للتقسيم ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لبقيتهم، إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، وإما شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده) «4» . المسألة الثانية: يشترط لثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته لأهل المدينة أن يصبروا على ما قد يعانونه في المدينة من شدة وجوع وجهد، صبر مع الإيمان والاحتساب، صبر دون ضجر ولا شكوى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . المسألة الثالثة: يحرم قطعا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أهل البدع الذين يحدثون في دين الله ما ليس منه، ودليله ما ورد عند الشيخين عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول:   (1) فتح الباري (4/ 93) . (2) هو الحسين بن محمد الطيبي نسبة إلى طيبة وهي من بلاد إقليم الغربية بمصر. توفي سنة (743 هـ) ، انظر الأعلام للزركلي (3/ 235) ، وفي ذيل تذكرة الحفاظ (1/ 85) . (3) فتح الباري (4/ 93) . (4) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يحال بيني وبينهم» . قال أبو حازم: فسمعني النّعمان بن أبي عيّاش وأنا أحدّثهم هذا، فقال: هكذا سمعت سهلا؟ فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدريّ لسمعته يزيد فيه قال: «إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» «1» . الفائدة الثالثة: وهي فوائد متفرقة، نذكرها مختصرة على عجل: 1- إثبات أن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات وشهادات خاصة يوم القيامة، كشفاعته في عمه أبي طالب، وأهل بيته الطاهرين الميامين، وفي هذا الحديث شفاعته وشهادته لأهل المدينة خاصة، وهي مزية عظيمة لهم قال الإمام النووي: (وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح وعلى منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض) «2» . يتفرع على ذلك أن نعلم أنه ليس المقصود من الشفاعة إخراج من دخل النار من المسلمين وإدخالهم الجنة، بل هي شفاعات كثيرة امتن الله بها على صفوته من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم. 2- في رواية البخاري معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي إعلامه بالغيب الذي أطلعه الله عليه، حيث ذكر صلى الله عليه وسلم فتح اليمن ثم الشام ثم العراق وقد فتحت بنفس الترتيب الذي ورد بالحديث. كما ذكر صلى الله عليه وسلم تفرّق الناس في هذه البلاد وهجرتهم إليها طلبا للسعة والرخاء وقد وقع أيضا. 3- في هذا الحديث بيان فضل المدينة على اليمن والشام والعراق، قال الإمام ابن حجر: (وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه، وفيه دليل أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء أن للمدينة فضلا على غيرها وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين غيرها) «3» . يقصد بذلك مكة- شرفها الله-.   (1) البخاري، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... ، برقم (7051) ، ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، برقم (2291) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 137) . (3) فتح الباري (4/ 92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 4- في الحديث ذم الجهل والحث على العلم الشرعي؛ لأن الذين فضلوا الرخاء وسعة العيش على سكنى المدينة إنما كان لجهلهم بفضل المدينة وكذلك جهلهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة. 5- في الحديث الحث على الصبر في سبيل الله، وأن تحمل الشدة والجهد مع الاحتساب قد يكون خيرا للمسلم من سعة العيش، فليس السعة والرخاء محمودين دائما، كما يؤخذ من الحديث مشروعية أن يضر العبد بدنه ابتغاء مرضاة الله- عز وجل- وطلبا لثواب الآخرة، ودليله أيضا أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم كانت تتشقق وتتورم وهو قائم يصلي بالليل. 6- سعة علم الله- سبحانه وتعالى- واطلاعه على القلوب والضمائر، حيث علم من الذي يدع المدينة رغبة عنها وزهدا فيها، وهو عمل قلبي قطعا، كما يؤخذ من الحديث قدرته- عز وجل- وحبه للمدينة، حيث أبدلها عن كل من رغب عنها من هو خير منه، كما نتعلم من الحديث أن حبه- سبحانه وتعالى- للشيء لا يستلزم خلوّه وتصفيته من كل ما يكدّره وينغصه، فالله- عز وجل- يحب المدينة ومع ذلك فإن فيها الشدة والجهد. إليك أخي القارئ شاهدا على عمل الصحابة بهذا الحديث: روى مسلم: عن أبي سعيد مولى المهريّ: أنّه جاء أبا سعيد الخدريّ ليالي الحرّة فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره ألاصبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال له: ويحك، لا آمرك بذلك، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلّا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما» «1» . بعد استعراض هذه الفضائل الكريمة لمدينة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ومسجده، نعلم يقينا فضل الحبيب صلى الله عليه وسلم ومنزلته العالية الرفيعة عند ربه إذ أحاط مدينته ومسجده بكل أنواع التشريف والتكريم، ولا يفوتني أن أذكر أجلّ وأحسن ما في المدينة وهي أنها تشرفت بوجود البقعة المباركة التي ضمت الجسد الشريف الطاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، فحقيق بها أن ترفع عقيرتها بين مدن الأرض كلها جميعا، وقد أورد النووي رحمه الله قول القاضي عياض ونصه: (أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلفوا في أفضلهما ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم) «2» .   (1) أخرجه مسلم، كتاب: الحج، باب: الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، برقم (1374) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 163- 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ب- تفضيل مسجده صلى الله عليه وسلم: حبا الله- سبحانه وتعالى- المسجد النبوي الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، بخصال لم يشاركه فيها مسجد سوى المسجد الحرام كما سيأتي تفصيلا. 1- الترغيب في شد الرحال إليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى» «1» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: الحث على شد الرحال- أي السفر- إلى المساجد الثلاثة المذكورة وأن هذه المساجد هي مساجد مفضلة عن بقية مساجد الأرض، ولها من التعظيم ما ليس لغيرها، قال ابن حجر رحمه الله: (في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيّتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم السالفة، والثالث أسّس على التقوى) . انتهى «2» . ويشير الحافظ ابن حجر بقوله: (أسس على التقوى) إلى ما ورد عند مسلم، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال: مرّ بي عبد الرّحمن بن أبي سعيد الخدريّ قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الّذي أسّس على التّقوى؟ قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أيّ المسجدين الّذي أسّس على التّقوى؟ قال: فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض، ثمّ قال: «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة «3» . الفائدة الثانية: هل شد الرحال إلى غير هذه البقاع- من مسجد وغيره- محرم شرعا؟، فيه نزاع كبير بين العلماء ليس هذا موضع سرده، ولكن الأرجح من أقوال العلماء أن معنى الحديث: أنه لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا الثلاثة المذكورة، ويا بنى على ذلك أمران: الأول: جواز السفر إلى أي بقعة في الأرض لغرض التجارة وصلة الرحم، وطلب العلم وغير ذلك من المباحات أو المندوبات، الثاني: أنه لا يجوز السفر إلى أي مسجد من   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم (1189) ، ومسلم، كتاب: الحج، باب: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، برقم (1397) . (2) فتح الباري (3/ 65) . (3) مسلم، كتاب: الحج، باب: بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.. برقم (1398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 مساجد الأرض للصلاة فيه طلبا للثواب والأجر إلا تلك المساجد المفضلة. الفائدة الثالثة: وهي إذا نذر المسلم أن يصلي في غير تلك المساجد هل يلزمه الوفاء بالنذر؟ قال ابن حجر رحمه الله: (واستدلّ به على أن من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها لأنها لا فضل لبعضها على بعض فتكفي صلاته في أي مسجد كان) «1» . ولكن إذا نذر الرجل أن يصلي في المسجد الأقصى هل يمكنه أن يعدل إلى الصلاة في المسجد النبوي ويجزئه ذلك؟ نعم يجزئه لأن الصلاة في المسجد النبوي أعظم ثوابا من أجر الصلاة في المسجد الأقصى، أما إذا نذر الصلاة في المسجد الحرام فلا تجزئه الصلاة في المسجد النبوي، ومن باب أولى في المسجد الأقصى، وذلك على رأي من يقول: إن ثواب الصلاة في المسجد الحرام أعظم من ثوابها في المسجد النبوي، روى مسلم، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ امرأة اشتكت شكوى فقالت: إن شفاني الله لآخرجنّ فلأصلّينّ في بيت المقدس، فبرأت ثمّ تجهّزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلّم عليها فأخبرتها ذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصليّ في مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا مسجد الكعبة» «2» . 2- مضاعفة أجر الصلاة فيه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام» «3» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: الحث على كثرة الصلاة في المسجد الحرام وكذلك المسجد النبوي لتضعيف أجر الصلاة فيهما، وفيه أيضا أبلغ الحث على شد الرحال إليهما للحصول على هذا الثواب العظيم. الفائدة الثانية: هل ثواب الصلاة في المسجد النبوي يعم جميع المسجد بعد التوسعات   (1) فتح الباري (3/ 65، 66) . (2) مسلم، كتاب: الحج، باب: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم (1396) . (3) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم (1190) ، ومسلم، كتاب: الحج، باب: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم (1394) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أم موضع المسجد الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم؟ قال الإمام النووي- رحمه الله-: (ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده لأن التضعيف إنما ورد في مسجده بخلاف مسجد مكة فإنه يشمل جميع مكة) . انتهى «1» . وإن صح استنتاج النووي- رحمه الله- فيكون حجة لمن فضّل مكة على المدينة مطلقا. الفائدة الثالثة: هل الاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» . يدل على أفضلية الصلاة في أحدهما على الآخر أو مساواة الثواب فيهما؟ الصحيح- والله أعلم- أن الصلاة في مكة تفضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ للأحاديث التي وردت في تضعيف الصلاة في المسجد الحرام إلى مائة ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد النبوي. قال الإمام النووي: (اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيتهما أفضل؟ ومذهب الشافعي وجماهير العلماء: أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة فعند الشافعي والجمهور أن معنى الاستثناء: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي، وأما مالك وطائفة فمعنى الاستثناء عندهم: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي، تفضله بدون الألف) «2» . الفائدة الرابعة: قال الإمام ابن حجر: (ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة والله أعلم) «3» . الفائدة الخامسة: هل التضعيف ينسحب إلى صلاة النفل؟ قال الإمام النووي: (واعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة بل يعم الفرض والنفل جميعا، وبه قال مطرّف من أصحاب مالك «4» ، وقال الطحاوي «5» : يختص بالفرض، وهذا مخالف إطلاق هذه الأحاديث الصحيحة) «6» .   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 166) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 163) . (3) فتح الباري (3/ 68) . (4) هو أبو مصعب مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان، صحب مالكا وعبد العزيز بن الماجشون وابن أبي حازم وابن دينار وابن كنانة توفي بالمدينة عام (220 هـ) . انظر طبقات الفقهاء للشيرازي (1/ 153) . (5) هو الإمام أبو جعفر أحمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي الحجري المصري الطحاوي نسبة إلى طحا قرية من قرى صعيد مصر. من مصنفاته: «العقيدة الطحاوية» ولد سنة (239 هـ) ، وتوفي عام (321 هـ) . (6) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 رابعا: التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم: 1- في عدد الزوجات: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: 50] . هذا الخطاب الرباني ورد في القرآن الكريم في سياق ذكر منة الله تعالى على عبده وحبيبه وصفيّه من خلقه وخليله صلى الله عليه وسلم فيما أحل الله تعالى له من أصناف النساء. وفي هذه الأصناف ما يشترك في بعض مفرداته عموم الأمة، وفيه ما لا يباح إلا له صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى عدم الاقتصار على أربع نسوة كعموم المسلمين، وقد اخترت اسم الباب «التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم» ؛ لأن الامتنان من الله عز وجل على عباده لا يكون عن تضييق في الأمر بل يكون عن توسعة، كما أن ما خص الله- سبحانه وتعالى- على نبيه في أمور الزواج قد سماه العلماء- رحمهم الله- توسعة، كما سيأتي ذكره- إن شاء الله- في الفوائد. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: أصناف النساء اللاتي أحل الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم الزواج منهن: 1- الأزواج اللاتي أعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم أجورهن. 2- ما ملكت يمينه صلى الله عليه وسلم من سبي الكفار عبيدا أو أحرارا. 3- بنات عمه صلى الله عليه وسلم وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته اللَّاتِي هاجَرْنَ معه صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (قيد لحلّ هؤلاء للرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو الصواب من القولين في تفسير هذه الآية، وأما غيره صلى الله عليه وسلم فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة) «1» . وقال القرطبي: «لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة ومن لم يهاجر (أي من بنات عمك وبنات خالك) لم يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذى كمل وشرف وعظم صلى الله عليه وسلم» . فقد أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 669) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 خالاته ولكن بشرط الهجرة وهذه مكافأة لقريباته المؤمنات؛ لما لحق بهن من الأذى. 5- الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليها تفصيلا- إن شاء الله تعالى. الفائدة الثانية: كما خص الله- سبحانه وتعالى- نبيه في إحلال صنفين من النساء دون سائر الأمة، خصه أيضا بأمر عظيم، وهو عدم تقييده صلى الله عليه وسلم في الزواج بعدد معين من النساء الحرائر. قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ [الأحزاب: 50] ؛ أي: من حصرهم- أي رجال الأمة في أربع نسوة حرائر وما شاؤا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم وهم الأمة، وقد رخصنا لك- أي للنبي صلى الله عليه وسلم فلم نوجب عليك شيئا منه: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) «1» . الفائدة الثالثة: يظهر من تلك الآية الكريمة حبّ الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم وعظيم اعتنائه- تبارك وتعالى- به حتى في شئون الزواج ومعاملة الزوجات، وظهر ذلك في الأمور التالية: 1- نزول القرآن الكريم- وهو كلام الحق- تبارك وتعالى- بذكر الأصناف التي يحل للنبي صلى الله عليه وسلم الزواج منهن، وإذا تدبر المؤمن مثل هذا الأمر وأمعن فيه مع سابق علمه بعظيم كلام الله عز وجل، علم يقينا أن هذا أمر عظيم واعتناء بالغ بالنبي صلى الله عليه وسلم فاق الوصف والتصور. 2- إرادة الله- سبحانه وتعالى- التوسعة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد كانت تلك التوسعة على نحو عجيب، حيث شملت عدد الزوجات وأصنافهن وعدم وجوب القسمة وعدم اشتراط الولي والمهر والشهود، وأسأل: هل كان يمكن أن تكون التوسعة أكثر من ذلك؟ قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (وأبحنا لك أيها النبي ما لم نبح لهم ووسّعنا عليك ما لم نوسع على غيرك) «2» . 3- إرادة الله- سبحانه وتعالى- رفع الحرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد نصت الآية الكريمة على أن الحكمة في اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأحكام دون سائر الأمة هو لرفع الحرج عنه؛   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 501) . (2) انظر تفسير السعدى (1/ 669) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قال- تعالى-: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الأحزاب: 50] ، قال الشيخ السعدي- رحمه الله: وهذا من زيادة اعتناء الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم) . وقال صاحب المنتخب: «وما رخصنا لك فيه دونهم لئلا يكون عليك ضيق فيما شرعناه لك، وكان الله غفورا لذنوب عباده رحيما بالتوسعة عليهم» . 2- في عدم وجوب القسمة لنسائه: إذا كان الله- سبحانه وتعالى- قد ألزم المؤمنين كلهم جميعا بوجوب العدل في القسمة بين النساء، ومن لم يستطع ذلك فلا يحل له الزواج بأكثر من واحدة كما قال تعالى-: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النّساء: 3] ، فإن الله تبارك وتعالى- لم يوجب أصلا على نبيه صلى الله عليه وسلم القسمة بالسوية بين نسائه- رضي الله عنهن جميعا-، بل جعل هذه القسمة موكولة إليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الفوائد. وإذا قالت امرأة من أصحاب العقول التي تنتسب إلى التقدمية والتحررية: كيف ترضى امرأة أن تتزوج بدون مهر وبدون اشتراط القسمة؟ قلت لها: من علمت قدر النبي صلى الله عليه وسلم وما سينالها في الدنيا والآخرة بالارتباط به صلى الله عليه وسلم لتمنت أن تكون عنده ملك يمين أو أسيرة أو خادمة تمسح له نعله أو تخيط له ثوبه، ويكفيها أن تمتع نظرها برؤية وجهه الجميل صلى الله عليه وسلم، ولها بعد ذلك أن ترفع عقيرتها بين الملكات والأميرات وذوات الأحساب والأنساب وصاحبات الجمال والمال وتتعالى عليهن بشرف مسح نعليه صلى الله عليه وسلم، ألم تر أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قد اختار العبودية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرية عند أبيه وأهله وذويه؟! قال تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً [الأحزاب: 51] . قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (وأصح ما قيل في تفسير الآية: التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته) ، ونقل- رحمه الله- عن ابن العربي قوله: (والمعنى المراد: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في أزواجه إن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. فخص النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن يفرض ذلك عليه تطييبا لنفوسهن وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 تؤدي إلى ما لا ينبغي «1» . وقال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (وهذا من توسعة الله على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته على وجه الوجوب وأنه إن فعل ذلك فهو تبرع منه، ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: بينت الآية الكريمة الحكمة من عدم وجوب القسمة بين الزوجات في حق النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ [الأحزاب: 51] ، قال صاحب المنتخب: (تؤخر من تشاء منهن في القسم وتدني إليك من تشاء، ومن طلبت ممن أخرت قسمها فلا مؤاخذة عليك، ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى سرورهن وبعد الحزن عنهن، ويرضين كلهن بما آتيتهن) . وقال الشيخ السعدي- رحمه الله- كلاما مشابها لذلك فقال ما نصه: (تلك التوسعة عليك وكون الأمر راجعا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعا منك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ [الأحزاب: 51] لعلمهن أنك لم تترك واجبا ولم تفرط في حق لازم) «3» . الفائدة الثانية: هل عدم وجوب القسمة بين الزوجات على النبي صلى الله عليه وسلم في الواهبات أنفسهن أم في جميع النساء؟ الصحيح- والله أعلم- أنها في كل النساء، والدليل على ذلك ما رواه مسلم عن معاذة العدويّة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذننا إذا كان في يوم المرأة منّا بعد ما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [الأحزاب: 51] ، فقالت لها معاذة: فما كنت تقولين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنك؟ قالت: كنت أقول: إن كان ذاك إليّ لم أوثر أحدا على نفسي «4» . قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم، وهذا الذي اختاره حسن جيد وفيه جمع بين الأحاديث) «5» .   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 215) . (2) انظر تفسير السعدى (1/ 669) . (3) انظر تفسير السعدى (1/ 669) . (4) رواه مسلم، كتاب: الطلاق، باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا ... ، برقم (1476) . (5) انظر تفسير ابن كثير (3/ 502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الفائدة الثالثة: إرادة الله- سبحانه وتعالى- إعلاء شأن النبي صلى الله عليه وسلم بين زوجاته وأن يشعرهن بمنته عليهن وأن يظهر للناس عدله صلى الله عليه وسلم قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- في شرح الآية: (إن تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب فرحن بذلك واستبشرن به، وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن وعدلك فيهن) «1» . فإن قال قائل: إن كان عدم إيجاب القسمة بين النساء له كل تلك المميزات فلماذا أوجب الله- تبارك وتعالى- علينا القسمة؟ قلت له: لا يستوي نبي الأمة مع رجالها في هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الظلم والجور وإضرار الناس، وهذه العصمة له وحده صلى الله عليه وسلم دون الأمة. 3- في جواز أن تهب المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: 50] قال الإمام ابن كثير- رحمه الله: (ويحل لك- أيها النبي- المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: إثبات أن الله- تبارك وتعالى- لم يسارع في إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية فحسب، مثل اتجاه القبلة وعدم تخليد أحد من أمته في النار، وغيره كثير، ولكنّ الله- تبارك وتعالى- سارع أيضا في إرضاء نبيه صلى الله عليه وسلم في الأمور الحياتية الخاصة به، فقد أباح له أن يتزوج المرأة الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم بغير مهر، روى الشيخان عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: (كنت أغار على اللّاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل الله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ [الأحزاب: 51] ، قلت: ما أرى ربّك إلّا يسارع في هواك) «3» .   (1) انظر الموضوع السابق. (2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 500) . (3) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ... ، برقم (4788) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (قال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء، أي إن شاء قبل من وهبت نفسها له وإن شاء لم يقبلها) «1» . وهذا هو وجه المسارعة في إرضائه صلى الله عليه وسلم والذي قصدته أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-. ونلحظ في حديث أم المؤمنين- رضي الله عنها- بعض الأمور منها: 1- مدى غيرة عائشة- رضي الله عنها- على النبي صلى الله عليه وسلم وهي غيرة تدل على فرط حبها له صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (حمل عائشة على هذا التقبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء، وإلا فقد علمت أن الله أباح لنبيه ذلك، وأن جميع النساء لو ملّكن له رقّهن لكان قليلا» «2» . وتدبر أخي القارئ هذه الجملة الأخيرة من كلامه- رحمه الله- لتعلم كيف عرف العلماء قدر النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا الغاية المستطاعة في إجلاله وتوقيره، ولا يوفيه قدره إلا الله سبحانه وتعالى-. 2- دلال عائشة- رضي الله عنها- على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قالت له: «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: «هذا القول أبرزه الدلال والغيرة، وهو من نوع قولها في حديث الإفك: ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله. وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يحمل على ظاهره؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول الهوى، ولو قالت: (إلى مرضاتك) لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك» «3» . 3- في الحديث دليل على أن اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثيرات لما ورد في الحديث: «كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن» ، ولكن هناك خلاف بين العلماء هل تزوج النبي صلى الله عليه وسلم منهن أم لا؟ الفائدة الثانية: لم يكن واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم شرعا ولا عقلا- قبول كل من وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله- تبارك وتعالى- أخبرنا أن قبول النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج بالمرأة الواهبة نفسها أمر يردّ إلى مشيئته، قال تعالى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [الأحزاب: 50] . الفائدة الثالثة: عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في نظر النساء وتمني الزواج منه صلى الله عليه وسلم، ولو تنازلن   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 669) . (2) انظر فتح الباري (9/ 165) . (3) انظر فتح الباري (9/ 165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 عن أعظم حقوقهن المالية والأدبية، فالحق المالي وهو المهر، والتي تتباهى به كل امرأة وتعرف قدرها عند من خطبها، والحق الأدبي أن تكون هي المطلوبة وليست الطالبة، ولكن الأمر يختلف إذا كان الرجل المراد الزواج منه هو خير البرية أجمعين، المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، ألم تر إلى الحسيبة النسيبة خديجة- رضي الله عنها- ذات الجاه والمال، المطلوبة من كل رجال قريش، قد طلبت الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يعمل في مالها وتجارتها، ومتى كان ذلك؟ قبل البعثة وليس بعدها، وقد كافأها الله على صنيعها بما لم يكافئ أحدا قبلها ولا بعدها، حيث كافأها أن أخلص لها النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عاما لم تشاركها فيه امرأة أخرى. الفائدة الرابعة: تحريم الزواج بدون مهر على كل رجال الأمة؛ لقوله- تعالى-: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50] ، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (قال عكرمة: أي لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا، وقال: لو أن امرأة فوضت نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه مهر مثلها، أما هو صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجب عليه للمفوّضة شيء ولو دخل بها؛ لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود كما في قصة زينب بنت جحش- رضي الله عنها) «1» . 4- الإذن له بالزواج وهو محرم: عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم) «2» .   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 501) . (2) رواه البخاري، كتاب: الحج، باب: تزويج المحرم، برقم (1837) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 خامسا: فضل رؤيته صلى الله عليه وسلم 1- رؤيته في اليقظة: يفتح لمن رآه، ومن رأى من رآه، ومن رأى من رأى من رآه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على النّاس زمان يبعث منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرّجل فيفتح لهم به، ثمّ يبعث البعث الثّاني، فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فيفتح لهم به، ثمّ يبعث البعث الثّالث، فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ ثمّ يكون البعث الرّابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرّجل فيفتح لهم به» «1» . وعند البخاري عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنهم- عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي زمان يغزو فئام من النّاس فيقال: فيكم من صحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثمّ يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح، ثمّ يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب صاحب أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيقال: نعم، فيفتح لهم» «2» . هذا الحديث يبين بجلاء- لمن تدبره وتمعن فيه- المكانة العالية الرفيعة للنبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، والتي لم ولن يصل إليها أحد من الأولين والآخرين، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، فالحديث يخبر أن طائفة من المؤمنين- بعد النبي صلى الله عليه وسلم- تغزو في سبيل الله، فيسألون هل فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا وجد فيهم صحابي واحد يفتح لهم ويغلبون عدوهم- بإذن الله- وهكذا يتكرر الأمر في عصر التابعين، وعصر تابعي التابعين، هكذا في رواية البخاري، أما رواية مسلم فأثبتت عصرا رابعا، وأسأل الله عز وجل أن يمكنني من إظهار بعض هذا الفضل الذي خصّ به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. 1- إخباره صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه- تبارك وتعالى- أن الغزو في سبيل الله لن يتوقف بموته صلى الله عليه وسلم، بل سيستمر خاصة في القرون الثلاثة المفضلة.   (1) رواه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة رضي الله عنهم، برقم (2532) . (2) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، برقم (2897) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 2- إخباره صلى الله عليه وسلم أن هذا الغزو سيكون فيه الغلبة والفتح للفئة المسلمة، أي أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع المعارك ونتائجها. 3- عظيم بركة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته ويتضح ذلك من: أ- الفتح والنصر يكون لوجود أحد رأى أو صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت هذه الصحبة للحظة واحدة أو تحققت الرؤية لفترة قصيرة ولم يحدث فيها سلام أو كلام، ودليله أن المنادي لم يشترط فترة معينة للرؤية أو الصحبة، فدل ذلك أن هذا الفتح يحدث لمن كان له أدنى رؤية أو صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم فتدبر. ب- لم تقتصر بركة الرؤية والفتح لمجرد الصحبة على عصر الصحابة بل امتد ذلك إلى ثلاثة عصور، أي أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم قد امتد، وبركته قد انتقلت من عصر إلى عصر، فمن عظيم بركته صلى الله عليه وسلم أن من رآه من عصر الصحابة تكون له بركة تنفع- بإذن الله- من يراه في عصر التابعين وهكذا. وتدبّر أخي القارئ قوله صلى الله عليه وسلم على لسان المنادي: «هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟» . يتفرع على هذا حض الناس- في القرون المفضلة- في سائر الأمصار على رؤية الصحابة والتابعين وتابعيهم والحرص على ملازمتهم والأخذ عنهم والجهاد معهم. ج- بيان أن الصحبة وحدها مجردة لا يعدلها شيء أبدا من الطاعات الكبيرة والقربات الكثيرة، ودليله أن المنادي لا يسأل عن عبّاد لهم طاعات معينة أو قربات مخصوصة يستحقون عليها الفتح، ولكن يسأل فقط عمّن رأى أو صحب، فهذه الخصلة تكفي عما سواها، مع ملاحظة أنه قد يكون من الناس في الغزو من له من الطاعات والقربات أكثر ممن له مجرد الرؤية، ولكن كما قلنا: الرؤية لا يعدلها شيء، فتقدّم على كل شيء. د- لم يكن الفتح بسبب وجود فئة في الغزو صحبت النبي صلى الله عليه وسلم، إنما العجيب أن يكون الفتح والنصر وإكرام الجيش كله، لوجود ولو رجل واحد، وتدبر أخي القارئ قوله صلى الله عليه وسلم: «فيوجد الرجل فيفتح لهم به» . الفائدة الثانية: الحديث بشرى سارة من النبي صلى الله عليه وسلم لكل من غزا في سبيل الله عز وجل في تلك العصور الثلاثة المفضلة، كما أن فيه حثّا لهم على الغزو والجهاد. الفائدة الثالثة: للصحابة والتابعين وتابعي التابعين- رضي الله عنهم- شرف عظيم يميزهم عن بقية الناس كلهم جميعا، كما يؤخذ من الحديث فضل تلك الأزمان؛ لأن الزمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 يشرف بمن يعيش فيه ويعمره بالطاعات والقربات. 2- رؤيته في المنام: عن أبي هريرة قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثّل الشّيطان بي» «1» . قال أبو عبد الله: قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته. الشاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» ، وعند الشيخين أيضا: «من رآني فقد رأى الحق» «2» . أولا: بعض أقوال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» . قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- ما نصه: «والحاصل من الأجوبة ستة: أحدهما: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الآخرى: «فكأنما رآني في اليقظة» . ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير. ثالثهما: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه. رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك وهذا من أبعد المحال. خامسا: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام. سادسا: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال» . انتهى «3» . ويقصد الإمام ابن حجر بالإشكال الوارد على الرأي السادس، ما قاله في موضع آخر: «ويعكر عليه أن جمعا جمّا رأوه صلى الله عليه وسلم في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يختلف» «4» . وأعتقد- والله أعلم- أن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني» «5» . أنها رؤية حقيقية كرؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة سواء بسواء؛ وذلك لأن الأصل هو عدم التأويل   (1) رواه البخاري، كتاب: التعبير، باب: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، برقم (6993) . (2) رواه البخاري، كتاب: التعبير، باب: من رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، برقم (6996) . (3) انظر فتح الباري (12/ 385) . (4) انظر الموضوع السابق من الفتح. (5) رواه البخاري، كتاب: التعبير، باب: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، برقم (6994) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والإيمان بما يقتضيه ظاهر النص، وأما الاعتراض الذي أورده الإمام ابن حجر نقلا عن القرطبي- رحمهما الله- حيث ذكر: «أن إثبات ظاهر النص يستلزم أنه لا يراه رائيان في آن واحد، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر، ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره» «1» . أقول: إن هذا الاعتراض في غير محله ألبتة. وذلك لأنه اعتراض عقلي بحث لا يستند على أي دليل شرعي، كما أن الرؤيا من الأمور التي لا يقاس عليها أمور الشهادة أبدا، خاصة إذا كانت تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد تكون معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فيكون من سوء المسلك أن نردها لشبهة عقلية، أما كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إماما صلاة الكسوف- وهي صلاة جهرية-، ويكلم ربه في آن واحد، كما جاء في الصحيح، وقد أوردته في باب «يرى ما لا يراه أحد» . ثانيا: بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام لا تستوي مع رؤية غيره من البشر، حيث ذكر الإمام ابن حجر أن الشيخين رويا: «فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي» «2» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي» «3» . أما غيره صلى الله عليه وسلم فقد يتمثل به الشيطان في المنام. 2- رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام تنطوي على بشرى عظيمة، وهي رؤيته في اليقظة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» «4» ولا شك أنها من المبشرات العظيمة التي تفرح القلوب وتثلج الصدور، كما أنها مبشرة ببشرى أخرى لازمة وهي دخول الجنة، حيث لا مكان لرؤيته صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا في الجنة. الفائدة الثانية: كيف يعلم المسلم أن الذي رآه في المنام هو النبي صلى الله عليه وسلم؟ ذكر الإمام ابن حجر- رحمه الله- ما نصه: «كان محمد- يعني ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم   (1) انظر فتح البارى (12/ 384) . (2) سبق تخريجه. (3) رواه مسلم، كتاب؟ الرؤيا، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فقد رآني، برقم (2266) . (4) انظر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 تره» «1» . وسنده جيد. انتهى. وهذا هو الصحيح- والله أعلم-؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يتمثل الشيطان بي» . أي: لا يأتي بصورتي التي يعرفها الناس، وهذا لا يمنع أن يأتي الشيطان ويقذف في قلب الرائي أنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بصورة تخالف الصورة التي يعرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث لا يمنع حدوث مثل هذا، بل أعتقد أنه يجب القول به، لأننا كثيرا ما نسمع من أصحاب البدع والأهواء أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأشياء تخالف ما ورد بالكتاب والسنة، ولا تفسير لذلك- إن صدقوا في دعواهم- أن الذي رأوه هو الشيطان، وأنه لم يأت بالهيئة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد ذلك ما ذهب إليه الإمام ابن حجر- رحمه الله- في شرح بعض الألفاظ التي ورد بها الحديث، فقال- رحمه الله-: قوله: (إن الشيطان لا يتراءى) . فمعناه: لا يستطيع أن يصير مرئيّا بصورتي، كقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن الشيطان لا يتكونني» . أما قوله: «لا يتمثل بي» ، أي لا يتشبه بي، أما قوله: «في صورتي» ، فمعناه: لا يصير كائنا في مثل صورتي. وقال- رحمه الله-: فالجميع راجع إلى معنى واحد. والخلاصة: أن على كل مسلم قبل أن يدعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أحد أهل العلم- الذين يعلم عنهم الصلاح والتقوى- ليخبروه إن كان ما رأى حقّا أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثالثة: ما هي فوائد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام؟ قال ابن حجر- رحمه الله-: «ومن فوائد رؤيته صلى الله عليه وسلم تسكين شوق الرائي لكونه صادقا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: فسيراني في اليقظة، أي من رآني رؤية، معظما لحرمتي ومشتاقا إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه، ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته وهو دينه وشريعته فيعبر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان أو إساءة وإحسان» . الفائدة الرابعة: في الحديث دليل على أن الشيطان له قدرة على أن يتمثل في أي صورة أراد، ولكن الله- سبحانه وتعالى- لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم. والحكمة من ذلك ذكرها الإمام النووي- رحمه الله- فقد قال ما نصه: «قال القاضي:   (1) انظر فتح البارى (12/ 384) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قال بعض العلماء: خص الله- تعالى- النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما خرق الله- تعالى- العادة للأنبياء- عليهم السلام- بالمعجزة، وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا التصور، فحماها «1» الله- تعالى- من الشيطان ونزغه ووسوسته وإلقائه وكيده» «2» . انتهى. 3- رؤيته بالمال والأهل: عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أشدّ أمّتي لي حبّا ناس يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله» «3» . رواه مسلم. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم. 1- بيان أن مجرد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لها فضل عظيم، حيث ذكر الحديث أن رؤيته صلى الله عليه وسلم ستكون أعز وأغلى عند بعض أمته من مالهم وأهلهم، بل يقدمون المال والأهل في سبيل تحقيق هذه الرؤية الغالية العزيزة. قال صلى الله عليه وسلم: «يود أحدهم لو رآني بأهله وماله» . 2- بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته وشرفه عند الله عز وجل وعند أمته؛ لأننا نقول: إذا كانت رؤيته صلى الله عليه وسلم مناما أو يقظة ولأدنى زمن تتحقق فيه الرؤية- تكون عند البعض بالمال والأهل، فما بالنا بصحبته مع نصرته وحبه للصحابي وحب الصحابي له، وهي أمور أعظم قطعا من مجرد الرؤية، فكم ينبغي أن يقدم المسلم لينال كل هذه الأمور مجتمعة؟!. ويتفرع على هذا أن نتصور عظيم قدر الفضل والمنح والنعم التي تفضل الله بها على الصحابة، إذ اختصهم دون الخلق بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته ورؤيته دوما وفي كل الأوقات وعلى كل الأحوال، فلم يحظوا بالرؤية فقط التي تكون بالأهل والمال، ولكنهم تكلموا معه وتكلم معهم، وعلّمهم ورباهم، وصلى بهم وسافر معهم ودعا لهم، ومات وهو راض عنهم، بل الأثمن والأغلى أن جلّهم قد لامست يده يد النبي صلى الله عليه وسلم وبشرته بشرة النبي صلى الله عليه وسلم   (1) أي: حمى صورته صلى الله عليه وسلم. (2) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 25) . (3) رواه مسلم، كتاب: الجنة، باب: فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهلة، برقم (2832) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وهل بعد هذا الفضل من فضل؟!. ومن جهة أخرى: يجب علينا أن نحب الصحابة رضي الله عنهم ونجلهم ونكبرهم لما كان لهم من هذا الفضل الجزيل. 3- في الحديث معجزتان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم الأولى: إخباره صلى الله عليه وسلم بأمر من أمور الغيب- التي أطلعه الله عليها- وهو وجود مثل هذه الفئة من أمته صلى الله عليه وسلم. الثانية: وجود مثل هذه الفئة من أمة الإسلام، التي تحب النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الحب دون صحبة أو معاصرة أو حتى رؤية، بحيث يود الرجل منهم لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولو للحظة يقظة أو مناما- مقابل أهله وماله، وهذا الأمر لو تدبره أصحاب العقول السوية لعلموا أنه من أعظم دلائل صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، فسبحان من لا يقدر على تهيئة القلوب وتوفيقها لمثل هذا الحب إلا هو- تبارك وتعالى-. 3- في الحديث دفع شبهات الكفار حول النبي صلى الله عليه وسلم، والتي سجّلها القرآن الكريم عنهم في أكثر من موضع، حيث قالوا- لعنة الله عليهم-: إنه ساحر. فنقول لهم: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم- وحاشا لله- قد سحر أصحابه فأحبوه ونصروه وضحوا معه بكل غال ونفيس، فمن هذا الذي سحر أتباعه ممن لم يروه ولم يرهم وقد أحبوه كل هذا الحب، وإذا كان أصحابه- رضي الله عنهم- قد أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم لأغراض دنيوية، أو لرؤيتهم المعجزات الحسية على يديه، فما بال أتباعه صلى الله عليه وسلم الذين لم يروه قد أحبوه مثل هذا الحب، وقد تمنوا أن لو قدموا كل ما لديهم في الدنيا- من المال والأهل- في سبيل رؤيته. 4- بيان الحب الذي ينبغي أن يستقر في قلب المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم، والذي بموجبه يرضى الله عز وجل على العبد. ويتفرع عليه أن على كل مسلم أن يقارن حاله بحال الفئة التي ذكرت بالحديث، فإن وافق حاله حالها فليحمد الله عز وجل، وإلا فليفتش في نفسه ويجاهدها حتى يصل إلى تلك المرتبة العليا. الفائدة الثانية: في الحديث لفت أنظار الصحابة رضي الله عنهم لما هم فيه من نعمة، وحثهم على كثرة مصاحبته صلى الله عليه وسلم ونصرته وملازمته، يؤيد ذلك ما رواه مسلم: عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والّذي نفس محمّد في يده ليأتينّ على أحدكم يوم ولا يراني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ثمّ لأن يراني أحبّ إليه من أهله وماله معهم» «1» . قال أبو إسحاق: المعنى فيه عندي: لأن يراني معهم أحبّ إليه من أهله وماله. وهو عندي مقدّم ومؤخّر. قال الإمام النووي- رحمه الله- في شرح هذا الحديث ما نصه: «وتقدير الكلام: يأتي على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة ثم لا يراني بعدها أحب إليه من أهله وماله جميعا. ومقصود الحديث حثّهم على ملازمة مجلسه الكريم ومشاهدته حضرا وسفرا للتأدب بادابه وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من مشاهدته وملازمته» . انتهى «2» . الفائدة الثالثة: إثبات أنه ليس المقصود اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة والباطنة فقط، وإن كان هذا شيئا عظيما في حد ذاته، ولكن ينبغي أن يصحب ذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم بالقلب، وليس بالعقل وحده، لأن حب الرؤية بالمال والأهل إنما ينم عن حبّ قلبيّ قد تعلق بمحبوبه أشد التعلق، حتى إنه يشتاق لرؤيته ولو للحظة. والذي جمع بين هذا الحب والاتباع خير قطعا من الذي كان معه الاتباع مع قليل من الحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذه الفئة في الحديث في سياق الثناء عليهم. الفائدة الرابعة: وهي متفرقات: 1- شوق المحب إلى رؤية محبوبه تعدّ من أكبر العلامات الدالة على شدة الحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الحديث بقوله: «من أشد أمتي لي حبّا» ، ثم ذكر صفتهم ودليل محبتهم بقوله: «يود أحدهم لو رآني بأهله وماله» ، ولذلك أقول: إن من ادعى الحب دون الشوق إلى الرؤية ففي دعواه شيء. 2- في الحديث مشروعية الدعاء برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يقدر أن يحقق أماني العبد إلا الله- سبحانه وتعالى-. 3- يتفاوت المسلمون تفاوتا بينا في حب النبي صلى الله عليه وسلم، فأعظمهم حبّا من يتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والأهل، وأدناهم منزلة من لم يفكر في هذا الأمر ولم يشغل باله به. 4- من الممكن أن يتولد حب الغير في قلب الإنسان من غير رؤيه هذا المحبوب، وقد يصل هذا الحب إلى أعلى درجاته وهو تمني الرؤية بالمال والأهل، ولكن لا يتأتى ذلك إلا   (1) رواه مسلم، كتاب: الفضائل، باب: فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم وتمنيته، برقم (2364) . (2) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بكثرة القراءة عن المحبوب والتشبه به واتباعه وكثرة ذكره، وتذكر ثواب ذلك في الدنيا والآخرة. 5- في الحديث إشارة إلى مشروعية أن يقول المسلم بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى: - فداك أبي وأمي-. اختم هذا الباب بالتأكيد على أن ما ذكرته من خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على سبيل المثال لا الحصر لأن ذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى عدة مؤلفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الباب الرابع صفات وجوانب من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... لكان منظره ينبيك بالخبر الصحابي الجليل الشاعر/ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 في بداية الأمر عندما أردت أن أتحدث عن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وجميل شمائله نابتني حيرة بأيها أبدأ وبأيها أثنّي وأنتهي، لأنك إذا نظرت إلى صفة حسبتها هي أفضل الصفات، فإذا انتقلت إلى أخرى وجدتها أجل وأفضل، فحار أمري؛ هل أبدأ برحمته، فرحمته بلغت المنتهى من صفات البشر، أو بوفائه؛ فوفاؤه أجل وأعظم أو بكذا أو كذا، فاستخرت الله في هذا الأمر فوجدتني أبدا بنسبه الشريف، ثم بدأت بالصفات على الترتيب الهجائي وقد بدأت أولا بصفاته صلى الله عليه وسلم ثم جوانب من شخصيته. أولا: صفاته صلى الله عليه وسلم: 1- جمال وجهه صلى الله عليه وسلم: قال كعب رضي الله عنه: (لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلّا في غزوة تبوك غير أنّي كنت تخلّفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنّما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتّى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في النّاس منها؛ كان من خبري أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قطّ حتّى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتّى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، وعدوّا كثيرا فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الّذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الدّيوان- قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلّا ظنّ أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظّلال، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم فأرجع، ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتّى اشتدّ بالنّاس الجدّ فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا. فقلت: أتجهّز بعده بيوم أو يومين، ثمّ ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثمّ غدوت ثمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتّى أسرعوا وتفارط الغزو وهمّمت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت فلم يقدّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في النّاس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أنّي لا أرى إلّا رجلا مغموصا عليه النّفاق، أو رجلا ممّن عذر الله من الضّعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بلغ تبوك. فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره في عطفه. فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أنّه توجّه قافلا حضرني همّي وطفقت أتذكّر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكلّ ذي رأي من أهلي فلمّا قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما زاح عنّي الباطل، وعرفت أنّي لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للنّاس، فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله فجئته، فلمّا سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: «تعال» ، فجئت أمشي حتّى جلست بين يديه. فقال لي: «ما خلّفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى إنّي والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنّي والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إنّي لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتّى يقضي الله فيك» . فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني. فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألاتكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلّفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا يؤنّبوني حتّى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي، ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت. فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العمريّ، وهلال بن أميّة الواقفيّ. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيّها الثّلاثة من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا النّاس، وتغيّروا لنا حتّى تنكّرت في نفسي الأرض، فما هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الّتي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصّلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصّلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السّلام عليّ أم لا؟ ثمّ أصلّي قريبا منه، فأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي، حتّى إذا طال عليّ ذلك من جفوة النّاس مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السّلام. فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له فنشدته. فسكت فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتولّيت حتّى تسوّرت الجدار. قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيّ من أنباط أهل الشّأم ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق النّاس يشيرون له حتّى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسّان، فإذا فيه أمّا بعد: فإنّه قد بلغني أنّ صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لمّا قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيمّمت بها التّنّور فسجرته بها حتّى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتّى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا. ولكن لا يقربك قالت: إنّه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابّ، فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتّى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلمّا صلّيت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال الّتي ذكر الله، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشّرون، وركض إلّي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصّوت أسرع من الفرس فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني نزعت له ثوبيّ، فكسوته إيّاهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ: واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقّاني النّاس فوجا فوجا يهنّوني بالتّوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتّى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتئ ى صافحني وهنّاني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلمّا سلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السّور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» . قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتّى كأنّه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» . قلت فإنيّ أمسك سهمي الّذي بخيبر. فقلت: يا رسول الله، إنّ الله إنّما نجّاني بالصّدق، وإنّ من توبتي ألاأحدّث إلّا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ممّا أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإنيّ لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، فوالله: ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوا، فإنّ الله قال للّذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال كعب: وكنّا تخلّفنا أيّها الثّلاثة عن أمر أولئك الّذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتئ ى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وليس الّذي ذكر الله ممّا خلّفنا عن الغزو، إنّما هو تخليفه إيّانا، وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إلهى فقبل منه) «1» .   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، برقم (4418) ، مسلم، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب ... ، برقم (2769) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الشّاهد في الحديث: قول كعب بن مالك رضي الله عنه: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر) ، وكان الصحابة ما يرون وجها أجمل من وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي إسحاق قال: (سئل البراء، أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا. بل مثل القمر) «1» . قال الحافظ ابن حجر ما نصه: (كأن السائل أراد أنه مثل السيف في الطول، فرد عليه البراء فقال: (بل مثل القمر) ، أي في التدوير، ويحتمل أن يكون أراد: مثل السيف في اللمعان والصقال؟ فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان) «2» . ومن حديث جابر بن سمرة: (أن رجلا قال له: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل كان مثل الشمس والقمر وكان مستديرا) «3» ، وإنما قال: (مستديرا) للتنبيه على أنه جمع الصفتين؛ لأن قوله: (مثل السيف) يحتمل أن يريد به الطول أو اللمعان، فرده المسئول ردّا بليغا، ولما جرى التعارف في أن التشبيه (بالشمس) إنما يراد به غالبا الإشراق، والتشبيه (بالقمر) إنما يريد به الملاحة دون غيرها، أتى بقوله: (وكان مستديرا) إشارة إلى أنه أراد التشبيه بالصفتين معا: الحسن والاستدارة) «4» . وقد روى البراء رضي عنه الله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير) «5» ، ومعنى بالطويل الذاهب أي: (المفرط الطول) ، أي كان معتدل القامة صلى الله عليه وسلم. وانظر أخي القارئ كيف وصف الصحابة وجهه يوم وفاته صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الصحيحين من حديث أنس رضي عنه الله: (فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف) «6» ، قال النووي في شرح مسلم: (عبارة عن الجمال البارع، وحسن البشرة، وصفاء   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3552) . (2) انظر فتح الباري (6/ 573) . (3) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: شيبه صلى الله عليه وسلم، برقم (2344) . (4) انظر فتح الباري (6/ 573) . (5) البخاري، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3549) ، مسلم، كتاب: الفضائل، باب: في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2337) . (6) البخاري، كتاب: الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، برقم (680) ، مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم (419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الوجه، واستنارته) «1» ، وإذا كان هذا الصفاء والجمال وحسن البشرة كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم فكيف كان أيام شبابه وفحولته صلى الله عليه وسلم؟! وأعتقد أن الصحابة قد وصفوا وجهه صلى الله عليه وسلم بالشمس أو القمر لأنهم لا يعرفون شيئا أجمل منهما، وأظن أن وجهه كان أجمل من ذلك بكثير، ولكنهم- جزاهم الله عنا خيرا- أرادوا فقط أن يمثلوا لنا الوجه الشريف بأجمل ما يعرفون. فوائد الحديث: الفائدة الأولى: مناقب كعب بن مالك وهي: 1- حضوره جميع الغزوات التي غزاها النبي، ما عدا غزوة بدر، وغزوة تبوك، ولم يعتب عليه في بدر؛ لأن النبي لم يعزم على الصحابة في الخروج، لأنه ما كان يريد الغزو، وإنما كان يريد عير قريش، وبذلك تكون الغزوة الوحيدة التي تخلف عنها ويلام عليها هي غزوة تبوك، قال كعب: (لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها إلا غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر) . 2- شهوده ليلة العقبة حيث أخذ عليهم العهد والميثاق على الإسلام والجهاد في سبيل الله، وهذه الليلة كانت أعظم عند كعب، من شهوده بدرا، لقوله: (وما أحب أن لي بها مشهد بدر) . 3- عظيم صدقه، حتى إن كان هذا الصدق ينتقص من قدره ويفضح أمره، ويظهره أكثر تقاعسا عن شهود الغزو، وذلك علمناه من: أ- إخباره أنه ما كان في يوم أقدر استطاعة، ولا أيسر حالا عنه في غزة تبوك، حتى إنه لأول مرة في حياته يملك راحلتين، يمكن أن يستخدمها في الغزو، قال كعب: (لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة) ، فلم يكذب ويذكر مبررات لتخلفه، بل لم يكتم ما كان عليه من سعة ويسر، وهذا من عظيم صدقه. ب- ذكره ما كان من أمره في تأخير وتسويف التجهز للغزو، ولم يذكر أيضا عذرا له في ذلك، قال كعب: (فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم) ، ونتعلم من ذلك المبادرة لأعمال الخير والطاعات، وأن تأجيلها يوما أو يومين سيؤدي في النهاية إلى عدم القيام بها، وأن هذا التأجيل من تزيين الشيطان، الذي يحرص على صد الناس عن سبيل الله.   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 142) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ويعلمنا فضيلة الأخذ بالعزيمة في العبادات، قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ، فالله- عز وجل- أمرنا في الطاعات بالمسارعة، وأمرنا في أمور الدنيا بالمشي، قال تعالى: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك: 15] ، وليعلم المسلم أن الذي يكسل عن الطاعة في أول وقتها، سيكون أشد كسلا في آخر وقتها؛ لأن الشيطان استطاع أن يصده عن الوقت الفضيل، فإذا قام بالعبادة في الوقت الأخير فلن يتقنها، كالذي ينقر العصر نقرا قبل خروج وقتها بقليل، لا يتدبر من صلاته شيئا، وليعلم المسلم أن ما يسوف له الطاعة اليوم، هو معه يسوفها أكثر غدا، وليعلم أيضا، أن أداء الواجبات مع جماعة المسلمين تكون أيسر وأسهل على العبد، قال كعب: (فرجعت لم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو) . ج- اعترافه بين يدي رسول الله، أن تخلفه لم يكن لعذر بل صدقه القول، أنه ما كان قط أقوى ولا أيسر منه حين تخلف عنه في غزوة تبوك. 4- إذا كان هذا هو صدق كعب بن مالك، فمن المناسب أن نذكر ما جناه كعب من هذا الصدق، وذلك ليكون دافعا لنا لتحري الصدق في حياتنا كلها. أ- تجنب سخط الرسول صلى الله عليه وسلم إن ادعى له عذرا كذب فيه، ثم أعلم الله رسوله أنه كاذب في عذره لقول كعب: (ليوشكن الله أن يسخطك علي) . ب- نجاه الله بصدقه من الهلاك مع الذين هلكوا، وأنزل الله فيهم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 95] ، وقال كعب: فو الله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط، بعد إذ هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله، ألاأكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد. ج- أنزل الله- عز وجل- فيه وفي صاحبيه، قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، أثنى عليهم فيهم خير الثناء حيث وصف حزنهم لتخلفهم عن رسول الله، فقال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [التوبة: 118] ، وهذا الحزن من كمال الإيمان، كما وصفت الآية لجوءهم إلى الله وخروجهم من حولهم وقوتهم إلى حول الله وقوته، ويقينهم أنه لن ينجيهم مما هم فيه إلا الله، وانقطاع أملهم ورجائهم ممن دونه، قال تعالى: وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة: 118] ، وهذا أبلغ الثناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والمدح، ثم كان الفرج في الآية، وعظيم التشريف أن الله الغني الحميد قد بدأهم بالتوبة عليهم ليتوبوا، قال تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] ، وما تاب عليهم إلا بصدقهم ثم بحسن ظنهم بالله- عز وجل- مع حسن التوبة. د- تحريه الصدق بقية حياته، حتى إنه لا يرى أحدا من أصحاب الرسول، مع جلالة قدرهم، وعلو منزلتهم، كان مثله في صدق الحديث، يقول كعب: (فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني) . هـ- ذكره الحسن في المسلمين، خاصة أهل العلم والفضل بحسن توبته وصدقه- مثل ما ذكرت له الآن- وذكره الحسن إن شاء الله تعالى في الآخرة بصدقه، يؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الصّدق برّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ العبد ليتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإنّ الكذب فجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ العبد ليتحرّى الكذب حتّى يكتب كذّابا» «1» ، وغير ذلك كثير، من إخراج ماله صدقة لله- سبحانه وتعالى- وثباته في بلاء كتاب ملك غسان، وكل ذلك زيادة له في حسناته، ورفع في درجاته، وما كان له ذلك إلا بسلوكه سبيل الصادقين، فمن منا يحتذي حذوه ويقتضي أثره؟!، وما زال الله غنيا حميدا شكورا، لكل عباده أصحاب رسول الله، وأفراد أمته إلى يوم القيامة، وعلى المسلم أن يتدبر أيهما أعظم لكعب، صدقه مع ما حدث له من بلاء، أم نجاته المؤقت بالكذب على رسول الله؟ 5- نأخذ من الحديث فقه الصحابي كعب بن مالك، وذلك أنه علم أنه لن ينجيه بين يدي رسول الله إلا الصدق، وأن الكذب لا ينفع ولا يغني من الحق شيئا، قال كعب: (وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه) . وهذا السلوك يجب أن يتحلى به كل مسلم، ويجب أن يعلم كل أحد أن الصدق أنجى، وأن الله يعلم حال كل كاذب، ويقدر- سبحانه وتعالى- أن يفضحه بين الخلائق في الدنيا قبل الآخرة. 6- كما نأخذ منه أيضا قوة يقينه بعلم الله بأحوال العباد، وإحاطة سمعه لما يقولون، لقول كعب: (لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي) ، فلن يحدث أن يسخط الله رسوله على كعب، إلا إذا كان يعلم حاله، ويسمع كلامه، واطلع على سريرته فعلم كذبه في أقواله.   (1) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، برقم (2607) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وهذه الحالة من اليقين تتفاوت درجات الناس فيها، بتفاوت علمهم بعظيم شأن الله سبحانه وتعالى- وإحاطة علمه بكل شيء، ويقوي ذلك عند المسلم كثرة قراءة القرآن بتدبر وتفكر، خاصة الآيات التي يذكر فيها أسماء الله وصفاته وقدرته على كل شيء، وإحاطته بكل شيء، مثل قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [المجادلة: 7] . وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] ، كما يقوي ذلك: النظر في السيرة النبوية العطرة، ومعرفة أحوال النبي مع ربه، وأحوال الصحابة، مثل الحديث الذي معنا، ويجب على كل مسلم أن يراجع نفسه في مسألة اليقين ليعلم أين هو منها، فينظر مثلا في صدقه، وفي إخلاص نيته لله، وفي مراقبته لله- عز وجل- إذا كان خاليا، فكلما تمكن اليقين من قلبه، كلما كان صادقا مع الله ومع نفسه ومع الناس، صدق في القول، وفي الوعد، ولا يخون العهد، يراعي الله- عز وجل- في أهله وولده وعمله، وكلما ضعف اليقين زاد التفريط. 7- نأخذ من الحديث أيضا يقينه باتصال النبي الدائم بالله- عز وجل- وأن الوحي عنه لا ينقطع في كل الأمور كبيرها وصغيرها، وأن هذا الأمر قد رباهم على الصدق والخوف من الله- عز وجل- وذلك من قول كعب: (ليوشكن الله أن يسخطك علي) ، ولن يكون السخط إلا بوحي وإعلام من الله لرسوله، ولشدة يقينة بذلك ما كذب على الرسول، بل صدقه القول، ونأخذ ذلك أيضا من قول كعب: (إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر) . 8- إجلال كعب للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره، وأنهم كانوا يرون كل أهل الأرض من ملوك ووزراء وكبراء دونه، لقول كعب: (لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج منه بعذر) . 9- نأخذ من الحديث يقينه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئا من الغيب، وأن كل الذي نبأ به من أمور الغيب إنما هو بوحي من الله- عز وجل- أي أنه لم يعلمه ابتداء من عند نفسه، ولا أن الله- عز وجل- أطلعه على كل الغيب دفعة واحدة، فيستوي بذلك علمه مع علم الله- عز وجل- وهذا أشنع وأعظم ما يمكن أن يقال أو يعتقد، وما زال القرآن يربي المسلمين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ذلك، وكذلك السنة، وهو كذلك اعتقاد الصحابة كلهم جميعا، اسمع لقول كعب: (ولئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني) ، أي أني لو كذبت عليك سترضى عني لأنك لا تعلم كذبي، لعدم علمك بالغيب، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم غيبا قد وقع أمره، فكيف يعلم غيبا لم يقع بعد، أو وقع قبل عصره، والغريب أن الصحابة مع تأدبهم الشديد مع مقام النبوة، لم يستح كعب أن يقول هذه المقولة، والتي تصرح أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فهذا ليس تنقيصا من حقه صلى الله عليه وسلم بل رفعا لقدره، لأنه هو الذي علمهم ورباهم، ما يكون لله وحده، لا يشاركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وعجبت لمن يقول: ومن علومك علم اللوح والقلم!!!، فجعل من علوم النبي صلى الله عليه وسلم علم اللوح المحفوظ، وكل ما كتبه القلم، أي أن هذا من علمه وليس كل علمه، والله إن هذا القائل ما أبقى لله شيئا يختص به من علم الغيب، والأعجب والأدهى أنهم يتقربون لله بذلك!!!، أقول لهم: والله ما تزدادون بهذا الكلام إلا بعدا عن الله، وقربا من الشيطان، وأظن أن من اعتقد هذا الكلام قد خرج من حظيرة الإسلام، لأنه كذّب بالكتاب والسنة، وقد كررت هذا الكلام ومثله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب حتى يتبين للناس الحق من الباطل، ويميزوا بين مقام الألوهية، ومقام النبوة، وما ينبغي إثباته للنبي صلى الله عليه وسلم وما لا ينبغي إثباته، وهو ما تفرد به الله وحده، ألا تصدق الله- عز وجل- في قوله: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس: 40] ، واللام هنا للاختصاص، أي: لله وحده الغيب، لا يشاركه في ذلك أحد، أم تكذّب قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] . الفائدة الثانية: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربيته الأمة على العقيدة الصحيحة، والتي منها أن الأمر كله لله، يحكم بما يشاء وكيف شاء، ومتى شاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، وذلك من قوله: «فقم حتى يقضي الله فيك» ، والذي يقضي ويحكم هو الله وحده، فظل قلب كعب متعلقا بالله- عز وجل- يسأله ويرجوه أن يقضي فيه بخير، وإذا تيقن العبد أن الله هو الذي يقضي، فكيف يؤمل في غيره، أو يرجو سواه؟ وهذا ما تعلمناه أيضا من القرآن في قوله تعالى: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] ، وتقديم الخبر (لله) وتأخير المبتدأ (الأمر) يدل على التوكيد والاختصاص، وهذه التربية العظيمة من الرسول لأفراد هذه الأمة، لهي من أعظم ما يمتدح به النبي صلى الله عليه وسلم ويثنى به عليه، أنه عبّد الأمة لله- عز وجل-. الفائدة الثّالثة: فيه تقدير الصحابة لمن شهد بدرا، وأنهم كانوا يرونهم قدوة لهم وأسوة، لقول كعب: (قد ذكروا لي رجلين قد شهدا بدرا، فمضيت حين ذكروهما لي) ، وفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أن الإنسان يتصبر في مصيبته إذا علم أن غيره يشاركه فيها؛ لأن كعبا أراد أن يعود للنبي صلى الله عليه وسلم ويكذب نفسه، إلا أنه مضى لما علم أن مرارة بن الربيع وهلال بن أمية قد قال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما قال له. ويجب التنبيه إلى أن هذا التصبر الذي يجده الإنسان عندما يرى غيره يشاركه المصيبة في الدنيا، لن يكون في جهنم- أعاذنا الله منها- لقوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 39] . فلن يتسلى الكافر في جهنم إذا رأى غيره يعذب معه، ولن يخفف من عذابه رؤيته امتلاء النار بغيره، أو رؤيته من فوقه في العذاب. وسبحان من لم ينس أن يذكر تلك الحالة النفسية التي سيكون عليها أهل النار والعياذ بالله، ويجب أن نحمده أنه بيّن كل شيء، حتى نكون على بينة من أمرنا. الفائدة الرّابعة: في الحديث ما كان من طاعة الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته أمره، ويتبين ذلك من: 1- اجتناب الناس للثلاثة الذين خلفوا، طاعة لأمر رسول الله، لقول كعب: (فاجتنبنا الناس) ، وقوله: (وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد) . حتى ابن عمه أحب الناس إليه، أبي قتادة، لم يرد عليه السلام، وناشده مرة ومرتين، ألست تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فقال له في المرة الأخيرة: الله ورسوله أعلم، ولم يزد بكلمة. وهل إذا رد قتادة على كعب سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟! ولكنها التربية التي رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم على اليقين بأن الله يراهم ومطلع عليهم، فكانت طاعتهم لله ورسوله في السر والعلن، وفي المنشط والمكره. 2- لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا أن يعتزلوا نساءهم. ولا يقربوهن، استفسر كعب أولا عن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم بالاعتزال، هل يعني الطلاق؟ مخافة أن يكون قصده الطلاق، فلا يبادر به ويتأخر عن الطاعة، فلما علم أنه الاعتزال فقط، أمر امرأته أن تلحق بأهلها. 3- في الحديث عظيم أسف وحزن الصحابة على ما يقع منهم من معصية الله ورسوله، يظهر ذلك من قول كعب: (أما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان) ، وانظر ماذا قالت امرأة هلال بن أمية للرسول صلى الله عليه وسلم: (والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا) ، أي حزن هذا الذي يجعل صاحبه يبكي خمسين ليلة! لا يرقأ له دمع، ونحن في المعاصي ليلنا ونهارنا، لا أقول: لا نبكي ولا نأسف، بل أقول: لا يتغير لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وجه، ولا يحزن لنا قلب، ولا نلقي بالا بما نفعل، بل نشعر أننا أعبد خلق الله وأتقاهم له! أين الحزن والبكاء؟! أين الإنابة والتوبة؟! أين الخشية والرهبة؟! أأمنا مكر الله إلى هذا الحد؟! أفلا نتوب إلى الله ونستغفره، ونحدث بعد الذنب توبة. نرجو رحمة الله ونخشى عقابه، ونستذكر دائما قوله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: 4] . الفائدة الخامسة: وهي فائدة جليلة، تتلخص في أهمية الرأي العام في المجتمع المسلم، وتأثيره على أهل المعاصي، وأن هذا أبلغ بكثير من إيداعهم السجن، الذي يخرج المجرمين وأصحاب السوابق، ويعلّم كل رذيلة، انظر ماذا فعل الرسول بكعب وصاحبيه، حبس الناس كلهم عنهم فكانوا بحق في سجن كبير، لا يكلمهم أحد ولا يلقي السلام عليهم أحد، لم يقاطعوهم فقط بل تغيروا لهم، يقول كعب: (فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا) ، وانظر أثر ذلك في نفس كعب قال: (حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف) ، ولما أعرض عنه أحب الناس إليه، ماذا فعل؟ يقول: (ففاضت عيناي) ، أرأيت أثر الرأي العام في المجتمع النبوي، وأؤكد أنه ما استشرى الظلم ولا كثرت الفواحش، ولا عم الفساد، إلا بسبب أن وجوه المسلمين لا تتغير لأهل المعاصي، ولو تغيرت لتغير حالنا إلى أحسن حال، وهذا مطلوب منا شرعا، وفي الحديث أيضا مشروعية عدم إلقاء السلام على أهل المعاصي، على تفصيل عند العلماء. الفائدة السّادسة: في الحديث ما عليه الكفار من الحرص على إضلال المسلمين، وتحين كل فرصة لذلك، حتى لو اصطادوا في الماء العكر، ويجب علينا ألاننخدع بقولهم المعسول، فنكون قد كذبنا الله وصدقناهم، فالله يقول: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 11] . فماذا يدفع ملكا من ملوك الأرض أن يكتب إلى أحد من المسلمين في ظروف كهذه؟ يذكره بما يلاقيه من جفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهوانه على الناس، ورغبة الملك في اللحاق به فقال له: (فالحق بنا نواسك) ، وما أشبه الليلة بالبارحة، يذهبون لفقراء المسلمين، يغرونهم بالمال في المجاعات ليرتدوا عن إسلامهم، ويمنحون أوائل الطلاب والنوابغ منهم في العلم، المنح الدراسية المجانية، فيذهب أولاد المسلمين إليهم في عقر دارهم، في سن مبكرة، يتشربون منهم عاداتهم ويأخذون عنهم تقاليدهم، ويرجعون إلى أهليهم بأسوأ حال- إلا من رحم الله- والعجيب أن بعض تلك المنح تفرض على الفتاة المسلمة أن تنزل ضيفة على أسرة غير مسلمة، بحجة أن تتعلم اللغة الأجنبية، وكثير منهم لا يعودون إلى بلادهم بعد انتهاء دراستهم، فهي بحق محن وليست منحا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ويكون نبوغهم نقمة بعد أن كان نعمة. الفائدة السّابعة: في الحديث ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من حب لله ورسوله، يتبين ذلك من خروج كعب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم عليه، ويتمنى في نفسه أن يحرك الرسول شفتيه تحريكا فقط برد السلام، بل ينظر إليه في خفية حبا لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كعب: (فأسارقه النظر) ، ويفعل ذلك كعب وهو في الصلاة، كل ذلك لحبه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الناس أن يعتزلوه، فلا يردوا عليه حتى السلام، هل تغير قلب كعب من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا والله، بل يذهب إلى ابن عمه فيسأله: (هل تعلمني أحب الله ورسوله؟) ، لم يسأله عن إيمانه أو طاعته لله ورسوله، بل سأله عن ما هو أعظم وأخص من الإيمان والطاعة، ألا وهو الحب، يريد من ابن عمه كلمة يطمئن بها على ما هو عليه من الحب لله ورسوله، هذا هو الفارق بيننا وبين الصحابة. الفائدة الثّامنة: الثبات على العزيمة والرشد، في أشد الظروف وأحلكها، فهذا ملك غسان يرسل- بنفسه- كتابا إلى كعب، يذكره بما هو فيه ويغريه بما يمكن أن يكون فيه، في وقت قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فماذا فعل كعب؟، هل شاور نفسه؟ هل فكر في أمره؟ انظروا ماذا فعل في كتاب ملك غسان، لقد حرقه لتوه، لماذا؟ حتى لا تسول له نفسه أن يقرأه مرة أخرى، فيدخل عليه الشيطان ويزين له ما فيه، ونتعلم من ذلك أننا يجب أن نتخلص من كل شيء قد يجرنا إلى معصية الله ورسوله، بإتلافه أو إحراقه، فهذا من العزيمة الصادقة، وحسن التوبة إلى الله، بل من شروط صحة التوبة، وأتعجب من الذين يحتفظون بأشياء كالصور والمذكرات، التي فيها ما لا يرضي الله ورسوله، بحجة أنها من الذكرى أو الذكريات، أقول لهم: هذا من تلبيس إبليس، أفلا يكون لكم في كعب أسوة وعبرة؟!. الفائدة التّاسعة: في الحديث بيان ما يصيب المؤمن من فرح وسرور من توبة الله عليه، يتبين ذلك مما يلي: 1- سجود كعب بن مالك شكرا لله لما سمع صوت الصارخ من أعلى الجبل يبشره، وفي ذلك مشروعية سجود الشكر عند نزول النعم، وكذا عند رفع النقم. 2- سمى كعب التوبة فرجا قال: (وعرفت أن قد جاء الفرج) . 3- إهداء كعب بن مالك ثوبيه، الذي لا يملك غيرهما، للذي بشره، واستعار ثوبين غيرهما يخرج بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 4- تصدق كعب بن مالك بكل ماله- إلا سهمه بخيبر- تعبيرا عن فرحه بتوبة الله عليه، وشكره على ذلك وكان يريد ابتداء أن يتصدق بكل ماله، لولا مراجعة الرسول له. هذا الذي يجب أن يفعله العبد، إذا تاب الله عليه، الصدقة والهدية والسجود شكرا لله، وما فعل كعب كل ذلك، إلا لعلمه بشؤم المعصية، وتضرره بها في الدنيا والآخرة، فكان فرحه بالتوبة، يوازي غمه بالمعصية، وقرب النبي ذلك المعنى لكعب ليشعر بعظيم فضل الله عليه، بقوله: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» ، يسأل سائل: علم كعب توبة الله عليه بنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نحن فقد انقطع الوحي فكيف نعرف ذلك؟. أقول باختصار: علامات قبول توبة الله عليك تعرفها من نفسك، وما صرت إليه بعد التوبة، فإذا تركت أصحاب السوء الذين يأمرونك بمعصية الله، وتركت المكان الذي عصيت الله فيه، وكرهت أن تتكلم عن هذه المعصية أو يذكرك بها أحد، وإذا أقبلت على طاعة الله، وشعرت في قلبك بفرح ترك المعاصي، والإقبال على الله، رجوت قبول الله توبتك، وعليك أن تفرح بها بأن تتصدق وتسجد لله شكرا كما فعل كعب رضي الله عنه. الفائدة العاشرة: على جماعة المسلمين أن يفرحوا بتوبة أخيهم المسلم، ورجوعه إلى حظيرة الطاعة، كما رأينا ذلك جليّا في موقف الصحابة من كعب رضي الله عنهم أجمعين ويتبين ذلك من: 1- مسارعة الصحابة لإعلام كعب بتوبة الله عليه، حتى إن المبشر وقف على أعلى الجبل ينادي بأعلى صوته: (يا كعب بن مالك أبشر) ، ومن شدة فرحته، ما استطاع الانتظار إلى أن يقترب من كعب، فناداه قبل أن يلقاه. 2- ذهاب الصحابة أفواجا، يهنئون كعبا وصاحبيه رضي الله عنهم، حتى إن طلحة بن عبيد الله لما رأى كعبا يدخل المسجد هرول إليه، ولم ينتظر مقدم كعب إليه، ويستفاد منه: جواز القيام إكراما لأصحاب الفضل والخير، خاصة في مناسبات الخير، والممنوع شرعا: أن نقف لمن يحب ذلك، ويطلبه من الناس، أو أن يعتاد الناس أن يقفوا لأحد الكبراء كلما دخل وخرج في المجلس الواحد. 3- سرور الرسول البالغ بتوبة الله على عبده، حتى استنار وجهه كأنه قطعة قمر. 4- هذا الفرح الواضح من جماعة الصحابة بتوبة الله على كعب وصاحبيه، إنما يدلنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 على أن تغير وجوههم لهم قبل التوبة، إنما كان لله- عز وجل- ولم يكن لشيء في قلوبهم، كحسدهم على بقائهم في المدينة، أو لأنهم لم يعانوا مما عانى منه بقية الصحابة، من مكابدة الحر، ومشقة السفر، ويجب علينا جميعا أن نتنبه لذلك، وأن نتأكد من أنفسنا لماذا نبغض فلانا؟ هل هذا البغض لمعصيته؟، أم أنها كانت فرصة لإخراج ما في القلب من الغل والحسد؟. وإذا سأل سائل: كيف أتأكد أني أبغض فلانا لله، وليس لحقد في قلبي؟ أقول له: إذا بذلت ما في وسعك لنصحه، وحزنت لحاله، ودعوت الله له في ظهر الغيب أن يهديه ويتوب عليه، ولم تفضحه بين الناس، بأن تقول- مثلا- لكل من تراه: هدى الله فلانا فإنه على خطر، تريد فقط أن تشنع به، إذا فعلت ما ذكر، فيرجى لك أن يكون غضبك لله. الفائدة الحادية عشرة: تعظيم الصحابة لما ينزل من عند الله، ثم ما يكون من عند النبي، علمنا ذلك من قول كعب- لما بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة-: (أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» ، فسؤال كعب عن مصدر التوبة- وهو في تلك الحالة- يدل على أنها تختلف عنده، كونها من عند الله أم من عند رسول الله، ولذلك أجابه رسول الله، ليجعل فرحه أكبر وأكبر، قال: «بل من عند الله» ولو كان الأمر لا يختلف في الشرع، لقال النبي صلى الله عليه وسلم موجها ومعلما له: (من عند الله مثل من عند رسول الله) ، أو قال له: (الأمر سواء) ، وهذا الذي جعل عائشة رضي الله عنها تستعظم أن تنزل براءتها بقرآن من عند الله، ولكن يجب التنبيه إلى أن الصحابة مع تعظيمهم لما ينزل من عند الله، ما كانوا يفرقون بين أمر الله وأمر الرسول، في الأمر والنهي، وكل أمور الشرع لأن طاعتهم لرسول الله إنما هي بأمر الله- عز وجل- ووحيه، قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور: 54] ، وقال- سبحانه وتعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الحشر: 7] . الفائدة الثّانية عشرة: من الحكمة أن يتعلم المسلم، ويأخذ العبر والدروس من كل محنة تصيبه، أو نازلة تحيط به، حتى لا يخرج من المحن والابتلاآت صفر اليدين، لم يتعلم شيئا، فهذا كعب لما رأى أن الصدق قد نجاه وصاحبيه، وأن الكذب قد أهلك من عداهم، بل نزل فيهم قرآن يفضحهم، أقول: لما رأى ذلك عزم ألايكذب طيلة حياته، وجعل صدقه داخلا في توبته، قال كعب: (إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألاأحدث إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 صدقا ما بقيت) . وأظن أنه جعل الصدق جزآ من توبته، وذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يتجرأ على الكذب أبدا، فكأنما عاهد الله ورسوله على ذلك. الفائدة الثّالثة عشرة: في الحديث ما يجب أن يكون عليه المسلم، من الدعاء لله والتضرع إليه بأن يثبته على الحق، وينجيه من المعاصي والآثام، وألا يركن إلى سبقه للإسلام، أو الصحبة التي هي أعظم الأعمال الصالحة، انظر إلى كعب رضي الله عنه مع ما ثبت عليه من الصدق، منذ أن عاهد الله- عز وجل- عليه، وعلم من نفسه الثبات عليه، وأبلغنا بذلك صريحا في الحديث، إلا أنه لما تكلم عن الصدق فيما يستقبل من الأمور، يقول بصيغة دعاء المفتقر إلى الله: (وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت) ، وهكذا يجب أن يكون سلوك كل مؤمن، في كل أموره الدينية والحياتية. الفائدة الرّابعة عشرة: على الشيوخ وأهل العلم، أن يبينوا مراد الله ورسوله من القرآن والسنة أبلغ بيان يزيل اللبس والاشتباه الذي قد يقع للناس، خاصة العوام، وألا يظن الشيوخ أن العوام سيفهمون الآيات مثل فهمهم، والدليل من الحديث، أن البعض قد يعتقد أن معنى أَخْلَفُوا في الآية. أي: تخلفوا عن رسول الله في الغزو، ولما كان هذا المعنى خطأ وقد يتبادر إلى ذهن قارئ القرآن، فقد بيّن كعب أن المقصود بالتخليف إرجاؤهم حتى يقضي الله فيهم أمرا، وقد علمنا الله- عز وجل- دفع الاشتباه والالتباس، ومن أمثلة ذلك في القرآن: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] ، فقد يظن ظان أن إلحاق الذرية بالأب، قد يكون بأخذ بعض الأعمال الصالحة من الأب لرفع درجات الذرية لتلحق بأبيها، فأزالت الآية هذا الاشتباه، أنه لن ينقص من الأب أي عمل صالح، وإنما سيكون الإلحاق تفضلا من الله- عز وجل- وسيلحق الأدنى بالأعلى. ومن السنة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «1» . الفائدة الخامسة عشرة: في الحديث حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في الغزو وغيره، يبين ذلك قول كعب: (ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورّى بغيرها) ، وقوله: (فجلّى للمسلمين أمرهم   (1) مسلم، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة ... ، برقم (2674) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد) ، وتظهر حكمته في أنه في كل غزوة يوري بغيرها ولا يعلم أحدا وجهته، فلا يعطي للعدو فرصة أن يتأهب ويستعد لملاقاته، ومن ثمّ يفوّت، على العدو هذه الميزة. وتظهر حكمته صلى الله عليه وسلم أيضا، في غزوة تبوك حيث أعلم الصحابة وجهته، ليأخذوا استعدادهم من كل وجه، لأن الغزو بعيد، والعدو كثير العدد والعدة. فكان من عظيم حكمته أن يعلمهم، ومن هنا تخلف الكثير من غير أولي الأعذار، ونتعلم من هذا الدرس النبوي، أنه ليس هناك قواعد ثابتة، يمكن أن نطبقها في جميع الأحوال، ومع جميع الناس، ولكن الحكمة أن نضع الأمور في نصابها، ونوازن بين مضار كل أمر وفوائده ونرجح بين الكفتين، فأيهما غلب حكمنا به، فالرسول صلى الله عليه وسلم وازن في كل غزوة بين مصالح التوراة بغزوة أخرى، ومضار التصريح، فترجح له مصالح التوراة على مضارها، أما في غزوة تبوك فترجح له صلى الله عليه وسلم مصالح التصريح على مضاره، وهكذا في كل الأمور. ونجد في الحديث مثالا آخر، وهو أن المعتاد من النبي خاصة مع أصحابه تقديم الرحمة لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ، والأمثلة على ذلك كثيرة في السنة، وقد ذكرت شيئا منها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، ولكن في الحديث الذي بين أيدينا، نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب الشدة مع كعب وصاحبيه، فقد نهى الناس عن كلامهم، ورد السلام عليهم، وزاد الأمر أن أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، ويستمر الأمر على هذا خمسين ليلة، يتعرضون للبلاء والامتحان، بل الفتنة في الدين، كخطاب ملك غسان لكعب، بالإضافة إلى اعتزال أهله، وهو في حال الشباب والقوة، وكل ذلك يدلنا على أنه ليس من الحكمة استعمال اللين وتقديم جانب الرحمة بصفة مستمرة، ولا تقديم جانب الشدة دائما، لكن الحكمة أن يكون لكل مقام مقال، ووزن الأمور بميزان دقيق، ووزن المصالح والمفاسد، وذلك بلا هوى، أو محاباة، أو مصالح شخصية. الفائدة السّادسة عشرة: نختم التعليق على هذا الحديث بفائدة عظيمة، وهي أننا يجب أن نربي أنفسنا على الإيمان بالله- عز وجل- وحسن الثقة به، والتوكل عليه، وتعظيم كل أوامر الدين والعمل بها، وذلك حتى نستطيع أن نخرج من المحن والابتلاآت، دون أن يتزعزع إيماننا أو يضعف يقيننا، وهذا ما حدث مع كعب، فقد تعرض للعديد من أنواع المحن، وخرج منها كلها أفضل حالا وثباتا ويقينا مما دخل، وذلك لأن عنده رصيدا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الإيمان أهّله لذلك، أرأيت إلى المرأة المسلمة تظهر حب الله ورسوله، تصوم النفل وتصلي الليل، حتى إذا مات لها حبيب، قالت ما لا يحبه الله ورسوله، وشقت الجيوب، ولطمت الخدود، وخسرت الكثير من دينها، وكذلك الرجل، يكون حاله أحسن حال، فإذا تعرض لضيق اليد من بعد سعة، يمد يده للرشوة أو للسرقة، ويبرر ذلك لنفسه، يسقط من أول اختبار وهكذا، فعلى المسلم أن يربي نفسه، ويسأل الله- عز وجل- الثبات في الأمر، فهو لا يعلم ما سيواجه من امتحان واختبار، وهو واقع لا محالة لقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] . 2- جمال فمه صلى الله عليه وسلم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الطويل الذي قيل فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق زوجاته، وفيه: ( قلت: يا رسول الله إنّي دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنّك لم تطلّقهنّ؟ قال: «نعم إن شئت» . فلم أزل أحدّثه حتّى تحسّر الغضب عن وجهه، وحتّى كشر فضحك، وكان من أحسن النّاس ثغرا) «1» . الشّاهد في الحديث: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وحتى كشر فضحك وكان من أحسن الناس ثغرا) ، ومعنى: (وحتى كشر فضحك) ، أي: أبدى أسنانه. فكان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس ثغرا (أي فما) ، ومن لوازم جمال الفم، جمال الشفتين والأسنان، فبهما يكتمل جمال الفم، كما أن أي عيب بهما يؤثر على جمال الفم، وعلمنا أيضا أن جمال فمه صلى الله عليه وسلم كان ملاحظا حتى في حال ضحكه، بل أظن أنه كان يتلألأ جمالا أكثر في حال ضحكه، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر جمال الثغر بمناسبة ذكر ضحكه صلى الله عليه وسلم فقال: (فضحك وكان من أحسن الناس ثغرا) . فإن قال قائل: لماذا ذكرت في كتابك جمال وجه النبي صلى الله عليه وسلم وجمال فمه، وطيب عرقه وبرودة كفيه، وجعلت جماله من الشمائل النبوية، فماذا سنستفيد منها؟ قلت: معرفة جميع ما يخص النبيّ صلى الله عليه وسلم هو من الدين، ومن العلم النافع، ولولا ذلك ما ذكرها الصحابة ولما تناقلوها وحفظوها بكل هذا التفصيل، ولما ذكرها أصحاب الصحاح   (1) مسلم، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزال النساء برقم (1479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 في كتبهم وبوّبوا لها فصولا وأبوابا، وتناولها العلماء بالشرح والبيان. أما الفائدة التي تعود على المسلم من معرفتها ، فأقول: إننا نتقرب إلى الله- عز وجل- بحب النبي صلى الله عليه وسلم ومما يساعد على حبه، معرفة كل شمائله الخلقية والخلقية، لأن الإنسان لا يحب أحدا إلا إذا كان يعرفه تمام المعرفة، ثم إن معرفة الجمال الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم يساعد على حبه من جهتين: الجهة الأولى: أن الإنسان بطبعه يحب من اتصف بالحسن والجمال. الجهة الثانية: محبته أكثر إذا علمنا أن الله- عز وجل- هو الذي حباه بهذا الجمال، وهو دليل على حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: كم من الذين يبغضهم الله- سبحانه وتعالى- قد حباهم بجمال عجيب، فهل هذا دليل على أنه يحبهم؟ قلت: جمال النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا عن حب من الله عز وجل- له، والأدلة على ذلك متوافرة: 1- كان جماله صلى الله عليه وسلم مقرونا بالإجلال والإكبار، لقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: (وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت) «1» . 2- استمرار هذا الجمال معه إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم والمعروف أن الناس، خاصة أهل الكفر والشقاق، يذهب عنهم جمالهم بكبر سنهم وطول أعمارهم، خاصة عند الوفاة، وقد مر قريبا ما ورد في الصحيحين من حديث أنس قال رضي الله عنه واصفا وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته: (كأن وجهه ورقة مصحف) . 3- اقترن جماله صلى الله عليه وسلم بأمور أخرى زادته جمالا على جماله، وحسنا على حسنه ولم يشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصفات أحد من الناس أبدا، فعلمنا أن هذه الصفات لا تكون إلا من الله- عز وجل- بل هي من علامات نبوته التي أيده الله- سبحانه وتعالى- بها وأقصد بهذه الصفات جمال عرقه، ورائحة جسده الزكية، وليونة كفيه صلى الله عليه وسلم حتى إنهما كانتا ألين من الحرير والديباج. وأقول: إن اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات الجسمانية هي من أعظم دلائل نبوته؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- بمقتضى عدله وحكمته، لم يكن ليمنحها لأحد يدعي- حاشا لله- أنه نبي، فتكون هذه الصفات فتنة للناس، وحجة لهم على الله، فيقولون في   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله ... ، برقم (121) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 حجتهم: إننا ما اتبعناه وصدقناه وآمنا به إلا بعد رؤيتنا ما خصه الله من الصفات التي لم ينازعه فيها أحد أبدا. وأضيف أن اختصاص الله- سبحانه وتعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الخصال الجميلة، لا تدل فحسب على حب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكن تدل أيضا على حب الله- عز وجل- لهذه الأمة؛ لأن المعجزات الحسية والمعنوية، التي كانت في شخص النبي أو تحققت على يده صلى الله عليه وسلم تقوي إيمان العبد وتزيد حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- جمال صوته وحسنه صلى الله عليه وسلم: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتّين والزّيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه) «1» . كما جمل الله كل شيء في النبي صلى الله عليه وسلم- كما ذكرت ذلك في عدة مواضع من الكتاب- فقد جمّل له صوته، فما كان أحد من الصحابة أحسن صوتا منه، كما قال البراء بن عازب في حديث الباب، ولا تكتمل أبدا منظومة الجمال إلا بحسن الصوت، فإنك لو رأيت رجلا جميلا في كل شيء، إلا أن صوته مزعج أو نشاز، فإنك ستذهل عن جماله لقبح صوته، وتتمنى لو سكت عن الكلام. وأعتقد أن حسن صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان منّة من الله عليه وعلى أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يقرأ عليهم القرآن في المجالس تعليما وتلقينا، ويتلوه عليهم في الصلوات ويطول في القراءة جدا، فبقدر ما يكون معلم الناس القرآن جميل الصوت بقدر ما يأخذ بألباب الناس وعقولهم. كما يؤخذ من الحديث أيضا حرص الصحابة رضي الله عنهم على مراقبة كل ما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وإبلاغه للأمة من بعدهم حتى صوته صلى الله عليه وسلم فجزاهم الله عنا خيرا. 4- ضحكه صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1- 3] ،   (1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: القراءة في العشاء، برقم (769) ، مسلم، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، برقم (464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ثمّ قال: أتدرون ما الكوثر؟» فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنّه نهر وعدنيه ربّي- عز وجل- عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمّتي يوم القيامة آنيته عدد النّجوم، فيختلج العبد منهم. فأقول: ربّ إنّه من أمّتي. فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك» . الشّاهد في الحديث: قول أنس رضي الله عنه: (ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله) . وقد بوبت للضحك بابا لأبين أمرين: الأول: أن الضحك لا يتنافى مع تقوى الإنسان وخوفه من ربه- سبحانه وتعالى- بل هو من نعم الله على عباده، قال تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى [النجم: 43] . الثاني: أن جلّ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كان تبسّما، وكان نادرا ما يضحك حتى تبدو نواجذه، وهي سمة الأنبياء، ألم تر ماذا فعل سليمان عليه السّلام، لما سمع قول النملة؟!، ما زاد على التبسم، قال تعالى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19] . قال الشيخ السعدي رحمه الله كلاما جميلا ونفيسا أنقله بالنص: (تبسم سليمان عليه السّلام إعجابا منه بفصاحتها ونصحها وحسن تعبيرها وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل والتعجب في موضعه وألايبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جل ضحكه التبسم، فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب، وعدم التبسم والعجب مما يتعجّب منه يدل على شراسة الخلق والجبروت، والرسل منزهون عن ذلك) «1» . وسيأتي الكلام مبسوطا- إن شاء الله- عن بقية الحديث في باب [الكوثر] . 5- قوته البدنية صلى الله عليه وسلم: عن جابر رضي الله عنه قال: (إنّا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية «2» شديدة، فجاؤا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: «أنا نازل» ، ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقا، فأخذ النّبيّ صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل أو   (1) تيسير الكريم الرحمن (603) . (2) كدية: قطعة غليظة صلبة من الأرض لا يعمل فيها الفأس، الكثيب: تل من الرمل، الأثافي: الأحجار التي يكون عليها القدر، تضاغطوا: تزاحموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أهيم. فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير، وعناق فذبحت العناق وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئت النّبيّ صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج. فقلت: طعيّم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: «كم هو؟» فذكرت له. قال: «كثير طيّب» . قال: «قل لها: لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التّنّور حتّى آتي» . فقال: «قوموا» ، فقام المهاجرون والأنصار، فلمّا دخل على امرأته قال: ويحك جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» ، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللّحم، ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه، ويقرّب إلى أصحابه ثمّ ينزع، فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتّى شبعوا، وبقي بقيّة. قال: «كلي هذا، وأهدي فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة» «1» . الشّاهد في الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم عند قيامهم بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، عجزوا عن كسر وتفتيت قطعة صلبة من الأرض حيث إن الفأس لا يؤثر فيها لشدتها، فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم يستنجدون به من المأزق الذي وقعوا فيه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الفأس وضرب الصخرة، فتحولت إلى تل من الرمال، مع العلم بأن النبي لبث ثلاثة أيام لا يذوق طعاما، مما يجعله في أشد حالات الضعف، ومما يدل على قوته صلى الله عليه وسلم وكمال رجولته، ما روى أنس بن مالك قال: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدور «2» على نسائه في السّاعة الواحدة من اللّيل والنّهار وهنّ إحدى عشرة. قال: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟! قال: كنّا نتحدّث أنّه أعطي قوّة ثلاثين) «3» . وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم العالية، ويظهر ذلك في كونه لم يؤثر نفسه بطعام ولا بشراب مخصوص، دون بقية العسكر- مع أنه القائد- بل ربط الحجر على بطنه، ثلاثة أيام من الجوع، وما امتنع عن العمل وهو القائد لجوعه الشديد، بل اشترك معهم في العمل،   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب برقم (4101) . (2) يدور على نسائه: يجامعهن. (3) البخاري، كتاب: الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد ... ، برقم (268) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وأي عمل، العمل الذي عجزوا عنه جميعا، وكان يشجعهم ويدعو لهم وهم ينقلون التراب عند حفر الخندق، كما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: كانت الأنصار يوم الخندق تقول: نحن الّذين بايعوا محمّدا على الجهاد ما حيينا أبدا، فأجابهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهمّ لا عيش إلّا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجره» «1» . وهذه هي الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها كل قائد. والذي يؤكد ذلك من الحديث أن جابرا لما صنع طعاما، ودعا النبي ومعه رجل أو رجلان، صاح الرسول بنفسه على أهل الخندق، ودعاهم إلى مشاركته في الطعام، وما هو الطعام الذي يكفي هذا الجيش؟ إنها عناق وشعير، ترى ماذا يغني هذا، ولكنها بركته صلى الله عليه وسلم وأمثلة إيثاره وبركته كثيرة في السنة، ذكرت طرفا منها في باب تكثير الطعام والشراب. الفائدة الثانية: أدب الصحابة مع النبي، وامتثالهم لأمر الله- عز وجل- في قوله: وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] ، فإن جابرا أراد أن يذهب ليصنع للرسول طعاما، لا لحاجة لنفسه، ومع ذلك استأذن قبل الذهاب. الفائدة الثّالثة: حرص الصحابة على متابعة أحوال النبي، والاهتمام به، إذ لاحظ جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى طعام وهذا يدلك على بشرية النبي، وأنه يشعر بالجوع كبقية البشر، ولكنه يتحلى بالصبر والجلد والمثابرة، ويتحمل ما لا يتحمله غيره. الفائدة الرّابعة: حرص الصحابة على حسن ضيافة النبي وإدخال السرور عليه، إذ بادرت زوجة جابر على ذبح العناق، والسياق يشعر أنه ما كان عندها غيره إذ قالت: (عندي شعير وعناق) ، وهذا العمل ليس بالأمر السهل، إذ إن الله- عز وجل- قد أثنى على إبراهيم عليه السّلام، وعلى حسن ضيافته لأضيافه في موضعين من القرآن الكريم، قال تعالى في أحد الموضعين: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26] ، وهذا هو الذي فعلته زوجة جابر، فانظروا إلى تربية القرآن الكريم وكيف أنهم عملوا بما علموا. والغريب أن جابرا كان يريد أن يؤثر النبي بالعناق فلا يشاركه فيها أحد حيث قال له: (فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان) ، حتى امرأته كانت تتمنى أن يأكل النبي حتى   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أصلح الأنصار والمهاجرة، برقم (3795) . ومسلم كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق برقم (1804) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 يشبع، ولا يشاركه أحد، ولما علمت أن أهل الخندق قد دعوا كلهم جميعا غضبت من زوجها، وظنت أنه لم يخبر النبي بقلة الطعام. الفائدة الخامسة: بركة بصق النبي في الطعام وبركة دعائه، مع أن البصق يتعففه الناس، ولكن الصحابة لم يكونوا يتعففون من شيء يخص النبي؛ لعلمهم ببركته حتى النخامة. 6- نسيانه صلى الله عليه وسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد. فقال: «رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهنّ من سورة كذا وكذا» ، وزاد عبّاد بن عبد الله عن عائشة: (تهجّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عبّاد يصلّي في المسجد. فقال: «يا عائشة أصوت عبّاد هذا؟» قلت: نعم. قال: «اللهمّ ارحم عبّادا» «1» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا» . وقد أردت بهذا الباب إثبات (نسيانه صلى الله عليه وسلم) ؛ لبيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتريه ما يعتري البشر، من صفات النقص البشري، وهو النسيان، وأن هذا ليس عيبا فيه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يؤثر على تبليغه شرع الله- سبحانه وتعالى- وأنه صلى الله عليه وسلم يشارك البشر في كل صفات البشرية، إلا ما ورد الدليل على اختصاصه بعكس تلك الصفة، مثل: رؤيته من خلف ظهره، وعدم نوم قلبه، وغير ذلك مما ورد في مواضع كثيرة متفرقة في هذا الكتاب وغيره، وليس هذا هو الموضع الوحيد الذي ثبت فيه نسيانه صلى الله عليه وسلم بل هناك مواضع أخرى، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة، يؤم الناس ثم تذكر أنه جنب، فدخل فاغتسل وانتظره الصحابة على هيئتهم- أي وقوفا- قد اعتدلت صفوفهم حتى خرج إليهم صلى الله عليه وسلم بعد ما اغتسل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وقد أقيمت الصّلاة، وعدّلت الصّفوف حتّى إذا قام في مصلّاه انتظرنا أن يكبّر انصرف قال: على مكانكم، فمكثنا على هيئتنا حتّى خرج إلينا ينطف رأسه ماء، وقد اغتسل) «2» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: جواز نسيان النبي صلى الله عليه وسلم بعض آيات القرآن الكريم، ولكن لا تمحى   (1) البخاري، كتاب: الشهادات، باب: شهادة الأعمى وأمره ونكاحه ... ، برقم (2655) . (2) البخاري، كتاب: الأذان، باب: هل يخرج من المسجد لعلة، برقم (639) ومسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: متى يقوم الناس للصلاة، برقم (605) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 بالكلية من قلبه، ودليله أن الله- سبحانه وتعالى- قد تكفل بحفظ القرآن في قلبه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . ولكن هو النسيان الذي يعتري الحافظ، فإذا ذكّره أحد بالآية ذكرها على الفور، أو قد ينساها في قراءته اليوم، ويتذكرها في قراءته من الغد دون أن يذكره أحد. قال الإمام النووي في شرح مسلم: (فيه دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم فيما قد بلّغه إلى الأمة) ، وقال القاضي عياض: (جمهور المحققين على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم ابتداء فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم ولكن من جوز قال: لا يقرّ عليه بل لا بد أن يتذكره أو يذكّره) «1» ، أي أنه لا بد أن يتذكره بنفسه أو يذكره الله به. الفائدة الثانية: جواز أن يقول المسلم إذا نسي آية من كتاب الله: «أنسيتها» ، لما ورد في إحدى روايات الحديث عند مسلم «كنت أنسيتها» وإنما يكره قول: (نسيتها) ، لأن اللفظ الأخير يشعر بالتقصير والإهمال في مراجعة القرآن الكريم، وآيات القرآن شاهدة على الفارق بين اللفظين، فلما وقع النسيان من قبل فتى موسى من غير تقصير ولا إهمال، قال تعالى على لسان الفتى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 6] ، ولما وقع النسيان من الكافر عن تقصير وإهمال، قال تعالى: قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 12] . الفائدة الثّالثة: الزيادة التي وردت في الحديث من رواية عباد بن عبد الله بن الزبير، وهو تابعي، تدل على أن الصحابي عباد بن بشر، هو الذي ذكرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات التي أسقطهن. الفائدة الرّابعة: ما يعتقده البعض أن الدعاء بالرحمة لا يكون إلا للميت هو اعتقاد خاطئ، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر بقوله «اللهم ارحم عبادا» ويجب علينا أن نستخدم هذا الدعاء للأحياء كما نستخدمه للأموات سواء بسواء، إحياء للسنة، ولإبطال هذا المفهوم الخاطئ. الفائدة الخامسة: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حب نفع أصحابه ورد الجميل لمن أسدى له معروفا ولو لم يكن يقصد المسدي هذا المعروف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لعبّاد بالرحمة، مع أن عبادا لم يقصد أن يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ببعض الآيات، إنما كان يتهجد في المسجد بتلك الآيات.   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وفيه أيضا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم الأمة، وعدم الاستحياء من الحق، وذلك بإقراره أنه أسقط بعض آيات القرآن الكريم، مع أن أحدا من البشر لم يطلع على هذا الأمر. ثانيا: جوانب من شخصيته صلى الله عليه وسلم: 1- شرف نسبه صلى الله عليه وسلم: بوّب البخاري- رحمه الله تعالى في صحيحه بقوله: (باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان) ، غير أنه لم يذكر حديثا في هذا الأمر. عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» .. إلى آخر الحديث، والاصطفاء هو الاختيار والتفضيل. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: أن الله- سبحانه وتعالى- يصطفي ويختار ويفضل من يشاء من العباد، فيرفع منزلتهم ويعلي ذكرهم، كما فضل ما يشاء من أيام الأسبوع، وما يشاء من ساعات الليل، وأيضا ما يشاء من شهور السنة على بقية الشهور، وهكذا. الفائدة الثانية: أن كنانة وقريشا وبني هاشم هم خير ولد إسماعيل والمصطفون منهم. قال الإمام النووي: (استدل به أصحابنا [الشافعية] على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم، ولا غير بني هاشم كفء لهم إلا بني المطلب، فإنهم هم وبنو هاشم شيء واحد، كما صرح به في الحديث الصحيح) «2» . ويتفرع على ذلك؛ أن نسب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنساب المصطفاة على العالمين، لأن كنانة من ولد إسماعيل، وإسماعيل من ولد إبراهيم، عليهما الصلاة والسلام، والله يقول في   (1) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2276) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 القرآن: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران: 33] . الفائدة الثّالثة: عظيم عناية المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث جعل نسبه خيارا من خيار من خيار من خيار، وكان هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لأن هرقل سأل أبا سفيان رضي الله عنه عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم ليتأكد من صدق نبوته، فلما أخبر بأنه ذو نسب، قال هرقل: (وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها) «1» . 2- إيثاره وجوده صلى الله عليه وسلم: لقد عرف التاريخ الكرم والكرماء وذاع صيت أهل الكرم حتى جاب الآفاق أمثال حاتم الطائي وغيره الكثير من كرماء العرب، لكن كل هذا يعتبر شبه سراب يتلاشى أمام كرم وجود حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما عرف الزمان كرما أفضل من كرمه حتى وصفه بعضهم بأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. الحديث الأول: عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرّيح المرسلة) «2» . الشّاهد في الحديث: قول ابن عباس- رضي الله عنهما-: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- أنه كان أجود الناس على الإطلاق، لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (أجود الناس) ، فعلمنا أن أحدا لم يكن أجود منه. 2- عظيم جوده وبركته، وأنه يعم الناس جميعا، من يتعرض له، ومن لا يتعرض له، لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- وصف الخير الذي يأتي منه، بأكثر من الخير الذي تأتي به الريح المرسلة، والصحابة في زمانهم ومكانهم، ما كانوا يعرفون شيئا أشد خيرا من   (1) البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي برقم (7) ، مسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، برقم (1773) . (2) البخاري، كتاب: بدء الوحي برقم (6) ، مسلم، كتاب: الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، برقم (2308) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الريح، التي تأتي بالماء، رزق السماء، فيحيي به الله الأرض، وبدون الريح التي تأتي بالماء يموت كل شيء، وعلمنا من قول ابن عباس- رضي الله عنهما-: (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) أن جوده أشد خيرا من الريح من كل الوجوه. 3- تنوع عطاء وجود الرسول صلى الله عليه وسلم لقول ابن عباس- رضي الله عنهما-: (أجود بالخير) ولم يحدد أنواع هذا الخير، فعلمنا أنه كان صلى الله عليه وسلم هو الأجود في كل أنواع الخير، فلم يقتصر جوده، على باب واحد من أبواب الخير، ولذلك فضّل جوده عن الريح المرسلة، ولا غرابة في ذلك، فإذا كانت الريح تحيي الأرض الميتة، وتخرج النبات، فإن جوده صلى الله عليه وسلم يحيي القلوب والعقول، وهذا أعظم نفعا من إحياء الأرض. يتفرع على ذلك: أن الخير الذي يمكن أن يبذله المسلم، لا ينحصر في إنفاق المال، وأن الفقير لن يعجز أن يجود بالخير، لأن للخير أبوابا كثيرة، كبذل الجاه في الشفاعة المحمودة والدعاء لعموم المسلمين وخاصتهم، وإعانة الضعيف، وتعليم الناس، وغير ذلك من أوجه الخير الكثيرة. 4- شكر الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، في إنزال القرآن عليه، وإرسال الروح الأمين عليه السلام لمدارسته القرآن، وذلك لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- وضح أن سبب هذا الجود العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يأتيه كل ليلة فيدارسه القرآن، وأظن أن هذا الجود كان من باب شكر المنعم. ويتفرع على ذلك: ألا نلوم أهل الخير، إذا رأيناهم يجودون أكثر في رمضان، ولا نعتب عليهم أنهم لا يجودون بمثله سائر السنة، شريطة ألايمتنع أصل جودهم طول السنة، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يجود طول العام. 5- الخير الذي كان في الأرض طوال مدة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وسبب هذا الخير هو اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السّلام كل ليلة من ليالي رمضان لمدارسة القرآن الكريم. ويتفرع على ذلك أيضا: أن أعظم ما ينبغي الاشتغال به في شهر رمضان المبارك، هو قراءة القرآن العظيم، وما يخدمه من علوم. الحديث الثاني: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي الشّملة. فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها. فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟ فأخذها النّبيّ صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فلبسها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فرآها عليه رجل من الصّحابة، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها. فقال: «نعم» . فلمّا قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه قالوا: ما أحسنت حين رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجا إليها ثمّ سألته إيّاها وقد عرفت أنّه لا يسأل شيئا فيمنعه. فقال: رجوت بركتها حين لبسها النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ أكفّن فيها) «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مع حاجته إلى البردة، كساها لأحد أصحابه بمجرد أن سأله إياها. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- تقشفه صلى الله عليه وسلم مع ما فتح الله عليه من بلاد، ومع ما كان يأتيه من غنائم وأموال كثيرة، حتى إنه يحتاج إلى بردة، تهديها له امرأة، تكون له إزارا، يقول الراوي واصفا حال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها) ، ومما يوضح شدة احتياجه إليها، قول الراوي: (فخرج إلينا وإنها إزاره) ، أي أنه لبسها في نفس المجلس. 2- تواضعه صلى الله عليه وسلم ويتجلى ذلك في قبوله الهدية من امرأة، وإظهاره الاحتياج إليها، وارتدائها في نفس المجلس. 3- إيثاره أصحابه على نفسه، وأن تلك كانت عادته، لقول الراوي: (ثم سألته وعلمت أنه لا يرد) ، أي أن عدم رد السائل كان مسلكه دائما صلى الله عليه وسلم، وتدبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خلعها للسائل بعد أن لبسها. 4- رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بالسائل فيعطيه ولو كان صلى الله عليه وسلم في حاجة لما يعطيه. 5- زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا وعدم خشيته الفقر، ورجاء ما عند الله، وحسن الظن به- سبحانه وتعالى- ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه: (أنّ ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه، فأعطاهم، ثمّ سألوه، فأعطاهم حتّى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم» «2» . كما يتفرع عليه، أن من السّنة، أن يعطي المسلم ويبذل ما عنده، ولو كان فقيرا، لقوله   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء ... ، برقم (6036) . (2) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: الصبر عن محارم الله ... ، برقم (6470) ، مسلم، كتاب: الزكاة، باب: فضل التعفف والصبر، برقم (1053) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] ، وعجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي وهو فقير، والرجل الآن لا يعطي وهو غني، حتى إن الرجل الآن، يبخل أن يرد السائل بالكلمة الطيبة، والله- تبارك وتعالى- يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10] ، وتأمل قول الراوي: (وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه) [وشيئا] ، هنا نكرة جاءت في سياق النفي، فتقتضي العموم، ومعناه لا يسأل عن صغير ولا كبير، يحتاج إليه أو لا يحتاج إليه إلا ويعطيه. الفائدة الثانية: حب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: 1- قامت المرأة بنسج البردة بيديها، ورد في رواية عند البخاري أنها قالت: (نسجتها بيدي) ، ولو كانت هذه صنعتها أو شيئا من عادتها، لما قالت نسجتها بيدي. 2- حضور المرأة بنفسها للرسول صلى الله عليه وسلم لتقدم له البردة، ولم ترسلها مع أحد، وهذا فيه الأدب والحب، فقد ورد أيضا عند البخاري: (فجئت لأكسوكها) . 3- توجيه الصحابة اللوم لمن سأل البردة، وما وجهوا اللوم إلا لأنهم وجدوا في أنفسهم حرجا أن يحرم الرسول صلى الله عليه وسلم من شيء هو في حاجة إليه، وهذا دليل على حبهم له. الفائدة الثّالثة: تعظيم الصحابة لكل ما لامس جسد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث إن السائل رغم حسن البردة وجمالها، ما طلبها ليلبسها، بل طلبها ليكفن بها، ولولا علم الصحابة بجواز ذلك، وأنها يمكن أن تنفعه في قبره لأنكروا عليه، ولو أنهم كانوا يجهلون المسألة أصلا، لسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، قال السائل: (رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفن فيها) ، وعند البخاري: (قال سهل: فكانت كفنه) . وتأمل أخي القارئ، قصر المدة التي لبس النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذه البردة، حتى يرجو السائل بركتها، لكنه علم أن هذه البركة تحدث بأدنى ملامسة من النبي صلى الله عليه وسلم للبردة، أعلمت أخي القارئ مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه- تبارك وتعالى-، أن يجعل في كل ما يلامسه أعظم البركة، وأيضا مكانته صلى الله عليه وسلم عند أصحابه، ويقينهم بذلك. ويتفرع على ذلك: تقديم الصحابة- رضي الله عنهم- أمر الآخرة على أمر الدنيا حيث إن السائل ادخر البردة للقبر والكفن، وفضل ذلك على ارتدائها في الدنيا، مع ملاحظة أن ارتداءها في الدنيا، فيه بركة أيضا، ولكن حاجته إليها في القبر أشد وأظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الفائدة الرّابعة: جواز التعريض، وأن فيه مندوحة عن الكذب، لقول السائل: (فاكسنيها) ، ثم قال لما عتب عليه الصحابة، في رواية عند البخاري: (والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني) ، فجعل السائل الكفن للميت، بمثابة الكساء للحي، ولكن السامع يفهم من قوله: (فاكسنيها) أنه يريد لباسها في الدنيا، ولكن على المسلم أن يحذر التوسع في التعريض؛ لأنه يجر إلى صريح الكذب كما أن السامعين لا يصدقون حديث من يتوسع في التعريض ويتهمونه بالكذب والمسلم يجب أن ينزّه عرضه عن هذا الاتهام الشنيع. الفائدة الخامسة: جواز التصرف في الهدية بإهداء أو بيع أو هبة، أو غير ذلك من التصرفات الجائزة شرعا، وذلك أن الرجل بمجرد قبوله للهدية، فقد امتلكها، ولا يشترط في تصرفه فيها، الرجوع إلى المهدي، وعلى المهدي ألا يجد في نفسه حرجا من تصرف المهدى إليه، ويتفرع عليه خطأ من يقول: الهدية لا تهدى، ودلائل ذلك من السنة كثيرة، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته الهدية قسمها بينه وبين أهل الصّفّة. 3- بذل غاية جهده صلى الله عليه وسلم لشكر الله- عز وجل- عن عائشة رضي الله عنها: (أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من اللّيل حتّى تنفطّر قدماه. فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: «أفلا أحبّ أن أكون عبدا شكورا!» ، فلمّا كثر لحمه صلّى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثمّ ركع) «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الليل حتى تتشقق قدماه وتتورم من طول القيام، ولما سئل عن سبب هذا الاجتهاد، أعلم السائل أنه يفعل ذلك شكرا لله على ما تفضل به عليه صلى الله عليه وسلم. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: جواز الاجتهاد في العبادة، ولو أضرت بالبدن لقول عائشة: (كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه) . الفائدة الثانية: ما كان عليه الصحابة من التفكر في آيات القرآن الكريم والسؤال عن   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، برقم (4837) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 معانيها وكيفية التوفيق بين معاني الآيات وما يخالف ظاهرها، لأن عائشة لما ظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد طلبا لمغفرة ذنبه، وأن هذا يتعارض مع قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، سألت النبي عن أسباب هذا الاجتهاد. الفائدة الثّالثة: حث جميع أفراد الأمة على الاجتهاد في العبادة تأسيا بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم. الفائدة الرّابعة: شكر الله على آلائه وأفضاله يكون باللسان والجوارح، كالصلاة وبقية العبادات والطاعات، قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] . الفائدة الخامسة: فضل مقام العبودية لله حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفة المحمودة، في سياق القيام بشكر الله على نعمة لم يشاركه فيها أحد من الأولين والآخرين، وهي نعمة مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا» ، ولم يقل نبيّا أو رسولا شكورا. الفائدة السّادسة: اعتراف النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما منّ الله به عليه من نعم عظيمة وآلاء جسيمة، إنما هي محض فضل من الله- سبحانه وتعالى- وليس عن استحقاق منه، لأن شكر الآخر يكون مقابل أفضاله التي لا يقابلها استحقاق أو حتى معروف، وهذا منتهى الأدب مع مقام الرب- تبارك وتعالى-. الفائدة السّابعة: اعتراف النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل ما قدمه لدين الله- سبحانه وتعالى- من جهاد ودعوة وصبر وهداية للأمة، لا يوازي نعم الله عليه، فقام الليل وأجهد نفسه وبدنه بالصلاة، حتى أضرها، شكرا لله واعترافا بحقه وفضله، وهذا أيضا نوع آخر من أنواع الأدب النبوي، ويتفرع على ذلك الفائدة التالية. الفائدة الثّامنة: على جميع الأمة، خاصة العلماء وأهل الصلاح والخير، ألا يظنوا أن ما قدموه لدين الله من أعمال، ولو كانت عظيمة، قد أدوا بها شكر المنعم تبارك وتعالى، بل عليهم كلما منّ الله عليهم من نعم في الدين، من توفيق في مجال هداية الناس، وإرشادهم إلى أعمال الخير والبر، أن يستحدثوا عملا يشكرون الله به، وأنه كلما وفقهم الله، كلما شعروا بالتقصير في حق المنعم المتفضل، وليعلم العبد أنه إذا رأى لنفسه فضلا، فقد ضل الطريق ونسي المنعم وعمل لنفسه، وكيف يرى لنفسه فضلا على أعمال قليلة، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فضلا على أعمال عظيمة. الفائدة التّاسعة: على العبد أن يستثمر أوقات نشاطه وقوته وفراغه، في أنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الطاعات المختلفة، قبل أن يحال بينه وبينها بمرض أو شغل أو موت، فالنبي صلى الله عليه وسلم اجتهد غاية الاجتهاد في صلاة الليل، ثم لم يستطع بعد ذلك أن يصلي واقفا، فصلى جالسا، فالمسلم إذا حدث له ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم لن يندم لأنه استغل وقته وقوته في طاعة الله على الوجه الأكمل، وضمن الأجر الكامل في حالة مرضه، كما لو كان في حال قوته، والذي يقصر في حال شبابه، سيكون تقصيره أكبر في حال كبره. تنبيه: لا يجوز للمصلي في صلاة الفريضة، أن ينتقل من الهيئة الأصلية للفرض، إلى الهيئة التي هي أخف منها، إلا إذا عجز عن أداء الهيئة الأصلية للركن، وذلك في كل ركن من أركان الصلاة، فعلى سبيل المثال: إذا تعذر على المصلي أن يقف أثناء قراءة الفاتحة، مع استطاعته أن يركع ولو بمشقة محتملة، فعليه أن يجلس بدل القيام، ولكن إذا أراد أن يركع فعليه أن يقوم، ثم يركع، ولا يجزئه أن يميل جسده بالركوع وهو جالس، وهكذا إذا كان يستطيع القيام ولا يستطيع الركوع، فيلزمه القيام، فإذا أراد أن يركع فليجلس للركوع. وقد يكون هذا التنبيه خارج الموضوع، ولكني أردت ذكره لوقوع كثير من المصلين فيه، وهو يبطل الصلاة، وذكّرني به ما ورد في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع. 4- تواضعه صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم جمّ التواضع، لين الجانب رقيق القلب، لا يعرف من بين أصحابه حيث لم يميز نفسه بزي معين، ولا بحرس خاص، ولا بقصر مشيد يسكنه هو وأهله، كان يأكل مع الخادم، ويمسح على رأس اليتيم ويقف طويلا في الطريق ليسمع شكوى امرأة مظلومة، وأعظم علامات تواضعه أنه لم يغضب لنفسه ولو مرة واحدة، وأقدم لك أخي القارئ مثالين لتواضعه صلى الله عليه وسلم: المثال الأول: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت) «1» . الشّاهد في الحديث: على تواضعه صلى الله عليه وسلم ظاهر: فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك نفسه للأمة تأخذه وتذهب به حيث أرادت ليقضي لها صلى الله عليه وسلم حاجتها، دون أدنى معارضة منه صلى الله عليه وسلم أو   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: الكبر، برقم (6072) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 تضجّر وهو الرسول المصطفى والنبي المجتبى، وهو الذي يتلقى وحي السماء في أي ساعة من ليل أو نهار. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التعليق على هذا الحديث كلاما يشرح الصدر ويثلج النفس، بين به غاية البيان ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وخفض الجناح لكل أفراد هذه الأمة، قال رحمه الله ما نصه: (والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل والأمة دون الحرة وحيث عمم بلفظ الإماء أيّ أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم) «1» . المثال الثاني: وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرّجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع. فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمّد أتانا رسولك فزعم لنا أنّك تزعم أنّ الله أرسلك. قال: «صدق» ، قال: فمن خلق السّماء؟ قال: «الله» . قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله» . قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله» . قال: فبالّذي خلق السّماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: «نعم» . قال: وزعم رسولك أنّ علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: «صدق» . قال: فبالّذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» . قال: وزعم رسولك أنّ علينا زكاة في أموالنا. قال: «صدق» . قال: فبالّذي أرسلك. آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» . قال: وزعم رسولك أنّ علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: «صدق» . قال: فبالّذي أرسلك. آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أنّ علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا: قال: «صدق» . قال: ثمّ ولىّ. قال: والّذي بعثك بالحقّ لا أزيد عليهنّ، ولا أنقص منهنّ. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق ليدخلنّ الجنّة» «2» . الشّاهد في الحديث: أبلغ شاهد في الحديث على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم: هو أن ضماما رضي الله عنه لما دخل عليه وهو متكئ بين أصحابه لم يعرفه حتى اضطر للسؤال عنه، بقوله: (أيكم محمد؟) فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص نفسه بمكان معين في المجلس، أو بزيّ   (1) انظر فتح الباري (10/ 490) . (2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: السؤال عن أركان الإسلام، برقم (12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 نفيس يختلف عن لباس القوم، أو وقف على رأسه صلى الله عليه وسلم حرس، أو اتخذ كرسيا يجلس عليه كالملوك أو الأمراء، ما اضطر الصحابي ليسأل عنه ولعرفه بمجرد نظرة واحدة على أهل المسجد، وقد ذكر ابن حجر دليلا آخر على تواضعه وعدم كبره صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وفيه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من ترك التكبر؛ لقوله: بين ظهرانيهم- أي بينهم- وزيد لفظ الظهر ليدل على أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه فهو محفوف بهم من جانبيه) «1» . كما أن كفار مكة قد أثبتوا لنا تواضعه صلى الله عليه وسلم من حيث أرادوا أن يذموه ويقيموا الحجة على عدم نبوته، قال تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] . وهذا إقرار منهم بتواضعه صلى الله عليه وسلم وأنه لا يريد أن يتفضل على أصحابه، فكان يمشي في الأسواق، يبيع ويشتري، ولا يترفع عن ذلك، بالرغم أن له أصحابا يكفونه ذلك وزيادة، ومع أن مرادهم من هذا القول هو نقض نبوته، ولكنهم زكّوة من حيث لا يعلمون. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في النبي صلى الله عليه وسلم: 1- بلاغته وحكمته في رد سؤال الأعرابي: حيث إن الأعرابي لما ناداه بقوله: (يا ابن عبد المطلب) ، ولم يراع منزلة النبوة، أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «قد أجبتك» ، وقال ابن حجر رحمه الله: (وقد قيل: إنما لم يقل له: نعم؛ لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم مع قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . والعذر عنه- إن قلنا: إنه قدم مسلما- أنه لم يبلغه النهي وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب) «2» . وأقول: وهذا يدل على حكمته التي تقتضي أن يكون لكل مقام مقال، فكان هذا الرد لفتا لانتباه الصحابة وتعليما لهم بجفاء مسلك الأعرابي. 2- سعة صدره صلى الله عليه وسلم عند تعليم الأمة والحرص على تأليف قلب السائل خاصة إذا كان حديث عهد بالإسلام، يتبين ذلك من: أ- لم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي بوجوب مراعاة مقام النبوة عند مخاطبته صلى الله عليه وسلم فلم يعنفه بل قبل منه قوله: (أيكم محمد؟) وقوله: (يا ابن عبد المطلب) .   (1) انظر فتح الباري (1/ 150) . (2) انظر فتح الباري (1/ 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ب- لم يجد صلى الله عليه وسلم حرجا في نفسه من قول الأعرابي: (إني سائلك فمشدد عليك في المسألة) ، بالرغم أن الطلب بهذه الصيغة يوجب الحرج والأعرابي علم ذلك لقوله: (فلا تجد عليّ في نفسك) - أي لا تغضب- بل العجيب أن يكون رد النبي صلى الله عليه وسلم على سؤال الأعرابي بأجمل رد وهو قوله: «سل عما بدا لك» ، والأعرابي فعلا قد شدد في المسألة عندما استحلفه في كل سؤال، فكان يقول في كل مرة: (أنشدك بالله) . 3- عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم جميعا لما ورد في الحديث: (أسألك بربك وربّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟، فقال: «اللهم نعم» ، بل إنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين الإنس والجن لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . 4- عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بأمور الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في ضمام لما أقسم ألا يزيد ولا ينقص قال: «لئن صدق ليدخلنّ الجنّة» ، كما ورد في رواية مسلم. الفائدة الثانية: في مناقب الصحابي ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه: 1- رجاحة عقله رضي الله عنه يتبين ذلك من: أ- أنه قدّم الاعتذار بين يدي مسألته فقال: (إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك) ، فعلم أنه لن يصل إلى بغيته إلا بالاعتذار كما علم أن مثل هذا التشديد يسبب للنبي صلى الله عليه وسلم حرجا في نفسه. ب- قسمه على النبي صلى الله عليه وسلم في كل سؤال أن يصدقه عما يسأل عنه، وما ذلك إلا لعلمه بعظيم أمر القسم بالله العظيم قال ابن حجر رحمه الله: (وكرر القسم في كل مسألة تأكيدا وتقريرا للأمر) «1» . وإن كان الأليق مع مقام النبوة ترك مثل ذلك. ج- كما أن من رجاحة عقله أنه ما عرّف بنفسه واسم قبيلته إلا بعد أن أقر بالإيمان، لظنه أن التعريف بنفسه قبل هذه المرحلة لن يكون له شأن، بل قد ينسى بعد كل هذا الحوار، وانظر إلى رجل آمن لتوه كيف يعلم وظيفة الأنبياء والتي تنحصر في التبليغ عن ربهم وأنهم لا يأتون بشيء من عندهم وهذا أبلغ في قبول ما يأمر به الأنبياء، قال ضمام: (آمنت بما جئت به من ربك) . 2- حكمته في السؤال: وذلك أنه قبل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ذكّره بالله- سبحانه وتعالى- عن طريق أخذ الإقرار منه صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق للكائنات   (1) انظر فتح الباري (1/ 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 العظيمة، حتى إذا سأله بالذي خلق هذه الكائنات اطمأن إلى صدقه فيما يقول، فقد ورد في الحديث: (قال: فمن خلق السماء؟. قال: «الله» ، قال: فمن خلق الأرض؟. قال: «الله» ، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟. قال: «الله» ، قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟. قال: «نعم» ) . وتدبر ما ذكره النووي نقلا عن بعض أهل العلم قوله: (هذا من حسن سؤال هذا الرجل وملاحة سياقته وتربيته؛ فإنه سأل أولا عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه رسولا للصانع؟ ثم لما وقف على رسالته وعلمها أقسم عليه بحق مرسله، وهذا ترتيب يفتقر إلى عقل رصين) «1» . فإن قال قائل: كيف يجرؤ أن يسلك مثل هذا المسلك مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: على فرض أنه قد جاء مسلما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعذر بأنه قريب عهد بالإسلام وأنه لم يصله وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتأدب معه في المسألة، وعدم مناداته باسمه. 3- بلاغته رضي الله عنه حيث إنه لما أراد أن يعبر عن إيجاد السماوات والأرض استخدم مادة (خلق) ، ولما أراد أن يعبر عن الجبال استخدم مادة (نصب) ، قال ضمام رضي الله عنه: (فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال) . وكذلك انظر إلى بلاغته رضي الله عنه في قوله: (أنشدك بالله: آلله أمرك) . 4- اجتهاده في طلب الحق وإبلاغه، ويتبين ذلك من: أ- تحمله مشقة السفر لطلب علو السند، فالبرغم أنه سمع من رسول رسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه رحل إلى المدينة ليسمع مشافهة من النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر رحمه الله: (واستنبط منه الحاكم رحمه الله أصل طلب علو الإسناد لأنه سمع ذلك من الرسول وآمن وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة) «2» . ب- تحمله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية إبلاغ قومه أمر الإسلام قال: (آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي) . الفائدة الثّالثة: وجوب قيام الإمام بإرسال الرسل إلى الأمصار للدعوة إلى الله- عز وجل- ونشر دين الإسلام، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل رسله إلى بني سعد بن بكر، كما   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 171) . (2) انظر فتح الباري (1/ 152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 يؤخذ منه أيضا قبول خبر الواحد في العقائد والعبادات، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يرسل الرسل اثنين اثنين. الفائدة الرّابعة: امتثال الصحابة لأمر الله ورسوله حيث إنهم لما نهوا عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لغير ضرورة انتهوا عن ذلك مع أن قلوبهم تتشوق للسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ودليله: أنه كان يعجبهم أن يأتي الأعرابي ليسأل، قال أنس رضي الله عنه: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع) . 5- حياؤه صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئا عرف في وجهه) «1» . الشّاهد في الحديث: قول أبي سعيد الخدري: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات شدة هذا الحياء: 1- أنه زاد على حياء العذراء، وهي المرأة التي لم يسبق لها الزواج، ويبدو أن الحياء كان صفة ملازمة للعذراء، وتتأكد هذه الصفة وتزيد إذا دخل عليها أحد هذا الخدر، والخدر كما عرفه الإمام النووي: (ستر يجعل للبكر جنب البيت) «2» . ولذلك قيد الراوي حياء المرأة بحال كونها في خدرها لتعظيم هذا الحياء، والذي زاد حياء النبي صلى الله عليه وسلم عليه. 2- أنه إذا سمع شيئا يكرهه ويخدش حياءه، تغير لون وجهه، فعرف أصحابه أنه يكره هذا الشيء. ويتفرع عليه: علمنا بكمال خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث أعطي كل ذلك الحياء الذي لا يأتي إلا بخير، كما ورد عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنّك لتستحيي حتّى كأنّه يقول: قد أضرّ بك. فقال   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3562) ، مسلم، كتاب: الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، برقم (2320) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه، فإنّ الحياء من الإيمان» «1» . الفائدة الثانية: كان حياء النبي صلى الله عليه وسلم كله محمودا؛ لأن حياءه صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن بيان كل ما شرع الله- سبحانه وتعالى- أبلغ بيان، فكان يسأل هل على المرأة من غسل؟ فلا يمنعه شدة حيائه أن يجيب، فعن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أمّ سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ الله لا يستحيي من الحقّ. فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا رأت الماء» ، فغطّت أمّ سلمة، تعني: وجهها، وقالت: يا رسول الله أو تحتلم المرأة؟ قال: «نعم. تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟!» «2» . الفائدة الثّالثة: ما يجب أن تكون عليه العذراء، من حياء وعفة، وحفظ للسمع والبصر، ولو يعلم الراوي أحدا أشد حياء من العذراء لوصف به الرسول صلى الله عليه وسلم. ويتفرع عليه: ذمّ ما وصلت إليه مجتمعاتنا من خلع بعض العذارى لبرقع الحياء، حتى إنك لا تعلم العذراء من غيرها، استوى الكثير منهن في اللباس ومظاهر الزينة ومجالات الاهتمام وأسلوب الحديث والتجرؤ على مخاطبة الرجال، ولو لم يكونوا محارم، قلّ أن ترى عذراء يتغير لون وجهها إذا سمعت ما يخدش حياءها، بل تجدها اليوم تزاحم الرجال في كل مكان فإنا لله وإنا إليه راجعون. الفائدة الرّابعة: خطأ من يعتقد أن الحياء خصلة للنساء فقط، وأن الرجل يذم إذا اتصف بها، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حييّا بل فاق حياؤه حياء المرأة، ليس أي امرأة، ولكن أشد أصناف المرأة حياء؛ وهي العذراء، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حياء موسى عليه السّلام في سياق مدحه لهذه الصفة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان موسى عليه السّلام رجلا حييّا، قال: فكان لا يرى متجرّدا. قال: فقال بنو إسرائيل: إنّه آدر. قال: فاغتسل عند مويه، فوضع ثوبه على حجر، فانطلق الحجر يسعى، واتّبعه بعصاه يضربه، ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتّى وقف على ملإ من بني إسرائيل) «3» .   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: الحياء، برقم (6118) ، مسلم: كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان ... ، برقم (36) . (2) البخاري، كتاب: العلم، باب: الحياء في العلم، برقم (130) ، مسلم، كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، برقم (313) . (3) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى ... ، برقم (339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ويتفرع عليه: خطأ من يقول: (لا حياء في الدين) بين يدي سؤاله عن أمر من أمور الدين، ولكن الصحيح أن يقول: (إن الله لا يستحي من الحق) ، سمعته من الشيخ/ العثيمين رحمه الله. الفائدة الخامسة: من علامات حياء الرجل أن يتغير وجهه، أو يتلون إذا سمع ما يخدش الحياء، وكذب من يدعي لنفسه الحياء ووجهه لا يتغير إذا سمع الكلام البذيء الفاضح، والأدهى والأمرّ، أن يتناقل الرجال، وهم في الحقيقة أنصاف رجال، أو قل: أشباه رجال النكات والطرائف الفاضحة بكل وقاحة، ويضحكون حتى التمايل، أهؤلاء رجال؟ 6- حسن توكله صلى الله عليه وسلم وثقته بالله تعالى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قيل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه «1» ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلّق سيفه بغصن من أغصانها. قال: وتفرّق النّاس في الوادي يستظلّون بالشّجر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السّيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلّا والسّيف صلتا «2» في يده. فقال لي: من يمنعك منّي؟ قال: قلت: الله. ثمّ قال في الثّانية: من يمنعك منّي؟ قال: قلت: الله» . قال: «فشام السّيف، فها هو ذا جالس» . ثمّ لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) «3» . الشّاهد في الحديث: قول الراوي: «فقال لي: من يمنعك مني قال: قلت: الله، ثم. قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حسن ثقته صلى الله عليه وسلم بربه، ووجه ذلك: أ- أنه صلى الله عليه وسلم علق سيفه بغصن شجرة ثم نام، ولولا حسن ثقته بوعد الله، بكفايته وعصمته من الناس، لطلب حراسة عليه من الجيش أثناء نومه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَاللَّهُ   (1) كثير العضاه: أي كثير الشجر. (2) صلتا: أي مسلولا. (3) البخاري، كتاب: المغازي، باب غزوة بني المصطلق ... ، برقم (4139) ، مسلم، كتاب: الفضائل، باب: توكله على الله تعالى ... ، برقم (843) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] . ب- أنه صلى الله عليه وسلم لما استيقظ ووجد الأعرابي قد سل سيفه يهدده بالقتل، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس معه شيء يدافع به عن نفسه، والأعرابي يقول له: (ما يمنعك مني؟) ، أي: من يحميك مني؟، أو من يحول بيني وبين قتلك، لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله «الله» ، وهذا يدل على عظيم تعلق قلبه صلى الله عليه وسلم بربه، ويقينه أن أمر الأعرابي بيد الله وحده، فالله سبحانه قادر على أن يشل يد الأعرابي، بل قادر على أن يقتل الأعرابي في مكانه، أو أن يهديه إلى الحق. وأقول: كلنا نثق بالله- عز وجل- ونعلم أنه يرانا ويسمعنا في كل أحوالنا وفي جميع أقوالنا، ولكن من منا إذا تعرض لما تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجزع ولا يخاف، ولا يقول إلا (الله) . 2- شجاعته صلى الله عليه وسلم حيث إنه لما استيقظ، ووجد السيف مسلطا عليه، لم تتحرك له ساكنة، ولم تظهر عليه أي من علامات الخوف كطلب النجدة، أو الرعشة، أو التوسل إلى الرجل حتى يتركه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وفي الحديث فرط شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال) «1» . 3- حبه صلى الله عليه وسلم للعفو والصفح عمن أراد إيذاءه، ورد في الحديث: (فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ومعنى (ثم لم يعرض له) ، أي لم يعاقبه على ما فعل، قال ابن حجر: (فمنّ عليه لشدة رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام) . 4- تمام عناية الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد حماه من كل من أراد إيذاءه وقتله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله حيث قال: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] . الفائدة الثانية: من فوائد الثبات وحسن الثقة بالله، تخويف الأعداء وإلقاء الرعب في قلوبهم، بل ويجعلهم على يقين أننا على الحق وهم على الباطل، فهذا الرجل في الحديث الذي معنا، وقد تمكن من سل السيف على النبي صلى الله عليه وسلم، ما الذي جعله يغمد سيفه ويجلس دون أدنى إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، أليس رؤيته لشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة يقينه بالله تعالى؟ قال الحافظ ابن حجر: (وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم وعرف أنه حيل بينه وبين النبي علم تحقق صدقه وأنه لن يصل إليه، فألقى السلاح وأمكنه من نفسه) . يتفرع عليه، وجوب أن يرى أعداؤنا منا اليوم ثقتنا الكاملة بالله وتمسكنا بديننا، حتى   (1) انظر فتح الباري (7/ 428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ولو كنا ضعاف العدة، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد رد الله عنه كيد عدوه، بثقته بالله وحده وبدون أي أسباب أخرى مادية. الفائدة الثّالثة: إيثار الصحابة رضي الله عنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنفسهم حيث ورد في إحدى روايات البخاري: (فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم) ، وهذا يدل على عظيم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وامتثالهم للتوجيهات الربانية لهم، مثل قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: 12] . الفائدة الرّابعة: ومن شواهد حسن ثقته صلى الله عليه وسلم بالله- عز وجل- ما رواه البخاري، عن ابن عبّاس: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيم- عليه السّلام- حين ألقي في النّار، وقالها محمّد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . 7- حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم أمّته عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيّ فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، مه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه دعوه» ، فتركوه حتّى بال، ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنّما هي لذكر الله- عز وجل- والصّلاة وقراءة القرآن» ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنّه «1» عليه) «2» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم لمن بال في المسجد: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنّما هي لذكر الله- عز وجل- والصّلاة وقراءة القرآن» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم: ويتبين ذلك من: أ- أنه صلى الله عليه وسلم لم ينهر الأعرابي، ولم يوجه له أدنى عتاب لعدم علم الأعرابي باداب   (1) فشنّه عليه: أي صبّه وسكبه عليه. (2) مسلم، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول .... ، برقم (285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 المساجد، وإنما نصحه صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرفق واللين، قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنّما هي لذكر الله- عز وجل-» . ب- ومن حسن تعليمه الجميل، أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي أن ينظف مكان النجاسة في المسجد، مع أنه أولى الناس بهذا الأمر، لأن الأعرابي قد يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعاقبه على ذلك، قال أنس: (فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه) ، وهذا والله غاية الرفق واللين. ج- لم يتعجل النبي صلى الله عليه وسلم توجيه النصح للأعرابي وهو يقضي حاجته، بل انتظر حتى ينتهي، ليكون الأعرابي أوعى لقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال الراوي: (ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه) . د- فصّل النبي صلى الله عليه وسلم في نصحه تفصيلا بليغا حيث ذكر أولا وجوب تنزيه المساجد عن النجاسات والقاذورات، ثم ذكر الحكمة من بناء المساجد وكيفية إعمارها، وقد ذكر تنزيه المساجد أولا من النجاسات لأسباب، منها: حاجة الأعرابي الماسة لمعرفة هذا الحكم، وذكره أولا يكون أدعى لحفظه، كما أن الحكمة العظمى من بناء المساجد، وهي إقامة الصلاة، من أهم شروط صحتها: طهارة المكان، فطهارة المكان عمل يأتي قبل إقامة الصلاة، ومن حسن التعليم أيضا أن تأتي النصيحة خالية من التطويل الممل والاختصار المخل، وقد كانت كذلك، ولله الحمد. وتخيل أخي القارئ، لو أن هذه الواقعة حدثت في وقتنا الحاضر من رجل حديث عهد بالإسلام، ماذا سيفعل به أهل المسجد؟ قد يفتكون به ويتهمونه بالكفر والزندقة، مع أنهم ليسوا بأحرص من النبي صلى الله عليه وسلم على طهارة المسجد ونظافته. 2- حكمته صلى الله عليه وسلم حيث قال لأصحابه: «لا تزرموه دعوه» ، أي لا تقطعوا عليه بوله؛ لأن قطع البول سيضرّ جسمانيّا بالأعرابي، وقد يزيد من رقعة المكان الذي أصابته النجاسة، خاصة إذا قطعها وهو مضطرب. 3- موافقة أقواله صلى الله عليه وسلم مع أفعاله، وهو الركن الأساسي في القدوة الحسنة، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بالرفق في الأمر ورغّبهم في ذلك، فقد روى مسلم بإسناده عن عائشة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه» . وعند مسلم أيضا، أن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حرم الرّفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 حرم الخير، أو من يحرم الرّفق يحرم الخير» . فتطابق قوله صلى الله عليه وسلم مع فعله، كما فعل مع الأعرابي في حديث الباب. ومن أعظم أسباب افتقاد الأمة للقدوة في وقتنا الحاضر، ذلك الاختلاف الكبير بين ما يقوله الداعية وبين ما يفعله، ولكن على الناس ألاتضع كل أخطائها وزلاتها على هذه الشماعة؛ لأننا مأمورون أولا باتباع قدوتنا وهو النبي صلى الله عليه وسلم والدين حجة على الجميع، ولا أحد حجة على هذا الدين، فهذه حجة من يريد التكاسل والتفريط في الدين، أما من عنده غيرة على هذا الدين وفي قلبه حب لله ورسوله وحرص على فعل الطاعات وترك المنكرات، فلا يبحث عن الأعذار ولا يبالي إن وجد القدوة في الناس أو لا. الفائدة الثّانية: وجوب أن يحرص المسلمون على نظافة وطهارة المساجد، كلّ قدر استطاعته، وليعلم كل مسلم أن تنظيف المساجد من أنواع القربات، فلا ينبغي أن يحرم المسلم نفسه من هذه القربة، ولا يشترط أن يكون خادما للمسجد حتى يقوم بها، بل يكفي كلما دخل أو خرج من المسجد أن يتفقد حال المسجد ويلتقط ما استطاع من قاذورات وغيرها. الفائدة الثّالثة: على المسلم أن يحرص على أداء الصلوات في جماعة المسجد، وأن يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن في المسجد؛ لأن هذه الأعمال هي المقصودة من بناء المساجد، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما هي لذكر الله- عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن» . الفائدة الرّابعة: لم يقتصر حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على طريقة النصح والإرشاد، ولكن تعدى حسن التعليم ليشمل اختيار الوقت المناسب للموعظة، ويأتي ذلك بعدم توجيه المواعظ والإرشاد في كل وقت وفي كل مناسبة، حتى لا يشعر الإنسان بالملل والسامة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيّام كراهة السّامة «1» علينا) «2» . وهذا يدل أيضا على عظيم حكمته صلى الله عليه وسلم حيث وازن بين مصالح المواعظ وبين مفاسد الكراهة والسامة.   (1) السامة: أي الملل. (2) البخاري، كتاب العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم ... ، برقم (68) ، مسلم، كتاب: صفة المنافقين وأحكامهم، باب: الاقتصاد في الموعظة، برقم (2821) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 8- حرصه صلى الله عليه وسلم على تبليغ الدعوة: عن أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهوديّ يخدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: «أسلم» ، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الّذي أنقذه من النّار» «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يذهب بنفسه إلى غلام يهودي، يدعوه إلى الإسلام، وهذا يدل على شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على استنقاذ أمة الدعوة من النار، وحرصه على دخول الناس في دين الله- عز وجل- أفرادا وجماعات. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تواضع لا يساميه فيه أحد، فهو مع عظيم منزلته وعلو شأنه وكثير شغله، لا يستنكف أن يعود غلاما يهوديّا غير مسلم، يعمل عنده خادما، أيّ تواضع هذا؟ وأي حب هذا على عمل الخير والمسابقة في مرضاة الله- عز وجل-؟ الفائدة الثّانية: على المسلمين ألا يستقلوا أي عمل من أعمال الخير، وإن قل في نظرهم، خاصة في مجال الدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى- لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على زيارة هذا الغلام الخادم اليهودي، ودعاه إلى الإسلام ولم يقل في نفسه كما يقول أمثالنا: (وما عسى أن ينفع الله الإسلام بهذا الغلام إن أسلم) ، أو يقول: هناك أمور كثيرة أعظم من زيارة هذا الغلام ودعوته إلى الإيمان، بل كانت زيارة مباركة طيبة، كان من عظيم بركتها، أن أنقذ الله بها نفسا من النار. الفائدة الثّالثة: علي الداعي إلى الله- عز وجل- أن يستغل الظروف والأحوال الملائمة للناس لدعوتهم إلى الله، كالمرض مثلا، والذي يشعر فيه الإنسان بالضعف والحاجة إلى الله- سبحانه وتعالى- ولكن دون أن يظهر الداعي للمدعو أنه يستغل هذا الوقت بالذات لدعوته لأنه ضعيف، فقد يحرج هذا الشعور المريض، ويجعله لا يتقبل الحق، انظر   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، برقم (1356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام، قال له: «أسلم» ، وانظر إلى يوسف عليه السّلام كيف استغل حاجة صاحبيه في السجن لتأويل رؤيتهما، فدعاهما إلى الإيمان ونفّرهما غاية التنفير من الشرك بالله، دون أن يشعرهما أنهما في حاجة إليه، وأنهما مضطران إلى سماع قوله إلى النهاية، حتى يسمعا تأويله لرؤيتهما، وهذا من فقه الدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى-. الفائدة الرّابعة: جواز استخدام اليهودي مع مراعاة الضوابط الشرعية التي تحكم هذا الاستخدام، والتي من أعظمها، عدم اطلاعه على أعراض المسلمين، وعدم إفشاء الأسرار إليه، وعدم حبه، وضرورة دعوته إلى الإسلام، وإنكار ما هو عليه من الكفر، وأزيد واحدة، أن نعدل فيه ونقسط إليه، حتى لا نكون سببا في تنفيره من الإسلام، وتشويه صورة الدين عنده، وهذا يحدث كثيرا في هذا الزمان، ومما عمت به البلوى في زماننا هذا، أن يكون بعض المسلمين ممن يقتدى بهم، صورة سيئة في معاملاتهم وسلوكهم، خاصة في النواحي المادية، مما ينفر منهم العاملين لديهم، خاصة الخدم والمستخدمين. الفائدة الخامسة: صحة إسلام الصبي المميّز، ولولا صحة إسلامه، ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وقال: «الحمد لله الذي أنقذه من النار» ، وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم دليل على صحة إسلام الصبي، ولكن ليس بدليل قطعي، أن الصبي لو مات على الكفر دخل النار، ويمكن أن يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنقذه من النار» إذا ما استمر على كفره. والخلاف في دخول أولاد الكافرين النار أو الجنة خلاف مشهور بين العلماء. الفائدة السّادسة: ما كان عليه اليهود، من تعظيم أمر النبي صلى الله عليه وسلم واعتقادهم صحة دينه ولو خالفوه؛ لأن أبا الغلام أمر ابنه بإجابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وبدا خوفه على غلامه وهو مريض من أن يخالف أمر النبي، وتدبر ماذا قال الأب لابنه: أطع أبا القاسم، ولم يقل له: (أسلم) ، مما يشعر أن مراد الأب هو طاعة الرسول عليه السّلام وعدم مخالفته، كما أنه ذكر الرسول بكنيته، ولم يذكره باسمه، وهذا أيضا من التوقير. الفائدة السّابعة: قد يكون من ملاطفة المريض عند زيارته، القعود عند رأسه، لإشعاره بالقرب منه، وهذا أدعى لإسماعه والسماع منه. الفائدة الثّامنة: الثناء على الله- عز وجل- بما هو أهله، خاصة عند زول النعم ورفع النقم، لقوله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي أنقذه من النار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أقول: إن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ رسالة ربه وحزنه الشديد على من أعرض وأبى قد بلغ مبلغا عجيبا، أذكر منه- على عجالة- آية واحدة في كتاب الله- عز وجل- توضح المراد. قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] ، وباخع نفسك أي: مهلكها غمّا وأسفا، هذا ما كان يجده النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن الشديد والأسف العظيم على رد الناس دعوته، فلقد أوشك هذا الحزن أن يقتله، وهذا ليس من باب المبالغة، لأنه كلام الله- تبارك وتعالى-، فهل نتصور أحدا يوشك أن يقتله الحزن على عدم إيمان الغير ولو كان أقرب الناس إليه كأبيه أو ولده، هذا هو الفارق بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم فنلمح في هذا الحزن رقة قلب، ونصحا للناس كلهم جميعا، قريبهم وبعيدهم، من عرف منهم ومن جهل، ونلمح فيه أيضا حبّا في نشر دين الله- عز وجل- وغيرة على محارم الله، وقياما بوظيفته على أتم وأكمل وجه، بل تكليف نفسه أكثر مما كلف به وأمر. قال الشيخ السعدي- رحمه الله- في شرح الآية: (لما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ساعيا في ذلك أعظم السعي فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسرّ بهداية المهتدين ويحزن ويأسف على المكاذبين الضالين شفقة منه صلى الله عليه وسلم ورحمة بهم، فأرشده الله ألايشغل نفسه بالأسف على هؤلاء الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الآخرى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ، وقال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «1» [فاطر: 8] . 9- خوفه وتقواه صلى الله عليه وسلم من الله- عز وجل- عن عائشة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها قالت: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الرّيح قال: «اللهمّ إنيّ أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به» . قالت: وإذا تخيّلت السّماء تغيّر لونه وخرج ودخل، وأقبل، وأدبر فإذا مطرت سرّي عنه، فعرفت ذلك في وجهه. قالت عائشة: فسألته. فقال: «لعلّه يا عائشة كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» «2» [الأحقاف: 24] )   (1) تيسير الكريم الرحمن (ص 470) . (2) مسلم، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: التعوذ عند رؤية الريح..، برقم (899) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى في السماء سحابة فيها رعد وبرق، تغير وجهه من الخوف، خشية أن يكون فيها عذاب من الله من جنس ما أصاب قوم عاد، لأنهم لما رأوا السحاب في السماء ظنوه سيأتي بالمطر والرحمة، فإذا هي ريح فيها عذاب أليم، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: على المسلم أن يكون دائما على خوف من آيات الله، التي قد تأتي بالعذاب، وعليه ألا يألف تلك الآيات، فيذهب عنه الخوف إذا ما تكررت، لأن عائشة رضي الله عنها أعلمتنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما رأى السحاب تغير وجهه، قالت: (وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر) . ويتفرع على ذلك: خطأ من يطلق على السحاب والريح، والخسوف والكسوف، والزلازل والبراكين، ظواهر طبيعية، يريد بذلك أن يذهب من قلوب الناس الخوف من الله إذا رأوا تلك الآيات، وألا يجعلهم يتوبون إلى الله ويستغفرونه كلما رأوها. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف إذا رأى تلك الآيات، لدرجة أن الخوف يظهر على وجهه، وعلى حركاته التي لا تهدأ، كالمضطرب الوجل، وإذا ذهبت ظهر ذلك أيضا على وجهه، قالت عائشة: (فإذا أمطرت سرى عنه) . الفائدة الثانية: وجوب التضرع والابتهال إلى الله- سبحانه وتعالى- إذا رأى المسلم آية قد يكون فيها عذاب، قالت عائشة: (إذا عصفت قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت إليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» . ويتفرع على ذلك: 1- عجيب قدرة الله- سبحانه وتعالى- إذ خلق آيات قد تأتي بالخير تارة، وبالشر تارة، ولا يكون ذلك إلا بأمره- سبحانه وتعالى- وبمقتضى الحكمة البالغة، فانظر إلى الريح، التي قد تأتي بالخير، قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9] ، وقد تأتي بالشر، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19] . 2- ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم في الدعاء، وأن هذا كان مسلكه دائما صلى الله عليه وسلم حيث جمع كل ما تأتي به الريح من أمور نافعة في قوله: «خيرها وخير ما فيها» ، وجمع كل ما تأتي به الريح من مضار ودمار في قوله: «من شرها وشر ما فيها» وعليه فإن الأحب إلى الله سبحانه وتعالى- في الدعاء: الإجمال لا التفصيل. 10- رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم: بلغت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عجيبا في الكمال والسعة، حيث شملت تلك الرحمة كل الناس؛ الضعيف منهم والقوي، السيد منهم والعبد، القريب منهم والبعيد، الصاحب منهم والعدو، بل امتدت تلك الرحمة لتشمل الجن والبهائم، والأعجب من ذلك كله أنها شملت جذع الشجرة الذي كان صلى الله عليه وسلم يخطب عليه الجمعة، حيث نزل من على المنبر يهدهده ويضمه إليه حتى سكت عنه الأنين، ولا غرابة من ذلك فالذي أوجد في قلبه كل تلك الرحمات هو الله الخالق البارئ، يصدق ذلك قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الآية [آل عمران: 159] . وذرني أخي الكريم أضع بين يديك تلك الصفة العجيبة في المواقف المختلفة على نحو ما سترى: أ- شفقته صلى الله عليه وسلم بالأطفال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليّ وعنده الأقرع بن حابس التّميميّ جالسا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ قال: «من لا يرحم لا يرحم» «1» . الشّاهد في الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» . وجاء هذا القول في سياق الرد على من لا يقبل أولاده. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، ومن مظاهر تلك الشفقة:   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ... ، برقم (5997) ، مسلم، كتاب: الفضائل، باب: رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان ... ، برقم (2318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 1- قيام النبي صلى الله عليه وسلم بتقبيل الحسن بن علي، - رضي الله عنهما.. 2- إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه والذي لم يقبل أحدا من أولاده العشرة، بقوله: «من لا يرحم لا يرحم» ، ونخلص من هذه المقولة الشهيرة بعدة أمور منها: أ- تهديد النبي صلى الله عليه وسلم لكل من لا يرحم الأطفال بأنه لا يرحم، ولم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم عدم الرحمة بزمن معين أو مجال معين، وإطلاق عدم الرحمة وعدم تقييدها يدل على إرادة زيادة التخويف. ب- وجوب إحاطة الأولاد بكل أنواع الرحمة، فالأمر لا يقتصر على التقبيل وحده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وسع نطاق الرحمة ليشمل كل أنواعها ومظاهرها، وإن كان مجال الحديث كان أصلا على التقبيل، فعلى الوالدين بذل كل عمل يكون من شأنه رحمة الأولاد. ويتفرع على ذلك: تحريم ما يشق على الأولاد، كالضرب المبرح والحرمان من الطعام والشراب، وغير ذلك من مظاهر القسوة، ويجب أن يتبع الوالدان أسلوبا للتربية يخلو من العنف والشدة. وتدبر أخي القارئ إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتبر عدم تقبيل الأولاد من عدم الرحمة، التي تستوجب العقوبة، والتقبيل شيء يسير جدّا، مقارنة بما هو أعظم من ذلك، فماذا ستكون عقوبة من وقع في أمور أخرى كالإهمال في التربية وعدم الأمر بالصلاة والصيام، وترك الأولاد لقرناء السوء في الشوارع، وإدخال القنوات الفضائية في البيوت بدون رقابة، وغير ذلك كثير. ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرحم بالولد من والده حيث أوصى الوالد بالولد. د- بيان أن العقوبة من جنس العمل، فمن لا يرحم لا يرحم، كما جعل الله تعالى الثواب من جنس العمل الصالح، مثال ذلك ما رواه عثمان بن عفّان رضي الله عنه قال عند قول النّاس فيه حين بنى مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم: إنّكم أكثرتم، وإنّي سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا» - قال بكير: حسبت أنّه قال.: «يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنّة» «1» ، وهذا منتهى العدل من الشارع الحكيم.   (1) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: من بنى مسجدا، برقم (450) ، مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل بناء المساجد ... ، برقم (533) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 هـ- فيه موازنة من الشارع الحكيم حيث أوصى الأولاد بحسن معاملة الوالدين، ورتب العقوبة على العقوق، وفي المقابل أوصى الآباء برحمة الأولاد والشفقة عليهم والعدل في المعاملة والعطية. ولكن انظر أخي القارئ إلى كمال وجمال الشرع الذي سنه الحكيم الخبير، لما كان عقوق الأولاد للآباء أكثر تكرارا، وأعظم صورة وأشد وقعا على الآباء، الذين هم سبب وجود الأبناء، تكرر الوعيد الشديد والتهديد العظيم في القرآن والسنة على عقوق الوالدين، ولما كان عقوق الآباء للأولاد، أقل تكرارا وأخف صورة، والآباء هم الأصل والأبناء هم الفرع، لم يأت تهديد الآباء كتهديد الأبناء لا من حيث تغليظ العقوبة ولا من حيث تعدد مرات ذكرها، لعدم الحاجة إلى ذلك. وهذا مسلك الكتاب والسنة في جميع الأقضية وأضرب لذلك مثالا آخر، فأقول في قضية لعان الزوجين، لما كان الزوج غالبا هو الصادق ويندر منه اتهام زوجته بالزنا كذبا، قال تعالى: وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النور: 7] ولما كانت المرأة في الغالب هي الكاذبة لدفع تهمة الزنا عن نفسها وكذلك دفع حد الرجم، قال تعالى: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور: 9] ، فألزم الله- سبحانه وتعالى- غضبه للمرأة الكاذبة، ولعنته للرجل الكاذب، ومعلوم أن الغضب أشد من اللعن، لذلك اختص الله اليهود بالغضب. الفائدة الثانية: لم تقتصر مظاهر شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الحث على تقبيل الأولاد، وعموم الرحمة، بل تعدى الأمر إلى ملاعبتهم وإدخال السرور عليهم وحملهم إذا تطلب الأمر ولو في الصلاة. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتّى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير ما فعل النّغير» «1» . وأيضا: روى أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصليّ وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها) «2» .   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: الانبساط إلى الناس ... ، برقم (6129) مسلم، كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود ... ، برقم (2150) . (2) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة ... ، برقم (516) ، مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة، برقم (543) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الفائدة الثّالثة: وجوب التراحم بين الناس كلهم جميعا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» ، وإن جاءت هذه المقالة بمناسبة عدم رحمة الوالد ولده، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم «من لا يرحم ولده لا يرحم» ، ولكن قال: من لا يرحم لا يرحم، بحذف المفعول، وذلك يدل على وجوب تعميم الرحمة بالمخلوقات كلها وبقدر ما يرحم المسلم غيره، بقدر ما ينال من رحمة الله، وفي المقابل بقدر ما يبخل المسلم برحمته على غيره، بقدر ما يحرم من رحمة الله- سبحانه وتعالى- فالرحمة من صفات الرب- جل في علاه- واسم من أسمائه الحسنى، فيا حظه السعيد من تمثل بهذه الصفة! ويا شقاء من خلا من تلك الصفة! وجعل بينه وبينها سدّا منيعا، وظن أن ذلك من الرجولة والفحولة، وأن الرحمة من الليونة والأنوثة. ويتفرع عليه: ذم جفاء القلب وغلظته، لأن هذا القلب ليس بمحل لرحمة الناس، كما يتفرع عليه مدح رقة القلب ورحمته، لأن هذا القلب هو المحل القابل لرحمة الناس. الفائدة الرّابعة: بيان ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم حيث استفدنا كل المعاني السابقة، وما خفي علينا كان أكثر، من جملة تكونت من اسم موصول وحرف نفي وفعل مضارع، ومع تكرار الحرف مرتين والفعل مرتين، أحدهما بني للمعلوم والآخر للمجهول، لا تشعر بسماعه الأذن بأي تكلف أو نكارة، بل تشعر بمنتهى الراحة والتجانس، ولا تزداد بتكرار هذا القول إلا حبّا له واشتياقا لتكراره، إنه كلام النبوة. ب- شفقته صلى الله عليه وسلم بالخدم: عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذرّ وعليه حلّة، وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك قال: فذكر أنّه سابّ رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بأمّه قال: فأتى الرّجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّك امرؤ فيك جاهليّة؛ إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه، فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم عليه» «1» . الشّاهد في الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» .   (1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية ... ، برقم (30) ، ومسلم، كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل ... ، برقم (1661) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 [ بعض فوائد الحديث ] الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حرصه صلى الله عليه وسلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان الملام أرفع قدرا من الملوم فيه، فأبو ذر الغفاري رضي الله عنه من الناحية الاجتماعية، على الأقل، أرفع قدرا من غلامه، ومع ذلك لامه النبي صلى الله عليه وسلم لوما شديدا، بأن أثبت له صفة من صفات الجاهلية، وهذا ليس بالأمر اليسير عند صحابي جليل مثل أبي ذر رضي الله عنه. 2- رفقه وعدله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما رفقه فيتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر» ، فناداه بأحب الأسماء إليه، وهي كنيته، وأما عدله صلى الله عليه وسلم فيتمثل في: أ- أنه ذكر لأبي ذر رضي الله عنه ما فعله قبل أن يوجه إليه العتاب، فقال له: «أعيرته بأمه» . ب- لم يصف صلى الله عليه وسلم أبا ذر بالجاهلية المطلقة لوقوعه في أمر من أمور الجاهلية، ولكنه صلى الله عليه وسلم أثبت له فقط أن فيه جاهلية، أي خصلة من خصال الجاهلية، وهو التعيير بالأم. كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في نهيه عن المنكر على كلمات معدودات. والرفق والعدل، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خصلتان حرم منهما كثير ممن يتصدّون لهذا العمل في وقتنا الحاضر. 3- حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم الأمة وإرشادها، واستغلال كل مناسبة لبيان الحق في كل مسألة حيث حوّل القضية من قضية خاصة، إلى قضية عامة، فوجه الخطاب إلى الأمة بأسرها إلى قيام الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم ... » إلى آخر الحديث. 4- شفقته صلى الله عليه وسلم بالخدم، وهو أظهر وأعظم ما في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم» ، ومن مظاهر الشفقة في هذا التوجيه النبوي الرفيع: أ- جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإخوان هم الخول، (أي الخدم) ، وكان من المفترض أن يقول: (خولكم إخوانكم) ، أي اتخذوا الخدم كالإخوان وأنزلوهم هذه المنزلة، ولكنه صلى الله عليه وسلم قلب الأمر، وقال: «إخوانكم خولكم» ؛ ليستقر في قلب المسلم أن الخادم هو في الحقيقة أخ له، لا أنه بمنزلة الأخ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «فمن كان أخوه تحت يده» ، وهذه العبارة تؤكد المعنى الذي ذكرته. فالمسلم إذا تيقن أن الذي تحت يده هو أخوه على الحقيقة فكيف سيعامله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ب- في قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلهم الله تحت أيديكم» ، بالغ الحثّ على حسن المعاملة والرفق معهم في الأمر كله، إذ كيف يعامل المسلم، من جعله الله تحت يده، أيجترئ أن يظلمه أو يبخسه أو يحقره، كلا والله، لأنه قطعا سيخاف من القوي المتين، فالذي وضعه في هذه المكانة لا محالة سيسأل عنه، وتدبر أخي القارئ لماذا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم، جعلهم الفقر تحت أيديكم أو (جعلتهم ظروفهم) ، أو (جعلهم قدرهم) ، ولكن أتى صلى الله عليه وسلم بلفظ (الجلالة) ليشعر المسلم بخطورة الأمر وعظم المسئولية، لعظم السائل عنها. كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلهم الله تحت أيديكم» ، يشعر أن الأمر فتنة واختبار من الله للمخدوم، أيحسن أو يسيء، يصدّق ذلك قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان: 20] . ج- الأمر بإكرام الخدم، وإطعامهم وإلباسهم من جنس ما يأكل ويلبس المخدوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس» ، وهذا الأمر لا يقصد به المساواة في المأكل والملبس، وإنما المقصود من جنس ما يأكل ومن جنس ما يلبس، وهو التبعيض الذي دلت عليه (من) ، ذكره ابن حجر في الفتح، وقال: (فالمراد المواساة لا المساواة) «1» . ويدل على ذلك أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنّه ولي علاجه» «2» . د- تحريم تكليف الخدم ما يغلبهم، أي ما يشق عليهم فعله، فإن حدث ذلك، فقد وجبت إعانتهم بما يزيل عنهم المشقة، فقد ورد في إحدى روايات البخاري «ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» ، والأصل في النهي التحريم إن لم يصرفه صارف للكراهية، وقد انعدم الصارف هنا. والحاصل: أن هذا التوجيه النبوي الرفيع، قد جمع فأوعى كل العلاقة التي تربط الخادم بالمخدوم حيث حدد منزلة الخادم من المخدوم، فهو أخ له، وحدد من الذي قدّر على الخادم هذا الأمر، إنه الله جل في علاه، ونوع المأكل والملبس الذي يلبسه الخادم، فهو من جنس   (1) انظر فتح البارى (5/ 174) . (2) البخاري، كتاب: العتق، باب: إذا أتاه خادمه بطعامه، برقم (2557) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ما يأكل ويلبس المخدوم، وحدود الأعمال التي يقومون بها، وهي كل ما يطيقون ويستطيعون، وإذا تطلب الأمر تكليفهم بأعمال شاقة، فقد وجب إعانتهم، إما بالنفس أو بتوفير آلة لهم تيسر عليهم العمل، أو ندب عامل يساعدهم حتى ينتهي العمل الشاق، ودليله أن الحديث لم يحدد كيفية الإعانة فيدخل فيها كل وسيلة من شأنها رفع المشقة، فإن قال قائل: هناك أمور في العلاقة بين الخادم والمخدوم لم يحددها أو يتطرق إليها الحديث، قلت: تلك الأمور يجب معالجتها في نطاق قوله صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم» ، فهل يوجد من هو أرحم بالأخ من أخيه. وأقول لإخواني المسلمين: معاملة الأجير بالحسنى، ابتغاء أجر الله- سبحانه وتعالى ومحبة اتباع سنة الحبيب، صلى الله عليه وسلم لا تظهر ولا تكون إلا إذا أساء الخادم أو الأجير، فهنا يظهر التسامح والعفو والإحسان، قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] ، فهل يكظم الإنسان غيظه ويعفو إلا إذا حدث له ما يغضبه، ولن يبلغ المسلم منزلة الإحسان إلا إذا تقيد بهذه الآية الكريمة، كظم للغيظ ثم عفو ثم إحسان. هـ- ما أوتيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم حيث ذكر الملام والملوم فيه والملام بسببه، في كلمتين «أعيرته بأمه» . الفائدة الثانية: في مناقب أبي ذر رضي الله عنه: 1- أمانته رضي الله عنه في نقل العلم، ولو كان فيه شيء يجرحه، من حيث الفعل الذي فعله، واللوم الذي وجّه له، فلم يكتم شيئا، وهذا يدل على قدر أمانة وصدق الصحابة جميعا. 2- همته العالية في اتباع السنة ويتبين ذلك من: أ- أخذه بالأتم والأكمل من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يلبس الخادم شيئا مشابها لما يلبسه، بل ألبسه من جنس ما يلبس ولو كان هذا الأمر معتادا لما سأله المعرور بن سويد عن سبب ارتداء خادمه نفس الحلة. ب- استمرار معاملته للخادم على نفس النهج منذ أن كلمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن سأله التابعي المعرور بن سويد، وهذا يدل على همة عالية، وتمسكهم بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 حياته فقط ولكن بعد موته أيضا. وإذا كان هذا سلوك أبي ذر رضي الله عنه مع خادمه، في الملبس، الذي يفضّل الكثير منا أن يتميز به عن خادمه، فكيف كان مسلكه رضي الله عنه، في مأكله ومشربه ومعاملته مع الخادم، وإذا كان هذا هو مسلك الصحابة في اتباع السنة مع الخادم، فكيف كان اتباعهم السنة فيما هو أعظم من ذلك، كأمور العقيدة والعبادات. وأظن أن أخذ أبي ذر بالأتم والأكمل في معاملة الخادم، كان على سبيل التوبة إلى الله- عز وجل- لما بدر منه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثّالثة: لفت النبي صلى الله عليه وسلم انتباهنا وعلمنا أن الله- عز وجل- هو مقدّر كل شيء، فهو الذي قدّر الغنى والفقر، وهو الذي جعل الناس يتفاوتون في معايشهم بين مالك ومملوك، وبين خادم ومخدوم، قال صلى الله عليه وسلم: «جعلهم الله تحت أيديكم» ، وإذا كان الأمر من الله بحكمته وتقديره، وجب علينا الرضى والتسليم، قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف: 32] . الفائدة الرّابعة: المعاصي والمخالفات الشرعية من خصال الجاهلية، وبقدر ما عند المسلم من المعاصي والمخالفات، بقدر ما يكون فيه من أمر الجاهلية، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» ، ولكن لا ينبغي أن يوصف المسلم بأنه جاهلي، طالما معه أصل الإيمان ولم يأت بما يناقضه ويخرجه من دائرة الإسلام، لأن الله- عز وجل- أخرجنا بالإسلام من مطلق الجاهلية. ج- شفقته صلى الله عليه وسلم بعموم المسلمين: المثال الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلّا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه نائلا ما نال من أجر، أو غنيمة، والّذي نفس محمّد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك، والّذي نفس محمّد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة [فيتبعوني] ، ويشقّ عليهم أنّ يتخلّفوا عنّي، والّذي نفس محمّد بيده، لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ثمّ أغزو فأقتل» «1» . رواه مسلم وروى البخاري بعضه. الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة، فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يود ويحب أن يخرج في كل غزوة وسرية ولا يتخلف أبدا عن الجهاد، ولكن هناك فئة من المسلمين ليس عندهم مؤنة ليخرجوا للجهاد، وليس عند النبي مؤنة تكفيهم، فستضطر هذه الفئة أن تتخلف عن الخروج، وستشعر بالحرج الشديد لعدم الخروج وعدم الصحبة، لذلك أشفق عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ورأف بحالهم وقعد خلف السرايا. وفي الحديث فوائد جمة تظهر في الفوائد التالية: الفائدة الأولى: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أعمال الخير والتقرب إلى ربه- عز وجل- «لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلف سرية» ، وقوله: «لوددت أن أغزو في سبيل الله» . الفائدة الثانية: عظم أمر الجهاد في سبيل الله وجزيل ثوابه، حتى إن النبي يقسم بربه أنه يود أن يخرج في كل سرية لولا إيثار رفع الحرج عن بعض أفراد الأمة. الفائدة الثالثة: قد يريد المسلم عمل خير يبتغي به وجه الله- عز وجل- ولكن يحال بينه وبين هذا العمل، لسبب خارج عنه، مثل عدم وجود المئونة، ومن هذا نعلم خطأ من يقول: (لو علم الله فيه خيرا ليسّر له ما نوى) ، أو الحكم على الله أنه ييسر لمن أراد الخير لا محالة. والحديث حجة في ذلك حيث قال: «ولا يجدون سعة» . الفائدة الرابعة: في الحديث ما يثبت أن النبي عبد من عباد الله، يفتقر إلى الله فيما يفتقر إليه كل العباد، مثل الرزق والصحة وطلب جلب النفع ودفع الضر، إلا أنه فضّل على الأنبياء وجميع الناس بما ورد في الكتاب والسنة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد ما يحمل عليه الفقراء ممن أراد الخروج في سبيل الله، مما اضطره إلى القعود خلف السرية، ولو كان يقدر على رزقهم لرزقهم، حتى لا يتخلف هو عن الغزو، فعلمنا أن هذه الأمور لله وحده لا يشاركه فيها أحد، حتى أحب الخلق إليه وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وتجد مصداق ذلك في قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] .   (1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان، برقم (36) ، مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد ... ، برقم (1876) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فعلى عموم المسلمين أن يعلموا أن الرزق والإحياء والموت والنفع والضر والشفاء وغير ذلك لله وحده، ولا يطلبونه من أحد إلا الله- سبحانه وتعالى- فإذا كان هذا هو حال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك من أمر الرزق شيئا، فمن باب أولى من هو دونه. الفائدة الخامسة: أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فهؤلاء لم يخرجوا لعدم الاستطاعة، ومع عدم خروجهم لم يتوجه إليهم اللوم أو العتاب، بل قعد الرسول خلف السرية تطييبا لخاطرهم. الفائدة السادسة: هل الذي يقعد خلف السرية لعذر له أجر أم لا؟ نعم له أجر، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: «إنّ بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم» . قالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟! قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر» «1» . رواه البخاري. فالمؤمن بالنية الصالحة الخالصة يأخذ أجر القائم الصائم المجاهد في سبيل الله، إذا كان له عذر، والله يعلم الصادق من غيره. وهذا من عظيم فضل الله على هذه الأمة. الفائدة السابعة: [شروط الفوز بأجر الجهاد] يشترط لضمان حصول المجاهد على أجر الجهاد، ثلاثة شروط: [الشرط] الأول: النية الخالصة التي لا تشوبها شائبة، مثل الرياء، والسمعة، والحمية قال: «لا يخرجه إلا جهادا في سبيل» . [الشرط] الثاني: الإيمان بالله فهو الذي دفعه للخروج يحتسب الأجر والثواب من الله. [الشرط] الثالث: التصديق برسل الله ، ويتضمن الإيمان بكل ما جاء به الرسل من أوامر ونواه، والتصديق بما أبلغونا عن أجر وثواب الخروج في سبيل الله، وهذا هو الذي دفعهم للخروج، وهذا ينطبق على جميع الأعمال التي نتقرب بها إلى الله، فيشترط فيها الإخلاص والتصديق والمتابعة والاحتساب؛ لحديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» «2» . الفائدة الثامنة: قوله: «حق على الله» ، أوجبه هو على نفسه، أن يكافئ المجاهد في   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، برقم (4423) . (2) البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب بدء الوحي، برقم (1) ، مسلم، كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية، برقم (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 سبيله بإحدى الثلاثة على الأقل، إما الجنة في حال موته في سبيل الله، وإما الأجر في حال عدم النصر في المعركة، وإما الغنيمة والأجر في حال النصر، وهذا من البركة العظيمة للجهاد ألايخرج منه المسلم صفر اليدين. الفائدة التاسعة: في الحديث عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ يشق عليهم أن يخرج الرسول في الغزو، ويتخلفوا عنه، ويبدو من الحديث أن تلك المشقة كانت عظيمة، ولولا ذلك ما قعد النبي خلف سرية، وهذا من تربية القرآن للصحابة إذ قال تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120] . الفائدة العاشرة: في الحديث أن للخروج في سبيل الله شروطا حتى يتكفل الله بالثواب، «لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي» ، وقال: «ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة» ، فاشترط أن يكون لله وإن كان جرحا يسيرا. ولما كانت النيات لا يعلمها إلا الله، فلا يحق لنا أن نحكم لأحد أنه مات شهيدا حيث إننا- إن فعلنا ذلك- فقد حكمنا له بأعلى الدرجات في الفردوس الأعلى، كما أننا زكينا عمله أبلغ تزكية حيث جعلناه كله لله، وهذا منهيّ عنه لقوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم: 3] . وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله» ، وهذا ما حمل البخاريّ أن يبوب في صحيحه باب: [لا يقال فلان شهيد] ، وأتى بهذا الحديث آنف الذكر. الفائدة الحادية عشرة: يستثنى من ذلك- أي حكمنا بالشهادة على أحد من المسلمين بعينه- من حكم له الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مات شهيدا أو سيموت شهيدا، كعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة كثير، كما يستثنى من ذلك أيضا، أن تحكم على جماعة من المسلمين قاتلوا في سبيل الله أنهم شهداء، دون تعيين أحد بعينه، ويجب على المسلمين ألايحملهم حبّهم لإمام معين جاهد في سبيل الله، فيما يظهر لنا، ألايلتزموا بالسنة فيحكموا له بالشهادة فيقال: الإمام الشهيد، ويشهد لذلك الحديث الذي أوردناه في باب: إعلامه بكثير من أمور الغيب، والذي ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على أحد المقاتلين المجاهدين- فيما يرى الناس- أنه من أهل النار، بالرغم أن الصحابة قد أثنوا عليه أبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الثناء، لشجاعته وإقدامه وقتله الكثير من الكفار. الفائدة الثانية عشرة: في الحديث التفات واضح حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بكلامه فقال: «تضمن الله لمن خرج» ، ثم حدث التفات في النص، فجاءت فقرة معترضة في الحديث من كلام الله- عز وجل- كأنه حديث قدسي فقال: «لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي» ، ثم أكمل النبي الحديث من لفظه فقال: «والذي نفس محمد بيده» ، وهذا يحدث في القرآن كما يحدث في السنة، قال تعالى: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان: 13] . ثم حدث التفات في الآية التي تليها، وكانت من كلام الله- عز وجل- فقال: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لقمان: 14] ، ثم أكمل لقمان النصح لابنه في بقية الآيات، وأرى أن لقمان قد أوصى ابنه بالوالدين إحسانا، ولكن لما كان شأن الإحسان إلى الوالدين عظيما، التفت الخطاب وكان الكلام من الله- عز وجل- وهذا من شاكلة الحديث الذي مضى، فلما كان أمر النية والإخلاص عظيما في الجهاد ورد ذكره من كلام الله- عز وجل-. فالحاصل: أن الالتفات في الكلام، يشد انبتاه السامع مع التأكيد على عظيم الكلام الذي تم فيه الالتفات، ولا يشترط في الالتفات أن يتغير شخص المتكلم، فقد يحدث ويكون المتكلم واحدا، وذلك بتغيير الضمير من المخاطب إلى الغائب، وهذا كثير جدّا في القرآن الكريم. الفائدة الثالثة عشرة: [في أقسام الشهداء وأحكامهم] [أقسام الشهداء] ينبني على ذلك أن الشهداء ثلاثة أقسام: [القسم] الأول: شهيد الدنيا والآخرة ، وهو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا بإخلاص ونية. [القسم] والثاني: شهيد الدنيا دون الآخرة ، وهو الذي يموت سمعة ورياء. [القسم] والثالث: شهيد الآخرة دون الدنيا وقد عدّهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الشهداء: الغرق، والمطعون، والمبطون، والهدم» «1» . وأحكام الشهداء على النحو التالي: [الحكم] الأول: لا يغسل ولا يكفن في الدنيا ويدخل الجنة بحول الله. و [الحكم] الثاني: لا يغسل ولا يكفن في الدنيا، وأمره في الآخرة إلى الله- عز وجل- إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.   (1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: الصف الأول، برقم (721) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 و [الحكم] الثالث: يغسل ويكفن ويصلّى عليه، وفي الآخرة يرجى له الجنة بشهادته. الفائدة الرابعة عشرة: في الحديث أن على الإمام أن يرفق بالأمة، وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها وعليه أن يسعى في إزالة ما يكره المسلمون وما يشق عليهم. ونأخذ منه أيضا أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، والمفسدة هنا المشقة التي يتكبدها المسلمون بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، والمصلحة التي أخّرت هي الخروج في سبيل الله. وأسوق مثالا، يبين كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم أرفق الناس بأمته وأبعد الناس عما يشق عليها، فأقول: كانت أحب العبادات إلى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ومع ذلك كان يدخل الصلاة وفي نيته أن يطيل، يتلذذ فيها بالقراءة ومناجاة ربه- تبارك وتعالى- ومن معه صلى الله عليه وسلم من جموع الصحابة رضي الله عنهم- ولكن كان إذا سمع في تلك الصلاة بكاء صبي، يخفف الصلاة، شفقة على أمه وكراهية المشقة عليها، ويفوّت على نفسه، وعلى بقية أصحابه، الأجر العظيم المترتب على طول الصلاة، شفقة على امرأة واحدة، من منا يفعل ذلك؟ روى أبو قتادة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنيّ لأقوم في الصّلاة أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصّبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه» . «1» الفائدة الخامسة عشرة: فيه تسلية لمن عزم على الطاعة، وحيل بينه وبينها، فلا يظن بنفسه سوآ، فيقول: لو علم الله في نفسي خيرا وصدقا لوفقني للطاعة، كما لا يظن في الله سوآ فيقول: لم لم يوفقني وأنا ما أردت إلا خيرا؟ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبد الخلق لله، وأخلصهم له نية، يقسم بالله ليود ألا يقعد خلف سرية، ومع ذلك يحال بينه وبين ذلك، والله يقدر على أن يرزقه فيحمل فقراء المسلمين معه، أو يرزق الفقراء، والله- عز وجل- لا تعجزه الأسباب، ولكن شاء الله غير ذلك، وكل مشيئة لله مبنية على الحكمة، التي قد تخفى علينا، فعلى المسلم أن يسلم ويرضى، ولا يتكلف البحث عن حكمة الله في كل شيء، فما بيّنه الله من الحكم حمدناه على ذلك وآمنا بها، وإن كانت على خلاف المعقول بالنسبة للعقول، وما حجب عنا سلمنا به، وأيقنا أن حكمته- عز وجل- بالغة، فالمسلم لا يؤمن لأن عقله اقتنع بالحكمة أو السبب، بل يؤمن لأنه يعلم أن الله هو الذي أمر ونهى، وحكم وقدر في الأمور القدرية والشرعية، وإن لم نفعل ذلك لكنا مؤمنين بعقولنا، وما تمليه علينا أفهامنا فما قبله العقل قبلناه، وما رده رددناه.   (1) أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبي حديث (707) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 والحاصل: أنه يجب علينا ألا نغتر بمن يحكم عقله في أمور الدين، بل نسلم كما كان يسلم أبو بكر وعمر، فننال ما نالا من الأجر والمثوبة. المثال الثاني: عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف اللّيل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته فأصبح النّاس يتحدّثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللّيلة الثّانية، فصلّوا بصلاته فأصبح النّاس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من اللّيلة الثّالثة، فخرج، فصلّوا بصلاته، فلمّا كانت اللّيلة الرّابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: الصّلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى خرج لصلاة الفجر فلمّا قضى الفجر أقبل على النّاس ثمّ تشهّد فقال: «أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ شأنكم اللّيلة ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم صلاة اللّيل فتعجزوا عنها» «1» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: أ- شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة حيث ترك صلاة الليل، في المكان الذي خصصه لنفسه، مخافة أن تفرض صلاة الليل على هذه الأمة، ويعجز البعض عن القيام بها فيأثم بتركها. روت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحتجر «2» حصيرا باللّيل فيصلّي عليه ويبسطه بالنّهار فيجلس عليه «3» . ومن الأحاديث التي توضح شفقته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيّها النّاس قد فرض الله عليكم الحجّ فحجّوا» . فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتّى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم. لوجبت، ولما استطعتم، ثمّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم   (1) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان ... ، برقم (761) . (2) يحتجر: أي يتخذه مثل الحجرة فيجعله حاجزا بينه وبين غيره. (3) البخاري، كتاب اللباس، باب: الجلوس على الحصير ونحوه، برقم (5862) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» «1» . وأيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشقّ على أمّتي، أو على النّاس لأمرتهم بالسّواك مع كلّ صلاة» «2» . ب- حكمته صلى الله عليه وسلم؛ فقد وازن بين مصالح أداء الناس صلاة الليل في المسجد، وهي مصالح عظيمة، منها: تعلق قلوب الناس بالمساجد، وسماع الذكر الحكيم، وزيادة الدرجات بالمشي إلى المساجد، وصلاة الملائكة على من ينتظر تلك الصلاة، وبين مفسدة أن تفرض صلاة الليل على الأمة فيعجز عنها الكثيرون، جزئيّا أو كليّا، فيأثمون على تركها، فدفع صلى الله عليه وسلم تلك المفسدة العظيمة بتفويت المصالح المترتبة على صلاة الليل، وهي قاعدة شرعية عظيمة في الشرع وأساسها (أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح) ويمكن أن نستدل بهذا الحديث على صحة القاعدة الشرعية المشار إليها. والذي يؤكد لنا عظيم حكمته صلى الله عليه وسلم أن صلاة التراويح في رمضان، أصبحت من زمن عمر رضي الله عنه تقام في المساجد بلا خوف من فرضها على الأمة فتحققت المصلحة، ودرئت المفسدة، ولله الحمد من قبل ومن بعد. ج- زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا وعدم الالتفات إليها، لما ورد عند البخاري في إحدى روايات الحديث: (كان يحتجر حصيرا بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه) ، فالأمر كله لم يتعدّ قطعة حصير، تكون له في الصباح فرشا يجلس عليه، وفي الليل يحوط به مكانا فيصلي فيه، والغريب أن قطعة الحصير واحدة للصبح والليل. د- حسن معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه حيث بيّن في أول لقاء معهم- وهو صلاة الفجر- سبب عدم الخروج إليهم والحكمة من ذلك. وهكذا يجب أن يكون دأب الحاكم مع رعيته، الاهتمام بهم، يتمثل في قول الراوي: (فأقبل على الناس) ، وعدم تأجيل ما يحتاج إلى بيان إلى وقت لاحق، حتى لا يكثر الكلام وتخرج الإشاعات، مع الاعتذار إليهم عما قد يسبب حرجا لهم، وشرح حكمة وأسباب ما اتخذه من قرارات قد يراها البعض ضد مصلحتهم، مع الحرص على عدم إنابة غيره، خاصة مع القدرة وأهمية الأمر.   (1) مسلم، كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337) . (2) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، برقم (887) ، مسلم، كتاب: الطهارة، باب: السواك، برقم (252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وأعتقد أن سبب عدم خروج النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالليل، ليبين لهم الحكمة من عدم صلاته معهم، أنه أراد أن يحسم القضية تماما مع علمه صلى الله عليه وسلم أنهم في أشد الشوق لخروجه، فرؤيتهم له وهو خارج من بيته يزيد أملهم وشوقهم للصلاة خلفه، فالاعتذار إليهم في مثل تلك الحالة من المؤكد أنه سيسبب لهم حزنا خاصة إذا علموا أنه لن يصلي بهم مرة أخرى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن من الأفضل تركهم بالليل، وهم يعلمون أن هناك عذرا يمنعه من الخروج إليهم، وإن صح هذا الاستنباط، فيكون هذا التصرف دليلا على حكمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بالأمة. الفائدة الثانية: في حرص الصحابة على الخير، ويتمثل ذلك في: 1- اجتماعهم في جوف الليل حتى يصلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم. 2- تحدثهم صباح كل ليلة، بأنهم صلوا القيام بالمسجد، مما كان يزيد عدد المصلين كل ليلة، حتى عجز المسجد بأهله في الليلة الرابعة، وهذا من حرصهم على الخير. 3- انتظارهم طويلا أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم الليلة الرابعة، لعله يخرج إليهم، وورد في بعض روايات البخاري: (فقدوا صوته وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم) ، وعنده أيضا: (فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب) ، وهذا مسلك أصحاب الهمم العالية في العبادة، ليس كمثل من يعزم على فعل الخير، فيرده أدنى سبب، فيقول: (قدر الله وما شاء فعل) ، ويقول آخر: (إنما الأعمال بالنيات) ، ويقول ثالث: (نية المرء خير من عمله) ، فليس الأمر بهذه السهولة، أن نطلب الأجر والثواب، دون الرغبة الأكيدة في عمل الخير والحرص عليه وبذل كل الجهد لتحصيله، بل ينبغي الأسى والأسف على فواته، حتى ولو كان الأمر خارج إرادة العبد. د- شفقته صلى الله عليه وسلم بمن ارتكب الكبائر: عن عمران بن حصين أنّ امرأة من جهينة أتت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزّنى فقالت: يا نبيّ الله أصبت حدّا فأقمه عليّ فدعا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وليّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ، ففعل، فأمر بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فشكّت عليها ثيابها ثمّ أمر بها، فرجمت ثمّ صلّى عليها، فقال له عمر: تصلّي عليها يا نبيّ الله، وقد زنت؟! فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله؟!» «1» .   (1) مسلم، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1696) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الشّاهد في الحديث: أن شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة لم تقتصر على الأطفال والخدم، وعموم المسلمين، بل تعدت لتشمل من جاء تائبا من أهل الكبائر، وسنرى كيف كان تعامله صلى الله عليه وسلم مع هذه الفئة من الناس. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في مظاهر شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بمن تاب بعد أن ارتكب كبيرة من أكبر الكبائر، وكذا حكمته في التعامل مع الواقعة. 1- لم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أدنى توبيخ ولم يعنفها، بل لم يلمها على ما فعلت، لأن المرأة قد تابت، فلا ينبغي أن نذكرها بما تكره، لعدم وجود أدنى مصلحة في ذلك، وهذا يدل على بالغ حكمته صلى الله عليه وسلم. 2- لم يسأل المرأة عن اسم الرجل الذي واقعها، وهذا يدل على أن العفو يجب أن يقدم عند الإمام على إقامة الحد، ما لم يبلغه الخبر، كما أن الستر أولى من الفضيحة، وقد يكون الرجل قد تاب أيضا. ويتفرع على ذلك: وجوب عدم تتبع عورات الناس من باب أولى. 3- كما أن من حكمته وشفقته صلى الله عليه وسلم أيضا، أنه لم يردها وحدها حتى تضع حملها، بل دعا وليها، ليكون مسئولا عنها، تلك الفترة، وأمره بالإحسان إليها، وهو أمر جامع، يتضمن كل أوجه الخير الذي يمكن أن يفعله الولي، وهي في أحوج ما يكون لذلك الإحسان، لاحتمال تعرضها لأذى من قرابتها، وحرمان من النفقة. 4- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية الجنين الذي في بطن المرأة، فأجل الحد إلى ما بعد الولادة، وفي ذلك إعلان منه صلى الله عليه وسلم بتبرئته، وأنه لا يؤخذ بذنب أمه. 5- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ستر المرأة أثناء إقامة الحد عليها، وعمل ما يضمن ذلك، قال الراوي: (فشكّت عليها ثيابها) ، مع أن المقام نستبعد فيه أن ينظر أحد إلى المرجومة بشهوة، لكن العورات يجب حفظها في كل حال، وفيه لفتة إلى وجوب الستر من باب أولى وأولى في غير هذا الموضع. 6- صلاته صلى الله عليه وسلم على المرأة التائبة بعد وفاتها، وقد استعظم عمر رضي الله عنه تلك الصلاة، لأنه يعلم أن صلاته صلى الله عليه وسلم سكن ورحمة للمسلمين، في حياتهم وبعد مماتهم، فعلل له النبي صلى الله عليه وسلم سبب الصلاة، وهو التوبة النصوح للمرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 7- ذكر محاسن هذه المرأة، والثناء عليها أبلغ الثناء حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم» . الفائدة الثانية: في مناقب المرأة: 1- أعظم ما فيها هي توبتها النصوح، وعلامتها: أنها قد جاءت من تلقاء نفسها تخبر أنها قد أصابت حدّا، وتريد إقامة الحد عليها، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم قدر تلك التوبة بأنها تكفي سبعين رجلا من أهل المدينة. يتفرع على ذلك: أن التوبة تتفاوت درجاتها، بحسب ما يجده العبد من ندم على ما اقترف، وعزم على عدم العودة، وترك كل الأسباب التي قد تؤدي للعودة إلى المعصية. 2- خوفها من الله- عز وجل- مع فقهها حيث أرادت أن تجمع بين كفارتين للكبيرة، وهما إقامة الحد مع التوبة، وإن كانت واحدة لتكفي، ولكنها أرادت أن تكون على يقين كامل أنها ستقابل ربها، وليس في صفحتها أدنى مسائلة عن هذه الكبيرة. 3- أدبها وعفة لسانها حيث لم تذكر مسمى الكبيرة التي وقعت فيها، لأن التعريض يكفي، فكان كل ما قالته: (يا نبي الله أصبت حدّا فأقمه علي) . هـ- شفقته صلى الله عليه وسلم بمن سبه النبيّ أو دعا عليه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت عند أمّ سليم يتيمة؛ وهي أمّ أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال: «آنت هيه؟ لقد كبرت، لاكبر سنّك!» ، فرجعت اليتيمة إلى أمّ سليم تبكي فقالت أمّ سليم: ما لك يا بنيّة؟ قالت الجارية: دعا عليّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ألايكبر سنّي، فالآن لا يكبر سنّي أبدا، أو قالت: قرني. فخرجت أمّ سليم مستعجلة تلوث خمارها حتّى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أمّ سليم؟» فقالت يا نبيّ الله: أدعوت على يتيمتي؟ قال: «وما ذاك يا أمّ سليم؟» قالت: زعمت أنّك دعوت أن لا يكبر سنّها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ قال: «يا أمّ سليم أما تعلمين أنّ شرطي على ربيّ أنّي اشترطت على ربيّ. فقلت: إنّما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر فأيّما أحد دعوت عليه من أمّتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا، وزكاة، وقربة يقرّبه بها منه يوم القيامة؟!» «1» . الشّاهد في الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم «أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما   (1) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم ... ، برقم (2603) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- عظيم رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم على كل أفراد أمته، حتى عمت تلك الرحمة، كل مسلم دعا النبي عليه أو سبه، قال الإمام النووي رحمه الله: (هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم) «1» . انتهى. والغريب ألاينسى النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الأمر، أي مصير من وجه إليه السب أو اللعن، بل يحمل همه ويدعو الله- عز وجل-، ويشترط عليه أن يجعل السب أو اللعن الذي توجه به إلى أحد من أصحابه زكاة وقربة يوم القيامة، قربة ممن؟ من الله، - تبارك وتعالى.. وإن تعجب أخي المسلم، فالأعجب بحق، أن يشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقلب دعاؤه وسبه للمسلم، زكاة وقربة، وكان من المفترض أن يشترط، ألا يؤاخذ الله- عز وجل- بسبه ودعائه أحدا، وفي هذا الكفاية، ولكن أن يشترط أن ينقلب الأمر من سب إلى زكاة، ومن لعن إلى قربة، فهذا هو الأعجب بحق. وأظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشترط هذا الشرط الأكمل والأتم، تعويضا لما نال الصحابي الذي سبه من حزن وأسى، وليكون صلى الله عليه وسلم الرؤف الرحيم بهذه الأمة، لمن دعا له، أو دعا عليه، وليس بأهل لهذه الدعوة على حد سواء، قال جل في علاه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] . 2- عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم ويتجلى ذلك في قوله «إني اشترطت على ربي» ، كما يتجلى في استجابة المولى- سبحانه وتعالى- لما اشترطه نبيه صلى الله عليه وسلم. 3- تواضعه صلى الله عليه وسلم وقد علمنا ذلك من قوله: «إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر» ، وهذا حجة على الذين يريدون أن يرفعوا النبي صلى الله عليه وسلم فوق منزلة البشر، في حين أنه صلى الله عليه وسلم يثبت لنفسه البشرية في أقل الأمور وهما الرضى والغضب، ولم يقل   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 النبي صلى الله عليه وسلم «إني أرضى وأغضب» ولكن قيد المسألة ببشريته صلى الله عليه وسلم لأن الله- عز وجل- يرضى ويغضب، وليس رضى الرب وغضبه كرضى البشر وغضبهم؛ فرضى الرب وغضبه موافق للحكمة والحق أبدا، وأما رضى البشر وغضبهم، فقد لا يوافق الحكمة والصواب ولو مرة واحدة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل» . ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على من ليس أهلا للدعاء عليه، لا يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بالحكم بالظاهر، ولا يعلم الضمائر والسرائر، كما أننا ضمنا أن هذه الدعوة ستقع زكاة وقربة. الفائدة الثانية: يقين الصحابة، باستجابة المولى- سبحانه وتعالى- لكل دعوات النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين، سواء كان المدعوّ عليه، أهلا لهذه الدعوة أم لا ونلمح ذلك فيما يلي: 1- بكاء اليتيمة، لما سمعت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليها ألايكبر سنها، والدليل على اعتقادها استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قولها: (فالآن لا يكبر سني أبدا) ، فبدأت بقولها: (الآن) ، أي من وقتها، وليس من اليوم أو الغد، وهذا شعور منها أن الاستجابة من الله فورية، وختمت قولها بلفظ (أبدا) ، لينفي أي أمل لديها أن تكبر؛ إذ كلمة «أبدا» تستوعب كل المستقبل. 2- خوف أم سليم الشديد من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وشواهده خروجها مستعجلة في حال ربطها الخمار، ولم تنتظر أن تصلح لباسها كاملا قبل الهم بالخروج من البيت، ورد في الحديث: (فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها) ، بالإضافة إلى ظهور الفزع على وجهها عند مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم ففي الحديث: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالك يا أم سليم) ، وتأمل أخي المسلم، كيف قابل النبي صلى الله عليه وسلم فزع أم سليم، بالضحك قبل أن يبين لها ما اشترط على ربه، وذلك حتى يذهب ما تجده من حزن وخوف، وتستطيع أن تستوعب ما تسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثّالثة: أدب الصحابة الجم، مع النبي صلى الله عليه وسلم يتبين ذلك مما يلي: 1- كان هم اليتيمة الوحيد لما رجعت إلى أم سليم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليها، ولم تشغل نفسها، هل هي تستحق الدعاء عليها أم لا؟ لذلك لم يكن في كلامها مع أم سليم- رضي الله عنها- أي من مظاهر الشكوى أو الاعتراض، وأقول: إنها لم تشغل نفسها بسبب الدعاء أو تعترض، لأنها تثق ثقة مطلقة بعدل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 شكواها أو اعتراضها قد يزيد الأمر، وهي تريد أن تنجو وتسلم لا أن تهلك وتتردى. وأسوق هذا الدرس المستفاد، لكل من يعترض على حكم الله ورسوله، ويناقشه، يريد رده بسوء أدب، أقول له: تعلّم من جارية يتيمة حديثة السن، واعلم أن اعتراضك وسوء أدبك في مناقشتك لأحكام الله ورسوله، لن يغير من الأمر شيئا، اقتنعت أم لم تقتنع، ويكفيك أن تسأل على عدم امتثالك، فلا تضم إليه السؤال عن عدم أدبك، وهو سؤال يوردك المهالك لا محالة، وهو أعظم من السؤال عن المعصية نفسها. وتدبر أخي القارئ، حال جارية تسمع بأذنيها الدعاء عليها، وهي تتيقن أن الدعاء مستجاب ولا بد، وتعود إلى بيتها في حال البكاء والخوف، فماذا تقول في حق من دعا عليها؟ أيحملها خوفها أو حالتها النفسية السيئة أو شدة بكائها أن تنسى مكانة النبي صلى الله عليه وسلم لا والله، قالت اليتيمة: (دعا عليّ نبي الله صلى الله عليه وسلم) ، هكذا منتهى الأدب. 2- قول أم سليم- رضي الله عنها- للنبي صلى الله عليه وسلم: (زعمت أنك دعوت ألايكبر سنها) ، فهي أيضا قد راعت عظيم الأدب في كلامها، مع خوفها الشديد على يتيمتها، حيث قالت: (زعمت) ، ولم تقل: (قالت) ؛ لأنها تعلم من حال النبي صلى الله عليه وسلم حسن خلقه وشفقته ورحمته، وأن الدعاء على أصحابه ليس من شيمته ولا من عاداته، قال الإمام النووي- رحمه الله.: (وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأوقات، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه) «1» . وشفقته صلى الله عليه وسلم بالحيوان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم في الخصب «2» فأعطوا الإبل حظّها من الأرض، وإذا سافرتم في السّنة «3» فأسرعوا عليها السّير، وإذا عرّستم «4» باللّيل، فاجتنبوا الطّريق، فإنّها مأوى الهوامّ باللّيل» «5» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 152) . (2) الخصب: أي كثرة العشب والمرعى. (3) السنة: أي القحط. (4) التعريس: أي الوقوف في طريق السفر آخر الليل للراحة أو الأكل أو لقضاء الحاجة. (5) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: مراعاة مصلحة الدواب في السير ... ، برقم (1926) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 السنة، فأسرعوا عليها السير» ، ومن أوجه الرفق بالحيوان التي أمرنا بها الحديث الأمور التالية: الأمر الأول: المسافر في حال كثرة العشب والمرعى، عليه أن يقلل السير ليعطي الإبل، أو أي مركوب الفرصة لتأخذ حظها من المرعى، وفي حال القحط وهو قلة المرعى، على المسافر أن يجتهد في السير ليصل إلى غايته قبل أن يلحق الضرر والإعياء بالدواب من قلة المرعى. الأمر الثاني: كما أن المسافر إذا أراد التعريس، فعليه أن يجتنب صدر الطريق حيث تمشي فيه الدواب والسباع وغيرها من الحيوانات، تلتمس فيه طعامها مما يسقط من السالكين من طعام أو شراب. الأمر الثالث: يدل مفهوم الحديث على تحريم تعذيب الحيوان، كمن يتخذه هدفا يصوب عليه، ومن يحبسه بلا طعام ولا شراب، ومن يصطاده ليس بغرض الأكل بل لغرض التسلية، بل وصل بنا الأمر أن نترك الأطفال بل الشباب، يلعبون بهم أحياء ويعذبونهم حتى الموت، ونسينا ما ورد في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النّار في هرّة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» [رواه البخاري] «1» . ومن دلائل الرفق بالحيوان، الحديث الذي يرويه شدّاد بن أوس قال: (ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته» «2» . 11- زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا: عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لعروة: ابن أختي «3» إن كنّا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التّمر والماء، إلّا أنّه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم   (1) البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق ... ، برقم (3318) ، مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم تعذيب الهرة ... ، برقم (2242) . (2) مسلم، كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: الأمر بإحسان الذبح ... ، برقم (1955) . (3) كلمة «ابن» منصوبة على النداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه) «1» . الشّاهد في الحديث: قول عائشة رضي الله عنها: (إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ومن علامات هذا الزهد: أ- مرور الشهرين: (ثلاثة أهلة) على جميع بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا يوقد نار لنضج لحم أو طبخ إدام. ب- اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته على أكل الأسودين التمر والماء: والغريب أن ابن حجر «2» رحمه الله ذكر أن شبع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الأسودين، يمثل الحالة الثانية لهم بعد أن فتح الله عليه قريظة وغيرها، فماذا كانت الحالة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم؟. ج- لم يكن زهد النبي صلى الله عليه وسلم مقتصرا على الطعام والشراب بل تعدى ذلك ليشمل: فراشه صلى الله عليه وسلم: لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه) «3» . متاعه بالبيت: ورد في الحديث المشار إليه أعلاه قول عمر رضي الله عنه: (وإذا أفيق معلق) ، والأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه. لباسه: أوردت في باب إيثاره وجوده صلى الله عليه وسلم واقعة المرأة التي نسجت بردة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها) . والأغرب من كل ما ذكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزهد في متاع الدنيا من لباس وغذاء وفراش فقط، بل كان يكره أي شيء يذكّره بالدنيا، روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الدّاخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوّلي هذا، فإنّي كلّما دخلت، فرأيته ذكرت الدّنيا «4» .   (1) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (6459) ، مسلم، كتاب: الزهد والرقاق، برقم (2972) . (2) انظر فتح البارى (9/ 527) . وفيه خيبر بدلا من قريظة. (3) مسلم، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزال النساء ... ، برقم (1479) . (4) مسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان، برقم (2107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فكأنه صلى الله عليه وسلم أراد ألايكون له أدنى تعلق بالدنيا، حتى ولو كان مجرد تذكر عارض يطرأ ثم يذهب، وعلة ذلك أن ينشغل قلبه وعقله صلى الله عليه وسلم بالآخرة في كل أوقاته وأحواله. الفائدة الثانية: هذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم حيث ألزم نفسه ونساءه هذا الزهد، ولما تمالأن عليه ليزيد النفقة أبى، ونزل القرآن يؤدب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالأدب الرباني، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب: 28] . فخير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه في البقاء معه، أو التسريح الجميل، فاخترن جميعهن الله ورسوله. ويجب على المكاذبين لنبوته أن يتأملوا هذا الزهد، أفرأيتم إن لم يكن نبيّا، قد علم من نفسه أنه يكذب على الله، فكيف يضيع آخرته بكذبه على الله (حاشا لله) ، ويضيع الدنيا بهذا الزهد والتقشف، في الأكل والشرب والملبس والفراش الخشن، مع قدرته على أن يتنعم بأحسن ما فيها، ولا يخفى على أحد تقديم أصحابه وحبهم له، فو الله لو طلب أولادهم وما عندهم من مأكل ومشرب، لقدموا ذلك له فرحين مختارين سباقين، أيخفى على أحد أنهم تركوا كل ذلك، وهاجروا من مكة إلى المدينة لله ورسوله، أيفعلون ذلك وهم في شك من أمره؟ وهل يفعل ذلك هو (يضيع الدنيا والآخرة) وهو أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأكثرهم أمانة، باتفاق أهل عصره قبل البعثة النبوية، ولماذا ترضى الزوجات بهذا الضيق في العيش، والمرأة ما تتزوج من رئيس القوم إلا للجاه والسلطان والمال ومتاع الدنيا. وكيف يتحقق ذلك لنساء النبي، وكل واحدة منهن تعيش في غرفة واحدة، ومعها في القسمة نساء كثيرات، كان فيهن ذوات الحسب والنسب، بل تأتي المرأة وتهب نفسها لرسول الله، مختارة تتمنى أن يوافق، وقد جاوز الخمسين من عمره، في أي شيء كانت تفكر عندما فعلت ذلك؟! وماذا كانت تأمل أن يقدم لها من الدنيا؟! بل إن الله حرم عليهن أن يتزوجن بعده أبدا، بل إنه صلى الله عليه وسلم لا يورث فما تركه كان صدقة، والله ما كانت تفكر إلا في شرف الانتساب لبيت النبوة، وتكون أمّا للمؤمنين، تذكر في الكتاب المبين، وليست واقعة زيد بن حارثة، ببعيدة عنا، وهو الذي- كما أشرنا- فضّل الخدمة عنده على الحرية مع أبيه وعشيرته، أيستطيع رجل أن يخدع زوجاته وخدمه في كل أموره طيلة حياته، وهم الذين يطلعون على ما لا يطلع عليه سواهم، ويرون ما لا يراه سواهم، فضلا عن أصحابه الكثر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 والله، إن ذلك لمن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ولكن الظالمين بايات الله يجحدون. الفائدة الثّالثة: الزهد في الدنيا أولى وأحب إلى الله- عز وجل- من الترف، ولو كان المسلم قادرا على الترف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الدنيا على الآخرة، وما برّر ذلك بقلة المال ولكن برره بقوله: «يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» . 12- شدته صلى الله عليه وسلم في الحق عن عائشة رضي الله عنها أنّ قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة الّتي سرقت فقالوا: ومن يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلّا أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه أسامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حدّ من حدود الله؟» ، ثمّ قام فاختطب ثمّ قال: «إنّما أهلك الّذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ، وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها» «1» . [متفق عليه] . الشّاهد في الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حدّ من حدود الله؟» ، وقوله: «لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- شدته صلى الله عليه وسلم في الحق يتبين من رده صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة بن زيد رضي الله عنه حبّه وابن حبّه، وقال صلى الله عليه وسلم مقولته المشهورة: «أتشفع في حدّ من حدود الله؟» ، وقد ورد عند مسلم: (فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فمع أن الشافع هو رجل من أحب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم اختاره الصحابة بعناية لهذه المهمة، ولكن الأمر لم يختلف عنده صلى الله عليه وسلم كما ظن الصحابة فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من هو الشافع، ولكن نظر إلى المشفوع فيه، وهو حد من حدود الله. وفي هذا دليل على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لحدود الله، وهكذا يجب أن يكون جميع الناس حكاما ومحكومين.   (1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، برقم (3475) ، مسلم، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف ... ، برقم (1688) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 2- مساواته صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود بين الناس، شريفهم ووضيعهم حيث رد صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة بن زيد في امرأة شريفة (قرشية مخزومية) وزاد على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها» ، ونقف عند هذه المقولة العظيمة بتأمل فنقول: أ- بدأها النبي صلى الله عليه وسلم بالقسم فقال: «وايم الله» ليزيدنا اهتماما بالمقولة، ونعلم أنها ليست على سبيل المبالغة، بل هي والله الحقيقة التي لا يماري فيها أحد. ب- عظيم شرف فاطمة رضي الله عنها حيث مثل بها النبي صلى الله عليه وسلم لبيان مساواته بين الحد المتعلق بالضعيف، والحد المتعلق بالشريف، ولو كان هناك أشرف منها، أو أحب إليه منها، لضرب النبي صلى الله عليه وسلم به المثل، ومعلوم للجميع حب النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة، عليها السلام، فعن المسور بن مخرمة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» «1» . ج- وتأمل- أخي القارئ- كيف نسب النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إليه، ليعظم شأنها ويبين شدته في الحق، فقال: (فاطمة بنت محمد) ، ولم يقل: (فاطمة ابنتي) ، ليذكرنا بشرفها وقربها منه صلى الله عليه وسلم ثم قال في إحدى روايات البخاري: «لقطع محمد يدها» ، ولم يقل: (لقطعت يدها) ، بصيغة المبني للمجهول، ليعلمنا أن القطع سيكون بأمره، وأن محمدا الذي هو أبو فاطمة، لن تأخذه الشفقة والحنان الذي يأخذ الوالد بابنته. 3- حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم الأمة حيث قام صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس، عشية يوم أن كلمه أسامة بن زيد، وقال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» ، فحول صلى الله عليه وسلم المسألة من مسألة خاصة إلى مسألة عامة، وعلّم الصحابة الحكمة في رده لشفاعة أسامة بن زيد، وبيّن بذلك مغبة التفرقة في إقامة الحدود على أساس الشرف والنسب. الفائدة الثانية: يتفاوت حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد علم الصحابة ذلك، لذا اختاروا أسامة بن زيد رضي الله عنه ليشفع في المرأة المخزومية وقالوا: (ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وهي منقبة عظيمة لأسامة رضي الله عنه. الفائدة الثّالثة: حرص الصحابة على الخير والاستغفار على الفور مما قد يقعون فيه من زلات، وعلمهم أن استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ليس كاستغفارهم لأنفسهم، لما ورد أن أسامة قال: (استغفر لي يا رسول الله) ، وكان هذا منهم امتثالا لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب قرابة رسول الله ... ، برقم (3714) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] . الفائدة الرّابعة: علم الصحابة رضي الله عنهم بشدة النبي صلى الله عليه وسلم في الحق يتبين ذلك من أمرين: الأمر الأول: قول عائشة رضي الله عنها: (إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية) ، أي: أقلقهم ولولا علمهم بشدته صلى الله عليه وسلم ما أقلقهم أمر المرأة. الأمر الثاني: بحثهم عن أحد يستطيع أن يفاتح النبي صلى الله عليه وسلم يكون مقربا منه جدّا، قالت عائشة: (فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) . 13- شجاعته صلى الله عليه وسلم: عن أنس رضي الله عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس، وأشجع النّاس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصّوت، فاستقبلهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري، وفي عنقه السّيف، وهو يقول: «لم تراعوا، لم تراعوا» ثمّ قال: «وجدناه بحرا، أو قال: إنّه لبحر» «1» . الشّاهد في الحديث: قول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كمال شجاعته صلى الله عليه وسلم ويتبين ذلك من: 1- قول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس) ، أي: إن أنسّا لم ير في حياته، مع ما سمعه من سير الأولين، ومع ما شاهده من حروب وغزوات، من هو أشجع من النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن لماذا وصف أنس النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله: (أحسن الناس) مع أن سياق الحديث عن الشجاعة، وأعتقد أنه قال ذلك، إما لكونه كان يحب أن يمدح النبي صلى الله عليه وسلم كلما سنحت له الفرصة، أو أنه كان رضي الله عنه يرى أن من لوازم كونه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، أن يكون أشجعهم، وأن الجبان لا يمكن أن يكون محمودا، أو في مصافّ من يحمد من الناس. 2- أنه صلى الله عليه وسلم ذهب وحده ليستطلع الخبر الذي أفزعه وأفزع أهل المدينة، وما ذهب وحده   (1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحمائل وتعليق السيف بالعنق، برقم (2908) ، ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: في شجاعة النبي ... ، برقم (2307) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 صلى الله عليه وسلم ليستطلع الخبر من بعيد ثم يأتي أهل المدينة، ولكن ليعالج الأمر، ودليله أنه صلى الله عليه وسلم كان متقلدا سيفه في عنقه. والغريب في هذا الأمر، هو فارق التوقيت الزمني بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم وخروج أصحابه لاستجلاء الأمر، هو خرج واستطلع الأمر وعاد، والصحابة ما زالوا في طريقهم صوب الصوت، وفارق التوقيت يدل على فارق الشجاعة والإقدام، وما عساه صلى الله عليه وسلم أن يفعل وحده إذا وجد ما يحتاج إلى منازلة، هل كان صلى الله عليه وسلم سيقاتل وحده؟ نعم ألم تسمع لقوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84] . فلا غرابة إذن، ولو لم يكن صلى الله عليه وسلم قادرا وحده على معالجة الأمر لاستنفر غيره معه. الفائدة الثانية: ما يجب أن يكون عليه القائد، من شجاعة وإقدام، وتضحية بالنفس من أجل من خلفه، وأن يكون هو صمام الأمن لهم، الذي يهدئهم ويربط على قلوبهم، وألا يؤثر نفسه على نفوسهم في المخاطر، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لم تراعوا لم تراعوا ثم قال: وجدناه بحرا» ، أي: لا تخافوا ولا تفزعوا. الفائدة الثّالثة: الشجاعة خلق محمود في الناس ولولا ذلك ما أثنى أنس رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، ويتفرع عليه: أن الجبن وصف مشين في المرء، وأقول: إن الشجاعة خلق وسط بين خلقين مذمومين هما الجبن والتهور. 14- صبره صلى الله عليه وسلم أ - صبره صلى الله عليه وسلم على أذى المسلمين: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذه شديدة حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء) «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض لأذى شديد من الأعرابي، سأذكره مفصلا، إن شاء الله ومع ذلك صبر بل وأحسن إلى من آذاه. بعض فوائد الحديث:   (1) البخاري، كتاب: اللباس، باب: البرود والحبرة والشملة، برقم (5809) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الفائدة الأولى: صبر الرسول صلى الله عليه وسلم لما يتعرض إليه من أذى، سواء من الكفار، أو المنافقين، أو المسلمين، وتحمل ذلك الأذى في سبيل تألف قلوب الناس، واستمالتهم إلى الإسلام، امتثالا للتوجيه الرباني، في قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران: 159] ، وسنستعرض أوجه الأذى الذي تعرض إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأعرابي، ليتبين لنا مدى صبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الكريم العزيز على ربه. 1- جاء الأعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم من خلفه، وهذا من سوء الأدب، مع مقام النبوة. 2- جبذه جبذة شديدة من ردائه، أثرت على عنقه صلى الله عليه وسلم. 3- لم يناد على الرسول بقوله: يا رسول الله، بل وجه إليه الخطاب مباشرة باسمه، فقال: يا محمد، وهذا منهي عنه، لقوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . 4- لم يراع الأدب في الخطاب حيث كلمه من الخلف، وأمره بالعطاء أمرا لا تلطف فيه، ثم ذكر للرسول صلى الله عليه وسلم أن المال الذي عنده لا حق له فيه، لأنه مال الله، قال الأعرابي: (مر لي من مال الله الذي عندك) . وهذا منتهى سوء الأدب، ويخالف ما أمرنا به من آداب في الآية التي ذكرتها آنفا. الفائدة الثانية: جميل صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى، وعدم رد الإساءة بمثلها، بل كان الرد، بما هو أحسن، وليس بالحسن، امتثالا لقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ [المؤمنون: 96] ، ويتمثل الرد الأحسن للنبي صلى الله عليه وسلم في أنه ضحك للأعرابي، مع أن الأعرابي كان غاية أمله العطاء، وليس التبسط معه، ثم أمر له بالعطاء، فلم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطي جميل ما عنده، بسوء ما عند الأعرابي، قال أصدق القائلين: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . الفائدة الثّالثة: ما ينبغي أن يكون عليه الأمراء والرؤساء وأهل العلم وأهل الحسبة، من صبر على أذى الناس، وغلظة قولهم في بعض الأوقات، وألا يحملوا في قلوبهم شيئا لمن آذاهم حيث ضحك النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي، لإعلامه وإعلامنا، أنه لم يحمل له في قلبه شيئا. ب- صبره صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار: عنّ عائشة رضي الله عنها زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إنّ الله- عز وجل- قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال، وسلّم عليّ ثمّ قال: يا محمّد إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لاقى أذى شديدا من قومه فاحتمل ذلك وصبر عليه، ولم يتعجل هلاك قومه، ولم يدع عليهم بالاستئصال، بل رجا أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله ولا يشرك به شيئا. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- عظيم ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى في سبيل الدعوة إلى الله تعالى حيث إنه اضطر إلى الذهاب إلى الطائف، بعد موت خديجة رضي الله عنها وموت عمه أبي طالب، رجاء أن يجد فيها من يؤويه وينصره ويمنعه من الكفار، فردوا عليه بأقبح رد، بل أنهم أغروا به سفهاءهم فأدموا قدمه صلى الله عليه وسلم فرجع من الطائف مهموما، ولم يفق إلا في قرن الثعالب «2» ، السيل الصغير حاليا، وكان هذا اليوم عند الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من يوم أحد. 2- مظاهر عظيم اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم: أ- أن الله- عز وجل- أرسل سحابة تظل نبيه صلى الله عليه وسلم وعلمنا أن السحابة أرسلت خصيصا له، من قوله صلى الله عليه وسلم «فإذا أنا بسحابة قد أظلتني» ، فإذا هنا تدل على المفاجأة، مما يدل على أن   (1) قرن الثعالب: بسكون الراء هو ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة. انظر معجم البلدان [قرن] . (2) البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، برقم (3231) ، مسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقى النبي .... ، برقم (1795) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 السحابة لم تكن في السماء وما كان يدل على تكونها شيء، بالإضافة إلى قوله صلى الله عليه وسلم قد أظلتني، ولم يقل: أظلت المكان، لإشعارنا أنها جاءت لتظله هو لا غيره. ب- غضب الله العظيم لما قاله أهل الطائف للرسول صلى الله عليه وسلم لقول جبريل عليه السّلام: «قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك» ، ومما يدل على أن غضب الرب جاء لتوجيه خطاب لا ينبغي أن يتوجّه به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السّلام قد استخدم كاف المخاطبة في قوله: «قول قومك لك» ، وفي قوله: «وما ردوا عليك» ، ومما يدل على حدوث الغضب إرسال جبريل عليه السّلام ومعه ملك الجبال. ج- إرادة الله- سبحانه وتعالى- التسرية عن رسوله صلى الله عليه وسلم عما لاقاه من قومه، وإعلامه أن أهل الأرض، إذا آذوه وعاندوه وعادوه، فإن الله القوي العزيز، هو مؤيده وناصره، وكذا ملائكته الكرام، ويتجلى ذلك في إرسال جبريل، أعظم الملائكة، ومعه ملك الجبال، عليهما السلام، ونلمح في الإرسال ما يلي: كان من الممكن إرسال ملك الجبال وحده، للرسول صلى الله عليه وسلم لإنفاذ أمره في قومه، ولكن الله- عز وجل- أراد إظهار حفاوته برسوله صلى الله عليه وسلم خاصة في هذا الموقف الصعب، فأرسل جبريل، يعرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم بملك الجبال، قبل حديث ملك الجبال معه، وهذا منتهى التكريم. تلطف ملك الجبال في الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قاله له: «وقد بعثني ربك» ولم يقل له: (وقد بعثني ربي) ، وقد يكون ذلك من باب الأدب أيضا، وهو أن يضيف لفظ الرب تبارك وتعالى- إلى الأعلى منزلة، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. من عظيم إكرام الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم أن أمر ملك الجبال بالذهاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأتمر بأمره، وينفذ له ما يشاء في قومه، وكأنّ هذا تفويض مفتوح من الله- سبحانه وتعالى- لملك الجبال أن يفعل ما يأمره به النبي صلى الله عليه وسلم حتى دون الرجوع إلى الله، قبل تنفيذ الأمر، وتدبّر قول ملك الجبال: «لتأمرني بأمرك فما شئت» ، ولم يكتف بقوله: (لتأمرني) ، وكان في ذلك الكفاية. ويتفرع على ذلك: علم الله- سبحانه وتعالى- حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وإلا ما أمر ملك الجبال بطاعته طاعة مطلقة. د- حقق الله- سبحانه وتعالى- رجاء رسوله صلى الله عليه وسلم أبلغ تحقيق، بأن أخرج من أصلاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 من آذوه وكفروا به، من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا. الفائدة الثّانية: عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وأنه لم ينتقم لنفسه منهم، بل غلب عليه جانب الرحمة، مع أن ملك الجبال قد عرض عليه أمرا واحدا وهو الإهلاك، وإذا تدبرت رد النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» ، رأيت فيه: 1- أدبه الجم مع ملك الجبال، مع أنه دونه في المنزلة حيث إن كل ما قاله له ردّا على عرضه أن يهلك من آذوه: «بل أرجو» ، ولم يقل له: (لا تفعل) ، أو (دعني وشأنهم) ، بل ذكر أدنى حرف يفيد الإضراب عن قوله، وهو «بل» . ثم ذكر له السبب الداعي إلى عدم قبوله مبدأ الإهلاك، وهذا أيضا من الأدب الجم. 2- أدبه مع الله، خالقه ومولاه، ويتمثل في: أ- قوله صلى الله عليه وسلم: «أرجو» ، فإذا كان أمر الهداية، بيد الله وحده، فليس للعبد إلا الرجاء. ب- إعلانه أن خروج الذرية الصالحة، من أصلاب الرجال، إنما هو بأمر الله وتوفيقه حيث ذكر أن فاعل «يخرج» ، هو الله قال صلى الله عليه وسلم «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم» ، فلم ينسب لنفسه شيئا. 3- كما أنه لم يذكر نفسه أيضا لما ذكر عقيدة من يأمل أن الله سيخرجهم من أصلاب الكفار، فقال «من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» . الفائدة الثالثة: عظيم قدرة الله- سبحانه وتعالى- في خلقه، تتمثل في خلق ملك واحد، يوكل إليه أمر الجبال كلها، وهي من أعظم مخلوقات هذا الكون الفسيح، ونعلم منه أيضا، بالغ حكمة الله- عز وجل- في تدبير ملكه الواسع، بأن جعل لكل قسم من أقسام ملكه، ملكا ينفّذ أمر الله في هذا الكون، ليس هذا من باب عجز الله، في القيام بذلك وحده- حاشا لله- بل لإظهار حكمته وقوته وعظمته، فالملائكة لا تفعل شيئا إلا بإذنه وأمره، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ، فهو- سبحانه وتعالى- القائم بنفسه على كل ما خلق وذرأ، بما في ذلك ملائكته الكرام الذين وكلوا بأمور عظيمة. الفائدة الرابعة: جواز أن يقول العبد: (أنا) ، وليس في ذلك حرج، شريطة أن لا يقولها زهوا أو تكبرا، لورود النهي عن ذلك، كما أنه من التكلف أن يقول المسلم: (أنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وأعوذ بالله من كلمة أنا) ، ودليله من الحديث، قول ملك الجبال: «وأنا ملك الجبال» وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «أنا سيد الناس يوم القيامة» «1» . ج- صبره صلى الله عليه وسلم على أقدار الله المؤلمة المثال الأول: عن أنس رضي الله عنه قال: (لمّا ثقل النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل يتغشّاه، فقالت فاطمة- عليها السّلام- واكرب أباه. فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلمّا مات قالت: يا أبتاه أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه من جنّة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلمّا دفن قالت فاطمة- عليها السّلام- يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التّراب؟) «2» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة ثقلت عليه سكرات الموت، وكان يغشى عليه ثم يفيق، حتى قالت فاطمة واصفة ما كان يلقاه صلى الله عليه وسلم من الشدة: (واكرب أباه) ومع ذلك لم يقل صلى الله عليه وسلم كلمة تدل على التضجر وعدم الصبر. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: إرادة الله- سبحانه وتعالى- الخير بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه يضاعف عليه شدة الألم، سواء في المرض أو في سكرات الموت، ليضاعف له الأجر يوم القيامة، فعن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك. فقلت: يا رسول الله إنّك لتوعك وعكا شديدا! قال: «أجل، إنّي أوعك كما يوعك رجلان منكم» . قلت: ذلك أنّ لك أجرين؟ قال: «أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلّا كفّر الله بها سيئاته كما تحطّ الشّجرة ورقها» «3» . يتفرع على ذلك: أن نعلم أن من مقتضيات حكمة الله- عز وجل- ربط الأسباب بالمسببات، فربط الأجر بالعمل، حتى مع الأنبياء وهم أحب الخلق إليه، وكان من الممكن أن يجازي الأنبياء بالأجر العظيم دون أن يضاعف عليهم شدة المرض وشدة سكرات الموت، فعلى المسلم أن يصبر ويسترجع في كل ما يلاقيه في دنياه، من مصائب وكرب وفتن   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: ذرية من حملنا مع نوح ... برقم (4712) ، مسلم، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194) . (2) البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4462) . (3) البخاري، كتاب: المرض، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء ... ، برقم (5648) ، مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ... ، برقم (2571) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وأمراض، فلعل الله- عز وجل- يريد أن يرفع درجته في الآخرة، وقد بينت ذلك في أكثر من موضع. الفائدة الثانية: ما يجب أن يكون عليه المسلم من حسن الظن بالله عند الموت، وأن يغلّب الرجاء على الخوف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» ، وعلى المسلم أن يتذكر في ذلك الوقت، ما ورد عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: أنا عند ظنّ عبدي بي» «1» . الفائدة الثّالثة: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس الصحابة رضي الله عنهم حيث قالت فاطمة عليها السلام لأنس رضي الله عنه: (يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب) ، فبرغم أن هذا الأمر ضروري، بل هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الدفن، إلا أنها استعظمت أن يقوم الصحابة بفعل يخالف في ظاهره المحبة والتعظيم، الذي ينبغي أن يسلكه كل أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومماته، وقد تكون استعظمت أيضا، أن قيام الصحابة بإحثاء التراب، هو إعلان أن هذا آخر عهدهم في الدنيا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإذا تدبرت أخي القارئ، حال الصحابة مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عرفت أوجه تقصيرنا معه، سواء في الحب أو التعظيم أو الشوق إليه. فإنا لله وإنا إليه راجعون. الفائدة الرّابعة: جواز نعي الميت بما هو أهله، وليس هذا من النياحة، لقول فاطمة، رضي الله عنها: (يا أبتاه أجاب ربّا دعاه يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه) . ولكن ينبغي على المسلم، ألايذكر في نعيه لميت، أنه في جنة الفردوس، أو أنه مغفور له، أو يشهد أن الله قد أكرمه، لما ورد أن امرأة من الأنصار قالت تنعي عثمان بن مظعون: (رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقالت المرأة: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله ما يفعل بي» ، فقالت المرأة: فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدا) «2» ، وهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسه قبل أن يوحى إليه أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.   (1) البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، برقم (7505) . مسلم، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2675) . (2) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الدخول على الميت ... ، برقم (1243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 المثال الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرا لإبراهيم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبّله وشمّه، ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله. فقال: يا ابن عوف إنّها رحمة. ثمّ أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه مثل ما يصيب الناس، من أقدار الله المؤلمة، كالمرض والجوع وفراق الأحباب، وما أصابه في هذا الحديث، هو موت الولد، المحبب إلى الوالد، خاصة إذا لم يكن عنده غيره، فصبر صبرا جميلا، وهو الصبر الذي لا نياحة فيه، ولا شكوى ولا جزع ولا اعتراض على قضاء الله وقدره. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية 1- رقة قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويتمثل ذلك في: أ- تقبيل وشم ابنه وقت مرضه. ب- بكاؤه لما رأى إبراهيم يجود بنفسه، أي يحتضر. ج- حزن قلبه، لما مات ابنه إبراهيم وأعلم أصحابه بهذا الحزن، فقال صلى الله عليه وسلم: «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» . 2- أدبه مع الله- عز وجل- ورؤيته له في كل أحواله حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل- مع حزنه الشديد- أي كلمة تدل على جزعه وعدم صبره، وبرر ذلك بعدم إرادة قول ما لا يرضي الربّ- سبحانه وتعالى- قال صلى الله عليه وسلم: «ولا نقول إلا ما يرضى ربّنا» . الفائدة الثانية: بكاء العين وحزن القلب- عند نزول المصائب- لا يقدح في إيمان العبد وتسليمه بقضاء الله وقدره، وقد استشكل الأمر على الصحابي، عبد الرحمن بن عوف رضي الله عندما رأى بكاء النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه فقد كان يظن أن البكاء والحزن، لا يناسب مقام النبوة، فقال متعجبا: (وأنت يا رسول الله؟!) ، أي: وأنت يجوز في حقك الحزن   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بك لمحزونون ... ، (1303) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والبكاء، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من الرحمة قال صلى الله عليه وسلم «يا ابن عوف إنها رحمة» . يتفرع على ذلك: خطأ من يقول: إنني أفرح بكل أقدار الله- سبحانه وتعالى- ويريد أن يجعل هذا الفرح علامة على حبه لله، فأقول له: لن يكون حبك لله- عز وجل- كحب النبي صلى الله عليه وسلم له، ومع ذلك أبدى الحزن والبكاء، ونخشى على من لا يبكي ويحزن، أن يكون قد نزعت الرحمة من قلبه؛ قال تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) [النجم: 43] . د- صبره صلى الله عليه وسلم على أذى المنافقين وأذى المسلمين وأقدر الله المؤلمة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه، فسرنا حتّى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرّحيل، فقمت حين آذنوا بالرّحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرّحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع؛ فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه فأقبل الّذين يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الّذي كنت أركب وهم يحسبون أنّي فيه- وكان النّساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهنّ اللّحم، وإنّما يأكلن العلقة من الطّعام «1» فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه، وكنت جارية حديثة السّنّ فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الّذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدونني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ ثمّ الذّكوانيّ من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني- وكان يراني قبل الحجاب- فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ يدها فركبتها فانطلق يقود بي الرّاحلة حتّى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرّسين في نحر الظّهيرة، فهلك من هلك، وكان الّذي تولّى الإفك عبد الله بن أبيّ، ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا، والنّاس يفيضون من قول أصحاب الإفك ويريا بني في وجعي أنّي لا أرى من النّبيّ صلى الله عليه وسلم اللّطف الّذي كنت أرى منه حين أمرض، إنّما يدخل فيسلّم ثمّ يقول «كيف تيكم؟» «2» لا أشعر بشيء من ذلك حتّى نقهت «3» فخرجت   (1) أي القليل منه. (2) يعني: كيف هذه؟ أو كيف هي؟ بدون ذكر اسمها. (3) نقهت: أي قاربت على الشفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 أنا وأمّ مسطح قبل المناصع متبرزّنا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف «1» قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرّيّة أو في التّنزّه، فأقبلت أنا وأمّ مسطح بنت أبي رهم نمشي فعثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح؛ فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبّين رجلا شهد بدرا؟! فقالت: يا هنتاه ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، فلمّا رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم فقال: «كيف تيكم؟» فقلت: ائذن لي إلى أبويّ، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبويّ فقلت لأمّي: ما يتحدّث به النّاس؟ فقالت: يا بنيّة هوّني على نفسك الشّأن، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله! ولقد يتحدّث النّاس بهذا؟! قالت: فبتّ تلك اللّيلة حتّى أصبحت لا يرقا لي دمع «2» ولا أكتحل بنوم، ثمّ أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي «3» يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالّذي يعلم في نفسه من الودّ لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلّا خيرا، وأمّا عليّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك والنّساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «يا بريرة، هل رأيت فيها شيئا يريبك؟» ، فقالت بريرة: لا والّذي بعثك بالحقّ إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قطّ أكثر من أنّها جارية حديثة السّنّ تنام عن العجين فتأتي الدّاجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» ، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيّان الأوس   (1) الكنف: المكان الذي يقضي فيه الإنسان الحاجة. (2) أي لا ينقطع. (3) أي تأخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والخزرج حتّى همّوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل فخفّضهم حتّى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتّى أظنّ أنّ البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهّد ثمّ قال: «يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه» ، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتّى ما أحسّ منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وأنا جارية حديثة السّنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن فقلت: إني والله لقد علمت أنّكم سمعتم ما يتحدّث به النّاس ووقر في أنفسكم، وصدّقتم به، ولئن قلت لكم: إنّي بريئة- والله يعلم إنّي لبريئة- لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنّي بريئة لتصدّقنّي، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا أبا يوسف إذ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ، ثمّ تحوّلت على فراشي وأنا أرجو أن يبرّئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلّم بالقرآن في أمري، ولكنّي كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّوم رؤيا يبرّئني الله، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1» حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، فلمّا سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال لي: «يا عائشة احمدي الله فقد برّأك الله» ، فقالت لي أمّي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلّا الله، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ... الآيات، فلمّا أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة؛ فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فقال   (1) البرحاء: أي الشدة والتغير الذي كان يعتريه صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 أبو بكر: بلى، والله إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الّذي كان يجري عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: «يا زينب ما علمت ما رأيت؟» فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلّا خيرا، قالت: وهي الّتي كانت تساميني فعصمها الله بالورع) «1» . الشّاهد في الحديث: كانت هذه الحادثة العظيمة في غزوة المريسيع، في السنة الرابعة، كما رجح العلماء؛ لأنه ورد فيها ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وقد توفي سعد بن معاذ إثر إصابته في غزوة الخندق، والخندق بالاتفاق في السنة الرابعة من الهجرة المباركة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج أقرع بين نسائه، فخرجت القرعة لعائشة رضي الله عنها وفي طريق العودة من الغزوة ذهبت عائشة تقضي حاجتها بعيدا عن أنظار الجيش، وبعد قضاء حاجتها فقدت عقدا لها كان في صدرها فرجعت تبحث عنه، وفي أثناء ذلك أمر النبي الجيش بالرحيل، فلما عادت عائشة إلى نفس المكان، وجدت أن القوم قد ارتحلوا وأن الذين حملوا هودجها ووضعوه على البعير لم ينتبهوا أنها ليست بداخله، وذلك لصغر سنها وخفة وزنها، ثم كان من القصة ما هو معلوم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة صبر على إيذاء المنافقين، ومنهم: عبد الله بن أبي بن سلول، فهو الذي أشاع خبر الإفك في المدينة، لأنه أول من رأى عائشة رضي الله عنها تلحق بالجيش عند الظهيرة، ويقود راحلتها صفوان بن المعطل رضي الله عنه. كما صبر على إيذاء بعض الصحابة مثل مسطح وغيره ممن خاض في عرضه، وهو أغلى ما يملك الإنسان، وإذا كان الإنسان يغضب غضبا شديدا، لا يملك فيه نفسه، إذا تكلم أحد وخاض في عرضه وقد يقتل خصمه في ذلك، بل قد يقتل نفسه إذا عجز عن الذب عن عرضه وتبرئة أهله، فما بالكم بالنبي صلى الله عليه وسلم أشرف الناس، إذا تعرض لذلك، وهو الذي يأمر الناس بالعفة والطهارة وصيانة الأعراض، يتعرض لذلك ولا يستطيع أن يعتزل الناس أو يترك بلده ويسافر بعيدا لأنه النبي المرسل، بل كان يخرج للناس كل يوم يصلي بهم ويخطب فيهم الجمع ويعظهم، وهو يعلم ما يقال في عرضه أي مصيبة هذه، وكيف تحملها النبي صلى الله عليه وسلم، والله لو حدثت لأحدنا لتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه، لكنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي   (1) البخاري، كتاب: الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661) ، مسلم، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك ... ، برقم (2770) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 رباه الله- عز وجل- على الصبر وتحمل الصعاب، ليأخذ من الأجر والثواب ما يسبق به الأولين والآخرين سواء من النبيين أو المقربين، أضف على ذلك انقطاع الوحي عنه طيلة حديث الناس عن أم المؤمنين، وكان يمكن أن ينزل الوحي من أول يوم ليعلن براءتها، بل كان من الممكن أن ينزل الوحي ببراءتها قبل وقوع الحادثة، وهذا يحدث في القرآن كثيرا، ولكن الله- عز وجل- لحكمة يعلمها، أراد أن يكتمل عقد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم فحبس عنه الوحي، فيكثر الخوض من الذين لم يعصمهم الله- عز وجل- ويتأكد الخبر في القلوب المريضة، وهذا ما أردته في عنوان الباب بقولي: (صبره على أقدار الله المؤلمة) ، وهو انحباس الوحي، وذلك علمناه من قول عائشة رضي الله عنها في الحديث: (فدعا رسول الله على بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما) ، واستلبث أي أبطأ ولم ينزل. ولكن كانت المنحة بعد المحنة، وهو ما ستراه مبسوطا- بحول الله تعالى في العبر والدروس المستفادة والتي أسردها بحسب تسلسل الواقعة لا من حيث الأهمية وفيها: الدرس الأول: القرعة بين النساء في الخروج لغزو أو غيره ، وهذا يطيب خاطرهن، ويحقق العدل في معاملتهن، وهذا ما كان يحرص عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته. الدرس الثاني: قولها: (فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج) ، نعلم من ذلك أن الهودج كان بمثابة تمام الحجاب في حق أمهات المؤمنين؛ لأن عائشة رضي الله عنها، إنما بررت حملها في الهودج، بنزول الحجاب. الدرس الثالث: قولها: (حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني) ، فيه أن من يريد قضاء حاجته، عليه أن يذهب بعيدا حتى لا يراه أحد ولا يؤذي أحدا برائحة ونحوها، وفيه أيضا ما كان عليه الصحابة من عفة لسان فتقول عن قضاء الحاجة والذهاب إلى الغائط، (فلما قضيت شأني) ، وهذا يدل على كمال الأدب وعظيم التربية، فإذا كان هذا في حفظ اللسان، فهم رضي الله عنهم للأعراض أحفظ، وهذا ليس بغريب ممن رباه القرآن الكريم وأدبه، ألم تسمع لقوله تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً [الأعراف: 189] ، وقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] ، وقوله- سبحانه وتعالى-: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب: 37] . بل انظر إلى قمة العفة والتربية الربانية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] . فما بال بعضنا وصل في الكلام إلى كل ما هو قبيح ومبتذل، في الألفاظ والعبارات، قد خلع برقع الحياء، لا يتغير وجهه إذا سمع كلمة نابية أو جملة مشينة، ليس له في القرآن أسوة ولا في كلام خير البرية قدوة، وليت الأمر توقف عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ذلك، بل سب وشتم وطعن في الأعراض وهتك للحرمات هزلا وجدّا، أيّ ابتعاد هذا عن القرآن والسنة، بل عن المروءة والنخوة، ونزعم مع هذا أننا نتبع الكتاب والسنة، فهذا قول عائشة رضي الله عنها حجة علينا، أفلا نتوب إلى الله ونستغفره، ونعود إلى أحسن الأقوال والأفعال، لا فرق في ذلك بين رجل أو امرأة، وصغير وكبير، فالحياء كله خير ولا يأتي إلا بخير، فليقل عليك الناس أنك متخلف، وأنك لا تفهم في الدنيا شيئا، بل حتى لو شبهوك بالنساء في حيائك، وأي فضل لك أعظم من ذلك، أن يشبهوك بما شبّه به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري، عن أبي سعيد الخدريّ قال: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه) «1» . هذه ليست سبّة بل مدحة ما بعدها مدحة، فإذا وصفوك بذلك فاعلم أنك بالأثر مقتف وبالسنة محتف. وانظر إلى ما قالته عائشة في نفس الحديث تخبرنا بما دار بينها وبين أمها، تستعلم منها حديث الإفك فقالت: (فقلت لأمي ما يتحدث به الناس) «2» ، لم ترو لنا ما قالته لأمها على سبيل التفصيل، لأنه كلام لا داعي للتلفظ به بل يلمحون به فقط، وفي ذلك غناية عن التصريح، فكان كل كلامهم بحساب، تعلموا ذلك من النبي، روى البخاري عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» ، فأدبه جعله لم يعد الجملة الأخيرة فقال: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» «3» وعف لسانه عن ذكر المرأة والدنيا، خاصة أنها هجرة لا يحبها الله- عز وجل-. الدرس الرابع: جواز أن تأخذ المرأة شيئا من زينتها في السفر ، ولو كان غزوة، لأن عائشة رضي الله عنها وضعت عقدا في صدرها، ولكن لا يراه الناس، لقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها [النور: 31] ، وفيه المحافظة على المال وصيانته وعدم إضاعته وبذل الجهد في ذلك، لقول عائشة رضي الله عنها: (فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه) . مع أن العقد لم يكن من ذهب ولا فضة، وقد يؤخذ من ذلك حرمة تضييع المال بغير طائل، وصرفه   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم: (6102) ، مسلم، كتاب: الفضائل، باب: كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، برقم: (2320) . (2) ويحتمل أيضا أن تكون «ما» استفهامية، ويكون المراد أنها سألتها قائلة: بماذا يتحدث الناس؟ (3) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء إن الأعمال بالنية ... ، برقم: (54) ، مسلم، كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية ... » ، برقم (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فيما لا ينفع ولا يجدي، أما سمعت إلى العلماء كيف أجازوا قطع المصلي صلاته، إذا تعدى أحد على ماله ولو كان عودا من أراك (أي سواك) ، لا ثمن له، وكان ذلك لصيانة المال وحفظه. الدرس الخامس: رحيل الجيش لا يكون إلا بإذن قائد الجيش لقولها: (أذن ليلة بالرحيل) ، وله أن يكلف غيره بأوامره، لقولها: (فقمت حيث آذنوا بالرحيل) . الدرس السادس: جواز خروج النساء للغزو ، لقولها رضي الله عنها (فأقرع بيننا في غزاة) . الدرس السابع: أدب الصحابة الجم خاصة مع أمهات المؤمنين حيث احتمل القوم الهودج، ووضعوه على البعير وهم يظنون أن عائشة رضي الله عنها فيه، حتى إنهم لم يلقوا عليها السلام ولو أنهم قد اعتادوا ذلك لعلموا أن عائشة ليست بداخل الهودج لعدم سماعهم ردّها للسلام. الدرس الثامن: نساء الصحابة في العصر النبوي - أي أغلبهن- كن يقتصدن في الطعام، لذلك كن خفاف الوزن، وهذا يحث عليه الشرع في قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] ، وهذا من معجزات القرآن الكريم، لأننا علمنا الآن أن أغلب أمراض العصر من الإسراف في المأكل والمشرب وما يلازمهما من عادات سيئة. الدرس التاسع: قولها: (وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش) ، أظن أن وجوده من وراء الجيش، لم يكن لحاجة عرضت له كما ذكر الإمام النووي رحمه الله، بل أظن أنه كان من عادة النبي في أسفاره أن يتخلف رجل وراء الجيش، يتفقد المكان بعد صدور القوم، والذي يؤكد هذا المفهوم قولها: (من وراء الجيش) ، يشعر أنه مكلف أن يكون من وراء الجيش، فلم تقل حبسه حابس، أو أنه تخلف لعذر، فإن صح الاستنباط ففيه دليل واضح على حكمة النبي في قيادة الجيش، ونستدل أيضا على حكمته في إدارة الجيش، أنه ما قصد غزوة إلا ورّى بغيرها، كما ثبت في الصحيح. الدرس العاشر: فطنة عائشة رضي الله عنها وحكمتها رغم حداثة سنها، لأنها لما قصدت هودجها ورأت أن القوم قد ارتحلوا لم يحملها جزعها أو خوفها من التصرف المتسرع، فتذهب مثلا تقتفي أثر الجيش فتضل الطريق، بل انتظرت في نفس المكان الذي فقدوها فيه لعلهم يرجعون، وإلى الآن كثير منا لا يجيد هذا التصرف عند تخلفه عن رفقائه في السفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 خاصة النساء، فيتعطل الركب. الدرس الحادي عشر: حفظ الله- عز وجل- لعرض نبيه حتى في أصعب الظروف، فعائشة رضي الله عنها قد تخلفت عن الركب وهي حديثة السن، وغلبها النوم، ومعلوم حال من غلبه النوم، ولم يكن مستعدّا له، فقد يتكشف دون أن يدري، ومع كل ذلك قالت رضي الله عنها: (فرأى سواد إنسان نائم) ، أي أنه لم ير منها شيئا حتى وجهها، ولكنه عرفها من هيئتها، فإنه كان يراها ويعرف هيئتها قبل أن ينزل الحجاب وتلتزم الهودج، وفيه أيضا ورعها وحشمتها حتى في أحوال السفر والنوم. الدرس الثاني عشر: كمال حياء الصحابة وأدبهم الجم، خاصة مع أمهات المؤمنين، ولو كن حديثات السن، فالأمر سواء، حيث إن صفوان بن المعطل استرجع لما علم حال عائشة رضي الله عنها فكأنه استعظم في نفسه تخلّفها عن الجيش ونومها في الطريق، وشعر أن تلك مصيبة عليه أن يسترجع منها، فقد علّمهم الله- تبارك وتعالى- ما يقولونه عند نزول المصائب، قال تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) [البقرة: 156] . ونكتة أخرى أنه لم يكلم عائشة رضي الله عنها كلمة واحدة، ولم تسمع منه غير الاسترجاع، كما ورد في روايات أخرى، فماذا سيحدث لو قال لها: (اصبري، لا تخافي، لن أتركك حتى تعودي إلى أهلك) ، ولكن هيهات أن يحدث ذلك منهم. الغريب أنه ما قال لها: اركبي، بل أناخ لها البعير فركبت، وما أردفها وراءه وقاد هو البعير، وما تحجج بحر الشمس، كل ذلك لم يحدث، فسبحان الله، لم يستطع الشيطان أن يدخل عليه ولو كلمة واحدة. الدرس الثالث: عشر: الذي أشاع الإفك هو: عبد الله بن أبي بن سلول، ومع ذلك لم يقم عليه النبي حد القذف، فقيل: لأنه لم يتكلم صراحة بل عرّض في كلامه فقط، وقيل: إن الله- عز وجل- جعل عذابه في الآخرة ولم يشأ الله أن يطهره من هذه الكبيرة بإقامة الحد عليه، لأننا نعلم أن الحدود مكفرات للذنوب في الدنيا قال تعالى في حقه متوعدا له: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [النور: 11] . الدرس الرابع عشر: ما كان عليه النبي من ملاطفة أزواجه خاصة عند المرض، لقول عائشة رضي الله عنها: (إني لا أرى من النبي اللطف الذي كنت أرى منه حيث أمرض) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ولكنه صلى الله عليه وسلم ما ترك الكلام مع عائشة بالكلية، فكان يسلم، ويقول: كيف تيكم أي: كيف حالكم، وهذا من عدله وتوسطه صلى الله عليه وسلم حيث لا يستطيع أن يتبسط في الكلام بعد الذي سمع وهو بشر يتغير قلبه ويتأثر، ولا يستطيع أيضا أن يقاطع عائشة رضي الله عنها؛ لأنه لم يعلم صدق ما يقولون. الدرس الخامس عشر: المؤمن يبتلى بالأمراض ، كما حدث لعائشة رضي الله عنها بل يبتلى بالهموم والغموم، كما ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم وأهله في هذه القصة، وهذا يجري على الصالح والطالح، وقد يرفع المرض بالدعاء وبغير دعاء، وقد يستمر المرض مع الدعاء والاحتساب أياما طويلة بل سنوات مديدة، وهذا كله لا يدل على رضى الله عن العبد أو سخطه عليه، فزوال المرض بعد مدة يسيرة لا يدل على أن الله يحب هذا العبد، وبقاء المرض فترة طويلة لا يدل على عدم رضى الله عنه، فكل تلك الأحوال غيبيات، لا يعلمها إلا الله، وليس عندنا فيها برهان من الكتاب أو السنة، فلا نحكم بغير علم، ويجب علينا ألانتكلف في كل واقعة مثل مرض أو فقر أو غنى، فنسأل: هل ربنا راض عن فلان أم لا؟ أعطاه لأنه يحبه أم لأنه يبغضه؟ وهل شفاه لأنه استجاب دعاءه؟ أم تأخر الشفاء لأنه ما دعا الله مخلصا، هذا كله ليس من السّنة في شيء، ولم يتكلم به الصحابة ولم يتكلفوه، ألم تر إلى النبي كم توجع في مرض الموت أياما عديدة حتى إنه يريد الصلاة، فيغشى عليه عدة مرات، ألم تر أنه كان يتوجع توجع رجلين، ألم تر إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، السلالة الشريفة الطاهرة، بكى وحزن سنوات طويلة حتى ذهب بصره، ألم يكن في تلك الفترة راضيا محتسبا صابرا، لماذا لم يرفع الله عنه مع أول دعاء له، وكلنا يعرف قصة أيوب عليه الصلاة والسلام، كيف مرض وزاد عليه البلاء، والأمثلة كثيرة، فكل ما يحدث للعبد وينزل به لا يدل على الرضى من الرب- تبارك وتعالى- أو السخط، وكذا في كل الأمور والأقضية، فما الذي يدلنا إذن على رضى الله عنا؟ أقول: إن شيئا واحدا هو الذي يدلنا على ذلك، وهو أن يشعر العبد بتقوى الله في قلبه في السر والعلن، هو أن يرضى ويسلم لقضاء الله وقدره، هو أن يحرص على اتباع كل ما جاء به القرآن والسنة الصحيحة، وإذا أساء أو تكاسل أو فرط- وكل ذلك حادث منا- استغفر وتاب وأناب إلى الله وشعر بعظم الذنب لعظم من أذنب في حقه، هذا الذي يبشر العبد برحمة الله ورضاه، أما غير ذلك فلا، إذا أردت أن تعرف منزلتك عند ربك فانظر إلى منزلة ربك في قلبك، إذا أردت أن تعلم هل الله- عز وجل- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 راض عنك، فاسأل نفسك هل أنت راض عن الله؟ وهكذا. الدرس السادس عشر: ما كان عليه العرب الأول وكذا الصدر الأول للعصر النبوي من التنزه عن القاذورات حيث كانوا يتخذون الكنف بعيدا عن البيوت، لقول عائشة رضي الله عنها: (وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه) . الدرس السابع عشر: ما كان عليه الصحابيات من الحشمة في الملبس، عند الخروج من بيوتهن ولو كان خروجهن ليلا، لقول عائشة رضي الله عنها: (فعثرت في مرطها) ، ولو لم يكن اللباس سابغا إلى الأرض ما تعثرت فيه، وكان التعثر فيه أهون عليهن من رفعه قليلا عن الأرض. الدرس الثامن عشر: حب الصحابيات لأمهات المؤمنين وتعظيمهن وتقديمهن على أنفسهن وأولادهن، أعز ما يملكون، امتثالا لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، مما يحدو بالمرأة أن تسب ولدها وتدعو عليه، وهي تعلم أن دعاءها قد يستجاب، وذلك لأن ولدها قد خاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يدلك على ذلك قول أم مسطح في الحديث: (تعس مسطح) ، ولم يكن هذا الشعور من أم مسطح وحدها، فاقرأ ما ورد في بقية الحديث قالت عائشة رضي الله عنها: (إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي) ، انظر أخي القارئ، امرأة من الأنصار كأنها غير معروفة أو مشهورة، تأتي لعائشة رضي الله عنها تواسيها وتبكي بالدموع حزنا مما قيل عن عائشة، فهذا مقام أمهات المؤمنين عندهن. الدرس التاسع عشر: تعظيم الله والنبي والملائكة والصحابة- من شهد بدرا - وأنه لا ينبغي التعرض لهم أو الطعن فيهم فإن لهم مكانة خاصة في الإسلام، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها لأم مسطح: (أتسبين رجلا شهد بدرا) ، فقد أنكرت عليها السب لولدها لأنه شهد بدرا، يصدق ذلك الحديث الذي رواه معاذ بن رفاعة بن رافع الزّرقيّ عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين» ، أو كلمة نحوها. قال: «وكذلك من شهد بدرا من الملائكة» «1» . ومن هذا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا كلهم في مرتبة واحدة من السبق   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرا، برقم (3992) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 والفضل، بل هم متفاوتون في الدرجات، على حسب أعمالهم وسبقهم للإسلام وتصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن في النهاية كلهم عدول أخيار، اختصهم الله- سبحانه وتعالى- بنعمة عظيمة، وهي صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ويصدّق ذلك أي تفاوت الفضل قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الحديد: 10] . الدرس العشرون: في الحديث أن المسلم يحزن ويمرض، إذا سمع كلاما يؤذيه ويطعن في عرضه، خاصة إذا كان من أهل العلم والفضل، حتى وإن كان هذا الكلام كذبا يعلم من حاله ونفسه أنه مبرأ منه، ولكن لما كثر الخبث واعتاد الناس على الكلام القبيح، والطعن في الأنساب، أصبح كثير من الناس لا يبالي بما يقال عنه ولا يحزن ولا يمرض، كما مرضت عائشة رضي الله عنها بل يقول: كلام الناس كثير، وهذا مما عمت به البلوى، وقد يؤخذ من الحديث أن على المسلم أن يتجنب مظان السوء، وأن يتجنب كل شبهة قد تطوله، فيبرّئ عرضه قبل أن يخوض الناس فيه، لأن هذا شيء عظيم على النفس، انظر كيف أحزن عائشة حتى مرضت. بل قالت في موضع آخر من الحديث: (فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم) . أي: إن بكاءها لم ينقطع طوال الليل ولم تذق طعم النوم، وكيف تنام بعد أن سمعت ما يقول الناس والله لوددت أني افتديتها من هذا بأبي وأمي وأهلي جميعا، فهذا أهون، من أن تخدش واحدة من أمهات المؤمنين ولو بكلمة أقل من ذلك بكثير، وقالت في موضع آخر: (وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي) . ونستدل على أن المسلم يجب أن يبرأ عرضه، وألايضع نفسه في مظان السوء كما أشرت سابقا، بما روته صفيّة بنت حييّ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدّثته، ثمّ قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما إنّها صفيّة بنت حييّ» . فقالا: سبحان الله! يا رسول الله. قال: «إنّ الشّيطان يجري من الإنسان مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما سوآ، أو قال: شيئا» «1» . الدرس الحادي والعشرون: أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها ، حتى في حال المرض الذي لا يتوق فيه الرجل إلى امرأته في غالب الأحيان، ويؤخذ منه أيضا: أن من   (1) البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده برقم (3281) ، مسلم، كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئى خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة .... ، (2175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 حسن المعاشرة أن يأذن الرجل لامرأته إذا استأذنته للذهاب لأبويها، خاصة إذا كان ذلك في حال المرض أو لمصلحة أخرى، كما هو الحاصل في القصة التي معنه، كل كذلك استفدناه من قول عائشة رضي الله عنها: (فقلت: ائذن لي، ثم قولها فأذن لي) . الدرس الثاني والعشرون: الصلة الوثيقة التي تكون بين الأم وابنتها خاصة إذا كانت حديثة السن، وما يجب أن تكون عليه البنت مع أبيها، من حشمة وحياء في الكلام ولو كانت متزوجة حيث ذهبت عائشة لبيت أبويها، وحدثت أمها فقط بما يقول الناس، ولم تفاتح أباها، قالت رضي الله عنها: (فأتيت أبوي فقلت لأمي ... ) ، وفيه أيضا: أن لفظ الأبوين يطلق ويراد به الأب والأم، من باب التغليب، كما تقول العرب على الشمس والقمر: القمران، وهذا كثير في الكتاب والسنة. الدرس الثالث والعشرون: فضيلة ما بعدها فضيلة لعائشة رضي الله عنها وذلك في قول أم عائشة: (لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها) . والفضيلة العظمى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من سواها من الناس، هكذا يعلم جميع الصحابة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلن ذلك عند ما يسأل عن أحب الناس فيجيب إنها عائشة، كما ورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السّلاسل، فأتيته. فقلت: أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: «عائشة» . فقلت: من الرّجال. فقال: «أبوها» . قلت: ثمّ من؟ قال: «ثمّ عمر بن الخطّاب» ، فعدّ رجالا «1» . الدرس الرابع والعشرون: السنة أن الصاحب يقف بجوار صاحبه وقت المحن والشدائد، خاصة إذا كان صاحبه من أهل الفضل والخير، ويعلم براءته، لا أن يوغر صدره ويهيج مشاعره، وهذا ما فعلته أم عائشة رضي الله عنها فقد قالت لعائشة: (هوني على نفسك) ، وبررت لها ما يقول الناس بقولها: (لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها) . الدرس الخامس والعشرون: الضرائر جمع ضرة ، وسميت الضرة ضرة لأنها تتضرر بالغيرة والقسم لوجود زوجة غيرها، نعلم من ذلك أن الضرر اللاحق بالزوجة من وجود أخرى موجود لا محالة- إلا النذر اليسير- بدليل أن اسمها ضرّة لتضرّرها، والله قد أحل   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا ... ، برقم (3662) ، مسلم، كتاب: في فضائل الصحابة، باب: فضائل أبي بكر الصديق .... ، برقم (2384) . 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 للرجل الزواج بأربعة، وهو يعلم الضرر الواقع عليها. وهنا بعض الأمور التى يجب ذكرها بالمناسبة وهي: 1- أن الشريعة الإسلامية الغراء لم تبتدع تعدد الزوجات، فقد كان ذلك الأمر موجودا ومتعارفا عليه، لا أقول: قبل الإسلام ولكن كان موجودا على مدى العصور، فما فعلته الشريعة الغراء أن قيدت عدد الزوجات بأربعة فقط وأمرت بتسريح بقية النساء، وقيدت الزواج نفسه بشروط، منها العدل في القسم، والقدرة على الإنفاق، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 3] ، والعدل المقصود هنا ليس هو العدل المشار إليه في قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء: 129] ، فالعدل في الآية الأولى يقصد به العدل في النفقة والقسمة، وغير ذلك من الأمور التي بيد الرجل، أما العدل في الآية الثانية فالمقصود به العدل في حب القلب، وهذا غير ممكن، لأن القلب لا إرادة للإنسان فيه، وعجبت من الذين يجعلون العدلين أمرا واحدا، فيقولون: أمرنا الله بالعدل في الآية الأولى، وحكم باستحالة هذا العدل في الآية الثانية وينبني على ذلك- عندهم- عدم جواز تعدد الزوجات. 2- ولكن إذا ثبت وجود الضرر للزوجة من التعدد، والله يعلم ذلك، فلماذا أباح الله- عز وجل- التعدد؟، أقول: 3- قبل كل شيء يجب علينا، رجالا ونساء، أن نسلّم لحكم الله- عز وجل- وأن نقول كما علّمنا الله تعالى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] ، يجب علينا الرضى والقبول، لأننا أولا وأخيرا عباد لله رضينا به ربّا، فكيف لا نرضى به إلها يحكم ويشرع، ويجب علينا أن نعلم أنه سبحانه وتعالى ما شرع التعدد إلا لحكمة بالغة أدركها من أدركها، وغفل عنها من غفل، وليس من الأدب أن نرضى بحكم الله إذا وافق مصالحنا، ونسخط ونعترض إذ لم يأت على هو انا وما نحب، كلا والله، الأمر كله لله، قال عز من قائل: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] ، وقد ذم الله- عز وجل- من يسخط على حكمه إذا لم يجد هوى في نفسه، أو يوافق مصلحة له، ويرضى نفس الشخص، إذا كان الحكم في صالحه فقال في الحالة الأولى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور: 48] ، وقال في الحالة الثانية: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور: 49] . 4- أقول للزوجة: إن من حقك قبل الزواج أن تشترطي على الزوج في العقد أن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 يتزوج بأخرى، فإن خالف وتزوج فلك أن تطلبي الطلاق بغير خلع، وللقاضي أن يحكم بذلك، وإن لم تشترطي وتزوج بأخرى، ولم يعدل فيما يكون فيه العدل فلك أن تطلبي الطلاق للضرر، ويحكم لك القاضي أيضا، أما أن المحاكم تطول إجراآتها، والزوج يتلاعب ويتجاهل ويهرب، والمحامي يزوّر ويرشي فهذا لا يلام عليه الشرع، ولا يقدح في الحكم، فالعيب فينا، لبعدنا عن الإسلام وعدم تمسكنا بتعاليمه، وحتى إذا طبقت الشريعة وجاء رجل وظلم زوجته، أنعيب على الشرع؟ بالطبع لا. ونقول للزوجة: إن الظلم واقع في الدنيا لا محالة، وإلا لما كان للآخرة والموازين والحساب والبعث من فائدة، والزوجة التي يظلمها زوجها، وترجع باللائمة على الشرع منتقدة أحكامه، قد خسرت كل شيء، خسرت الدنيا بظلم زوجها لها، وخسرت الآخرة بعدم رضاها عن شرع الله. ويتبين لنا من ذلك وجوب أن نرضى بحكم الله لأنه من الله، ولأنه قطعا يحقق أقصى مستوى ممكن من العدل في الدنيا، أما العدل المطلق فلا يكون إلا في الآخرة، فإياكم إياكم والاعتراض على حكم الله- عز وجل- أو حتى الظن أنه غير مناسب لزمان أو مكان، فهذا خطره عظيم وشره مستطير، وأكتفي بهذا القدر رغم أن الموضوع مهم، ولكن للأسف فإن المقام لا يتسع لأكثر مما ذكرت، والرسالة واضحة والحمد لله. 5- أما لماذا أباح الله التعدد مع أن فيه ضررا على الزوجة؟ أقول: إن الضرر الواقع عليها ضرر يمكن تحمّله، ويخف هذا الضرر كلما كان الزوج تقيّا ورعا يعظم حرمات الله، لا ينتهكها ولا يتعداها. كما أقول للمرأة: أرأيت بعض البلاد المتقدمة- كما يزعمون- عندما حرموا على الزوج التعدد وألزموه بواحدة، ماذا فعل هذا الزوج! وما الذي آل إليه المجتمع بأكمله، أظن أن الجميع يعلم الجواب كاملا، ويكفي أن نعلم كيف انتشر الزنا والشذوذ والقتل، والأدهى والأمرّ كيف انتشر مرض فقد المناعة المكتسبة (والمسمى بالإيدر) ؟ كيف يدخل الزوج على زوجته هذا المرض المهلك، بلا ذنب ولا جريرة، بل ينتقل حسب آخر الإحصائيات إلى الأولاد، هل هذه المجتمعات هي التي نطمع ونتطلع أن نحذو حذوها ونقتفي أثرها؟!. أقول للمرأة: أرأيت إن كنت مطلقة أو أرملة ولك أولاد قصر، ورغب عنك الشباب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أما كنت تتمنين أن يتقدم للزواج منك رجل ولو كان كبيرا في السّنّ، يصون عرضك ويحفظ لك كرامتك ويربي أولادك، خاصة لو لم يكن لك مصدر رزق، حتى ولو كان هذا الرجل متزوجا بواحدة أو اثنتين، أرجو ألا تتكبري في الإجابة ولا تخدعي نفسك. أرأيت أختي المسلمة لو كثر عدد النساء عن عدد الرجال كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في حديث علامات الساعة الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: «إنّ من أشراط السّاعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزّنا، ويشرب الخمر، ويذهب الرّجال، وتبقى النّساء حتّى يكون لخمسين امرأة قيم واحد» «1» أما تتمنين وقتها لو أحل الله التعدد، نعم ستتمناه كل امرأة عاقلة، ولا تغتري أختي المسلمة بما يدعيه دعاة التحرر والتفسخ، أن المرأة الآن يمكن أن تقوم بنفسها، فلها كيان مستقل تستطيع به أن تدافع عن نفسها وتكسب رزقها، هذا كله سفه لا يغني من الحق شيئا. وبعد هذا العرض الموجز، نسأل المرأة المسلمة هل الضرر الذي قد يلحقك من الزوجة الثانية أعظم أم الضرر الذي يقع من منع التعدد أعظم؟. ومن حكمة الشرع التي يعلمها كل دارس له ومتفقه فيه، أن من أولويات الشرع وقواعده أنه عند وجود ضررين، يتم دفع أعظمهما واحتمال أخفهما. وهذه القاعدة مضطردة في جميع الشرع، وهي من محاسنه العظيمة التي لا تعد ولا تحصى، ونصيحة إلى كل مسلم ومسلمة أنه إذا أراد أن يبحث في مسألة، فيجب عليه أن ينخلع من نفسه، حتى يستطيع أن يكون حكما عدلا قدر الإمكان، وألا ننظر إلى أي مسألة من جهة واحدة، وهذا في جميع الأمور الشرعية والحياتية. الدرس السادس والعشرون: ما يمكن أن يكون عليه المستشارون من اختلاف في الرأي، بل وتضاده في بعض الأحيان، وعلينا ألانشكك في أحدهما أو نكذبه ونرميه بألفاظ غير مناسبة، ونصدق الطرف الآخر، ولا أن نكذب الاثنين، وإذا كان اختلاف المستشارين واردا، فاحتمال خطأ الاثنين وارد، وعلى الذي يستشير ألا يسلم أمره لأحد، بل يستشير ويتأمل فيما سمع ويستخير، ثم يستعين بالله ويقرر أمره، وعلى المستشير أن يتخير أحبّ الناس إليه وأعلمهم بحاله وحال أهله إذا تطلب الأمر، كما يؤخذ من الحديث   (1) البخاري، كتاب: العلم، باب: رفع العلم وظهور الجهل، برقم (81) ، مسلم، كتاب: العلم، باب: رفع العلم .... برقم (2671) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أن الأفضل على الرجل أن يستشير ولا ينفرد برأيه، ولو كان الأمر يتعلق بأخص خصوصياته، وفي قول السيدة عائشة رضي الله عنها (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ... ) فوائد، ومنها: الفائدة الأولى: عظيم أمر الاستشارة وضرورة أن يتخير الإنسان من يستشيره، فالرسول لم ينفرد بالرأي وحده بل استشار في أخص خصوصياته، وهو أمر زوجته، وعندما استشار تخير من يستشير، وهما حبّه وابن حبه أسامة بن زيد، كما استشار ابن عمه وزوج ابنته عليّ بن أبي طالب. وأظن أنه لم يستشر أبا بكر لمكانته من عائشة، فهو أبوها، كما لم يستشر عمر بن الخطاب لقوته الشديدة، وقد يكون لأمر غير ذلك، والله أعلم. أما ما ذكرناه من اختلاف وتباين آراء المستشارين، فأخذناه من رد أسامة وعلي، فأما أسامة فأشار إليه بما يعلمه من حب النبي صلى الله عليه وسلم الشديد لعائشة، ورغّبه فيها بأن طهرها مما يقال، فذكر أشرف ما فيها، وهي أنها أهل رسول الله، وهل يتصور أن من تشرفت بهذا الشرف الرفيع، وهو أن تكون حليلة أشرف الخلق قدرا يمكن أن تزل؟!، هذا من أمحل المحال، كما زكاها بما عرف منها من أمور الخير التي تدفع أي إنسان عن فعل الذنوب والمعاصي، فكان رد أسامة بن زيد شافيا وافيا. أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرجح مصلحة سكن النبي صلى الله عليه وسلم وراحة باله لما يراه عليه من قلق وحيرة، ولا يقال أبدا: إنه أشار عليه بأن النساء كثيرات لشيء في قلبه من عائشة- نستغفر الله من هذا القول العظيم- والدليل على بطلانه، أنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستشير الجارية وأكد صدقها وعدم كذبها، فالذي أراه أنه أراد أن يبرأ ساحتها، وبذلك تكون مشورته قد وسعت الأمر على الرسول، فإما أن يسرح والنساء كثيرات، وإما أن يسأل الجارية ليعلم طهر عائشة وبراءتها فيمسكها عنده، ولرجاحة مشورة علي رضي الله عنه، أخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل الجارية وكان في سؤالها أعظم براءة لعائشة، وقد صدقها النبي كما أشار عليّ عليه، وذلك أنه بعد سؤالها مباشرة وقف في المسجد وقال: «من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي» . وبذلك تأكدنا براءة ساحة علي، بل إنه كان السبب في رفع ما كان النبي يعانيه، أما لماذا لم يقل علي رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم نفس الذي قاله زيد؟ فأظن أن ذلك سيكون من التكرار، ويكفي أنه دل الرسول على طريق آخر يتأكد به من طهارة أهله، وبذلك يكون قد تأكد ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 عند الرسول من قبل زيد، والجارية. الدرس السابع والعشرون: إذا أراد الرجل أن يسأل عن أخلاق من لا يعرفه ، فعليه أن يسأل خادمه في المنزل أو من في منزلة الخادم، كالسائق وغيره، وذلك لتداخله الشديد مع مخدومه وعدم قدرة المخدوم أن يخفي على خادمه أحواله وأخلاقه، بل قد يفعل أمامه، ما لا يفعله أمام غيره وذلك لاستهانته به وقلة تحرزه منه، ولو يعلم علي أحدا أعلم بحال عائشة من خادمتها، لدل النبي صلى الله عليه وسلم عليه. الدرس الثامن والعشرون: جواز اتخاذ الخادمة في المنزل ، حتى ولو لم يكن هناك أولاد تخدمهم، ولكن بشرط ألايكون ذلك خيلاء وتكبرا على الناس. الدرس التاسع والعشرون: منقبتان عظيمتان لعائشة رضي الله عنها وهما: المنقبة الأولى: أن الجارية بريرة رضي الله عنها لم تجد في عائشة ما يعيبها إلا أنها تنام عن العجين، ولو وجدت فيها أكثر من ذلك ولو بقليل لذكرته، لأنها قالت: (قط) ، فأي شرف لامرأة لا تستطيع خادمتها أن تعيبها في شيء، إلا أنها حديثة السن تنام عن العجين؟! المنقبة الثانية: رغم أن لعائشة جارية، إلا أنها تنام عن العجين مما يتيح للداجن (وهي الشاة التي تألف البيت ولا تخرج للمرعى) أن تأكل من ذلك العجين، والشاهد في ذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت تقوم بأعباء البيت مع الخادمة وما كانت تكل لها كل شيء بل كانت تساعدها، وذلك امتثالا لما ورد عن المعرور بن سويد قال: (رأيت أبا ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه وعليه حلّة وعلى غلامه حلّة، فسألناه عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلا فشكاني إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أعيّرته بأمّه؟!» ثمّ قال: «إنّ إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» «1» . الدرس الثلاثون: وفيه تنبيهان: التنبيه الأول: قول بريرية (إن رأيت منها أمرا) ، إن: هنا نافية بمعنى (ما) ، أي: (ما رأيت منها أمرا) ، ونبهت على ذلك؛ لأن كثيرا من غير المتخصصين لا ينتبهون أن (إن) تكون نافية، وهذا يوضح لنا معاني آيات كثيرة من القرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116] ، أي ما يتبعون إلا الظن.   (1) البخاري، كتاب: العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: العبيد إخوانكم، برقم (2545) ، مسلم، كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل .... برقم (1661) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 التنبيه الثاني: [قول (كرم الله وجهه) بعد أن يذكر علي بن أبي طالب] أقوله لأننا كنا بصدد الكلام عن الخليفة الراشد، علي بن أبي طالب رضي الله عنه والتنبيه هو أن كثيرا من الناس يفضلون أن يقولوا بعد ذكر علي (كرم الله وجهه) ، بدلا من (رضي الله عنه) ، وهذا غلط، لأن الترضي عنه هو دعاء له، أما (كرم الله وجهه) فهذا من باب الخبر الذي يغني معرفته وقوله مرة واحدة، ومعلوم أن الدعاء خير من الخبر وأنفع للناس، كما أن تبريرهم لهذا القول بأن عليّا لم يسجد لصنم قط، لذلك نقول: (كرم الله وجهه) ، هذا ليس بتبرير فكثير من الصحابة لم يرد أنهم سجدوا لصنم، فلماذا نختص عليّا رضي الله عنه بهذا القول، بل لماذا نحرمه من الدعاء له برضوان الله- سبحانه وتعالى- والكل في حاجة لهذا الدعاء ولو كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الدرس الحادي والثلاثون: في قول الرسول: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي» ، أي: من يلتمس لي العذر إن عاقبت رجلا على قبح ما صنعه معي، أو من ينصرني عليه، ففيه أن الرجل إذا أراد أن يعاقب أحدا على سوء فعله معه، خاصة إذا كان من أصحابه، فعليه أن يخبر القوم بما حدث حتى يعذروه فلا يلوموه، وينصروه ولا يخذلوه، وحتى لا يفاجأ القوم، خاصة أهل قرابة الخصم، بما سيحدث، كما أن في هذا الإبلاغ فائدة أخرى، وهي أنه قد يكون في القوم من يدله على أمر يكون أصوب مما يراه. وفي بقية كلامه صلى الله عليه وسلم ثناء على عائشة، وعلى الصحابي صفوان بن المعطل- رضي الله عنهم جميعا-. الدرس الثاني والثلاثون: في قيام سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وفيما قالوه، فوائد منها: 1- ما كان عليه الصحابة من حب النبي، وفدائه ولو بأهل قرابتهم وعشيرتهم، والكل يعلم ما كان عليه العرب من المناصرة والدفاع حتى الموت عن أهل القرابة، فلم يقل سعد بن معاذ: من هو يا رسول الله، أو يقول خبّرنا عنه ونحن نستقصي أمره إن أخطأ حاسبناه، أو أي كلمة مشابهة، بل قال: (إن كان من الأوس ضربنا عنقه) : أيّا كان الرجل ومكانته في القوم، ما علينا يا رسول الله إلا أن نقتله، دون أن يستقصوا هل فعل أم لا، ألم يقل الصادق المصدوق: «بلغني أذاه في أهلي» أبعد قوله قول، كيف لا يصدقونه والله قد استأمنه على وحيه؟ أفلا نستأمنه نحن على خبره في رجل آذاه، وقد حكم سعد على الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الذي آذى النبي صلى الله عليه وسلم بأشد العقوبة، وهي القتل وكيف يحكم بأقل من ذلك في رجل آذى نبيهم وخليلهم وحبيبهم. 2- فيه تحذير من الحمية أي العصبية، والتي ابتلي بها كثير من الناس حيث غضب سعد بن عبادة رضي الله عنه وثار في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم على مقولة سعد بن معاذ، وما حمله على ذلك إلا العصبية، أعلمتم مغبة العصبية ماذا تفعل بالإنسان الصالح، الذي قالت عنه عائشة رضي الله عنها: (وكان قبل ذلك رجلا صالحا) ، أي: قبل أن تأخذه العصبية، وانظر أيضا ماذا يمكن أن يئول إليه الأمر بعد أن تدخل العصبية والغضب بعض أفراد الأمة الصالحين، تقول عائشة: (فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا) . 3- في تنازع الأوس والخزرج، فائدة أخرى، وهي أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يصدر منهم ما يصدر من بقية البشر كالعصبية والغضب والسب، وهذا ما كان يعالجه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ولو كانوا لا يخطئون ما كان من بعثة النبي فيهم من فائدة، ولحرمنا الكثير من أمور السنة التي تعلمناها مما وقعوا فيه من زلات، ولكن مع هذا فهم خير قرون الأمة، لما ثبت عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم» «1» . فعباداتهم وجهادهم ومواساتهم ونصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، لا تقارن أو تقاس بما صدر منهم من أمور صوّبت في وقتها بالكتاب أو السنة، وكفى ذلك شرفا لهم، فزلاتهم ولله الحمد هي ذرة في فلاة بالنسبة لحسناتهم. الدرس الثالث والثلاثون: قد يؤخذ من الحديث ، أن الحد الواجب على من آذى الرسول، هو القتل، لقول سعد بن معاذ: (إن كان من الأوس ضربنا عنقه) ، ولم يكن هذا من باب التهويل، وذلك لرد سعد بن عبادة وقوله: (كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك) ، وتأكيد أسيد بن حضير على عزمهم قتله، فقال: (والله لنقتلنّه) ، كل ذلك حدث أمام الرسول، ولو كان القتل فيه مخالفة شرعية، وأنه ليس حكم الله- عز وجل- لبينه الرسول في وقته، ولا يقال: إن الذي آذاه كان منافقا؛ لأن الصحابة لم تكن تعلم من الذي يقصده الرسول، بدليل قولهم: (إن كان من الأوس) ، ولو قال لي قائل لقد سمع النبي من سعد أنه إذا رأى أحدا مع أهله قتله بالسيف، ولم يعترض ولم يبين له أن هذا الحكم غير   (1) البخاري، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد برقم (2651) ، مسلم، كتاب: فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم .... ، برقم (2535) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 موافق للصواب، بل أثنى النبي على غيرته، قلت: هناك زيادة في الحديث لا يذكرها عامة الشيوخ، تبين أن النبي قد وجه سعدا أن القتل خطأ، ويجب عليه التروي، لأن الله يحب العذر. وقد وردت الزيادة عند مسلم، عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسّيف غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد فو الله لأنا أغير منه، والله أغير منّي من أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشّرين ومنذرين، ولا شخص أحبّ إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنّة» . الدرس الرابع والثلاثون: نستفيد من الحديث كيفية تربية الله لهذه الأمة حيث أراد الله- عز وجل- أن يربيها على المحن والشدائد والصعاب، ليس لأفراد الأمة فقط، بل كانت تلك هي تربية الله لمعلم هذه الأمة وقائدها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، نأخذ ذلك من قول عائشة رضي الله عنها: (وقد مكث شهرا لا يوحى إليه) ، ترى ما فائدة انقطاع الوحي شهرا كاملا؟ في وقت يخوض الناس في عرض خير البرية وأخشاهم وأتقاهم، بل أحبهم لله، لماذا انقطع الوحي وامرأة حديثة السن شريفة عفيفة تمرض وتلازم الفراش شهرا، حتى تخاف على كبدها أن ينفلق من كثرة البكاء؟ لماذا انقطع الوحي والمنافقون يروجون لشائعة لو حاسبنا الله- عز وجل- على ترويجها لهلكت الأمة؟ وما ذلك إلا انتقاما لمقام النبوة، لم يتوقف الأمر على المنافقين، بل روج للشائعة بعض من زلّ من الصحابة وإن كانوا نفرا قليلا، لماذا انقطع الوحي والمدينة تصبح وتمسي وكأن زلزالا قد ضربها؟ والإجابة عن كل تلك الأسئلة هي تربية الله لهذه الأمة بالفتنة وبالابتلاء ليرفع الله بها درجات من عصمه، ويكون درسا قاسيا لمن تكلم وخاض، لعله يكون درسا للأمة إلى يوم القيامة كيف تعمل الكلمة في المجتمع، كيف ترجف به، كيف تجعل الحليم حيرانا، درس للأمة أن تتثبت ولا تروج للشائعات والأكاذيب، كما علّمنا القرآن الكريم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 6] ، وكما ذكرت من قبل كان من الممكن أن تنزل براءة عائشة رضي الله عنها قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الحادثة وليس عند الحادثة، ولكن كان سيفوت على الأمة كل تلك الدروس والعبر التي تعلمناها من هذا الحدث. الدرس الخامس والثلاثون: استحباب الشهادة قبل الكلام ، لقول عائشة رضي الله عنها: (فتشهد) ، أي نطق بالشهادتين. الدرس السادس والثلاثون: بدأ النبي كلامه بعد التشهد بقوله: «يا عائشة» ، فاستخدم حرف النداء ليسترعي انتباه عائشة، ثم ذكر اسمها ليعلمها أنه لم يهجرها ولم يهجر اسمها، ولو أنه عنفها من أول الحديث فقد تفقد صوابها، ولا تستطيع الرد الصحيح المؤدب، فاللطف في القول أولى ولو كان في مثل هذا الحدث الجلل، حتى يتبين الحق. الدرس السابع والثلاثون: عدم إلقاء التهم بغير بينة وتقديم حسن الظن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا» ، ولم يقل لها: أنت فعلت كذا وكذا، وهذا من عظيم التربية والخلق الحميد، ثم قال: «فإن كنت بريئة» ، فقدم حسن الظن خاصة أنه ليس ثمة دليل، ثم واساها إن كانت بريئة، وأمّلها في رحمة الله بصيغة الجزم لا التعليق، وهذا من حسن ظنه بالله وثقته به فقال: «فسيبرئك الله» ، ومن عظيم أدبه صلى الله عليه وسلم أنه لم يصرح بما يقول الناس، بل قال في كلام عفيف: «وإن كنت ألممت بذنب» ، ثم نصحها ووجّهها بما يتوجب عليها إن فعلت شيئا، فقال لها: «فاستغفري الله وتوبي إليه» ، ثم أملها في رحمة الله الواسعة فقال لها: «فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» ، واختار صلى الله عليه وسلم الستر على الفضيحة، فلم يقدم لها سؤالا محددا حتى لا يحرجها ويفضحها إن هي اقترفت- ونعوذ بالله من ذلك- فلم يقل لها: (أفعلت) . أرأيتم عظيم أدبه وفضل إحسانه وحسن معاشرته، مع ما لاقاه صلى الله عليه وسلم طيلة شهر، وانظر ما أعطاه الله من جوامع الكلم، فتكلم بعبارات قصيرة تحمل معاني كثيرة. الدرس الثامن والثلاثون: كلام الناس- خاصة إذا كان في الأمور العظيمة - له تأثير كبير على القلوب، كالسحر في بعض الأحيان. انظر كيف سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي الطاهرة المطهرة عن برائتها، وذلك لتأثر قلبه بما يقول الناس، بالرغم من أن الذي روج للشائعة هو رأس المنافقين في المدينة. الدرس التاسع والثلاثون: جواز أن يؤكد الإنسان كلامه ، وأن يحكم أن الله يعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ذلك، أو يشهد على ذلك وهو من أساليب التوكيد، كالقسم بالله، تعلمنا ذلك من قول عائشة رضي الله عنها: (ولئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة) ، ولكن حذار أن يستخدم المسلم مثل هذا الأسلوب من التوكيد وهو كاذب، أو غير متأكد من حديثه، لأنه إن كان كاذبا، وقال: الله يعلم صدق حديثي، فكأنه حكم أن علم الله لا يطابق الواقع، وقد استخدم القرآن الكريم هذا المؤكد حيث قال الله تعالى: قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 16] ، وقد أكدت الأنبياء صدق رسالتهم، بأن أكدوا علم ربهم بإرسالهم، وهذا من المؤكدات المعنوية، وقد حفلت هذه الآية الكريمة بكثير من المؤكدات اللفظية أيضا فتأمل. الدرس الأربعون: تعظيم الصحابة للقرآن الكريم ، وأن له منزلة عظيمة في نفوسهم، فهم يشعرون أنه كلام الله- عز وجل- الذي له شأن عظيم، علمنا ذلك من قول عائشة رضي الله عنها: (ولأنا أصغر في نفسي من أن يتكلّم بالقرآن في أمري) ، فهي ترى أن شأن القرآن أعظم بكثير من أن ينزل ببراءتها، وكل ما كانت ترجوه أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا تبرئها، ثم ما لبث أن نزل الوحي قبل أن يخرج أحد من البيت. ويتفرع على ما سبق مسائل منها: المسألة الأولى: تواضع عائشة رضي الله عنها حيث إنها وهي زوجة خاتم النبيين، وأحب الناس إليه، ترى أنها أصغر من أن ينزل فيها قرآن يتلى. المسألة الثانية: عظيم قدر أمهات المؤمنين عند الله- عز وجل - والاعتناء بهن. والدليل على ذلك نزول قرآن يتلى إلى يوم القيامة لتبرئة عائشة رضي الله عنها في آيات عديدة، في سورة سماها الله- عز وجل- بسورة النور، مع أن عائشة لم تتمن ذلك، ونستدل على عظيم اعتناء الله بهن، من عظيم قدر القرآن، والذي كانت عائشة تعظمه وترى أنه أعظم قدرا من أن ينزل ليتكلم ببرائتها. المسألة الثالثة: في الحديث علم الصحابة وتيقنهم أن رؤيا الأنبياء حق ، وتعظيمهم لها، وإلا ما كانت عائشة رضي الله عنها تتمنى أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا فينكشف بها كل هذا الغم والكرب الذي أرجف المدينة أكثر من شهر. المسألة الرابعة: يستفاد من الحديث وجوب أن يعظم كل مسلم القرآن الكريم ، فيقف عند كل آية، وينتهي عند كل نهي، ويمتثل كل أمر، ويكفيه أن يقال: إن ذلك الأمر أو النهي قد ورد بالقرآن، علمنا ذلك من تعظيم عائشة لأمر القرآن الكريم، لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 أقول: إنه يقف عند صريح الآيات، بل يجب عليه أن يقف حتى على التلميحات، فإن فيها علما كثيرا، فإذا كنى بألفاظ عفيفة، وقفنا عند هذا الأدب الرباني، فلا نصرح أبدا بكلمات تخدش الحياء، فتعف بذلك ألسنتنا وأسماعنا، ومثاله قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] ، فهذا تلميح من القرآن ليأدبنا في كلامنا وانتقاء ألفاظنا، فلا ينبغي لمسلم إلا أن يكني في كلامه، لا لأن القرآن أمر بذلك، بل لأنه لمح تلميحا، فهذا شأن الذين يعظمون آيات الله، يعلمون أنه ليس فيه آية أو كلمة، بل ولا حرف، إلا وله معنى ومغزى، وفيه تشريع وتربية للأمة، بشرط ألانلوي الآيات، ولا نحملها معاني غير ظاهرة من سياق الآيات، وليس لها شواهد في اللغة العربية، فلنتق الله في كلام الله- عز وجل-. الدرس الحادي والأربعون: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعانيه عند نزول الوحي ، وقد تحدثت في ذلك من قبل، ونشير هنا فقط إلى رحمة الله- عز وجل- بهذه الأمة حيث يسّر لها قراءة القرآن وحفظه، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17] ، ذلك بالرغم من ثقل القرآن عند نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ، أرأيت رحمة الله بعباده المؤمنين؟!. الدرس الثاني والأربعون: ما حبى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من جمال في كل شيء، حتى عرقه، والذي في العادة يتقذره الناس، لما يسببه من رائحة كريهة، واسمع لعائشة رضي الله عنها ماذا تقول: (ليتحدر منه مثل الجمان) ، أي كان عرقه صلى الله عليه وسلم مثل حبات اللؤلؤ، لصفاء العرق وحسنه، ولم ينس الصحابة رضي الله عنهم، أن يصفوا حتى حبات عرقه. الدرس الثالث والأربعون: جواز الضحك، عند حدوث ما يسرّ العبد ، مثل نزول نعمة أو كشف غمة، بشرط ألايكون ضحك المعجب بنفسه، أو الناسي لنعمة الله عليه. الدرس الرابع والأربعون: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أمته على شكر نعم الله- عز وجل- والتي تظهر كمال عبودية العبد لله، حتى في الأحوال الخاصة جدّا، ويظهر ذلك، أن أول كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها أن أمرها بالقيام بحمد الله، وما شغله الفرح الشديد عن شكر المنعم. الدرس الخامس والأربعون: قول عائشة رضي الله عنها: (لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 إلا الله) ، فهذا من دلالها وعتبها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لغيرها أن يقول مثل هذه المقولة. الدرس السادس والأربعون: عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب ، كثيره ولا قليله، وما ذكرته في هذا الكتاب من معرفته لأمور كثيرة من الغيب، فقد أطلعه الله عليها، والدليل على ذلك، أن هذه زوجته يقال عنها ما قيل، وترجف المدينة من ذلك، ويقلق ويتحير الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلم ببراءتها إلا بعد نزول الوحي إليه. الدرس السابع والأربعون: جواز القيام لمن أسدى لك معروفا وشكره، وأن هذا لا ينافي العبودية لله، ولا يتعارض مع شكر الله، والدليل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ولو كان مثل هذا القيام ممنوعا شرعا، لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يجب التنبيه أن على العبد ألا يبالغ في المدح وإظهار الامتنان لأحد، بحيث يدخل العجب والغرور على الممدوح، أو ينسى شكر المنعم الأصلي وهو الله عز وجل-. الدرس الثامن والأربعون: في قسم أبي بكر الصديق ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، ثم رجوعه عن هذا القسم، لما أنزل الله- عز وجل-: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] . وفي هذه الآية لطائف كثيرة نذكر منها: 1- أن المسلم، مهما بلغ من التقوى والخوف والورع، يمكن أن يتأثر قلبه ممن أساء إليه، حتى يدفعه ذلك إلى الامتناع عن بعض أعمال الخير التي يتقرب بها إلى الله- عز وجل- لكن الذي ينبغي على المسلم أن يحسن إلى من أساء إليه، وهذا الخلق الكريم نحتاج إليه جميعا، لأن كثيرا منا لا يستطيع أن يتمثل به. 2- في الآية جواز أن يحنث المسلم في قسمه، ويفعل الذي هو خير، يصدّق ذلك قوله: (إني والله لا أحلف على شيء) «1» ، وقد ذكر مبسوطا في موضع آخر. 3- في الآية مدح وثناء على أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث وصفته الآية أنه من أولي الفضل، كما أن الآية تثبت عناية الله بصديق الأمة وإرادة الخير له حيث إنه لما حلف على   (1) البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بابائكم، برقم (6649) ، مسلم، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير منها .... ، برقم (1649) ، بلفظ «أحلف على يمين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 شيء، وكان غيره خيرا منه، نزلت الآية لإرشاده إلى أحسن الأفعال وأفضل الأخلاق، وكان يمكن أن يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ولكن نزل قرآن يعلمه ويربيه، كما أن له فضلا آخر، أنه أعاد النفقة إلى مسطح، دون إنقاص شيء، لقول عائشة رضي الله عنها: (فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه) ، مع أن أبا بكر كان يجد غضاضة في نفسه من تلك النفقة، ولكن ليس عندهم غضاضة في أمر الله ورسوله، امتثلوا حقّا لقول الله: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] . ولم يقل أبو بكر- ولكن- وهي الكلمة التي ابتلينا بها في هذه الأيام. وفيه أيضا وجوب أن يظهر العبد افتقاره إلى الله- عز وجل- وحاجته للمغفرة، فالله يحب ذلك. قال الصديق: «والله إني لأحب أن يغفر الله لي» . 4- نتلمس في الآية لطيف خطاب القرآن الكريم مع الصحابة، حتى في العتاب والإرشاد، قال تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22] . فجاء الإرشاد الرباني بصيغة الحث والتحريض، ثم ختمت الآية بتبشيرهم برحمة الله ومغفرته إن هم فعلوا ذلك، وهذا أيضا من لطيف الخطاب حيث لم يتوعدهم بالعقوبة إن لم يفعلوا، بل توعدهم بالمغفرة إن فعلوا، والمغفرة هي أعظم ما يبشّر به المسلم، إذ هي تقي تبعات الذنوب، وتضمن سترها يوم القيامة وهي مأخوذة من المغفر الذي يلبسه المحارب، يستر وجهه فيقيه من ضربات الأعداء، فالمغفر يستر ويقي. الدرس التاسع والأربعون: حب الله- عز وجل- للصدقة والإنفاق حيث إنه كافأ صاحبها بالمغفرة والرحمة. الدرس الخمسون: في الحديث منقبة عظيمة لأم المؤمنين زينب بنت جحش ، فبالرغم من أنها كانت تسامي عائشة، في حب الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت تلك فرصة لها أن تستأثر بالحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أنها كانت ورعة تقية، لم تتحمل أذنها وبصرها، سماع كلمة تسيء لأم المؤمنين، ولم تجد الغيرة التي تجعل الإنسان أعمى البصر والبصيرة، تجاه من يغار منه إلى قلبها سبيلا، ولكن كما قالت عائشة رضي الله عنها: (فعصمها الله بالورع) ، وكفى بالله عاصما. الدرس الحادي والخمسون: بقدر الورع الذي يكون مع المسلم بقدر ما يعصمه الله- سبحانه وتعالى- من الزلات والسيئات، وإذا أراد المسلم أن يعلم قدر ما عنده من الورع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فعليه أن ينظر في حاله، في النميمة والغيبة والحسد، والخوض في أعراض الناس، وقول الكذب، وعدم الوفاء بالوعود والعهود، وخيانة الأمانة، وإفشاء الأسرار، وحب الاطلاع على عورات الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإن كان بعيدا عن تلك المعاصي والكبائر، فرح وحمد الله- عز وجل- على ما عنده من الورع، ويسأل الله أن يزيده ورعا، وأما إن كان يجترئ عليها ولا يبالي، بل لا يشعر أنه قد أذنب، ويجد لكل معصية يرتكبها مبررا، فليعلم أنه ليس معه من الورع شيء. هذا ما فتحه الله عليّ من الفوائد والعبر في حديث الإفك، وقد يكون فيه من الدروس والعبر شيء لم أقف عليه، والذي يهمنا ألاتذهب هذه الفوائد أدراج الرياح، وكأن هذه القصة لا تعنينا في شيء، وكأن القرآن الذي نزل فيها قد نسخ، أو أنه نزل فقط في حق الصحابة رضي الله عنهم، وكيف نضيع هذه العبر والدروس، من حادثة عانى منها النبي صلى الله عليه وسلم أشد المعاناة، وربى الله- عز وجل- فيها الأمة أحسن تربية. والله أعلى وأعلم. 15- غضبه صلى الله عليه وسلم عن أبي مسعود رضي الله عنه: أنّ رجلا قال: والله يا رسول الله إنّي لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان، ممّا يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدّ غضبا منه يومئذ، ثمّ قال: «إنّ منكم منفّرين، فأيّكم ما صلّى بالنّاس فليتجوّز فإنّ فيهم الضّعيف والكبير وذا الحاجة» «1» . وقد أتيت بهذا الباب في الشمائل لفائدة جليلة، وهي إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب، ويشتد في الموعظة، ويعلو صوته، ويحمر وجهه أحيانا، وأن الغضب لا يتنافى مع ما عرف منه صلى الله عليه وسلم من اللين والرفق في الأمر كله، كما أردت أن أثبت للناس، أن الغضب ليس دائما صفة مذمومة، بالشروط التي سأذكرها- إن شاء الله تعالى-. والشّاهد في هذا الحديث: قول أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ) .   (1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود برقم (702) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حكمته صلى الله عليه وسلم وتتبين من: أ- أنه كان صلى الله عليه وسلم يغضب في المواضع التي تستدعي وجود الغضب، لأن الحكمة هي وضع الأمور في نصابها، فمعالجة كل الأمور باللين ليس من الحكمة، بل هو من الضعف المذموم، ومعالجة كل الأمور بالشدة نتيجة الغضب ليس من الحكمة، بل هو من غلظة القلب المذمومة. ب- أن غضبه صلى الله عليه وسلم لم يكن كله بنفس القدر، بل يختلف الغضب، وتختلف لهجته صلى الله عليه وسلم في الموعظة، على قدر ما حدث من مخالفات شرعية، وهذا أيضا منتهى الحكمة، قال الراوي: (فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ) . ج- من أجلّ مظاهر حكمته صلى الله عليه وسلم أن هذا الغضب الذي تملكه أثناء الموعظة، لم يخرجه عن المألوف عنه في حسن التوجيه والإرشاد والعدل في الموعظة، ويتبين ذلك من: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسمّ من وقع منه التطويل في الصلاة فقال: «أيها الناس» . كما ورد في إحدى روايات البخاري. أنه صلى الله عليه وسلم في حال غضبه لم يتهم الناس كلهم بالتنفير، بل قال: «إن منكم منفرين» . وصفة العدل عند الغضب، يحتاج إليها كثير من الناس، فنجد على سبيل المثال، أنه إذا أخطأ أحد الأبناء في البيت، وجدت الرجل يغير من معاملته لكل أهل البيت، حتى زوجته، ويوجه لهم جميعا العتاب واللوم، وهذا يحدث من بعض المدراء، فقد يقوم بمعاقبة الجميع، ويقول مقولة ظالمة: (الحسنة تخص والسيئة تعم) ، وكل هذا مخالف للسنة النبوية. د- أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر المشتكي أن يصبر إذا طول الإمام به، مع أن في تطويل الوقوف والركوع والسجود الأجر العظيم، ولا أمره أن يصلي في بيته، بل أمر الإمام ألا يطول، ومظاهر الحكمة في اختيار هذا التوجيه دون غيره: أنه صلى الله عليه وسلم وازن بين المفاسد المترتبة على صلاة أحدهم في بيته، وما يضيع عليه من أنواع الأجور المختلفة، وبين مصالح تطويل الإمام في الصلاة، فترجح عنده صلى الله عليه وسلم أن عدم تطويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الإمام هو الأخف ضررا، فالأجر الذي سيضيع على المصلي من عدم حضوره الجماعة أعظم بكثير من الأجر الذي سيفوت من تطويل الصلاة، خاصة إذا أضيف إليها مفسدة هجر المسلم لجماعة المسلمين، كما أن ثواب التطويل لن يفوت المسلم بالكلية، لإمكانية أن يصلي في بيته النوافل ويطيل فيها ما شاء، أما فضيلة حضور الجماعة فستفوت بالكلية إذا صلى المسلم في بيته. أنّ القضية ليست مقصورة على المشتكي، ولكنها ستتكرر في جميع الأزمنة، وسيزيد عدد المرضى وأصحاب الحاجات، وهو المشاهد اليوم، فأمر الإمام بالتخفيف هو الأولى والأنسب. علم النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لن ينتفع بتطويل الإمام، وسيخرج عن خشوعه في الصلاة، إذا كان مريضا أو صاحب حاجة، فليس من الحكمة أن يؤمر بالصبر. 2- رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وتتبين من: أ- غضبه كل ذلك الغضب، لسماعه أن إماما يطيل في الصلاة. مع ملاحظة أن الرجل الذي اشتكى، لم يؤكد شرّاح الحديث أن تأخره عن حضور صلاة الجماعة كان للمشقة التي تلحقه من التطويل، بل الرأي القوي في المسألة، والله تعالى أعلم، كما قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى-: (أن الرجل كان يتشاغل عن المجيء في أول الوقت وثوقا بتطويل الإمام وكأنه يعتمد على تطويل الصلاة فيتشاغل ببعض شغله ثم يتوجه فيصادف أنه تارة يدرك الإمام وتارة لا يدركه) ، ودليله ما ورد في إحدى الروايات: «لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان» «1» . ومع ذلك كان كل هذا الغضب من النبي صلى الله عليه وسلم. ب- من مظاهر الرحمة والشفقة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بتخفيف الصلاة لوجود (ذا الحاجة) ، وهو الذي يكون عنده شغل سواء كان ذلك قضاء مصلحة لنفسه أم لأهله، أم يريد الضرب في الأرض للتكسب، وهذا يدل على أن هذا الدين، قد جمع بين المصالح الشرعية والمصالح الدنيوية، وأنه لا يصطدم مع الواقع، ولا يلغي احتياجات الناس، بل العكس، يطلب من الإمام التخفيف في أعظم ركن من أركان الإسلام، ليستطيع كل أحد أن يقضي مصالحه المباحة أيّا كانت، وهذا ينسجم مع قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ   (1) فتح الباري، (2/ 198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] ، فخفف الله عن الأمة بهذه الآية ما افترضه عليهم أول الأمر من قيام الليل. وتخيل أخي القارئ لو أن مأموما، ذهب إلى أحد الأئمة، الذين ليس لهم باع طويل في علم السّنة، وسأله التخفيف في الصلاة؛ لأن عنده شغلا، لقام الإمام يخطب الناس، أنهم قد باعوا دينهم بعرض من الحياة الدنيا، وأن أمر الدين هو آخر ما يشغلهم وغير ذلك من أساليب التوبيخ والتأنيب. 3- حسن تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم لأصناف الناس أصحاب الأعذار: فالأول: صاحب العذر المؤقت الطارئ والذي قد يظهر على صاحبه، وهو الضعيف. والثاني: صاحب العذر الملازم له والذي يظهر دائما على صاحبه، وهو الكبير. والثالث: صاحب العذر غير الملازم له والذي لا يظهر على صاحبه، وهو ذو الحاجة. قال صلى الله عليه وسلم: «فأيكم صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» ، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم حيث جمع أمثال كل أصناف الناس بذكر هؤلاء الثلاثة. ولما كان الغالب، ألايخلو جماعة المصلين من وجود أحد أصحاب الأعذار، صدر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف دائما، ولذلك أقول: إن الشرع دائما يحكم على الأمور بالغالب الأعم وليس بالنادر، ولا يعتد بما يشذ، وهي من الحكم العظيمة لهذا الدين. وأود أن أنبه هنا، ألا يكون هذا الحديث حجة لبعض أئمة المساجد، هداهم الله، للإخلال بركن الطمأنينة بالصلاة، والذي تبطل الصلاة بالإخلال به، فعليهم التمييز بين وجوب الطمأنينة في كل أركان الصلاة، وبين التخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: على ولي الأمر أن يقتدي في كل شئونه، بالأضعف من الناس وأصحاب الحاجات الخاصة، وأن يراعي حالهم ومصلحتهم أولا، ولو كانوا قلة في الأقوياء من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شرع التخفيف في الصلاة، راعى مصلحة الضعفاء دون مصلحة الأقوياء، والذين قد يتلذذون بتطويل الصلاة، ولا يجدون في ذلك أي مشقة، ولكن لما استحال الجمع بين مصلحة الفريقين، قدم صلى الله عليه وسلم مصلحة الضعفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 16- كمال أدبه صلى الله عليه وسلم مع الله أ- نسبته الخير إلى الله تعالى دون الشر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لبّيك وسعديك والخير كلّه في يديك والشّرّ ليس إليك» «1» . من حديث طويل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم «والخير كلّه في يديك والشّرّ ليس إليك» ، واعتقاد أن الخير كله- كما سيأتي- في يديه، والشر ليس إليه، منتهى الأدب مع الله. ومن فوائد الحديث: الفائدة الأولى: إثبات أن كل أنواع الخير- بلا استثناء- هو في يدي الله- عز وجل-، وهذا يشمل خيري الدنيا والآخرة، خير المال النافع والولد الصالح والزوجة البارة، كل الخير من عند الله، لقوله صلى الله عليه وسلم «والخير كلّه» . الفائدة الثّانية: لفظ «في يديك» يشير إلى أن الله وحده هو صاحب هذا الخير والمتصرف فيه، يعطيه من يشاء وقتما يشاء، ويمنعه من يشاء، لأننا إذا أردنا أن نعبر عن تملكنا لشيء غاية التملك، قلنا: (هو في أيدينا) ، فهو أجمل معنى وأتم فائدة فيما لو قال: (والخير كله عندك) . يتفرع عليه: وجوب أن نتوجه إلى الله، - عز وجل-، بالدعاء والتضرع الدائمين، لنستجلب ما عنده من الخير، وألا نركن لأنفسنا في تحصيل أي خير مهما قلّ، لأن الخير كله، صغيره وكبيره، في يد الله، ولا أقول: عنده، فشتان بين التعبيرين. الفائدة الثّالثة: أما قوله صلى الله عليه وسلم «والشّرّ ليس إليك» ، فهو من تمام الأدب النبوي، أنه لم ينسب الشر إلى الله- عز وجل- مع اعتقادنا أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه، سواء خيرها وشرها، فيكون تأويل الحديث أن الشر المحض لم يخلقه الله- تبارك وتعالى- فالله قد قدّر الكفر- وإن لم يرضه لعباده-، ولكنه ليس شرّا محضا، لأن به يقوم سوق الجهاد والتضحية في سبيل الله، فيميز الله به الصادقين من عباده عن غيرهم، وكذا جميع الذنوب، ليست شرّا محضا، لأن بها يقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجاهدة النفس والاستغفار والإنابة، ولولا ها لما ظهر للعباد فضل الله عليهم وامتنانه، ولما كان للجنة ولا   (1) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 للنار من معنى. ولكن المعاصي تكون شرّا محضا لمن ارتكبها، وأصر عليها فمات والله عليه غضبان، ووقتها لا يكون هذا الشر من الله- عز وجل- لأن الله لا يأمر بالشر ولا يرضى به. وإضافة الخير إلى الله- عز وجل- دون الشر هو أدب رباني علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50] ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينسب- الضلالة وهي غير حادثة قطعا- إلى نفسه، وأن ينسب الهداية إلى وحي الله- عز وجل-، قال ابن كثير في تفسير الآية: (أي: الخير كله من عند الله، وفيما أنزله- عز وجل- من الوحي، والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه) «1» . ويتفرع عليه: سوء أدب من يفعل المعاصي، ويبرر ذلك بأن الله قد كتبها عليه، فهو يشابه بقوله هذا قول الكفار حيث احتجوا على كفرهم بمشيئة الله، قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: 3] . ب- الخروج من حوله وقوته صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن عبد الله السلميّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلّها، كما يعلّمهم السّورة من القرآن يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، اللهمّ فإن كنت تعلم هذا الأمر، ثمّ تسمّيه بعينه، خيرا لي في عاجل أمري وآجله» قال: «أو في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسّره لي، ثمّ بارك لي فيه. اللهمّ وإن كنت تعلم أنّه شرّ لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري» - أو قال: «في عاجل أمري، وآجله» - فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به» «2» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب» .   (1) تفسير القرآن العظيم (3/ 545) . (2) البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ برقم (7390) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم الصحابة ما ينفعهم من فرائض العبادات وغيرها، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم القرآن سورة سورة، ويعلمهم أيضا صلاة الاستخارة، ويهتم بتعليمهم إياها كما يهتم بتعليمهم القرآن، وهذا يدل على عظيم حب النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة وحرصه على إبلاغهم كل ما ينفعهم. ويتفرع عليه: بيان الأهمية البالغة لصلاة الاستخارة، وذلك لحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تعليمها لأصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن، ومعلوم مدى أهمية القرآن بالنسبة للمسلم، فعلى كل مسلم، الحرص على هذه العبادة وعدم التفريط فيها. فمن الفوائد العظيمة لهذه الاستخارة: أ- أن يتذكر العبد دائما حاجته إلى الله- عز وجل-، وأن يبقى في صلة دائما بخالقه ومولاه. ب- أن يتعلم المسلم حسن التضرع والتوجه إلى الله- سبحانه وتعالى-. ج- أن يوطن العبد نفسه على التواضع بين يدي الرب- تبارك وتعالى- فهو مهما بلغ فقير إلى علم الله وقدرته وفضله، مع إعلان عجزه الكامل. د- أن يرضى العبد دائما بقضاء الله وقدره، وألايتسخط على ما جاء به القضاء، لعلمه أنه من عند الله، وأنه قد اجتهد قبل العمل، بسؤال ربه التوفيق والبركة. 2- حسن تعبيده صلى الله عليه وسلم الناس لرب الناس حيث أمرهم صلى الله عليه وسلم وحثهم على الاستخارة في الأمور كلها، ليتيقنوا أنهم مفتقرون إلى الله- سبحانه وتعالى- في كل أمر، صغير وكبير، عظيم وحقير، وهذا يزرع في قلب المسلم العقيدة الصحيحة، بأن الأمر كله يرجع إلى الله، وأن الله لم يوكل لغيره شيئا من الملك ولو كان أدنى الأمور، ولو أن الله وكل لغيره أي أمر، لعلّمنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نتوجه لهذا الغير بالدعاء في الأمور الموكول بها، فلله الحمد والمنة، أن جعل قبلتنا في الدعاء واحدة، قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] ، فأوضحت الآية أن صاحب الأمر كله هو الله- تبارك وتعالى-؛ ولأن الأمر كله بيده لا يشاركه فيه أحد، فيجب على العباد صرف العبادة كلها له، وضربت الآية مثالا لأعظم هذه العبادات التي يجب صرفها إليه- عز وجل- وهي التوكل، والذي يبدأ بالدعاء مع حسن الثقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وينتهي بالأخذ بالأسباب المشروعة، وانظر إلى جمال الآية حيث بدأت الآية بقوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وهي حيثية أن الأمر كله لله، واختتمت الآية بقوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وهي حث وتطمين لكل من يتوكل عليه أن الله يرعى حاله ويسمع نداءه، وفيها أيضا تخويف وترغيب لمن أساء القول والعمل. 3- كمال أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه ومولاه ، ويتبين ذلك من: أ- طلب العون من الله- تبارك وتعالى - لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك ... » ، مع ذكر أسباب طلب العون هي قدرة الله وعلمه الواسع مع افتقار العبد لتلك القدرة وذلك العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب» ، ولا يخفى ما في ذلك من حسن الثناء على الله- تبارك وتعالى- بمقابلة قدرته وعلمه إلى عجزنا وجهلنا. ب- الإقرار بأمور عظيمة وهي: أن علم الله- تبارك وتعالى- قد وسع كل شيء، فهو يعلم عاقبة كل أمر على حدة، عاقبته إذا حدث، وعاقبته إذا لم يحدث، ويعلم العاقبة في الحالين من جميع النواحي في دين العبد ودنياه، وفي معاشه وآخرته، وهذه العاقبة، يعلمها- تبارك وتعالى- لكل عبد على حدة، وتختلف العاقبة للعبد الواحد، فالأمر الذي يسعده اليوم لو حدث، قد يشقيه غدا، ولولا إحاطة الله بكل ذلك، ولولا تغير عاقبة كل أمر لكل عبد على حدة، ما كان للاستخارة من فائدة قال صلى الله عليه وسلم «فإن كنت تعلم هذا الأمر خيرا لي في عاجل أمري وآجله ... » . أن الله- تبارك وتعالى- هو الذي يقدّر كل شيء، وأن كل ما يحدث في هذا الكون فبتقديره وعلمه، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا: «فاقدره لي» . أن تيسير الأمر منه وحده- تبارك وتعالى-، وهو من النعم المكملة لتقدير الخير، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدره لي ويسره لي» . أن البركة من الله- عز وجل- وهي تأتي بعد تقدير الخير وتيسيره، وهو من تمام نعمة الله على عبده، فقد يعدد الله وييسر سبل الرزق الواسع، ثم لا يكون في الرزق بركة، فيصرفه العبد فيما لا ينفعه في الدنيا والآخرة، فعلى العبد أن يهتم ويحرص على الدعاء بالبركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 - أن القلوب بيد الله وحده، يرضي من يشاء بما شاء، فقد يتسخط الرجل بالرزق الوفير لأنه يطلب المزيد، وقد يرضى الآخر بما هو أقل لأنه يقنع بالقليل، وإرضاء القلوب لا يقدر عليه إلا الله، ورد في الحديث «ثم رضّني به» . أن الله يحول بين المرء وما يريد ويشتهي لقوله صلى الله عليه وسلم واصرفني عنه. ج- تسليم الأمر في النهاية لله- عز وجل- وترك التقدير له قال صلى الله عليه وسلم: «واقدر لي الخير حيث كان» . د- ثقته المطلقة بالله من حيث علم أنه- سبحانه وتعالى- هو الذي يعلم عاقبة كل أمر، في كل حال، وهو الذي يقدر على التقدير والصرف والتيسير. وفي كل ما ذكر يظهر بجلاء كمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه، من حيث خروجه من حوله وقوته، وإعلانه أن الأمر كله لله من قبل ومن بعد، فهذا إعلان منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يملك شيئا ولا يعرف ما يضره وما ينفعه وأن التيسير والبركة من الله وحده وهو القادر على أن يختار للعبد ما ينفعه ويجعل الرضا يتملك قلبه. الفائدة الثانية: وهي متفرقات: 1- ثبوت كمال قدرة الله- عز وجل- فهو لازم ما ذكر في الحديث، من تقدير الله لكل شيء وتيسيره للأمور وإحلال البركة أو نزعها وكذا صرف العبد عما يريد ويقصد وجعل الرضى في قلبه، ومن يقدر على إيجاد الرضا، يقدر على نزعه وإحلال نقيضه مكانه. ويخطئ من يقول: (الله يقدر على ما يشاء) ، والصحيح أن يقال: (الله قادر على كل شيء) ، أولا لمطابقته الذي ورد بالقرآن، وثانيا لأنه هو المطابق للواقع فهو سبحانه يقدر على ما يشاء وما لا يشاء. 2- عظيم أمر الدعاء، كما ذكرت في مواضع كثيرة، لأن الاستخارة ما هي إلا دعاء، وبهذا الدعاء المخصوص يستجلب العبد الخير، ويدفع الشر. 3- بيان جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم حيث جمع متعلق الخير والشر للإنسان في ثلاث كلمات وهي: الدين، والمعاش وعاقبة الأمر. وعاقبة الأمر تشمل كل نتائج سعي الإنسان في الدنيا والآخرة. 4- على المسلم ألايحكم على أي أمر أنه خير أو شر من ظاهر الأمر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 كان يستخير ويعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما أنه صلى الله عليه وسلم وكل العلم ببواطن الأمور من حيث خيرها أو شرها بعلم الله للغيب. ويستثنى من ذلك، أن يكون الأمر مأمورا به العبد شرعا، فنعلم أنه خير يجب فعله، أو منهي عنه شرعا، فنعلم أنه شر يجب تركه، وفي هذين الأمرين، وهما يمثلان دائرة الأمر والنهي لا تشرع الاستخارة أبدا. 5- يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدره لي» ، ومن قوله: «فاصرفني عنه» ، أن هناك محوا وإثباتا في الكتب التي مع الملائكة، ويكون الأمر بعد الإثبات والمحو موافقا لما هو في اللوح المحفوظ، والذي لا يحدث فيه تغيير أبدا إلى قيام الساعة، وقد بينت ذلك تفصيلا عند التعليق على حادثة الإسراء والمعراج. 6- يعلمنا الحديث عظيم أمر الصلاة، وشدة قرب العبد من ربه أثناء الصلاة وبعدها، نقل ابن حجر في الفتح عن ابن أبي جمرة قوله: (الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فيحتاج إلى قرع باب الملك ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مالا وحالا) «1» . وأقول: لو أن هناك ما هو أعظم قربة إلى الله- سبحانه وتعالى- من الصلاة لفعلها النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي دعاء الاستخارة، كما يمكن أن يقال: إنه بقدر ما يكون العبد قريبا من ربه في هذه الصلاة مستشعرا الذلة والمسكنة والتواضع والافتقار إلى ربه، بقدر ما يمكن أن يوفّق في الدعاء، وبقدر ما يكتب الله له الخير في عاقبة أمره، لأن الصلاة كانت بمثابة المقدمة والمفتاح لذلك الدعاء. ج- حسن الثناء على الله- عز وجل-: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من اللّيل يتهجّد قال: «اللهمّ لك الحمد، أنت قيّم السّماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد لك ملك السّماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السّماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت ملك السّماوات والأرض، ولك الحمد، أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، ولقاؤك حقّ، وقولك حقّ، والجنّة حقّ، والنّار حقّ، والنّبيّون حقّ، ومحمّد صلى الله عليه وسلم حقّ، والسّاعة حقّ، اللهمّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما   (1) فتح الباري (11/ 186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 قدّمت وما أخرّت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلّا أنت- أو لا إله غيرك-» «1» . الشّاهد في الحديث: كل جملة، بل كل كلمة في الحديث تنضح بحسن ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الله جل في علاه، كما سيأتي في الفوائد- إن شاء الله تعالى. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: مظاهر ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على ربه: 1- إثبات أن الحمد كله لله، والحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال والجمال، وبأفعاله الحميدة الدائرة بين الفضل والعدل، قال الإمام القرطبي في تفسير الفاتحة: (الحمد في كلام العرب: معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه؛ إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا) «2» . 2- إثبات أن الله- سبحانه وتعالى- هو القائم على أمر السماوات والأرض فهو- سبحانه وتعالى- الذي يحفظهما ويدبر أمرهما ويتولى رعايتهما، بل هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [فاطر: 41] . ويحفظ السماوات أن تقع على الأرض قال تعالى وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، كما أن الله قائم على أمر السماوات والأرض، فهو قائم أيضا على أمر من في السماوات والأرض، من أجرام سماوية وكائنات حية وبحار ومحيطات، منها ما نعلمه وكثير منها لا نعلمه. وأقول: إن أجناس هذه الكائنات والمخلوقات لا يمكن حصرها أنواعا فضلا عن حصرها أعدادا، وتدبر أخي القارئ قدرتنا بالنسبة لقدرة الخالق البارئ، فنحن لا نستطيع أن نحصر الكائنات الحية أنواعا أو أعدادا، مجرد حصر فقط، على كوكب واحد وهو الأرض، والله- عز وجل- يحصرها أعدادا أو أصنافا، بل يقدر آجالها وأعمالها وأرزاقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، ويرى مكانها ولا يخفى عليه حالها، يسمع كلامها باختلاف لهجاتها، ولا يشغله سبحانه أمر كوكب عن كوكب.   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: التهجد بالليل، برقم (1120) ، واللفظ له، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (769) . (2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وأضرب مثالا بسيطا ليتصور القارئ سعة خلقه- سبحانه- وكثرة مخلوقاته، ورد في الصحيحين نبأ البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا، قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه» «1» فكم هو عدد الملائكة، الذين هم جنس واحد من مخلوقات الله- سبحانه وتعالى- وكم سعة هذا البيت الذي يستوعب هذا العدد الهائل من جنس عظيم الخلقة كالملائكة، وقس على ذلك بقية الأكوان والمخلوقات. ومن لوازم قيومته- سبحانه وتعالى- كمال قدرته، وتنزيهه عن أي نقص في ذاته وحياته- سبحانه وتعالى- مثاله أن الله الذي يقوم بأمر السماوات والأرض لا ينبغي له أن ينام بل ولا تعرض له مقدمات النوم، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] ، وتدبر الآية كيف ذكرت تنزيهه- سبحانه وتعالى- عن النوم والسّنة بعد ذكر قيومته. 3- إثبات أن الله ملك السماوات والأرض ومن فيهن، والملك هو الذي خلق، وهو الذي يربي خلقه على نعمه وآلائه، ومن لوازم ملكه للسماوات والأرض ومن فيهن، أن الأمر كله يرجع إليه، وأن يكون له التصرف المطلق فيهن وبمن فيهن، وألايحدث فيهن شيء إلا بعلمه وإذنه، وأن من لوازمه أيضا أن نتوجه إليه بجميع العبادات صغيرها وكبيرها، سرها وعلانيتها، فهو الملك سبحانه وتعالى. 4- إثبات أن الله- تبارك وتعالى- هو نور السماوات والأرض، وهو موافق لقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] ، قال ابن حجر في الفتح: (أي منوّرها وبك يهتدي من فيها، وقيل: المعنى: أنت المنزه عن كل عيب، يقال: فلان منوّر، أي مبرأ من كل عيب، ويقال: هو اسم مدح تقول: فلان نور البلد أي مزيّنه) «2» . 5- إثبات أن الله- تبارك وتعالى- هو الحق، والحق هو الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهو الذي لا يحول ولا يزول، وجاء اللفظ هكذا مطلقا غير مقيد، ليفيد العموم، فهو- سبحانه وتعالى- حق في ذاته وأسمائه وصفاته وفي أفعاله وكلامه، وهذا أبلغ في الثناء والمدح، وإذا كان الله هو الحق فكل ما ينزل منه حق، وكل ما يعد به حق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد قوله «أنت الحق» قال: «ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والنار حق،   (1) مسلم، كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (162) . (2) فتح الباري (3/ 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق» . 6- ومن مظاهر الثناء أيضا، تقديم الخبر وتأخير المبتدأ في كل جملة، لإفادة التوكيد والحصر، ومثاله «لك ملك السماوات والأرض» ، أي الملك لك وحدك لا لغيرك ولا يشاركك فيه أحد. ومن مظاهر الثناء أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عقّب كل جملة بقوله «ولك الحمد» ليثبت أن كل ما ذكر لله- سبحانه وتعالى- فهو محل للثناء والحمد. الفائدة الثانية: بيان ما أوتيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، ويظهر ذلك في تقسيمه صلى الله عليه وسلم الثناء على الله- تبارك وتعالى- إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: القسم الأول: ثناء يتعلق بذات الله العلية، وصفاته البهية، من حيث سعة خلقه وتمام ملكه وعظيم نوره وجمال هديه وكمال قدرته. القسم الثاني: ثناء يتعلق بما وعد الله به وأرسل، فقد وعد باللقاء ورغب فيه بالجنة وتوعد منه بالنار، وأرسل النبيين مبشرين ومنذرين من هذا اللقاء. القسم الثالث: الثناء عليه- تبارك وتعالى- بما ينبغي أن يفعله العبد تجاهه سبحانه وتعالى، من الإسلام والإيمان والعبادات القولية، كالمخاصمة به والمحاكمة إليه. ثم إن ورود هذه الأقسام بهذا التسلسل المنطقي، يدل على كمال فصاحته ورجاحة عقله صلى الله عليه وسلم حيث بدأ بذكر عظيم صفات الله بما يحبّب الخلق في خالقهم- جل وعلا- وهو مفتاح الإيمان وعموده، وهو الذي يجعل العباد يقبلون على خالقهم طوعا وكرها، فإذا آمنوا به وأحبوه، كانوا على استعداد للإيمان بأنبيائه وما جاؤا به من وعد ووعيد ليطمعوا في كرمه ويخافوا من عذابه، فإذا حدث لهم ذلك وجب عليهم إعلان كمال الانقياد والتسليم وصرف كل العبادات الظاهرة والباطنة لله وحده. الفائدة الثّالثة: وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر في الفتح قوله: « (ومحمد صلى الله عليه وسلم حق) خصه بالذكر تعظيما له، وعطفه على النبيين إيذانا بالتغاير، بأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة، وجرده من ذاته كأنه غيره فوجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد» «1» . الفائدة الرّابعة: الحث على كثرة الحمد، وبيان فضله حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بدأ صلاة الليل بهذا الحمد الجميل، وكان يداوم عليه لقول الراوي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل   (1) فتح الباري (3/ 4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 يتهجد قال: «اللهم لك الحمد» . فلو أن هناك ما هو أثقل في الميزان وأحب إلى الله من الحمد لبدأ به، فقد ورد عن أبي مالك الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن- أو تملأ- ما بين السّماوات والأرض» «1» . الفائدة الخامسة: كمال عبوديته صلى الله عليه وسلم لله- عز وجل- حيث ذكر في الحديث: 1- أن كل جوارحه صلى الله عليه وسلم قد انقادت وخضعت لله «اللهم لك أسلمت» . 2- أن قلبه وعقله صلى الله عليه وسلم قد ملأه اليقين والتصديق التام بالله «وبك آمنت» . 3- أن كل أموره قد استعان على قضائها بالله «وعليك توكلت» . 4- أنه يرجع إلى الله في تدبير أمره كله «وإليك أنبت» . 5- أن كل مخاصماته مع الغير، قد اعتمد فيها على برهان ربه وما أعطاه من الحجج الدامغات «وبك خاصمت» . 6- أن الذي يحكم بينه صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه، هو الله الحكم العدل. 7- أن كل ما فعله من ذنوب- إن حدثت- في حاضره وآجله وسريرته وعلانيته، فإن الله هو الذي يغفرها ويمحوها. ماذا ترك صلى الله عليه وسلم لنفسه؟ لا شيء، قلبه وجوارحه وأمره وخصامه وحكمه لله وبالله. ولذلك كان الله له خير كاف ومعين وناصر. 17- شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة، فتعجّل كلّ نبيّ دعوته، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة، فهي نائلة- إن شاء الله- من مات من أمّتي لا يشرك بالله شيئا» «2» . الشّاهد في الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» .   (1) مسلم، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء، برقم (223) . (2) البخاري، كتاب: الدعوات، باب: لكل نبي دعوة مستجابة برقم (6304) . مسلم، كتاب: الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته، برقم (199) . واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم: 1- عظيم حفاوة الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أذن- سبحانه وتعالى- أن تكون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المستجابة شفاعة لكل فرد من أفراد الأمة يموت على التوحيد. 2- بركة دعوته المستجابة صلى الله عليه وسلم فهي بلا شك أكثر بركة من دعوة أي نبي من قبل، حيث إنها ستنال كل فرد من أفراد الأمة، من عصر الصحابة إلى آخر من يموت منها، في وقت يكونون في أشد الحاجة لهذه الدعوة، قال الإمام النووي رحمه الله: (أخّر صلى الله عليه وسلم دعوته في أهم أوقات حاجتهم) . 3- حبه صلى الله عليه وسلم لأمته، وتقديمها على خاصة نفسه وأهل بيته، ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله نقلا عن بعض العلماء كلاما جميلا يوضح فضله صلى الله عليه وسلم حيث قال ما نصه: (قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم، وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثرا أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين) «1» . وقال النووي: (في الحديث بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم) «2» . تنبيه: في قول الإمام ابن الجوزي: (لأنه جعلها للمذنبين من أمته) نظر؛ فإن المفهوم أن الطائعين ليس لهم حظ في شفاعته صلى الله عليه وسلم وليس الأمر كذلك، إذ نص الحديث يدل على أن الشفاعة ستنال كل من مات لا يشرك بالله شيئا، فستكون تلك الشفاعة للطائعين- بإذن الله تعالى برفع درجاتهم. ويتفرع عليه: وجوب امتنان جميع الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم والعمل على رد جزء من جميله الموفور حيث ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم لن يخلد في النار أحد ممن مات على التوحيد. وأقول أخي القارئ الكريم: هذا شيء يسير من حبّ النبي صلى الله عليه وسلم لك وترجمة ذلك الحب إلى عمل تسعد به، فسل نفسك كيف حبّك للنبي صلى الله عليه وسلم وهل ترجمت هذا الحب إلى عمل ينفعك   (1) فتح الباري (11/ 97) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أنت يوم القيامة، وتسعد به نبيك صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: ليس معنى أن لكل نبي دعوة مستجابة أنها دعوة واحدة فقط وبقية الدعوات لا تستجاب، ولكن المقصود أن لكل نبي دعوة عظيمة لا ترد، وبقية الدعوات يوكل أمرها إلى الله- سبحانه وتعالى- وليس بلازم أن تستجاب، فالأنبياء قد دعوا لأنفسهم بدعوات كثيرة قد استجيبت، وقد أوردت في هذا الكتاب دعوات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد استجيبت كلها بفضل الله تعالى. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (قد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم وظاهر الحديث أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهي على رجاء الإجابة) «1» . الفائدة الثّالثة: من مات من أهل التوحيد لا يشرك بالله شيئا لم يخلد في النار، لما ورد في الحديث: «فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» . قال الإمام النووي رحمه الله: (فيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لم يخلد في النار وإن كان مصرا على الكبائر) «2» . الفائدة الرّابعة: قد يقول قائل: في الحديث دليل على أنه يمكن أن يخلد في النار- من الأمم السابقة من مات على التوحيد- من أصحاب الكبائر مثلا، لأنه لو كان مقررا أن كل من مات على التوحيد لم يخلد في النار ما كان هناك حاجة أن يخبئ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته المستجابة لأمته يوم القيامة، ولكن يمكن أن يرد على هذا الاحتمال أن أهل التوحيد من أمته صلى الله عليه وسلم سيخرجون بفضل شفاعته من النار قبل استيفاء ما توجب عليهم من العذاب، بعكس من مات على التوحيد من الأمم السابقة فإنه قد يعذب بقدر سيئاته ولا يعجل له الخروج من النار. 18- حسن معاشرته صلى الله عليه وسلم لأزواجه: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان له جار مسلم يقول: «كنّا نتناوب النّزول على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنّا معشر قريش نغلب النّساء، فلمّا قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم   (1) فتح الباري (11/ 96) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟! فو الله إنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإنّ إحداهنّ لتهجره اليوم حتّى اللّيل فأفزعني، فقلت: خابت من فعل منهنّ بعظيم، ثمّ جمعت عليّ ثيابي فدخلت على حفصة فقلت: أي حفصة أتغاضب إحداكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتّى اللّيل؟! فقالت: نعم. فقلت خابت وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكين؟! لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك ولا يغرّنّك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد عائشة» «1» . الشاهد في الحديث: قول زوجة عمر رضي الله عنها: «فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه رضي الله عنهن ويتبين ذلك من: 1- إذنه صلى الله عليه وسلم لأزواجه بمراجعته وعدم كفهن عن ذلك، لأنني أعتقد أنه صلى الله عليه وسلم لو نهرهن أو أمرهن بعدم مراجعته لانتهين وما فعلن. 2- تحمّله صلى الله عليه وسلم أن تهجره أي من أمهات المؤمنين طوال اليوم، وهذه أعظم من الأولى، ويدل ذلك على أنه كان صلى الله عليه وسلم يعاملهن معاملة الزوج لزوجه، وليس بمعاملة النبي لأتباعه، وإلا ما استطاعت إحداهن مراجعته أو هجرانه صلى الله عليه وسلم، وهذا من كريم خلقه وحسن معاشرته لأزواجه. الفائدة الثانية: تعظيم عمر- رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر جلي في الحديث، ويتبين ذلك من النقاط التالية: 1- الخوف الشديد الذي انتاب عمر لما علم أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه في الأمر، بل قد يتعدى الأمر إلى هجره صلى الله عليه وسلم طوال اليوم، ويدل على خوف عمر رضي الله عنه قوله في الحديث: «فأفزعني» .   (1) البخاري، كتاب: المظالم والغصب، باب: الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة .... ، برقم (2468) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 2- الحكم على من فعلت هذا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بالخيبة والخسران، ولو كانت ابنته، ورد في رواية أخرى عند البخاري: «قد خبت وخسرت» . 3- حكمه رضي الله عنه، بل أقول: اعتقاده، أن من أغضب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أغضب الله ومن ثمّ يهلك، ورد في إحدى روايات البخاري: «أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكين» . 4- مبادرته للذهاب إلى ابنته لمراجعتها في سلوكها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الحديث: «ثم جمعت عليّ ثيابي فدخلت على حفصة فقلت: أي حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟!» «1» . بل تعدى الأمر إلى إنكار الفاروق رضي الله عنه على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ورد عند مسلم: (فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب عليك بعيبتك) . تقصد حفصة رضي الله عنها. 5- تقديمه رضي الله عنه رضى النبي صلى الله عليه وسلم على رضى كل أحد، ولو كانت ابنته، ولو وصل الأمر أن إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بقتل ابنته حفصة، لقتلها وباشر ذلك بنفسه، ورد عند مسلم: (فقلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها) . 6- حرصه رضي الله عنه ألايصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم أدنى إيذاء من جهة ابنته حفصة رضي الله عنها، مع حرصه أيضا على نصحها أبلغ نصيحة في كيفية معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تضمن رضاه عنها، فقال لها- كما ورد في رواية البخاري-: (لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك) . وأعتقد أن عمر رضي الله عنه كان يريد من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهنّ- أن يعاملن النبي صلى الله عليه وسلم المعاملة التي تنبغي له كنبي من عند الله، لا معاملة زوج لزوجه، وأكبر دليل على ذلك أنه ربط غضب النبي صلى الله عليه وسلم بغضب الله- سبحانه وتعالى- ومن ثم الهلاك، ورفض مبدأ المراجعة أو الهجر، وقد أطلت في الكلام عن الفاروق رضي الله عنه؛ ليعلم القارئ الكريم كيف كان الصحابة- رضي الله عنهم- جميعا يرون النبي صلى الله عليه وسلم في أعينهم، ومهما قلت وحاولت التقريب فحقيقة الأمر أجل وأعظم   (1) البخاري، كتاب: المظالم والغصب، باب: الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة، برقم (2468) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 من أن ندركها. الفائدة الثالثة: وهي متفرقات: 1- علم الصحابة بفضل عائشة- رضي الله عنها-، وحب النبي صلى الله عليه وسلم لها، ورد عند البخاري قول عمر رضي الله عنه لابنته: (ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم) . 2- حرص الصحابة على تحصيل العلم ومعرفة كل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أولا بأول، فإن لم يستطيعوا حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم تناوبوا الحضور، ورد في الحديث: (إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم وغيره، وإذا نزل فعل مثله) . 3- تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودليله من الحديث أن زوجة عمر رضي الله عنهما حاجّته بمشروعية مراجعته بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وكأنها تريد أن تقول له، الزوجات يراجعن من هو خير منك وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. 19- ملاطفته صلى الله عليه وسلم من حوله: أولا: ملاطفته صلى الله عليه وسلم زوجاته وإدخال السرور عليهن: المثال الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، فدخل أبو بكر، فانتهرني، وقال: مزمارة الشّيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «دعهما» . فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السّودان بالدّرق «1» والحراب، فإمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمّا قال: «تشتهين تنظرين؟» فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خدّي على خدّه، وهو يقول: «دونكم يا بني أرفدة» ، حتّى إذا مللت. قال: «حسبك؟» قلت: نعم. قال: «فاذهبي» «2» . الشّاهد في الحديث: الشاهد الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة في يوم عيد، وعندها جاريتان تغنيان، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فلما دخل أبو بكر رضي الله عنه وانتهر الجاريتين، قال له   (1) الدرق: الدرع من الجلد. (2) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الحراب والدرق يوم العيد، برقم (950) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهما. والشاهد الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم عائشة رضي الله عنها وراءه تنظر إلى بعض أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد. تنبيه: الحديث يشتمل على واقعتين، واقعة غناء الجاريتين في حجرة عائشة، وواقعة رؤية عائشة لوفد الحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله أن بعض الرواة قد جمعوا الواقعتين في حديث واحد، وبعضهم أفردهما في حديثين منفصلين. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حكمته صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المرأة صغيرة السن، ولو كانت زوجته، وتتجلى حكمته في علمه بما تحتاجه صغيرة السن فيتلمس رغباتها وما تتشوق نفسها إليه، فلا ينكر عليها حبّها لرؤية وفد الحبشة وهم يلعبون في المسجد، أو حبها لسماع غناء الجارية يوم عيد، بحجة أنها قد تزوجت، وتزوجت بمن؟ بقائد الأمة وقدوتها صلى الله عليه وسلم. ونعلم من ذلك: أن تعاليم ديننا الحنيف، لا تصطدم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، حتى في اللعب واللهو، ورد في إحدى روايات البخاري «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو» «1» ، وهذا والله لأبلغ دليل على كمال وجمال الشريعة، وأنها حقّا من عند الله- تبارك وتعالى- الذي يعلم حاجات من خلق، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] . 2- ملاطفته لزوجاته وحب إدخال السرور عليهن، ويتبين ذلك من: أ- إقراره صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها لسماعها غناء الجاريتين، ورد في الحديث: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه) ، ثم أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يدع الجاريتين تغنيان، بل بلغ اهتمامه بالأمر أن أقبل على أبي بكر بوجهه ليأمره بذلك، ورد في الحديث: فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دعهما» . ب- عرضه صلى الله عليه وسلم على عائشة أن تقوم تنظر إلى لعب أهل الحبشة بالدرق والحراب في   (1) البخاري، كتاب: النكاح، باب: نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، برقم (5236) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المسجد، بل ويقف أمامها يسترها بردائه حتى تقضي هي وطرها، ورد في الحديث: (فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال: «تشتهين تنظرين» ، وورد أيضا: حتى إذا مللت قال: «حسبك؟» أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف لها طويلا حتى يصل بها الحال إلى الملل، وهو شعور يأتي بعد الإشباع، وفي رواية عند مسلم: (ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف) «1» ، ولا يخفى من هذا الواقعة مدى دلال عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم. ج- ومن عظيم التلطف أن يقيم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وراءه في حال كون خدها على خده، صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: (فأقامني وراءه خدي على خده) ، ويظهر في كل ما ذكر، ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع الجم. 3- رفيع مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ودليله ما قاله ابن حجر في [الفتح] : (وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك) «2» . الفائدة الثانية: ما كان عليه الصحابة من تعظيم جانب النبي صلى الله عليه وسلم وحبه والأدب معه، يتبين ذلك من: 1- زجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لابنته الحبيبة عائشة رضي الله عنها لإذنها بالغناء في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على كبير حبه للنبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على كل أحد، ولو كانت ابنة حديثة السن، قالت عائشة: (فدخل أبو بكر فانتهرني) . 2- دل كلام أبي بكر رضي الله عنه أن من دواعي غضبه على ابنته أن هذا الغناء والزمر يحدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه رضي الله عنه، يحكم بحرمة الغناء واللهو، ولكن اشتدت الحرمة عنده؛ لأنها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لذلك أقبل النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه وأوضح له سبب إقراره لهذا الغناء، وهو أنه يوم عيد، ورد عند البخاري: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» «3» . 3- أما الأدب، فانظر إلى قول عائشة رضي الله عنها: (فلما غفل غمزتهما فخرجتا) لماذا لم تأمرهما بالخروج بالقول؟ أعتقد أن الغمز كان لحكمة، فقد يكون بسبب حرصها على عدم إزعاج النبي صلى الله عليه وسلم لقولها: (فلما غفل) ، وقد يرجع الغمز إلى أن عائشة أرادت أن تتوسط بين زوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها، فلا تشعر النبي صلى الله عليه وسلم أنها هي التي أمرت الجاريتين بالذهاب،   (1) مسلم، كتاب: صلاة العيدين، باب: الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه ... ، برقم (892) . (2) فتح الباري (2/ 443) . (3) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: سنة العيدين لأهل الإسلام، برقم (952) . ومسلم، كتاب: صلاة العيدين، باب: الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه ... ، برقم (892) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وكيف تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أباها أن يدعهما، كما أرادت أن تراعي إنكار أبيها بوجود الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فجمعت بين المصلحتين بالغمز. الفائدة الثّالثة: ليس في الحديث حجة على من توسع في أمور الغناء والزمر، بل الواقع أن الحديث حجة عليهم لا لهم، ويتبين ذلك من استعراض النقاط التالية: 1- كانت الجاريتان تغنيان بغناء بعاث، وعند البخاري: (بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث) أي: من الفخر والهجاء، ويوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، والشاهد هنا أن ما كانت تتغنى به الجاريتان، لم يكن كلاما محرما، ولا حتى مكروها، بل كلام قيل في سياق المدح والذم؛ فلا يقاس ذلك بالكلام الذي يهيج الغرائز ويثير المشاعر ويحث على الرذيلة، فشتان بين الغناءين. 2- لم يصاحب غناء الجاريتين آلات الموسيقى والعزف، بل كان كل الذي معهما، الدف؛ لقول عائشة رضي الله عنها في رواية مسلم: (تغنيان بدف) ، فيبقى تحريم المعازف هو الأصل، لما ورد عن أبي مالك الأشعريّ: أنه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف» «1» . 3- الجاريتان لم تكونا محترفتين للغناء، قالت عائشة رضي الله عنها (وليستا بمغنيتين) . قال القرطبي: (أي ليستا ممن يعزف الغناء كما يعزفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عن المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرها من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه) «2» . وأقول: لولا أن عائشة رضي الله عنها ترى فرقا عندها وعند الناس، بين المغنية وبين الجارية التي كانت تغني عندها، من حيث الخلق والدين وطريقة الغناء، ما تحرزت بقولها: (وليستا بمغنيتين) . 4- المغنيتان كانتا من الجواري لا من الحرائر، وما يتجوّز في حق الجواري، قد لا يتجوز فيه في حق الحرائر. 5- هذا الغناء الذي وقع من الجاريتين، على هذا النحو، في التحفظ في الأداء   (1) البخاري، كتاب: الأشربة، باب، ما جاء فيمن يستحل الخمر ... ، رقم (5590) . (2) انظر فتح الباري (2/ 442) نقله ابن حجر من تفسيره الجامع لأحكام القرآن (14/ 54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 والكلمات وما يرافقهما من آلة، الأصل فيه التحريم، فالاستثناء هو الطارئ وليس الأصل، ودليله: أ- أن أبا بكر حكم بالأصل لما رأى الجاريتين تغنيان، قالت عائشة رضي الله عنها: (فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) ولو كان غناء الجاريات هو الأصل ومعروفا عند الصحابة، ما نهر أبو بكر رضي الله عنه ابنته. ب- الدليل على صحة ما قاله أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه حكمه أن هذا الدف من مزامير الشيطان، ولكن صوب صلى الله عليه وسلم اعتقاده بأن الغناء لا يجوز مطلقا بقوله صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» . ج- لو كان الأصل في الغناء الإباحة مطلقا، ما تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن سماعه بل إن من مبالغته في عدم السماع أنه تسجّى بثوبه- أي التف به- وحوّل وجهه، وكأنه غير حاضر لهذا المجلس. وجملة القول: أن الغناء لا يكون- بنص الحديث- إلا في عيد أو ما شابهه من مناسبات كالأعراس، وبالشروط المذكورة، فهل بعد هذا البيان يستطيع أحد أن يكابر فيقول: إن الغناء حلال ليس فيه شيء، ويستدل ظلما بحديث الباب؟! وأقول لمن ابتلي بهذا المرض العضال، وهو حب الغناء والمعازف: إذا لم تستطع الإقلاع عن هذه المعصية، فلا أقل من أن تقر بتحريمها، وتسأل الله- سبحانه وتعالى- المعافاة منها، فذلك خير لك من أن تجادل في أحكام لله، فتحل حراما أو تحرم حلالا، فتقع في محظور أعظم، وتنسحب هذه النصيحة إلى كل من وقع في معصية لا يستطع الفكاك منها، إياك أن تحل الحرام لوقوعك فيه. الفائدة الرّابعة: الأعياد مناسبة لإدخال الفرحة والسرور على المسلمين، ويباح فيه ما لا يباح في بقية الأيام، كلعب الأولاد في المسجد بالحراب، لقول عائشة رضي الله عنها (وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب) . ويتفرع عليه خطأ بعض الناس الذين اعتادوا الذهاب إلى القبور أول أيام العيد، فهذا عمل مذموم، لأن الناس يعملونه وينتظمون عليه كأنه سنة بل كأنه من شعائر أول أيام العيد، التي يتقرب بها إلى الله- سبحانه وتعالى- بالإضافة إلى منافاته حكمة الله من سن الأعياد لأن زيارة القبور تجدد الأحزان والعيد قد شرع ليدخل الفرحة والسرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 المثال الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعلم إذا كنت عنّي راضية، وإذا كنت عليّ غضبى» ، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: «أما إذا كنت عنّي راضية فإنّك تقولين: لا وربّ محمّد، وإذا كنت عليّ غضبى قلت: لا وربّ إبراهيم» . قالت: قلت: أجل. والله يا رسول الله ما أهجر إلّا اسمك) «1» . وهذا دليل آخر على جميل معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه رضي الله عنهن وحرصه على مداعبتهن وإدخال السرور عليهن. و الشّاهد في الحديث: واضح: وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى» . ونذكر سريعا بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: مدى حب الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حتى يقسم أحوالها معه (وهو النبي المجتبى) ، إلى حالة رضى وحالة غضب، ولا يستحي صلى الله عليه وسلم أن يذكر أن زوجة من زوجاته قد تغضب عليه، وتظهر بكلامها أنها في حالة غضب. الفائدة الثانية: في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: 1- علمها رضي الله عنها بمدى حب النبي صلى الله عليه وسلم لها، حتى تتدلل عليه مثل هذا الدلال، ويصل بها الأمر أن تهجر اسمه، أما كانت تخشى أن يغضب صلى الله عليه وسلم عليها؟!، بالقطع ما كانت تخشى ذلك، وإلا ما فعلت. 2- أدبها الجم رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم ويتبين ذلك من: أ- إذا غضبت من النبي صلى الله عليه وسلم ما تزيد على أن تقسم برب إبراهيم بدلا من أن تقسم برب محمد صلى الله عليه وسلم ولو كانت تفعل في حال الغضب أكثر من ذلك لذكره النبي صلى الله عليه وسلم. ب- إخبارها النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها إذا كانت غضبى منه تقسم برب إبراهيم، فإنها لا تهجر إلا اسمه، أي لا يزيد الأمر بالنسبة إليها إلا هجر لسان ولا يزيد هجر اللسان إلا للاسم فقط، أما عقلها وقلبها وبقية جوارحها فلا تتأثر بهذا الغضب، الحب هو الحب، والإجلال والإكبار لا يتأثران، وأسأل هل هذا يطلق عليه أنه غضب؟ وإذا كان هذا حالها رضي الله عنها في حال الغضب فكيف كان حالها في الرضى؟ أقصد أنها بعد أن أفصحت للنبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تهجر إلا اسمه في حال الخصام فإنها في المستقبل لن ينفعها مثل هذا الهجر بعد أن   (1) البخاري، كتاب: النكاح، باب: غيرة النساء ووجدهن ... ، برقم (5228) . ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، برقم (2439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 عرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكون في قلبها. 3- فقهها رضي الله عنها ويتبين ذلك من: أ- أنها إذا كانت في حالة الرضا، وأرادت أن تعظم قسمها ذكرت في القسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم وأحب الخلق إلى الله- سبحانه وتعالى-. ب- أنها في حالة عدم الرضى، وأرادت أن تعدل إلى ذكر أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عدلت إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم إما لعلمها أنه خير الأنبياء وخير أولي العزم من الرسل بعد النبي صلى الله عليه وسلم أو لأنه الجد الأكبر للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حجر رضي الله عنه في الفتح كلاما نفيسا نصه: (وفي اختيار عائشة ذكر إبراهيم عليه السّلام دون غيره من الأنبياء دليل على فطنتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس به كما نص عليه القرآن فلما لم يكن لها بد من هجر الاسم الشريف أبدلته بمن هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة) «1» . تنبيه: الغضب الذي كان يمتلك عائشة رضي الله عنها لم يكن لأمور شرعية، بل هو لأمور حياتية، لأن الغضب لأمور شرعية يقدح في إيمان العبد، وننزه عائشة رضي الله عنها عن ذلك، وهي الفقيهة الورعة. 3- ما حدث في بيت النبوة الكريم من غضب عائشة رضي الله عنها وهي التي سلم عليها جبريل عليه السّلام فمن باب أولى لن يخلو بيت من النزاعات والشجار، مما يغضب الرجل والمرأة، ولكن يجب أن يتم النزاع في الحدود الشرعية. ثانيا: ملاطفته صلى الله عليه وسلم الخادم: عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن النّاس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتّى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السّوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: «يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟» قال: قلت: نعم. أنا أذهب يا رسول الله قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلّا فعلت كذا وكذا؟ «2» . الشّاهد في الحديث: قول أنس رضي الله عنه: (فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من   (1) فتح الباري (9/ 326) . (2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، برقم (2309) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول أنس رضي الله عنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) ، وقد مرت شواهده كثيرا في الكتاب. 2- ملاطفته صلى الله عليه وسلم للخدم ويتبين ذلك من: أ- إمساكه بقفا أنس بن مالك رضي الله عنه وهذا منتهى التلطف قال أنس: (فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي) . ب- ضحكه صلى الله عليه وسلم لأنس في حالة كان من المفترض أن يكون فيها في أشد حالات الغضب، لأن الخادم لم يذهب لقضاء حاجته، ولم يكن يمنعه من الذهاب عارض من مرض أو غيره، ولكن اللعب مع الصبيان في السوق، قال أنس: (فنظرت إليه وهو يضحك) . ج- نداؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بالتصغير لإدخال السرور عليه، ولضمان عدم ترويعه قال أنس: فقال: «يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟» . وتدبر أخي القارئ: كل هذا التلطف من النبي صلى الله عليه وسلم قد حدث مع عدم توجيه أي كلمة عتاب أو توبيخ أو نصح بألا يفعل ذلك مرة أخرى، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أضربه هذه المرة، حتى لا يكررها، أو أحرمه من الطعام حتى يعتبر مستقبلا، أكانت هذه الملاطفة من النبي صلى الله عليه وسلم عن ضعف أو عجز، كلا والله، بل عن قلب رؤف رحيم. 3- مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للحاجات النفسية للغلام الصغير، فهو أحوج ما يكون إلى اللعب مع أقرانه، ولو على حساب تخلّفه عما كلف به من عمل، فهو يحتاج إلى اللعب ولو كان أجيرا خادما، كما يحتاج عند تعليمه إلى الملاطفة والبشاشة في وجهه، يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع خادمه، وأحدنا والله لا يستطيع أن يفعله مع أولاده الذين هم من صلبه، وعليكم أيها المسلمون اتباع السنة النبوية حتى مع أولادكم، في حال جدهم ولعبهم، لأننا مسئولون عن ذلك لا محالة، ولا يسعنا اتباع السنة في أمور ومخالفتها في أمور، والحذار الحذار أن يقول أحدنا: هم أولادي وأنا حر فيهم، فأقول: لا لست حرّا، سيسألك الله، - تبارك وتعالى- عنهم، هل طبقت فيهم السنة، فالحرية لفظ وشعار لا يعرفه المسلمون، فالمسلمون عبيد عند خالقهم ورازقهم، والعبد مملوك وليس حرّا، ونحن نفتخر بذلك، بل وندعو ليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 نهار، أن يتقبلنا الله عنده عبيدا، لا أن نمن عليه بعبوديتنا، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] . وللتتمة أقول: للعبد المسلم حيز من الحرية، وهو نطاق المباح شرعا. 4- حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه، ولو استمرت تلك المعاشرة عقدا كاملا من الزمان، وكانت من علامات حسن المعاشرة: أ- عدم توجيه أدنى كلمات الضجر وهي كلمة أف لأنس، ورد في إحدى روايات البخاري: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف) «1» . ب- ترك معاتبته بالكلية، فلم يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم أدنى معاتبة على المفعول أو المتروك، قال أنس: (ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته هلّا فعلت كذا وكذا) «2» . وعند البخاري: (فما قال لي أف ولا «لم صنعت» ولا «ألا صنعت» ) «3» . وأسأل من كان عنده خادم، ألم يفعل أنس ما يستوجب العقاب، ولو مرة واحدة، طيلة عقد من الزمان؟ كلا والله لقد فعل، ودليله حديث الباب، وفيه أنه لعب مع أقرانه وتأخر عن قضاء حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه الأولى. أما الثانية فإنه لو لم يقصر، ما كان هناك وجه لتوجه أنس بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا، ولكان هو- أي أنس- الأولى بالثناء، لعدم تقصيره في عمله، اسمع أول ما بدأ به أنس حديثه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) . فشتان ما بيننا وبين سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتي ندعي كلّنا التمسك بها، فأحدنا لا يستطيع أن يمر عليه يوم واحد دون توجيه كلمة لوم أو عتاب لخادمه، بل يحب من قلبه أن يقول للخادم على كل شيء فعله: «لم فعلت» ؛ لرؤيته أن كل ما يقوم به الخادم خطأ، أو لشعوره أن هذا اللوم والعتاب من مستلزمات الظهور على الخادم، والأدهى والأمرّ أن يبخل كثير من المخدومين بتوجيه كلمة شكر وثناء للخادم، بحجة أن ذلك يجعله يقصر في عمله، حتى نشعره دائما بالتقصير والإهمال. وأقول: إذا كان هذا هو مسلك النبي صلى الله عليه وسلم مع خادمه، فكيف كان سلوكه مع زوجاته-   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء ... ، برقم (6038) . (2) انظر السابق. (3) انظر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 رضي الله عنهن-. 5- جميل عفو النبي صلى الله عليه وسلم وتسامحه في كل ما يخصه، مع عدم غضبه وانتقامه لنفسه أبدا، وتركه اللوم والعتاب ولو كان الذي أمامه خادم، وفي مقابل ذلك غضبه الشديد والإنكار العظيم إذا انتهكت حرمة من حرمات الله- سبحانه وتعالى- ولو كان أمرا يسيرا في نظرنا، وهذا جانب عظيم في أخلاقه صلى الله عليه وسلم فكيف يجمع بشر مهما أوتي من حكمة وصبر، بين عدم الغضب إذا كان الأمر خاصا بنفسه، ولو كان أمرا عظيما، وبين شدة الغضب، إذا تعلق الأمر بحرمات الله، ولو كان أمرا يسيرا، إنها النبوة ونعمت. الفائدة الثانية: ما يجب أن يكون عليه الخادم من كتمان سر مخدومه؛ لأن أنسا لم يحك لنا طبيعة الحاجة التي أرسله إليها النبي صلى الله عليه وسلم بل ورد عند البخاري أنه ما كان يفشي أسرار النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه، وهي أمه فعن أنس بن مالك قال: (أسرّ إليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سرّا، فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أمّ سليم فما أخبرتها به) «1» ، وكتمان السر من الأمانة التي يجب أن يتمتع بها الخادم. وفيه أيضا ما يجب أن يكون عليه الخدم من الثناء على مخدومه بما هو أهله، وأن يقر بمعروفه الجميل، وألا يقابل طيب خلق المخدوم بعصيان أوامره، قال أنس: (نعم أنا ذاهب يا رسول الله) . ثالثا: ملاطفته صلى الله عليه وسلم أصحابه: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبروني بشجرة تشبه، أو كالرّجل المسلم لا يتحاتّ ورقها، ولا تؤتي أكلها كلّ حين» . قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنّها النّخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهت أن أتكلّم، فلمّا لم يقولوا شيئا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النّخلة» . فلمّا قمنا. قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنّها النّخلة. فقال: ما منعك أن تكلّم؟ قال: لم أركم تكلّمون، فكرهت أن أتكلّم، أو أقول شيئا. قال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إليّ من كذا وكذا) «2» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقي على مسامع أصحابه بعض المسائل التي تتطلب إعمال الفكر والعقل، وهذا من باب الملاطفة، وكذا زيادة العلم.   (1) البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: حفظ السر، برقم (6289) . (2) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: كشجرة طيبة ... ، برقم (4698) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حيث ألقى عليهم المعلومة المراد تعليمهم إياها، عل هيئة لغز، ليجعل المتعلم يفكر ويتأمل ويعمل عقله، لمعرفة الحل، فإذا عجز عن الإجابة، كان أشد اشتياقا لمعرفة الجواب، فيكون ذلك أدعى لحفظ اللغز وما اشتمل عليه من أقيسة وتشبيهات، وهذا يحقق فائدة اكتساب العلم على أفضل وجه، بالإضافة إلى دفع الملل عن المتعلم، الذي قد يحدث إذا كانت كل أساليب التعلم على وتيرة واحدة، مع ما يحققه هذا الأسلوب من إدخال السرور والبهجة في نفوس السامعين. ويتضح من ذلك خطأ أسلوب التلقي البحت الذي ينتهجه بعض الشيوخ، رحمهم الله، لأنه يصنع من طالب العلم آلة صماء، كل هدفه أن يحفظ ما يلقى عليه من المسائل، دون إعمال للعقل. الفائدة الثانية: عظيم بركة المسلم، وما يجب أن يكون عليه من نفع له ولغيره، في حياته وبعد مماته، والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شبه النخلة بالمؤمن ولم يشبه المؤمن بالنخلة، وكأن المؤمن هو الأكمل في نفعه وبركته، والنخلة أقل منه نفعا، وقد وصف ابن حجر في الفتح النخلة بأوصاف جميلة حيث قال ما نصه: (وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته) «1» . أعلمت أخي القارئ، بعد هذا الوصف الجميل للنخلة، مقدار المسلم في ميزان الشرع، فعليك أن تقارن نفسك بأوصاف النخلة، لتعلم أين أنت في ميزان الشرع. الفائدة الثّالثة: ما ينبغي أن يكون عليه المسلم الأصغر سنا مع الأكبر منه سنا، من أدب واحترام وعدم الإكثار من الكلام، إذا لم يترتب على عدم الكلام كتمان علم أو تفويت مصلحة أو هضم حق، وحتى إذا بدت مصلحة وتكلم الصغير يجب عليه أن يراعي آداب الحديث المعروفة، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما قد سمع المسألة التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم وقد ألقاها على مسامع كل الحاضرين، ولم يخص بها الكبير دون الصغير، وقد علمها ابن عمر، وكان هناك مصلحة أن يجاوب الرسول صلى الله عليه وسلم ليظهر فضله ويقر عين الرسول صلى الله عليه وسلم بما عليه أبناء الصحابة من علم وفكر، إلا أنه مع كل ذلك، آثر السكوت، كراهية التكلم في حالة سكوت أبي بكر   (1) فتح الباري (1/ 145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وعمر- رضي الله عنهم- فهلا علمنا أولادنا هذا الأدب الرفيع من آداب المجالس والحديث، أم تركناهم يتجادلون ويتخاصمون بل ويحتدون في الكلام معنا، قال ابن عمر: (ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم) . الفائدة الرّابعة: حرص الآباء على إظهار فضل أولادهم، خاصة في مجالس العلم وبحضرة أهل الفضل، وأن يكون ذلك أحب عند الأب من الدنيا وما فيها، قال عمر لابنه رضي الله عنهما: (لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا) . الفائدة الخامسة: التفاوت بين أهل العلم في ملكة الاستنباط والفهم، وقد مر ذلك مبسوطا في موقع آخر من الكتاب، ودليله من حديث الباب، أن ابن عمر فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من المثل المضروب، بينما استشكل حله على بقية الصحابة الحاضرين، مع أن فيهم من هو أعلم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعا. 20- همته صلى الله عليه وسلم: أولا: همته العالية في حفظ التنزيل: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التّنزيل شدّة، وكان ممّا يحرّك شفتيه، فقال ابن عبّاس: فأنا أحرّكهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّكهما، وقال سعيد: أنا أحرّكهما كما رأيت ابن عبّاس يحرّكهما، فحرّك شفتيه، فأنزل الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، قال: جمعه لك في صدرك، وتقرأه فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه. قال: فاستمع له، وأنصت، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، ثمّ إنّ علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسلّم كما قرأه) «1» . الشّاهد في الحديث: قول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل وكان مما يحرك شفتيه) . والحكمة من تحريك الشفتين، خوفه صلى الله عليه وسلم أن ينفلت منه شيء من القرآن. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: همة النبي صلى الله عليه وسلم العالية في حفظ القرآن، وذلك أنه كان يحرك شفتيه ولسانه بالقرآن الذي ينزل به جبريل عليه السّلام مخافة أن ينسى منه شيئا بعد انقضاء قراءة جبريل عليه السّلام بالرغم أن تحريك الشفتين فيه مشقة بالغة عليه صلى الله عليه وسلم لقول ابن عباس رضي الله   (1) البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم (5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه) ، وأعتقد أن هذه الشدة التي كان يعانيها ليست من مجرد تحريك الشفتين، بل مما كان يشعر به من خوف واضطراب من تفلت القرآن، بالإضافة إلى استجماع كل قوته الذهنية لتحصيل الحفظ من أول سماع للآيات، فمن الطبيعي حدوث مثل هذه المشقة ووجه بيان همته العالية هنا، أنه صلى الله عليه وسلم حمل نفسه عملا فيه مشقة بالغة، مع أن الله- عز وجل- لم يكلفه به. الفائدة الثانية: عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وتتبين مظاهر هذا الاعتناء في: 1- رؤية المولى- سبحانه وتعالى- لكل أحواله صلى الله عليه وسلم وهي رؤية خاصة، أي رؤية عناية لا رؤية إحاطة، ودليله أن الله- سبحانه وتعالى- إذا رأى منه تحريك اللسان والشفتين، فمن باب أولى قد رأى ما هو أكثر من ذلك وأعظم. 2- إنزال المولى- عز وجل- قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم تلك المعالجة، والعجيب أن الآية الكريمة لا تثبت المشكلة- وهي استعجال النبي صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن- وحلها فحسب، بل تثبت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بتحريك لسانه، ولولا علو شأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، ما ذكرت الآية أقل الأمور- في نظرنا-، وهو تحريك اللسان. 3- إرادة المولى- سبحانه وتعالى- رفع تلك المشقة عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ فلم يأمره- سبحانه وتعالى- أن يحفظ القرآن بعد انصراف جبريل عليه السّلام بل وعده أن يجمعه له في صدره ويقرأه كما قرأ جبريل عليه السّلام دون أدنى كلفة أو معاناة من النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذ آتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه) . يتفرع على ذلك: عظيم عناية المولى- سبحانه وتعالى- بالقرآن العظيم حيث تكفل بحفظه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوكل هذا الحفظ لمخلوق سواء من البشر أو من الملائكة لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فالجمع في الصدر من الله، أو في أقل تقدير بأمر الله- سبحانه وتعالى- أما قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ ، أي تلوناه، فالتلاوة قطعا من جبريل عليه السّلام وإن كان نسب القراءة إليه سبحانه، وذلك لبيان أنه سبحانه هو الآمر بها. وبذلك ضمن الله- عز وجل- لهذه الأمة عدم وجود أي اختلاف بين القرآن الذي في اللوح المحفوظ، وبين ما جمع في صدر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي نزل به من اللوح المحفوظ، هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 جبريل عليه السّلام الذي لا يضيّع ما استحفظ عليه، لأمانته وقوته، والذي جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو الله القادر على كل شيء، وتدبر قول ابن عباس، - رضي الله عنهما-: (فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه) ، فقوله: (كما قرأه) ، يفيد المثلية في كل شيء، من لفظ وإعراب ووقف ووصل، ولبيان قدرة الله- سبحانه وتعالى- ننبه القارئ الكريم أن بعض سور القرآن الكريم كانت تنزل دفعة واحدة. كما يتفرع عليه: أن من زعم أن شيئا من القرآن- مهما قلّ- تفلت من صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية فقد كذّب بظاهر القرآن، لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، وقلت: (بالكلية) تحرزا مما وقع منه صلى الله عليه وسلم من نسيان آية أثناء صلاته. الفائدة الثّالثة: كذب من ادعى من بعض الفرق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم القرآن ويحفظه، قبل أن ينزل به جبريل عليه السّلام ويروون في ذلك حديثا منكرا، ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من جبريل أن يستأذن ربه بكشف الستار في حال تلقيه القرآن، فلما أذن الله لجبريل بكشف الستار رأى النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يلقنه القرآن، فنزل جبريل إلى الأرض، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك: «ماذا وجدت يا جبريل؟ فقال جبريل: يا رسول الله منك وإليك» ، وقد سمعت هذا الكلام السمج يقال في المساجد وعلى المنابر في خطب الجمعة، في إحدى البلاد الإسلامية، فأين عقول الناس التي تصدق مثل هذه السخافات، الواضح فيها الكذب على الله ورسوله وأعظم ملائكته. وكل حجة المبطلين في هذا الكذب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه بالقرآن ففسروا ذلك أنه كان يحفظه عن ظهر قلب قبل تلقيه من جبريل، وغضوا الطرف عما جاء في القرآن وبقية الحديث الشريف، وتفسير حبر الأمة لهذا الحديث. وأقول لهؤلاء: اتقوا الله فيمن تدّعون حبّه، وإياكم والكذب عليه، فإن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره، ويكفي قبحا لأفعالكم وأقوالكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيردكم عن حوضه، لما يعلم ما بدلتم، بل سيكون خصمكم يوم القيامة، فضلا عما هو أعظم من ذلك، وهو غضب الرب- تبارك وتعالى- فعليكم بظاهر الكتاب الكريم وصحيح السنة الشريفة وفهم الصحابة لها، ففيها العصمة من كل شبهة، ودعوا الخرافات والخزعبلات التي تشوه هذا الدين الحنيف. الفائدة الرّابعة: حرص الصحابة والتابعين على نقل العلم، ونقل كل صورة توضحه، ما أمكنهم ذلك، ودليله من الحديث قول ابن عباس رضي الله عنهما: (فأنا أحركهما لكم كما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما) . فالحاصل: أن أحد الصحابة بلغ ابن عباس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه، لأن هذه الحادثة كانت بمكة قطعا، وابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولما حكى ابن عباس ذلك للتابعين، ومنهم سعيد بن جبير، حرك شفتيه بيانا لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولما حكى سعيد هذا الحديث لمن بعده، حرك لهم شفتيه كما رأى ابن عباس يحركهما، وهذا من أبلغ الأدلة على حفظ الصحابة رضي الله عنهم للسنة النبوية وأدائها على الوجه الأكمل والأتم، وكذا التابعين وتابعيهم. ثانيا: همته صلى الله عليه وسلم العالية في العبادة: عن حذيفة رضي الله عنه قال: صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. فافتتح (البقرة) فقلت: يركع عند المئة، ثمّ مضى. فقلت: يصلّي بها في ركعة، فمضى. فقلت: يركع بها، ثمّ افتتح (النّساء) فقرأها، ثمّ افتتح (آل عمران) فقرأها يقرأ مترسّلا، إذا مرّ باية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ، ثمّ ركع، فجعل يقول: «سبحان ربّي العظيم» ، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثمّ قال: «سمع الله لمن حمده» ، ثمّ قام طويلا قريبا ممّا ركع، ثمّ سجد. فقال: «سبحان ربّي الأعلى» ، فكان سجوده قريبا من قيامه «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعة واحدة من صلاة الليل بسورة البقرة وسورة النساء وسورة آل عمران، قرأ بهم مترسلا. الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- همته صلى الله عليه وسلم العالية في العبادة حيث صلى ركعة واحدة من صلاة الليل، بثلاث سور طوال [البقرة/ آل عمران/ النساء] ، ولا يخفى على أحد طول الوقت الذي تستغرقه تلك السور الطويلة، خاصة إذا أضيف إلى تلك القراءة الطويلة جدّا الأمور التالية: أ- كون القراءة بتمهل وترتيل، وليست حدرا. ب- الوقوف عند كل آية وعمل ما يناسبها، فإذا كانت الآية تحث على التسبيح أو تأمر به سبح، وإذا كان فيها ذكر للجنة أو نعم الله تعرض لتلك النعم بالسؤال، أما إذا كان فيها ذكر لعذاب الله تعوذ وسأل الله العافية والسلامة. ج- تطويل الركوع والرفع منه والسجود جدّا، حتى تتناسب تلك الأركان مع طول القيام.   (1) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 كل هذا التطويل، ولم يجلس النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة، لأنه لو جلس لأخبرنا راوي الحديث، حذيفة رضي الله عنه. 2- قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن بخشوع وتدبر للمعاني، أما الخشوع، فدليله: (يقرأ مترسلا) ، وأما تدبر المعاني (إذا مر باية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ) . يتفرع على ذلك: قلة نفع الصلاة التي يقرأ فيها الإمام بسرعة (دون تدبر وخشوع) وكذا تكون كل حركات الصلاة من ركوع ورفع وسجود، ويكون كل همّ الإمام أن يختم القرآن في صلاة التراويح خلال شهر رمضان المبارك، ولو أنه تأنى وصلى ولو بنصف القرآن أو ربعه في الشهر، بتدبر وخشوع وطمأنينة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان متبعا للهدي والسنة ومحصلا للخير والبركة، فليس الشأن كثرة القراءة، ولكن الشأن خشوع القلب وتدبر الآيات، وكثرة التسبيح، واستحضار عظمة المولى- سبحانه وتعالى- أثناء الصلاة والقرب منه، والحكم على تحصيل هذه الأمور، ألا ترى أنه يستوي إيماننا قبل دخول الصلاة وبعد الخروج منها؟. ويتفرع على ذلك أيضا، خطأ بل سوء أدب، من يحب أن يستمع للقرآن كحبه للاستماع إلى الطرب، بتمايل عند سماعه من حسن صوت القارئ، وينشغل عن تدبر القرآن بعبارات المدح والاستحسان لصوت القارئ، فأين هو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القرآن، وينطبق هذا الكلام على من يكون كل همه في رمضان أن يذهب ليصلي خلف الأئمة المعروفين بحسن أصواتهم، دون الاهتمام بأي أمر آخر، كاتباع الإمام للسنة أو خشوعه في الصلاة والاطمئنان فيها. الفائدة الثانية: وهي متفرقات في حديث الباب: 1- جواز أن يشق الإنسان على نفسه في العبادة، ولو أضر بدنه، شريطة ألايدخل على الإنسان الملل، أو تأخذه سنة أو نوم أثناء الصلاة، لما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين السّاريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا، حلّوه؛ ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد» «1» .   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: ما يكره من التشديد في العبادة، برقم (1150) واللفظ له، ومسلم كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: أمر من نعس في صلاته ... ، برقم (784) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم وهو يصلّي، فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم، فإنّ أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعلّه يستغفر فيسبّ نفسه» «1» . 2- جواز قطع القراءة بالتسبيح والسؤال والاستعاذة، وإذا جاز ذلك في الصلاة، فيجوز من باب أولى خارجها. 3- جواز تطويل القيام بعد الرفع من الركوع لقول حذيفة: (ثم قام طويلا قريبا مما ركع) . 4- جواز أن يحدث الإنسان نفسه في الصلاة، لقول حذيفة: (فقلت يصلي بها ركعة فمضى فقلت يركع بها) ، والمراد بالقول هنا حديث النفس، لأن القول في الصلاة يبطلها إجماعا، وترك حديث النفس في الصلاة أولى، لأنه أدعى للخشوع والتدبر. 5- جواز أن يجتهد المسلم في العبادة أمام الغير، إذا كان هذا دأبه وأمن على نفسه الفتنة والرياء، وإلا فالإسرار بها أولى، فالنبي صلى الله عليه وسلم طول جدّا في الصلاة في حضرة حذيفة رضي الله عنه. 6- مشروعية أن يذكر الإنسان أسماء سور القرآن، بدون ذكر لفظ (سورة) لقول حذيفة رضي الله عنه: (فافتتح البقرة) ، وقوله: (ثم افتتح النساء) فلا يشترط أن نقول: (سورة البقرة) . 7- جواز عدم التقيد بترتيب سور القرآن عند القراءة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالنساء ثم آل عمران، وهما في ترتيب المصحف الذي بين أيدينا، آل عمران ثم النساء ولا يعتبر ذلك من التنكيس. وبالمناسبة فإني أعتقد خطأ من يقول: إن ترتيب السور في القرآن ليس توقيفيّا، وإنما كان باجتهاد الصحابة، والدليل على ذلك أن المتأمل في ترتيب السور على النحو الموجود في المصحف الآن يجد فيه إعجاز كبيرا. 8- جواز أن يطيل الإمام جدّا في الصلاة، إذا أمن عدم تضرر المأمومين، خاصة في صلاة الليل. 9- جواز أن يحدّث المسلم الناس، بما فعل من عبادات حسنة، شريطة أن يكون بغرض تعليم الناس السنة، وأن يأمن المتحدث الرياء على نفسه، وإن لم يكن هناك مصلحة   (1) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء من النوم ... ، برقم (212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 شرعية فعدم التحدث أولى. - لم تكن همة النبي صلى الله عليه وسلم عالية فقط في قيام الليل، ولكن كانت كذلك في كل أنواع العبادات، ولنأخذ أمثلة سريعة لتلك الهمة العالية لنتأسى بها ونقتفي أثرها فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. أ- همته العالية في حضوره صلاة الجماعة: روى البخاري عن عمرو بن أميّة: (أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتزّ من كتف شاة، فدعي إلى الصّلاة، فألقى السّكّين، فصلّى ولم يتوضّأ) «1» . والشّاهد في الحديث: أنه لم يتم أكلته، ولكن فور سماعه الداعي، ألقى السكين وذهب إلى الصلاة، وما أخره أكل الذراع التي يحبها عن صلاة الجماعة، فحبه صلى الله عليه وسلم للصلاة كان أكبر وأعظم. وعن عائشة قالت: (لمّا ثقل النّبيّ صلى الله عليه وسلم واشتدّ به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي فأذنّ له، فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخطّ رجلاه في الأرض بين عبّاس ورجل آخر) «2» . و الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ومع وجعه الشديد الذي كان يعاني منه في مرضه الذي توفي فيه، تحامل على نفسه بمشقة بالغة، لحضور صلاة الجماعة، تقول عائشة رضي الله عنها: (فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض) ، أي ما كان يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يقيم صلبه، ولو بمساعدة رجلين، وما استحى، وهو الذي عرفه أصحابه بالقوة الجسمانية، أن يراه أحد على هذه الصورة، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أعذر المريض في حضور صلاة الجماعة مع حصوله على الأجر الكامل، ولكنه صلى الله عليه وسلم ألزم نفسه العزيمة. ب- همته العالية في صيام رمضان: روى مسلم عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حرّ شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدّة الحرّ، وما فينا صائم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة) «3» . فبالرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسافرا، ويجوز   (1) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، برقم (208) ، ومسلم، كتاب: الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، برقم (355) . (2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء في المخضب والقدح ... ، برقم (198) . ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم (418) . (3) مسلم، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر برقم (1122) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 للمسافر إذا كان سفره في رمضان أن يفطر ويقضي، وكان الجو شديد الحرارة، لم يحتمل الصحابة حره مع إفطارهم، يقول الراوي: (حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر) ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان صائما، ولم يكن صائما معه إلا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ومما يؤكد أن صوم هذا اليوم كان فيه مشقة بالغة، أن الصحابة ما استطاعوا أن يصوموه مع حبهم الشديد لموافقة النبي صلى الله عليه وسلم في كل أفعاله وكراهيتهم الشديدة لمخالفته، خاصة في أمر كالصيام. ج- همته العالية في إحياء العشر الأخيرة من رمضان: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله) «1» . كان صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأخيرة بالاعتكاف الذي فيه اعتزال النساء، وإحياء الليل كله، ويحث صلى الله عليه وسلم أهله على صلاة الليل، والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العبادة العشر الأخيرة من رمضان، ما لا يجتهد في غيرها، وذلك التماسا لليلة القدر. د- همته العالية في استدراك ما فاته من العبادات: عن عائشة رضي الله عنها: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصّلاة من اللّيل من وجع أو غيره صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة) «2» . فمع أن صلاة الليل قد فاتت النبي صلى الله عليه وسلم لعذر شرعي، كوجع أو غيره، إلا أنه لم يعذر نفسه صلى الله عليه وسلم فكان يصلي في نهار اليوم التالي اثنتي عشرة ركعة كاملة، وهو ما اعتاده صلى الله عليه وسلم من صلاة الليل، وما كان يفعل ذلك إلا ليدرك ما فاته من الخير، ويبذل كل ما في وسعه لاسترضاء الرب تبارك وتعالى. وأحب أن ألفت نظر القارئ أن ما ذكرته في هذا الباب ما هو إلا أمثلة على همته العالية صلى الله عليه وسلم وإلا فإن همته صلى الله عليه وسلم كانت عالية في كل أمر من الأمور التي يحبها الله- عز وجل-، كالزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الرحم وعيادة المريض وغيره.   (1) البخاري، كتاب: صلاة التراويح، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان برقم (2024) واللفظ له، ومسلم، كتاب: الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر ... ، برقم (1174) . (2) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها باب: جامع صلاة الليل ... ، برقم (746) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 21- وفاؤه صلى الله عليه وسلم: أولا : وفاؤه صلى الله عليه وسلم لأنبياء الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله من أكرم النّاس؟ قال: «أتقاهم» . فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فيوسف نبيّ الله، ابن نبيّ الله، ابن نبيّ الله، ابن خليل الله» . قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» «1» . الشّاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس فقال: «يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: أولا: وفاؤه بثنائه على الأنبياء: أ- ثناؤه على يوسف عليه السّلام حيث إنه لما سئل عن أكرم الناس، ذكر يوسف عليه السّلام من حيث كونه نبيّا ابن نبي ابن نبي ابن نبي، فهو يوسف بن إسحاق بن يعقوب ابن إبراهيم، عليهم جميعا الصلاة والسلام. ويتفرع عليه: أن نبي الله يوسف عليه السّلام هو أفضل الناس على الإطلاق نسبا، من حيث اجتمع له شرف الأب والجد وجد الجد، ولو اجتمع لأحد غيره مثل هذا الشرف لذكره النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أنه ذكر لفظ (أكرم) بصيغة أفعل التفضيل. وفي الحديث أيضا إثبات نبوة يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم- عليهم جميعا الصلاة والسلام.. ب- ثناؤه صلى الله عليه وسلم على النبي الكريم، إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث أثبت له الخلة، بقوله «ابن خليل الله» ، وقد ثبتت هذه الخلة له في كتاب الله العزيز بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125) [النساء: 125] . ويؤخذ منه عظيم قدر إبراهيم، عليه الصلاة والسلام حيث إنه اتصف بصفة، وهي الخلة، لم يشاركه فيها أحد إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت من قبل أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام هو النبي الوحيد الذي تتنازع فيه كل أمة لإثبات انتسابها إليه، ولقد رد الله عليهم   (1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، برقم (3353) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 بقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) [آل عمران: 67] وبذلك تكون الأمة الوحيدة الآن المنتسبة بحق إلى إبراهيم عليه السّلام هي أمة الإسلام، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) [آل عمران: 68] . 2- طهارة ونقاء قلبه صلى الله عليه وسلم وأنه ليس فيه أدنى أدنى حقد ولا حسد ولا غل، لإخوانه من الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام، ودليله أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرهم، ويعدد محاسنهم وماثرهم ليحبب الناس فيهم، بل ويمدحهم بما يظن السامع أنهم جميعا أفضل منه مكانة وأشد قربا إلى الله، فهو صلى الله عليه وسلم يقول عن يوسف: إنه أكرم الناس كما في حديث الباب، من حيث شرف النسب، وسيأتي- إن شاء الله- فائدة مستقلة لبعض نماذج الثناء على الأنبياء، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الأنبياء على أنهم منافسون له عند ربه أو عند الناس، بل المتتبع لسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم يتأكد أنه كان يريد أن يجعل الناس يتعبدون إلى الله- سبحانه وتعالى- بحب الأنبياء وتعظيم شأنهم، وكان ينظر إلى الأنبياء جميعا بما فيهم هو صلى الله عليه وسلم بالعقد الواحد والبناء الجميل الذي لا يكمل جماله إلا باكتمال جميع لبناته، واللبنة لا يمكن أن تقوم بمفردها، بل هي في أشد الحاجة إلى غيرها ليشد عقدها ويقوي دعامتها. وهذا من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وأكبر دليل على أن الله- سبحانه وتعالى- قد نزع من قلبه حظ الشيطان، وأن قلبه قد غسل قبل وبعد البعثة، ليكون قلبا طاهرا زكيا، مبرآ من كل ما يعيب المرء من الأدناس والأنجاس بل فيما هو أقل من ذلك بكثير، فإذا كنا نثني على من طهّر قلبه من الحسد والغل، فماذا نقول عمن حرص كل الحرص أن يحبب الناس في غيره ويظهرهم أنهم أفضل منه، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم الأفضل منهم منزلة، وهذا الإيضاح وتلك الفائدة هما المقصود الأول من إيراد هذا الباب. 3- ارتباط علمه صلى الله عليه وسلم بايات الذكر الحكيم حيث إنه لما سئل عن أكرم الناس ذكر صلى الله عليه وسلم أن أكرم الناس هو أتقاهم، مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: من الآية 13] ، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر أكرم الناس من حيث المعدن اشترط تحصيل الفقه، وهو العلم في الدين، حتى يكون العبد من أكرم الناس منزلة، قال صلى الله عليه وسلم «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» «1» ، يصدقه قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: من الآية 11] .   (1) مسلم، كتاب الفضائل، باب: من فضائل يوسف عليه السلام، برقم (2378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18] ، فقد قرن الله شهادته وشهادة ملائكته، بشهادة أولي العلم، يدل ذلك على أنهم أعدل الناس وأكرمهم عند الله. وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن المقصود بخيار الناس في الجاهلية هو من اتصف بالخصال المحمودة من ملائمة الطبع، وأن الشرف في الإسلام يكون بالخصال المحمودة شرعا. ويتفرع على ذلك: علمنا بعظيم قدر التفقه في الدين حيث اشترط النبي صلى الله عليه وسلم وجوده فيمن اتصف بالخصال المحمودة ليكون من أكمل الناس، وإذا كان صاحب الفقه في الدين محمودا، فإن صاحب الجهل في الدين مذموم، خاصة إذا كان عنده قدرة من ناحية العقل والوقت، على تحصيل العلم الشرعي ثم تقاعس أو انشغل عنه بما هو أدنى منه. 3- فصاحته ورجاحة عقله صلى الله عليه وسلم في تقسيم الناس: حيث إن الصحابة لما سألوه عن أكرم الناس، وكان سؤالا واسعا، يحتمل عدة معان، قسّم هو الناس، وبنى تقسيمه صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أمور، بدأ فيها بالأعظم، ثم الأهم، ثم المهم، فلما كانت تقوى الله والخوف منه هي أعظم الأمور- لأنها الباعث لكل خير، والرادع عن كل شر- بدأ صلى الله عليه وسلم بها دون غيرها، وقد تحققت ثلاث حكم بالبدء بالتقوى وهي: أ- إثبات أن الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام، هم أكرم الناس على الإطلاق ولا ينازعهم في ذلك أحد، لأنهم أتقى الناس لله- عز وجل- ولو بدأ بيوسف مثلا لضاعت تلك الحكمة. ب- إثبات أن ما يكتسبه الإنسان مقدم على ما لا دخل له فيه، والذي هو منحة خالصة من الله- سبحانه وتعالى- لذلك قدم صلى الله عليه وسلم التقوى على شرف النسب، وهذا منتهى العدل الرباني. ج- إثبات ما أثبته القرآن، أن أعظم مظاهر التفاضل بين الناس إنما يكون بتقوى الله، وقد مر قريبا. ثم ثنى النبي صلى الله عليه وسلم بالنسب الشريف الطاهر، والذي هو منحة خالصة من الله- تبارك وتعالى- وهي للنبي يوسف عليه السّلام، ثم اختتم بعموم الناس الذين لهم فضل في الجاهلية باتباع العادات المحمودة وفضل في الإسلام باتباع المأمور شرعا مع الفقه في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 قال ابن حجر: (الجواب الأول من جهة الشرف بالأعمال الصالحة، والثاني من جهة الشرف بالنسب الصالح) «1» . كما أن من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم أن شبّه أصول الناس بالمعادن، قال ابن حجر، في الفتح، (شبههم بالمعادن لكونهم أوعية الشرف كما أن المعادن أوعية للجواهر) «2» . الفائدة الثانية: أصّل النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدة عظيمة في التفاخر بالنسب، وهو أن يكون النسب المتفاخر به نسبا صالحا، فالصلاح هو المعتبر الوحيد للنسب السليل الذي يتشرف الإنسان بذكره، وغيره ليس محلّا للذكر ولا التفاخر حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن يوسف هو أكرم الناس ذكر الحيثية وهي أنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، فعلم أن مبعث إكرام الله- سبحانه وتعالى- ليوسف عليه السّلام هو اختصاصه بالنسب الصالح ولو كان هناك أساس آخر للتفاضل بين أنساب الناس لعلّمه لنا النبي صلى الله عليه وسلم. ويتفرع عليه: خطأ من يتفاخر بالنسب غير الصالح، ولو كان نسبا ينظر إليه الناس أنه شريف، لمال أصحابه أو مناصبهم أو قوة نفوذهم أو قربهم للحكام، فكل ذلك غير معتبر شرعا. الفائدة الثّالثة: وأختم بها الباب، وهي ذكر بعض الأحاديث التي تذكر جميل ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على إخوانه من الأنبياء ووفائه لهم، مع ذكر شيء يسير من الفوائد عقب كل حديث حتى لا يطول المقال. 1- وفاؤه لأخيه سليمان، فعن أبي الدّرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك، ثمّ قال: ألعنك بلعنة الله، ثلاثا» وبسط يده كأنّه يتناول شيئا، فلمّا فرغ من الصّلاة قلنا: يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصّلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك! قال: «إنّ عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرّات، ثمّ قلت: ألعنك بلعنة الله التّامّة، فلم يستأخر، ثلاث مرّات، ثمّ أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة» «3» . وفي الحديث: أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يود أن يوثق الشيطان الذي تفلت عليه (أي تعرض له في صلاته) في إحدى سواري المسجد ليلعب به الولدان، بعد أن مكنه الله- تعالى- منه   (1) فتح الباري (6/ 414) . (2) فتح الباري (6/ 414) . (3) مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم (542) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 حيث قال: «والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة» ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل، تحقيقا لرغبة أخيه سليمان عليه السّلام بأن يكون له ملك لا ينافسه فيه أحد من العالمين بعده، قال تعالى، ذاكرا دعوة سليمان عليه السّلام قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) [ص: 35] . مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لو ربط الشيطان، لأضيف هذا إلى شمائله، معجزة عظيمة وهي تسخير الجن، ولكنه صلى الله عليه وسلم آثر أخيه سليمان على نفسه. ب- أن الله- عز وجل- قد أجاب دعوة النبي سليمان، عليه الصلاة والسلام، في منحه ملكا لا يكون مثله لغيره، ودليل أن الدعوة قد استجيبت، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض أن يكون له مثل ما كان لسليمان من تسخير الجن، وما كان ذلك إلا لعلمه صلى الله عليه وسلم أن سليمان ما زال يتفرد بمثل هذا الملك، وإلا ما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاركه فيه. ج- شجاعته وثباته صلى الله عليه وسلم حيث لم يتحرك من مكانه، لما جاءه إبليس بشهاب من نار ليجعله في وجهه، وما زاد عن قوله: «أعوذ بالله منك» ، وقوله: «ألعنك بلعنة الله التامة» ، قالها ثلاث مرات، كما أن فيه حسن ثقته بالله- عز وجل- وأنه كافيه، ولن يمكّن الشيطان من إيذائه أو التسلط عليه، ولولا ثقته بالله، ما استعاذ صلى الله عليه وسلم به. 2- حسن ثنائه صلى الله عليه وسلم على أخيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البريّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك إبراهيم عليه السّلام» «1» . وهذا من عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلم مع ما فيه من حسن الوفاء والثناء، قال النووي: (قال العلماء: قال صلى الله عليه وسلم هذا تواضعا واحتراما لإبراهيم عليه السّلام لخلته وأبوّته، وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل؛ لقوله: «أنا سيد ولد آدم» ، ولم يقصد به الافتخار، ولا التطاول على من تقدمه بل قاله بيانا لما أمر ببيانه وتبليغه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ولا فخر» . لينفي ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة، وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال: إبراهيم خير البرية قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وقيل: إنه أراد خير البرية في عصره، ولكنه صلى الله عليه وسلم أطلق العبارة الموهمة للعموم لأنه أبلغ في التواضع) «2» .   (1) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، برقم (2369) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 121) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 3- كما أثنى صلى الله عليه وسلم على أخيه داود عليه السّلام أبلغ الثناء حيث أثبت أن صلاة وقيام داود كانت هي الأحب إلى الله- سبحانه وتعالى- روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «أحبّ الصّلاة إلى الله صلاة داود عليه السّلام وأحبّ الصّيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف اللّيل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يوما ويفطر يوما» «1» . وموطن الثناء أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن أحدا لا يستطيع أن يتقرب إلى الله بصلاة أو صيام أفضل صورة مما كان يتقرب به نبي الله داود عليه السّلام أما موطن تواضعه صلى الله عليه وسلم في الحديث، فهو أنه حكم على نفسه أنه إذا أراد أن يتقرب إلى الله- سبحانه وتعالى- بأفضل الصيام والقيام، فعليه أن يقتدي بأخيه داود عليه السّلام أفضل الناس قياما وصياما، فلو فرض أن رجلا صام الدهر كله فلم يفطر يوما، إلا لعذر شرعي، ما عبد الله بالأفضل من صيام داود عليه السلام. فائدة: أعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صام صيام داود عليه السّلام وهو صيام يوم وإفطار يوم، مع أنه أتقى الخلق إلى الله- عز وجل- حتى لا يشق على أمته ويحرجهم وحتى لا يجعلها سنة فيهم، كصيام الاثنين والخميس، ولكنه صلى الله عليه وسلم علّمنا كيف نحوز أجر صيام الدهر كله، روى مسلم في صحيحه، عن أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّا من شوّال كان كصيام الدّهر» «2» . الفائدة الرّابعة: يجب أن نتعلم أن نثني على كل من هو أهل للثناء والذكر الحسن، ولو كان ينافسنا في شيء (دين أو دنيا) وأن نوطن أنفسنا على هذا الخلق النبوي الرفيع، وأن نعاند قلوبنا وعقولنا إذا وجدنا فيهما غضاضة من ذلك، فإن لم نستطع فلنعلم أن في قلوبنا شيئا، وعندئذ فلا أقل من ألانذمهم ونغمزهم ونلمزهم، وهذا أضعف الإيمان. وأختم فأقول: هذا طرف من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على إخوانه الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام-، وغيره كثير. ثانيا: وفاؤه صلى الله عليه وسلم لأزواجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة،   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: من نام عند السحر، برقم (1131) . (2) مسلم، كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ستة أيام من شوال إتباعا، برقم (1164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وما رأيتها، ولكن كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربّما ذبح الشّاة ثمّ يقطّعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربّما قلت له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأة إلّا خديجة. فيقول: «إنّها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» «1» . وفي رواية قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: «اللهمّ هالة» ، قالت: فغرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشّدقين «2» هلكت في الدّهر قد أبدلك الله خيرا منها) «3» . الشّاهد في الحديث: قول عائشة رضي الله عنها (ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- عظيم وفائه صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها ومن مظاهر هذا الوفاء: أ- كثرة ذكرها، لقول عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها) . ويتضح من قول عائشة رضي الله عنها أن من أكثر أسباب غيرتها من خديجة رضي الله عنها هي كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، وهي أرادت أن تبين ذلك بقولها: (وما رأيتها) . فأقول: كل تلك الغيرة وما رأتها فما بالنا لو رأتها كيف يكون حالها؟ وأتعجب أن تكون كل تلك الغيرة من زوجة قد ماتت! وكان من المفترض أن تغار عائشة رضي الله عنها من امرأة حية تساميها عند النبي صلى الله عليه وسلم مثل زينب بنت جحش مثلا، وهذا يدل قطعا على قدر حب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها. ونستدل من شدة غيرة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تكلم أبدا عن خديجة رضي الله عنها في   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، برقم (3818) . (2) أي: عجوز كبيرة جدّا حتى سقطت أسنانها ولم يبق لشدقها بياض شيء من الأسنان إنما بقي فيه حمرة لثتها. (3) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة برقم (3821) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 كل حياته بكلمة سوء واحدة، بل من المؤكد أنه ما كان يذكرها إلا بأفضل ما فيها، ولولا ذلك ما كانت كل تلك الغيرة من عائشة رضي الله عنها ودليله من الحديث، قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد» . ويتفرع عليه: أن من أبلغ مظاهر حب الإنسان لغيره، هو التحدث عنه وعن أفضاله وماثره، فعلى كل مسلم أن ينظر هل يحب ذكر الله ورسوله، وهل يفرح إذا ذكر الله ورسوله في مجلسه، وهل يغضب إذا ذكر هما أحد بسوء، فعلى قدر فرحه في الأولى، وغضبه في الثانية، يكون الحب. ب- قيامه صلى الله عليه وسلم بذبح الشاة وتقطيع أعضائها ثم توزيعها في صدائق خديجة رضي الله عنها بعد، ولا يخفى ما في ذلك من حسن الوفاء، لما فيه من التكلف في تقطيع أعضاء الشاة، وإرسال رسول إلى بيوت الصاحبات مع ندرة أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم شاة يطعمها أهل بيته. ويتفرع عليه: جوده صلى الله عليه وسلم وشاهده في الحديث أنه ما كان يبقي من الشاة شيئا، لقول عائشة رضي الله عنها: (ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها) ولولا إرسال جميع الشاة، لقالت: (ثم يبعث منها) . ج- فرحه وسروره صلى الله عليه وسلم عندما تزوره هالة بنت خويلد، أخت خديجة رضي الله عنها ورد في رواية مسلم: (فارتاع لذلك) ، أي هشّ لمجيئها، مع ظهور علامات الفرح على وجهه، فمن شدة حبه صلى الله عليه وسلم لخديجة، أنه كان يحب ما يذكّره بها، وكان يقول من شدة فرحه: «اللهم هالة» أي: يا رب اجعل المستأذن في الدخول تكون «هالة» . قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم: (وفي هذا كله دليل لحسن العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب) «1» . هذا الوفاء من النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها كان كله بعد وفاتها، ولكن أهم مظاهر الوفاء، كان في حال حياتها، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج معها في حياتها امرأة أخرى، وهي منقبة عظيمة لها رضي الله عنها، وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن القرطبي قوله: (ومما كافأ النبي صلى الله عليه وسلم به خديجة في الدنيا أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، فروى مسلم عن عائشة قالت: (لم يتزوج   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت) «1» . وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظيم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها وكانت مدة حياتها معه منفردة توازي ضعفي ما عاشت معه بقية الزوجات مجتمعات، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فقد صان قلبها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها، انتهى كلامه «2» . 2- حكمته صلى الله عليه وسلم ويتبين ذلك من معايير تفضيله لزوجاته، فلم يكن أساس تفضيله صلى الله عليه وسلم للوضاءة وصغر السن وعدم سابقة الزواج، وقد تجمعت كل تلك الصفات على أكمل وجه لعائشة رضي الله عنها ومع ذلك فضّل عليها زوجة قد توفيت، وهي خديجة رضي الله عنها وأسباب تفضيلها لا تخفى على أحد، فمن تلك الأسباب، سبقها للإسلام بلا منازع، ولا أقول: إنها أول من آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق فحسب، بل أقول: إنها أول من سمعت منه خبر الوحي، فكانت رضي الله عنها الوحيدة التي شاركته صلى الله عليه وسلم صعوبة هذا الموقف، بل وحلاوته أيضا عندما أكد ورقة بن نوفل أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي هذه الأمة، وقد ذكرت ذلك تفصيلا في باب: (تزكية خلقه صلى الله عليه وسلم) . كما أن من أسباب تفضيلها رضي الله عنها مواساتها للنبي صلى الله عليه وسلم بمالها ورأيها ومكانتها، فقد كانت رضي الله عنها غنية ذات حكمة ورأي مع نسبها وحسبها، وإذا كان كثير من الصحابة قد شاركها في هذه الأعمال، إلا أن الأمر لا يستوي، لأن خديجة رضي الله عنها قد فعلت ذلك في وقت عزّ فيه الصاحب والنصير، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحوج ما يكون لمن يؤنسه ويصدقه ويصبّره، بل من يدخل عليه السرور بإنجاب الأولاد. 3- فراسته صلى الله عليه وسلم حيث كان يعرف حضور هالة بنت خويلد، من مجرد مشابهة استئذانها لاستئذان خديجة رضي الله عنها. 4- براءة ساحته صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه كذبا وبهتانا، أنه أكثر من الزواج لأجل الشهوة والمتعة. أقول: وإن كان حب معاشرة النساء في الحلال ليس بحرام، ولكننا لا نثبته له صلى الله عليه وسلم إلا   (1) مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، برقم (2436) . (2) انظر فتح الباري (7/ 137) بتصرف بسيط يوضح المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 بدليل من كتاب أو سنة، تعظيما لحقه علينا صلى الله عليه وسلم وإجلالا وإكبارا أن نقول في حقه ما لا نعلم، سواء بكلمة مدح أو ذم، لأن كلمة المدح في حقه صلى الله عليه وسلم ينبني عليها حكم في شرع الله، وأحكام الشرع لا تثبت إلا بدليل. وأورد بعض الأدلة تبرأ ساحته صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه: أ- تزوج النبي صلى الله عليه وسلم في عنفوان شبابه، وفي حال لم يسبق له الزواج من قبل، بخديجة رضي الله عنها وهي أكبر منه بخمسة عشر عاما، وقد تزوجت مرتين قبله، وبقي معها خمسة وعشرين عاما، لم يجمع معها زوجة أبدا، أي بقي معها وحدها كل فترة شبابه وتعداها حتى بلغ الخمسين من عمره أو يزيد، وقد كبرت هي أيضا رضي الله عنها حتى قالت عائشة عنها في حديث الباب: (ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين) ، وهو وصف صحيح من عائشة لخديجة رضي الله عنهما لأنه لو لم يكن صحيحا لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع حبه الشديد لخديجة رضي الله عنها وقال الحافظ ابن حجر في معنى وصف عائشة: (والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم فكنّت بذلك عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها) «1» . ب- أما ما رواه النسائي من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني الصلاة» «2» ، فقد ورد في شرح السندي للحديث كلام نفيس نصه: (إنما حبب إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطلع عليه الرجال من أحواله ويستحيا من ذكره وقيل: حبّب إليه زيادة في الابتلاء في حقه حتى لا يلهو بما حبّب إليه من النساء عما كلف به من أداء الرسالة فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره وقيل غير ذلك) «3» . انتهى كلامه. ومعنى لمشاقه: أي زيادة في مكابدة المشقة. الفائدة الثانية: عظيم فضل خديجة رضي الله عنها وقد ذكرت طرفا منه أعلاه، ولكن أود أن أضيف هنا- ما يثبت من الحديث- عظيم شأن خديجة رضي الله عنها وهو قول عائشة رضي الله عنها: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) ، ونخلص منه، أن من كثرة فضلها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظر إليها ويتكلم عنها كأن لم يكن في الوجود امرأة غيرها، أي أن أحدا من نساء الدنيا لا يساميها؛ بل لا يقاربها في فضلها.   (1) انظر فتح الباري (7/ 140) . (2) النسائي، كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء، برقم (3939) . (3) انظر حاشية السندي (7/ 61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الفائدة الثّالثة: يتسامح في أمور الغيرة بين النساء، وما يصدر منهن بصدده، ما لا يتسامح في غيره، ذكر النووي في شرح صحيح مسلم: نقلا عن بعض العلماء أن (الغيرة مسامح للنساء فيها ولا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم تزجر عائشة عنها) «1» . ويتفرع عليه: أن نعلم عظيم ما تجده المرأة في قلبها من غيرة بسبب حب زوجها لغيرها من النساء، وإن كانت قد ماتت، فيجب على الرجال مراعاة هذا الجانب جيدا، فالأمر يحتاج إلى معالجة وصبر، فالغيرة قد دفعت عائشة رضي الله عنها إلى أن تقول ما قالت في حق واحدة من سيدات نساء العالمين، ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم بغيرة النساء، قد عذر عائشة رضي الله عنها في مقولتها. الفائدة الرّابعة: وجوب حسن الوفاء ورد الجميل لأصحاب المعروف أحياء وأمواتا، وأذكّر نفسي وإخواني بأنّ حق الوالدين أعظم من حق الزوجة أو الزوج، فيجب على الزوج أن يفي بحق والديه، وإن تسبب هذا الوفاء في غيرة الزوجة، وعليه أن يتبع الحكمة عند بر والديه وذويه، بحيث لا يشعل نار الفتنة بينهما قدر الإمكان، فإن تعذر ذلك، وأبت المرأة إلا أن تحول بين الرجل ووالديه أو أصحاب الحقوق عليه ولم ينفع معها النصح والإرشاد، فعلى الرجل ألايتخلى عن والديه أبدا. فإن سأل سائل: ولماذا لم يخف النبيّ صلى الله عليه وسلم حبه الشديد لخديجة رضي الله عنها حتى لا تشعر عائشة رضي الله عنها بكل تلك الغيرة بل لماذا كان يكثر ذكرها؟. قلت: الأمر يختلف فإن ذكر خديجة رضي الله عنها والتحدث عن أفضالها وماثرها هو من الدين الذي يجب تبليغه للأمة، وعدم التحدث به يكون من باب كتمان العلم الذي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. الفائدة الخامسة: الأولاد نعمة يجب شكر الله- سبحانه وتعالى- عليها، بل ويجب شكر الزوجة والثناء عليها ورد جميلها، لكونها السبب الظاهر في وجود تلك النعمة، وهي التي تحملت المشاق في سبيل ذلك، ودليله من الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر في سياق مدح خديجة رضي الله عنها وذكر محاسنها وأسباب كثرة ذكرها، أنها أنجبت له الولد، قال صلى الله عليه وسلم: «إنها كانت، وكانت، وكان لي منها الولد» ، وإذا كان الأولاد نعمة من الله، فإن فقدان أسباب وجودهم ابتلاء من الله- عز وجل- يجب مقابلته بالصبر والاحتساب والتضرع إليه لرفع ذلك البلاء.   (1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الفهرس مقدمة الشيخ أحمد فريد 3 منهج البحث 6 تمهيد 7 1- ذكر الآيات القرآنية في أمر النبوة والرسالة والشمائل على سبيل الإجمال 7 أولا: تسلية الله عزّ وجلّ للنبي صلى الله عليه وسلم 7 ثانيا: الشفقة عليه صلى الله عليه وسلم وتخفيف حزنه على عدم هداية الناس 7 ثالثا: أمره صلى الله عليه وسلم بأعظم شرائع الدين 8 رابعا: تزكيته صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي كل ما يخصه 8 خامسا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سوء الأخلاق واتباع الأهواء 9 سادسا: أمر المؤمنين بتعظيمه صلى الله عليه وسلم وحبه وإيثاره على كل من سواه 9 سابعا: تعظيم أمر طاعته صلى الله عليه وسلم وتغليظ العقوبة على مخالفته صلى الله عليه وسلم 10 ثامنا: إثبات عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للثقلين (الإنس والجن) 11 تاسعا: حفظ الله عزّ وجلّ ورعايته البالغة له صلى الله عليه وسلم 11 عاشرا: تربيته صلى الله عليه وسلم على أحسن التربية وأقومها 12 الحادي عشر: رفع ذكره صلى الله عليه وسلم في الأولين والآخرين 13 الثاني عشر: امتنان الله عزّ وجلّ على الأمة ببعثته صلى الله عليه وسلم 14 الثالث عشر: ذكر منته عزّ وجلّ بفضله الواسع السابغ على النبي صلى الله عليه وسلم 14 الرابع عشر: ذكر منّته صلى الله عليه وسلم على أمته 14 الخامس عشر: إثبات سلامته صلى الله عليه وسلم مما رماه به المشركون 14 السادس عشر: وعده صلى الله عليه وسلم بالأجر الدائم الموصول 15 السابع عشر: توالي المنح عليه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة 15 الثامن عشر: تعظيم البلد الحرام بإقامته فيه صلى الله عليه وسلم 15 التاسع عشر: الثناء عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل ما جاء به ودعا إليه 15 العشرون: تعدد وسائل نصر الله عزّ وجلّ له صلى الله عليه وسلم 16 الحادي والعشرون: تعظيم أمر صلاته واستغفاره صلى الله عليه وسلم للمؤمنين وبيان أن الزهد فيها سيمة المنافقين 16 الثاني والعشرون: كفاية الله تعالى له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 صلى الله عليه وسلم من كل الوجوه 17 الثالث والعشرون: إثبات عصمته صلى الله عليه وسلم 17 الرابع والعشرون: ضمان نصره صلى الله عليه وسلم ولو تخلى عنه الناس جميعا 18 الخامس والعشرون: بعثته صلى الله عليه وسلم رحمة عامة وخاصة 18 السادس والعشرون: تغليظ العذاب لمن آذاه أو حادّه أو استهزأ به صلى الله عليه وسلم 18 السابع والعشرون: صلاة الله- تعالى وملائكته عليه صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين بذلك 18 الثامن والعشرون: تأديب أصحابه في التعامل معه صلى الله عليه وسلم من كل وجه 18 التاسع والعشرون: تعظيم نسائه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته 19 الثلاثون: ولاية الله عزّ وجلّ وأهل السماء وصالح أهل الأرض له صلى الله عليه وسلم 20 الواحد والثلاثون: تكليفه صلى الله عليه وسلم بما لا يطيقه غيره 20 الثاني والثلاثون: رؤية الله عزّ وجلّ له صلى الله عليه وسلم 20 الثالث والثلاثون: تثبيت قلبه صلى الله عليه وسلم 20 الباب الأول: أهمية السنة النبوية ووجوب اتباعها 21 تقديم 23 1- للرسول صلى الله عليه وسلم طاعة مستقلة 24 2- الاتباع دليل محبة الله وسبب مغفرة الذنوب 28 3- ليس للمسلم اختيار في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم ومن خالفها فقد ضل ضلالا مبينا 34 4- من اتبع سنته صلى الله عليه وسلم دخل الجنة 37 5- جعل الله عز وجل الهداية في طاعته صلى الله عليه وسلم 38 6- الإيمان به صلى الله عليه وسلم سبب السعادة في القبر 39 7- نفي إيمان من لا يحكّم سنته صلى الله عليه وسلم 42 8- وجوب رد النزاع إلى سنته صلى الله عليه وسلم 46 9- الوعيد الشديد لمخالفة سنته صلى الله عليه وسلم 51 10- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على من استكبر عن سنته صلى الله عليه وسلم 53 الباب الثاني: إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم بالدلائل والمعجزات 59 تقديم 61 أولا- صفات النبوة العامة 62 1- خاتم النبوة 62 2- الرؤية الصالحة 63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 3- الرعي 63 4- التحذير من الدجال 64 5- التخيير بين الدنيا والآخرة 66 6- عدم أكل الصدقة 70 7- عدم التوريث 72 8- رؤية مقاعدهم في الجنة 73 9- تحريم أجسادهم على الأرض 75 ثانيا: ذكره صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة وأخذ العهد على الأنبياء بنصرته 75 1- هو دعوة إبراهيم 75 2- ذكره صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل 77 3- تبشير عيسى عليه السلام به صلى الله عليه وسلم 80 4- ذكره في كتب الأولين 81 5- أخذ العهد على الأنبياء بنصرته صلى الله عليه وسلم 82 ثالثا: تأييده صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الباهرات 85 1- معجزة القرآن العظيم 85 المنافق لا يعدم بركة تلاوة القرآن 95 2- الإسراء والمعراج 96 3- وصف بيت المقدس 112 4- انشقاق القمر 114 5- حنين جذع الشجرة 117 6- يسمع ما لا يسمعه أحد 119 7- يرى ما لا يراه أحد 122 8- رؤيته صلى الله عليه وسلم غيره من وراء ظهره 128 9- تسليم الحجر عليه صلى الله عليه وسلم 132 10- رؤيته جبريل على هيئته 133 11- أعطي مفاتح خزائن الأرض 136 12- إمامة الأنبياء 137 13- قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم 140 14- إعلامه صلى الله عليه وسلم بكثير من أمور الغيب 142 15- استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم 146 16- تكثير الطعام والشراب 182 17- الشفاء بالتفل 189 18- طيب عرقه وكفه صلى الله عليه وسلم 192 19- نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم 195 20- حب الصم الشامخات له صلى الله عليه وسلم 196 الباب الثالث: في خصائص أفضل المخلوقين وسيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم 199 تقديم 201 أولا: تفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين 202 ثانيا: تفضيل أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم في الدنيا والآخرة 249 ثالثا: تفضيل مدينته ومسجده على سائر البقاع سوى (مكة) 290 رابعا: التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم 310 1- في عدد الزوجات 310 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 2- في عدم وجوب القسمة لنسائه 312 3- في جواز أن تهب المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم 314 4- الإذن له بالزواج وهو محرم 316 خامسا: فضل رؤيته صلى الله عليه وسلم 317 1- رؤيته في اليقظة: يفتح لمن رآه، ومن رأى من رآه، ومن رأى من رأى من رآه 317 2- رؤيته في المنام 319 3- رؤيته بالمال والأهل 322 الباب الرابع: صفات وجوانب من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم 327 أولا: صفاته صلى الله عليه وسلم 329 1- جمال وجهه صلى الله عليه وسلم 329 2- جمال فمه صلى الله عليه وسلم 346 3- جمال صوته وحسنه صلى الله عليه وسلم 348 4- ضحكه صلى الله عليه وسلم 348 5- قوته البدنية صلى الله عليه وسلم 349 وفي الحديث فوائد منها 350 6- نسيانه صلى الله عليه وسلم 352 ثانيا: جوانب من شخصيته صلى الله عليه وسلم 354 1- شرف نسبه صلى الله عليه وسلم 354 2- إيثاره وجوده صلى الله عليه وسلم 355 3- بذل غاية جهده صلى الله عليه وسلم لشكر الله- عز وجل- 359 4- تواضعه صلى الله عليه وسلم 361 5- حياؤه صلى الله عليه وسلم 366 6- حسن توكله صلى الله عليه وسلم وثقته بالله تعالى 368 7- حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم أمّته 370 8- حرصه صلى الله عليه وسلم على تبليغ الدعوة 373 9- خوفه وتقواه صلى الله عليه وسلم من الله- عز وجل- 375 10- رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم 377 11- زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا 398 12- شدته صلى الله عليه وسلم في الحق 401 13- شجاعته صلى الله عليه وسلم 403 14- صبره صلى الله عليه وسلم 404 15- غضبه صلى الله عليه وسلم 437 16- كمال أدبه صلى الله عليه وسلم مع الله 441 17- شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته 450 18- حسن معاشرته صلى الله عليه وسلم لأزواجه 452 19- ملاطفته صلى الله عليه وسلم من حوله 455 20- همته صلى الله عليه وسلم 466 أولا: وفاؤه صلى الله عليه وسلم لأنبياء الله 474 ثانيا: وفاؤه صلى الله عليه وسلم لأزواجه 479 الفهرس 485 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 الجزء الثاني الباب الخامس مكانة النبى صلى الله عليه وسلّم عند خالقه سبحانه وتعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 أولا: تعظيم أمر سنته صلى الله عليه وسلّم 1- السنة والقران بمنزلة واحدة: قال- تعالى-: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 3، 4] . وسيأتي الكلام عن هاتين الآيتين الكريمتين. والشاهد فيهما أن القران والسنة بمنزلة واحدة وذلك في باب (تزكية لسانه صلى الله عليه وسلّم) . 2- السنة محفوظة إلى يوم القيامة: عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم، أو خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على النّاس» «1» . يؤخذ من الحديث، أن الله عز وجلّ قد تكفل بحفظ السنة كما تكفل بحفظ الذكر الحكيم، ولا يضيرنا أن هناك بعض الأحاديث المختلقة المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم ما دام أن هناك رجالا قد قيدهم الله لتنقية هذه الأحاديث، ومعرفة الصحيح منها والضعيف والموضوع، والشاهد من الحديث: أن الله قد تكفل بحفظ السنة من جهتين: الجهة الأولى: أن هذه الطائفة التي ستبقى على الحق حتى يأتي أمر الله، هي في أشد الحاجة إلى السنة الصحيحة، فبدون السنة لا تستطيع أي فئة أن تثبت على الحق، وكيف يتأتى لها ذلك، والسنة هي التي خصصت عموم القران، وفصّلت مجمله، وقيّدت مطلقه، وشرحت حدوده، وأوضحت الناسخ منه والمنسوخ، فلن تستطيع هذه الفئة القائمة على الحق، أن تظهر وتستمر إلا بوجود السنة الصحيحة، فمن لوازم الحكم ببقاء هذه الفئة حفظ السنة النبوية؛ لأنهم كما أسلفنا يحتاجون إليها أشد الاحتياج. الجهة الثانية: أن ضياع السنة- ونعوذ بالله من وقوع ذلك- لو حدث فهو دليل على أن الأمة ليس فيها طائفة قائمة بأمر الله، تحفظ السنة في قلوبها وتطبقها في أعمالها، ويصدق هذا الحديث الذي ورد عن تميم الدّاريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الدّين النّصيحة» . قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم» «2» . ومعنى النصيحة لرسوله، هي الدفاع عنه وحفظ سنته واتباع هديه، وهل يوجد مهمة   (1) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلّم: لا تزال طائفة من أمتى ... ، برقم (1037) . (2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، برقم (55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 أعظم لهذه الفئة، من النصيحة لله ورسله. وملخص الجهة الثانية: أن السنة محفوظة؛ لأن من أعظم ما تقوم به هذه الفئة التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو النصيحة لله ورسوله. فكيف يزكيها الرسول صلى الله عليه وسلّم وقد ضيعت السنة، ولم تحافظ عليها ولم تدافع عنها؟! لذلك اشتهر عن الإمام أحمد إمام أهل السنة قوله: (إن لم يكونوا- يقصد هذه الطائفة أهل الحديث فلا أدري من هم) «1» . وتأمل الفرق بين الجهتين فقد يتماثلان عند بعض الناس. 3- السنة تبيان للقران: أبان الشافعي- رحمه الله- تعالى- عن هذا الأمر أوضح بيان فقال: (باب البيان الثالث قال الله- تبارك وتعالى- إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103] ، وقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] ، وقال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] ، ثم بين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم عدد ما فرض من الصلوات ومواقيتها وسننها، وعدد الزكاة ومواقيتها، وكيف عمل الحج والعمرة. قال الشافعي: (كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا من ذكر ما منّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة: دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله وبيّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه. والدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه: 1- منها ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره. 2- ومنها ما أتى على غاية من البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الله؛ كيف فرضه؟ وعلى من فرضه؟ ومتى يزول بعضه ويثبت ويجب؟ 3- ومنها ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب، وكل شيء منها بيان في كتاب الله، فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه، قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سنتة بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته؛ فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبول لكل   (1) انظر «معرفة علوم الحديث» (1/ 2) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبل بها عنهما، كما أحل وحرم، وفرض وحد بأسباب متفرقة كما شاء جل ثناؤه، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) [الأنبياء: 23] ) «1» . قال- تعالى-: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] . من مظاهر تعظيم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلّم أن الله- سبحانه وتعالى- قد جعلها تبيانا لكلامه العزيز، وهو القران العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقال الإمام القرطبي: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك فالرسول مبين عن الله عز وجلّ مراده فما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة وغير ذلك مما لم يفصله، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي يتعظون) «2» . وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- تعالى- فى معنى قوله- تعالى-: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ: (أي: من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله وحرصك عليه واتباعك له ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد ادم فتفصّل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل) «3» ، وقال الشيخ السعدي: (وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم) «4» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظيم شأن القران العظيم حيث إنه تنزيل من رب العالمين، وأضيف ضمير (نا الفاعلين) التي تفيد التعظيم إلى الفعل (أنزل) لتعظيم أمر إنزال القران والمنزل من عنده. الفائدة الثانية: حاجة القران العظيم إلى ما يوضح مبهمه، ويبين مجمله، ويفسر معانيه لقوله- تعالى-: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، ويتفرع على هذه الآية مسائل عظيمة منها: 1- عظيم أمر سنة النبي صلى الله عليه وسلّم القولية والفعلية؛ لأنها بمثابة الشارحة المبينة لمراد الله- سبحانه وتعالى- وينبني على ذلك وجوب تعظيم السنة والعمل بها وحفظها. 2- تكفل الله- سبحانه وتعالى- بحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلّم لأن حفظ السنة من حفظ   (1) انظر «الرسالة» للشافعي (1/ 33) . (2) انظر «الجامع لأحكام القران» (10/ 109) . (3) انظر «تفسير القران العظيم» (2/ 572) . (4) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ص (441) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 القران، وضياع السنة يعني ضياع معاني القران وحكمه وأحكامه التي هي مراد الله من إنزاله، ولما قال الله عز وجلّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] ، لم يقيد معنى الحفظ بحفظ الحروف فقط، فعلمنا أن الحفظ يشمل الحروف والمعاني والحكم التي لا تتبين إلا من السنة النبوية، فما الذي يستفيده الناس من القران الكريم إذا بقيت حروفه وضاعت معانيه؟ فستبقى السنة النبوية الشريفة محفوظة ما دام القران العظيم بين أظهر الناس. 3- ليس في القران شيء مبهم يستشكل فهمه على الراسخين في العلم، لأن السنة بينت القران، والقول أن في القران ما لا يمكن فهمه يعارض صريح الآية التي معنا. 4- إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يقبض حتى بيّن لأصحابه رضي الله عنهم كل معاني القران العظيم. 5- النبي صلى الله عليه وسلّم هو أعلم الخلق بمراد الله- سبحانه وتعالى- وبذلك يكون أعلم الخلق بالله عز وجلّ. 6- عظم المهمة التي كلّف بها النبي صلى الله عليه وسلّم والتي منها بيان مراد الله- سبحانه وتعالى- من كلامه العزيز. الفائدة الثالثة: ضلال من يسمون أنفسهم بالقرانيين، وهم الذين يدعون أنه يسعهم اتباع القران ولا حاجة لهم إلى السنة النبوية، وهم في الحقيقة لا يريدون العمل بالقران ولا بالسنة، لما أوضحته من الحاجة الماسة للسنة لفهم القران والعمل به. الفائدة الرابعة: حثت الآية الكريمة أهل العلم والفكر على أن يتدبروا ايات الله عزّ وجلّ ليستخرجوا منها المعارف والعلوم، واللآلئ والكنوز، ولكن شريطة أن يكون التأمل على ضوء ما بينته السنة النبوية الشريفة من معاني القران الكريم، حيث إن الآية حثت على التفكر بعد أن أوضحت أن السنة هي المفسرة والشارحة للقران، وكأنه توجيه إلهي بالتقيد بالسنة عند تدبر القران، وما ضل أصحاب التفاسير المغلوطة إلا بعدم تقيدهم بهذا الشرط. ويتفرع عليه أن استنباط الناس للمعارف والعلوم من القران الكريم يتفاوت بقدر علمهم بالسنة النبوية، وبقدر ما أوتوا من أفهام وعقول. الفائدة الخامسة: علوم القران العظيم ومعارفه وفتوحاته لن تنضب إلى أن يرفع القران من الأرض، ودليله من الآية الكريمة أن تلك العلوم لو نضبت لتعطل أمر إلهي تعبد الله به عباده في القران، وهو التفكر والتأمل في اياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 4- نفي الهوى عن كل ما جاء بالسنة: قال- تعالى-: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 1. 4] . تلك الآيات الكريمات من أبلغ الثناء على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى كل ما جاء به من السنة النبوية الشريفة المطهرة، قال الإمام القرطبي- رحمه الله- تعالى-: (أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلّم عن الحق وما حاد عنه، والغيّ ضد الرشد أي ما صار غاويا وقيل: أي ما تكلم بالباطل) «1» . وقال شيخ الإسلام ابن القيم- رحمه الله- تعالى-: (رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلّم: كمال التسليم له، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمّله معارضة بخيال باطل يسميه معقولا، أو يحمّله شبهة أو شكّا، أو يقدم عليه اراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحّده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحّد المرسل- سبحانه وتعالى- بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل) «2» . وقال الحافظ ابن كثير: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلّم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال وهو الجاهل الذي يسلك طريقا بغير علم، والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، فنزه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ولهذا قال- تعالى- وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) أي ما يقول قولا عن هوى وغرض إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) ، أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان) «3» . وقال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (والمقسم عليه هو تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلّم عن الضلال في علمه والغيّ في قصده ويلزم من ذلك أن يكون مهتديا في علمه حسن القصد ناصحا للأمة بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم وفساد القصد) «4» . انتهى.   (1) انظر «الجامع لأحكام القران» (17/ 84) . (2) انظر «مدارج السالكين» (2/ 112) . (3) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 248) . (4) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (818) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ومن فوائد الآيات يتضح هذا الأمر أكثر: الفائدة الأولى: عظيم عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلّم ووجه ذلك: 1- إثبات أن السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلّم (والتي تتمثل في أفعاله وأقواله وإقراره) هي وحي من الله- سبحانه وتعالى- لقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) ، قال الشيخ السعدي: (دل هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلّم) «1» . ويتفرع عليه أن القران الكريم جاء بأبلغ تزكية لسنته صلى الله عليه وسلّم. فكفى لها ولصاحبها صلى الله عليه وسلّم شرفا أنها وحي من الله تبارك وتعالى. 2- إثبات العصمة للنبي صلى الله عليه وسلّم من الكذب والضلال والبهتان، ودليله أن كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلّم هو وحي من الله تبارك وتعالى، بالإضافة إلى نفي الهوى عن كل ما نطق به. وتلك العصمة- كما ذكرت في أكثر من موضع- نثبتها للنبي صلى الله عليه وسلّم حتى قبل البعثة، ودليله من الآية نفي الضلال والغواية عنه صلى الله عليه وسلّم ولم تقيد الآية النفي بزمن ما بعد البعثة، فعلمنا أن العصمة كانت قبل البعثة كما هي بعدها، وهو ما ذهب إليه القرطبي حيث قال في تفسير الآيات: (ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم أي كان أبدا موحدا لله وهو الصحيح على ما بيناه في «الشورى» ) «2» . 3- إثبات أن كل ما يصدر عنه في كل أحواله صلى الله عليه وسلّم موافق للحق والحكمة، فيستوي في ذلك جدّه ومزحه، رضاه وغضبه، وكذا ضحكه، كما يستوي ما يراه في نومه وفي يقظته، بل يجب أن نعتقد- على سبيل الفرض- أنه صلى الله عليه وسلّم لو تكلم أثناء نومه، لوجب حفظ هذا الكلام والعمل به لأنه وحي من الله- سبحانه وتعالى- كيف لا؟! وهو الذي تنام عيناه ولا ينام قلبه. 4- تعظيم أمر الرسالة وشخص محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك أن الآية لما ذكرت نفي الضلال قرنته بلفظ: بِصاحِبِكُمْ، وليس بلفظ نبيكم أو رسولكم أو حتى ذكر اسمه صلى الله عليه وسلّم وكأنه لا يليق ولا ينبغي ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم مقرونا بالضلالة والغواية حتى في سياق النفي. وقد ذكر الشيخ السعدي علة أخرى لورود الآية بلفظ: بِصاحِبِكُمْ، فقال: (وقال   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (818) . (2) انظر «الجامع لأحكام القران» (17/ 84) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 بِصاحِبِكُمْ لينبههم على ما يعرفونه منه من الصدق والهداية وأنه لا يخفى عليهم أمره) «1» . وحيث لا معارضة بين القولين فيجب الأخذ بهما جميعا وهذا مما يزيد جمال القران. 5- إثبات أن كل ما يخالف سنته صلى الله عليه وسلّم فهو باطل؛ لأن الآية لما أثبتت نفي الهوى عما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلّم أثبتت أن كل ما جاء به هو الحق، فيكون كل ما يخالفه باطل، والله يقول: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] . الفائدة الثانية: جميل بلاغة القران الكريم؛ حيث قابل النور الحسي بالنور المعنوي، فكانت المناسبة جميلة بين المقسم والمقسم عليه، قال الشيخ السعدي- رحمه الله.: (وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم من الوحي الإلهي لأن في ذلك مناسبة عجيبة فإن الله- تعالى- جعل النجوم زينة للسماء فكذلك الوحي واثاره زينة للأرض فلولا العلم الموروث عن الأنبياء لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم) «2» . الفائدة الثالثة: في الآيات إشارة إلى عظيم أمر اللسان وما ينطق به، حيث خصّ بالذكر بعد الإجمال، فقوله- تعالى-: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) ، يثبت سلامة كل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلّم وبراءته من الضلالة والغواية، فيشمل ذلك سلامة القلب، والعقل، والأفعال، والسكنات وكذلك يشمل ما ينطق به، ولكن خصّ ما ينطق به بعد ذلك بالذكر للتنويه بعظيم شأنه، فكان من باب عطف الخاص على العام. الفائدة الرابعة: توجيه المسلم إلى أنه يجب عليه الابتعاد عن الهوى وتنقية القلب منه حتى يكون مهيئا لقبول الحق والإذعان له ثم العمل به، فإن الهوى والحق لا يجتمعان أبدا في قلب العبد، فبقدر ما يكون في النفس من هوى بقدر ما يكون ابتعاد العبد عن الحق المأمور باتباعه. ودليل ذلك أن الآية قد نفت أولا النطق عن الهوى ثم أثبتت أن كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلّم هو وحي من الله تبارك وتعالى، فكما يقولون: (التخلية قبل التحلية) . 5- تسمية السنة حكمة: من دلائل عظيم أمر سنة النبي صلى الله عليه وسلّم أن سماها الله عز وجلّ حكمة. قال- تعالى-: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (818) . (2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ص (818) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] ، والحكمة من أجمل وأتم الصفات التي يمكن أن تسمى بها الأشياء لكثرة وكمال معانيها، فالحكمة لها معان كثيرة، ومنها: هي القول المأثور وهي الحصافة، وهي جودة الرأي، وهي كمال القوة النظرية. وقد فسر العلماء المراد من الحكمة التي تعطف على الكتاب في ايات القران الكريم بمعان كثيرة ولكنها متشابهة تدور كلها حول السنة وما علّمه النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه رضي الله عنهم، فقد قال ابن كثير- رحمه الله- تعالى-: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ هو القران، وَالْحِكْمَةِ وهي السنة) . وقال في تفسير قوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ال عمران: 164] : (والحكمة يعني: السنة. قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم وقيل: الفهم في الدين، ولا منافاة) «1» . وقال الشيخ السعدي في تفسيره: (قوله- تعالى-: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) [الأحزاب: 34] ، المراد بايات الله القران، والحكمة أسراره أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم) «2» ، وقال في تفسير الحكمة التي ورد ذكرها في سورة الجمعة: (أي علم القران وعلم السنة المشتمل على علوم الأولين والآخرين) «3» . والذي يبين بجلاء عظيم أمر السنة ومكانتها في هذا الدين أن إبراهيم عليه السّلام دعا ربه أن يبعث في هذه الأمة رسولا يعلمها الكتاب والحكمة، قال الله- تعالى- على لسان إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة: 129] . وقال القرطبي- رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: (الكتاب القران، والحكمة المعرفة بالدين والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله- تعالى-، قاله مالك ورواه ابن وهب وقاله ابن زيد، وقال قتادة: الحكمة السنة وبيان الشرائع، وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه) «4» .   (1) انظر «تفسير القران العظيم» (1/ 185) . (2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ص (664) . (3) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ص (862) . (4) انظر «الجامع لأحكام القران» (2/ 131) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: تعظيم أمر السنة من حيث كونها منزلة من الله تبارك وتعالى، ومن حيث كونها حكمة. ويتفرع عليه سفه من رد السنة أو جزا منها ولو يسيرا، واستغنى عنها بغيرها، حيث إنه قد ترك الحكمة وذهب إلى ما هو مناقض لها. كما يتفرع عليه سوء عاقبة من رأى عدم موافقة أي أمر من أمور السنة الصحيحة لكمال الإحكام وتمام الإتقان، واعتقد أنه يمكن أن يستدرك شيئا عليها؛ لأنه كذّب بصريح القران الذي حكم أن السنة هي الحكمة، كما أنه طعن في الله عز وجلّ الذي أنزل تلك السنة على نبيه صلى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: تزكية علم النبي صلى الله عليه وسلّم بأبلغ تزكية يمكن أن يزكى بها علم أحد من الأولين والآخرين، ومصدر تلك التزكية أن الله عزّ وجلّ عالم الغيب والشهادة- هو الذي علمه، فنعم من علمه ونعم ما تعلمه صلى الله عليه وسلّم. ويتفرع عليه، سعة علمه صلى الله عليه وسلّم ومطابقته للواقع تماما، وكذلك وجوب تلقي كل سنة النبي صلى الله عليه وسلّم الصحيحة بتصديق تام مطلق. وقد قال الشيخ السعدي- رحمه الله- تعالى- كلاما نفيسا في قوله- تعالى-: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] ، قال: (وهذا يشمل جميع ما علّمه الله- تعالى- فإنه صلى الله عليه وسلّم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، فكان صلى الله عليه وسلّم أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال وأكملهم فيها، ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم أعظم من فضله على كل مخلوق، وفي نسخة: أعظم من فضله على كل الخلق وأجناس الفضل الذي فضله الله به لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها) «1» . الفائدة الثالثة: في الآية أبلغ تزكية لمن تعلم القران العظيم والسنة الشريفة ونهل منهما وتمسك بهما حيث إنه قد ورث علم النبي صلى الله عليه وسلّم الذي هو من علم الله عزّ وجلّ. كما يؤخذ من الآية أن من كان القران والسنة علمه ومنهجه فيجب عليه أن يشكر الله   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (202) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 - سبحانه وتعالى- على نعمته العظيمة التي امتن الله بها عليه، ودليله أن الآية ختمت بإثبات فضل الله العظيم على نبيه صلى الله عليه وسلّم بعد ذكر إنزال القران والحكمة وتعليمه من لدن الله سبحانه وتعالى- قال تعالى: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] . 6- السنة شرط في قبول العمل: اتفق العلماء على وجوب توفر شرطين في العمل حتى يكون مقبولا عند الله- تعالى-، الأول: الإخلاص لله تعالى. والثاني: موافقته هدي النبي صلى الله عليه وسلّم وسنته. فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» «1» . أقول: لو أننا تمسكنا بهذا الحديث، وعملنا به، لحفظنا للإسلام جماله، وللشرع بهاءه، وللسنة حلاوتها، ولو أننا تحاكمنا إليه إذا اختلفنا، لما وصل الحال بنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من التحزب والتفرق والتطاحن والتشرذم، كيف لا، والنبي صلى الله عليه وسلّم قد ترك لنا قاعدة عظيمة في بيان متى تصح العبادة ومتى تفسد، ومتى يقبلها الله عزّ وجلّ، ومتى يردها في وجه صاحبها، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، وقال أيضا- رحمه الله- الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات) «2» . وكما قال- رحمه الله-: (فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة، سواء كان محمودا أو مذموما) ، كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله- عن الإمام الشافعي قوله: (المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة) «3» ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أمثلة على ما أحدث من خير فذكر منها: (تدوين الحديث وتفسير القران وتدوين المسائل الفقهية وتدوين ما يتعلق بأعمال القلوب) . انتهى.   (1) سبق تخريجه. (2) انظر «فتح الباري» (5/ 302) . (3) انظر «فتح الباري» ص (13/ 253) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وتلحظ أخي القارئ أنه ليس شيء مما ذكر- رحمه الله- يتعلق بالعبادات أو الأذكار أو بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وقد قال الإمام النووي- رحمه الله- (وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به) «1» . ويقصد- رحمه الله بقوله: إشاعة الاستدلال به: أن يكون دليلا على بطلان وردّ كل أمر يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلّم وأقول أخي القارئ: إذا كان كل عمل نعمله ليس موافقا للكتاب أو السنة هو عمل مردود مذموم شرعا، فلماذا نجهد أنفسنا ونضيع أوقاتنا في عبادات (بل طقوس) تباعدنا عن الله وتبغّض فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لماذا نقيم ما يسمونه بالحضرة المحدية، وهي ليست من الدين في شيء، وقد انتهت العصور الثلاثة المفضلة ولم تظهر تلك البدعة، التي يدّعون فيها أن النبي صلى الله عليه وسلّم يحضرها، وهذا تنقّص بالغ في حقه صلى الله عليه وسلّم لمن تدبر وعلم رفيع قدره صلى الله عليه وسلّم، لماذا نخترع أورادا نتقرب بها إلى الله- سبحانه وتعالى- وفيها من الألفاظ والعبارات والمديح ما لم يعلّمناه النبي صلى الله عليه وسلّم ونحدد أوقاتا ومواسم لتلك الأوراد لم يرد الشرع بتحديدها وكيفياتها؟ لماذا نعبد الله عزّ وجلّ بأسماء نخترعها نحن من عند أنفسنا، مثل (هو، هو) ونعتقد أن هذا هو أعظم أسمائه- سبحانه وتعالى-، ونلتزم بذكر هذا الاسم بعدد معين وفي أوقات معينة؟، أقول- على سبيل الفرض- لو أنه ثبت لنا بالدليل الصحيح أن هذا الضمير هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولم يأت دليل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم قد علم أصحابه الكرام ذكر الله عزّ وجلّ بهذا الاسم وعلى هذه الطريقة المبتدعة، ما جاز لنا شرعا اتخاذ هذه الأوراد بهذه الكيفية، كيف والحال أنه لم يثبت أصلا أنه اسم من أسماء الله الحسنى. وتدبر أخي القارئ كيف رتب الإمام البخاري «2» - رحمه الله- حكما عظيما على حديث الباب فقد قال- رحمه الله- باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطا خلاف الرسول صلى الله عليه وسلّم من غير علم فحكمه مردود لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» «3» ، وقد نقل صاحب الفتح عن ابن بطال- في شرح هذا الحديث- قوله: (مراده- أي مراد البخاري- أن الحاكم بغير السنة جهلا أو غلطا يجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالا لأمر الله- تعالى- بإيجاب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة) «4» .   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/ 16) . (2) انظر «فتح الباري» ص (13/ 317) . (3) سبق تخريجه. (4) انظر «فتح الباري» (13/ 317) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وما أجمل ما أراد أن يبينه البخاري رحمه الله- إمام أهل السنة- في الترجمة، فقد وضع للأمة قاعدة عظيمة مفادها: أن الحاكم إذا اجتهد- أي بذل غاية جهده في المسألة، وجاء حكمه بخلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلّم وكانت تلك المخالفة نتيجة عدم العلم بحكم النبي صلى الله عليه وسلّم فحكمه مردود غير معتبر شرعا، فما بالنا لو جاء حكم القاضي أو الحاكم مخالفا سنة النبي صلى الله عليه وسلّم دون أن يبذل جهده في إصابة السنة، أو حكم بخلافها متعمدا، فهل ينفذ حكمه؟ قطعا لا. وإذا كان حكم القاضي أو الحاكم أو من ينيبه مردودا إذا خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلّم فمن باب أولى حكم من دونهم في المرتبة. بعض فوائد الحديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» : الفائدة الأولى: عدم مشروعية الزيادة في الدين، وأن زيادة مردودة على صاحبها، بل يأثم على هذه الزيادة، سواء هو الذي أحدثها أو باشرها، لما ثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه، حتّى كأنّه منذر جيش يقول: «صبّحكم ومسّاكم» ، ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» ويقرن بين إصبعيه السّبّابة والوسطى، ويقول: «أمّا بعد فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى، هدى محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» «1» . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (والمحدثات: جمع محدثة والمراد بها ما أحدث، وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع (بدعة) وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) «2» . وقال- رحمه الله-: وثبت عن ابن مسعود قوله: «قد أصبحتم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم؛ فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول» «3» . الفائدة الثانية: كما لهذا الدين وغناه عن كل ما سواه، وأن من ابتدع فيه فقد شكك في هذا الكمال، والدليل ذم الزيادة والإحداث فيه، ولولا الكمال بل والجمال ما كان لذم الإحداث وجه، فإن كل أمر ناقص يحتاج إلى الزيادة. ويتفرع عليه: صلاح هذا الدين ومناسبته لكل فرد من أفراد الأمة على اختلاف   (1) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (876) . (2) انظر «فتح الباري» (13/ 253) . (3) انظر «فتح الباري» (13/ 253) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 مذاهبهم ومشاربهم ولغاتهم، لأنه لو لم يكن صالحا لكل أحد لوجب الاستحداث فيه لجبر عدم الصلاح، فمنع الشارع الحكيم للاستحداث دلّنا على صلاحه ومناسبته، ويتبين من ذلك ضلال من يستحدث في العبادات- خاصة الذكر والأوراد- بدعا بحجة مناسبتها للعوام من المسلمين، وأن تلك الأذكار ترقق قلوبهم وهي على قدر عقولهم، وهذا منكر من القول، بل طعن في كما لهذا الدين، فهل نسي الشارع الحكيم أو غفل- حاشا لله- أن يشرع للعوام ما يناسب عقولهم ويفي بحاجاتهم، أم أن هناك قصورا في الشرع الحنيف في هذا الأمر، فجاء من يتمه ويكمله؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم. الفائدة الثالثة: في الحديث بيان ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلّم من جوامع الكلم، حيث إن أعمال العباد لا تخرج عن قسمين: قسم دل عليه الكتاب والسنة، وقسم ليس له أصل من كتاب أو سنة، فحكم صلى الله عليه وسلّم على القسم الثاني من الأعمال بالرد وعدم المشروعية بجملة في غاية القصر «فهو رد» ، وحكم صلى الله عليه وسلّم على القسم الأول من الأعمال بالقبول بمقتضى مفهوم المخالفة. الفائدة الرابعة: الخير كل الخير في اتباع السنة، بل هو مدار الأمر كله، وهو الأحب إلى الله عزّ وجلّ، فمن أتى باتباع مع قصد العبادة، فهو أحب إليه- سبحانه وتعالى- ممن أتى بكثرة في العبادة مع ابتداع فيها، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم قد غضب ممن أخذ بالعزيمة في بعض الأمور التي أخذ فيها النبي صلى الله عليه وسلّم بالرخصة، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم شيئا فرخّص فيه، فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فخطب فحمد الله ثمّ قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية» «1» . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (والمراد هنا أن الخير في الاتباع سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، وأن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت أولى من استعمال العزيمة بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين، وأومأ ابن بطال إلى أن الذي تنزهوا عنه القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر، ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص منه النبي صلى الله عليه وسلّم من أعظم الذنوب لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله صلى الله عليه وسلّم وهذا إلحاد) «2» .   (1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم (6101) . (2) انظر «فتح الباري» (13/ 279) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وأضاف الحافظ ابن حجر- رحمه الله- كلاما جميلا تعليقا أيضا على هذا الحديث فقال: (أعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه وإن كان غفر الله له لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم، فما فعله صلى الله عليه وسلّم من عزيمة ورخصة فهو في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجد في العمل قياما بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط، وأشار بقوله- أعلمهم- إلى القوة العلمية وبقوله- أشدهم له خشية- إلى القوة العملية، أي أنا أعلمهم بالفضل وأولاهم بالعمل به) «1» . وأعتقد أن من الحكم في أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرخص في بعض الأمور؛ هو التوسعة على الأمة، وإرادة رفع الحرج عنها، ولذلك كان الذم كل الذم لمن لم يرض بالتوسعة فرد الرخص. قال الإمام النووي- رحمه الله-: (وإنما يكون القرب إليه- سبحانه وتعالى-، والخشية له على حسب ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم لا بمخيلات النفوس وتكلف أعمال لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلّم) «2» . لذلك قلت انفا: إن مدار الأمر كله في الاتباع وليس في التعمق في العبادة. والحرص على نشر السنة وتبليغها للناس أمر عظيم من أبواب محبة النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه؛ لأن في ذلك سعيا لإعلاء سنته، ونشرا لهديه بين الناس، ومن مقتضيات ذلك الحرص على إماتة البدع والضلالات المخالفة لأمره وهديه، ولا شك في أن الابتداع في دينه من خوارم المحبة الصادقة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» . ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية «3» - قدس الله روحه حيث يقول: (ومن المعلوم أنه لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط الحديث من قلبه، وقيل عن بعض رؤوس الجهمية- إما بشر المريسي «4» أو غيره: أنه قال: ليس شيء أنقص لقولنا من القران، فأقرّوا به في   (1) انظر «فتح الباري» (13/ 279) . (2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (15/ 107) : (3) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام ولد في حران، عام (661 هـ) ، ومات بدمشق عام (728 هـ) . (4) هو بشر بن غياث ابن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العدوي بالولاء، أبو عبد الرحمن: فقيه معتزلي عرف بالفلسفة يرمى بالزندقة، وهو رأس الطائفة «المريسية» القائلة بالإرجاء وإليه نسبتها، كان قصيرا دميم المنظر، مات عام (218 هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الظاهر، ثم حرّفوه بالتأويل، ويقال إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافا لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه) «1» . 7- الوعيد الشديد لمن كذب على صاحبها صلى الله عليه وسلّم: إن من كمال تعظيم سنته صلى الله عليه وسلّم وتمام ذلك، هو البعد كل البعد عن الكذب على صاحب السنة الغرّاء والحرص كل الحرص على نشر سنته صلى الله عليه وسلّم وتبليغها على أكمل وجه حيث قال صلى الله عليه وسلّم: «ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب» «2» . وقوله: «بلغوا عني ولو اية» «3» . عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ كذبا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «4» . وقد عظّم الله- سبحانه وتعالى- أمر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم غاية التعظيم وذلك بتشديد عقوبته والتفريق بين الكذب عليه والكذب على غيره من البشر، ذلك أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم إنما هو كذب على الله عزّ وجلّ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم إنما هو مبلغ عن ربه، قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، وسنتكلم إن شاء الله- تعالى- عن هذا الحديث الشريف من خلال ثلاثة محاور، الأول: ثبوت الحديث، الثاني: مظاهر تعظيم الحديث للكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم، ونختم بالثالث وهو بعض فوائد الحديث. [ محاور حول الحديث ] أولا: ثبوت الحديث: لا خلاف بين العلماء أن هذا الحديث بلغ- ولله الحمد والمنة- حد التواتر، قال الإمام النووي- رحمه الله- تعالى-: (وأما متن الحديث فهو حديث عظيم في نهاية من الصحة، وقيل: إنه متواتر ذكر أبو بكر البزار في مسنده أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلّم نحو من أربعين نفسا   (1) انظر منهاج السنة النبوية (5/ 217، 218) . (2) البخاري، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، برقم (105) ، ومسلم، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679) ، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (3) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461) ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (4) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت، برقم (1291) ، ومسلم، كتاب: في المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، برقم (4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 من الصحابة رضي الله عنهم وحكى الإمام أبوبكر الصيرفي «1» في شرحه لرسالة الشافعي- رحمهما الله- أنه روي عن أكثر من ستين صحابيّا مرفوعا وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن منده «2» عدد من رواه فبلغ بهم سبعة وثمانين ثم قال وغيرهم، وذكر بعض الحفاظ أنه روى عن اثنين وستين صحابيّا وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، قال: ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيّا إلا هذا، وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة) «3» . وأقول: إن تواتر هذا الحديث لهو أدل دليل على إرادة الله- سبحانه وتعالى- تعظيم أمر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم باشتهار هذا الحديث وتواتره مثل هذا التواتر العجيب، من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصرنا هذا، كما يدلنا هذا التواتر على بالغ عناية الصحابة بهذا الحديث لأن فيه حفظ سنة نبيهم صلى الله عليه وسلّم. ثانيا: مظاهر تعظيم الحديث للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم: باستقراء روايات الحديث الصحيحة والتي وردت في صحيحي البخاري ومسلم والوقوف على ألفاظها يتبين لنا ما في هذا الحديث من التخويف الشديد والوعيد الأكيد بحق من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ومن ذلك: 1- الحكم باستواء عقوبة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم سواء كان الراوي يدعي السماع يقظة من النبي صلى الله عليه وسلّم أو من أصحابه أو التابعين، أو يدعي أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلّم مناما، وذلك لما ورد في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «سمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، ومن راني في المنام فقد راني، فإنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «4» . فالنبي صلى الله عليه وسلّم قد ذكر عقوبة الكذب بعد أن ذكر رؤيته في المنام، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- تعالى-: (ختم البخاري الباب بحديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في   (1) هو محمد بن بدر الصيرفي، أبوبكر، من موالي بني كنانة: قاض، فقيه. ولي القضاء بمصر ثلاث مرات. وتوفي بها وهو على القضاء، عام (330 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (6/ 51) . (2) هو عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق، ابن منده العبدي الأصبهاني، أبو القاسم: حافظ، مؤرخ جليل القدر، واسع الرواية، توفي في أصبهان، عام (470 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (3/ 327) . (3) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 68) . (4) البخاري، كتاب: الأداب، باب: من سمى بأسماء الأنبياء، برقم (6197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 اليقظة أو في المنام. وهذا مما يعظّم أمر التحريم جدّا) «1» . 2- المباينة الشديدة بين الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم والكذب على غيره لقوله صلى الله عليه وسلّم: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد» ، فإذا كان الكذب على الناس مذموما شرعا، وهو من كبائر الذنوب، التي تفضي إلى الفجور ثم إلى النار، لما ثبت عند مسلم، عن عبد الله رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكون صدّيقا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» «2» . وهو إحدى علامات المنافق، لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «اية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «3» . فإذا كان الكذب على الناس يؤدي بصاحبه إلى النار، فكيف الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم وإذا كان الكذب على الخلق من علامات المنافق فما بالكم بالكذب على سيد الخلق، ولتقريب الصورة أكثر وأكثر إلى ذهن القارئ، فإني أقول: إذا كان أبو سفيان رضي الله عنه قد استقبح- قبل إسلامه- أن يكذب على كافر- وهو هرقل عظيم الروم- في شأن عدو لهما- وهو النبي صلى الله عليه وسلّم وخاف أن يجلب له هذا الكذب المعرة، فكيف لا يستقبح المسلم أن يكذب على صاحب أعظم منة وفضل عليه من البشر، وهو النبي صلى الله عليه وسلّم أما يخشى المعرة في الدنيا والآخرة؟!، أما يخشى العقوبة الشديدة التي وردت في الحديث، أما يستحي من الله- تبارك وتعالى- أن يكذب في دينه وشرعه. وللتذكرة فإني أقول: إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم يدخل قطعا في الكذب على الله تبارك وتعالى، من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو إلا مبلغ عن ربه تبارك وتعالى، والذي يتقول عليه، فكأنما يتقول على الله، لأن لسان حاله يقول: (إن الذي أدعيه من القول وأنسبه للنبي صلى الله عليه وسلّم هو وحي من الله تعالى أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلّم) . فادعى أن كلام البشر الناقص الذي يفتقر إلى كمال الحكمة والبيان هو من كلام النبوة الموافق لعظيم الحكمة وجميل البيان، قال- تعالى-: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ   (1) انظر «فتح الباري» (1/ 202- 203) . (2) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، برقم (2607) . (3) البخاري، كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ برقم (6095) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، برقم (59) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . ولا يخفى على أحد أن الذي كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم أراد- بسوء النية أو بحسن النية- أن يجعل الناس يتعبدون الله بغير ما أراد الله عزّ وجلّ وكفى بذلك شرّا وفسادا في الأرض، والذي ذكرته من مفاسد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم هو الحكمة الشرعية في جعل الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ليس كالكذب على غيره من البشر. 3- تغليظ عقوبة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ودليله ما ورد في حديث الباب: «فليتبوأ مقعده من النار» . قال الإمام النووي- رحمه الله (قال العلماء: معناه فلينزل: وقيل: فليتخذ منزله من النار، وقيل: إنه دعاء بلفظ الأمر، أي بوأه الله ذلك، وكذا «فليلج النار» ، وقيل: هو خبر بلفظ الأمر أي معناه: فقد استوجب ذلك فليوطّن نفسه عليه) «1» . لطيفة: لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلّم وصف العقوبة بقوله: «فليتبوأ مقعده من النار» . أعتقد- والله أعلم- أنه لما كان أغلب الكذب مبعثه حبّ الكاذب أن يتبوأ بكذبه مقعدا بين الناس، جعل الله جزاءه مقعدا في النار، وما أعدله- سبحانه وتعالى- أن جعل الجزاء من جنس العمل. أما عقوبة الكاذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم في الدنيا، فقد قال الإمام النووي ما نصه: (ثم إن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمدا في حديث واحد فسق وردّت روايته وبطل الاحتجاج بجميعها، ولو تاب وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصير في من فقهاء أصحابنا الشافعيين وأصحاب الوجوه منهم ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك ولا تقبل روايته أبدا، بل يحتم جرحه دائما. وأطلق الصير في وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعّفنا نقله لم نجعله قويّا بعد ذلك) «2» . وقد ضعف النووي رحمه الله- تعالى- هذا الرأي ولكنه برر ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة بقوله: (ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرّا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة) . وقد علل الإمام النووي ما ذهب إليه من تضعيف ما قاله هؤلاء العلماء بقوله: (وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 68) . (2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 70) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 والمختار القطع بصحة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على ألا يعود إليها فهذا هو الجاري على قواعد الشرع) «1» . وأقول: لا خلاف عند علماء المسلمين أن التوبة النصوح لمن كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم مقبولة إن شاء الله- تعالى- وترفع عنه الإثم في الدنيا والآخرة، ولكن الخلاف في قبول روايته مرة أخرى، فقد تقبل التوبة مع بقاء رد الرواية وهذا ليس بغريب في الشرع، فإن قاذف المحصنة لا خلاف في قبول توبته، ولكن اختلف العلماء في قبول شهادته بعد التوبة، فقد أورد ابن كثير- رحمه الله- تعالى- في تفسير قوله- تعالى-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) [النور: 4] . الخلاف في قبول شهادة القاذف بعد التوبة، وقال ما نصه: (إنما يعود الاستثناء على الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة. ذكره شريح «2» ، وإبراهيم النخعي «3» ، وسعيد بن جبير «4» ، ومكحول «5» وعبد الرحمن بن زيد بن جابر «6» ) «7» . الخلاصة: سواء قبلت رواية من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم أم لم تقبل، فإن الذي يهمني هنا أن أبينه للقارئ عظيم أمر الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم عند الله عزّ وجلّ وكذا عند علماء الأمة الأجلاء، ليتنبه المسلم ويتروى قبل أن ينسب أي قول أو فعل أو تقرير إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليه أن يشعر عند رواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه يمشي على صراط أحدّ من السيف وأدق من الشعر وليس تحته إلا النار- أعاذنا الله منها- إن هو كذب.   (1) انظر المصدر السابق. (2) هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية: من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة، في زمن عمر وعثمان وعلى ومعاوية، مات بالكوفة، عام (78 هـ) . (3) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي، من مذحج: من أكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث. من أهل الكوفة. كان إماما مجتهدا له مذهب، مات عام (96 هـ) . (4) هو سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، أبو عبد الله: تابعي، كان أعلمهم على الإطلاق. وهو حبشي الأصل. قتله الحجاج بواسط، عام (95 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (3/ 93) . (5) هو مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل، أبو عبد الله، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث. أصله من فارس، ومولده بكابل طاف كثيرا من البلدان طالبا للحديث، توفي عام (112 هـ) . (6) هو عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي القرشي: كان من أتم الرجال خلقة. روى الحديث عن أبيه وغيره. ولا يزيد بن معاوية مكة سنة (63 هـ) ، وتوفي عام (65 هـ) . (7) انظر «تفسير القران العظيم» (3/ 266) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 ثالثا: بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: التحذير الشديد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال الإمام النووي: (يؤخذ من الحديث تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله) «1» . وقال الحافظ ابن حجر: (الفرق بين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم والكذب على غيره أن الكذب عليه توعّد فاعله بجعل النار له مسكنا بخلاف الكذب على غيره) «2» . ويتفرع عليه سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم حيث دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلّم أو أخبر أن له مقعدا في النار هو ماله ومسكنه. الفائدة الثانية: ليس إثم الكذب كله سواء، فإن أعظم ما يكون فيه الإثم، الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم ثم يأتي بعد ذلك الكذب في الشهادات والكذب لاقتطاع حق امرئ مسلم، والكذب لبيع السلع في الأسواق ... إلى اخره. الفائدة الثالثة: جميع أنواع الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم في الحرمة سواء، فلا فرق بين كذب في العبادات وكذب في العادات، كما لا فرق بين كذب في الأحكام وكذب في فضائل الأعمال، ودليله أن الحديث أطلق الكذب ورتب عليه هذا الجزاء المغلظ ولم يقيد الكذب بنوع دون نوع، فعمّ جميع أنواع الكذب. قال الإمام النووي في شرح الحديث ما نصه: (لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه كالتر غيب والترهيب، والمواعظ وغير ذلك فكله حرام من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع خلافا للطوائف المبتدعة الذي يجيزون وضع الحديث في الترغيب والترهيب) «3» . ويتفرع عليه قبح من يقول زورا وبهتانا عند استدلاله بأحاديث موضوعة في الترغيب والترهيب: (إنما أكذب للنبي صلى الله عليه وسلّم ولا أكذب عليه!!!) وهذه المقولة منه نهاية السفه ومنتهى الضلالة حيث حكموا على شرع الله- سبحانه وتعالى- بالنقص والحاجة إلى الإتمام، والله يقول في محكم التنزيل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 69) . (2) انظر «فتح الباري» (3/ 162) . (3) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 70) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] ، ويقول عز من قائل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] . وقد بين الإمام النووي بطلان مقولة هؤلاء السفهاء وأورد طرفا من كلامهم، قال رحمه الله: (وهذا الذي انتحلوه وفعلوه واستدلوا به غاية الجهالة ونهاية الغافلة وأدل الدلائل على بعدهم من معرفة شيء عن قواعد الشرع، وقد جمعوا فيه جملا من الأغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة وأذهانهم البعيدة الفاسدة فخالفوا قول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ، وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور وخالفوا إجماع أهل الحل والعقد وغير ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على احاد الناس فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي) «1» . ويتفرع عليه عظيم الخطر المحدق بالدعاة إلى الله- سبحانه وتعالى- والذين يتساهلون كثيرا في رواية الأحاديث الموضوعة- والتي يكثر ذكرها خاصة في كتب التفسير والسيرة والغزوات وفضائل الأعمال- ولا حجة لهم أنهم ينقلون تلك الأحاديث من مراجع إسلامية، وذلك لعموم النهي عن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم فيستوي الكذب إذا نقل المسلم عن مراجع إسلامية أو غيرها من الكتب، خاصة إذا اشتهر أن تلك المراجع محشوة بأحاديث موضوعة لا سيما في أنواع الكتب التي ذكرتها. وإذا قال أحد الدعاة: إني لا أستطيع التفرقة بين الأحاديث الموضوعة والصحيحة. قلت له: عليك بالكتب المحققة وهي كثيرة جدّا ولله الحمد، وعليك بكتب السنة الصحاح، فإن تعذر عليك ذلك، فالزم بيتك فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها واحذر الوقوع في الكذب على الله ورسوله. قال الإمام النووي- رحمه الله-: (يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على ظنه وضعه فمن روى حديثا علم- أو ظن- وضعه ولم يبين حال روايته وضعه فهو داخل في هذا الوعيد مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلّم) «2» . الفائدة الرابعة: كما لا تجوز رواية الأحاديث الموضوعة مهما كان موضوعها، فإنه لا يجوز أيضا رواية الأحاديث الضعيفة إلا إذا بين الراوي للمستمعين ضعف الحديث، فيمكن أن يرويه بصيغة التمريض لا بصيغة الجزم، ولكن أنبه على أن السامعين لو كانوا لا يفرقون   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 70) . (2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 71) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 بين صيغ الجزم والتمريض، فإنه يجب على الراوي أن يوضح لهم ضعف الحديث، ولا تجزئه الرواية بصيغة التمريض لأنها لم تبين للسامع درجة الحديث فاستوى ذكرها مع عدمه. قال الإمام النووي: (قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر فإن كان صحيحا أو حسنا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم كذا أو فعله أو نحو ذلك من صيغ الجزم، وإن كان ضعيفا فلا يقل: قال، أو فعل، أو أمر، أو نهى وشبه ذلك من صيغ الجزم بل يقول: روى عنه كذا، أو جاء عنه كذا، أو يروى، أو يذكر، أو يحكي، أو يقال، أو بلغنا، وما أشبهه) «1» . وللدلالة على تعظيم العلماء لرواية الأحاديث النبوية والاحتياط لعدم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم، ما قاله النووي ونصه: (قال العلماء: وينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظة فقرأها على الشك أن يقول عقبه: (أو كما قال) . وأضاف مبينا شروط الرواية بالمعنى: (ويستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده: (أو كما قال) أو نحو هذا كما فعلته الصحابة فمن بعدهم) «2» . ولكن الإمام النووي اشترط للرواية بالمعنى كامل معرفة الراوي، أي كامل معرفته باللغة العربية، ومقاصد الحديث، ودلالة ألفاظه، وإلا وقع الراوي في الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم دون أن يدري. الفائدة الخامسة: من تقوى الله تعالى ألايروي المسلم الحديث النبوي إذا خاف أن يقع في الخطأ دون أن يشعر، مع أن الخطأ مرفوع إجماعا عن هذه الأمة، ودليله ما رواه البخاري، عن عبد الله بن الزّبير قال: قلت للزّبير: إنّي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما يحدّث فلان وفلان!! قال: أما إنّي لم أفارقه ولكن سمعته يقول: «من كذب علي فليتبوّأ مقعده من النّار» . فمع أن الزبير بن العوام رضي الله عنه صحابي جليل لازم النبي صلى الله عليه وسلّم كثيرا كما يذكر في الحديث ولا يخفى على أحد صلة القرابة التي تجمع بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلّم ولا شك أن هذه الملازمة والصلة أتاحت له سماع الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، ومع أنه يعلم فضل الرواية والتحديث: إلا أنه اثر عدم الإكثار من الرواية مخافة أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم عن طريق الخطأ، وإلا فإن مثله يستحيل في حقه الكذب تعمدا. أخي القارئ: بعد هذا الإسهاب في ذكر أقوال العلماء عن حديث الباب، أود أن   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 71) . (2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 أنصحك أنه يجب علينا جميعا أن نقف مع أنفسنا طويلا ونحاسبها حسابا عسيرا على تساهلنا في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهذا صحابي يكون معه الحديث الصحيح ويخاف من الرواية حتى لا يقع- ولو خطأ- في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسيكون الصحيح في روايته أكثر بكثير من الخطأ، أما نحن فليس معنا شيء ونتجرأ على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم إما بحجة أن تلك المرويات في مراجع إسلامية مشهورة، أو عدم القدرة على تحقيق الأحاديث، أو لحبنا وهو حب أعمى- ترقيق قلوب الناس والحرص على عودتهم لحظيرة الإسلام، فهل يقبل راوي تلك المرويات أن يعود الناس لحظيرة الإسلام ويتبوأ هو مقعده في النار. ألا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. 8- شاهد على سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رجل نصرانيّا فأسلم وقرأ البقرة وال عمران، فكان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم فعاد نصرانيّا، فكان يقول: ما يدري محمّد إلّا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح، وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه لمّا هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا فأصبح، وقد لفظته الأرض. فقالوا هذا فعل محمّد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لمّا هرب منهم فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض. فعلموا أنّه ليس من النّاس، فألقوه) «1» . هذا شاهد عظيم على سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم، شاهد يقشعر منه البدن وينفطر له القلب، ومن منا يسمع ويتدبر هذا الحديث ولا يخاف من أدنى الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم وستتضمن الفوائد استعراض مظاهر سوء العاقبة التي أحاطت بالرجل. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم نصرة الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم وإظهار غيرته عليه للعالمين، حيث انتقم شر الانتقام ممن قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلّم: «ما يدري محمّد إلّا ما كتبت له» . ويتفرع عليه التحذير الشديد لمن كذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم فمن منا يحب أن تكون عاقبته مثل هذه العاقبة. الفائدة الثانية: مظاهر سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو مرادي من إيراد هذا الحديث:   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3617) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 1- غضب الله عليه وانتقامه منه: ورد في رواية مسلم (فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم) «1» . وهو مشعر أن الله لم يمهله كثيرا بعد ما قال، ومشعر أيضا أن ما حدث له بعد موته اعتبره الناس انتقاما من الله الواحد القهار. 2- عدم قدرة باطن الأرض على تحمله: فمع أن الأرض قد حوت في باطنها الكثير ممن تقوّل على الله ورسوله، إلا أنها لم يسعها أن تضم رفات هذا المرتد لشنيع ما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلّم فطرحته الأرض ونبذته من أعماق باطنها ثلاث مرات، ويصف الراوي ما حدث في كل مرة بقوله: (فأصبحت الأرض وقد نبذته على وجهه) ، وهل قصدت الأرض أن تنبذه على وجهه خاصة دون سائر أعضائه لأن الوجه محل تكريم الإنسان فيكون ذلك منتهى الإهانة والمذلة له؟ أم نبذته على الوجه لأن الوجه قد احتوى الجوارح التي كذب بها الرجل على النبي صلى الله عليه وسلّم وهما اللسان والشفتان؟. 3- من أعظم النكايات التي حدثت للرجل أن أصحابه من أهله وعشيرته قد تخلو عنه في وقت هو أحوج ما يكون إليهم، فعند مسلم (فتركوه منبوذا) . ويتفرع عليه تصديقنا بما أخبرنا به أصدق القائلين- سبحانه وتعالى-، أن يوم القيامة سيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، قال- تعالى-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: 34- 35] . الفائدة الثالثة: عجيب قدرة الله- سبحانه وتعالى-؛ إذ جعل في الأرض القدرة على أن تنبذ الرجل وتلفظه، ولا يقف كون القوم قد أعمقوا جدّا حائلا عن امتثال الأرض لأمر الله- سبحانه وتعالى-. الفائدة الرابعة: قد يعجل الله عزّ وجلّ العذاب لأعدائه في الدنيا على مرأى ومسمع من الناس، وقد يعذب المكذب ولا يطلع على عذابه أحد من الناس، وقد يؤخر الله العذاب إلى ما بعد الحياة الدنيا، ولكن ما نقطع به أن العذاب النفسي واقع بالمكاذبين في الدنيا لقوله- تعالى-: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) [طه: 124] . وأن العذاب المادي يبدأ لا محالة مع سكرات الموت ويستمر حتى يستقر المكذبون في نار جهنم- أعاذنا الله منها- وكل هذه الأحوال لعذاب المكاذبين في الدنيا والآخرة موافقة للعدل المطلق والحكمة البالغة.   (1) رواه مسلم، كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2781) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الفائدة الخامسة: عناد أهل الزيع والضلال، وترفعهم عن قبول الحق، والانصياع له ليس بسبب التباس الأمر عليهم أو ندرة الآيات الدالة على عظيم قدرة الله- سبحانه وتعالى أو قلة المعجزات الباهرات التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلّم وإنما كان عدم إيمانهم بسبب مرض قلوبهم واستكبارهم وتقديم الدنيا وشهواتها على الآخرة وملذاتها، ذلك أنهم قد علموا أن لفظ الأرض لصاحبهم ليس من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم أو أصحابه أو غيرهم وإنما هو من فعل رب الناس ولذلك سلّموا أنه لا طاقة ولا حيلة لهم لدفنه فتركوه منبوذا من لحظتها، وورد في الحديث: (فعلموا أنه ليس من الناس) . أي أن لفظه على وجهه ليس من فعل الناس. ثانيا: وجوب تعظيمه وتحريم إيذائه صلى الله عليه وسلّم 1- وجوب تعظيمه وإجلاله صلى الله عليه وسلّم: إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم وإجلاله لمن أعظم درجات المحبة والتقدير من أحبابه الذين لم يروه، فكيف بهم لو رأوه صلى الله عليه وسلّم في أبهى صوره وجميل خلقه وخلقته؟!. قال تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] ، ولا شك أن أعظم الحرمات ايات الله ورسله. وقال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) [الفتح: 9] . كلام العلماء في تفسير هذه الآية قريب في المعنى، فسأكتفي بذكر ما قاله بعضهم نصّا للدلالة على أقول الآخرين، قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (ويعزروه يعني الإجلال ويوقروه يعني التعظيم، وقيل: يعزروه أي ينصروه، ويوقروه يعني ويفخّموه، وقال اخرون: أمر الله بتسويده وتفخيمه) ، ثم قال- رحمه الله-: (وهذه الأقوال متقاربات المعنى وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها) «1» . ومعنى التعزير في هذا الموضوع: التقوية بالنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال، ثم قال- رحمه الله-: (وقوله: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، يقول: وتصلوا له يعني لله بالغدوات والعشيات. والهاء في قوله: وَتُسَبِّحُوهُ من ذكر الله وحده دون رسوله) . انتهى. وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (وتوقروه: من التوقير وهو الاحترام والإجلال   (1) انظر «تفسير الإمام الطبري» (26/ 75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 والإعظام، وتسبحوه بكرة وأصيلا: تسبحون الله أول النهار واخره) «1» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلّم عند ربه تبارك وتعالى، إذ وجه الله عزّ وجلّ أو امر ربانية للمؤمنين في خطاب واحد يرجع بعضها إليه سبحانه، وبعضها خاص بالنبي صلى الله عليه وسلّم دون تفصيل في الآية الكريمة، وإنما كان التفصيل من قبل العلماء، بعلمهم ما يجب لله وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلّم. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وهو: تسبحوه من غير خلاف، وبعضه راجعا إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم وهو: وتعزروه، وتوقروه أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية) «2» . الفائدة الثانية: بلاغة القران الكريم وفصاحته حيث ذكر أمورا عظيمة هي من أصول الإيمان في كلمات معدودة، قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (ذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله وهو: الإيمان بهما والمختص بالرسول وهو التعزير والتوقير والمختص بالله وهو: التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها) «3» . الفائدة الثالثة: بيان عظيم حق النبي صلى الله عليه وسلّم على عموم أمته، وما ينبغي له من الإجلال والتوقير، وفاء لما قام به صلى الله عليه وسلّم قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (أي تعظموه وتجلّوه وتقوموا بحقوقه كما كانت له المنة العظيمة في رقابكم) «4» . ويتفرع عليه؛ بيان ما نحن فيه من التفريط في حقه صلى الله عليه وسلّم فما بلغنا معشار ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من إجلال وتوقير وتفخيم شخص النبي صلى الله عليه وسلّم وقد وضحت ذلك في مواضع عديدة من هذا الكتاب. فلله الحمد والمنة. 2. تحريم إيذائه صلى الله عليه وسلّم: فكما فرض الله- تعالى- على عباده أن يوقروا الرسول صلى الله عليه وسلّم ويعظموه ويكبروه في أنفسهم ويفتدوه بكل شيء فكذلك حرم الله تبارك وتعالى، على عباده أن يؤذوه بأي نوع من أنواع الإيذاء، فقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) [الأحزاب: 57] .   (1) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 186) . (2) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 267) . (3) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (792) . (4) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (792) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وقال- تعالى-: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] . شددت الآية جدّا في أمر إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم ومن مظاهر ذلك التشديد: 1- إيراد إيذاء الله- سبحانه وتعالى- خالق كل شيء ومليكه- وإيذائه صلى الله عليه وسلّم في اية واحدة مع الجمع بينهما بحرف العطف (الواو) ، ولو لم يقترن ذلك بأي تهديد أو وعيد أو ذكر عذاب لكفى بذلك تغليظا لأمر إيذائه صلى الله عليه وسلّم فكيف إذا اقترن؟ 2- تضعيف العذاب على من اذى النبي صلى الله عليه وسلّم حيث جمع الله له بين عذابي الدنيا والآخرة، فعليه في الدنيا لعنة وفي الآخرة لعنة، فهل يفلح رجل يمشي على الأرض عليه لعنتان، إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة، ولعظيم جرمه لم تكن اللعنتان كافيتين، فقد بشرته الآية بعذاب مهين- أي ذي إهانة- أعده القوي العزيز خصيصا له. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظيم غيرة الله- سبحانه وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلّم إذ قرن إيذاءه- سبحانه وتعالى- بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم وقد جعل العقوبة على الإيذائين واحدة، فكان غضب الله- سبحانه وتعالى- من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقل عن غضبه- سبحانه وتعالى- من إيذاء نفسه الكريمة المقدسة. قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (والظاهر أن الآية عامة في كل من اذاه صلى الله عليه وسلّم ومن اذاه فقد اذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله) «1» . وهذه الغيرة إنما تدل على عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم. فإن سأل سائل: وهل يغار الله عزّ وجلّ؟ قلت: نعم، ودليله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله يغار، وغيرة الله، أن يأتي المؤمن ما حرّم الله» «2» . الفائدة الثانية: أثبتت الآية الكريمة أن الله عزّ وجلّ يبلغه إيذاء الناس، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن ادم، يسبّ الدّهر، وأنا الدّهر، بيدي الأمر، أقلّب اللّيل والنّهار» «3» .   (1) انظر «تفسير القران العظيم» (3/ 518) . (2) البخاري، كتاب: النكاح، باب: الغيرة، برقم (5223) . (3) الخاري، كتاب: تفسير القران، باب: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، برقم (2246) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 أما الضرر فلا يبلغ الله- سبحانه وتعالى- أبدا، ودليله حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه «يا عبادي: إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» «1» . الفائدة الثالثة: أثبتت الآية؛ عصمة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث توعدت كل من اذاه بالعذاب المهين، ولو أنه صلى الله عليه وسلّم فعل شيئا يتوجه إليه اللوم بسببه لقيدت الآية العذاب على من اذاه بما لم يفعل أو يقل، كما وردت الآية التي تليها، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) [الأحزاب: 58] . الفائدة الرابعة: هذه الآية يجب أن تكون رادعة ومخوفة لكل من تسول له نفسه أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلّم سواء في نفسه، أو أصحابه، أو زوجاته، أو أهل بيته، أو أتباعه إلى يوم الدين، قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلّم والصلاة عليه؛ نهى عن أذيته وتوعد عليها، وهذا يشمل كل أذية قولية، أو فعلية من سب، وشتم، أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعو عليه بالأذى) . وأضاف- رحمه الله- قائلا: (فأذية الرسول صلى الله عليه وسلّم ليست كأذية غيره؛ لأن العبد لا يؤمن بالله حتى يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلّم وله من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان ما يقتضي ألايكون مثل غيره) «2» . 3- إفراد إيذائه بالوعيد: إن كل من تسوّل له نفسه أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد توعده رب العزة- تبارك وتعالى بأشد أنواع العذاب؛ لأنه- سبحانه وتعالى- عاصم نبيّه وحافظه من كل سوء، فمقامه صلى الله عليه وسلّم التعظيم، وليس الإيذاء أو الانتقاص. قال- تعالى-: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 60، 61] . وأوردت هذه الآية، ردّا على من قد يتوهم من الباب السابق، أن الوعيد متوجه لمن يؤذى الله ورسوله معا، فالأمر ليس كذلك. ففي الآية تخويف ووعيد لكل من يتجرأ على السنة وصاحبها صلى الله عليه وسلّم بغمز أو لمز، تصريحا كان أو تعريضا، صغيرا أو كبيرا؛ لأن الآية أطلقت، ولم تحدد نوع الإيذاء ولا حجمه، فيدخل فيه كل ما ذكر. وهذا تعظيم وحماية لجانب النبوة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه-: (من سب النبي صلى الله عليه وسلّم من مسلم   (1) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، برقم (2577) . (2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (671) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أو كافر؛ فإنه يجب قتله، وهو مذهب عامة أهل العلم، ثم ذكر- رحمه الله- تعالى- أن هذا هو مذهب مالك والليث «1» وأحمد وإسحاق بن راهواه «2» ، والشافعي) «3» ، ونقل عن القاضي عياض «4» قوله: (أجمعت الأمة على قتل منتقص النبي صلى الله عليه وسلّم أو من سابه من المسلمين، كما نقل عن الإمام إسحاق بن راهواه قوله: أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلّم أو دفع شيئا مما أنزل الله عزّ وجلّ، أو قتل نبيا من أنبياء الله عزّ وجلّ، أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، أما الإمام أحمد- رحمه الله- فقد نقل عنه قوله: كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلّم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أنه يقتل ولا يستتاب) . 4- غضب غلمان الصحابة لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم، وانتقامهم لذلك: عن عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه أنّه قال: (بينا أنا واقف في الصّفّ يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنّيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عمّ هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنّه يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم والّذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتّى يموت الأعجل منّا. قال: فتعجّبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في النّاس. فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الّذي تسألان عنه. قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتّى قتلاه ثمّ انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبراه. فقال: «أيّكما قتله؟» فقال كلّ واحد منهما: أنا قتلت. فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. فنظر في السّيفين، فقال: «كلاكما قتله» ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرّجلان؛ معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء) «5» .   (1) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي: بالولاء، أبو الحارث: إمام أهل مصر في عصره، حديثا وفقها. أصله من خراسان ومولده في قلقشندة، كان من الكرماء الأجواد. توفي في القاهرة، عام (175 هـ) . (2) هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي، أبو يعقوب ابن راهواه: عالم خراسان في عصره. أحد كبار الحفاظ أخذ عنه الإمام أحمد والبخاري ومسلم، وغيرهم، توفي بنيسابور عام (238 هـ) . (3) انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 3، 7) لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتصرف. (4) هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، أبو الفضل: عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، ولي قضاء سبتة، ثم قضاء غرناطة، مات مسموما على يد يهودي بمراكش، عام (544 هـ) . (5) البخاري، كتاب: فرض الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب ... ، برقم (3141) ، ومسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، برقم (1752) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الشاهد في الحديث: هو قول كل غلام: «أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم» بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلّم: 1- عظيم منزلته عند أصحابه، وغضبهم له أشد الغضب، وإرادة الانتقام من كل من يؤذيه، فإن سأل سائل، ألم ير الغلامان أن الشرك بالله أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قلت: بلى، ولكنهما ذكرا السب؛ لأن كل عسكر الكفار كانوا يكفرون بالله، فاستوى ذلك الذنب في حقهم جميعا، ولكنهما عظّما قبح أمر أبي جهل أنه أضاف إلى كفره بالله، سبّه للنبي صلى الله عليه وسلّم لذلك نصّا في مقولتيهما على السب. 2- رحمته صلى الله عليه وسلّم بأصحابه حيث حكم للغلامين، بقتل أبي جهل، تطييبا لخاطرهما، فقال: (كلاكما قتله) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلّم رأى الدم على سيفيهما جميعا. 3- فراسته صلى الله عليه وسلّم، حيث طلب النظر إلى سيفيهما ليعلم أيهما قتل أبا جهل. 4- عدله صلى الله عليه وسلّم حيث قضى بالسلب لمعاذ بن عمرو، وذلك لأن معاذ بن عمرو هو الذي أثخن أبا جهل بالضربة الأولى ثم ضربه معاذ بن عفراء بعد ذلك، فقال لهما صلى الله عليه وسلّم: كلاكما قتله، تطييبا لخاطرهما، فلما جاء القضاء بالسّلب قضى به لمعاذ بن عمرو لأنه هو الذى يستحقه شرعا فلم يكن صلى الله عليه وسلّم ليفعل غير ذلك. وهذا لا يمنع من أنه صلى الله عليه وسلّم قد أرضى معاذ بن عفراء بعد ذلك بشيء من المال على سبيل المكافأة أو الهدية أو غير ذلك، أو كان له سهم في المغانم، فاكتفى به صلى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: في الغلامين: 1- أدبهما: حيث خاطبا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رضي الله عنه بقولهما (يا عم) للتوقير، فقد راعيا كبر سنه وحداثة أسنانهما. 2- شجاعتهما: حيث طلبا معرفة أبي جهل ليقتلاه، رغم صغر سنهما قال الراوي: (حديثة أسنانهما) ، وانظر أين سيكون القتل؟! في موقعة فيها الكر والفر والتحام الصفوف، وتطاير النبال والسهام، وكل ذلك لم يخفهما أو يثبط من عزيمتهما. 3- تصميمها على قتل أبي جهل أو الموت دونه، قال كل منهما: (والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا) ، فالأمر بالنسبة إليهما لم يكن مجرد محاولة لقتل أبي جهل، أو أداء الواجب، بل تصميم وعزيمة، لا يثنيها شيء، فقد أقسما بالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أنهما لن يفارقاه في حال رؤيته حتى يموت أحدهما، ولو مسّهما من العذاب ما مسهما. 4- حبّهما الشهادة في سبيل الله: والحرص عليها، واستعدادهما لها، من قبل دخول المعركة، لقولهما: (حتى يموت الأعجل منا) . 5- قوتهما: ويظهر ذلك من قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (تمنيت أن أكون بين أضلع منهما) . والضلاعة هي القوة، فيظهر هذا جليّا في تصرفهما لما رأيا أبا جهل، لقول الراوي: (فابتدراه بسيفيهما فضرباه) ، وهو يدل على غاية القوة، وكمال الشجاعة. 6- حبهما البالغ للنبي صلى الله عليه وسلّم رغم حداثة سنهما، ويظهر ذلك في: أ- سؤالهما عن أبي جهل ليقتلاه، ولما سئلا عن حاجتهما له قال كل منهما: (أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ، فكأنهما لم يريا شيئا في أبي جهل يستحق عليه القتل أعظم من أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذا يدل على شدة غضبهما على من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولو بالقول دون العمل، وإرادة الانتقام منه، وبذل أقصى الجهد لتحقيق ذلك، فإما موت أبي جهل، وإما موتهما، ولم يفكرا في حل ثالث، وكأنهما لا يستطيعان العيش، وأحد المشركين يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وانظر إلى فصاحة كل منهما في قوله: (أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ، فهما لم يسمعا السب، ولم يخبرانا عن اسم من أخبرهما، فكل هذا لا يهم، المهم عندهما، قتل من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وانظر إلى استخدامهما لفظ (أخبرت) دون (سمعت) ، فكأن إخبارهما بالخبر كان مقصودا به الانتقام لرسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ لأن السماع يشترك فيه كل الناس، من يهمه الأمر ومن لا يهمه، ومن يقصد إيصال الخبر إليه ومن لا يقصد، كما أن لفظ «أخبرت» يشعر بعزة نفس كل منهما، وعلو شأنهما، وهو أمر محمود في ساحة القتال. ب- ذهابهما مباشرة بعد قتل أبي جهل، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكأن غايتهما من حضور الغزوة قد انتهى بالقضاء على من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والدليل على أنهما ما قتلا أحدا بعده، أن دم أبي جهل ما زال على سيفيهما، فقد ورد في الحديث: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. وأعتقد أنهما حرصا على بقاء دم أبي جهل حتى يشعرا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنهما قد انتقما له من أبي جهل، فالإخبار بالقتل غير معاينة الدم. ج- رد كل منهما على سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أيكما قتله؟» ، بإجابة واحدة: (أنا قتلته) ، مع أن القاتل الحقيقي واحد، وهو الذي أثخن جرحه وأعجزه عن المبارزة، ولكن ادعى كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 منهما ذلك لاسترضاء النبي صلى الله عليه وسلّم، وحرصهما على إظهار حبهما له، وأن يتشرف كل منهما بإدخال الفرحة والسرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. 7- أدبهما في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث لم يتجادلا أمامه فيمن أعجل أبا جهل بالضرب، واكتفى كل واحد منهما بقوله: (أنا قتلته) . حتى بعد أن حكم النبي صلى الله عليه وسلّم بالسلب لمعاذ بن عمرو بن الجموح، لم يعقب على الحكم معاذ بن عفراء، مع صغر سنه، وحرصه على قتل أبي جهل أو الموت دونه، ولكن الرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. الفائدة الثالثة: معرفة الهمّ الذي كان يشغل أولاد الصحابة، حديثي الأسنان رضي الله عنهم، والوقوف على أولوياتهم في التفكير، فقد علمنا من الحديث أن همهم الأكبر وأولى أولوياتهم، قتل من ينتهك حرمات الله- سبحانه وتعالى-، وحريّ بنا هنا أن نذكّر بحكمتهما وسعة أفقهما، حيث إن الغلامين قد وقفا عن يمين ويسار عبد الرحمن بن عوف، قال رضي الله عنه: (فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار) ، والحكمة من الوقوف على هذه الكيفية، أن يسمعاه جيدا، فقد راعيا أنهما من صغار السن، أجساد صغيرة وأصوات غير مسموعة، ومن حكمتهما أيضا، أنهما غمزا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قبل التحدث معه، ليلفتا انتباهه فينظر أيمن وأشأم منه. الفائدة الرابعة: استخفاف الله- سبحانه وتعالى- بأبي جهل، كما كان يستخف بالنبي صلى الله عليه وسلّم ووجه ذلك: 1- أنه سبحانه جعل موت أبي جهل على يد غلام حدث صغير السن، وليس على يد رجل فارس قوي. 2- جعل مكان دفنه هو قليب بدر، بعد أن تعفنت جثته وجثث أقرانه. 3- وقوف النبي صلى الله عليه وسلّم على رأسه في القليب على مرأى ومسمع من أصحابه، رضي الله عنهم، يوبخه ويوبخ من هلك معه ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خبر هؤلاء القتلى بعد أن ألقوا في البئر قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقّا!!» قال عمر: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟! قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا» «1» .   (1) مسلم، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، برقم: (2873) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 ثالثّا: تأديب الأمة في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلّم 1- اداب الاستئذان منه صلى الله عليه وسلّم: قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) [النور: 62] . أمر الله- سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين باداب الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلّم إذا كانوا معه على أمر جامع، كصلاة جمعة أو عيد أو اجتماع في مشورة أو جهاد، وأنزل في ذلك اية كاملة من كتابه العزيز فيها توجيهات للمؤمنين وتوجيهات للنبي صلى الله عليه وسلّم تبين عظم قدر اجتماع النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه رضي الله عنهم وأن الذهاب عنه يجب أن يكون باداب معينة ولحاجة مهمة، وهذه التوجيهات هي: 1- وجوب استئذان الصحابة رضي الله عنهم من الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل الذهاب من عنده في حال كونهم معه على أمر تتطلب الضرورة، أو المصلحة أن يكونوا معه جميعا. 2- ألا يكون الاستئذان إلا لشأن هام (وهو الشغل أو المصلحة) قال- تعالى-: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ [النور: 62] . 3- للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يأذن لمن شاء من أصحاب الأعذار، وله أن يرد من شاء بدون إذن. يتفرع على ذلك، أن نعلم أن الله عزّ وجلّ أراد أن يربي هذه الأمة على العزيمة والطاعة المطلقة لولي الأمر، ويتمثل ذلك في عدم الإذن لكل مستأذن أن ينصرف. 4- أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستغفر لمن استأذن من أصحاب الأعذار، والعجيب أن الآية وجهت النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستغفر للمستأذن، ولم توجهه بأن يعتذر لمن لم يإذن له بالانصراف. هذه هي التوجيهات الربانية للنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بخصوص الاستئذان، [ فوائد الآية ] أما فوائد الآية الكريمة فهي: الفائدة الأولى: تعظيم أمر استئذان الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك في: 1- جعل الله تعالى الاستئذان من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله، والعجيب أن يذكر ذلك قبل ذكر الاستئذان وبعده، فقبل ذكره قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَرَسُولِهِ، فبدأت الآية ب إِنَّمَا التي تفيد الحصر، فكأنما حصرت الآية صفات الذين استكملوا الإيمان في أمرين هما: الإيمان بالله ورسوله، واتباع اداب الاستئذان من النبي صلى الله عليه وسلّم، وبعد ذكر الاستئذان أكدت الآية هذا المفهوم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لهذا الحد وصل تعظيم الاستئذان من النبي صلى الله عليه وسلّم. ويتفرع عليه؛ تعظيم كل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلّم فإذا كان الالتزام باداب الاستئذان منه هو من الإيمان، فمن باب أولى أن يدخل في الإيمان حبه والتزام سنته وتوقير زوجاته وأهل بيته وكثرة الصلاة والسلام عليه، فكل ذلك من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله. 2- عدم جواز الاستئذان إلا إذا كانت هناك ضرورة لهذا الاستئذان، قال- تعالى-: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. 3- ليس الاستئذان للضرورة أو المصلحة موجبا لصدور إذن النبي صلى الله عليه وسلّم بالذهاب، فالله- سبحانه وتعالى- أعطى للنبي صلى الله عليه وسلّم حق الإذن من عدمه، قال تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ. 4- الاستئذان للضرورة موجب لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلّم للمستأذن، فمع أن المستأذن لم يستأذن إلا للضرورة، ومع أنه لم يذهب إلا بمشيئة النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أن الآية قد أمرت النبي صلى الله عليه وسلّم بالاستغفار له، ولكن ما حكمة الاستغفار؟ قال الشيخ السعدي «1» - رحمه الله تعالى: (لما عسى أن يكون مقصرا في الاستئذان) . انتهى. كما يمكن القول: إن الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلّم في الأمر الجامع يجب الاستغفار منه؛ لأن هيئة الاستئذان والخروج لا تناسب ما أمر الله به الصحابة من وجوب تقديم النبي صلى الله عليه وسلّم على أنفسهم حتى ولو كان سبيله التضحية بمصالحهم وجميع شأنهم، قال- تعالى-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كما أنه على كلام الشيخ- رحمه الله تعالى- فإن الاستغفار شرع لمن كان مقصرا في استئذانه والآية لم تقيد حالا دون حال. الفائدة الثانية: إثبات أن للعبد مشيئة تنسب إليها كل أفعاله، ويكون الحساب يوم القيامة لأفعاله التي صدرت عن مشيئته، قال تعالى-: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ. كما يؤخذ من الآية: أنه لا يجب علينا أن نذكر في كل كلامنا، مشيئة الله، قبل ذكر مشيئة العبد فلا يجب أن نقول مثلا: (شاء فلان أن يسافر بعد مشيئة الله) ، ودليله أن الآية   (1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (576) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 قد أثبتت للنبي صلى الله عليه وسلّم مشيئة في الإذن دون أن تقيدها بمشيئة الله- تعالى- أو حتى تذكرها. الفائدة الثالثة: إن اجتمع في الأمر الواحد ضرران وتعذر رفعهما معا، فيجب دفع أعظمهما ولا ضير في إبقاء أخفهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان من حقه ألا يأذن لمن يشاء، مع أن عدم الإذن لصاحب العذر فيه ضرر عليه، ولكن الإذن له فيه ضرر أعظم، فدفع الضرر الأعظم بالضرر الأخف، وهذه من القواعد الشرعية العظيمة إذ كان صلى الله عليه وسلّم ينظر في أحوال أصحابه، فمن كان الإذن له أخف ضررا أذن له، وإلا لم يأذن له. الفائدة الرابعة: قد تأتي الأوامر الشرعية بعكس ما يتمنى الإنسان ويهوى أو ضد ما يراه من مصالحه الدنيوية، فيجب عليه أن يسلم بكل ما أمر الله- سبحانه وتعالى- بنفس راضية مطمئنة وليعلم أنه يجب عليه أن يضحي بأمور كثيرة في طريقه إلى الله ورسوله، وأن الجمع بين كل أمور الدنيا وكل طاعة لله ورسوله أمر مستحيل، ألم تر أن الله- سبحانه وتعالى- قد أمر التاجر أن يترك تجارته عند النداء إلى الصلاة من يوم الجمعة أليس في هذه التجارة مربح له كما يعتقد؟ ألم تر أن الله قد أمرنا أن ندع الطعام والشراب من طلوع الفجر حتى غروب الشمس شهرا كاملا، وهو ما قد يؤثر سلبا على قضاء البعض لمصالحه الدنيوية، وغير ذلك كثير، وشاهده من الآية التي معنا أن المستأذن لعذر قد لا يؤذن له. الفائدة الخامسة: استغفار النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه وهو قطعا أرجى في القبول من استغفار الصحابة لأنفسهم، ولذلك أمر الله- سبحانه وتعالى- النبي صلى الله عليه وسلّم بالاستغفار لمن أذن له بالذهاب، وهذا يدل أيضا على حب الله- سبحانه وتعالى- للصحابة رضي الله عنهم والأمر بكل ما من شأنه أن ينقيهم من اثار ارتكاب الذنوب أو تركهم للأولى من الأمور. 2- اداب زيارته والدخول عليه في بيته صلى الله عليه وسلّم: قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] . كما علم الله- سبحانه وتعالى- الأمة ما ينبغي عليهم اتباعه والتحلي به عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلّم أو الاستئذان منه، علمهم أيضا اداب دخول بيوته صلى الله عليه وسلّم كما سنرى: أولا: أسباب نزول الآية الكريمة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش دعا القوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 فطعموا، ثمّ جلسوا يتحدّثون، وإذا هو كأنّه يتهيّأ للقيام، فلم يقوموا، فلمّا رأى ذلك قام فلمّا قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثمّ إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا فجاء حتّى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... الآية) «1» . ثانيا: بيان اداب دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم: 1- أكدت الآية أن الأصل في دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم هو التحريم، ثم لا يكون الدخول إلا بشروط، ودليله أن الآية بدأت بقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، والنهي يقتضي التحريم. 2- نصت الآية على شروط دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يكون الدخول مشروعا غير محرم، والشروط هي: أ- الدعوة إلى الطعام، قال- تعالى-: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. ب- عدم تحين وقت نضج الطعام لقوله تعالى-: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير ناظرين إلى وقت نضجه. قال الحافظ ابن كثير: (أي غير متجينين نضجه واستواءه أي لا ترقبوا الطعام إذا نضج حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه) «2» . ج- وقت الدخول لتناول الطعام يكون عند الإذن. قال القرطبي- رحمه الله- (فأكد المنع وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، قال ابن العربي «3» وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا) «4» . د- تحريم الاسترسال في الحديث بعد تناول الطعام، قال الإمام القرطبي: (وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة) ، كما قال: (أمر- تعالى- بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام وإنما جاز لأجل الأكل فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح   (1) البخاري، كتاب: تفسير القران، باب: قوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، برقم (4791) . (2) انظر «تفسير القران العظيم» (3/ 506) . (3) هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر ابن العربي: قاض، من حفاظ الحديث. ولد في إشبيلية، ورحل إلى المشرق وبرع في الأدب وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، توفي عام (543 هـ) . (4) انظر «الجامع لأحكام القران» (14/ 226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وعاد التحريم إلى أصله) «1» . انتهى. وكلام القرطبي يؤكد ما ذكرته من أن الأصل في دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم هو التحريم، وهذا مقتضى كلام الشيخ السعدي- رحمه الله- حيث قال في تفسيره للآية الكريمة: (لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم إلا بشرطين: الإذن لكم بالدخول، وأن يكون دخولكم بمقدار الحاجة وذلك قبل الطعام وبعده) . ومما يؤكد أن الأصل في الدخول هو التحريم ما قاله الإمام القرطبي ونصه: (يقول الله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أيها الذين امنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أن تدعوا إلى طعام تتناولونه فيها) «2» . مما ذكر يتضح بجلاء عظيم شأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم وما ضمنه الله- تبارك وتعالى- في كتابه العزيز من حفظ تلك البيوت وإلزام المؤمنين توقيرها وعدم التعدي عليها وعلى أهلها بما يؤذيهم أو يهتك سترهم أو يشق عليهم، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما ورد في نفس الآية من الآداب الواجب اتباعها عند سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم متاعا، وهو ما سأورده- إن شاء الله- في باب (تعظيم زوجاته صلى الله عليه وسلّم) . ثالثا: بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: جود النبي صلى الله عليه وسلّم مع أضيافه وإيثارهم على نفسه وأهل بيته، فمع أن البيوت كان لا يوقد فيها نار لشهرين بثلاثة أهلة، إلا أنه صلى الله عليه وسلّم كان يتكلف الطبخ لأضيافه إن استطاع، لقوله- تعالى-: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، ويترتب عليه استحباب إكرام الضيف بطبخ ما يقدر عليه أهل البيت. الفائدة الثانية: وجوب إجابة الدعوة إلى الطعام، لقوله- تعالى-: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا يصدّق ذلك: أنّ ابن عمر رضي الله عنه كان يقول عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب؛ عرسا كان أو نحوه» «3» . الفائدة الثالثة: من الآداب الإسلامية الرفيعة في الزيارة عدم المشقة على أهل البيت المضيف، فلا يشرع الاسترسال في الحديث بعد الطعام، إلا إذا علم أن صاحب البيت يحب ذلك، ولكن يجب التنبيه في وقتنا الحاضر، أن صاحب البيت يمكن أن يستأنس بحديث أصحابه مع وجود بالغ المشقة على أهله، فيجب على الزائر مراعاة ذلك.   (1) انظر «الجامع لأحكام القران» (14/ 226) . (2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (670) . (3) مسلم، كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، برقم (1429) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الفائدة الرابعة: الأدب القراني في تعليم الأمة: أ- قال تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وعفّ عن الأمر بالخروج، مع أن اللفظين بمعنى واحد، ولكن قد يكون في قوله: (فاخرجوا) أذى لأذن السامع ومشاعره، ويتفرع عليه أن على المعلم أو الداعية أن يتخير من الألفاظ أبعدها عن إيذاء السامع. ب- ذكر حكمة الأمر أو النهي؛ لأن في هذا سلوى لمن توجه إليه الخطاب، خاصة إذا كان الأمر يحول بينه وبين ما يحب، قال- تعالى-: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. الفائدة الخامسة: غيرة الله- سبحانه وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلّم وحرصه عزّ وجلّ على رفع أي أذى يصيبه ولو كان أذى معنويّا، ومن شدة عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه وحبه لإظهار تلك العناية للعالمين، أن القران لم يكتف برفع الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلّم، بل نص على أن ذلك الحكم ما كان إلا بسبب تأذي النبي صلى الله عليه وسلّم. قال تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب: 53] . ويتفرع على ذلك: التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لمن تسبب في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بعد وفاته؛ لأن الله عزّ وجلّ لا يحب أدنى إيذاء له صلى الله عليه وسلّم وإن كان هذا الإيذاء قد وقع بسبب أمور يعتقدها الناس من العادات وليس من العبادات، فما بالكم لو وقع الإيذاء فيما هو أكبر من ذلك، وهو ما يتعلق بأمور التشريع والسنة؟!. الفائدة السادسة: إثبات عدم استحياء الله عزّ وجلّ من الحق، ولكن إذا كان على المسلم أن يقول الحق، فيجب عليه أن يتخير أحسن الطرق وأجمل الألفاظ لتوصيل الحق إلى السامع كما نوّهت انفا. 3- اداب مخاطبته صلى الله عليه وسلّم: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) [الحجرات: 2، 3] . وهذا أدب اخر، علمه الله- سبحانه وتعالى- الأمة، وأمرهم أن يتبعوه عند مخاطبة أشرف الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وهو عدم رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم بحيث يعلو صوت المتكلم على صوته، وهو أدب رفيع ربّى الله- سبحانه وتعالى- الأمة عليه كما سيأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 مفصلا- إن شاء الله- تعالى- وسنذكر أولا سبب نزول الآية، ثم ما في الآية الكريمة من فوائد، ثم نختم بكيفية تفاعل الصحابة مع الآية. أولا: سبب نزول الآية: ذكر العلماء عدة أسباب لنزول الآية، تدور كلها في معنى واحد وهو رفع طائفة من الصحابة صوتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلّم كالأعراب الذين يتصف الغالب منهم بالجفاء في الحديث والغلظة في المعاملة، وقد ورد في سبب النزول عن ابن أبي مليكة قال: (كاد الخيّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النّبيّ صلى الله عليه وسلّم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل اخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلّا خلافي. قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية، قال ابن الزّبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه) «1» . تدبر أخي القارئ فيمن نزلت هذه الآية الكريمة، لقد نزلت في خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلّم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في رجلين معلوم فضلهما وسبقهما إلى الإسلام، فما من أحد أعظم منة على الإسلام وأهله من الصديق، وما من أحد أعز الله به الإسلام أكثر من عمر، رضي الله عنهما، ومع ذلك لا يستحي الحق- تبارك وتعالى- أن يأدبهما ويرشدهما إلى السلوك القويم الذي ينبغي أن يسلكاه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا قدّر الله- سبحانه وتعالى- أن يتسامح مع أحد في رفع صوته فوق صوت نبيه صلى الله عليه وسلّم لتسامح مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحسبهما قربهما من النبي صلى الله عليه وسلّم وحبه لهما، فكيف نتصور أن يتسامح الله عزّ وجلّ لمن هو دونهما في الفضل والسبق، إذا لم يتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم؟! واسمع لما يقول ابن أبي مليكة: (كاد الخيران أن يهلكا) . فلم يشفع لهما مكانتهما أن يهلكا إذا لم يلزما الأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم. ثانيا: بعض فوائد الآية: الفائدة الأولى: تحريم رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم بحيث يعلو صوت المتكلم صوته صلى الله عليه وسلّم قال القرطبي- رحمه الله تعالى-: (معنى الآية الأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم   (1) البخاري، كتاب: تفسير القران، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، برقم (4845) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وراء الحد الذي يبلغه بصوته وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم وجهره باهرا لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته واضحة) «1» . وأعتقد أن رفع الصوت المذكور في الآية من كبائر الذنوب؛ لأن الله- تبارك وتعالى- رتب عليه عقوبة عظيمة وهي إحباط العمل، كما سيأتي. الفائدة الثانية: في الآيات الكريمات مظاهر عديدة تدل على تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن مظاهر ذلك: 1- لم تقتصر الآية الأولى على تحريم رفع الصوت فحسب بل ضمت له أدبا اخر وهو تحريم الجهر له بالقول، كما يجهر أفراد المسلمين بعضهم لبعض، أي أن الحديث مع النبي صلى الله عليه وسلّم ومناداته والخطاب معه يجب أن يكون متميزا عن الخطاب مع غيره من عموم المسلمين، خطاب يدل على توقيره وإجلاله وتعظيم شأنه، يوضح ذلك قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، وقد وضح الإمام القرطبي طرفا من اداب الحديث مع النبي صلى الله عليه وسلّم ومخاطبته بقوله: (أي لا تخاطبوه: يا محمد ويا أحمد ولكن يا نبي الله، ويا رسول الله توقيرا له، وأضاف- رحمه الله- أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه فيما بينهم وهو الخلوة من مراعاة أبهة النبوة وجلالة قدرها وانحطاط سائر الرتب وإن جلّت عن رتبتها) «2» . كما ذكر الشيخ السعدي- رحمه الله- تعالى- في تفسير قوله- تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ما نصه: (ولا يجهر له بالقول بل يغضّ الصوت ويخاطبه بأدب ولين وتعظيم وتكريم ولا يكون الرسول كأحدهم بل يميزه في خطابه كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة ووجوب الإيمان به والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به) «3» . 2- أن الآية لم تسوّ بين مقام النبوة، ومقام أي فرد من أفراد الأمة مهما عظم شأنه وجل قدره، حيث نهت الآية أن نسوّي حديثنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم بحديثنا مع جميع أفراد الأمة بدون تقيد لمنزلة أي فرد من أفراد الأمة لقوله- تعالى-: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، فدلت الآية أن   (1) انظر «الجامع لأحكام القران» (13/ 306- 307) . (2) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 306) . (3) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (799) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 قدر أي أحد من أفراد الأمة لا يستوي مع قدر النبي صلى الله عليه وسلّم ولا ينبغي له من التعظيم والإجلال ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلّم. ويتفرع على ذلك أننا يجب أن نميز بين حديثنا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم وحديثنا عن أشراف وسادات الناس. فيجب أن يكون هناك فرق في التعظيم والإجلال والإكبار بين النبي صلى الله عليه وسلّم وغيره، ولو كان من عظاماء المسلمين، لأننا إن لم نفعل ذلك وقعنا في النهي؛ قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. نقل القرطبي كلاما نفيسا عن القاضي أبي بكر ابن العربي نصه: (حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به) «1» . وقد نوّه ابن كثير- رحمه الله- عن وجوب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم بعد مماته بقوله: (قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلّم كما كان يكره في حياته صلى الله عليه وسلّم لأنه محترم حيّا وفي قبره صلى الله عليه وسلّم دائما) «2» . 3- من أبلغ مظاهر تعظيم الآية لمقام النبي صلى الله عليه وسلّم، أن جعلت عقوبة رفع الصوت عليه هي حبوط العمل، وفي هذا أبلغ التعظيم للمحظور، وهو رفع الصوت، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري) «3» . وأعتقد أن العقوبة المترتبة على رفع الصوت، لا يشترط لها غضب النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا لم يغضب لم تكن هناك عقوبة، ولكني أعتقد أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم بعدم رفع الصوت عليه هو أمر مطلوب لذاته وهو من مقتضيات الإيمان، ويعاقب تاركه وإن لم يتأذّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والدليل على ذلك أن الآية لم تقيد حبوط العمل بغضب النبي صلى الله عليه وسلّم ولكن قيدته فقط برفع الصوت. [ فوائد الآية الثانية: ] أما فوائد الآية الثانية: وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ ... [الحجرات: 3] : فتتلخص في عظيم الحث على التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم بغضّ الصوت عنده، مع أبلغ الثناء   (1) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 307) . (2) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 208) . (3) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 208) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 على من التزم هذا الأدب، يتبين ذلك من: 1- حثت الآية المسلمين على مطلق غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهي أبلغ من الآية التي قبلها في وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم حيث زكّت من يغض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم سواء تكلم معه أم مع غيره في مجلسه، كما لم تقيد خفض الصوت بحيث يكون أخفض من صوت النبي صلى الله عليه وسلّم ولكنها حثت على مطلق خفض الصوت بغض النظر عن صوت النبي صلى الله عليه وسلّم في المجلس. وهذا ما كان يفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان يخفض صوته جدّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآيات الكريمات حتى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يطلب منه إعادة ما يقول ليفهم منه، ذكر ذلك في الحديث الذي أوردته عن سبب نزول الآية: (فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) . 2- بينت الآية الكريمة أن خفض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي من علامات تقوى القلوب، بل إن هذه القلوب قد طهرها الله من كل قبيح ورذيل بفضل التزام أصحابها غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قوله: (طهرهم من كل قبيح وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى) «1» . 3- ختمت الآية بذكر عظيم الثواب الذي أعده الله عزّ وجلّ لمن تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث معه بقوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، فقد وعدهم الله بأمرين عظيمين، هما: المغفرة من ذنوبهم، ومن لوازمه ستر الذنوب ومحوها، والأجر العظيم، أي الجزاء الذي يتصف بالعظمة في قدره وكمّه ومن لوازمه دخول جنات الفردوس التي أعدها الله لعباده الصالحين. وتدبر أخي القارئ عظيم بركة التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم في مجال واحد من مجالات التأدب وهو خفض الصوت، قلب تعمره التقوى قد تنزه عن الشكوك والشبهات، ذنوب قد غفرت ومحيت من الصحائف فابيضت تلك الصحائف لخلوها من الذنوب والآثام، أجور عظيمة قد كتبت في تلك الصحائف فازدادت بياضا على بياضها وجمالا على جمالها، فما بالك أخي القارئ لو استوفى المسلم جميع الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلّم ماذا سيكون جزاؤه وعاقبته في الدنيا والآخرة؟!.   (1) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 308) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ثالثا: تفاعل الصحابة رضي الله عنهم مع الآية الكريمة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكّسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل الأرض، فأتى الرّجل فأخبره أنّه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس فرجع المرّة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: «اذهب إليه فقل له: إنّك لست من أهل النّار، ولكن من أهل الجنّة» «1» . وقد أوردت هذا الحديث كشاهد على تفاعل الصحابة رضي الله عنهم مع ايات الذكر الحكيم لأثبت أن الصحابة فهموا الغرض الحقيقي من نزول القران الكريم، فكانوا يقفون عند كل اية ليتدبروا ما فيها من أحكام تشريعية وتكليفات إلهية، فما كان في استطاعتهم فعلوه في الحال، كالنهي مثلا عن شرب الخمر، وما كان في غير مقدورهم- حسب فهمهم للآية- شكوا حالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليجدوا عنده المخرج، ومثاله ما رواه البخاري، عن عبد الله قال: (لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيّنا لم يظلم؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ) «2» . ومثاله أيضا الحديث الذي معنا، ونذكر سريعا طرفا من فوائده: [ بعض فوائد الحديث ] الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- تفقّد النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه وسؤاله عن الغائب منهم لما ثبت في رواية مسلم: (فسأل النبي صلى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ فقال سعد: إنه كان لجاري وما علمت له بشكوى) «3» . وهذا يدل على حب النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه واعتنائه بهم. 2- عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه ورغبته في إدخال السرور عليهم والمبادرة إلى ذلك ما أمكن، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يستدع ثابت بن قيس ليبشره بالبشارة العظيمة، ولكنه رد إليه سعد بن معاذ مرة أخرى ليبشره، وأظن أن النبي صلى الله عليه وسلّم فعل ذلك حبّا منه أن يخرج ثابت ابن قيس من بيته- الذي حبس نفسه فيه- فرحا مرفوع الرأس مستبشرا بالجنة، بعد أن   (1) البخاري، كتاب، المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3613) . (2) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: ظلم دون ظلم، برقم (32) . (3) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، برقم (119) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 مكث في بيته منذ أن نزلت الآية منكس الرأس. الفائدة الثانية: في مناقب ثابت بن قيس رضي الله عنه: 1- خوفه الشديد من غضب الله- سبحانه وتعالى- عليه وعاقبة السوء ودليله: أ- اعتزاله الناس جميعا، حتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم. ب- جلوسه في بيته منكس الرأس، قال الراوي: (فوجده جالسا في بيته منكّسا رأسه) . 2- تعظيمه لأوامر الله- سبحانه وتعالى- ونواهيه، حيث وصف ما وقع فيه من رفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم بكلمة واحدة بليغة (شر) . 3- تيقنه من خبر القران الكريم وتصديقه المطلق به، لقوله: (كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله) . فذكر (قد) لإفادة التحقيق، بالإضافة إلى ذكره (حبط) بصيغة الماضي، فلم يقل مثلا (فربما يحبط عملي) . وورد في رواية مسلم: (فأنا من أهل النار) . 4- تحقيره لأمر الدنيا ومن يركن إليها، حيث حكم على نفسه بعد أن تيقن أن عمله قد حبط، قال: (وهو من أهل الأرض) ، ويستنبط منه، تعظيمه لأمر الآخرة وأهلها. 5- أدبه مع التنزيل وعدم اعتراضه على أوامر الله- سبحانه وتعالى- حيث إن ثابت بن قيس كان جهير الصوت خلقة وجبلّة، قال الإمام النووي- رحمه الله- تعالى: (وكان ثابت رضي الله عنه جهير الصوت وكان يرفع صوته وكان خطيب الأنصار) «1» . فلم يقل ثابت عندما نزلت الآية: (وما ذنبي أن صوتي جهير، وكيف يعاقبني الله على أمر قد جبلت عليه) . ولم يقل: (أنا لا أرفع صوتي من قلّة أدب ولكني تعودت على ذلك من كوني خطيبا) . هذه الاعتراضات كلها لم يفكر فيها الصحابة بل لم تخطر على بالهم وعقولهم، فليس عندهم إلا الأدب والتسليم التام، وهو ما ينقصنا في هذه الأيام. 6- أنه من أهل الجنة، وهي منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه ولم تكن البشرى أنه من أهل الجنة فحسب بل جاءت بما هو أعظم من ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلّم: «إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة» «2» .   (1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/ 134) . (2) البخاري، كتاب: تفسير القران، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، برقم: (4846) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 7- أنه ما كان يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا لعذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما افتقده قال لسعد بن معاذ كما في رواية مسلم: «يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟» . الفائدة الثالثة: 1- رجاحة عقول الصحابة رضي الله عنهم وكراهيتهم أن يتلبسوا بهيئة الرجل الذي وقع في المعصية، ولو كان على سبيل الرواية، وذلك من شدة كراهيتهم للمعاصي، ودليله من الحديث عدول الراوي عن نقل كلام ثابت بن قيس رضي الله عنه بصيغة المتكلم بل قال: (شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل الأرض) ، وهذا الالتفات كثير في السنة النبوية الشريفة. ويتفرع عليه سفاهة عقل وسوء أدب من يقع في المعاصي ويحكيها بصيغة المتكلم، بل ويتباهى بها، وهذا يدلنا على البون الشاسع بين الصحابة رضي الله عنهم وبيننا. 2- تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لأمر الجنة، حيث وصف الراوي قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» ، بالبشرى ووصف تلك البشرى بالعظيمة. الفائدة الرابعة: هذا الحديث يدل قطعا على أن اية الباب إنما نزلت في حق من يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم من غير قصد سوء الأدب، ودليله أن ثابت بن قيس رضي الله عنه حمل الآية على نفسه وهو قطعا ما كان يرفع صوته بسوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم ولذلك قال القرطبي ما نصه: (وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون) «1» . الفائدة الخامسة: كل من ارتكب المعاصي ولم يتب منها فهو في شر، حتى يرجع إلى الله سبحانه وتعالى- مهما بلغت منزلته؛ لأن ثابت بن قيس، وهو صحابي جليل لما سأل عن حاله قال: (شر) وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلّم ولم ينكره، كما يؤخذ منه أن المعاصي شر، وبذلك تكون الطاعات- التي هي ضد المعاصي- كلها خير، لما تسببه للعبد من سعادة في الدنيا والآخرة. 4- تحريم التقديم بين يديه صلى الله عليه وسلّم: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) [الحجرات: 1] . الشاهد في الآية:   (1) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 307) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقد ذكر العلماء- رحمهم الله- تعالى- أقوالا عديدة في معنى التقديم بين يدي الله ورسوله، كلها متقاربة المعنى أذكر منها: 1- لا تسارعوا في الأشياء بين يديه بل كونوا تبعا له في جميع الأمور. 2- لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقيل: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه صلى الله عليه وسلّم. 3- لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. 4- لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله، وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا، ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلّم فقد قدمه على الله- تعالى لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم إنما يأمر عن أمر الله عزّ وجلّ. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: وجوب تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم حيث نهت الآية، أن نقول حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم وأن نفعل حتى يفعل، فإذا كان النهي عن القول أو الفعل حتى يفعل أو يقول صلى الله عليه وسلّم فمن باب أولى أن يعظم النهي إذا قال أو فعل صلى الله عليه وسلّم وإذا كان المسلمون لا يسعهم أن يقولوا أو يفعلوا قبل قول الرسول صلى الله عليه وسلّم وفعله فهل يسعهم أن يجانبوا قوله أو فعله بعد تحققهما. ويتفرع على ذلك: تحريم العدول عن سنة النبي صلى الله عليه وسلّم القولية أو الفعلية لقول أي أحد ولو كان من العلماء المشاهير، وهذا هو نهج أهل السنة والجماعة، فإنهم قد اتفقوا على أن الحديث إذا صح فهو مذهبهم. كما يتفرع عليه وجوب التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن أمر الله بعدم التقديم على النبي صلى الله عليه وسلّم بقول أو فعل لهو من أعظم الآداب، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى: (هذه ايات أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلّم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام) «1» . وقال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (هذا متضمن للأدب مع الله- تعالى ومع رسول الله صلى الله عليه وسلّم والتعظيم له واحترامه وإكرامه) «2» . الفائدة الثانية: جاءت الآية الكريمة بأبلغ الحث على عدم التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومن مظاهر ذلك: 1- ابتداء الآية بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاسترعاء سمع المؤمنين   (1) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 206) . (2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (799) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وانتباههم، وبيان أن طاعة الأمر الذي سيتلى هو من مقتضيات الإيمان ولوازمه، وأن عدم الامتثال لهذا الأمر يقدح في كمال إيمان العبد. 2- اقتران النهي عن التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنهي عن التقديم بين يدي الله عزّ وجلّ. ولا يخفى ما في ذلك من تعظيم لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، وفيه أبلغ الحث على طاعته والتأدب معه، كما فيه إشعار أن الذي يمتثل أمر الله عزّ وجلّ آناء الليل والنهار ولا يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقد عصى الله عزّ وجلّ وأنه في الحقيقة لم يمتثل أمره- سبحانه وتعالى-؛ لأن الآية لم تفرق بين طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، فهما في وجوب التعظيم والامتثال سواء، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو إلا مبلغ عن ربه- سبحانه وتعالى- يصدّق ذلك قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) [النساء: 80] . ويتفرع عليه وجوب عدم التفريق بين أوامر القرآن، وأوامر السنة الصحيحة، لا من حيث الحجية ولا من حيث الوجوب، ولا من حيث جواز نسخ أحدهما للآخر؛ لأن الآية إنما ذكرت تحريم التقديم بين يدي الله (القرآن) ويدي النبي صلى الله عليه وسلّم (السنة الصحيحة) في نهي واحد إلماحا بالمساواة بين القرآن والسنة من حيث الأمور التي ذكرتها، وصدق من ذكر أن المصدر الأول للتشريع هو القرآن والسنة، ولم يجعل السنة مصدرا ثانيا. 3- أمرت الآية المؤمنين بتقوى الله عزّ وجلّ بعد الأمر بعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، إشعارا بأن عدم التقديم هو من تقوى الله عزّ وجلّ وأن العبد كلما زادت تقواه لله كلما زاد حرصه على امتثال أوامر الله ورسوله وتأدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلّم. 4- اختتمت الآية الكريمة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وفي هذا أبلغ الحث على عدم مبادأة الله ورسوله بقول أو فعل؛ لأن من لوازم علم الله وسمعه أنه سيجازي الذي امتثل أوامره خيرا وسيعاقب الذي عصاه بما يستحق من العذاب والنكال. الفائدة الثالثة: من مظاهر عدم تقديم الصحابة رضي الله عنهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلّم ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدريّ قال: (كنّا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إنّ سيّد الحيّ سليم، وإنّ نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنّا نأبنه «1» برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا، فلمّا رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟   (1) أي: ما كنا نظنه يرقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قال: لا ما رقيت إلّا بأمّ الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتّى نأتي أو نسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فلمّا قدمنا المدينة ذكرناه للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «وما كان يدريه أنّها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم» ) «1» . وهو حديث يبين بجلاء ما كان عليه الصحابة من الأدب الجم مع النبي صلى الله عليه وسلّم وعدم التقديم بين يديه في أي أمر من الأمور، وشاهده من الحديث أن هؤلاء النفر من الصحابة قد أبوا أن يأكلوا شيئا من قطيع الغنم حتى يأتوا الرسول صلى الله عليه وسلّم ويسألوه عن مشروعية أخذ الأجر على الرقية. ويتفرع عليه ما نحن فيه من سوء الأدب مع مقام النبوة ليس بعدم التقديم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم بل في الجدال في سنته والسعي في نقضها والمجادلة في حجيتها. وغير ذلك كثير.   (1) البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب، برقم (5007) ، ومسلم، كتاب: السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 رابعا: ألطف الخطاب في القرآن حتى عند معاتبته صلى الله عليه وسلّم 1- اللطف عند العتاب: لم يقتصر لطف الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم على دفع ما ظاهره تكذيبه، أو عدم الخطاب بما يوهم الهجر، ولكن تعدى خطاب القرآن إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، تعدى إلى ما هو أجمل وأتم، تعدى إلى اللطف عند العتاب، وهل في العتاب رقة في التعبير؟ نعم إذا كان العتاب بين حبيب وحبيبه، إذا كان العتاب من الله- سبحانه وتعالى إلى صفوته من خلقه وخليله صلى الله عليه وسلّم وسنضرب لذلك مثلين من كتابه العزيز. الشاهد الأول: قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) [التوبة: 43] هذا مثال للطيف عتاب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلّم أذن لطائفة من المنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، قال القرطبي- رحمه الله-: «قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون» «1» . ووجه اللطف في هذا العتاب واضح جدّا: وهو أن الله عزّ وجلّ بدأ العتاب الكريم بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلّم بعفو ربه، ذكر ابن كثير عن عون قوله: «هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذه؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة» ، كما ذكر أيضا قول قتادة: «عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النّور: 62] » «2» . وقال القرطبي: (أي سامحك الله وغفر لك ما أجريت، لم أذنت لهم في التخلف، وكان عليك أن تمتحنهم ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق) «3» . وقال القرطبي أيضا: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ هو افتتاح الكلام كما يقول: أصلحك الله   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (8/ 155) . (2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 361) . (3) انظر الجامع للحكام القرآن (8/ 154) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وأعزك ورحمك، وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا) ، وأضاف: (قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى فقدم له العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب) «1» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم إذ دعا له بعفوه، وتظهر عظمة هذا الدعاء أن جعل فاعل عفا هو لفظ الجلالة. وقد يكون قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ من باب الإخبار لا الدعاء، فيكون هذا أبلغ في الحب والشفقة إذ أخبره- سبحانه وتعالى- أنه عفا عنه بالفعل الماضي قبل أن يوجّه له العتاب حتى يتيقن صلى الله عليه وسلّم أن هذا العتاب لن يؤثر مطلقا في مكانته عند ربه عزّ وجلّ. الفائدة الثانية: حاجة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى عفو ربه الحنان المنان، ولذلك دعا الله له بالعفو. ويتفرع عليه حاجة الناس كلهم جميعا إلى عفو ربهم من لدن آدم حتى أدنى رجل من المسلمين، وعلى المسلمين أن يدعوا ليل نهار بعفو ربهم عسى أن يشملهم ويعمهم، ومن سوء الأدب أن يشعر المسلم لصلاحه وتقواه أنه في غنى عن عفو ربه. الفائدة الثالثة: ثبوت صفة العفو لله عزّ وجلّ، ويتفرع على ذلك، أن على المسلم ألا ييأس من عفو ربه مهما بلغت ذنوبه، وعليه أن يعلم أن اليأس من العفو هو كفر يخرج من ملة الإسلام؛ قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] . الفائدة الرابعة: عدم علم النبي صلى الله عليه وسلّم لأمور الغيب- إلا ما علّمه له الله- حيث أثبتت الآية أن إذن النبي صلى الله عليه وسلّم للبعض في التخلف عن الغزو جعله لا يعلم الصادق منهم والكاذب، وهذا الغيب الذي لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلّم هو غيب نسبي، فمن باب أولى فإنه صلى الله عليه وسلّم لا يعلم الغيب المطلق. الفائدة الخامسة: ذم صفة الكذب أعظم الذم، حيث إن الله- سبحانه وتعالى- قد وصف بها الذين أظهروا طاعة الله ورسوله وأضمروا في قلوبهم المعصية، قال مجاهد: (نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا) «2» .   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (8/ 155) . (2) انظر تفسير الطبري (10/ 142) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 الشاهد الثاني: قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) [عبس 1- 10] ، لا خلاف في سبب نزول هذه الآية، كما لا خلاف فيمن نزلت فيه الآية، وتتشابه أقوال المفسرين في بيان ذلك، وأكتفي بما قاله الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يوما يخاطب أحد عظاماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن شيء ويلحّ عليه، وودّ النبي صلى الله عليه وسلّم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله الآية) . انتهى «1» . ثانيا: وجه اللطف في العتاب: وجه اللطف في هذا أن الله- سبحانه وتعالى- وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم العتاب بصيغة ضمير الغائب، قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) ، ولما انتهى العتاب وجه إليه الخطاب بصيغة المخاطب، قال- تعالى-: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) [عبس: 3] ... إلى آخر الآيات، وهذا يدل على عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلّم، وعظيم شفقته به أن توجّه إليه كلمة تحزنه مع بيان علو منزلته عند ربه، قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (أنزل الله على نبيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيما له، ولم يقل: عبست وتوليت ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: وَما يُدْرِيكَ) «2» . بعض فوائد الآيات الكريمات: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- عناية الله- سبحانه وتعالى- به صلى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك من: أ- تربيته أحسن التربية، حيث لامه- سبحانه وتعالى- في كل ما فعل مع ابن أم مكتوم رضي الله عنه، ويتضمن أمرين: الأمر الأول: في الوجه وهو العبوس، والثاني: بالجسد كله وهو الإعراض.   (1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 471) . (2) انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 213) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 ب- لما كان توجيه العتاب قد يفهم منه وقوع النبي في التقصير في الدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى-، بيّن- سبحانه وتعالى- أن هذا العتاب نتج بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلّم حّمل نفسه ما لم يكلف شرعا وهو التصدي للكافر، قال- تعالى-: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلّم الأمر السهل، وهو إجابة سؤال المسلم، وتعرض للصعب، وهو دعوة الكافر للإسلام. ج- إرادة التهوين على النبي صلى الله عليه وسلّم وتسليته ورفع ما يشق عليه، فبين الله عزّ وجلّ له أنه رسول ومبلغ، وليس عليه هداية الناس، إنما هذا لله وحده، قال تعالى: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) . 2- ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم من اجتهاد في تعليم الأمة حيث كان يقصده كل أحد من الناس- حتى الضرير الذي يشق عليه ذلك- ليسأله عن حاجته. 3- صحة وقوع الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلّم، فيما لا وحي فيه- وأن الله عزّ وجلّ لا يقره على اجتهاد صدر منه إلى خلاف الأولى، وموضع الاجتهاد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى أن الاسترسال مع الكافر ومحاولة هدايته إلى الإسلام أولى من إجابة سؤال المسلم الحريص على أمر دينه، فالمسلم الذي جاء بمحض إرادته يسأل لا يخشى عليه الفتنة، فالأمر بالنسبة إليه فيه سعة. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلّم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله- تبارك وتعالى- عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة) «1» . 4- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئا من أمر الوحي أبدا، وأنه قد أدى أمانة تحمّل القرآن وتبليغه أحسن ما يكون، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتم شيئا من الوحي أو كان يسعه أن يكتم شيئا، لكتم آيات العتاب. 5- بذل النبي صلى الله عليه وسلّم غاية جهده لنشر دين الله عزّ وجلّ والدعوة إلى الإسلام، واستنقاذ البشر من الكفر والضلال، ولو تعرض في سبيل ذلك لأبلغ الأذى المادي والمعنوي، المادي: كما حدث له صلى الله عليه وسلّم في الطائف، أما المعنوي: لما عرض نفسه صلى الله عليه وسلّم على القبائل، وفي الحادثة التي معنا التي تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتصدى للكفار، وقيل: معنى يتصدى أي: يتعرض لهم كما يتعرض العطشان للماء، وانظر كيف كان حاله صلى الله عليه وسلّم وهو يدعوهم   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 213) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 للإسلام، وكيف كان حالهم هم، أشد حالات الزهد والإعراض وعدم المبالاة والاكتراث لما يسمعونه، وهي معان يدل عليها جميعا قوله تعالى-: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) ، ويدل على حالة النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يدعوهم قوله- تعالى-: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وصدق من قال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] . الفائدة الثانية: عدم استحياء الله- تبارك وتعالى- من الحق، حيث عاتب أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلّم. الفائدة الثالثة: حبّ الله- تبارك وتعالى- إظهار الحق للناس وتعليمه لهم، فلم يكتف بتوجيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلّم سرّا أو إلهاما أو مناما، ولكن أنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، وأظهر في هذا القرآن الحقّ الذي لم يتضرر منه صاحبه، فالأعمى لا يتضرر إذا عبس أحد في وجهه. الفائدة الرابعة: غنى الله- سبحانه وتعالى- عن إيمان الناس ولو كانوا سادة في أقوامهم، أغنياء في أموالهم، وأن من أعرض عن الله أعرض الله عنه ولم يبال به، ويتبين ذلك من قوله تعالى: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ، وفي عتاب النبي صلى الله عليه وسلّم بسبب انشغاله بالكافر عن المسلم. الفائدة الخامسة: ميزان الشرع في التفاضل بين الناس هو تقوى الله وإقبالهم عليه، وحرصهم على الخير ولو كانوا أشد الناس فقرا. الفائدة السادسة: تزكية ابن أم مكتوم رضي الله عنه أبلغ التزكية ووجه ذلك: أ- ذكره بصفته في القرآن الكريم، ولا يعلم في ذلك خلاف أنه هو المقصود من الآية. ب- عناية الله- سبحانه وتعالى- به وبأمثاله من الفقراء- إذ عاتب نبيه صلى الله عليه وسلّم فيه. ج- بيان حرصه على ما ينفعه؛ إذ جاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم سعيا مع أنه ضرير، في حالة كونه يخشى، قال القرطبي- رحمه الله- في تفسير كلمة يَخْشى أي يخاف الله. وأظن أن هذا تفسير ببعض ما يحتمله اللفظ، أما جمال اللفظ فهو أن نفسره بكل ما يحتمله، خاصة أن الله سبحانه وتعالى- لم يقيده بمعنى دون معنى، فنقول: إنه- رضي الله عنه- كان يخشى الله ويخشى الطريق، ويخشى فوات المصلحة بعدم وجود النبي صلى الله عليه وسلّم، ويخشى أن يجبيبه النبي صلى الله عليه وسلّم بما لا يستطيع فعله. وإثبات كل هذه المعاني أبلغ في تزكية ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وتصوّر حاله أثناء مجيئه، وأوجه في توجيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الفائدة السابعة: توجيهات إلى أهل العلم وأصحاب الفتوى. 1- يجب أن يعتقدوا أن وقوع الخطأ منهم أمر وارد، سواء في الاجتهاد أو معاملة الناس، وعليهم أن يقبلوا التوجيه ولا يستنكفوا عنه. 2- إرشاد المتعلم أو السائل بما يزكيه ويذكّره، ولو كان ذلك زائدا على قدر سؤال السائل. 3- على العالم أن يتحلى عند التعامل مع الناس- مهما قلّت مستوياتهم- ببشاشة الوجه والإقبال على السائل، وأنه ليس من تقوى الله التجهم والعبوس والانشغال عن السائل، فلربما كره السائل- خاصة لو كان من عوام الناس- أهل العلم إذا لم يعطه العالم حقه من الوقت والاهتمام. 4- العالم المحب للخير والدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى- لا يقتصر عمله فقط على ما أوجب الله عليه فعله، ولكن عليه أن يجتهد في كل أبواب الخير، حتى لو كلفه ذلك بعض الإيذاء المادي أو المعنوي، شريطة ألا يضيع ما هو أوجب منه. ودليله أن الله عز وجل ما كلف نبيه- عليه الصلاة والسلام- أن يتعرض لهداية الكفار كما كان يفعل ويشق على نفسه، ومع ذلك حمل نفسه ما يجهدها حبّا للخير، وتوجه إليه العتاب الرباني لأنه انشغل بذلك عما هو أوجب منه، وهو إجابة سؤال المسلم، ولم يكن العتاب لمجرد التصدي للكافر. الفائدة الثامنة: توجيهات إلى عموم المسلمين: 1- على المسلم أن يجد في نفسه التزكية أو التذكرة بعد السماع والأخذ من أهل العلم الربانيين، ومن حرم ذلك فقد حرم خيرا كثيرا، وعليه أن يفتش في قلبه مما عسى أن يكون منع بسببه من التزكية. 2- وجوب أن يسلك المسلم في عتابه ولومه مسلك الأدب، خاصة لو كان الموجه إليه العتاب رفيع القدر، لأن هذا أحرى في قبول الحق وعدم رد النصح والإرشاد. 3- عدم الاستهانة بأصحاب العاهات وعدم احتقارهم أو التهوين من شأنهم، خاصة لو كانوا على العلم حريصين على التعلّم مقبلين. 4- لا ضرر أن يقال للذي فقد بصره: أعمى، وليس هذا من الغيبة شريطة أن يكون في هذا الوصف مصلحة شرعية وألا يتأذى المسلم من هذا الوصف وألا يكون إطلاق هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 الوصف للاحتقار أو الامتهان فإن كان لذلك فهو محرم شرعا. 5- الحث على طلب العلم وتحمل المشاق في سبيل ذلك، فإذا كان الأعمى مطلوب منه السعي في طلب العلم، فيجب على المبصر الاجتهاد في ذلك من باب أولى. 6- من الأدب أن يسعى السائل للمسئول والمتعلم للعالم. 7- لا يعيب المسلم أن يكون جاهلا بأمر من أمور دينه، ولكن العيب ألا يجتهد في تحصيله وطلبه. كما يؤخذ من الآية أن شفاء العي السؤال، ودليله أن الله زكى ابن أم مكتوم، ولم يعتب عليه أنه جاء جاهلا بأمر من أمور دينه. الفائدة التاسعة: التزكية غير التذكرة وأن حاجة الكافر إلى التزكية مقدمة على حاجته للتذكرة، وأن الذي يمنع وصول الإيمان إلى الكافر هو عدم زكاء نفسه، والفرق بين تزكية المسلم وتزكية الكافر أن المسلم معه أصل التزكية بتوحيده وبالعلم تزيد هذه التزكية التى توصله إلى التذكرة، أما الكافر فليس معه شيء منها وبالتالي لن ترجى منه التذكرة حتى يتزكى بالإيمان. 2- لم يناد باسمه كبقية الأنبياء: لم يناد النبي في القرآن باسمه أبدا، وإنما نودي بصفة الرسالة، أو النبوة، وإذا ذكر باسمه يكون بايات خبرية كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح: 29] ، وكقوله- تعالى-: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمّد: 2] . 3- عدم مخاطبته بما يوهم الهجر: قال تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضّحى: 3] . وسيأتي الكلام عن الآية الكريمة مبسوطا في باب كذب ادعاء الكفار أن الله قد قلاه صلى الله عليه وسلّم. 4- دفع ما ظاهره تكذيبه: قال- تعالى-: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) [المنافقون: 1] . هذه الآية الكريمة تحتاج إلى تأمل وتدبر من كل مسلم يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم، والسبب في ذلك أنها توضح بجلاء مدى عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلّم، ومكانته العالية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الرفيعة عند ربه التي لا يعلوها أحد في الأولين والآخرين، وأن الإرادة الحكيمة لله عز وجل قد اقتضت ألا يتوجه إليه صلى الله عليه وسلّم أي خطاب- ولو كان على لسان الكفار- فيه أدنى إيذاء أو شبهة تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلّم، فلو كان الكلام على لسان الكفار أو المنافقين دفع الله شبهة المعاندين وأبطلها، كما بينت ذلك مفصلا في باب «دفع شبهات الكفار» ، وإن كان سياق الكلام حكاية من الله عز وجل عن أحوال المعاندين، دفع الله عز وجل ما يوهم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلّم، ودليله من آية الباب: أن المنافقين لما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليشهدوا أنه رسول الله، ولما كانت هذه الشهادة التي قالوها بألسنتهم تنافي ما في قلوبهم من التصديق، وأراد الله أن يكذبهم في شهادتهم دون أن ينسحب التكذيب على صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم، ذكر القرآن الكريم جملة اعتراضية بين شهادة المنافقين، وتكذيب الله عزّ وجلّ لهم في شهادتهم، بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] ، وبذلك أثبت القرآن الكريم شهادة المنافقين وتكذيبها دون المساس بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، وهذا من أكبر الدلالات على عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلّم عند ربه. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه، حيث ذكرت الآية علم الله برسالة النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن تذكر كذب المنافقين في شهادتهم، كأن الله- سبحانه وتعالى- أراد أن يقول لنبيه صلى الله عليه وسلّم: لا يهمنك تكذيب المنافقين لك وإنكارهم رسالتك، فإن ذلك لا يضيرك، فيكفيك أن الله- سبحانه وتعالى- يعلم أنك رسوله، فكفى بالله شهيدا على ذلك. وفي هذا أبلغ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم، وتطمينه أن تكذيب المنافقين له لا يقدح في رسالته. وهذه الفائدة تختلف عما ذكرته آنفا، فتدبر. الفائدة الثانية: في الآية الكريمة بيان ظاهر لقبح ما عليه المنافقون ويظهر ذلك من: 1- قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ بينت الآية أن المنافقين هم الذين سعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فهو لم يذهب إليهم، ولم يستدعهم، فكان حريّ بمن جاء بنفسه للشهادة من تلقاء نفسه، أن يكون صادقا في شهادته وأن تكون هذه الشهادة مطابقة لما في قلبه، ولكن جاء الأمر منهم عكس ذلك تماما. 2- صيغة شهادتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم، وهي قول الله تعالى على لسانهم: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وفيها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 أ- أتوا بلفظ الشهادة التي هي أعظم ما يتكلم به الإنسان، فلم يقولوا: «نعلم إنك لرسول الله» . فكذبهم في شهادتهم- من حيث مخالفتها لما في قلوبهم- أشدّ قبحا. ب- أتوا بتوكيد شهادتهم بمؤكدين هما: حرف التوكيد «إن» ، وباللام الموطئة للقسم في لَرَسُولُ اللَّهِ. ج- اجتراؤهم على الله- سبحانه وتعالى-، حيث إن أمرهم مع الرسول صلى الله عليه وسلّم لا يخرج من حالين: إما أنهم يعلمون أنه رسول الله حقّا ولكنهم كذبوه، وإما أنهم ينكرون أنه رسول الله ومع ذلك شهدوا زورا وبهتانا- حسب اعتقادهم- أنه رسول الله، وفي كلتا الحالين هو اجتراء على الله- جل في علاه-، يستحق فاعله العذاب والنكال في الدنيا والآخرة. 3- صيغة رد القرآن عليهم، حيث رد الله عليهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وفيها أسوأ التقبيح لصنيعهم من حيث: أ- شهادة الله العظيم عليهم، وكفى بها شهادة، والله لا يفلح أحد شهد الله عليه بسوء اعتقاده، ولو استشهدت الآية على كذب المنافقين بأحد دون الله- سبحانه وتعالى- لكان الأمر أهون من ذلك بكثير، لأن الذي شهد على المنافقين هو أصدق الشاهدين، وهو الذي يملك نواصي المشهود عليهم وإليه مالهم وعليه حسابهم. ب- توكيد شهادة الله- سبحانه وتعالى- بأداة التوكيد «إن» واللام الموطئة للقسم، في قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. ج- وصفهم بأقبح الصفات وهي الكذب. وهذا الكذب ينسحب على أمرين في المنافقين: الأمر الأول: شهادتهم الزور التي تخالف ما يعتقدونه، الأمر الثاني: اعتقادهم الفاسد كذب النبيّ صلى الله عليه وسلّم، ومن الجميل أن يعود لفظ لَكاذِبُونَ على الأمرين معا. الفائدة الثالثة: إعجاز القرآن الكريم، ويتضح إعجازه في هذه الآية الكريمة من جهتين: الجهة الأولى: الإعجاز اللفظي البلاغي، حيث استل النبي صلى الله عليه وسلّم مما ظاهره تكذيبه، كما قابل شهادة المنافقين بشهادة الله- سبحانه وتعالى- بنفس النظم دون أي تكلف في إثبات الجملة المعترضة، أو شعور القارئ بأي ملل من تكرار نظم الشهادتين بل القارئ لا يكاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 يفهم مقصود الآية وما فيها إلا بحسن تدبر وتأمل، وهذا هو مكمن الجمال والكمال في آيات القرآن الكريم. الجهة الثانية: بيان ما تنطوي عليه قلوب المنافقين، مما لا يمكن أن يطلع عليه إلا صاحب هذا القلب أو الذي خلقه وهو عالم الغيب والشهادة- جل وعلا-، ومن قرأ سورة «المنافقون» حتى آخرها رأى العجب في ذلك. ويتفرع عليه بيان عناد أهل الزيغ والضلال، حيث تتلى عليهم الآيات البينات التي تخبرهم بما في صدورهم وقلوبهم مما لا يعلمه إلا الله، ومع ذلك يصرون على الحنث العظيم وهو الكفر بالله- سبحانه وتعالى-. الفائدة الرابعة: تعظيم رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم، حيث أضافها الله عز وجل إلى نفسه الكريمة المقدسة، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، كما أكدها بمؤكدين، سبق الإشارة إلى ما يماثلهما. ويتفرع عليه أمر عظيم، وهو التهديد الشديد لمن كذب برسالة النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن لسان حاله يقول: إن علم الله- سبحانه وتعالى- لا يوافق الواقع، حيث إن الواقع- وحسب اعتقاده الفاسد- أن محمدا صلى الله عليه وسلّم ليس برسول من عند الله، وهذا طعن عظيم في صفة من أوسع صفات الله- سبحانه وتعالى- وهي صفة العلم. الفائدة الخامسة: أفادتنا الآية في معرفة من هم المنافقون، فهم الذين يقولون بألسنتهم ما يخالف ما في قلوبهم، وإذا كان في أمر يتعلق بالعقيدة فهو نفاق اعتقادي يجعل صاحبه في الدرك الأسفل من النار، وإذا كان في أمر من السلوكيات فهو نفاق عملي، يجعل في صاحبه صفة من صفات المنافقين، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلّم من ذلك أشد التحذير في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» «1» . وأود أن أنبه هنا إلى سلوك قد يقع فيه البعض عمدا أو جهلا أو خطأ، وهو أن يظهر من كلامه أو على محيّاه تقوى وخوف من الله- سبحانه وتعالى- أكثر مما في قلبه، وأخشى أن يكون ذلك السلوك من النفاق الذي يؤدي بصاحبه إلى التهلكة.   (1) رواه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: علامة المناقب، برقم (34) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 ويتفرع على ذلك تحذير الأمة أشد التحذير من خطر المنافقين؛ لأنهم يكيدون لنا أعظم الكيد في الخفاء، ولسان حالهم ومقالهم يقول: إنهم معنا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، بل قد يظهرون من الغيرة على الإسلام ما لا يظهره أهله الصالحون. الفائدة السادسة: يؤخذ من الآية أن العلم أوسع من الشهادة؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- لما أراد أن يثبت رسالة نبيه صلى الله عليه وسلّم أعظم الإثبات، أثبتها بصفة العلم، ولم يقل: «والله يشهد إنك لرسوله» . وهذا هو الصحيح أن صفة العلم أوسع من الشهادة؛ لأن الشهادة فرع عن العلم، والعلم هو الأصل. أخي القارئ: من كل ما تقدم نعلم علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلّم بالنظر إلى آية واحدة فقط من القرآن الكريم، فكيف سيكون الأمر إذا تدبرنا جميع ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم وهو كثير. والذي يجب علينا تعلمه من هذه الآية ونلتزم به هو: كيف نتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلّم، بحيث يكون حديثنا كله عنه صلى الله عليه وسلّم ينضح بغاية التوقير والإجلال والإكبار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 خامسا: مظاهر حب الله- عزّ وجلّ- وعنايته به صلى الله عليه وسلّم 1- عموم اعتناء الله- عزّ وجلّ- به صلى الله عليه وسلّم: قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] . هذه الآية من أعظم الآيات التي تدل على كمال اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلّم حيث أثبتت الآية أنه صلى الله عليه وسلّم بمرأى ومسمع من الله تعالى، في كل أحواله وتقلباته صلى الله عليه وسلّم، في أولاه وأخراه، في حياته ومماته، قبل البعثة وبعدها، في حله وترحاله، في عاداته وعباداته، بل نجزم أن هذه العناية والرعاية الإلهية قد شملته صلى الله عليه وسلّم قبل ميلاده بقرون طويلة، ألم تر كيف اختار الله له نسبه الشريف، من لدن إبراهيم عليه السلام وحتى عبد المطلب، ودليله ما رواه مسلم، عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» . وقد حكمت بأن العناية والرعاية قد شملت كل ما ذكر؛ لأن الآية لم تأت مقيدة بزمن دون زمن، ولا بحال دون حال، قال تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، وقد أثبتّ ذلك في باب حفظه صلى الله عليه وسلّم منذ الصغر وباب ملء القلب إيمانا وحكمة، قال القرطبي رحمه الله في تفسيره للآية: (أي أنت بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل، وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحو طك ونحرسك ونرعاك) . انتهى «2» . وقال ابن كثير كلاما مشابها لما ذكره القرطبي، وقال الشيخ السعدي: (أي بمرأى منا وحفظ واعتناء بأمرك) . انتهى «3» . ويؤخذ من الآية كمال عصمة النبي صلى الله عليه وسلّم من الناس، وتمام عصمته من الزلات والهفوات، ورفعة منزلته وعلو شأنه، في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا مقام من رعاه الله وحفظه في كل أحواله. 2- حفظه صلى الله عليه وسلّم في الصغر: عن جابر بن عبد الله يحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه   (1) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلّم ... ، برقم (276) . (2) الجامع لأحكام القرآن (17/ 78) . (3) تيسير الكريم الرحمن (818) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 إزاره، فقال له العبّاس عمّه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة!! قال: فحلّه فجعله على منكبه فسقط مغشيّا عليه قال: فما رئي بعد ذلك اليوم عريانا) . [رواه مسلم] «1» . الشاهد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أغشي عليه بمجرد أن حل إزاره، وما كان ذلك إلا من الله، الحافظ له، قال الإمام النووي رحمه الله: (وفي هذا الحديث بيان بعض ما كرم الله- تعالى- به رسوله صلى الله عليه وسلّم، وأنه صلى الله عليه وسلّم كان مصونا محميّا في صغره عن القبائح وأخلاق الجاهلية) . انتهى «2» . والدليل أن هذه الواقعة قد حدثت في صغر النبي صلى الله عليه وسلّم، ما ورد في إحدى روايات مسلم: (لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلّم وعباس ينقلان الحجارة) ، ومعلوم أن واقعة إعادة بناء الكعبة كانت- قطعا- في صغر النبي صلى الله عليه وسلّم ونلخص مظاهر عناية الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم في هذه الواقعة في أمرين: الأمر الأول: أنه أغشي عليه، بمجرد أن تعرى، والإغشاء من الله، - تبارك وتعالى؛ لأن الحديث لم يبين بأي سبب كان الإغشاء إلا التعري، فعلمنا أن الإغشاء كان منة من الله، ووجه المنة أن يكون الإغشاء للستر، وفيه ضمان أنه ما تعرى إلا فترة وجيزة من الزمن؛ لأن الإغشاء قد حدث بعد التعري مباشرة، ورد في الحديث: «فجعله على منكبه فسقط مغشيّا عليه» . الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما رئي بعد ذلك عريانا، وهذا إطلاق لكل أنواع التعري، فلا يلزم من كونه صلى الله عليه وسلّم كان يجامع زوجاته أو يغتسل معهن أنه كان يرى عريانا. ونحكم بذلك؛ لإطلاق الحديث، ولأن عدم التعري حتى في حال الجماع والغسل هو من المروءة، وأولى الناس بصفات المروءة النبي صلى الله عليه وسلّم. ويجب على كل مسلم أن يتدبر هذا الحديث جيدا، فإذا كان الله- تبارك وتعالى- أبى إلا أن يحفظ نبيه صلى الله عليه وسلّم منذ صغره من أمر كان مشهورا في الجاهلية، فكيف كان حفظه- تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم في بقية شئونه، وفيها ما هو أعظم من ذلك بكثير خاصة بعد البعثة، أقول: كيف حفظ الله- سبحانه وتعالى- لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم؟، وكيف حفظ عقله وقلبه؟   (1) مسلم، كتاب: الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة، برقم (340) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 35) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وكيف حفظ عرضه؟ كيف حفظ دينه وكتابه؟ بلا شك كان الحفظ أتم وأكمل. 3- حفظ عرضه صلى الله عليه وسلّم من السب واللعن: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمّما ويلعنون مذمّما وأنا محمّد» «1» . سيأتي التعليق على الحديث إن شاء الله تعالى في باب : رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم. 4- رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم: قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] . أقول أولا: إن رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم لهو من أعظم وأجل النعم، ومن الشمائل الحميدة، التي تدل على حب الله- سبحانه وتعالى- لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم وهي أجل شأنا من الصلاة عليه قطعا؛ لأن رفع الذكر يشمل أمورا عديدة، يأتي منها الصلاة عليه، فالصلاة فرع من رفع الذكر، والغريب أن كثيرا ممن يهتمون بالشمائل النبوية، ويجتهدون في حصرها لا يذكرون رفع الذكر، فأسأل الله العلي القدير أن أوفّق في بيان مفهوم رفع الذكر؛ ليتبين للقارئ فضل الله العظيم على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلّم رغم علمي- والله مسبقا- أن مثلي أحط قدرا وأصغر شأنا أن يتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأستغفر الله مسبقا. ثانيا: كلام بعض العلماء عن معنى رفع الذكر-: قال الإمام ابن كثير: (قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم قال ابن كثير: حكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان يعنى ذكره فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت: أعز عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس: أشهد وشقّ له من اسمه يجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد وقال آخرون: رفع الله ذكره في الأولين والآخرين ونوّه به حين أخذ الميثاق على جميع   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، برقم (3533) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 النبيين أن يؤمنوا به وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ثم شهر ذكره في أمته فلا يذكر الله إلا ذكر معه) . انتهى كلام ابن كثير «1» . وقال القرطبي: (وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له: ما ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد الله- جل ثناؤه-، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافرا. وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذلك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات) «2» . وقال الشيخ السعدي- رحمه الله -: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي: أعلينا لك قدرك وجعلنا لك الثناء الحسن العالي الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسول صلى الله عليه وسلّم كما في دخول الإسلام وفي الأذان والإقامة والخطب وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم، وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزي نبيّا عن أمته) . انتهى «3» . بعض الفوائد المستفادة من قول الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ. الفائدة الأولى: في الصيغة التي وردت بها الآية: 1- اقترن فعل (رفع) ب (نا) التي تفيد التعظيم لله- عزّ وجلّ- وفائدة ذلك هو تعظيم أمر الرفع ومعرفة قدر المرفوع ذكره إذا استشعرنا عظمة من تكفل بذلك. وإذا كان رفيع القدر- سبحانه وتعالى- هو الذي تكفل برفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم، ويذكر ذلك في القرآن الكريم في سياق الثناء والمدح على رسوله صلى الله عليه وسلّم مع تذكيره بنعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى، فيصعب علينا أن نتخيل قدر هذا الرفع وعلو شأنه.   (1) تفسير ابن كثير (4/ 525) . (2) الجامع لأحكام القرآن (20/ 107) . (3) تيسير الكريم الرحمن (929) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 2- جاء فعل (رفع) بصيغة الماضي؛ لإفادة أن الرفع لم يقترن بميلاد النبي صلى الله عليه وسلّم بل كان قبل ذلك، كما بقي بعد انتقاله صلى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى، وهذا هو المشاهد، كما أن عدم اقتران الرفع بزمن معين مستقبلا، يفيد أن رفع الذكر سيبقى بحوله وقوته أبد الآبدين، فلله الحمد كله. 3- ورد لفظ (لك) في الآية؛ ليتبين للنبي صلى الله عليه وسلّم ولأمته أن هذا الرفع هو أمر مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلّم، كما يشعر أنه لم يشاركه في هذا الأمر أحد. وكان يمكن أن تكون الآية بصيغة: «ورفعنا ذكرك» . كما أن إطلاق (رفع الذكر) بدون تقييد على أحد دون أحد، أفادنا أن الله- سبحانه وتعالى- قد رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم على الخلق كلهم جميعا. 4- نصت الآية على رفع (الذكر) لا رفع (الاسم) لأن الذكر أعم من الاسم؛ لأنه يشمل جميع ما يخص النبي صلى الله عليه وسلّم؛ ولذلك أقول: إن قصر أوجه رفع الذكر باقتران اسمه صلى الله عليه وسلّم باسم الخالق، - عزّ وجلّ- في الأذان وغيره، هو حجر لواسع، أو أراد به العلماء ضرب مثال لبعض معاني اللفظ. الفائدة الثانية: بعض أوجه رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم. 1- اقتران اسمه صلى الله عليه وسلّم مع اسم الله- سبحانه وتعالى- وهو أعظم وأجل أوجه رفع الذكر، وأضيف هنا على ما ذكره بعض المفسرين، فأقول: لا يمكن أن نستوعب عظيم هذا الأمر، إلا إذا علمنا ووقر في قلوبنا عظيم شأن الله، - سبحانه وتعالى- الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، العالم بكل شيء، المقدر لكل أمر، النافذ حكمه في كل أحد، قال تعالى واصفا قدرته وعظمته: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] ، وقال تعالى واصفا إحاطته بعلم كل شيء: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] ، وقال تعالى مثبتا ملكه لكل شيء: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى [طه: 6] ، وقال تعالى حاكيا قيومته لكل نفس منفوسة: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: من الآية 33] ، وغير ذلك مما يصعب إيراده في هذا المجال، ولكن أوردت طرفا يسيرا منه؛ ليستشعر القارئ الكريم من هو الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 الخالق البارئ، هذا الله الواحد الصمد المتفرد بصفات الجمال والكمال، التي لا ينازعه فيها أحد، قد قدر وقضى بل ورضي أن يرفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلّم بحيث لا يذكر هو العظيم الحكيم، إلا وذكر معه نبيه صلى الله عليه وسلّم. فهل بعد هذا الحب من حب، وهل بعد هذا التكريم والتشريف من رتبة أعلى؟ لا والله، فقد بلغ صلى الله عليه وسلّم الغاية في التشريف والتعظيم. تنبيه وتحذير: ليس معنى أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلّم كلما ذكر الله- سبحانه وتعالى- مثل التشهد والأذان، أن ذلك يعني التشريك في الأمر أو المساواة في التعظيم أو أن للنبي صلى الله عليه وسلّم أدنى أدنى تصرف في ملك الله- عزّ وجلّ- حاشا لله، فما زال الله خالقا مالكا معبودا وحده، وما زال النبي صلى الله عليه وسلّم مخلوقا مملوكا عبدا، وهو يفتخر بذلك أشد الافتخار، وقد ذكرت ذلك في هذا الكتاب كثيرا، فلا يجب أن نخلط بين الأمرين، فكما أن الله- عزّ وجلّ- هو الذي علمنا أنه رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم وصدقنا ربنا في ذلك، هو نفسه الذي علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم ليس له من الأمر شيء، قال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] ، فلماذا نصدق الأولى، ونماري في الثانية، ألهوى في قلوبنا؟ من فعل ذلك فقد خسر الدنيا والآخرة، فعلينا أن نؤمن بالكتاب كله، ونقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7] . 2- ذكره صلى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى وفي الحضرة الإلهية، وذلك بصلاة الله والملائكة عليه، بالثناء والذكر الحسن بل العجيب أن ينسحب هذا الثناء والذكر الحسن إلى المؤمنين ببركة صلاتهم عليه، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من صلى علّي صلاة صلى الله عليه بها عشرا» . [رواه مسلم] «1» . 3- ذكره صلى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، ليس ذكر اسمه فحسب بل نعته كاملا، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] ، وقد بلغ أمره صلى الله عليه وسلّم من الشهرة والصيت، أن أهل الكتاب يعرفون أوصافه وشمائله وسيرته صلى الله عليه وسلّم كمعرفتهم أولادهم الذين جاؤا من   (1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (384) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 أصلابهم، وتربوا أمام أعينهم يوما بعد يوم، فهل يضل الوالد عن ولده، والله إنه ليعرفه من صوته أو من مشيته أو من رائحة عرقه، حتى ولو غاب عنه عقدا من الزمان، هكذا يعرف أهل الكتاب رسولنا صلى الله عليه وسلّم، لا تختلف عليهم أوصافه أبدا، وما كانت هذا المعرفة لتتم إلا بوصف دقيق له صلى الله عليه وسلّم في كتب الله المنزلة وهذا بلا شك من رفع الذكر، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] . 4- حفظ عرضه صلى الله عليه وسلّم من سب ولعن كفار قريش، روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتمون مذمّما ويلعنون مذمّما وأنا محمّد» «1» ، فمن تمام رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم أن لا يخدش بأدنى ذم أو لعن، فمن كمال رفع الذكر أن يذكر الإنسان بكل الصفات الحميدة وأن يبرأ من كل سب ولعن، فمن الذي تكفل بإثبات الأولى ودفع الثانية عن النبي صلى الله عليه وسلّم؟ إنه الله وحده، الأولى: بالصلاة عليه في العالمين العلوي والسفلي، والثانية: أنه هو الذي صرف كفار قريش عن سبه ولعنه لما ورد في الحديث: «ألا تعجبون كيف صرف الله عني شتم قريش ولعنهم» . فأثبت الحديث ثلاثة أمور: الأول: أن قريشا كانت حريصة على السب واللعن. الثاني: أن الذي صرف عنه السب واللعن هو الله سبحانه وتعالى. الثالث: أن أمر صرف هذا اللعن والسب مع حرص كفار قريش عليه، من الأمور العظيمة التي يتعجب منها، وما يتعجب منه يجب الوقوف عنده للتأمل والتدبر. 5- لم يناده الله، - سبحانه وتعالى- باسمه أبدا في القرآن العظيم، فلم ترد آية واحدة بصيغة (يا محمد) كما ورد عن بقية الأنبياء، عليهم جميعا الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى على سبيل المثال: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وقوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، وهكذا مع كل الأنبياء، ولما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلّم كان على سبيل الإخبار وأتبع بصفته، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ولا شك أن توجيه الخطاب إليه في القرآن الكريم، دائما بصيغة الرسالة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ أو بصفة النبوة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لهو من علامات رفع الذكر. وتدبر أخي القارئ، أن نبينا صلى الله عليه وسلّم قد توجه إليه الخطاب في القرآن الكريم (سواء بخبر أو أمر أو نهي) بكل أنواع الخطاب الممكنة، فقد توجه إليه الخطاب بصيغة النداء بدون ذكر   (1) سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 اسمه، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، وتوجه إليه الخطاب بكاف المخاطبة قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، كما توجه إليه الخطاب بضمير الفاعل المحذوف قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، وكذا بضمير الغائب قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، ولا يشك قارئ القرآن أن كل هذه الصيغ المقصود بها النبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يحدث ذلك في القرآن إلا معه صلى الله عليه وسلّم وهذا فضل عظيم من الله- سبحانه وتعالى-. 6- من أجلّ مظاهر رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم أن الله- عزّ وجلّ- قد أبطل كل شبهات الكافرين وأكاذيبهم حوله صلى الله عليه وسلّم، فما من شبهة أثارها الكفار أو أكذوبة مثل الجنون والسحر وادعاء كتابة القرآن من عنده أو من غيره من البشر إلا أقام القرآن الحجج الدامغة على كذبها وفريتها، حتى لا تبقى أي حجة للكافرين يظن ظان أنها تشوب رفع الذكر، وقد بينت ذلك في باب (دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلى الله عليه وسلّم) . 7- ومن مظاهر رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى أمر بعدم التسوية بين دعائه ودعاء غيره، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: من الآية 63] . 8- من كمال رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم بعض الأمور التي جمعتها في فقرة واحدة؛ لتشابهها وهي: أ- جعل الله- سبحانه وتعالى- كتابه أحسن الكتب، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23] ، بل جعل كتابه صلى الله عليه وسلّم مهيمنا على بقية الكتب، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: من الآية 48] . ب- أظهر الله- سبحانه وتعالى- له دينه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، قال القرطبي: (أي: في جزيرة العرب) . ج- أتم الله له أمر هذا الدين؛ لما رواه البخاري من حديث الخباب بن الأرت عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون» «1» ، وقال ابن حجر: (المراد بالأمر هو الإسلام) .   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3612) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 د- خصه- سبحانه وتعالى- بأزكى الخلق وأتمها وأثنى عليه بها في كتابه العزيز، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . وكل ما ذكرته، وغيره من أمثاله كثير، من تمام رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم لأنه لو فرض أن أحدا آتاه الله كتابا خيرا من كتابه صلى الله عليه وسلّم، لقيل: إنه سبق النبي صلى الله عليه وسلّم بل علا عليه في هذا المجال، ولنقص رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا المضمار، ولو وجد في خلق النبي صلى الله عليه وسلّم أدنى نقيصة، لنقص ذكره الحسن وقدر الثناء عليه بقدر ما عنده من نقص في خلقه- حاشا الله- وهكذا كل ما ذكر، فاختصاصه صلى الله عليه وسلّم بالأتم والأكمل والأشرف من كل أمر؛ لتكتمل منظومة رفع ذكره، وليتم عقد الثناء عليه على أحسن ما يكون، فسبحان الذي يتفضل ويعطي بغير حساب. الفائدة الثالثة: فيما يترتب على ثبوت رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم. 1- ثبوت أنه لم يأت منه صلى الله عليه وسلّم ما يخل بهذا الرفع أبدا، مثل التقصير في تبليغ دين الله، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو صدور أدنى ما يخدش الحياء، فتجزم قطعا أن كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلّم عبادة وعادة، ينسجم مع رفع ذكره. 2- يقيننا الجازم بطهارة أعراض أزواجه- رضي الله عنهن جميعا- حال حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلّم لأن أعظم ما يخدش الثناء الحسن ويقلل من الذكر الطيب لأي إنسان هو الكلام على أعراضه، بأدنى أدنى سوء، فمن فعل ذلك أو اعتقده فقد كذّب بظاهر القرآن، ونخاف عليه من خاتمة السوء. وانظر كيف أنزل الله قرآنا محكما يتلى إلى يوم القيامة يبرئ أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها 3- كل من أراد الطعن في الكتاب المنزل عليه صلى الله عليه وسلّم أو في شريعته المطهرة، أو في سنته الشريفة، فلن ينال منها، ولن يبوء بالخسران إلا هو؛ لأن الذي رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم هو الله رب الأكوان والأبدان، فهو الذي سيحفظه ويحفظ كل ما يخصه، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: من الآية 43] . 5- القسم بحياته صلى الله عليه وسلّم: قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] . أولا: بعض كلام المفسرين في الآية الكريمة والتي تثبت أن المقصود من قوله تعالى: لَعَمْرُكَ أي: وحياتك يا محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 1- ذكر القرطبي رحمه الله كلام العلماء في الآية فقال: (قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلّم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون، قلنا: وهكذا قال القاضي عياض: أجمع أهل التفسير في أن هذا قسم من الله بمدّة حياة محمد صلى الله عليه وسلّم، ويكون معنى القسم: وبقائك يا محمد وقيل: وحياتك) . انتهى «1» . 2- قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلّم، قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: بلغ النبي صلى الله عليه وسلّم المنتهى في تكريم الله- سبحانه وتعالى-، فقد بلغ التشريف ذروته، بأن أقسم الله بحياته، نقل الإمام القرطبي عن القاضي عياض قوله: (وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف) ، كما نقل عن أبي الجوزاء قوله: (ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه أكرم البرية عنده) «3» . الفائدة الثانية: في قسم الله- سبحانه- بحياة نبيه صلى الله عليه وسلّم، دون غيره من الأنبياء، دليل على فضله صلى الله عليه وسلّم وعلو منزلته وزيادة شرفه على بقية الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام، قال الإمام القرطبي: (ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلّم يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده) انتهى «4» . الفائدة الثالثة: حياة النبي صلى الله عليه وسلّم كانت كلها حياة مباركة طيبة، استغرقها صلى الله عليه وسلّم كلها في طاعة الله- عزّ وجلّ- فإن قسم الله- عزّ وجلّ- بها دليل على رضاه ومباركته لهذه الحياة، وأنه لم يحدث فيها أي قصور أو تقصير، ولم يشبها أي خلل أو عيب، ولولا ذلك ما أقسم الله بها. وعليه، فإن من تعرض لحياة النبي صلى الله عليه وسلّم بغمز أو لمز، أو ذكرها بأدنى تنقص، أو أراد أن ينتقد شيئا من عبادته أو عاداته صلى الله عليه وسلّم التي فعلها في حياته الشريفة، فقد ذم ما مدحه الله، وعاب ما حكم الله له بالكمال والجمال، وطعن فيما زكاه الله ورضي به وأثنى عليه غاية الثناء. الفائدة الرابعة: ليس معنى أن الله- عز وجل- قد أقسم بحياة أشرف الخلق نبينا   (1) تفسير الطبري (10/ 39) . (2) تفسير الطبري (14/ 44) . (3) تفسير الطبري (10/ 39) . (4) تفسير الطبري (10/ 40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 محمد صلى الله عليه وسلّم أنه يجوز لنا أن نقسم به صلى الله عليه وسلّم فالله- عزّ وجلّ- يقسم بما يشاء على ما يشاء، فقد أقسم سبحانه وتعالى بالقلم والنجم والشمس والطور، أما المخلوق فلا يقسم إلا بالله جل وعلا، وهي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلّم، روى البخاري في صحيحه: عن عبد الله رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «1» ، وفي رواية عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلّا بالله فكانت قريش تحلف بابائها فقال لا تحلفوا بابائكم» «2» . 6- تعظيم المكان بإقامته صلى الله عليه وسلّم فيه: قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) [البلد: 1- 2] ، فالبلد المعنية بالآية الكريمة- بالاتفاق- هي مكة المكرمة، المشرفة المعظمة على سائر القرى والبلدان، ولكن الله- تبارك وتعالى- لما أقسم بها، ذكر إقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة فتزداد شرفا وعزّا، فيزداد القسم توكيدا، قال صاحب تفسير الزبد «3» : (أي استحل منك مشركو مكة أن يؤذوك في البلد الحرام يا محمد. وقيل: المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم فيه تشريفا لك وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا) . وقال صاحب المنتخب «4» : (أقسم قسما مؤكدا بمكة البلد الحرام وأنت مقيم بهذا البلد تزيده شرفا وقدرا) . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى-، فقد عظم القسم بالبلد الحرام بذكر مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه. الفائدة الثانية: تتفاضل القرى والبلاد بتفاضل من يسكنها ويعمرها، فإذا كانت مكة المكرمة التي لها من الحرمة والتعظيم والتشريف ما ليس لغيرها، قد ازدادت شرفا ورفعة بإقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها، فمن باب أولى ما دونها من البلدان. ويتفرع عليه عظيم قدر مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته صلّى الله عليه وسلّم وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ إذ دفن فيها صلّى الله عليه وسلّم.   (1) البخاري، كتاب: الشهادات، باب: كيف يستحلف، برقم (2679) . (2) البخاري، كتاب: المناقب، باب: أيام الجاهلية، برقم (3836) . (3) تفسير الزبد. (4) المنتخب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 7- الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] . إذا كانت أعظم نعمة أنزلها الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم هي القرآن الكريم، وإذا كانت أعظم معجزة خص الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم هي الإسراء والمعراج، وإذا كان أعظم تشريف حبا الله به نبيه صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة، هي الشفاعة العظمى، فإن أعظم مظاهر حب الله، - تبارك وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم هي الصلاة عليه منه- تبارك وتعالى- ومن ملائكته الكرام، وأمر المؤمنين بذلك. ويحسن أن نبدأ بنبذة عن أقوال بعض العلماء عن تلك الصلاة عند شرحهم لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (المقصود من هذه الآية أن الله- سبحانه وتعالى- أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه ثم أمر الله تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا) «1» . وقال القرطبي رحمه الله: (هذه الآية شرّف الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، في حياته وموته وذكر منزلته وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء أو في أمر زوجاته ونحو ذلك، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره) «2» . وقال الشيخ السعدي في شرح الآية: (وهذا فيه تنبيه على كمال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورفعة درجته وعلو منزلته عند الله وعند خلقه ورفع ذكره. والصلاة من الله هي الثناء عليه بين الملائكة وفي الملأ الأعلى لمحبته تعالى له وتثني عليه الملائكة والمقربون ويدعون له ويضرعون) «3» . وسأعلق، بعون الله تعالى على قوله- عز وجل-: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ على شكل فوائد، فأقول: الفائدة الأولى: في الآية تشريف عظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الوجوه التالية:   (1) تفسير ابن كثير (3/ 508) . (2) الجامع لأحكام القرآن (14/ 232) . (3) تيسير الكريم الرحمن (671) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 1- تعظيم أمر الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد شمل هذا التعظيم كل الوجوه من حيث المقتدى به في فعل الأمر، وهو الله- سبحانه وتعالى- وكذا ملائكته؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ، والآمر بالصلاة على النبي هو الله جل في علاه، لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ، ومن حيث المأمورين بالصلاة عليه، وهم صفوة خلق الله من عباده الذين اتصفوا بصفة الإيمان فلم يتوجه الأمر للناس ولا للمسلمين، بل للمؤمنين، فأحاط الله- سبحانه وتعالى- الأمر بجميع أنواع التعظيم، وذلك ليستقر في نفوس الخلق جميعا، عظيم المأمور به. 2- جاء الأمر بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بصيغة لم يأت بها أي أمر في القرآن والسنة على شاكلته أبدا، وفي هذا تنويه إلى أن هذا الأمر الشرعي يختلف عن جميع الأوامر الشرعية الآخرى التي تصدرت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. 3- أن توجيه الأمر بالصلاة عليه كان بموجب آية قرآنية تتلى إلى يوم القيامة، ثم تأتي السنة الشريفة لتبين صيغ الصلاة، والأوقات التي يتأكد فيها الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وثواب تلك الصلاة. 4- لم يفرد الله- سبحانه وتعالى- أحدا من الأولين والآخرين في القرآن الكريم بالصلاة عليه منفردا كما أفرد نبيه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية، فقال عز من قائل في السلام على الأنبياء: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] ، وقال في الصلاة على المؤمنين: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] ، ولا يخفى أن إفراد الله- سبحانه وتعالى- نبيه بالصلاة عليه، يظهر علوّ شأنه وعظيم قدره صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، وأن هذا القدر سبق به الأولين والآخرين، ولم يسبقه إليه أحد، كما لن يلحق به أحد، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [المائدة: 54] . 5- وردت بالآية عدة أمور بلاغية تزيد الأمر تعظيما وتشريفا وهي: أ- صدر الله- عز وجل- الأمر بحرف التوكيد (إن) لإفادة توكيد الأمر وتثبيته في قلوب المؤمنين. ب- عبر الله، - عز وجل-، عن نفسه بلفظ الجلالة، فقال: إِنَّ اللَّهَ وهو الاسم الذي لا يشارك الله فيه أحدا أبدا، وكان يمكن أن تأتي بلفظ: (إن ربكم) أو (إنني) ، ولا يخفى وقع قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ على الآذان والقلوب المؤمنة، والذي يختلف عن أي لفظ آخر. ج- أضاف المولى- سبحانه وتعالى- الملائكة إلى نفسه الشريفة؛ تعظيما لها وتكريما؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ليستشعر السامع مكانة هذا الخلق العظيم الذي يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم. د- أتت الآية بلفظ: يُصَلُّونَ [الأحزاب: 56] بصيغة الفعل المضارع، الذي يفيد الاستمرار والثبوت. 6- جاءت صيغة الأمر الإلهي إلى المؤمنين بالصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحسن صورة، يتبين ذلك من: بدأ الأمر بأداة النداء (يا) لاسترعاء السمع وحضور القلب، ثم أداة التنبيه (ها) في (أيها) لتوكيد استرعاء السمع. جاءت صفة من وجّه لهم الخطاب، بصيغة الفعل الماضي: آمَنُوا فهذا الأمر غير موجه لكل أحد، بل للمؤمنين الذين استقر في قلوبهم ونفوسهم صفة الإيمان، وتلبسوا بها غاية التلبس وأصبحت صفة ملازمة لهم، وهذا ما يفيده الفعل الماضي: آمَنُوا؛ لذا عدلت الآية عن قول (يا أيها المؤمنون) . ختمت الآية بالفعل المطلق تَسْلِيماً للتوكيد، وليعلم المؤمنون أن التسليم المأمورين به يجب أن يكون تسليما خاليا من كل أذى، مطهرا من كل سوء. 7- أطلقت الآية عدة أمور ولم تقيدها تعظيما للأمر، وتلك الأمور هي: أ- لم تقيد الآية زمان صلاة الله وملائكته على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأعتقد خطأ من قيد تلك الصلاة المباركة بحياة وممات النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه تقييد بدون دليل، وإذا لم تقيّد الصلاة بزمان، علمنا أن صلاة الله وملائكته على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، قد استوعبت كل الزمان، وهذا غاية التشريف ومنتهاه للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ب- لما أثبتت الآية أن الصلاة قد وقعت من الملائكة، ولم تحدد نوع الملائكة ولا مكانهم، علمنا أن الأمر قد عمّ جنس الملائكة، جبريل وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، وحملة العرش، وخزنة الجنة والنار، وملك الجبال، والملائكة السيارة، والحفظة، أي جميع الملائكة، الذين لا يعلم عددهم وقدرهم إلا الذي خلقهم- سبحانه وتعالى-. ج- لم تقيد الآية الغاية من صلاة الله والملائكة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما جاءت آية صلاة الله عز وجل- على المؤمنين مقيدة بالسبب، فغاية صلاة الله على المؤمنين، هو إخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] ، والحكمة من عدم تقييد آية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بغاية أو سبب، لتستوعب الآية كل غاية وسبب ممكنين، فالإطلاق هنا أريد به التعظيم. د- كما لم تقيد الآية الأمر الموجه للمؤمنين بزمن معين مثل: أي ساعة من الليل أو النهار، أو في شهر فضيل من أشهر السنة، أو يوم مبارك من أيام الأسبوع، أو بعد عبادة معينة، كما لم تقيد الآية الصلاة بعدد مرات في عمر المؤمن، كما تكون سائر العبادات من صلاة وصوم، فعلمنا من هذا الإطلاق إرادة المولى- سبحانه وتعالى- الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل زمان ومكان، وكلما زاد المؤمن صلاة كان ذلك خيرا له. 8- شملت الآية أعظم الحث على الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يأت الحث بذكر الجزاء الموفور كبقية العبادات، بل أتى الحث بأعظم من ذلك بكثير، أتى الحث بكون الله- سبحانه وتعالى- قد بدأ الأمر بنفسه وثنّى بملائكته، فالذين يريدون أن يفعلوا أمرا يفعله الله- سبحانه وتعالى- وتواظب عليه ملائكته، فليصلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم لذا يقول بعض خطباء المساجد في خاتمة خطبة الجمعة: (يا أيها المؤمنون إن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه وثنّى بملائكته) . 9- ضمنت الآية ألا تنقطع الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أبدا، فاليوم يصلي الله عليه وملائكته والمؤمنون، فإذا مات آخر مؤمن على وجه الأرض، فسيبقى الله وملائكته يصلون على النبي، وإذا ماتت الملائكة عن آخرهم، فسيبقى الحي الذي لا يموت يصلي على نبيه صلّى الله عليه وسلّم. وهذا من عظيم اعتناء الله بنبيه أن لم يوكل أمر الصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالبشر، فتنقطع تلك الصلاة بكفر أهل الأرض جميعا، قبل يوم القيامة، أو بموتهم، ولذلك ستبقى الصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالرحمة والفضل- متصلة أبد الآبدين. 10- كما ضمنت الآية استمرار الثناء والذكر الحسن والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل مكان، في الحضرة الإلهية وفي الملأ الأعلى وفي السماوات والأرض وما بينهما. ويتفرع على كل ما ذكر، وجوب زيادة شعورنا بمدى إجلال وإكبار نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن يترجم هذا الإجلال والإكبار إلى منهج وسلوك. الفائدة الثانية: ثواب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» «1» .   (1) سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فثواب الصلاة الواحدة على النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر صلوات من الله سبحانه وتعالى، فالثواب إذن عظيم، وكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يشعرنا بذلك فقابل في الحديث الواحدة بالعشرة. ومن مظاهر تعظيم الثواب أيضا، أن الصلاة منك لا يقابلها صلوات من خلق- مثلك أو أعظم منك- بل يقابلها الصلاة من الله- عز وجل- فشتان بين الأمرين. وترتيب مثل هذا الثواب العظيم يدلنا على حب الله- سبحانه وتعالى- لهذه العبادة الجليلة، ألا وهي الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن في ترتيب هذا الثواب أبلغ الحث للمؤمنين على الإكثار منها، وترطيب اللسان بذكرها. والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من علامات حب المسلم لنبيه، قال الشيخ السعدي رحمه الله عند شرحه لقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً: (اقتداء بالله وملائكته وجزاء له على بعض حقوقه عليكم وتكميلا لإيمانكم وتعظيما له ومحبة وإكراما وزيادة في حسناتكم وتكفيرا من سيئاتكم) . انتهى «1» . وتدبر أخي القارئ ماذا قال العلامة رحمه الله: (وجزاء له على بعض حقوقه) أي أن حقوقه صلّى الله عليه وسلّم علينا كثيرة جدّا، وهي أعظم من أن نقابلها بأي عمل، ولكن الصلاة عليه تأتي ردّا لبعض الجميل، كما أن من معاني ما قال، أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، إنما هي عمل نحن في أشد وأمس الحاجة إليه؛ لأنه يزيد حسناتنا ويكفر سيئاتنا، ومن هذا يتبين سوء أدب من زهد في الصلاة والسلام على الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: إن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من سمة المؤمنين ومن أعظم مكملات الإيمان، ودليل ذلك أن الله- عز وجل- ما أمر بها إلا من تلبّس بهذه الصفة العظيمة، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، وعلى من يريد أن يتأكد أن الإيمان قد باشر قلبه واستقر فيه، أن ينظر إلى حاله، هل يحب أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويجد حلاوة في ذلك، أم يجد أن الأمر ثقيل عليه، وإذا كان هذا هو حاله، ونعوذ بالله من سوء الحال، فليبك على نفسه ويعالجها حتى يذهب ما بها. الفائدة الثالثة: آداب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم: اعلم أخي المسلم، أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من العبادات العظيمة، التي أمرنا الله بها على الوجه الذي ذكرته، وما دامت عبادة، فيجب عند أدائها أن نستشعر كل آداب العبادة   (1) تيسير الكريم الرحمن (671) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 من استحضار النية وخشوع القلب؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] ، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها ذكر الله؛ لأنها توجّه إليه بالدعاء. كما يشترط في هذه العبادة العظيمة الاتباع وتبطل بالابتداع، والاتباع فيها هو التقيد بالصيغ التي وردت في كيفية الصلاة عليه، ومن أتم هذه الصيغ، ما رواه الشيخان، عن أبي حميد السّاعديّ أنّهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيّته، كما صلّيت على آل إبراهيم وبارك على محمّد وأزواجه وذرّيّته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» «1» . ومن مظاهر الابتداع في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يفعله بعض العوام من التمايل والرقص ودق الطبول والمزامير ورفع الصوت بالصلاة عاليا، وعندما يخرجهم الشيطان من دائرة الوعي، يقولون: إنه الجذب، ويطلقون كلاما ما أنزل الله به من سلطان، وأنا لا أنكر أنهم فعلا يخرجون من دائرة الوعي، ولكن الذي يخرجهم هو الشيطان، ودليله أنهم يفعلون عبادة لا يتبعون فيها هديا من كتاب أو سنة، وأقول لهم: أأنتم أشد حبّا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أم أصحابه رضي الله عنهم؟ إن قلتم: نحن، فقد كذبتم، وإن قلتم: هم، فقد أقمتم الحجة على أنفسكم، لأنهم ما كانوا يذكرونه بهذه الطريقة، وما كانوا يخرجون عن الوعي. هذا بالإضافة إلى ما يحدث في مجالس هذه الأذكار من اختلاط بين الرجال والنساء، وأكثر من ذلك مما يعف اللسان عن ذكره، وكذا إثبات بعض الصفات للنبي صلّى الله عليه وسلّم التي لم يثبتها لنفسه؛ لأنها صفات لا تنبغي إلا لله- عز وجل- ويا ليت من يقوم بهذه الأعمال، التي يظن أنه يتقرب بها إلى الله- سبحانه وتعالى-، قد حرم الأجر فحسب- وإن كانت هذه مصيبة وحدها- ولكن المصيبة الأعظم أنه لن يسلم من وزر ما فعل، وهو يتفاوت في درجته من معصية الابتداع والاختلاط إلى الشرك بالله العلي العظيم إذا نسب للنبي أنه يعلم الغيب أو يعتقد أن بيده النفع والضر، أو أنه معنا حيث نكون يسمعنا ويرانا، ويرضى أو يحزن على أفعالنا وأن الله ما خلق الخلق إلا من أجله إلى غير ذلك من البواطل الفواقر. هيا أخي المسلم نتوب إلى الله- عز وجل- ونقلع عن كل ما يخالف الكتاب وسنة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم ونتمسك بخير الهدي وأكمله، هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم فما وجدناه صحيحا صريحا في   (1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، برقم (3369) ، ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (407) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 سنته اتبعناه، وإلا تركناه وهجرناه بل وكرهناه، وأمرنا الناس باجتنابه. وأود هنا أن أنبه على عجالة مما يقع من بعض الناس، من ألفاظ يتداولونها، أقل ما يقال عنها: إنها من سوء الأدب وامتهان لحرمات الله- عز وجل-، ومنها على سبيل المثال: 1- صلي علي اللى يشفعلك، الكلمة في حد ذاتها ليس فيها شيء، ولكنها تقال في غير موضعها وبطريقة غير لائقة، وتكون غالبا لفض المنازعات، ولا يقوم أحد من الحاضرين بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيا ليتنا تركنا هذه المقولة تعظيما لأمر هذه العبادة. 2- قول أحدهم: يعني كسبنا الصلاة على النبي، وهذا من سوء الأدب وعلينا أن ننأى عن مثل هذه المقولات وننهى الناس عنها، إذا أردنا فعلا التقرب إلى الله- عز وجل-. 3- ما يقوم به البعض في الأعراس والحفلات وعند فوز فريقه، من الغناء والرقص، مع قولهم: وصلي صلي صلي، على النبي صلي إلى آخره، بنغمة معينة، مما يستحيي المسلم أن ينطق به أو يسمعه فضلا أن يتغنى به، أهكذا يردّ الجميل لمن فضله علينا أعظم من فضل الوالدين، بل لا نرى أحدا سبقه في الفضل إلا الذي خلقنا وهدانا، ويا ليت الأمر يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده، بل يتعلق بالله- سبحانه وتعالى- الذي أمرنا بهذه العبادة، وشرعها لنا ورتب عليها أعظم المثوبة، أقول لهؤلاء وغيرهم ممن لا يعظمون شعائر الله: أفلا تتوبون إلى الله وتستغفرونه والله غفور رحيم؟!. 4- قول أحدهم لإسكات الآخر: صلينا على النبي، يعني اسكت، وكذا قول أحدهم: خذ هذا بالصلاة على النبي. الفائدة الرابعة: وفيها أنبه إلى بعض المواضع التي لا يشرع فيها الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم لعدم ورود السنة بها، ولكن للأسف اعتادها بعض الناس: 1- بعد العطاس. 2- عند البحث عن شيء مفقود. 3- نهاية دعاء السفر. 4- صلاة المؤذن على النبي بعد الأذان بمكبر الصوت. والصحيح هو الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الجميع المؤذن وغيره، ولكن كلّ في سره. وفي الختام أسأل الله- عز وجل- أن يجعل صلاتي وصلاة المؤمنين على نبينا صلّى الله عليه وسلّم زكاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وطهورا وضياء لنا يوم العرض عليه، وأن يحفظها لنا، فهو الذي لا تضيع عنده الودائع، وأن يرزقنا بها شفاعة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم إنه نعم المولى ونعم المجيب. 8- جعل صلاته واستغفاره صلّى الله عليه وسلّم رحمة للمؤمنين: عظم الله- تبارك وتعالى- شأن صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على المؤمنين، أي: دعاؤه لهم بمغفرة ذنوبهم وتخفيف فتنة القبر عليهم ودخولهم الجنة، وغير ذلك من أنواع الأدعية كثير، فجعلها الله- تبارك وتعالى- صلاة مباركة طيبة تقبل قبولا حسنا، بل إن الله- تبارك وتعالى- حث المؤمنين أن يذهبوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، بل الأعظم من ذلك أن الله- تبارك وتعالى- جعل من علامات المنافقين الاستكبار عن الذهاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم، قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون: 5] ، قال صاحب التفسير الميسر: (وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: أقبلوا تائبين معتذرين عما بدر منكم من سيئ القول وسفه الحديث يطلب لكم رسول الله من ربه أن يعفو عنكم: حرّكوا رؤسهم استهزاء واستكبارا وأبصرتهم- يا محمد- يعرضون عنك وهم مستكبرون عن الامتثال لما طلب منهم) . ولأن شواهد ذلك كثيرة ومتنوعة فسأضرب شاهدين فقط: الشاهد الأول: قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103] ، قال الإمام الطبري رحمه الله: (يقول تعالى ذكره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي تنميهم وترفعهم بها عن خسيس منازل أهل النفاق إلى منازل أهل الإخلاص وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ منها إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم) «1» ، وقال رحمه الله في موضع آخر: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وقال بعضهم: رحمة لهم) «2» . قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ: (أي طمأنينة لقلوبهم واستبشارا لهم) «3» .   (1) تفسير الطبري (11/ 16) . (2) انظر المصدر السابق. (3) تيسير الكريم الرحمن (250) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر ربه فكان يستغفر لمن كان يأتيه بالصدقات، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهمّ صلّ عليهم» . فأتاه أبو أوفى بصدقته، فقال: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» «1» . الفائدة الثانية: في الآية دليل على تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وصلاته عليهم وتيقنهم أن دعاءه مقبول عند الله- تبارك وتعالى- فبدعائه صلّى الله عليه وسلّم تمحى السيئات وتقال العثرات وترفع الدرجات وتشفى الأمراض، ووجه استنباط ذلك من الآية: أن الله تبارك وتعالى- أبلغنا أن قلوب الصحابة تطمئن بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثالثة: إثبات فضيلة خاصة للصحابة رضي الله عنهم تميزوا بها دون سائر الأمة، ألا وهي استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم وصلاته عليهم، ولم يضيعوا رضي الله عنهم هذه المزية ولم يفوتوها عليهم، فكثيرا ما كانوا يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدعاء لهم ولأولادهم، وقد أوردت شواهد على ذلك في باب: (استجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم) . وإذا سأل سائل فقال: لماذا ميز الله- سبحانه وتعالى- الصحابة بهذه المزية وحرمنا منها؟ قلت: لأن الله تعالى علم أن الصحابة سيفعلون ما لن نفعل، وسيقدمون ما لن نقدم، فقد جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وضحوا بكل غال ونفيس لإعلاء كلمة التوحيد، فكان لهم السبق في نصرة الله ورسوله، فكان من عدل الله الحكيم الخبير أن يعطيهم ما لم يعطنا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ثم إن الله- تبارك وتعالى- لم يحرمنا- حاشا لله- لأن الحرمان معناه ألا يعطينا ما نستحق أو يمنعنا حقّا لنا- والله منزه عن ذلك. وإن فاتنا هذا الخير الكثير فإننا أدركنا أبوابا من الخير، نسأل الله- عز وجل- أن يتقبلها منا، ألا وإن أعظمها إيماننا وتصديقنا وحبنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن لم نره. وما فعلنا ذلك إلا تصديقا بكلام ربنا- تبارك وتعالى-. الفائدة الرابعة: قال الشيخ السعدي رحمه الله: (في الآية استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه- لمن أدى زكاته- بالبركة، وأن ذلك ينبغي أن يكون جهرا بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه، ويؤخذ من المعنى أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين بالكلام اللين والدعاء   (1) مسلم، كتاب: الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، برقم (1078) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 له، ونحو ذلك، مما يكون فيه طمأنينة وسكون لقلبه) «1» . الشاهد الثاني: قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: فعل الطاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي وجود شخصه الكريم، أحب إلى الله- تبارك وتعالى- وأكثر قبولا وأجرا مما لو لم يكن موجودا، وكذلك استغفاره صلّى الله عليه وسلّم للمذنبين أرجى قبولا من استغفارهم لأنفسهم، والدليل على ذلك أن استغفار المذنبين لو كان يستوي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعند غيره ما أمرهم الله أن يذهبوا إليه ويستغفروا ربهم عنده صلّى الله عليه وسلّم ولكان الأمر بحضورهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحصيل حاصل- حاشا لله-، ولو كان استغفارهم لأنفسهم يغني عن استغفار الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم أو لا يتأكد به مغفرة الرب، ما كان لطلب الاستغفار من الرسول صلّى الله عليه وسلّم حكمة شرعية. الفائدة الثانية: روى بعض المفسرين- رحمهم الله تعالى- في تفسير هذه الآية أثرا رواه أبو صادق عن علي قال: (قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحثا على رأسه من ترابه. فقال: قلت يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك. وكان فيما أنزل الله عليك: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية. وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر إنه قد غفر لك) «3» . وهذا (أثر منكر أبو صادق هو مسلم بن يزيد لم يدرك عليّا، فهو منقطع ولم يذكر المصنف من رواه عنه، والمتن منكر جدّا، ولو صح لفعله عشرات الصحابة) «4» . قلت: هل يعقل أن يكون الاستغفار عند قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مشروعا وقربة إلى الله- تبارك وتعالى- ولم يفعله إلا أعرابي، ولا ينقل عن آلاف الصحابة، ولا التابعين بسند صحيح أنهم فعلوه، مع أنهم أحرص الناس على السنة من هذا الأعرابي المجهول الهوية،   (1) تيسير الكريم الرحمن (351) . (2) تفسير ابن كثير (1/ 520) . (3) الجامع لأحكام القرآن (5/ 265) . (4) من تعليق المحقق لتفسير القرطبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 نريد دليلا واحدا صحيحا عن أعلم الناس بسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بمشروعية ذلك. كما أقول: إن نفي مشروعية الذهاب إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم للاستغفار لا يعد تقليلا من شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يروّج السفهاء- ولكن لا نفعل ذلك لأن الله- تبارك وتعالى- لم يأمرنا به، ولم يشرعه لنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وليس لنا فيه من الصحب الكرام أسوة حسنة. 9- سماع الله لتلاوته صلّى الله عليه وسلّم: عن أبي هريرة أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصّوت بالقرآن يجهر به» . [متفق عليه] «1» . الشاهد في الحديث: أذن الله، أي استمع، والسماع هنا ليس من باب السماع العام، بل هو سماع الرضا والقبول، فالسماع ثلاثة أنواع: سماع إحاطة، وقد ثبت في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما [المجادلة: 1] . وسماع يقصد به التهديد والوعيد، وقد ثبت في قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] ، والدليل على أن المقصود بهذا السماع، هو التهديد والوعيد، قوله- عز وجل-: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. أما النوع الثالث من السماع: فهو سماع رضا وقبول، ومثاله حديث الباب، والذي قصده العلماء من هذا التقسيم، هو شرح مقصود الله- عز وجل- من إثبات السماع والحكم المترتب عليه، فقد يسمع ويرضى عما سمع ويرتب على ذلك أجزل الثواب، وقد يسمع ويغضب عظيم الغضب مما يقال ويرتب على ذلك أشد العذاب، وقد يكون السماع من باب الإحاطة بما يفعل العباد. وفي الحديث إثبات حسن صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، يؤيده ما رواه مسلم، عن عديّ بن ثابت قال: سمعت البراء بن عازب قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ في العشاء بالتّين والزّيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه «2» .   (1) البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الماهر بالقرآن مع الكرام البررة ... ، برقم (7544) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (792) . (2) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، برقم (464) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 10- تثقيل موازينه صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة: عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . [رواه مسلم] «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه» ، وحيث إن الرسول هو الذي دل على كل خير، ودعا إلى كل هدى، وحذر من كل ضلالة، فإن له من الأجر الموفور يوم القيامة، مثل أجور هذه الأمة جميعا، ولذلك فلا غرابة، أن تكون له الدرجة العالية الرفيعة في الجنة، التي لا تنبغي إلا له صلّى الله عليه وسلّم. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم ما أعده الله- عز وجل- وادخره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة من الأجر والثواب، ولم يقتصر مصدر هذا الأجر العظيم على هدايته ونصحه للأمة، بل من كون أنّ له من الأجر ضعف أجر أفراد الأمة على كل ما يصيبه من البلاء وكل ما يقوم به من الطاعات، ودليله ما رواه مسلم، عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنّك لتوعك وعكا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل، إنّي أوعك كما يوعك رجلان منكم» . قال: فقلت: ذلك أنّ لك أجرين؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل» . ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشّجرة ورقها» «2» . الفائدة الثانية: فضيلة الإرشاد لأعمال الخير، وتعليم الناس، والتواصي بالحق، ومساعدة فاعل الخير قدر الإمكان؛ لقوله: «من دعا إلى هدى» ، ويتفرع على ذلك الفائدة التالية. الفائدة الثالثة: الحث على تلقي العلم، حيث إن المسلم لن يدل على خير ويعلّمه الناس، حتى يعلم أن هذا العمل خير، وموافق لسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، حتى لا يدعو إلى بدعة أو يقع في محظور آخر، دون أن يدري، والذي يدل على وجوب العلم أولا قبل العمل، قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] ، وبوّب الإمام   (1) مسلم، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة ... ، برقم (2674) . (2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، برقم (2571) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 البخاري رحمه الله لهذه الآية بابا سماه (العلم قبل العمل) ، ولكن يجب أن يفهم هذا الكلام فهما صحيحا، ونكون وسطا، بين من ينصح ويأمر الناس دون أي علم، ودون أن يحقق شيئا حتى أمر التوحيد، وبين من يأخذ العلم جلّ وقته، ويترك النصح لأفراد المسلمين بحجة تلقي العلم أولا. فالقصد القصد، ومتى علم المسلم شيئا من المسائل وفهمها، فعليه إبلاغها، دون إفتاء أو توسع في الأمر، حتى لا ينجر إلى مسائل أخرى لا يعلمها، فيفتي بدون علم، ويجب عليه أن يتقي الله، فلا يستحي أن يقول: (لا أعلم) لمجرد أن الناس فهموا من نصحه أنه عالم، كما أن على الناس، أن ينتبهوا ممن يأخذون دينهم، فلا يتساهلون ويسألون من تيسّر أمامهم؛ لأنه ينصح أو يبدو عليه سمة الصلاح والتقوى، أو أنه متساهل في الفتوى، بل عليهم أن يجتهدوا، في معرفة أمور الحلال والحرام، ويعلموا أنهم إذا سألوا من لا علم عنده فقد أعانوا عليه الشيطان، ومرة بعد مرة، يتجرأ هذا الناصح على الفتيا ويتحرج أن يقول: (لا أعلم) . الفائدة الرابعة: البدعة في الدين أعظم وزرا من المعصية؛ لأن المعصية يتوب منها العبد، وخطرها- في الغالب- مقصور على صاحبها، أما البدعة فخطرها متعدّ لكل من رآها وعمل بها إلى يوم القيامة. الفائدة الخامسة: سعة ما عند الله- عز وجل- من الأجر والمثوبة لعباده المؤمنين، حيث يعطي من دعا إلى هدى أجره وأجر من عمل بدعوته إلى يوم القيامة، سبحانه هو الغني، وكذا سعة ما عنده من العقوبة. الفائدة السادسة: علمنا من الحديث أن أحدا لا يحمل عن أحد وزره، حتى ولو كان هو الذي أضله، ولكن الذي دعا إلى ضلالة يحمل مثل وزر من أضله، أي أنه يحمل وزرين: وزر الضلال ووزر الإضلال، وعلى هذا المعنى يفهم قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [النحل: 25] . 11- الأمر بالصدقة بين يدي نجواه صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12] . إنّ أمر الله المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم- أي الإسرار إليه- لهو من أبين الأدلة على عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، بما يضمن رفع شأنه وإظهار فضله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وبيان عظيم مكانته، وما قلته ليس من باب المبالغة في شيء، ولكن هذا فحوى ما قاله العلماء في تفسير الآية، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى: (أمر الله عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقدم بين ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله؛ لأن يصلح لهذا المقام) . انتهى «1» . وتدبر كلام ابن كثير، فإن معناه: أن مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، هي مقام مخصوص، لا يستوي مع غيره من المقامات، فإنه يشترط لمن يريد الوقوف بين يديه لمناجاته، إخراج صدقة يضمن بها طهارة نفسه وتزكيتها. فانظر لهذا المستوى الذي بلغت إليه مكانة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (أمر الله تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم تأديبا لهم وتعليما وتعظيما للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين وأطهر أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم وتحصل لكم الطهارة من الأدناس التي من جملتها ترك احترام الرسول صلّى الله عليه وسلّم) . انتهى «2» . وعليه فإن الشيخ قد جعل مجرد تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هو خير للمؤمنين وأطهر وبه يكثر الأجر والخير. وقد يقول القائل: كيف أمرت الآية المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ إظهارا لمكانته، وقد نسخت الآية، وقيل: إنه لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟. أقول: إن الآية قد أثبتت فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم بوجوب دفع الصدقة قبل مناجاته، وبينت أن هذا هو الخير والأطهر للمؤمنين، وكون الآية قد نسخت إلا أن الحكمة منها لم تنسخ، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وقد استقرت ولله الحمد في نفوس الصحابة ومن تبعهم بإحسان. 12- رؤية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء: 217- 220] . الشاهد في الآية: أثبتت الآية رؤية الله- عز وجل- لنبيه، وهي رؤية خاصة، المقصود بها العناية والحفظ، وليست رؤية إدراك وإحاطة، حيث إنها وردت بعد الأمر بالتوكل، وكأنها تحث عليه وترغب فيه، ولو كانت رؤية عامة، ما كان لذكرها مزية بعد الأمر بالتوكل؛ لأن الرؤية العامة تشمل الناس جميعا: متوكلين وغير متوكلين.   (1) تفسير ابن كثير (4/ 327) . (2) تيسير الكريم الرحمن (847) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ومثال الرؤية الخاصة: قوله تعالى لموسى وهارون: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] . وفي الآية فوائد منها: الفائدة الأولى: كمال عبادته لله- سبحانه وتعالى- من جميع الوجوه، والتي منها التواضع بها لله والخشوع، وحسن القيام والسجود، وتمام الإخلاص، حيث إن الآية وردت على سبيل التمدح من الله- عز وجل- والله لا يمتدح شيئا فيه نقص أو خلل، بدون توجيه، خاصة إذا كان يتعلق بقدوة هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: وعد الله- عز وجل- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالنصر والظهور على أعدائه، والرحمة له ولأمته، حيث أمره- سبحانه وتعالى- بالتوكل عليه، ورغّبه في ذلك بصفتين من صفاته، وهما العزة والرحمة. الفائدة الثالثة: عظيم أمر التوكل فبه يكفينا الله- عز وجل- أمر أعدائنا بالنصر عليهم، وويكفينا شرور أنفسنا بغفران السيئات. الفائدة الرابعة: ختمت الآيات بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فهو- سبحانه وتعالى- الذي يسمع دعاءك ويعلم حالك، وكأنه وعد منه- تبارك وتعالى- بتحقيق سؤله واستجابة دعائه، وقد تم ذلك كله بما تقر به عينه صلّى الله عليه وسلّم. 13- ولاية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . قيل: إن اللتين تظاهرتا على النبي صلّى الله عليه وسلّم هما عائشة وحفصة- رضي الله عنهما- حيث ذكرا له أن به ريح مغافير من العسل الذي يشربه عند إحدى نسائه، ولما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يجد أحد منه ريحا كريهة، حرم على نفسه العسل، فنزلت الآية توجه العتاب واللوم لعائشة وحفصة، وتعرض عليهما التوبة إلى الله بسبب ما بدر منهما وميلهن عما ينبغي من الورع والتوقير وعدم المشقة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل روايات أسباب النزول لا تختلف كثيرا عما ذكرت وهي روايات في الصحاح. والشاهد في الآية على اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بالنبي صلّى الله عليه وسلّم غاية العناية: أن الآية ذكرت أن الله- عز وجل- هو مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمولى هو المعين والناصر، وهو الذي يتولى أمر مولاه في كل شئونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 مما يوضح هذا المعنى ويجليه ويبين أن ولاية الله هي واحدة من أعظم شمائل النبي صلّى الله عليه وسلّم التي ربما نغافل عنها، أقول: مما يوضح ذلك، ما ذكره الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية، ونصه: (أي الجميع أعوان للرسول مظاهرون ومن كان هؤلاء أعوانه فهو المنصور، وغيره- مما يناوئه- مخذول. وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين حيث جعل البارئ نفسه الكريمة وخواص خلقه أعوانا لهذا الرسول الكريم) . انتهى. وفي الآية فوائد منها: الفائدة الأولى: عظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث ذكرت الآية أن الله- عز وجل- وصفوة خلقه هم مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم تقتصر الولاية على الله- عز وجل-، وإن كانت لتكفي ولو كان خصم النبي صلّى الله عليه وسلّم هم أهل السماوات والأرض، ولكن الولاية انسحبت لتشمل جبريل أعظم الملائكة قدرا وتشمل صالحي المؤمنين، ولم تقف الآية عند هذا الحد، بل جاء عموم الملائكة كلهم جميعا ناصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأعتقد أن الهدف الأعظم من ذكر أحد مع الله- تبارك وتعالى- في ولاية النبي صلّى الله عليه وسلّم، هو بيان فضله على الأولين والآخرين. الفائدة الثانية: في الآية الكريمة تخويف شديد ووعيد أكيد لمن يصدر منه أدنى إيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء في حياته أو بعد مماته، فإذا كانت الآية قد نزلت في حق زوجتين كريمتين طاهرتين، هما من أحب النساء إليه صلّى الله عليه وسلّم، في أمر قد يكون سهلا بسيطا جدّا لو حدث مع غير النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما بالكم لو صدر الإيذاء ممن هو دونهما في الفضل والشرف، وفيما هو أشد وأعظم، فما بالكم لو صدر الإيذاء ممن جعل نفسه خصما للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو محاجّا له أو مشاقّا لسنته، وإذا كان المولى- سبحانه وتعالى- لم يرض من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا كمال الأدب ولم يتسامح معهن في أقل القليل، فهل يرضى الله منا ما يفعل من تقصير في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟!. أيها المسلمون: الأمر أعظم بكثير مما نتصور كيف نتجرأ على تجاوز الأدب مع نبي قد ضمن الله له النصرة والموالاة من نفسه الكريمة ثم من أهل السماوات والصالحين من أهل الأرض؟. الفائدة الثالثة: في الآية إثبات أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم هو إيذاء لله وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين، بل إن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يسبب قطعا غضب الرب وملائكته لأنهم جميعا مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعليه فمن لا يتأذى ولا يغضب إذا انتهكت حرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم فنجزم قطعا أنه لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 يدخل في زمرة صالح المؤمنين. الفائدة الرابعة: في الآية أبلغ الحث على حب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومناصرته واتباع سنته؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- إذا كان يحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وينصره، فهو قطعا يحب من يتبعه وينصر من ينصره. لطيفة: لم يقتصر التأديب الرباني لزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم على إنزال هذه الآية العظيمة، بل أعقبتها آية هي أشد وقعا على جميع أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- وهي قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 5] ، فجاء التهديد القرآني الذي يراد به مراعاة عظيم الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنقاط التالية: 1- إمكانية التطليق، وفي هذا أشد الحرمان لهن، لما فيه من انقطاع شرف الانتساب لبيت النبوة، وجوار النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، ويا ليت الأمر يقتصر على ذلك بل سيحل محلهن زوجات أخريات، يفزن بهذا الشرف والجوار. 2- إن الذي سيبد له بالزوجات بعد التطليق هو الله تبارك وتعالى، الذي هو مولاه، فلن يترك الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الاختيار، وإذا كان الذي سيختار الزوجات هو الله، فنعم المختار، وما أحسن المختارات. 3- إثبات أن الزوجات- المبدل بهن- هن خير من الزوجات الكريمات اللاتي في عصمته صلّى الله عليه وسلّم، فهن على أحسن الأوصاف وأسمى الأخلاق، مع مراعاة أن الآية ذكرت التنوع في أصنافهن ففيهن الأبكار والثيبات، حتى لا يقول قائل: سيأتي الطلاق بالتشديد على الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الحال عند بقية الناس- بل سيكون حاله صلّى الله عليه وسلّم بعد طلاق جميع نسائه في منتهى التوسعة. فتدبر أخي القارئ كيف جاءت الآية على أحسن ما يكون في تهييج مشاعر الحب والغيرة في قلوب أمهات المؤمنين، بما يضمن عدم عودتهن إلى ما بدر منهن ولو كان أمرا بسيطا. وقد بينت في عدة مواضع، أن الكافرين كانوا إذا اتهموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بأي تهمة نزل القرآن بما يبرئه من هذه التهمة، وبما يرفع من قدره ويعلي شأنه، وهذا أيضا قد حدث في هذه الواقعة، والتي تحكي شأنا من شئون أمهات المؤمنين، فنزل القرآن بما يرشدهن إلى وجوب سلوك غاية الأدب، وبما يرفع أيضا شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث ثبتت له ولاية الله وجبريل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 والملائكة وصالح المؤمنين، مع وعده إذا طلق نساءه أن يجعل الله له ما يقر عينه، وهذه النكتة اللطيفة تحتاج إلى تأمل وتدبر. 14- معية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40] . الشاهد في الآية: أثبتت الآية معية الله- عز وجل-، لنبيه وصاحبه، قال تعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وهي معية خاصة؛ لأنها ذكرت بعد النهي عن الحزن، الذي حصل بسبب خوف أبي بكر الصديق على الرسول، وارتفع هذا الخوف بعلمه أن الله معهما بنصره وتأييده، فلن يصل إليهما أذى الكفار، ويؤكد هذا المعنى ما رواه البخاري عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا!!. فقال: «ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» «1» . أما المعية العامة، والتي يقصد بها العلم والإحاطة، ففي قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة: 7] . وفي الآية فوائد منها: الفائدة الأولى: ما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم 1- نصرة الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم، وهى نصرة تكفيه عن نصرة الناس أجمعين، فهمنا ذلك من قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، وورود النصر بصيغة الماضي دليل على تحققه وثبوته وإن لم يحدث بعد، ويؤيد نصرة الله له وحمايته من جميع الأعداء قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84] ، فلولا أن الله حاميه، وتكفل بنصرته، ما أمره بالجهاد ومدافعة الكفار ولو كان وحده؛ لأن فيه تهلكة له، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: من الآية 67] . 2- لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة مهاجرا إلى المدينة طواعية لطلب السلامة والأمن، بل   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر، برقم (3653) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 أخرج منها مضطرا، قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقد بينت ذلك في التعليق على حديث بدء الوحي. 3- حسن ظن النبي صلّى الله عليه وسلّم بربه، وعظيم توكله عليه، وكامل ثقته بأنه سينجز له وعده. 4- عظيم اعتناء الله- عز وجل- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بنصرته بإنزال التأييد المعنوي، وهو السكينة في القلوب، والتي نسبها- سبحانه وتعالى- إلى نفسه الشريفة فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ، وكذلك التأييد المادي بالجنود غير المرئية من قبل أحد من الناس، وإذا كانت الآية لم تذكر ماهية الجنود، بل نفت أن أحدا رآها، فإثبات تعشيش الحمام على الغار، ونسج العنكبوت، فيه نظر، إلا إذا ثبت بالحديث الصحيح، أما إذا كانت أخبارا لا تصل لمنزلة الصحيح، فيجب عدم الأخذ بها، لمناقضتها صريح القرآن، ونستفيد من الآية، عظيم قدرة الله- عز وجل-، إذ نجى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه الصديق، وهما في شدة الضعف والحول، على أعدائهما وهم في شدة القوة والصول. فسبحان من ينصر من يشاء بما يشاء على من يشاء. الفائدة الثانية: ما يتعلق بمناقب الصديق رضي الله عنه 1- تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالهجرة معه، وما صاحب ذلك من خلوته بالنبي صلّى الله عليه وسلّم عدة أيام، ينفرد به في الأكل والشرب والحديث، بل ويكون في خدمته وحده، لا شك أن ذلك منقبة عظيمة للصديق، لم يشاركه أحد فيها، مما يدل على أفضلية الصديق عن بقية الصحابة رضي الله عنهم. 2- إثبات الصحبة منقبة عظيمة، أما إثباتها في القرآن الكريم، فهي منقبة ما بعدها منقبة، لأنه ينبني عليها، أن من أنكر صحبة أبي بكر فقد كذب بظاهر القرآن، لأنه لا خلاف بين الأمة أن الذي هاجر مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هو أبو بكر، أما الذي يذمه، فهو في خطر عظيم، لأن الله مدحه في هذه الآية أبلغ المدح، فكيف يكون المدح يتلى إلى يوم القيامة، في حق من يذم ويسب، على حد قولهم. 3- إثبات معية الله- عز وجل- له، منقبة أخرى تضم إلى ما سبق، وينطبق عليها ما سلف. 4- ذكر الله- سبحانه وتعالى- له مع نبيه في ضمير واحد يشركهما معا، له فضل كبير من الله على صديق هذه الأمة، قال تعالى: إِذْ هُما فِي الْغارِ، ينضم إليه إثبات أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ثاني الاثنين، أي ليس معهما أحد من البشر، قال تعالى: إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين. 5- تعظيم شأن هجرته، حيث ذكر الله خروجه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق المدح، وهذا أكبر دليل على أنها كانت في سبيل الله، وإثبات المعية والصحبة، يتوجب تضعيف الحسنات ورفع الدرجات، لأن الهجرة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليست كالهجرة مع غيره، فهي مناقب بعضها فوق بعض، لا ندري أيها أعظم. 6- يتفرع على ما سبق، وجوب حب صدّيق هذه الأمة. ومن علامات هذا الحب، كثرة الثناء عليه، وذكر مناقبه، والذب عن عرضه، والامتنان له بما قدمه لله ورسوله، روى البخاري عن ابن عبّاس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه عاصب رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «إنّه ليس من النّاس أحد أمنّ عليّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متّخذا من النّاس خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام أفضل، سدّوا عنّي كلّ خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر» «1» . أقول: حسبنا هذا الحديث لمعرفة فضل الصديق. الفائدة الثالثة: يستدل من الآية أن الهجرة كانت نصرا للرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ ذكرت الخروج بعد إثبات نصرة الله لرسوله، قال تعالى: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. الفائدة الرابعة: وهي لطيفة من لطائف القرآن العظيم، حيث ورد في الآية: وَكَلِمَةُ اللَّهِ مرفوعة، على أنها مبتدأ، ولم تعطف على وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا، كما يتبادر إلى ذهن القارئ، وهذا يفيد أن الله هو الذي جعل كلمة الذين كفروا في السفال، أما كلمة الله، فهي دائما في علو قبل وبعد الهجرة. ونستفيد أيضا، ملاءمة ما يذكر في ختام الآية، من أسماء وصفات لله تعالى، مع معنى الآيات، وما يذكر فيها من أحكام، فالآية هنا ختمت بصفتي العزة والحكمة، فبعزة الله- سبحانه وتعالى-، نصر عبده وصاحبه على جحافل الكفار، وبحكمته قدّر الهجرة لتكون نصرا مبينا لدينه ونبيه صلّى الله عليه وسلّم. ونصيحة لكل مسلم أن يتدبر القرآن وهو يقرأه، ليتلمس ما فيه من البدائع والفوائد، وأن يأخذ بالأسباب التي تعينه على مطلوبه.   (1) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، برقم (467) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 15- الوعد بنصره صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة: قال تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [الحج: 15] . فالآية أثبتت أن الله- عز وجل- ناصر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم لا محالة في الدنيا والآخرة، وأن كيد أعدائه لن يستطيع أن يرد نصر الله له، قال ابن كثير في شرح هذه الآية الكريمة: (من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة) . انتهى «1» . وقد ذكر القرطبي عن النحاس «2» معنى آخر للآية فقال: (من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه فليطلب صلة يصل بها إلى السماء ثم ليقطع النصر إن تهيأ له) «3» . والحاصل أن كل التفاسير تتفق في معنى واحد للآية، وهو أن الله ناصر نبيه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة. وفي الآية عدة فوائد منها: الفائدة الأولى: أن الله، - عز وجل-، قد وعد نبيه- وهو في مكة قبل الهجرة، وهو لا يزال مستضعفا- بالنصرة في الدنيا والآخرة، وهذه البشرى من أعظم دلائل نبوته، صلّى الله عليه وسلّم، ولولا أن هذا الوعد من الله، ولولا صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، في التبليغ عن ربه، ما أحرج نفسه أمام أصحابه رضي الله عنهم بإعلان هذا الوعد، ولكان اكتفى بذكر النصر في الآخرة دون الدنيا، لأن تحقق الوعد من عدمه لن يخفى على أحد في الدنيا بعكس الآخرة، وبعد أن تحققت هذه البشرى في الدنيا كأحسن ما يكون، لم يبق للكفار حجة على الله في تكذيب نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: إذا كان النصر في الدنيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم يكون بالظهور على الأعداء وانتشار دينه والتمكين لأهله في الأرض، فكيف يكون نصره صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة؟، أقول: يكون بمنحه أعظم المنح والمقامات، كالشفاعة العظمى واللواء المعقود ونهر الكوثر، وإسكانه   (1) تفسير ابن كثير (3/ 21) . (2) هو أحمد بن محمد المفسر توفي عام (338 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (8/ 14) . (3) الجامع لأحكام القرآن (12/ 21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الدرجة العالية الرفيعة في الجنة، التي لا يكون لغيره مثلها أبدا، مع إكرام أصحابه وأتباعه بإدخالهم الجنة، والتفضل عليهم بكل أنواع النعم. ومن تمام النصر في الآخرة، إدخال أعدائه النار وتعذيبهم وألايكون لهم أدنى ذكر حسن في الآخرة، بل الذم كل الذم، والتبكيت والتشفي، بل الندم والحسرة أن لو كانوا اتبعوه صلّى الله عليه وسلّم، وصدقوه، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] ، فسبحان الذي جعل الظالم يذكر أن سبب حسرته وندمه هو عدم اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثالثة: أن النصر بيد الله، - عز وجل-، وحده وهو يأتي من السماء، وإذا كان النصر من عنده وحده، فيجب على المسلمين ألايطلبوا العون والنصر إلا منه- سبحانه وتعالى- وألا يتوكلوا إلا عليه، وأن يتيقنوا أن أحدا لا يقدر على رد نصر الله لهم، قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160] . الفائدة الرابعة: على المسلمين ألا يبأسوا من نصر الله لهم في الدنيا، فهذا واقع لا محالة، لأن الآية وعدت بنصر النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، أي كل زمن الدنيا لعدم ورود التقييد في الآية، ومن لوازم نصر الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن ينصر دينه وكتابه وأتباعه، شريطة أن نعود إلى الله- عز وجل- وأن نتمسك بالعروة الوثقى، وأن نتبع سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وقد أثبت القرآن الكريم أن الله ناصر رسله والذين آمنوا في الدارين، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] . 5- أثبتت الآية غيظ الكفار من نصرة الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ولكتابه ولدينه، وأنهم حريصون كل الحرص على أن يطفئوا نور هذا الدين، ويفضّوا الناس من حول بكل أنواع المكائد الممكنة. 16- جعله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين: قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب: 40] . من كريم نعم الله على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، أن ختم به النبيين، لأن الخاتم يثبت له ما لا يثبت لإخوانه من الأنبياء، ومن ذلك على سبيل المثال: 1- أن يكون كتابه هو المهيمن على بقية الكتب السماوية المنزلة، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] . 2- أن تكون شريعته هي الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة، لأنه لا شريعة بعد شريعته صلّى الله عليه وسلّم. 3- ألايحدث أي نسخ- بعد مماته- لكل ما جاء به من كتاب أو سنة. 4- مطالبة كل أمة- تحت أديم السماء- من يوم بعثته إلى يوم القيامة- بالإيمان به والتصديق التام بكل ما جاء به، بل يكون الإيمان بجميع الرسل داخلا في طيات الإيمان به؛ لأنه هو الذي دل على نبوتهم جميعا. 5- أن يكون هو صلّى الله عليه وسلّم، الحكم على أفعال كل الأمم السابقة، يزكي حسناتهم ويحذر من سيئاتهم، ولم يثبت ذلك لأمة من الأمم، ثم إن جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام مبشرون به مزكون لأمته. ومعلوم أن الخاتم لكل شيء هو أحسن وأجمل ما في الشيء، ولذلك يزين به، ولا يكتمل جمال الشيء إلا به، قال تعالى واصفا جمال شراب أهل الجنة: خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير الآية الكريمة ما نصه: (فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم إليهم ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله- تبارك وتعالى- في كتابه، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في السنة المتواترة عنه ألانبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك ضال مضل) . انتهى «1» . وقد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله ومثل بقية الأنبياء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلّا وضعت هذه اللّبنة! قال: فأنا اللّبنة وأنا خاتم النّبيّين» «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: إثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه خاتم النبيين، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى: (فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق   (1) تفسير ابن كثير (3/ 95) . (2) البخاري، كتاب: المناقب، باب: خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم، برقم (3535) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس) . انتهى «1» . الفائدة الثانية: علل الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى ورود الآية على هذا النسق، بكلام لطيف، وهذا نصه: (ولما كان هذا النفي عامّا- يقصد نفي أبوة النبي لأحد من رجال الأمة- في جميع الأحوال إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره، أي: لا أبوة نسب ولا أبوة ادعاء، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أب للمؤمنين كلهم، وأزواجه أمهاتهم فاحترز أن يدخل هذا النوع في عموم النهي فقال: ولكن رسول الله وخاتم النبيين، أي: هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع المهتدى به المؤمن له الذي يجب تقديم محبته على محبة كل أحد الناصح الذي لهم- أي: للمؤمنين- من برّه كأنه أب لهم) . انتهى كلامه رحمه الله «2» . الفائدة الثالثة: من اعترض على نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو اعترض على كونه خاتم النبيين وما يستتبع ذلك من أحكام، فقد طعن في علم الله- عز وجل-؛ لأن الآية قد بينت أن الله بمقتضى واسع علمه، قد اختص النبي بكونه خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. الفائدة الرابعة: إذا كان نفي أبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأي من رجال الأمة، تنسحب على أبوة النسب، فتكون هذه الآية هي من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، حيث لم يبلغ الحلم ولد من أولاده الذكور عليهم جميعا الصلاة والسلام. 17- النبي صلّى الله عليه وسلّم خليل الله: عن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كنت متّخذا من أهل الأرض خليلا لاتخّذت ابن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» . [رواه مسلم] «3» . الخلة لله- سبحانه وتعالى- هي أعظم مقامات العبد، بل هي منتهى تلك المقامات، فليس بعدها من مقام، فهي أرفع قطعا من مقام المحبة، حيث ثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له، ولكن الخلة لم تثبت إلا لاثنين لا ثالث لهما، هما محمد وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام.، وقد ثبتت خلة إبراهيم بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] .   (1) تفسير ابن كثير (3/ 494) . (2) تيسير الكريم الرحمن (667) . (3) مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2383) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وللخلة معان كثيرة ذكرها العلماء، فالخلة من العبد معناها: الافتقار والانقطاع، فخليل الله هو المنقطع إليه وقيل: سمّي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته، وقيل: هو الذي ليس في محبته خلل. أما خلة الله للعبد، فمعناها: نصرة العبد وجعله إماما لمن بعده، وقيل: هي كامل المحبة والاصطفاء. وأضيف فأقول: إذا كانت رؤية الله- عز وجل- ثبتت للمؤمنين يوم القيامة، وإذا كان الكلام سيحدث أيضا بين الله وبين عباده المؤمنين ليس بينه وبينهم ترجمان، فإن الخلة ستبقى هي الخصلة التي اختص بها محمد وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام- لم يشاركهما فيها أحد في الدنيا والآخرة. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كمال عصمته صلّى الله عليه وسلّم وتمام هداية الله له، فمن ثبتت خلته لله، وخلة الله له، فقد ثبت له كمال العصمة وتمام الهداية، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر» ، رواه البخاري «1» ، وقال في حديث الباب: (ولكن صاحبكم خليل الله) . الفائدة الثانية: الذي اتخذه الله خليلا، لا ينبغي له أن يتخذ أحدا من خلق الله خليلا له، لأن الخليل لا يتسع قلبه إلا لخليل واحد، أما المحبة فيتسع القلب لأكثر من حبيب، والدليل على ذلك أن محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ثبتت لأصحابه رضي الله عنهم ولأزواجه. الفائدة الثالثة: الأخبار التي ورد فيها أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا؟ وأما إلى الله فإن علمه بحالي يغني عن سؤالي هي أخبار لا أصل لها ولم يثبت فيها حديث، وينبغي ألانتناقلها؛ لأنها تشعر بتنقص إبراهيم لجبريل- عليهما الصلاة والسلام- وذلك في قول إبراهيم: «أما لك فلا» ، كما أنها تشعر بعدم الحاجة للتوجه إلى الله بالدعاء والتضرع، فضلا عن عدم ثبوت الرواية. الفائدة الرابعة: وهي فائدة عامة، أراني مضطرا لذكرها في كل مناسبة؛ وذلك لعظيم أثرها في الفرد والمجتمع، ولترسخ في نفوس جميع أهل الإسلام، بل وفي نفوس غير المسلمين، وهي الحذر كل الحذر من تنقص مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الترفع عن طاعته واتباعه أو الطعن في سنته؛ لأننا إذا فعلنا ذلك- والعياذ بالله- فقد عادينا عبدا قد اتخذه الله خليلا،   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سدوا الأبواب» ، برقم (3654) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وبموجب هذه الخلة يغضب الله لغضبه، ويعادي عدوه، ويبغض باغضه، وينتقم ممن أراد به سوآ، وفي المقابل يثبت الخير من الله لكل من أحبه واتبع سنته صلّى الله عليه وسلّم. 18- النبي صلّى الله عليه وسلّم كليم الله: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم من عظيم فضله ورفيع قدره قد شارك إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- في منزلة الخلة، فقد شارك موسى- عليه الصلاة والسلام- في الكلام مع ربه قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، وهي منزلة عظيمة، قال القرطبي- رحمه الله تعالى: (تكليما مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان من يقول خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما، وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا) . انتهى «1» . أما كلام الله- عز وجل- مع الحبيب محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد كان ليلة الإسراء والمعراج ونعلم بثبوت كلام الله لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أن الله- عز وجل- لم يخص نبيا من أنبيائه بفضيلة إلا كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم منها أوفر الحظ وأكمله، فقد شاركهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل الفضائل والشمائل- حتى المعجزات الحسية، وزاد عليهم- بفضل الله ومنته- شمائل عظيمة انفرد بها دون غيره، وقد ذكر بعضها مبسوطا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب. 19- تطهير قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حظ الشيطان: عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشقّ عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظّ الشّيطان منك، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثمّ لأمه، ثمّ أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه- يعني ظئره- فقالوا: إنّ محمّدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللّون. قال أنس: وقد كنت أرئي أثر ذلك المخيط في صدره. [رواه مسلم] «2» . الشاهد في الحديث: قول جبريل عليه السلام: «هذا حظ الشيطان منك» بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كانت للنبي عليه السلام طفولة يلعب فيها مع الغلمان، ويعجبه ما   (1) الجامع لأحكام القرآن (6/ 18) . (2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، برقم (162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 يعجب الغلمان، إلا أن الله- عز وجل-، عصمه منذ طفولته مما يخدش الحياء، أو يطعن في المروءة، حتى من الأشياء التي يتساهل فيها الغلمان، مثل التعرى، أو سماع المعازف والأغاني المحرمة، فهذه الأمور ما كان النبي عليه السلام يشارك فيها أقرانه حتى وهو غلام لم يجر عليه القلم بعد. الفائدة الثانية: اعتناء المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم غاية الاعتناء منذ صغره، ويتبين ذلك من: 1- إرسال جبريل أعظم الملائكة للقيام بهذه المهمة المباركة، وكان يكفي أن يقوم بها أي ملك آخر خاصة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما زال صغيرا. 2- عصمة الله، - عز وجل-، لنبيه منذ الصغر، باستخراج حظ الشيطان من قلبه، وهذا يدل على عصمته قبل وبعد النبوة، وأن الشيطان ليس له أي دخل في أعماله وأقواله، التي صدرت منه في كل أحواله، ومن يشكك في ذلك فقد كذّب بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن كذّب النبي فقد كذّب الله- عز وجل-، وأقول: أن الحكمة من غسل القلب بعد استخراج العلقة منه، هو تطهير مكان العلقة بعد إزالتها حتى يتأكد من التطهير الكامل للقلب، من العلقة وأثرها. 3- دلنا شرف الغاسل، وشرف المادة المستخدمة في الغسل، ونفيس الوعاء، على شرف المغسول، وهو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويدلنا أيضا على اعتناء الآمر بالغسل، وهو الله- عز وجل-. الفائدة الثالثة: التكاليف الشرعية للملائكة، غير تكاليف عباد الله المؤمنين، كما أن هيأتهم، ليست كهيأتنا، والدليل على ذلك استخدام الملائكة طستا من ذهب لغسل قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يقال: إن هذا قبل تحريم استخدام الذهب للمسلمين، فهذا بعيد جدّا، لأني لا أتصور أن شرائع الملائكة يدخل فيها النسخ، لعدم وجود علل النسخ في حقهم، كما أن المستخدم هنا للذهب هم الملائكة وليس النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى نقول أن هناك نسخا. الفائدة الرابعة: غسل القلب كان يمكن أن يكون بغير شق الصدر، وبغير إرسال جبريل عليه السلام وبغير أن يصرع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن تحققت فوائد كثيرة من هذه العملية وهي: 1- إظهار عجائب قدرة الله- عز وجل-، وما منحه الله لملائكته من عظيم خوارق العادات، فجبريل عليه السلام يفتح صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما زال غلاما، ويستخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 القلب ويغسله بالماء، ثم يعيده مكانه، ثم يلأم الجرح مرة أخرى، وتظهر علامة هذا الالتئام، كأنه المخيط في صدره، كل ذلك دون أن يشعر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأدنى ألم، أثناء وبعد العملية، ودون أن يستخدم جبريل أي أدوات جراحية، أو أجهزة طبية لضمان بقاء النبي صلّى الله عليه وسلّم حيّا، كل ذلك كان إظهارا لعجائب قدرة الله- سبحانه وتعالى-، فتدبر أخي المسلم. 2- إجراء هذه العملية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووجود أثر مخيط في صدره، يراه هو ويراه غيره، كلما كشف عن صدره، فيه: أ- تذكير النبي عليه السلام بعظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض والسماوات، فيكون ذلك أدعى له بتصديق كل ما وعده الله به، حتى وإن كانت أمورا خارقة للعادة، ستحدث على غير المألوف من نواميس الكون، والدليل على ذلك أنه استقبل حادثة الإسراء والمعراج بنفس مطمئنة مصدقة لما حدث، وذلك لسابق علمه بقدرة الله، وأنه قد عايش هذه المعجزات من قبل. ب- تذكيره صلّى الله عليه وسلّم بعناية الله به منذ صغره، فالذي اعتنى به وأرسل له جبريل يغسل صدره، لن يخذله ولن يتخلى عنه بعد البعثة من باب أولى. ج- رؤية الصحابة رضي الله عنهم أثر المخيط في صدره، فيه تثبيت لهم، وإعلام بعلو قدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، وبيان قدرة المولى- سبحانه وتعالى-. وهذه من أعظم حكم المعجزات الحسية، قال أنس: (وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) . كل تلك الحكم، ما كانت لتحدث لو أن غسل القلب حدث بدون شق الصدر، فمن عاين ليس كمن سمع. الفائدة الخامسة: بركة وشرف ماء زمزم؛ لأن جبريل عليه السلام قد غسل قلبه- عليه الصلاة والسلام.، بهذا الماء في هذه الواقعة العظيمة، ولو كان هناك ماء أشرف منه لاستخدمه جبريل عليه السلام. ولكن لا يؤخذ من هذه الواقعة اعتقاد أن ماء زمزم له مزية إذا استخدم في غسل الجسم، أو الوضوء، أو غسل كفن المسلم، كما يفعله بعض المسلمين من بلاد آسيا، وذلك للأسباب التالية: أ- استخدام ماء زمزم كان لغسل الباطن، وهو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس لاستخدام الأعضاء الظاهرية كما في الغسل والوضوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ب- ما تفعله الملائكة ليس بتشريع لنا، لأن الله لم يأمرنا بالاستنان بأفعالهم. ج- لم يشرع لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم استخدام ماء زمزم في الغسل والوضوء، ولم يحثنا على ذلك، ولم يرتب على الوضوء والغسل بماء زمزم أي ثواب أو مزية، ومازال الصحابة والتابعون وعلماء الأمة يشربون من ماء زمزم ويدعون بخيري الدنيا والآخرة مما يدل على شرف هذا الماء واستعماله لما يستعمل له. الفائدة السادسة: نجزم قطعا أن هذه الحادثة كانت يقظة وليست مناما، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعاها ورآها عيانا، وكذلك رآها البعض، وذلك للأسباب التالية: 1- قول أنس: (أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه) . 2- رؤية الغلمان ما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا شهود عيان لما حدث، لقول الراوي: (وجاء الغلمان إلى أمي- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل) . 3- لو كان غسل القلب حدث مناما، ما كان هناك حاجة إلى شق الصدر حقيقة ولأمه ووجود أثر المخيط للالتئام، لأن طبيعة المنام تختلف اختلافا بينا عن طبيعة اليقظة. الفائدة السابعة: وجود علقة في قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإرسال جبريل لاستخراجها، وغسل القلب من أثرها، يدل دلالة قاطعة، أن كل أحد دون النبي صلّى الله عليه وسلّم، من باب أولى، يوجد في قلبه هذه العلقة وعلى المسلم أن يعتقد ذلك، حتى يبقى في جهاد مع نفسه التي يوجد بها حظ للشيطان، كما عليه أن يسأل الله- عز وجل- الثبات في الأمر، وألا يركن إلى نفسه أبدا. الفائدة الثامنة: القلب هو سيد الأعضاء وهو الذي يأمرها وينهاها، فبصلاحه يصلح الجسد كله، وبفساده يفسد الجسد كله، والدليل على ذلك من الحديث، أن العلقة، وهي حظ الشيطان، موجودة في القلب وحده، ولو كان هناك عضو آخر له هذا التأثير على البدن لأمر جبريل عليه السلام بغسله. 20- ملء القلب إيمانا وحكمة: عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أنا عند البيت بين النّائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول أحد بين الثّلاثة فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا» . قال قتادة: قلت لأنس بن مالك: ما يعني؟ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 «إلى أسفل بطني فاستخرج قلبي فغسل قلبي بماء زمزم ثمّ أعيد مكانه ثمّ حشي إيمانا وحكمة» «1» . الشاهد في الحديث: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم حشي إيمانا وحكمة» . [ فوائد الحديث ] وقد أوردت هذا الحديث، وأفردت له بابا مستقلّا، رغم مشابهته تماما لحديث الباب الذي قبله، وذلك لعدة فوائد هي: الفائدة الأولى: إثبات أن الواقعتين مختلفتان تماما، وأن شق صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم وغسل قلبه، قد وقع مرتين، والدليل على ذلك ما ورد في الحديث الأول: (أتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان) ، أي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يزال غلاما في رعاية ظئره، أما الواقعة التي معنا في حديث الباب، فكانت ليلة الإسراء والمعراج قطعا، فقد ورد في إحدى روايات الحديث عند مسلم: «فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة ثم أوتيت بدابة أبيض يقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه أقصى طرفه» «2» . الفائدة الثانية: إظهار عظيم اعتناء المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه الكريم صلّى الله عليه وسلّم عند إثبات أن واقعة شق الصدر وغسل القلب حدث مرتين لا مرة واحدة. الفائدة الثالثة: الوقوف على الفارق الجوهري بين الواقعتين، فالواقعة الأولى التي حدثت أيام صبا النبي صلّى الله عليه وسلّم حدث فيها إخراج العلقة التي هي حظ الشيطان من قلبه صلّى الله عليه وسلّم. والواقعة الثانية التي حدثت ليلة الإسراء والمعراج، حدث فيها حشو القلب إيمانا وحكمة، فما حدث في كل واقعة يناسب المرحلة التي كان يمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان غلاما كان في حاجة ماسة إلى عدم تعرضه لوساوس الشيطان، أما بعد البعثة، فكان أحوج ما يكون صلّى الله عليه وسلّم للإيمان والحكمة، إيمان يعينه على مواجهة المحن والمصائب، وحكمة يتحلى بها في مواجهة المواقف والأزمات، وقد رأينا ذلك جليّا من خلال سيرته الزكية صلّى الله عليه وسلّم. وفي كلتا الواقعتين، غسل القلب بماء زمزم لحاجة الإنسان المستمرة لطهارة القلب ونقائه، فلله الحمد والمنة. لطيفة: قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثم حشي إيمانا وحكمة» ، وفيه: 1- بيان قدرة الله- سبحانه وتعالى- التي لا يقدر على وصفها واصف ولا يقدر على   (1) مسلم بنحوه، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، برقم (164) . (2) سبق تخريجه، انظر ما قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فهم كنهها عاقل، حيث جعل الله- عز وجل- الجواهر أعراضا، والمعنويات محسوسات، حيث جاء جبريل بالإيمان والحكمة في طست من ذهب، ورد في إحدى روايات البخاري: «ثم أوتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوّا إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه ثم أطبقه» «1» . وعلى العبد ألا يتعجب من هذا، فإن الله كان قادرا على أن يجعل الإيمان والحكمة أعراضا نراها ومحسوسات نلمسها، ولكن قضت حكمته، عز في علاه، أن يجعل الإيمان والحكمة جواهر، ويقلبها وقتما شاء أعراضا، فالكل في قدرته سواء، وهي في حق الإنسان معجزات لأنه لم يألفها، بل ألف عكسها وضدها. 2- حشو القلب بالإيمان والحكمة، دليل قاطع على أنه ليس في قلب رسولنا صلّى الله عليه وسلّم أي محل لما يمكن أن يطرأ عليه من تغيرات إيمانية، فلو عرضت- حاشا لله- أي شبهة أو نزوة فلن تجد لها منفذا لتستقر في هذا القلب الشريف، لعدم وجود أقل مكان لها، حيث ملئ المحل كله بالإيمان والحكمة، وقد ضربت هذا المثل مع استحالته لتقريب الصورة إلى الأذهان، وليعلم كل أحد منزلة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. 3- استخدام لفظ (حشي) أبلغ في إيصال المعنى المراد، وهو أتم فائدة من لفظ (ملأ) ، لأن لفظ (الحشو) يستخدم فيما ملئ بقوة، مع الحرص التام على عدم ترك أي ثغرة بدون إيصال المادة المحشو بها، أما لفظ (الملء) فهو أقل من ذلك معنى، فمع الملء قد يكون الهواء، أما مع الحشو فيستحيل، وهذا الفهم يزيدنا إيمانا بعلو منزلة نبينا صلّى الله عليه وسلّم عند ربه. الفائدة الرابعة: خير ما يملأ به العبد قلبه هو الإيمان والحكمة، ولو كان هناك أعظم منهما في نفع العبد لملئ به قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان هناك ما يماثلهما أو يحتاج إليه العبد مثل حاجته للإيمان والحكمة لجعلت في قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم. 21- إسلام قرينه صلّى الله عليه وسلّم: عن عائشة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج من عندها ليلا قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع فقال: «ما لك يا عائشة أغرت» فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أقد جاءك شيطانك» قالت: يا رسول الله أو معي شيطان قال: «نعم» قلت: ومع كلّ إنسان قال: «نعم» قلت ومعك يا رسول الله قال: «نعم ولكن ربّي أعانني   (1) البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، برقم (7517) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 عليه حتّى أسلم» . [رواه مسلم] «1» . الشاهد في الحديث: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» . في الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلّى الله عليه وسلّم. 1- خرق الله- سبحانه وتعالى- العادة له بإسلام قرينه الشيطان، وما حدث ذلك إلا بإعانة الله له صلّى الله عليه وسلّم. 2- كمال عصمته صلّى الله عليه وسلّم فبالإضافة إلى غسل قلبه بماء زمزم، وإخراج حظ الشيطان من قلبه، جاء إسلام قرينه، حتى تكتمل منظومة العصمة، وكان يمكن أن يموت ذلك القرين، أو لا يكون هناك قرين أصلا، ولكن المعجزة أنه يسلم ولا يموت، حتى يأمره بالخير، فهي معجزة على معجزة، وعصمة فوق عصمة، جاء عند مسلم: «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» ، فالقلب قد طهر وغسل ونزع منه حظ الشيطان، وملئ بدلا من ذلك إيمانا وحكمة، والقرين قد أسلم، ويأمره بالخير، واللسان قد حفظ فلا ينطق عن الهوى، والبصر قد شملته الرعاية الإلهية، فلا يزيغ ولا يطغى، والذكر قد رفع، والذنب قد محي، مع عدم وجوده أصلا، فله الحمد، - سبحانه وتعالى- أن طهر نبينا من كل ما يسوء، ومنحه كل ما يعلو به ويرفع قدره. 3- لطف النبي صلّى الله عليه وسلّم مع زوجاته وعذره لهم على ما يجدنه في نفوسهنّ من الغيرة الشديدة عليه، وعدم نهرهن على ذلك، لعلمه بضعف المرأة، ورحمته بهذا الضعف، لأنه لما رأى أن عائشة تبحث عنه، وهي متحيرة، تظن أنه قد ذهب لغيرها في ليلتها، لم ينهرها عن هذا الظن، بل لم يزد عن كلمة واحدة، (أغرت) وهذا أيضا من كمال عقله وحكمته، وتظهر أيضا فراسته، حيث علم من حال عائشة- دون أن تتكلم- ما أصابها من الغيرة. وعلينا جميعا أن نسلك هذا المسلك مع نسائنا، فنرحم ضعفهن، ولا نعين الشيطان عليهن، ولا نضع أنفسنا في موضع الشبهات، حتى لا نشعل في نفوسهن الغيرة، التي قد تدفعهن إلى ما لا تحمد عاقبته من الأمور، وهذا امتثال لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: من الآية 21] . 4- وضاءة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند زوجاته وعلو منزلته عندهن، والاعتراف له بذلك، فهذه   (1) مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، برقم (2815) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 عائشة رضي الله عنها، المرأة التي لم يتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بكرا غيرها، التي قالت عنها أمها في حديث الإفك: إنها وضيئة، والتي كانت تصغر النبي صلّى الله عليه وسلّم، بخمس وأربعين سنة، تقول للتقليل من شأنها بجوار شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولتعظيم شأنه بجوار شأنها: (ومالي لا يغار مثلي على مثلك) . ولتأخذ المرأة المسلمة العبرة والدرس من أم المؤمنين في معاملتها الزوجية، فلا تعالي ولا ترفّع على الزوج، بل الإقرار له بحقه ومكانته والتواضع معه، وعلى المرأة أن تعلم أن هذا الإقرار لن يحط من شأنها، بل يرفع من قدرها عند زوجها، وقبل ذلك فإنها تنال رضا خالقها ومولاها. 5- مجاهدة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لشيطانه حتى أسلم، ونستدل على أن تلك المجاهدة قد حدثت، من قولهه: «أعانني عليه» ، وجعل غاية إعانة الله أن الشيطان قد أسلم، قال «حتى أسلم» . 6- إقراره صلّى الله عليه وسلّم بالضعف والعبودية، في جنب الله- عز وجل-، وإعلان حاجته الدائمة له، وذلك من قوله: «ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» ، وفيه أيضا تعليم للأمة وإرشاد لها، أنه لا يطلب العون إلا من الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا ينبغي للعبد أن يعتمد على ما عنده من إيمان وفضل، وليعلم كل أحد أن الاستعانة بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كفر يخرج من ملة الإسلام. الفائدة الثانية: في فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. 1- ظهور حبها الشديد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى أنها تقلق وتتحير، عند ما تفتقده ليلا، مع تواضعها الجم، في قولها: (ومالي لا يغار مثلي على مثلك) . 2- فقهها وطلبها للعلم، وانشغالها بالأهم من الأمور عن المهم، يؤخذ ذلك من تركها لموضوع الغيرة تماما، وانشغالها بالسؤال عن الشيطان، وهل مع كل إنسان شيطان، وهل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله، وكل ذلك الاستقصاء والاستفصال منها، زادنا علما وفقها في أمور الدين، فجزاها الله عنا خيرا، وهكذا يجب أن تكون المرأة المسلمة، من الاهتمام بالأمور الشرعية، وترك المهم للسؤال عن الأهم، خاصة إذا تعلق بأمور دينها. 3- ومن فقهها أيضا، أنها لم تستح من الحق، وسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشيطان فقالت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 (ومعك يا رسول الله) ولكن انظر كيف توسطت وتأدبت، مع مقام النبوة، حيث قالت: (ومعك يا رسول الله) ولم تذكر في كلامها الشيطان ولم تنسبه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه قال لها: «أوقد جاءك شيطانك» . وهذا الأدب ينبغي لنا أن نتحلى به عند الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكنت قد بوبت هذا الباب بعنوان: (إسلام شيطانه) ، ثم رأيت أن هذا من سوء الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث نضيف إليه الشيطان، فغيرت العنوان إلى: (إسلام قرينه) ، ولما تدبرت الحديث؛ علمت أن هذا الأدب، قد سبقتني إليه أم المؤمنين رضي الله عنها فسبحان من جعلهم يسبقوننا في كل خير، ولا نسبقهم في أي شيء. الفائدة الثالثة: بشرية النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو بشر، يجري عليه كل ما يجري على البشر من سنن الله الكونية، ولا نثبت له ما يخالف البشرية، إلا بدليل من الكتاب أو السنة، حتى لا نقع في الغلو الذي نهينا عنه، والذي أهلك من كان قبلنا، فقد روى البخاري عن ابن عبّاس سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» «1» . فما كان لنا أن نحكم أو نعتقد بإسلام قرين النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بعد ثبوت الدليل على ذلك، ويجب أن يكون الدليل صحيحا صريحا، حتى لا نقع في الكذب على الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أثبت الله- عز وجل-، في القرآن الكريم، بشرية النبي صلّى الله عليه وسلّم في آية لا تحتمل التأويل قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: من الآية 110] . وهذه الآية أصل أصيل في إثبات كل الصفات البشرية للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ما ورد الدليل بغيره، وقد فهمت عائشة رضي الله عنها ذلك، وأثبتته في الحديث؛ لأنه لما وضح لها أن الشيطان مع كل إنسان، وكانت عائشة تتيقن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنسان، له صفات كل إنسان، سألته فقالت: (ومعك يا رسول الله) . ولولا علمها بذلك، ما سألته عن القرين أو حتى كانت تستحي أن تسأله عن ذلك، ولولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر، فيه كل صفات الإنسان، لأنكر عليها السؤال، أو وجهها إلى الحق في المسألة، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم أقرها على سؤالها، وبين لها الإجابة غاية البيان. وأنصح كل من يقرأ كتابي هذا- مع تواضعه-، في حق خير المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، ألايأخذ منه ما يشتهي، ويترك منه ما لا يعجبه، كإثبات بشرية الرسول، لأن من فعل ذلك، فقد   (1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا، برقم (3445) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 اتبع هواه، ولم يتبع ما جاء بالكتاب والسنة، وقد تعمدت أن أستفيض في مثل هذه الأمور، حتى يتبين للناس الحق من الباطل، ولن نكون نحن أعظم حبّا للنبي صلّى الله عليه وسلّم من ربه- تبارك وتعالى-. فما أثبته الله، - عز وجل-، لرسوله الكريم، أثبتناه، وما نفاه عنه نفيناه، وما سكت عنه من الصفات، اعتقدنا أنه صلّى الله عليه وسلّم، يشترك مع الناس فيها، لعموم الآية التي ذكرتها آنفا، ولأننا متبعون ولسنا مبتدعين. الفائدة الرابعة: وجوب غيرة كل مسلم، يؤمن بالله واليوم الآخر، على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودليله أن عائشة رضي الله عنها كانت تغار على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تكون هذه الغيرة، لأنه زوجها ولها ضرائر، ولكن في المقابل، فإن حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، علينا جميعا أعظم من حق الزوج على زوجته، فوجب علينا أن نغار عليه صلّى الله عليه وسلّم، ومظاهر تلك الغيرة، أن نغضب إذا تعرضت سنته، لأي غمز أو لمز، بتصريح أو تعريض، في قليل أو كثير، بل علينا أن نكره من يقوم بذلك ونتجنبه، ولو كان أقرب الناس إلينا، وهذا يكون أكبر دليل على حبنا له صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الخامسة: على كل مسلم، أن يكون دائما في جهاد مع قرينه، يسأل الله- عز وجل- دائما الثبات، لأن ليس هناك إنسان مهما ارتفع شأنه، وعلا وصفه، إلا ومعه القرين، لما ورد في حديث الباب: (قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: «نعم» قلت: ومع كل إنسان؟ قال: «نعم» ) . فإذا أثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن مع عائشة شيطان فمن باب أولى أنه مع كل إنسان، ولما سألته عائشة لم يستثن أحدا، فعلى كل مسلم أن يحذر ويحذر، فإذا كان الشيطان قد يأتي لعائشة مع مكانتها الرفيعة، فكيف لا يأتي لغيرها. 22- إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم: أولا : إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا: قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] . عن البراء بن عازب: (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أوّل ما قدم المدينة نزل على أجداده- أو قال: أخواله- من الأنصار، وأنّه صلّى قبل بيت المقدس ستّة عشر شهرا- أو سبعة عشر شهرا.، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنّه صلّى أوّل صلاة صلّاها صلاة العصر وصلىّ معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 قوم، فخرج رجل ممّن صلّى معه فمرّ على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مكّة. فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلّي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب فلمّا ولىّ وجهه قبل البيت أنكروا ذلك) . قال زهير: حدّثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا أنّه مات على القبلة قبل أن تحوّل رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم؟! فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» . الشاهد في الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى قبل بيت المقدس، ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ولكن كان يحب أن تحول القبلة إلى المسجد الحرام، قبلة إبراهيم عليه السلام، وكان من علامات رجائه في تحويل القبلة، أنه كان يقلب وجهه في السماء، طلبا لذلك، قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] . ونلمح في الآية مدى إكرام الله- عز وجل- لنبي هذه الأمة، في النقاط التالية: 1- إثبات رؤية الله، - سبحانه وتعالى-، لكل أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى في حال تقليب وجهه في السماء متمنيا تحويل القبلة، وهي رؤية خاصة، علمنا منها عظيم الاعتناء به صلّى الله عليه وسلّم، والدليل على أنها رؤية خاصة، ذكرها في القرآن الكريم، وأنه ببركتها قد تحقق مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2- خص السماء بالذكر في قوله تعالى: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ؛ لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها وما يعود منها، حكاه القرطبي عن الزجاج. 3- ما كان نسخ التوجه لبيت المقدس، والأمر بالتوجه للمسجد الحرام، إلا لإرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث ذكرت الآية كل الأفعال مضافة إليه: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ، قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ، وبعد أن ذكرت الآية سبب تغيير القبلة، والأمر الخاص الموجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتوجه قبل المسجد الحرام، وجهت الآية الأمر إلى الأمة، وكأنها تابعة لنبيها، قال تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. يتفرع على ذلك، علمنا بعظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى-، لأن القبلة وهي من أعظم شعائر الله، - سبحانه وتعالى-، تحوّل لإرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينص القرآن الكريم على ذلك.   (1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، برقم (41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 ويتفرع عليه أيضا، ضرورة اعترافنا بمنة الله علينا أن جعلنا، بفضله وكرمه، أتباعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي اصطفاه واجتباه وفضله على الأولين والآخرين، وعلينا أيضا، تعظيم هذا النبي الكريم في قلوبنا وتقديمه على كل ما نحب من أموال وأولاد ودنيا؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم أهل لذلك، وبسببه تشرفنا بالصلاة قبل أطهر بقاع الأرض وأشرفها، وهو المسجد الحرام. وخلاصة القول أن الله تعالى، قد أرضى نبيه في الدنيا، أن جعل قبلته المسجد الحرام، كما أرضاه في الآخرة، في قوله تعالى في الحديث القدسي: «إنا سنرضيك في أمتك» . وهو الحديث التالي، فماذا بعد الإرضاء في الدنيا والآخرة، وهل من شرف بعد هذا الشرف، وإذا كان الإرضاء في حديث الباب مقيدا بالتوجه نحو البيت الحرام، وفي حديث الباب التالي مقيدا بإدخال أمته الجنة، وعدم تخليد أحد منها في النار، فإن آية سورة الضحى عامة في الإرضاء، فيدخل فيها جميع ما يرضيه ويفرحه ويسعده ويقرّ عينه صلّى الله عليه وسلّم قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: إثبات أن في شرع الله- سبحانه وتعالى-، ما هو حسن وما هو أحسن، فالتوجه قبل بيت المقدس حسن، ولكن التوجه قبل البيت الحرام هو الأحسن؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان له أن يتطلع إلا إلى ما هو أحسن، وما كان الشرع ليأمرنا بأقل مما هو حسن، وقد نص القرآن على وجود الحسن والأحسن، في قوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: من الآية 55] ، ولو لم يكن هناك الحسن في الشرع، ما كان هناك معنى للأمر باتباع الأحسن، ولأمرنا بمطلق اتباع ما جاء به الشرع. كما أن في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: من الآية 106] ، دليل آخر على الحسن والأحسن. الفائدة الثانية: إثبات النسخ في شرع الله، حيث نسخ حكم التوجه قبل المسجد الأقصى، إلى التوجه قبل المسجد الحرام، قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: من الآية 144] . [ أقسام النسخ ] وللنسخ أقسام هي: 1- نسخ الحكم إلى ما هو أصعب: ومثاله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: من الآية 43] ، حيث كان شرب الخمر مباحا بالأصل، فنسخ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] . 2- نسخ الحكم إلي ما هو أيسر: ومثاله قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: من الآية 187] ، فنسخ تحريم الجماع بعد الاستيقاظ من النوم ليالي الصيام، وأصبح مشروعا إلى الفجر، في كل الأحوال. ومثاله أيضا: نسخ وجوب الثبات وعدم التولي أمام الكفار إن كانوا عشرة أمثال عدد المسلمين، قال تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: من الآية 65] ، ثم نسخ الأمر بقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: من الآية 66] ، فأجاز الله- عز وجل- التولي إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعف عدد المسلمين. 3- نسخ الحكم إجمالا دون تشريع حكم آخر: ومثاله نسخ الأمر بالصدقة قبل مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12] ، ونسخ الأمر بالصدقة بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13] . 4- نسخ الأمر إلى الأحسن: كنسخ التوجه نحو بيت المقدس، وهذا ليس فيه أصعب أو أسهل. وقد استفضت قليلا، في آية النسخ، للرد على من يدعي عدم جوازه في الشرع. الفائدة الثالثة: مسارعة الصحابة رضي الله عنهم في طاعة الله ورسوله، حيث سمع الصحابة، وهم راكعون في الصلاة من ينادي بتحويل القبلة، فبادروا بالتوجه قبل المسجد الحرام، والعجيب أنهم لم ينتظروا انتهاء الصلاة، ليتيقنوا الخبر من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يستفسروا منه عن الحكمة، في واحدة من أعظم شعائر الإسلام، وهي القبلة، بل لم يقولوا: نبدأ من الفريضة القابلة، بل توجهوا على هيئتهم وهم راكعون، وهذا منتهى الطاعة والامتثال لأوامر الشرع، مع الأدب الجم مع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الرابعة: بيان ما كان عليه الصحابة- رضي الله عنهم جميعا- من الحرص على تبليغ أوامر الشرع، والفقه في الدين، أما الحرص فنأخذه من قول الراوي: (فخرج رجل ممن صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مكة) . أما فقههم فمن النقاط التالية: 1- أنهم لم يخرجوا من الصلاة، ليعيدوا ما صلوه قبل بيت المقدس، وذلك لعلمهم أن ما انقضى من الصلاة قبل معرفتهم تحويل القبلة صحيح مقبول عند الله، وأنهم مكلفون بأوامر الشريعة من وقت العلم، وليس من وقت النزول. 2- أنهم داروا كما هم في الصلاة، ولم يفعلوا أي ركن بعد الإعلام بتحويل القبلة، وذلك لعلمهم أن الصلاة تبطل، إذا توجه المسلم لغير القبلة، ولو في ركن واحد من أركانها. 3- علمهم أن هذه الحركة في الصلاة، وهي الاستدارة، لا تبطل الصلاة. 4- عدم إفتائهم في دين الله بغير علم، وهذا يدل على الفقه وكمال الورع، انظر إلى قول الراوي: (إنه مات على القبلة قبل أن تحوّل رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم) . 5- كما يتجلى فقه الصحابة في روايتهم للحديث الشريف، وكيفية صياغته، والاعتناء بملابسات الواقعة التي يستنبط منها الأحكام والدروس، وانظر كم استفدنا من قول الراوي: (فداروا كما هم) ، وكل السّنة النبوية جاءت بمثل هذه الصنعة المتقنة، مما جعلنا وكأننا نعيش معهم ونسمع منهم، وهذا الفن لا يأتي به اليوم من يحملون أعلى الشهادات العلمية، من سهولة في الألفاظ، ودقة التعبير والأمانة في النقل، ولو في الشيء اليسير. والدليل على صحة كل ما فعلوه في الصلاة، أن أمرهم قد اشتهر، وما علق عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسكوته عليه علامة على موافقته للصواب. الفائدة الخامسة: إعجاب اليهود وفرحهم بأن نتبعهم في شيء من ملتهم، وغضبهم لمخالفتنا لما هم عليه، لقول الراوي: (وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى قبل البيت أنكروا) ، وقد حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخالف أهل الكتاب في كل شيء. الفائدة السادسة: اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بهذه الأمة، ومن مظاهر ذلك، الإجابة عن كل ما يجول في خاطر أفرادها، ورفع الالتباس عن كل ما يشتبه عليهم بقرآن يتلى إلي يوم القيامة، حتى تكون الأمة على بينة من أمرها، وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة، وهذا من أعظم الأدلة على شرف هذه الأمة، وعلوّ منزلتها، وحب الله لها، قال الراوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 (وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم) ، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة: من الآية 143] . الفائدة السابعة: إطلاق الإيمان على أعمال الجوارح؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما أهمهم شأن من مات وقد صلى إلي بيت المقدس، نزل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، فأطلقت الآية لفظ الإيمان على الصلاة. الفائدة الثامنة: قال العلامة ابن حجر العسقلاني رحمه الله، في شرح هذا الحديث ما نصه: (وفيه أن تمني تغير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك) «1» . انتهى قوله. وكنت أتمنى أن يقيد ذلك التمني في تغير بعض الأحكام، بعصر الوحي والتشريع، إذ بعد اكتمال التشريع لا يجوز تمني تغيير أي من الأحكام الشرعية، لأنها بعد ثبوتها تكون في غاية الكمال والجمال، وأي أمنية من أحد بالتغيير يكون تمنيا للنقص، لأنه ليس بعد الحق إلا الباطل. ثانيا: إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله- عز وجل-: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ... الآية، وقال عيسى- عليه السّلام.: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فرفع يديه وقال: «اللهمّ أمّتي أمّتي» ، وبكى، فقال الله- عز وجل-: «يا جبريل اذهب إلى محمّد- وربّك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل- عليه السّلام- فسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال- وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمّد فقل: إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» . [رواه مسلم] «2» . الشاهد في الحديث: قول الله تعالى: «يا جبريل اذهب إلى محمّد فقل إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» . ومن المناسب أن نذكر المقصود من الإرضاء في جملة شمائله صلّى الله عليه وسلّم المستفادة من الحديث ونجعلها على هيئة نقاط: النقطة الأولى: حسن تدبره صلّى الله عليه وسلّم وتأمله في آيات الله- عز وجل- وهو يتلوها، لأنه لما قرأ قول إبراهيم في قومه، وكذا قول عيسى، بكى صلّى الله عليه وسلّم، وما بكى إلا بعد تفكر وتدبر   (1) فتح الباري (1/ 98) . (2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته، برقم (202) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 لأحوال الأمم وقول الأنبياء في أتباعهم، وأن من أتباع الأنبياء من سيعذب ويدخل النار. النقطة الثانية: رقة قلبه صلّى الله عليه وسلّم حيث إنه بكى وهو يدعو الله، والمسلم إذا استشعر- وهو يدعو- فقره وضعفه وشدة حاجاته إلى من يسمع دعاءه، وأنه إذا استجيب له سيكون سعيدا، وإذا ردّ عليه الدعاء لعدم اكتمال شروطه، سيكون ذليلا، مع استحضار عظمة وجلال من يدعوه، وهو الغني الحميد، القوي العزيز، وأنه إذا أراد شيئا قال له: كن، إذا استشعر العبد كل ذلك، بكى أملا في الإجابة، وخوفا من رد الدعاء. النقطة الثالثة: خوفه صلّى الله عليه وسلّم من أن يعذب أحد من أمته في النار، والمقصود من الأمة هنا كل أتباعه صلّى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة، يخاف كل ذلك الخوف ويبكي، وهو الذي بشره الله- سبحانه وتعالى-، بالمقامات العاليات الرفيعة يوم القيامة، التي لن يشاركه فيها أحد، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، يخاف هذا الخوف وهو يعلم أن وعد الله متحقق له ولو لم يؤمن به أحد. النقطة الرابعة: حسن تعبده لله- عز وجل -، وأدبه البالغ مع مقام الرب- تبارك وتعالى- نأخذ ذلك من: 1- توجهه صلّى الله عليه وسلّم إلى الله بالدعاء، لما أحزنه أمر من الأمور، وهذا من كمال تعبده، وحسن ثقته بالله، واعتماده عليه. 2- رفع يديه صلّى الله عليه وسلّم لإعلان كامل الافتقار، والتذلل بين يديه، فالذي يدعو هو الفقير، والمدعوّ هو الغني الحميد. 3- افتتاحه صلّى الله عليه وسلّم الدعاء بقوله: «اللهم» . 4- بكاؤه صلّى الله عليه وسلّم في الدعاء إعلانا لشدة حاجته لإجابة الدعاء، وأن الأمر المدعو به قد أحزنه وأهمه. وهو أيضا، لاستدرار رحمات الله وإحسانه. النقطة الخامسة: إثبات سماع الله لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وهو سماع خاص، ونجزم أنه سماع خاص، لحسن إجابة الله لهذا الدعاء، كما سيأتي. النقطة السادسة: جميل حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ويظهر ذلك في كيفية إجابة هذا الدعاء: 1- إرسال جبريل، عظيم الملائكة وأمين وحي السماء، ليسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يبكيه وفيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أ- أنه كان يكفي أن يلهم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع دعاءه ولن يخزيه. ب- كان يكفي أن يرسل الله جبريل ليخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع دعاءه واستجاب له، ولكن الله من عظيم اعتنائه بسيد البرية، أرسل جبريل أولا، ليسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يبكيه، والله أعلم به، ثم يرسله مرة أخرى ليعلمه إجابة دعائه. ولا يخفى على المتأمل في هذه الوقفة مدى حفاوة الله بنبيه صلّى الله عليه وسلّم. 2- أمر الله جبريل عليه السلام أن يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يبكيه، فكأن بكاء النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان وراء إرسال جبريل، ولا يخفى أيضا أن هذا من عظيم اعتناء الله برسوله، حيث إن بكاءه كان سببا في حديث الله مع جبريل، وإرسال جبريل مرتين إلى الأرض، ونعرف قدر المعتنى به من عظيم قدر المعتني. 3- كانت الإجابة عقب الدعاء، يدلّنا على ذلك استخدام الفاء، في قوله: (فقال الله عز وجل-: يا جبريل) مما يشعر بعدم وجود فاصل زمني بين الدعاء والإجابة، وهذا يدل على شدة الاعتناء، ويؤكد أنه كان سماعا خاصّا. 4- كمال الإجابة، ويتمثل في: أ- توجيهها مباشرة من الله- عز وجل- إلى رسوله، ولم يكن لجبريل دخل فيها أو واسطة، قال تعالى: «فقل: إنا سنرضيك» ، ولم يقل الله: (فقل له: إني سأرضيه) . ب- استخدام لفظ: «سنرضيك» دون غيره؛ لأن الحرص على الإرضاء، لا يكون إلا ممن يحب لمن أحب، ويدل اللفظ على أن مراد الله هو أن ينال النبي صلّى الله عليه وسلّم غاية ما يتمناه، ويفرحه ويقر عينه في الآخرة كما أقر عينه غاية الإقرار في الدنيا، ونلمح أنه لم يقل له: سنفرحك في أمتك، لأنه قد يحدث الفرح مع عدم حدوث الرضى الكامل. ج- إيراد ألفاظ، سنرضيك وأمتك ولا نسوءك، بكاف المخاطبة، يشعر أن هذه الإجابة التي تتمثل في رحمة الله بهذه الأمة، إنما كان تشريفا وإكراما لنبيها صلّى الله عليه وسلّم، خصوصا أنها نزلت بعد بكائه ودعائه. د- نصت الإجابة على أمرين، هما الإرضاء وعدم المساءة؛ لأن الإرضاء قد يحدث بالعفو عن بعض أفراد الأمة ويدخل الباقي النار، لكن بعدم المساءة ضمن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لن يبقى أحد من أمته مخلدا في النار. هـ- استخدام لفظ: «ولا نسوءك» يدل على الحرص على عدم إصابة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأدنى ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 يكره، فلم يقل: ولا نغضبك أو لا نحزنك، فقد تحدث أدنى المساءة مع رفع الغضب والحزن. النقطة السابعة: عظيم بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم ، حيث عمّت تلك البركة جميع أفراد أمته من عصر الصحابة إلى آخر من يموت مؤمنا قبل قيام الساعة، لأن الإجابة جاءت بلفظ: «في أمتك» بغير تقييد لطائفة دون طائفة، أو لعصر دون عصر. فمن رحمة الله أنه لم يقل: (في صالح أمتك) أو (أتباعك من أمتك) ، أو أي لفظ يشابه ذلك. وفي الحديث فوائد أخرى منها: الفائدة الأولى: رفيع قدر جبريل عليه السلام، حيث يكلمه الله- سبحانه وتعالى- ويختصه أن يزفّ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه البشرى العظيمة. الفائدة الثانية: إثبات صفة الكلام لله- عز وجل-، وهو يتكلم وقتما شاء بما شاء، وما دام ثبت الكلام لله، علمنا أن الكلام صفة كمال، كما أن عدم الكلام أو العجز عنه، صفة نقص، ومن حديث الله مع جبريل، علمنا أيضا خطأ من قال: إن الله تكلم بما شاء منذ الأزل؛ لأن السياق يدل على أن الله ما تكلم بذلك إلا بعد أن سمع دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلماذا التأويل والتحريف وتحكيم العقل القاصر. الفائدة الثالثة: قد يسأل الله- عز وجل- العبد وهو أعلم منه بالإجابة، وذلك لحكم كثيرة، ذكرت إحداها آنفا، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: من الآية 116] ، فقد يكون السؤال للتوبيخ أو لإقامة الحجة على المسئول أو السامع، أو للتقرير. الفائدة الرابعة: وجوب أن يقر جميع أفراد الأمة بفضل نبيهم، وأن يشعروا بالامتنان له، على رحمة الله الحاصلة لهم بسبب إرضاء الله لنبي الأمة، وأن كل هذا الفضل المتوالي من الله كان بسببه صلّى الله عليه وسلّم. ويجب أن يكون هذا الامتنان بالقلب والقول والفعل، ومن ذلك: حبّه صلّى الله عليه وسلّم أكثر من النفس والمال والولد، وكثرة الصلاة عليه، واتباعه سنته الشريفة، والذب عنها، ومناصرة من يحبها، ومعاداة من يجافيها، وتعظيم أهل بيته، وحب أصحابه وكثرة الترضي عنهم، وكفّ اللسان عما شجر بينهم، مع ذكر محاسنهم. الفائدة الخامسة: حث جميع المسلمين على اتباع السّنة وعدم ارتكاب البدعة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 تخرجهم من دائرة (أمة النبي) ، حتى تشملهم رحمة الله- عز وجل-، وعلينا جميعا أن نتذكر أن بعض طوائف من هذه الأمة سيحال بينهم وبين ورود الحوض، لإحداثهم في الدين ما ليس منه، فإذا أخبرت الملائكة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، دعا عليهم بالهلاك، في وقت لا يستطيعون أن يرفعوا عن أنفسهم شؤم هذا الدعاء بالتوبة أو العمل الصالح، والعجيب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحسبهم من أمته، والظاهر أن ذلك بسبب علامات السجود والوضوء الظاهرة فيهم. فقد روى البخاري، عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم» . قال أبو حازم: فسمعني النّعمان بن أبي عيّاش وأنا أحدّثهم هذا فقال: هكذا سمعت سهلا؟ فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدريّ لسمعته يزيد فيه: قال: «إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» «1» . 23- كماله وعصمته صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [الأحزاب: 21] الشاهد في الآية: جعل الله- عز وجل- الرسول صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة لنا، نقتدي به في كل شيء، لذا نقطع أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم معصوم، وأن كل ما فعله، موافق للصواب والحكمة، ظاهرا وباطنا، يرضى عنه الرب- تبارك وتعالى-، ويكافئ عليه خيرا، وإلا فكيف يأمرنا الله باتباع من يزل أو يخطئ، والله لا يأمر إلا بالعدل، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] ، وبالقطع كان صلّى الله عليه وسلّم معصوما؛ لأن الله أمرنا باتباعه المطلق، فلو أن النبي بدر منه أي شيء محرم، حاشا لله، واتبعه أحد في هذا الفعل المحرم امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى-، فلن يخرج أمر المتبع من حالين، إما أن يحمل وزرا، وهذا ينافي كمال عدل الله، وإما أن يثاب وهذا ينافي بالغ حكمته- عز وجل-، فثبتت عصمته صلّى الله عليه وسلّم من   (1) البخاري، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... ، برقم (7051) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الصغائر والكبائر، ولا شك أن الذي ثبتت له العصمة في كل شيء، يثبت له الكمال البشري في كل أحواله، وهذا ما أردت إثباته، فلله الحمد والمنة، على عصمة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. وإليك بعض فوائد الآية: الفائدة الأولى: تزكيد النبي بالغ التزكية، من الوجوه التالية: 1- إثبات أن كل ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العادات والعبادات، في الأمر والنهي، في القول والفعل، في الجد والضحك، في الرضا والغضب، في النوم واليقظة، في الأكل والشرب، في الحل والترحال، لنا فيه قدوة وأسوة، لأن الآية لم تحدد مجال الأسوة، فلم تقل: لقد كان لكم في عبادات رسول الله أسوة حسنة، ولكن جعلت الآية الأسوة في كل شخصه الكريم صلّى الله عليه وسلّم، من شعر رأسه حتى أخمص قدميه، من أول حياته حتى مماته صلّى الله عليه وسلّم، في كل ما تفوه به في كل حالاته، فهو في نفسه بكل ما فيه أسوة. 2- افتتحت الآية الكلام بمؤكد، وهو لَقَدْ والتي تفيد التحقق، وكانَ التي تفيد ثبوت الأمر. 3- جعلت الآية كل ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم موافقا للصواب، بل نزهت كل تلك الأفعال عن الخلل، حيث وصف الله الأسوة بأنها حسنة، وحاشا لله، أن يصف ما فيه خلل بالحسن. 4- يتفرع على ما سبق، أن كل أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ظاهرة وباطنة، مقبولة عند الله- سبحانه وتعالى-. 5- ذكرت الآية أن في النبي صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، فليست تلك الأسوة لأي أحد، فهذه أبلغ تزكية لصاحب الأسوة، أن يقتفي أثره من حقق الإيمان بالله واليوم الآخر. الفائدة الثانية: التهديد الشديد لمن يطعن في أي شيء من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، قولية أو فعلية، أو يطعن في شيء يخص عاداته أو عباداته، لأن كل أحواله صلّى الله عليه وسلّم مزكاة من الله- عز وجل-، فمن طعن في شيء منها، فقد رد تزكية الله، أو ادعى أن الله قد زكى ما يستحق الذم، أو أن الله لم يطلع على ما يستحق الطعن من أفعاله صلّى الله عليه وسلّم، وننزه الله من كل ذلك. فعلى كل مسلم، أن ينتبه لهذه الأمور عند الحديث عن سنة خير الأنام، ونخشى على من يتعرض لها بأدنى أدنى لمز أو غمز، أو لم يرض بها كمنهج للحياة، أو يحكم عليها بعدم ملاءمتها لظروف العصر، نخشى عليه سوء الخاتمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الفائدة الثالثة: نستفيد من الآية أن كل من اتبع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في عاداته واستحضر نية الاقتداء أنه يثاب على عمله هذا، حيث إن الآية حثت على مطلق الاتباع، لأنها لم تقيد الأسوة في العبادات، دون العادات، وكل ما حث الله عباده على فعله، فلهم فيه الأجر والمثوبة. والدليل على هذا الفهم، أن الصحابة رضي الله عنهم، قد اقتفوا أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء، دون تفريق بين عادة وعبادة، ألم تر إلى أنس رضي الله عنه كيف أحب الطعام الذي يحبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد بينت ذلك في مواضع عديدة من هذا الكتاب. الفائدة الرابعة: يقوى الاتباع ويضعف، بقوة وضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، ولأن الناس مختلفون في اليقين، فهم متفاوتون في الاتباع، ويجب أن يعلم المسلم أنه بالاتباع سيزيد اليقين عنده، فالعلاقة بين الأمرين متلازمة. الفائدة الخامسة: لا يقدح في عصمته صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل خلاف الأولى، بناء على عدم وجود أمر من الله في تلك المسألة، أو أخذا بمبدأ الشورى، المأمور به المهم أن الله- سبحانه وتعالى- يدله ويأمره بالأولى والأحسن في كل مسألة، وتستقر السنة على ذلك، وتكون السنة كلها موافقة للصواب، والأحسن في كل أمر. 24- يبيت صلّى الله عليه وسلّم يطعمه ربّه ويسقيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال، فقال: له رجال من المسلمين: فإنّك يا رسول الله تواصل! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّكم مثلي، إنيّ أبيت يطعمني ربّي ويسقين» . فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثمّ يوما ثمّ رأوا الهلال، فقال: «لو تأخّر لزدتكم» . كالمنكّل بهم حين أبوا) «1» . [رواه الشيخان] . الشاهد في الحديث: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» ، ومناسبة هذا القول أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يواصل صيام عدة أيام من شهر رمضان بدون إفطار فلما أراد الصحابة أن يفعلوا مثله ذكر لهم هذه المقولة. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: اجتهاده صلّى الله عليه وسلّم في العبادة، حيث إنه كان يواصل عدة أيام في شهر رمضان بدون إفطار، دليله: (فقال له رجال من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل) .   (1) البخاري، كتاب: الحدود، باب: كم التعزير والأدب، برقم (6851) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 الفائدة الثانية: شفقته صلّى الله عليه وسلّم ورحمته بالأمة، حيث نهى الأمة عن وصال الصيام، مع أنه كان يواصل، قال الراوي: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال) . الفائدة الثالثة: اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم دون البشر- بأمور تبين فضله وتزيد شرفه، ودليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم مثلي» ، فنفى أن يكون أحد من الصحابة مثله، ووضح صلّى الله عليه وسلّم وجه عدم المثلية، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم يبيت يطعمه ربه ويسقيه، وذكر الإمام النووي في شرح الحديث رأيين لأهل العلم: أ- أن الله يجعل فيه قوة الطاعم والشارب ورجح الإمام النووي هذا الرأي، وحجته في ذلك أنه إذا أكل حقيقة لم يكن مواصلا. ب- أنه صلّى الله عليه وسلّم يطعم من طعام الجنة كرامة له. أقول: إن الرأي الثاني- غير مستبعد- لأنه لا يلزم من أكله من طعام أهل الجنة منافاة الصيام، لعدم علمنا بطبيعة هذا الأكل وكيفيته، ولا داعي أن نعدل عن ظاهر الحديث. وأي من الرأيين كان صحيحا، فإننا نعتقد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يطعمه ربه ويسقيه، وهي كرامة عظيمة له صلّى الله عليه وسلّم. وأود أن أوضح هنا أن عدم مثلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه لا تقتصر على هذه المسألة، ولكن ثبتت عدم المثلية في أمور كثيرة، ذكرتها في مواضع مختلفة من هذا الكتاب. الفائدة الرابعة: حرص الصحابة رضي الله عنهم على متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر من أموره، حتى الأمور التي فيها مشقة ظاهرة، حيث إنهم أبوا أن ينتهوا عن الوصال، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين لهم سبب قدرته على الوصال، ففي الحديث: (فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما) . الفائدة الخامسة: حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على تربية أصحابه رضى الله عنهم، لأنهم لما أبوا الانتهاء عن وصال الصيام، واصل بهم يومين، ولولا رؤية هلال شوال لواصل بهم اليوم الثالث تعزيرا لهم، وليعلموا أنه لا طاقة لهم بالوصال مثله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤخذ منه اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم للتربية العملية إذا لم تجد التربية القولية، بل قد يصل الأمر إلى حد التعزير بغرض التعليم، إذ ورد في الحديث «كالمنكل بهم» . 25- زوّجه ربّه من فوق سبع سماوات: عن أنس قال: (لمّا انقضت عدّة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد: «فاذكرها عليّ» . قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 فانطلق زيد حتّى أتاها وهي تخمّر عجينها، قال: فلمّا رأيتها عظمت في صدري حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرها، فولّيتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن) . [رواه مسلم] «1» . الشاهد في الحديث: قول أنس رضي الله عنه: (وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن) . ملخص القصة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تبنى زيد بن حارثة ونسبه إليه، فكان يدعى: زيد ابن محمد، وقد تزوج زيد من زينب بنت جحش، ابنة عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أراد الله- عز وجل- أن يبطل مسألة التبني، نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فدعى زيد مرة أخرى إلى أبيه، وبقيت مسألة أخرى كانت قد استحكمت في نفوس الناس، وهي أن الرجل المتبنّي، لا يحل له أن يتزوج بمطلقة من تبنّاه لأنها بمثابة زوجة ابنه، فأوحى الله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أن زيدا سيطلق زوجته، ثم يتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليبطل تلك العادة، وكان زيد يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم، يشاوره في طلاق زوجته، فيأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصبر عليها ويمسكها بالمعروف ويخفي ما أوحى الله إليه، ولما تم أمر الله بالطلاق وانقضت عدة زينب- رضي الله عنها.، أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا إلى مطلقته يخبرها برغبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالزواج منها، فقالت: أشاور ربي، أي أستخير، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] ، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على زينب بغير إذنها. الدروس والعبر من الآية الكريمة والحديث الشريف: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- بيان فضل ومكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، ووجه ذلك: أ- أنه سبحانه أنزل قرآنا كريما يتلى إلى يوم القيامة بتزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم من زينب بنت جحش.   (1) مسلم، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، برقم (1428) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ب- أن يتولى الله- عز وجل- أمر تزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينسب ذلك إلى نفسه الكريمة المقدسة، قال تعالى: زَوَّجْناكَها. ج- تنويع الله- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم صور زواجه، فقد أحل الله له، أن يتزوج بمن وهبت نفسها له وأن يتزوج وهو محرم، ثم يكون غاية التكريم والتشريف أن يزوّجه الله بنفسه بدون ولي ولا شهود ولا حتى مهر، وتدبر حال النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يدخل على امرأة أجنبية عليه بدون إذن ويخبرها أنه زوجها، ورد في الحديث: (ونزل القرآن وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن) ، وهل بعد إذن الله من إذن؟ وهل أمر هذا الزواج يحتاج إلى إشهار وشهود بعد إعلان القرآن. وهذا التنويع في صور الزواج للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من أفراد الأمة، إنما يدل على شرفه وفضله، وإرادة الله الشرعية في التوسعة عليه. 2- بيان أن كل ما يخص النبي صلّى الله عليه وسلّم من عادات أو عبادات تعدّ من الأمور العظيمة التي يتولى الله- عز وجل- معالجتها، كأمر الزواج وتحزّب النساء عليه، وتأدب أصحابه معه وكيفية دعائه، وآداب الاستئذان منه، وآداب دخول حجراته لتناول الطعام، وكذا الرد على مبغضيه، وغير ذلك كثير مما ذكرته في مواضع مختلفة من هذا الكتاب. 3- إبلاغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته بهذه الآية، لهو من أكبر دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وأكبر برهان أنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يسعه، بل لا يستطيع أن يكتم شيئا من الوحي المنزل، ولو كان بمقدوره أن يكتم شيئا لكتم قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. 4- في الآية دليل على اعتناء الله- عز وجل- بتربية نبيه صلّى الله عليه وسلّم تربية ربانية لا تقبل أدنى أدنى التفات عن الحق، فالله- عز وجل- قد صوب نبيه صلّى الله عليه وسلّم، لما أمر زيدا أن يبقى على زوجته، مع علمه أن الله قد قضى بطلاقها، وفيه أيضا أن الله لا يستحي من الحق، فمع حب الله العظيم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وعلم الله- تبارك وتعالى- أن الأمر كان صعبا جدّا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلا أن الله أوحى لنبيه باية قد تكون هي الأشد وقعا على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأقول: إن بعض العلماء- رحمهم الله تعالى ونفعنا بعلمهم- يذكرون دائما هذه القصة من باب تزكية أم المؤمنين زينب بنت جحش، من حيث كونها الزوجة الوحيدة، التي زوّجها الله من فوق سبع سماوات، وأنا أقر لها بهذا الفضل العظيم المبارك، وحقّ لها أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 تتمدّح بذلك بين أمهات المؤمنين، بل بين نساء الأمة جميعا، ولكن ما كان ليثبت لها هذا الفضل العميم لولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي تزوجها، ولذلك نلمح في القصة أولا فضل الله على نبيه، ثم فضله على أم المؤمنين، زينب رضي الله عنها. الفائدة الثانية: في فضل زينب- رضي الله عنها-: 1- أن الله- عز وجل- هو الذي تولى أمر زواجها، وكانت تفخر على بقية أمهات المؤمنين بذلك. 2- تمسكها بما علّمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمر الاستخارة في كل شيء، حتى ولو كان أمرا ظاهره كل الخير، وتتنافس عليه كل امرأة من نساء الأمة، قالت- رضي الله عنها-: (ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي) ، قال ابن حجر كلمة جميلة في تعليل استخارتها، فقال: (ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه صلّى الله عليه وسلّم) . انتهى «1» . وإن صح هذا الاستنباط الجميل، فيكون ذلك أجمل وأكمل في حقها، لترويها في الأمر وعدم اندفاعها، مع التفكير في العاقبة، مع علمها بقدر النبي صلّى الله عليه وسلّم فما فائدة الفرح العاجل بالزواج منه صلّى الله عليه وسلّم، ثم قد تكون العاقبة غير محمودة- حاشا لله- إن هي لم توفّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حقه ولكنها كانت- ولله الحمد- خير زوجة لخير زوج مشى على الأرض. الفائدة الثالثة: في مناقب زيد رضي الله عنه: 1- أبدأ بما هو الأجل والأعظم في حقه وهي مرتبة رفيعة عالية، لم يشاركه فيها أحد من الصحابة رضي الله عنهم جميعا- مع سبقهم له في الإسلام وعلو قدرهم، وهذا الأمر هو ذكر اسمه في القرآن، وقد حدث ذلك لتعويضه عن أبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، التي حرم منها، بعد تحريم الله للتبني ووجوب أن ينسب الرجل إلى أبيه، قال القرطبي- رحمه الله تعالى: (فلما نزع منه هذا الشرف وهذا الفخر وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يخصّ بها أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي أنه سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب نوه به غاية التنويه فكان في هذا تأنيس له وعوض عن الفخر بأبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم له) . انتهى «2» . ويمكن أن أضيف إلى أن ذكر اسمه في القرآن كان من باب مكافأته على اختياره أن يكون عبدا عند   (1) لم أقف عليه من قول ابن حجر، وهو من كلام النووي رحمه الله. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 228) . (2) الجامع لأحكام القرآن (14/ 194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحرية عند أهله، ثم طاعته المطلقة وأدبه الجم مع الله ورسوله، كما سيأتي. 2- طاعته المطلقة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعدم شعوره بأي غضاضة من تنفيذ أي أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذهب يخطب زينب- زوجته سابقا- للنبي صلّى الله عليه وسلّم، دون أدنى اعتراض أو شكوى، ورد في الحديث: (لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد فاذكرها عليّ قال: فانطلق زيد حتى أتاها) . هكذا دون أدنى تردد. 3- أدبه الجم رضي الله عنه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، في كل ما يخصه، فقد ذهب يخطب زوجته السابقة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي عاشرها وأفضى إليها وأفضت إليه، يكلمها طوال مدة زواجه إياها بدون تكلف، وهل يتكلف أحد مع زوجته! وهل يستطيع أحد أن يحول الانبساط في الكلام وعدم التكلف في التعامل- بين عشية وضحاها- إلى إجلال وإكبار وعدم القدرة حتى إلى النظر، لا يستطيع ذلك إلا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهيا نرى كيف عامل زيد زينب رضي الله عنها: أ- لقد عظمت في صدره وما استطاع أن ينظر إليها- وكان ذلك قبل الحجاب- قال زيد: (فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرها) . ذكرها ذكرا فقط ولم تتم الخطبة ولم يتزوجها بعد، قال ابن حجر في الفتح: (هابها واستجلها من أجل إرادة النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوّجها فعاملها معاملة من تزوجها صلّى الله عليه وسلّم في الإعظام والإجلال والمهابة) . انتهى «1» . وأقول: إنه نظر فيما يمكن أن يئول إليه أمر زينب بنت جحش- رضي الله عنها- فلو لم يجلّها ويوقّرها وأصبحت يوما زوجا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فمن المؤكد أنه سيشعر بذنب عظيم. ب- ولاها ظهره ونكص على عقبه، أي تأخر عنها وأعطاه ظهره، ورد في الحديث: (فوليتها ظهري ونكصت على عقبي) ، قال ابن حجر: (لما غلب عليه الإجلال تأخر وخطبها وظهره إليها لئلا يسبقه النظر إليها) . انتهى «2» . ومثل زيد رضي الله عنه في هذه الحادثة، كمثل رجل مضطر للوقوف بجانب النار، ولكنه يخشى أن يقع فيها أو يصيبه لفحها، فماذا يفعل؟ يتأخر عنها ويعطيها ظهره، فهم يعتقدون أن الوقوع في محارم النبي صلّى الله عليه وسلّم، كالوقوع في النار، يجب الحذر كل الحذر عند التعامل مع تلك المحارم.   (1) لم أقف عليه من قول ابن حجر، وهو من كلام النووي رحمه الله. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 228) . (2) انظر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وأقول: إذا كان هذا هو مسلك الصحابة رضي الله عنهم في تعظيم وإجلال وتوقير امرأة أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم لخطبتها، فكيف بالتي تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم ونالت شرف الدخول بها، من المؤكد أن الأمر سيختلف كثيرا. 4- ثناء الله- عز وجل- عليه غاية الثناء، قال تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أي أنعم الله عليه بالإسلام، فهذا يبين كمال إيمان وتمام إخلاص زيد رضي الله عنه؛ لأن الإسلام بدون إيمان وإخلاص لا يمدح العبد به، ومن أنعم الله عليه فتمّ إيمانه وحسن إسلامه فقد وجبت له الجنة. تنبيه هام جدّا: ذكر القرطبي وغيره من المفسرين في سبب نزول هذه الآية ما نصه: (اختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظيما بالشرف قال له: وَاتَّقِ اللَّهَ- أي فيما تقول عنها- أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه) . انتهى «1» . وكأن شيخنا الجليل الشيخ السعدي قد مال لهذا التفسير، فقال في الدروس المستفادة من الآية ما نصه: (إن المحبة التي في قلب العبد لغير زوجته ومملوكته ومحارمه إذا لم يقترن بها محظور، لا يأثم عليها العبد ولو اقترن بذلك أمنيته أن لو طلقها زوجها لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما) . انتهى «2» . وأقول: إذا كان كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب السنة المطهرة المعصوم من ربه- تبارك وتعالى-، فإني أرد هذا الفهم لسبب نزول هذه الآية ردّا جميلا، وأنزه مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أبلغ التنزيه أن يقع في قلبه حب زينب رضي الله عنها أثناء اقترانها بمحبوبه زيد بن حارثة، كيف يعقل أن يقع النبي صلّى الله عليه وسلّم في مثل هذا الأمر، وهو المزكى من ربه- سبحانه وتعالى- في كل ما أتى وترك. ومع اعتقادي أن إبطال هذا الكلام لا يحتاج إلى برهان لكني أذكر بعض الأدلة على ما ذكرت وهي:   (1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 189) . (2) تيسير الكريم الرحمن (666) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 1- لم يذكر العلماء دليلا واحدا صحيحا على صحة ما ذكروا من أسباب نزول هذه الآيات، ومعلوم أن سبب نزول الآيات توقيفي لا اجتهاد فيه قطعا. 2- هذا الاجتهاد الخاطئ في سبب نزول الآية الكريمة يفتح بابا من أبواب جهنم يدخل منه أعداء الإسلام، فيمكن أن يقولوا في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قالوه في حق داود عليه السلام، من أنه كان يرسل الرجل للغزو في سبيل الله حتى يموت، ويتزوج هو من زوجته التي أحبها، كما أقول: ألا يخشى الصحابة أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم يحب واحدة من زوجاتهم. 3- سبب زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من زينب قد جاء النص القرآني به أوضح ما يكون، قال تعالى: زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وبذلك يكون ما ذكره العلماء مناقضا لصريح القرآن. 4- توجيه مثل هذا اللوم الشديد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، لا يكون إلا على إخفائه لشيء علمه من وحي الله تعالى، وهو أنه سيتزوج زينب رضي الله عنها بعد أن يطلقها زوجها، ولا يستقيم مع الحكمة الإلهية أن يكون مثل هذا العتاب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخفى عن زيد حبه لزوجته- حاشا لله-، وأظن أن هذا التفسير الخاطئ لسبب نزول الآية هو ما كان يعنيه الإمام ابن كثير بقوله: (ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها فلا نوردها) . انتهى «1» . 26- أثنى عليه ربه باسمين من أسمائه: قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] . الآية كلها- ولله الحمد- ما هي إلا تزكية بليغة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكني اخترت أوضح ما فيها ليكون عنوانا للباب. مظاهر الثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية الكريمة: 1- بيان أن إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس هو منة من الله- عز وجل-، حيث إنه من جنسهم ويتكلم بلسانهم، قال الشيخ السعدي في تفسير في الآية: (يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم يعرفون حاله ويتمكنون من الأخذ عنه) «2» .   (1) تفسير ابن كثير (3/ 492) . (2) تيسير الكريم الرحمن (356) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وقال القرطبي: (قوله تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يقتضي مدحا لنسب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه من صحيح العرب وخالصها) «1» . 2- شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم البالغة بأمته حيث أوضحت الآية أنه يشق عليه كل ما فيه مشقة على أمته أو يسبب لها الحرج وهو العنت، وهذا يدل أيضا على عظيم حبه لأمته صلّى الله عليه وسلّم. ومن مظاهر حرصه على عدم إعنات الأمة أنه صلّى الله عليه وسلّم راجع ربه لتخفيف عدد الصلوات المكتوبة، حتى أصبحت خمس صلوات من أصل خمسين صلاة في اليوم والليلة. ويؤخذ من الآية أنه ليس في الدين كله أي أمر فيه مشقة أو عنت على المسلمين، لأن الله ما كان ليشرع لهذه الأمة ما يشق عليها، وهو يعلم أن هذا يشق على نبيه وخليله، ولو حدث أن شرع لهذه الأمة ما فيه مشقة عليها لطلب النبي صلّى الله عليه وسلّم التخفيف من ربه كما حدث في أمر الصلاة. 3- حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى إيصال كل أنواع الخير إلى أمته، ودفع كل أنواع الشر عنهم، في معاشهم ومعادهم، لأن هذا هو دأب الحريص على غيره، وقيل: إن معنى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على دخولكم الجنة ونجاتكم من النار. ويتفرع عليه كمال دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته، لأن الله- عز وجل- لم يكن ليزكيه على حرصه على أمته دون أن يقوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعوتهم على أكمل وجه. ومن زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخفى علينا شيئا من الوحي أو أن خيرا لم يدلنا عليه، أو أن شرّا لم ينهنا عنه، فقد كذّب بظاهر القرآن. 4- وهي أعظم ما في الآية، وهو الثناء على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حيث إن الله قد أثنى عليه باسمين من أسمائه الحسنى، وهما الرؤف والرحيم، ولو لم يكن في القرآن ثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا هذا الثناء لكفى، نقل القرطبي في تفسيره عن الحسين بن الفضيل قوله: (لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه قال: بالمؤمنين رؤف رحيم، وقال تعالى: إن الله بالناس لرؤف رحيم) «2» . وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: (أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم ولهذا كان حقّه مقدما على سائر حقوق الخلق وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره) . انتهى.   (1) الجامع لأحكام القرآن (8/ 301) . (2) الجامع لأحكام القرآن (8/ 302) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 27- من استهزأ به صلّى الله عليه وسلّم كفر: قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) [التوبة: 65- 66] . هذه الآية اختلف المفسرون في سبب نزولها، ولكن كل الأقوال تدور حول استهزاء بعض المنافقين في غزة تبوك بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، حيث قال المنافقون: (ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونا وأكذب ألسنا وأجبن عند اللقاء) ، ولم يثبت في الصحاح شيء في سبب النزول، والذي يهمنا هنا ليس هو سبب النزول لكن الحكم الذي جاءت به الآية الكريمة حيث حكمت بكفر من استهزأ بشيء من الدين سواء كان متعلقا بالله أو باياته أو برسوله صلّى الله عليه وسلّم. بعض فوائد الآية: الفائدة الأولى: إرادة الله الشرعية تعظيم هذا الدين، حيث حكم بكفر من استهزأ بأي أصل من أصوله، ولا تخرج أصول هذا الدين عن الاعتقاد الحق في الله- عز وجل-، وما يتعلق به من أسماء وصفات، وما ينزل من عنده من كتب سماوية وشرائع. ثم آيات الله تنقسم إلى آيات كونية وشرعية، ثم رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما يتعلق به من سنة، سواء كانت سنة قولية أو فعلية أو إقرارية، وسواء تعلقت بالسلوك أو المظهر أو العادات أو الصفات الجبلية، وسواء كان ذلك لرسولنا الكريم أو بقية رسل الله من البشر أو الملائكة عليهم جميعا الصلاة والسلام. قال الشيخ السعدي رحمه الله: (الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة) «1» . الفائدة الثانية: يستوي حكم الاستهزاء في الدين، للجاد والهازل، نقل القرطبي رحمه الله في تفسيره عن القاضي أبي بكر بن العربي قوله: (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدّا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل، انظر إلى قوله: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ   (1) تيسير الكريم الرحمن (242) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) . انتهى. ويتفرع عليه خطورة ما يقوم به بعض العوام من التساهل في إلقاء النكات والقفشات التي يذكر فيها أمور تتعلق بالدين، بل وصل الأمر الآن إلى ابتكار نكات تستهزئ بالله ورسوله والقرآن الكريم والسنة النبوية، ويقول قائلها: ما نريد الاستهزاء ولكن نريد الضحك فقط. والحكم كما ذكرت آنفا، هو الكفر المخرج عن ملة الإسلام لمن تكلم بهذه النكات بل، أقول: ينطبق هذا الحكم تماما على من ضحك منها، لأنه كالمشارك والراضي بالكفر، ويكثر هذا الاستهزاء الآن فيما يقال عنه عروض فنية، يشاهدها الكبير والصغير في كل أسرة. الفائدة الثالثة: هل للمستهزئ توبة؟ ذكر الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ما نصه: (من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سخر بذلك أن تنقصه أو استهزأ بالرسول أنه كافر بالله العظيم وإن التوبة مقبولة في كل ذنب وإن كان عظيما) . انتهى «1» . تتمة: وهو حكم الاستهزاء بأحد من المسلمين، فقد ذكر العلماء أن الاستهزاء إن كان مبعثه اتباع المسلم لإحدى السنن كاللحية أو تقصير الثوب أو الأكل باليمين، فيكفر المستهزئ، لأن الذي حمله على الاستهزاء هو اتباع المسلم للسنة، وهذا أمر عظيم يجب الحذر والتحذير منه. 28- أمر المؤمنين بتقديمه صلّى الله عليه وسلّم على أنفسهم: قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الأحزاب: 6] . هذه الآية الكريمة تبين بجلاء عظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يستحقه من تبجيل وتوقير وطاعة من المؤمنين، لما له من فضل عليهم، وتوضح في المقابل ما للمؤمنين من حق على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه يجب فهم قوله تعالى: أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ من الجهتين، من جهة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحق بأداء ما على المؤمنين من حقوق وديون إن أعدموا، ومن جهة أنه يجب على المؤمنين أن يقدموا طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وحبّه على طاعة أنفسهم وحبّها، كما سيأتي بالفوائد.   (1) انظر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظيم حق النبي صلّى الله عليه وسلّم على المؤمنين، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى المؤمنين خبرا يعرفون به حالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومرتبته فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة، فقال: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أقرب ما للإنسان، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه صلّى الله عليه وسلّم بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم فرسول الله أعظم الخلق منّة عليهم من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه، فلذلك وجب عليه إذا تعارض مراد النفس أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أن يقدم مراد الرسول وألايعارض قول الرسول بقول أحد كائنا من كان وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ويقدّموا محبته على محبة الخلق كلهم وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه وهو صلّى الله عليه وسلّم أب للمؤمنين كما في قراءة بعض الصحابة «1» يربيهم كما يربي الوالد ولده) «2» . وأظن أن ما قاله الشيخ رحمه الله لا يحتاج إلى شرح أو إضافة، فقد جمع وأوعى، فجزاه الله خيرا. وعلى كل مؤمن يريد الله ورسوله والدار الآخرة أن يقارن حاله ومسلكه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بما قاله الشيخ، فيحمد الله على ما عنده وليتمّ النقص والخلل حتى يضمن رضى الله- عز وجل-. الفائدة الثانية: عظيم حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لعموم المؤمنين، حيث كان أشفق وأرأف بهم من أنفسهم. ومن علامات هذه الشفقة والرأفة قيامه بأداء الحقوق التي عليهم في حال عسرهم، روى الشيخان في صحيحهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يؤتى بالرّجل المتوفّى عليه الدّين فيسأل: «هل ترك لدينه فضلا؟» فإن حدّث أنّه ترك لدينه وفاء صلّى وإلّا قال للمسلمين: «صلّوا على صاحبكم» . فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي من المؤمنين فترك دينا فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته» «3» . قال القرطبي: (هذا الحديث تفسير للولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم   (1) وهي قراءة شاذة ولا يجوز القراءة بها. (2) تيسير الكريم الرحمن (1/ 659) . (3) البخاري، كتاب: الحوالات، باب: من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، برقم (2297) ، ومسلم، كتاب: الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، برقم (1619) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وتنبيهه، وقال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم) «1» . الفائدة الثالثة: وهو مثال نأتي به من القرآن الكريم لنوضّح مفهوم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ونبين أن الله- سبحانه وتعالى- قد أكد هذا المفهوم وربى المؤمنين على ذلك، وهو قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: من الآية 120] ، وهذه الآية نزلت في حق من تخلف عن غزوة تبوك من أهل المدينة وقبائل العرب المجاورة لها، ومعنى الآية أنه ما كان ينبغي ولا يليق بالمتخلفين عن الغزو أن يقدموا أنفسهم عن نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي لا يحق ولا يليق بالمؤمنين أن يقدموا راحة أنفسهم وبقاءها وسكونها عن نفس النبي الكريمة الزكية، بل النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومحبته والإيمان التام به أن لا يتخلفوا عنه) . انتهى «2» . وقال القرطبي: (أي لا يحق لهم أن يرضوا لأنفسهم بالدّعة ورسول صلّى الله عليه وسلّم في المشقة) «3» . 29- تتابع الوحي عليه قبل موته صلّى الله عليه وسلّم: عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك: (أنّ الله- عز وجل- تابع الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتّى توفّي وأكثر ما كان الوحي يوم توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . الشاهد في الحديث: قول أنس بن مالك رضي الله عنه: (حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: بيان عظيم إكرام الله- سبحانه وتعالى- لنبيه واعتنائه به إلى يوم وفاته، ومن مظاهر هذا الإكرام كثرة نزول الوحي عليه قبل وفاته، حتى كان أكثر نزولا- بالنسبة لما سلف من جميع أيام حياته- يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: إرادة تسلية الله- عز وجل- لنبيه قبل وفاته وذلك بكثرة نزول الوحي عليه، حتى لا يجد في قلبه ما يجده غيره يوم وفاته من قلة أهميته وهوانه وانقطاع حاجة   (1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 122) . (2) تيسير الكريم الرحمن (355) . (3) الجامع لأحكام القرآن (8/ 290) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الناس إليه. ورغبتهم فيه، فهذا كله- قطعا- لم يحدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم وفاته بسبب تتابع الوحي واتصاله بالسماء. الفائدة الثالثة: حفظ الله- سبحانه وتعالى- عقل نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقلبه إلى يوم وفاته، لأن الوحي ما كان ينزل عليه وقد ذهل عقله أو غفل قلبه صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الرابعة: حث المؤمن على أن يكون موصولا بالله- سبحانه وتعالى- فترة شبابه وصحته وشغله حتى يضمن أن يكون موصولا بالله تعالى، في حال وفاته. 30- نعيه وتوديعه صلّى الله عليه وسلّم في القرآن: قال تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) [النصر: 1- 3.] عن ابن عبّاس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنّه من قد علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنّه دعاني يومئذ إلّا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عبّاس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. فقال عمر: ما أعلم منها إلّا ما تقول) «1» . الشاهد في الحديث: هو قول ابن عباس، - رضي الله عنهما-: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وذلك علامة أجلك) ، وفي رواية: (نعيت إليه نفسه) ، وهذا شرف عظيم لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يخبره الله بقرب أجله، وينعيه، ولا يكون ذلك إلهاما ولا مناما، ولكن بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، في سورة كاملة، هي سورة النصر، ولن نعقل هذا الفضل والشرف، إلا إذا عقل المسلم عظيم شأن القرآن، وأنه لا ينزل إلا في الأمور العظيمة، والأحداث الجسيمة، وكل حرف منه جاء لحكمة وبحكمة.   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً، برقم (4970) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: أدب المجالس، وهو ألايجلس صغار السن مع الأشياخ الكبار، والدليل على ذلك، أن بعض الأشياخ وجد في نفسه شيئا من دخول ابن عباس، - رضي الله عنهما- معهم، ولو أنهم اعتادوا ذلك ما أنكروه، وكان صغار الصحابة سنّا يستحيون أن يتكلموا في حضرة من هو أكبر منهم سنّا، وهذا أدب جم، افتقدناه كثيرا الآن، فعند البخاري، عن ابن عمر قال: كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخبروني بشجرة شبه، أو كالرّجل المسلم، لا يتحاتّ ورقها. قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنّها النّخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان فكرهت أن أتكلّم أو أقول شيئا، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إليّ من كذا وكذا «1» . الفائدة الثانية: رسوخ قدم ابن عباس- رضي الله عنهما- في علم التأويل وتفسير القرآن، حيث سبق أشياخ بدر في تأويل مراد الله من قوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وما كان ذلك إلا ببركة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ورد عند البخاري، عن ابن عبّاس: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل الخلاء فوضعت له وضوآ قال: «من وضع هذا؟» فأخبر، فقال: «اللهمّ فقّهه في الدّين» «2» . وهذا من دلائل نبوته. الفائدة الثالثة: تعظيم عمر رضي الله عنه، لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال لأشياخ بدر: (إنه من قد علمتم) فقد يكون إشارة إلى قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بالإضافة إلى رسوخ علمه. الفائدة الرابعة: فضل أهل العلم، خاصة علم التأويل والتفسير، وأنّ من السنة تقريبهم من مجالس الأشراف وكبراء القوم، والتحدث بفضلهم، وبيان ذلك للناس، حتى ينتفعوا بهم ويعرفوا قدرهم، ويرجعوا إليهم في مسائل الفتيا وغيرها. علمنا ذلك من دعوة عمر لابن عباس رضي الله عنهم جميعا لحضور مجلس أشياخ بدر، والتنويه بمنزلته في قوله: (إنه من قد علمتم) ، ثم سؤالهم وسؤاله عن آية في كتاب الله، ليعلمهم فضله عليهم في العلم.   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ، برقم (4698) . (2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، برقم (143) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الفائدة الخامسة: التفاوت الكبير بين الناس في علم التأويل والتفسير، حتى بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن فهم ابن عباس للقرآن حجة، وأنه مقدم على فهم غيره من الصحابة، رضي الله عنهم، والدليل على ذلك دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالتفقه في الدين، وتقريب عمر رضي الله عنه له في مجلسه، وأنه لمح ما في الآية من معان غير ظاهرة، وموافقته لعمر رضي الله عنه في هذا الفهم، وهي فضيلة لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه أيضا حيث وافق تأويله تأويل حبر الأمة، الذي اختصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء. الفائدة السادسة: قد يكون لبعض آيات القرآن معنى ظاهر، يفهمه عوام الناس، ومعنى آخر خفي يفهم من فحواها ومضمونها، كما فسر أشياخ بدر معنى سورة النصر، بالمعنى الظاهر، وفسرها حبر الأمة بمعنى خفي، ولا حرج في ذلك شريطة، ألا يكون هذا الفهم يتعارض مع أصول الشريعة، وما تقتضيه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم. الفائدة السابعة: حث العبد أن يجتهد في العبادة أكثر وأكثر، كلما تقدم عمره، وشعر بقرب أجله، فيحرص على فعل الطاعات وترك المنكرات، وأن يبذل جل وقته في التوبة والاستغفار، لقوله تعالى في سورة النصر: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ وما كان هذا التسبيح والاستغفار إلا لدنوّ أجل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 31- تزكيته صلّى الله عليه وسلّم: 1- تزكية فطرته صلّى الله عليه وسلّم: قال أبو هريرة رضي الله عنه: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللّبن قال جبريل: «الحمد لله الّذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمّتك» «1» . رواه البخاري. الشّاهد في الحديث: قول جبريل عليه السّلام: «لو أخذت الخمر غوت أمتك» ، وفي رواية مسلم أيضا: «أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائله صلّى الله عليه وسلّم: 1- عناية الله- سبحانه وتعالى- به إذ هداه للفطرة والتي هي- كما عرفها الحافظ ابن حجر- الاستقامة على الدين الحق «2» . 2- حسن تربيته ونشأته صلّى الله عليه وسلّم ودليله أنه اختار اللبن وردّ الخمر، فسبحان الذي جعل طبعه يوافق ما أبيح وحرّم على هذه الأمة، وليس ذلك في هذا الاختبار فقط ولكن في أمور كثيرة خالف فيها صلّى الله عليه وسلّم ما كان عليه أمر الجاهلية. 3- أدبه صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يردّ الاثنين، وقد يفعل الرجل ذلك إذا خاف سوء الاختيار، وقد يكون ذلك أيضا من فقهه صلّى الله عليه وسلّم حيث علم أنه لا يسعه ردّ الاثنين. 4- فراسته صلّى الله عليه وسلّم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (نفر من الخمر؛ لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت حينئذ مباحة ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم والآخر تستمر إباحته. وأضاف رحمه الله: (واختار اللبن لكونه مألوفا له سهلا طيبا سائغا للشاربين سليم العاقبة بخلاف الخمر في جميع ذلك) «3» . 5- عظيم فضله صلّى الله عليه وسلّم على أمته حيث حفظت الأمة من الغواية باختياره صلّى الله عليه وسلّم اللبن.   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب قوله: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ برقم (4709) ومسلم كتاب: الأشربة، باب: جواز شرب اللبن برقم (168) . (2) فتح الباري (10/ 33) . (3) فتح الباري (10/ 33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ويتفرع على ذلك أنه يجب على الأمة أن تشعر بالامتنان له صلّى الله عليه وسلّم فتوفيه حقه فإن عجزت- وهو الواقع- فلا أقل عن المستطاع. ولكن ما سبب غواية الأمة في حال اختياره صلّى الله عليه وسلّم الخمر؟. الجواب: ذكره صاحب تحفة الأحوذي «1» بقوله: (بناء على أنه لو شربها لأحلّ للأمة شربها فوقعوا في ضررها وشرها) «2» . الفائدة الثانية: أن الهداية بيد الله- عز وجل-، لقول جبريل عليه السّلام: «الحمد لله الذي هداك للفطرة» ، ويجب على المسلم أن يستشعر ذلك بقلبه وألا يكون ذلك كلاما بلسانه فقط، يقوله على سبيل التواضع، ويؤخذ منه أيضا أن الهداية مما يحمد الله- سبحانه وتعالى- عليه. الفائدة الثّالثة: سعة علم الله- سبحانه وتعالى- حيث إن علمه لا ينحصر فقط على ما وقع وسيقع من الأمور وعواقبه، بل شمل عواقب ما لن يقع فيما لو وقع، ودليله أن جبريل عليه السّلام علم ما سيقع فيما لو اختار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخمر، وما علم ذلك إلا بتعليم الله إياه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقوله: «غوت أمتك» يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل أو تقدّم عنده علم بترتيب كل من الأمرين وهو أظهر) «3» . قلت: بل الأظهر- والله أعلم- ما ذكرته آنفا وهو أن الله هو الذي علمه؛ لأنه الأليق بمقام جبريل عليه السّلام. الفائدة الرّابعة: لو خير الرجل بين مباحين فمن الحكمة ورجاحة العقل أن يوازن بين ما فيهما من المصالح والمفاسد، وأيهما رجحت عنده مصلحته على مفسدته اختاره، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرض عليه الخمر واللبن وقت إباحة الخمر، فرجح اللبن لأنه هو الفطرة ولما ذكرته آنفا. الفائدة الخامسة: لماذا كان اللبن هو الفطرة؟. نقل صاحب تحفة الأحوذي عن الإمام القرطبي قوله: (يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه) «4» . 2- تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم: لما كان القلب هو أعظم جوارح الجسد، فبه تصلح جميع الجوارح وبه تفسد، كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن النعمان بن بشير وفيه: «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا   (1) وهو المباركفورى. (2) انظر تحفة الأحوذي (8/ 447) . (3) انظر فتح الباري (10/ 33) . (4) تحفة الأحوذي بشرح الترمذي (8/ 447) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب» «1» ، اعتنى الله- عز وجل- اعتناء عظيما بقلب حبيبه وصفيّه من خلقه وخليله صلّى الله عليه وسلّم منذ صغره، فطهر الله- تبارك وتعالى- هذا القلب ونزع منه حظ الشيطان وملأه إيمانا وحكمة، وقد بسطت تلك المسألة في موضع آخر من الكتاب، ولما زكى الله- عز وجل- قلب نبيه في القرآن العظيم وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم زكاه بكل أنواع التزكية- التي نعرفها- فقد زكاه من حيث الوحي الذي أنزل إليه فكان هذا القلب الزكي الطاهر وعاء له، وزكاه من حيث تعامله مع أصحابه، فذكر رقته ورحمته بالمؤمنين، وزكاه من حيث صدقه وحضوره، فحكم عليه بعدم الكذب ومطابقة ما يراه القلب بما يراه البصر، وزكاه من حيث اتصاله الدائم بالله- تبارك وتعالى وعدم غفلته صلّى الله عليه وسلّم عن ذكره، فذكر صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه «2» ، ولا أظن أن هناك تزكية أشمل ولا أعم من تلك التزكية، وسنأتي بعون الله تعالى على كل نوع بشيء من التفصيل. فأقول وبالله التوفيق: أولا: تزكية القلب من حيث الذي أنزل إليه: قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء: 192- 195] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك والذي نزل به هو جبريل عليه السّلام الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، أي نزل به ملك كريم ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى، على قلبك يا محمد سالما من الدنس والزيادة والنقص، لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه وتبشر به المؤمنين المتبعين له) «3» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: وهي أبلغ تزكية لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث إن القلب الذي يجمع القرآن تلقيا وحفظا وعلما وعملا، قلب لا يمكن أن يدخله شك أو شبهة أو نفاق، وإذا أردت أخي القارئ أن تقف على كمال وجما لهذا القلب الذي كان أول قلب يتلقى القرآن العظيم،   (1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، برقم (52) ومسلم، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599) . (2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: التخفيف في الوضوء، برقم (138) ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل، برقم (763) . (3) تفسير القرآن العظيم (3/ 348) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 فانظر وتدبر حفاوة الله- عز وجل- بهذا الكتاب لتعلم مكانة هذا القلب، فقد ذكرت الآيات عظيم من نزل بأمره القرآن، وهو الله- تبارك وتعالى- رب العالمين، ورفيع قدر من نزل به، وهو الروح الأمين جبريل عليه السّلام وفصاحة اللسان الذي نزل به، وهو اللسان العربي المبين، فلا شك أن هذا الاعتناء الإلهي بنزول القرآن الكريم يستلزم اعتناء مثله بالمكان الذي سيكون وعاء وحفظا لهذا القرآن، وهو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو موطن تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم الذي أردت أن أبينه. الفائدة الثانية: بيان عظيم شأن القرآن الكريم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم فإنه أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة على أفضل الخلق على أفضل بضعة منه وهي قلبه، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحها وأوسعها، وهو اللسان العربي المبين) «1» . الفائدة الثّالثة: إن القلب هو مكان تمكن الشيء واستقراره وتثبيته؛ ولذلك أشار القرآن الكريم أن مكان نزول القرآن هو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس عقله ولا لسانه، وفيه إشارة أيضا أن مكان حفظ القرآن هو القلب وليس الكتب، مع التنبيه على ضرورة إعمال القلب في تدبر آيات الذكر الحكيم حيث إنه الوعاء الأول الذي نزل فيه القرآن. الفائدة الرّابعة: تكفل الله- تبارك وتعالى- بحفظ هذا الكتاب العزيز، من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل، من قبل نزوله، وأثناء نزوله، ومن بعد نزوله إلى قيام الساعة، أما قبل نزوله، فقد منع الله- عز وجل- الشياطين من استراق السمع قال تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) [الجن: 9] . وروى الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: (انطلق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السّماء، وأرسلت عليهم الشّهب، فرجعت الشّياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السّماء، وأرسلت علينا الشّهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السّماء إلّا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء. فانصرف أولئك الّذين توجّهوا نحو تهامة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له. فقالوا:   (1) تيسير الكريم الرحمن (598) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 هذا والله الّذي حال بينكم وبين خبر السماء) «1» . أما حفظه أثناء نزوله، فقد وكّل الله- عز وجل- بإنزاله الروح الأمين، جبريل عليه السّلام، ومع أن جبريل عليه السّلام له صفات عديدة، إلا أن من جمال الآية أنها ذكرت صفة عظيمة تناسب مقام إنزال القرآن وما يحتاج إليه هذا الإنزال من أمانة تقوم على حفظه، فذكرت صفة الأمانة لجبريل عليه السّلام. أما حفظه إلى قيام الساعة- وهو أهم وأعظم أنواع الحفظ لطول المدة بين النزول وقيام الساعة، وكثرة الحاقدين على هذا الكتاب وما سيقع من فتن عظيمة- فلم يوكل- سبحانه وتعالى- هذه المهمة لأحد أبدا غيره- سبحانه وتعالى- فوعد المؤمنين بحفظه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] ، فضمنّا بذلك أحسن الحفظ وأكمله وأتمه، لأنه حفظ من لا ينام ولا يغافل، ولا ينسى ولا يسهو، حفظ دائم متواصل ممن لا يموت ولا يزول- سبحانه وتعالى-. وتدبر أخي القارئ كم في آية الحفظ من مؤكّدات، ويكفي أن الله- عز في علاه- قد ذكر فيها نفسه الشريفة المقدسة- خمس مرات- بصيغة الجمع، التي هي صيغة التعظيم، ليطمئن قلب القارئ أن الله سيحفظ كلامه حفظا تامّا يتناسب مع عظمته التامة التي خضع لها كل شيء. واعلم أخي القارئ أن الآية لم تذكر نوعا معينا للحفظ بل أطلقت الحفظ ليشمل جميع أنواعه: حفظ من الزيادة والنقصان، حفظ من التحريف والتبديل، حفظ لعلومه وفنونه، حفظ لقراءته وتجويده وتلاوته، حفظ لمجالسته ومذاكرته، حفظ في قلوب العباد وفي سطور السجلات، حفظ لحبه في قلوب التالين له العاملين به، وقد تم كل ذلك على الوجه الأتم الأكمل، باتفاق المسلمين وغيرهم. الفائدة الخامسة: على الداعية إلى الله- عز وجل- أن يملأ قلبه بالقرآن، حفظا وعلما، وتدبرا ودراية، لأن القرآن خير معين له على أداء مهمته الشريفة، وخير حافظ لقلبه من الشكوك والشبهات، استفدنا ذلك أن الله- تبارك وتعالى- قد علل الغاية من نزول القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يكون نذيرا. الفائدة السّادسة: يؤخذ من الآيات الكريمات أن أفصح اللغات وأبينها وأحسنها، هي   (1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: الجهر بقراءة صلاة الفجر (773) ، ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح ... ، برقم (449) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 اللغة العربية، لأن الله- عز وجل- قد وصف اللسان العربي، الذي نزل به القرآن، بأنه مبين، وكأن اختيار هذا اللسان ليكون لغة القرآن روعي فيه أن يكون مبينا، فلو كانت لغة أبين وأفصح وأقدر على توصيل المعاني والتعبير عن المراد وترقيق القلوب، من اللسان العربي لنزل به القرآن. ويتفرع عليه: سوء أدب من يعتقد أن هناك لغة أشرف أو أفصح أو أشد ثراء أو أغزر معاني من اللغة العربية، وسوء أدب من يحب أن يدخل في كلامه مفردات لغة أخرى ظنّا منه أن هذا يرفع قدره عند السامعين، لأن الذي يرفع قدر المتكلم ويجعل لسانه فصيحا هو التكلم بالعربية لغة القرآن الكريم. ثانيا: تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حيث تعامله مع أصحابه وترفقه بهم. قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) [آل عمران: 159] . قال الإمام القرطبي رحمه الله: (ومعنى الآية: أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم، بيّن الرب- تبارك وتعالى- أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه، «ولنت» : من لان يلين لينا و «الفظّ» الغليظ الجافي، وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة، ومعنى «لانفضوا» : أي تفرقوا، والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم) «1» . وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى مخاطبا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينا، لولا رحمة الله بك وبهم، ثم قال رحمه الله: (والفظ: الغليظ، والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك: غَلِيظَ الْقَلْبِ أي لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم) «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: بيان ما جمع الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم من رقة قلب وترفق   (1) الجامع لأحكام القرآن (4/ 248) . (2) تفسير القرآن العظيم (1/ 420) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 بأصحابه وخلق جميل ولسان طيب ووجه بشوش، فتجمع له أصحابه فأحبوه وافتدوه صلّى الله عليه وسلّم بالمال والولد والأهل أجمعين، وقد بينت طرفا من رحمته وشفقته صلّى الله عليه وسلّم بأزواجه وأصحابه وخدمه ويتامى المسلمين، مما يغني عن التفصيل هنا. ويتفرع عليه: وجوب أن يتحلى كل راع لأمر من أمور المسلمين- وكلنا راعون- بهذه الصفات الحميدة، وأن تسبق رحمتنا غضبنا، وهي من صفات الإله الكريم المتعال، كما يتفرع عليه ذم قاسي القلب فظ اللسان سيئ الخلق، الذي يقسو أكثر مما يرحم ويغضب أكثر مما يرضى، والأدهى والأمرّ من ذلك أن يتصور أن هذه الأخلاق- الذميمة شرعا- من مستلزمات الرجولة والفحولة، والصحيح أنها من أخلاق الشيطان وأعوانه، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فالأخلاق الحسنة من الرئيس تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص. والأخلاق السيئة من الرئيس تنفر الناس عن الدين، وتبغّضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟ أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلّى الله عليه وسلّم من اللين وحسن الخلق والتأليف امتثالا لأمر الله وجذبا لعباد الله لدين الله) «1» . قلت: ليس هذا الأمر قاصرا على الرئيس في معاملة مرؤسيه، لكن هذا التوجيه الإلهي موجه إلى كل مسلم بالغ عاقل، وبقدر حب المسلم لرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم يكون الاقتداء بأخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة صلّى الله عليه وسلّم. وعلى كل أحد من المسلمين الأخيار يرى انفضاضا عنه ومجافاة له أن يعلم أن في خلقه سوآ وفي قلبه شرورا وفي وجهه عبوسا وفي لسانه عيوبا فليستعن بالله- عز وجل- وليغير ما به. الفائدة الثانية: إرشاد العباد إلى أن الذي يرقق القلوب ويطوعها للناس ويجعلها سهلة لينة هو رب القلوب والأبدان- تبارك وتعالى-، فهذا قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم أطهر قلوب الخلق وأشرفها وأطيبها، ما كان كذلك إلا برحمة الله- عز وجل-. ويتفرع على ذلك وجوب أن نسأل الله- عز وجل- ونتضرع إليه أن يحسّن أخلاقنا ويطهر قلوبنا ويجعلها رحيمة بعباده.   (1) تيسير الكريم الرحمن (154) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الفائدة الثّالثة: أوضحت الآية رفيع قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى.، ونلمحه في أمرين توجّه بهما الخالق- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وهما الأمر بالعفو عن المسلمين الذين أساؤا له صلّى الله عليه وسلّم، ويتبين من الآية أنه لولا عفو الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنهم لأخذهم الله- عز وجل- بهذه الإساءة صغيرة كانت أو كبيرة، والأمر الثاني: الاستغفار لأصحابه رضي الله عنهم، ومنها يتبين فضل دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان استغفاره صلّى الله عليه وسلّم يتساوى مع استغفارهم لأنفسهم ولا يتفاضل عليه، لأمر الله المؤمنين بالاستغفار لأنفسهم- خاصة أن الاستغفار عبادة- وقد ظهر هذا الأمر جليّا في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] ، وقوله- جل في علاه-: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) [المنافقون: 5] . قال الشيخ السعدي رحمه الله: (ثم أمره تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلّى الله عليه وسلّم ويستغفر لهم في التقصير في حق الله فيجمع بين العفو والإحسان) «1» . قلت: وهذا من أوجه التربية الفاضلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ونقل الإمام القرطبي عن بعض العلماء كلاما لطيفا في حكمة تدرج أوامره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية حيث قالوا: (أمره أن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور) «2» . ثالثا: تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حيث صدقه وحضوره وعدم كذبه. قال تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] . قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي: اتفق فؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقيا لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشك في ذلك، ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به، من آيات الله العظيمة، وأنه تيقّنه حقّا بقلبه ورؤيته، هذا هو الصحيح في تأويل الآية الكريمة، وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لربه ليلة الإسراء وتكليمه إياه، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بذلك رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لربه في الدنيا،   (1) تيسير الكريم الرحمن (154) . (2) الجامع لأحكام القرآن (4/ 249) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ولكن الصحيح القول الأول، وأن المراد به جبريل عليه السّلام كما يدل عليه السياق، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل في صورته الأصلية- التي هو عليها- مرتين، مرة في الأفق الأعلى، تحت السماء الدنيا، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) [النجم: 13] أي رأى محمد جبريل مرة أخرى نازلا إليه) «1» . والقولان اللذان ذكرهما الشيخ في أول كلامه لا يتعارضان بل يجب الأخذ بهما جميعا، فهذه الآية وإن نزلت في سياق الحديث عن حادثة المعراج لتثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تيقين ما رآه بقلبه ونظره، إلا أنها عامة في كل ما أوحاه الله إليه من قبل ومن بعد، فالعبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سبب نزولها. وصاحب النظر يرى أن الحاجة إلى تواطؤ قلب وبصر النبي صلّى الله عليه وسلّم على تلقي الوحي، أعظم من الحاجة إلى تواطؤ قلبه وبصره صلّى الله عليه وسلّم على ما رآه من مشاهد عظيمة ليلة الإسراء والمعراج، فإذا كان الله- عز وجل- قد مكّن قلبه صلّى الله عليه وسلّم من الرؤية ليلة الإسراء بحيث لا يكذّب قلبه أبدا ما رآه بصره، فمن باب أولى مكن قلبه من الوحي طيلة حياته صلّى الله عليه وسلّم. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: شدة قلبه صلّى الله عليه وسلّم وقوته، إذ ثبت القلب ولم يذهب مع عظيم ما رآه بالملأ الأعلى، كما يؤخذ من الآية أيضا، حضور قلبه صلّى الله عليه وسلّم كحضور بصره سواء بسواء، وكما أن القلب لم يكذب فإن البصر أيضا لم يذهل، ولولا ذلك لاختلف ما يراه البصر عما يراه الفؤاد ولو في شيء قليل. الفائدة الثانية: نتعلم من الآية أن القلب هو الذي قد يغافل ويذهل خاصة في الوقائع العظيمة- وهذا هو المشاهد في الصلاة مثلا- ودليله من الآية أن الله- عز وجل- نفى عن القلب عدم الكذب فيما رآه البصر وما نفى الله- عز وجل- ذلك عن البصر. الفائدة الثّالثة: على المسلم في الملمات العظيمة أن يفرغ قلبه مما قد يشغله وينكب على ما هو فيه، خاصة عند قراءة القرآن وفي الصلاة، لأن حضور القلب أوعى للإنسان لما يراه ويسمعه ويقرأه.   (1) تفسير السعدي (819) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 رابعا: تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حيث اتصاله الدائم بربه- عز وجل. عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن رضي الله عنه أنّه سأل عائشة رضي الله عنها؛ كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلّي أربعا، فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعا، فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي ثلاثا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال: «يا عائشة إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» «1» . هذا من كمال أحواله البشرية صلّى الله عليه وسلّم، أن قلبه لا ينام، وهو من خصائص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، يدل عليه ما رواه البخاري في حديث الإسراء من طريق شريك عن أنس: (وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) «2» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كمال قلبه صلّى الله عليه وسلّم حيث إن النوم صفة نقص تعتري النفس البشرية، فلما ثبت لقلبه صلّى الله عليه وسلّم عدم النوم أبدا، كان ذلك صفة كمال له. الفائدة الثانية: تعلق قلبه صلّى الله عليه وسلّم الدائم بالله- عز وجل-، إذ لو قدر أن يغافل قلبه صلّى الله عليه وسلّم في حال اليقظة لكان النوم بالنسبة إليه أولى، وأعتقد أن الاتصال الدائم بالله هو الهدف الرئيس من عدم نوم قلوب الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا. الفائدة الثّالثة: صحة الوحي إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، نقل صاحب الفتح عن الخطابي قوله: (وإنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه) «3» ، وقال ابن حجر رحمه الله: (ولو لم تكن رؤيا الأنبياء وحيا لما جاز لإبراهيم عليه السّلام الإقدام على ذبح ولده) «4» . قلت: ولو لم تكن وحيا لما أثنى الله على إبراهيم عليه السّلام بالإقدام على ذبح ابنه ولما أثنى على الابن بالتسليم بأمر الله عز وجل. والدليل على صحة الوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، أنه كان ينزل عليه القرآن وهو نائم، والقرآن أشرف ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم من وحي، روى مسلم في صحيحه: عن أنس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثمّ رفع رأسه متبسّما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: «أنزلت عليّ آنفا   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالليل، برقم (1147) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل ... ، برقم (738) . (2) البخاري، كتاب: المناقب، باب: ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم تنام عينه، برقم (3570) . (3) فتح الباري (1/ 239) . (4) فتح الباري (1/ 239) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 سورة، فقرأ: بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) » . الفائدة الرّابعة: النوم في حقه صلّى الله عليه وسلّم غير ناقض للوضوء، وهذا هو الصحيح، لما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ. قال الحافظ في التلخيص الحبير: (لا ينتقض وضوءه صلّى الله عليه وسلّم بالنوم) «1» . 3- تزكية لسانه صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 3، 4] . قال الإمام القرطبي رحمه الله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) ، أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض وإنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس موفورا من غير زيادة ولا نقصان) «2» . وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) . أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى في نفسه وفي غيره) «3» . بعض فوائد الآيتين الكريمتين: الفائدة الأولى: في الآيتين الكريمتين أبلغ التزكية للسان النبي صلّى الله عليه وسلّم (فهو عضو النطق) ؛ إذ نزهه الله- تبارك وتعالى- عن أي نطق فيه هوى، بل في الآيتين أبلغ تزكية لكل أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن اللسان الذي قد يزل دون شعور من صاحبه، وقد يخطئ دون قصد منه، قد نزهه الله سبحانه وتعالى- غاية التنزيه عن كل قول سوء فما بالنا ببقية جوارحه صلّى الله عليه وسلّم، وما اللسان إلا كالمترجم عنها، حقيق بتلك الجوارح أن تكون في غاية التنزيه عن كل ما يسوءها. ويتفرع على ذلك إثبات غاية العصمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل أحواله وفي كل ما قاله صلّى الله عليه وسلّم من جهة تنزيهه عن أن ينطق بالهوى، وإثبات أن كل ما نطق به صلّى الله عليه وسلّم وحي من ربه- تبارك وتعالى-. الفائدة الثانية: إثبات أن للسنة الشريفة نفس منزلة القرآن الكريم حيث حكم الله- سبحانه وتعالى- على كل ما ينطق به النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه وحي منه- تبارك وتعالى-، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (دلت الآية على أن السنة وحي من الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 11] ، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه لأن كلامه لا يصدر عن   (1) انظر التلخيص الحبير (3/ 135) . (2) وردت هذه الفقرة عند ابن كثير (4/ 248) وهي من كلامه، وليست من قول القرطبي. (3) انظر تفسير السعدي (818) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى) . انتهى. وقد ذكرت في باب «تربية أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق» أن المقصود بالحكمة في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) [الأحزاب: 34] ، أنها السنة الشريفة. الفائدة الثّالثة: يؤخذ من الآيتين الكريمتين، استحالة وجود تعارض أو تناقض بين القرآن الكريم والسنة الشريفة، أو تعارض بين القرآن والقرآن، أو بين السنة والسنة، إذ كلها وحي من الله- تبارك وتعالى-، ويستحيل أن يتكلم الله بما فيه التعارض، قال تعالى-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء: 82] ، ووجود شبهة التعارض عند الإنسان، قد يرجع إلى قلة علمه، خاصة بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، أو لقلة الفهم، فقد يكون الإنسان عالما، وليس لديه حاسة التدبر والاستنباط والتوفيق بين ما ظاهره التعارض، وقد فرق الله- سبحانه وتعالى- بين العلم والفهم في قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 79] ، وإثبات ملكة الفهم من السنة، نستشهد عليه بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (قلت لعليّ رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلّا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما أعلمه إلّا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصّحيفة. قلت: وما في الصّحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألايقتل مسلم بكافر) «1» . وقد يرجع شبهة التعارض والتناقض إلى سوء القصد واتباع الهوى. 4- تزكية بصره صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ، هذه الآية الكريمة من أعظم الآيات التي تدلل على حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم عامة ورفيع أدبه خاصة، ولو لم يكن في القرآن ولا في السنة غير هذه الآية في ذكر خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم لكفته صلّى الله عليه وسلّم فخرا، وللأسف الشديد قد يمر المسلم عليها ويقرأها كثيرا ولا يستشعر ما فيها من كريم خلقه صلّى الله عليه وسلّم، فهذه الآية وردت في معرض ذكر حادثة المعراج بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء السابعة ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى ما شاء الله تعالى، وبالرغم أن من جملة حكم هذه الحادثة هو أن يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم من آيات ربه الكبرى قال تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ   (1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، برقم (3047) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم من كمال أدبه ورفيع خلقه لم يلتفت يمنة أو يسرة للنظر في هذا الملكوت العظيم، والذي ليس به موضع شبر واحد، إلا وفيه آية من آيات الرب- تبارك وتعالى-، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم لم يمتد بصره إلا لما أذن الله له أن يرى، ولن يستطيع أحد مهما أوتي من علم وحكمة أن يتصور مثل هذا الخلق الرفيع أو يقيمه أو يقدره، وليس هذا من باب المبالغة، والسبب في ذلك أن أحدا منا لن يستطيع أن يتصور بعقله عظيم ملكوت الله وما به من آيات كبيرة، والتي استطاع النبي صلّى الله عليه وسلّم بخلقه أن يقصر نظره عنها، فهو خلق عظيم يتناسب مع ما في ملك الله من آيات، فهل بعد هذا الخلق من خلق. وتصور أخي القارئ أنك دخلت قصرا لملك من ملوك الدنيا تعلم أن فيه ما لم تره عينك ولم تسمع به أذنك ولم يخطر من قبل على قلبك، فكم من أدب تحتاج أن يكون معك حتى لا تنظر يمنة أو يسرة، وشتان شتان بين ما عند الله- تبارك وتعالى- من آيات وما عند الملوك، والفارق بينهما كالفارق بين الثرى والثريا، بل الفارق أعظم من ذلك بكثير، ولولا أن هذا الفعل من النبي صلّى الله عليه وسلّم كان خلقا رفيعا منه، ما ذكره الله- سبحانه وتعالى- في القرآن العظيم في سياق الثناء والمدح. وأقول: إذا كان هذا خلقه صلّى الله عليه وسلّم فيما لا يقدر عليه غيره، فكيف يكون خلقه فيما يقدر عليه غيره، وإذا كان هذا الأدب منه صلّى الله عليه وسلّم فيما لم يؤمر، فكيف يكون أدبه صلّى الله عليه وسلّم فيما أمر به أو نهي عنه. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: ما ذهب يمينا ولا شمالا وما جاوز ما أمر به، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن قول الناظم: رأى جنة المأوى وما فوقها ولو ... رأى غيره ما قد رآه لتاها «1» وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (وهذا كمال الأدب منه صلّى الله عليه وسلّم أن قام مقاما أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور إما ألا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينا وشمالا وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلّى الله عليه وسلّم) «2» .   (1) تفسير ابن كثير (4/ 253) . (2) تيسير الكريم الرحمن (819) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: بيان مدى اتساع علم الله- تبارك وتعالى- الذي أحاط بكل شيء، خفيا كان أو جليا، ظاهرا كان أو باطنا، بالليل كان أو بالنهار، ودليله من الآية أن الله- سبحانه وتعالى- قد رأى من عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يلتفت يسارا ولا يمينا طيلة رحلته المباركة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السماء السابعة مرورا بالفضاء الخارجي وبقية السماوات إلى سدرة المنتهى ولم يخف عليه- سبحانه وتعالى- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلتف يمنة أو يسرة، ولو بطرف بصره. الفائدة الثانية: إرشاد الأمة أن للبصر خلقا يجب التخلق به، وأن له حدودا يجب أن لا يتعداها، وكذا للسمع والفؤاد، قال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] . الفائدة الثّالثة: سوء أدب من يلتفت يمينا ويسارا، في طريقه إلى الله- سبحانه وتعالى- ومظاهر ذلك الالتفات وعلاماته كثيرة، فهذا يطلب الكرامات التي لم يعد الله أن يجريها على يد كل مسلم ويتطلع إليها ويجد شكا في قلبه إذا لم يرها، ولم يكفه أعظم الكرامات، وهي أن الله جعله مسلما وهداه للإيمان والقيام بالأركان، وآخر يريد معرفة الحكم والعلل لكل حكم من أحكام الشرع الحنيف، ولم يكتف بما وضحه الله- عز وجل- وبينه من علل بعض الأحكام، وثالث يطلب الهداية من مناهج أخرى مع الكتاب والسنة أو بدونهما. 5- تزكية خلقه صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . أكتفي هنا بذكر ما قاله الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير تلك الآية الكريمة التي زكّت خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم تزكية عظيمة، ليس قبلها ولا بعدها تزكية، إذ قال رحمه الله ما نصه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ أي: عليا به، مستعليا بخلقك الذي منّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين [عائشة رضي الله عنها] لمن سألها عنه، فقالت: (كان خلقه القرآن) . وذلك نحو قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 119] ، وقوله تعالى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ، لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (28) [التوبة: 128] . وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلّى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق، والآيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الحاثات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلّى الله عليه وسلّم سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبدّ به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيرته غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلّى الله عليه وسلّم) «1» . وأضيف كلمة موجزة بعد هذا الكلام النفيس فأقول: على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقارن خلقه بخلق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما كان فيه من خلق يخالف خلقه صلّى الله عليه وسلّم فليعلم أنه خلق قبيح يجب أن ينتهي عنه. وللتدليل على حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم دوما، قبل البعثة وبعدها، أورد حديثين أثبت بهما ذلك، وفي ثنايا هذا الكتاب عشرات الأحاديث في ذكر حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم. شاهد على خلقه صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة: عن عائشة أمّ المؤمنين أنّها قالت: (أوّل ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة في النّوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه- وهو التّعبّد- اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثّالثة ثمّ أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) [العلق: 1- 3] . فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زمّلوني زمّلوني» . فزمّلوه حتّى ذهب عنه الرّوع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا والله ما يخزيك الله أبدا إنّك؛ لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري   (1) تيسير الكريم الرحمن (879) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة- وكان امرآ قد تنصّر في الجاهليّة وكان يكتب الكتاب العبرانيّ فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا بن عمّ اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا النّاموس الّذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجيّ هم!» قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثمّ لم ينشب ورقة أن توفّي وفتر الوحي «1» . الشّاهد في الحديث: أن خديجة رضي الله عنها قد ذكرت طرفا من أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، يدل على عظيم خلقه، فإذا كان هذا خلقه قبل البعثة، ونزول القرآن عليه، فكيف كان خلقه صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، ويتبين لنا من الحديث أن الله- عز وجل- قد اعتنى بالأنبياء منذ نشأتهم، وقد وضحت ذلك في عدة في مواضع. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: كمال خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة- إذ جمعت له خديجة رضي الله عنها جميع مكارم الأخلاق التي يمكن أن يتصف بها أحد، ومن هذا الوصف نعرف أنه كان صلّى الله عليه وسلّم يحسن إلى من يعرف وتربطه به صلة (صاحب الرحم) ، ويحسن إلى من لا يعرف (المعدوم) ، ويحسن إلى من لا يحتاج (الضيف) ، ويحسن إلى من يحتاج (الكلّ) ، ثم الأجمل والأتم، يحسن إلى كل من نزلت به نازلة (تعين على نوائب الحق) ، وهو من أوسع أعمال الخير، لأن هذه الإعانة لا تقتصر على باب واحد من أبواب الخير، لأن صاحب النازلة قد يحتاج إلى مساعدة بالمال، وقد يحتاج إلى مساعدة بالجاه، وقد يحتاج إلى مساعدة بالتصبير والمواساة، أو إلى النصح والمشورة، أو إلى إعالة أحد الأبناء، فكان صاحب النابئة يجد عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به «2» . وقال الإمام النووي رحمه الله: وأما (صلة الرحم) فهي   (1) البخاري كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم (4) ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، برقم (160) . (2) انظر فتح الباري (1/ 24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. ويدخل في حمل الكلّ الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال وهو الإعياء. وأما قولها: (وتكسب المعدوم) فمعناه: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق وقيل: معناه: تكسب المال العظيم الذي يعجز عنه غيرك ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم وأما قولها: (وتقري الضيف) ويقال للطعام الذي يضيفه به: قرى ويقال لفاعله: قار، مثل قضى فهو قاض. وأما قولها: (وتعين على نوائب الحق) فالنوائب جمع نائبة وهي الحادثة إنما قالت نوائب الحق؛ لأن النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر «1» . الفائدة الثانية: قولها: (أول ما بدئ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم) فيه: 1- أن الرؤيا الصالحة من مبشرات النبوة، بل هي أول المبشرات، يؤخذ ذلك من الحديث الذي رواه البخاري، عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصّامت عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة» . وكما ثبت في القرآن الكريم، أن يوسف عليه السّلام، كان أول ما بدئ به، الرؤيا الصالحة، قال تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] . 2- الرؤيا الصالحة، أي الصادقة، لا تختص بالمؤمنين، ولكن قد تأتي لغير المؤمنين، مثال ذلك رؤيا ملك مصر، قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] ، وقد تحققت الرؤيا بكامل تفاصيلها، كما رأى صاحبا يوسف في السجن رؤيتين قد تحققتا، وكانا كافرين، والدليل على ذلك أن يوسف عليه السّلام قد دعاهما إلى الإسلام قبل أن يؤول رؤياهما، قال تعالى: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) [يوسف: 39] ، ولكن لا تكون تلك الرؤى بشرى للكافر. 3- تعبير الرؤى فضل من الله- عز وجل-، تفضل به على بعض عباده المؤمنين، والدليل على ذلك أن الملأ قالوا لملك مصر: أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [يوسف: 44] ، أي أن تأويل الأحلام له علماء متمرسون، والدليل على أنه فضل من الله، قول يوسف عليه السّلام في آخر ما ذكر القرآن من قصته، قال تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 201، 202) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يوسف: 101] . فقد أثبت أن الله هو الذي علمه تفسير الرؤى، بل أثبت أنها من المنن العظيمة؛ لأن يوسف عليه السّلام قد أثنى على الله بتعليمه لها، وقرنها بنعمة الملك. وإذا كان تأويل الرؤى علما ربانيّا فلا ينبغي لأحد أبدا أن يتكلم فيه بدون دراية، كما ينبغي لمن عنده هذا العلم، أن يشكر الله كثيرا على تلك النعمة، ولا يفوتني أن أذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أوتي ذلك العلم، لما رواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى الصّبح أقبل عليهم بوجهه فقال: «هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا» . 4- ما يراه النائم على ثلاثة أضرب، رؤيا صالحة تكون بشرى للمؤمن، يراها أو ترى له، فلا يقصّها المؤمن إلا على من يحب، قال تعالى على لسان يعقوب ناصحا ابنه: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف: 5] . والضرب الثاني: حلم من الشيطان، فعلى المسلم أن يتفل إذا رأى شيئا من ذلك، وينقلب على جنبه الآخر ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره بإذن الله، لما رواه البخاري، عن أبي سعيد الخدريّ أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبّها فإنّما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدّث بها، وإذا رأى غير ذلك ممّا يكره فإنّما هي من الشّيطان فليستعذ من شرّها ولا يذكرها لأحد فإنّها لا تضرّه» . والضرب الثالث: يرى النائم أضغاث أحلام لا معنى لها غالبا، فلا يذكر منها شيئا بعد يقظته. 5- من الذنوب العظيمة، أن يدعي الإنسان رؤيا لم يرها، لما ورد في صحيح البخاري، عن ابن عبّاس عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل» «1» . 6- لماذا يبدأ الوحي بالرؤيا الصالحة؟ يبدأ الوحي بالرؤيا الصالحة، لتكون بمثابة إرهاصات للنبوة، وتكون إعدادا نفسيّا وذهنيّا للأنبياء، لتحمل أعباء أعظم المهام في هذه الدنيا، وهي الدعوة إلى الله- عز وجل-، يشعر بها النبي- قبل الوحي- أنه غير البشر العاديين، وأن الله- سبحانه وتعالى- سيختصه بشيء عظيم، حتى إذا جاءه الوحي لم يكن مفاجئا له، أو يظن أن ذلك توهمات من الشيطان، لأنه إذا تدبر حاله وما كان يراه قبل   (1) البخاري، كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه، برقم (7042) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 البعثة من رؤى صالحة اطمئنت نفسه أن ما يراه ويسمعه من وحي الله حقّ وصدق، فإذا كان الشيطان لم ينزغ به وهو نائم، فكيف ينزغ به وهو يقظان، كما أن أهله، والمقربين منه، الذين يعلمون منه الرؤيا الصالحة، إذا سمعوا منه أنه يوحى إليه من ربه كانوا أول المصادقين به، كخديجة رضي الله عنها وصاحبه أبي بكر الصديق، فقد يكون تصديق أبي بكر له من أول وهلة وبدون أدنى تردد كان بسببه علمه بالرؤيا الصالحة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، قبل البعثة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهّد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر) «1» . وقال الإمام النووي رحمه الله: (قال القاضي رحمه الله وغيره من العلماء: إنّما ابتدئ صلّى الله عليه وسلّم بالرّؤيا لئلّا يفجأه الملك ويأتيه صريح النّبوّة بغته فلا يحتملها قوى البشريّة فبدئ بأوّل خصال النّبوّة وتباشير الكرامة من صدق الرّؤيا) «2» . [ مسألتان مهمتان: ] ويتفرع على الإعداد الذهني والنفسي الذي أشرت إليه مسألتان مهمتان: المسألة الأولى: يجب الإعداد الجيد ذهنيّا ونفسيّا لكل من يتولى ولاية سواء الكبرى أو الصغرى، سواء في الحياة المدنية أو العسكرية، يجب أن يعدّ إعدادا خاصّا بمعرفة العلوم التي يحتاج إليها، وإعدادا عامّا بالأخلاق والقيم التي يجب أن يتحلى بها كل من يتولى أمرا من أمور الرعية، ويدل على ذلك أن الله- عز وجل- قد هيأ نبيه للرسالة بالرؤيا الصالحة، التي كان يراها قبل البعثة، كما هيأه أيضا باشتغاله برعي الغنم، وكان ذلك له ولإخوانه من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا، وقد ورد في صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» ، فقال أصحابه: وأنت، فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» «3» . المسألة الثانية: الإعداد الذهني والنفسي، يجب الاهتمام به ومراعاته، حتى في إلقاء الأخبار والأنباء العظيمة، التي قد يكذبها السامع من غرابتها، قد يؤخذ ذلك من أن رؤيا النبي عليه السّلام الصادقة، التي كانت تتحقق مثل فلق الصبح، يحتمل أنها كانت عونا لأصحابه على تصديقه في خبر الوحي، فإن قيل: من أين أخذت ذلك، قلت: أخذت ذلك من القرآن الكريم، ألم تر أن الله- عز وجل- حين ذكر معجزة عيسى عليه السّلام، التي كانت فتنة لكثير من الناس لغرابتها، ذكر قبلها قصة زكريا عليه السّلام، كيف اشتعل منه الرأس   (1) فتح الباري (1/ 23) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 198) . (3) البخاري، كتاب: الإجارة، باب: رعي الغنم على قراريط، برقم (2262) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 شيبا، وكانت امرأته عاقرا، وكيف لم يكلم الناس ثلاث ليال، بغير مرض في لسانه، وكانت تلك القصة بمعجزاتها كالتمهيد الذهني لمعجزة أعظم وأغرب على عقول الناس، وهي معجزة عيسى عليه السّلام، واستخدم النبي نفس النهج وهو الإعداد الذهني والنفسي في أول يوم صدع فيه بالدعوة، كما ورد عند البخاري، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الصّفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عديّ» ، لبطون قريش حتّى اجتمعوا، فجعل الرّجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟» قالوا: نعم؛ ما جرّبنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» «1» . فيجب علينا أن ننتبه لهاتين المسألتين جيدا، وهما الإعداد الذهني والنفسي لمن سيتولى أمرا هامّا، أو من سنلقي عليه أخبارا لا يألفها. 7- رؤيا الأنبياء حق، لقول عائشة: (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، ولفظة (رؤيا) ، جاءت نكرة في سياق النفي، وهي تقتضي العموم، وحيث إن كل رؤى النبي صلّى الله عليه وسلّم تتحقق، علمنا أن رؤيا الأنبياء حق؛ إذ لو كان للشيطان نصيب منها، لتحقق بعضها ولم يتحقق الآخر. 8- رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، كانت تتحقق على وجه لا يختلف اثنان على تأويلها وتحققها، استفدنا ذلك من قول عائشة: (إلا جاءت مثل فلق الصبح) . فقد شبهت تحقق الرؤيا مثل ضياء الصبح، الذي لا يخالف أحد في وجوده وسطوعه، فكذلك رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو اختلف عليها اثنان ما صح التشبيه قال الإمام النووي رحمه الله: (فلق الصبح هو ضياؤه وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البين) «2» . الفائدة الثّالثة: في الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، لقوله: «ما أنا بقارئ» . وهذا أبلغ في إقامة الحجة على الكفار، في أن القرآن الذي أعجز العرب والعجم كان من عند الله، ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ ويكتب، لادعى الكفار أنه جاء بالقرآن، بعد أن تعلم وقرأ الكتب المنزلة على الرسل، وقد تيقن الكفار أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان أميّا وإلا   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ برقم (4770) . ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ برقم (208) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 لما ادعوا أن الذي يعلمه ويكتب له أحد أصحابه، قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ، ولكن الله- عز وجل- فضح كذبهم، وبين أن الذي يدعون أنه يعلم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ليس من العرب بل هو رجل أعجمي، قال تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] ، حتى أهل الكتاب كانوا على يقين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أميّا، بل تيقنوا أنه لم يقرأ كتب الرسل السابقين، لذلك كانوا يسألونه في مسائل يريدون أن يعجزوه بها، ليس لها جواب إلا في كتبهم، روى البخاري: أنّ عبد الله بن سلام بلغه مقدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ: ما أوّل أشراط السّاعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ قال: «أخبرني به جبريل آنفا» «1» ، بذلك تعلم حكمة الله- عز وجل- في كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أميّا، ولو لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم معجزة إلا أنه تكلم بجوامع الكلم مع كونه أميّا لا يقرأ ولا يكتب، لكفى ذلك حجة على الكفار بصدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم وقد بين الله تعالى رحمته بالناس حيث قدّر على رسوله أن يكون أميّا بقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] . الفائدة الرّابعة: على المسلم إذا بدأ في طلب العلم، أو في تعليمه، أن يسمي الله- عز وجل- وأن ينخلع من حوله وقوته، ويكون يقينه بالله وحده، استفدنا ذلك من قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق: 1] قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، أي: لا تقرؤه بقوّتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربّك وإعانته، فهو يعلّمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدّم وغمز الشّيطان في الصّغر، وعلّم أمّتك حتّى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمّيّة) «2» . ومن رحمة الخالق بخلقه أنه يسر لهم أدوات العلم ولم يتركهم لغياهب الجهل، وهذا من مقتضيات الخلق، يؤيد ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، فالله هو الذي منحنا تلك الحواس لنستعين بها على تلقي العلم حيث ذكرت تلك الحواس بعد ذكر خروج الناس من بطون الأمهات لا يعلمون أي شيء، والعلوم النافعة هي توفيق من الله- عز وجل- وفتح رباني، وبقدر ما جعل الله في تلك الحواس من حسن نظر وتفكر وفهم، كان صاحبها في   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: كيف آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه برقم: (3938) . (2) فتح الباري (1/ 24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 العلم أرسخ، كل ذلك شريطة أن يأخذ الإنسان العلم من منابعه الصحيحة، ويبذل فيه جهده، ويعمل فيه سمعه وبصره وقلبه، مع تقوى الله- عز وجل- لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 28] ، وليس في الآية أبدا دليل على ما يدعيه بعض الجهلة أن تقوى الله تأتي بعلم رباني- وهو ما يسمونه بالعلم اللادنّي- دون أن يتكلف الإنسان فيه، الصبر والمشقة وعناء طلب العلم وملازمة الشيوخ. الفائدة الخامسة: في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) . والعلق: هو الماء المهين، هو أساس مادة الخلق، نفهم من ذلك ضالة قدر الإنسان في مقابل عظيم شأن الله حيث جاءت الآية التي تليها مباشرة: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) [العلق: 3] ، والله- عز وجل- يذكرنا دائما في القرآن الكريم بضالة مادة الخلق، ليتبين لنا ضالة المخلوق من هذه المادة، والحكمة من ذلك ألا نغتر بما عندنا، ولا نتكبر على الخالق العظيم، وأن يكون ذلك رادعا لنا حتى لا نجادل في الله أو في آيات الله، قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4] . الفائدة السّادسة: في قولها: (ثم حبّب إليه الخلاء) ، دليل آخر على اعتناء الله بنبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، فقد حبب الله إليه الخلاء، وهو التعبد في خلوة، مع مظاهر الاعتناء الآخرى التي ذكرت في الكتب مبسوطة، قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أبو سليمان الخطّابيّ رحمه الله: حبّبت العزلة إليه صلّى الله عليه وسلّم لأنّ معها فراغ القلب، وهي معينة على التّفكّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشّع قلبه) «1» . ويتفرع على ذلك: ضرورة أن يربي الداعية نفسه على المجاهدة والصبر، وأن يجعل جزآ من عبادته لله في السر أو في خلوة، ليستعين بذلك على مجاهدة الناس والصبر على أذاهم، حتى تكون الخلوة معينا له على تحقيق الإخلاص؛ لأن جلّ أعمال الداعية يراها الناس، وقد يتهمه الشيطان بالرياء، فتأتي الخلوة لتزيل هذه الشبهة التي قد تعكر عليه صفو عبادته. ولا يشترط أن ينقطع تماما عن الناس ليحقق الخلوة التي فيها كمال الإخلاص، بل يكفيه أن تكون له بعض العبادات التي لا يراها أحد إلا الله- عز وجل-، كقيام الليل، وذكر الله خاليا، حتى تفيض عيناه من خشية الله، وقد تكون في كفالة يتيم، أو صدقة جارية لا يعلمها إلا الله، وهذه الأمور من الضرورة بمكان لكل أحد، حتى يتأكد من نفسه الإخلاص، وحذار حذار، أن تعلم كلّ أحد بكل أعمالك التي تتقرب بها إلى الله، أو تحبّ   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 أن يطلع عليها الناس، فقد تكون هذه من علامات الرياء. الفائدة السّابعة: الأخذ بالأسباب سنة الأنبياء، وهي لا تنافي التوكل على الله- عز وجل-، فالتوكل كما يعرّفه العلماء هو الأخذ بالأسباب مع قوة اليقين والثقة بالله، وغير ذلك لا يكون توكلا، ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في باب قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتّى يأتيني رزقي. فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله جعل رزقي تحت ظلّ رمحي» «1» وقال: «لو توكّلتم على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا وتروح بطانا» «2» . فذكر أنّها تغدو وتروح في طلب الرّزق قال: وكان الصّحابة يتّجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم) «3» . انتهى. وسنة نبينا كلها مملوءة بمظاهر أخذه بالأسباب، منها حديث الباب في قول عائشة: (قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك) ، والتزود هو استصحاب الزاد، أمرنا الله به في محكم التنزيل، قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] . ومن أراد أن يأخذ الدروس والعبر في حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأخذ بالأسباب، فعليه بقراءة ما جاء في الهجرة المباركة، فكل خطوة خطاها النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ فيها بأحسن الأسباب، كأن الهجرة كانت لتعليم الأمة الأخذ بالأسباب. ومن لا يأخذ بالأسباب ويدعي أن هذا هو منتهى التوكل، أقول له: أأنت أعلم أم الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟! أأنت أشد توكلا أم الرسول؟، أقول له في النهاية: ماذا تقول في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] ، وقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] ، فأثبت الرماية لرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكان التوفيق والتسديد منه- عز وجل- ولكن جاء بعد الأخذ بالأسباب. الفائدة الثّامنة: ما كان عليه الصحابة من تعظيم أمر الوحي، وما أنزل من الله- عز وجل-، فكانوا يرون أنه الحق، والحق هو الصدق في الإخبار والعدل في الأحكام، ومن تلقى الوحي بهذا الاعتقاد، سارع في إقامة حدوده بتسليم وقبول، ورضي واطمئنان، لا   (1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في الرماح. (2) الترمذي، كتاب: الزهد، باب: في التوكل على الله، برقم (2344) وابن ماجه، كتاب: الزهد، باب: التوكل واليقين، برقم (4164) . (3) فتح الباري (6/ 113) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 يري شيئا أحق منه بالاتباع؛ لأنه الحق وخلافه الظلم، استفدنا ذلك من قول عائشة: (حتى جاءه الحق) ولا يقال: إن المقصود بالحق هنا هو جبريل، لأنها قالت بعدها مباشرة: (فجاءه الملك) ، والملك هو جبريل، قال الإمام النووي رحمه الله: (أي جاءه الوحي) «1» . الفائدة التّاسعة: قوله: «فغطني حتى بلغ منى الجهد» ، أي ضمني وعصرني حتى بلغ مني التعب غايته، يصدق ذلك قوله لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» . قال النووي رحمه الله: (قال العلماء: والحكمة في الغطّ شغله من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له وكرّره ثلاثا مبالغة في التّنبّه ففيه أنّه ينبغي للمعلّم أن يحتاط في تنبيه المتعلّم وأمره بإحضار قلبه) «2» . والعجيب أن يفعل جبريل عليه السّلام هذا مع الرسول في أول لقاء معه، والذي يفترض فيه أن يكون أكثر ودا وتلطّفا، ولكن هكذا يربّى النبيّ من اليوم الأول للبعثة، يعوّد نفسه على أعباء الرسالة، ويؤهل نفسه على ما سينزل عليه من ربه، قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمل: 5] . ولا يخفى على أحد ما كان يعانيه النبي من شدة عند نزول الوحي، فقد ورد في البخاري، عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» . قالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا) «3» . وكذلك شدد عليه جبريل عليه السّلام من أول يوم ليتحمل الأمر في معاندة أهل الزيغ والضلال، فقد روى البخاري، عن عبد الله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتّى سجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كان لي منعة!! قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساجد لا يرفع رأسه حتّى جاءته فاطمة فطرحت عن   (1) شرح صحيح مسلم (2/ 199) . (2) شرح صحيح مسلم (2/ 199) . (3) البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم (2) ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم في البرد، برقم (2333) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ظهره فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه) «1» . وعلى ولي الأمر أن يأخذ درسا من ذلك، إذا أراد أن يربي من يعول، فهكذا تكون التربية، الأخذ بالشدة أولى، والشدة لا تعني عدم الرحمة والشفقة، ولكنها تعني عدم الترف، وعدم تلبية كل ما يحتاج إليه المتربّي، حتى لو كان نافعا. وقد تجلت التربية الربانية للرسول طوال حياته، انظر إلى صبره على أذى المنافقين والكافرين، انظر إلى شجاعته في الغزوات والمعارك، انظر كيف كان يتحمل المرض والجوع، انظر كيف كان يعالج عوام المسلمين أصحاب الجفاء والغلظة، بل كيف تحمل انقطاع الوحي في حادثة الإفك. الفائدة العاشرة: نأخذ من قولها رضي الله عنها: (فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده) ، مع قوله: «لقد خشيت على نفسي» ، وأن الخوف أمر مجبول عليه الإنسان، ولا يقدح في قوته ولا يقلل من شأنه، ولا يتعارض مع خوف الإنسان من ربه، خاصة إذا رأى ما يهدد حياته ويعصف بها، المهم أن يعلم وهو في حالة الخوف، أن الله هو المنجي من المهالك، ولن يضره أحد إلا بإذن الله، وبشيء قد كتبه الله عليه، قال الإمام النووي رحمه الله (ربما خشي ألا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يقدر على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسه) «2» وذكر الإمام ابن حجر عدة أقوال عن حقيقة الخوف الذي انتاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجح منها ثلاثة أقوال؛ وهي: أن يكون خوفه صلّى الله عليه وسلّم من الموت لشدة الرعب، أو المرض، أو دوام المرض «3» ، ومما يؤيد أن الخوف أمر مجبول عليه الإنسان- ولو كان نبيّا- قوله تعالى على لسان موسى وهارون: قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) [طه: 45] الفائدة الحادية عشرة: ما يجب أن تكون عليه الزوجة مع زوجها، وكذلك الزوج مع زوجته، نتعلم ذلك من النقاط التالية: 1- يجب على الزوج أن يعلم أن الزوجة هي خير سكن له، يلجأ إليها عند نزول الأمر الجلل وغيره، يستشيرها في أمره، ويشكو إليها ما يجده من مصاعب الحياة، ولا يقدح ذلك في رجولته، لأنها سنة الله في هذا الكون، قال تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف: 189] ، ولو كان اللجوء إلى الصاحب أولى وأنفع في تلك المواقف، لذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر الصديق وهو   (1) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة ... (240) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 200) . (3) انظر فتح الباري (1/ 24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الرجل الحكيم ولكن ما ذهب إلا لخديجة، علمنا ذلك من قولها: (فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة) ، وقولها: (فقال لخديجة وأخبرها الخبر) . قال الحافظ ابن حجر: (من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه) «1» . 2- يجب على الزوجة أن تهدئ من روع زوجها، وتكون له خير معين على مصائب الدنيا وهمومها وغمومها، وتقول له ما يناسب المقام، ولا يمكن أن تقوم المرأة بهذه المهمة الشاقة، إلا إذا كانت حكيمة في تصرفاتها، لبيبة في أحكامها، رزينة في أقوالها، فإن الزوج لو اعتاد منها خفة العقل، وسفاهة الرأي وإذاعة السر، انصرف عنها لغيرها، يستشيره في أمره، ويستأمنه على سره، وبذلك تكون قد انقطعت حبال الصلة بين الرجل وزوجته، علمنا ذلك من موقف خديجة رضي الله عنها ترى زوجها يدخل عليها بهذه الحالة من الخوف والرجفة، وهي الزوج الحنون، فلا ترتجف ولا ترتعد، بل تثبت، وتقول له كلمات موجزة أذهبت عنه كل ما يجد: (كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم ... ) . 4- يظهر من الحديث بصورة جلية واضحة، فقه خديجة رضي الله عنها وعلمها وحكمتها وذلك في النقاط التالية: أ- علمها وإيمانها بالله- عز وجل-، في قولها: (كلا والله) ، وثقتها به في قولها: (ما يخزيك الله أبدا) . ب- إحاطتها بما يحبه الله من الأخلاق والأعمال، وأن هذه الأعمال إذا كانت في عبد فلن يسوءه الله أبدا حيث ذكرت أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصفاته، بعد قسمها أن الله لن يخزيه أبدا، ومن فقهها أيضا أنها ذكرت الحكم، وهو عدم الخزي، وقدمت بين يديه علة الحكم، وهو اتصاف الرسول بهذه الصفات. ج- حسن تصرفها، وذلك أنها ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، ولكن بعد أن هدأت من روعه، ليستطيع أن يقص عليه خبره جيدا، كما أنها بالذهاب إلى ورقة جمعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم العلم العام بالمسألة، وهو علمها، والعلم الخاص، وهو علم ورقة الذي كان يكتب الكتاب العبراني. د- حكمتها ومن ذلك، أنها لم تحك لورقة ما رأى الرسول مع أنه أخبرها به، ولكن قالت لورقة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك؟ لأن الذي رأى ليس كالذي سمع، كما أنها   (1) انظر فتح الباري (1/ 25) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 استرعت انتباه ورقة أولا قبل الحكاية، بقولها: (اسمع) وتلطفت إليه بقولها: (يا بن عم) وبقولها: (من ابن أخيك) ، هذا الفقه والعلم والدراية والحكمة من خديجة، لا أظن أن أحدا نازعها فيهم، لذلك أثنى عليها النبي غاية الثناء وأحبها حبّا لم يحبه لأحد من نسائه سواها، ويجب أن نتأمل أن هذا الفقه والعلم، كان منها قبل البعثة فما بالكم بعدها. قال الإمام النووي في مدح أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (وفيه أعظم دليل وأبلغ حجّة على كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوّة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها) «1» . الفائدة الثانية عشرة: في قول خديجة: (والله ما يخزيك الله أبدا) ، حثّ وترغيب لأفراد الأمة أن تتمثل بهذه الأخلاق الحميدة، أولا: لأن الله- عز وجل- يحبها، وأنه يكافئ من اتصف بها بعدم الخزي في الدنيا والآخرة. ثانيا: لأنها أخلاق سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم، التي ربّاه الله عليها قبل البعثة ليأهله للقيام بأعظم المهام. قال الإمام النووي: (قال العلماء رضي الله عنهم: معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنّك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشّمائل. وذكرت ضروبا من ذلك وفي هذا دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السّلامة من مصارع السّوء) «2» . الفائدة الثالثة عشرة: تصديق ورقة بن نوفل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم تصديقا كاملا، وذلك أنه أقر بأن الذي أنزل على الرسول هو الحق، فقال: (هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى) . فعلمنا إيمانه بجبريل وموسى وعيسى، لقول الراوي: (وكان امرآ قد تنصر في الجاهلية) ، وقبل ذلك أنه آمن بالله- سبحانه وتعالى- وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب، بل إنه عزم على نصرة النبي على أعدائه، وأن يهاجر معه عند ما يخرجه قومه، فكل ذلك يدل قطعا على أنه صدق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ونوى النصرة والجهاد في سبيل الله، فإذا قال قائل: كيف تحكم له بذلك، وهو لم يشهد الشهادتين؟. قلت له: إنه توفي بعد تلك الحادثة، وقبل تتابع الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس أن يؤمنوا به، ويصدقوه ويشهدوا الشهادتين. الفائدة الرابعة عشرة: قد يشعر أهل الدين والعلم، بقرب أجلهم، وذلك لقول ورقة:   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 202) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 202) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 (ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك) . فكأنه شعر بقرب أجله، يصدق ذلك قول الراوي: (ثم لم يلبث ورقة أن توفى) ، وهذا أمر مشاهد. الفائدة الخامسة عشرة: أن مسلك الكفار مع كل الأنبياء واحد، لا يختلف باختلاف العصور، ولا باختلاف الرسل، أو حتى باختلاف الحضارات والثقافات، ونعلم أيضا، أن سنة الله- عز وجل- في الأرض، هي العداء المستحكم بين الحق والباطل، وأنهما لن يرتفعا ولن يتفقا، والدليل قول ورقة: (لم يأت رجل قط بمثل بما جئت به إلا عودي) ، فإذا كان الأنبياء وهم أحياء يؤمرون بأمر الله، ومعهم المعجزات الظاهرات البينات، لم يسلموا من معاداة الكافرين وإيذائهم، فهل يسلم أتباع الأنبياء من عداوة الكفار؟! من ظن هذا فقد وهم، ويصدّق ما اعتقده ورقة، قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) [إبراهيم: 13] . يتضح من الآية أن الكافرين لن يرضوا من الأنبياء إلا بأمرين، إما الخروج من أرضهم أو أن يعودوا إلى ملتهم، وترك ما هم عليهم من الدعوة إلى الله- عز وجل-، فهذا هو نهج كل كافر في أي عصر، مع أي رسول في أي وقت، انظر كيف كان ورقة بن نوفل على يقين من إخراج الكافرين للرسول حيث قال: (إذ يخرجك قومك) . الفائدة السادسة عشرة: يتفرع على ما سبق، أن أهل الحق كلما كانوا للأنبياء أشد طوعا واتباعا، كان الكفار لهم أشد عتوّا وعداء، ومن ثمّ إذا وجدنا الكفار يحبوننا ولا يعادوننا، فيجب علينا أن نراجع ما نحن عليه من إيمان، فقد يكون فيه دخن، جعل بيننا وبين الكافرين حبّا، ولكن في بعض الأوقات قد يداهن الكفار المؤمنين لضعفهم وقوة أهل الحق. الفائدة السابعة عشرة: لا تكون النبوة إلا في الرجال، لقول ورقة: (لم يأت رجل قط) ، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف: من الآية 109] . الفائدة الثامنة عشرة: لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، من مكة مهاجرا إلى المدينة اختيارا، لطلب راحة البال أو سلامة الجسد، بل إنه أخرج منها مكرها، ولولا ذلك ما خرج، لقول ورقة: (إذ يخرجك قومك) ، وكراهة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمر الخروج وترك مكة نستشعرها من قوله: «أو مخرجيّ هم» . الفائدة التاسعة عشرة: في الحديث منقبة لعائشة رضي الله عنها حيث إنها ذكرت كل ذلك عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 خديجة، ولم تمنعها غيرتها منها أن تذكر فضلها وعلمها وحكمتها، فقد يكون الإنسان يغار أشد الغيرة من أخيه، ولكن لا تمنعه هذه الغيرة من قول الحق، والثناء عليه بما هو أهله وهذا مسلك أهل الفضل. شاهد على خلقه صلّى الله عليه وسلّم بعد البعثة: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: حدّثني ابن عبّاس قال: حدّثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ، قال: انطلقت في المدّة الّتي كانت بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فبينا أنا بالشّأم إذ جيء بكتاب من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبيّ جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. قال: فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقالوا: نعم. قال فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيّكم أقرب نسبا من هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي. ثمّ دعا بترجمانه فقال: قل لهم إنّي سائل هذا عن هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ، فإن كذبني فكذّبوه. قال أبو سفيان: وايم الله لولا أن يؤثروا علىّ الكذب لكذبت. ثمّ قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم. قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: أيتّبعه أشراف النّاس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟ قال: قلت: لا، بل يزيدون. قال: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا؟ يصيب منّا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا ونحن منه في هذه المدّة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثمّ قال لترجمانه: قل له إنيّ سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنّه فيكم ذو حسب، وكذلك الرّسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرّسل، وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على النّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ثمّ يذهب فيكذب على الله، وسألتك هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنّهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتّى يتمّ. وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنّكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرّسل تبتلى ثمّ تكون لهم العاقبة. وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنّه لا يغدر، وكذلك الرّسل لا تغدر. وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتمّ بقول قيل قبله قال: ثمّ قال: بم يأمركم؟ قال قلت: يأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّلة والعفاف. قال: إن يك ما تقول فيه حقّا فإنّه نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أك أظنّه منكم، ولو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغنّ ملكه ما تحت قدميّ. قال: ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأه، فإذا فيه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله، إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ... فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين؛ فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ- إلى قوله- اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللّغط، وأمر بنا فأخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنّه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه سيظهر حتّى أدخل الله عليّ الإسلام. قال الزّهريّ: فدعا هرقل عظاماء الرّوم، فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الرّوم هل لكم في الفلاح والرّشد آخر الأبد، وأن يثبت لكم ملككم؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت. فقال: عليّ بهم فدعا بهم. فقال: إنّي إنّما اختبرت شدّتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الّذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه. رواه البخاري «1» . ملخص الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل دحية الكلبي رضي الله عنه بكتاب، وأمره أن يسلمه إلى عظيم بصرى ليسلمه عظيم بصرى إلى هرقل عظيم الروم، فلما استلم هرقل الكتاب، أمر أن يبحثوا له عن أحد من قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم ليسألهم عن خبره، فتصادف وجود أبي سفيان بن حرب في الشام   (1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا، برقم (4553) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 (وكان كافرا يومئذ) ، وكان بين قريش وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم هدنة في تلك الفترة، وهي صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وكانت مدتها عشر سنين، فدعي أبو سفيان إلى مجلس هرقل، وأجلس أصحابه خلفه- أي خلف أبي سفيان- وبدأ يسأله عن خبر النبي صلّى الله عليه وسلّم. الشّاهد في الحديث: أن أبا سفيان بن حرب، وكان ما يزال كافرا زكّى خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم من كل الوجوه، كما سيأتي مفصلا- إن شاء الله. فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل والذي فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم» ، فوائد منها: 1- استحباب بدأ الكتب بالبسملة، ويبدو أن هذا كان نهج الأنبياء من قبل، ويصدق ذلك قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل: 30] ، ولا يفرق في ذلك بين الكتاب المرسل إلى مسلم أو ذمي أو كافر، فكلها تبدأ بالبسملة. 2- البسملة تتكون من جار ومجرور، وهما: «باسم» ، ومضاف ومضاف إليه، وهما: «باسم الله» ، ثم صفتين من صفات الباري- سبحانه وتعالى- وهما: «الرحمن الرحيم» ، والجار والمجرور هنا يحتاج إلى متعلق، والمتعلق محذوف، فيقدّر حسب المناسبة، فإذا كان العبد يفتتح القراءة فيكون المتعلق باسم الله أقرأ، وإذا كان يريد الذبح، يكون المتعلق باسم الله أذبح، وهكذا في الخروج والدخول، والكتابة، وغير ذلك، والتسمية أمرها عظيم، وهي من الكلمات المباركة التي لا غنى للعبد عنها خاصة في بعض المواطن كالأكل والشرب ودخول البيت، فعن جابر بن عبد الله أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا دخل الرّجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشّيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشّيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء» . رواه مسلم «1» ، وعن ابن عبّاس يبلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنّ أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله اللهمّ جنّبنا الشّيطان وجنّب الشّيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضرّه» . رواه البخاري «2» ، والذبح أيضا، لقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) [الأنعام: 118] .   (1) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2018) . (2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، برقم (141) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وبالتسمية يبارك الله- سبحانه وتعالى- أي عمل، وبدونها تنزع البركة من أي عمل، بل بها يحل لنا الأكل من الذبائح، وعند تركها عمدا تأخذ الذبيحة حكم الميتة، فيحرم الأكل منها، فاحرص أخي المسلم أن تبدأ كل عمل لك بتسمية الله، واعلم أنك إذا سميت بهذا اللفظ، فقد سميت بكل اسم لله- تبارك وتعالى- لأن لفظ (باسم) نكرة مضاف، فيشمل كل اسم لله تعالى، وكفى بذلك ترغيبا في البسملة. 3- السنة، حسب رأي الجمهور، أن يبتدئ كاتب الكتاب باسمه قبل اسم المرسل إليه، فيقول: من فلان بن فلان إلى فلان، والأرجح إذا كان المرسل إليه من أهل العلم والصلاح، أن نبدأ باسمه توقيرا له وعرفانا بفضله، قال الإمام ابن حجر: (فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه) «1» . 4- من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من محمد رسول الله» ، علمنا أن «رسول الله» أصبحت علما له صلّى الله عليه وسلّم وإلا لقال: من محمد بن عبد الله، خاصة أنه يرسل إلى ملك لا يؤمن به ولا يعرفه، وعلمنا أيضا أن صفة الرسالة ألصق به من نسبه، وأن ذلك أولى- أي أنه يدعى بصفة الرسالة- بل أوجب عند ذكره، وقد ذكرت في موضع آخر سوء أدب من يقول: (محمد بن عبد الله) ، فالأدب الأدب مع مقام النبوة والرسالة. 5- في قوله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل: «عظيم الروم» ، التلطف مع من تدعوه إلى الإسلام، فلم يكتب اسمه مجردا من الألقاب، بل قال: عظيم الروم؛ لأنه إذا حقر أمره، قد يحقر المرسل إليه أمر الكتاب، وما جاء فيه، وقد يتعدى ويسب الإسلام وهذه مفسدة، وقد نهينا عن ذلك، في قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: من الآية 108] . فإذا كان سب الكفار مصلحة، إلا أن سب الله- تبارك وتعالى- مفسدة عظيمة، وأي مفسدة أعظم منها!، وعندنا قاعدة عظيمة، أن درأ المفاسد أولى من جلب المنافع. ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إلى هرقل ملك الروم) ؛ لأن ملكه غير شرعي، لم يوله الله- تبارك وتعالى- كما أنه لم يقل: إلى هرقل العظيم بل نسب عظمته إلى الروم فقط، حتى لا يثبت له العظمة المطلقة، بل قيد اللفظ، وهذا الكلام يفهمه أمثال هرقل جيدا، يصدق ذلك قوله تعالى على لسان الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ   (1) فتح الباري (1/ 38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 هذا [الأنبياء: من الآية: 63] ، فأضاف كبره إلى بقية الآلهة، ولم يقل: بل فعله الكبير، ومثل هذه التوافقات بين الأنبياء، والتي ذكرت طرفا منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب، تدلنا على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد نهلوا من منبع واحد، وهو المنبع الرباني الذي رباهم كلهم جميعا، على كمال التوحيد، وتمام العبودية، قال الإمام النووي رحمه الله: (لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: ملك الروم، لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا من ولاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ولاه من أذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل: إلى هرقل فقط، بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم، أي الذين يعظمونه ويقدمونه، وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام) «1» . الفائدة الثانية: قوله: «سلام على من اتبع الهدى» ، فيه دليل على أن الكافر لا يبدأ بالسلام حيث لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: (سلام عليك) ، وما دام هرقل لم يتبع الهدى، فإنه ليس له حظ من هذا السلام، فإن قيل: ولماذا ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في بداية الخطاب؟ قلت: قد يكون ذلك من باب الترغيب له في دخول الإسلام واتباع الهدى، فكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول له، حرمت السلام في هذا الخطاب لعدم اتباعك الهدى، فإن اتبعت شرفت بإلقاء السلام، ويكون السلام هنا بمعنى الخبر، الذي يقصد به الترغيب. والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: (ليس المراد من هذا: التحية، وإنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم) «2» . الفائدة الثّالثة: فيه استحباب أن يقال في صدر الكتاب بعد تصديره بالبسملة، (أما بعد) ، وهي تضفي على الكلام جمالا، وأما ما قيل أن (أما بعد) هي فصل الخطاب الذي آتاه الله داود، والمشار إليه في قوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] ، فهذا بعيد جدّا، وكذا استبعده الشيخ/ العثيمين رحمه الله، ومعنى (أما بعد) أي: أما الابتداء فهو باسم الله، وأما المكتوب فهو ما سيأتي. وعلى كل حال فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يبدأ بها الخطب والمواعظ والرسائل. الفائدة الرّابعة: قوله: «بدعاية الإسلام» ، أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهي كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص، والتي لا يقبل من إنسان عمل صالح إلا إذا أتى بها.   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) . (2) فتح البارى (1/ 38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الفائدة الخامسة: قوله: «أسلم تسلم» ، منتهى البلاغة، لما فيها من الجناس الاشتقاقي، فالكلمتان من ثلاثة حروف فقط، السين واللام والميم، ومع ذلك تشتمل الكلمتان على معان كثيرة بحروف قليلة مع بديع الجناس، أما المعاني الكثيرة، فهي تشتمل على الأمر بالدخول في الإسلام والانقياد له، وذلك في قوله: «أسلم» ، وهذا الأمر من الرسول في غاية القوة؛ لأن فيه عدم مداهنة الكفار والتملق إليهم، ولو كانوا في موضع قوة، ويملكون ما لا نملك من العدد والعدة، فمن أسلم فقد سلم في الدنيا من الحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال، وفي الآخرة من الخزي والخلود في جهنم، ومن لم يسلم فلن يسلم من كل ذلك، ففي قوله: «تسلم» ترغيب إن أسلم، وترهيب إن لم يسلم، لأن الذي يفوته مغانم السلامة، سيناله مغارمها. لم يحتج النبي صلّى الله عليه وسلّم لبيان كل ذلك إلا بكلمتين خفيفتين على اللسان والأذن، وذلك لما أعطاه الله من جوامع الكلم، وهذه القوة في الدعوة. وعرض ما عندنا من حق، ليست بغريبة على الرسل، انظر إلى ما كتبه سليمان عليه السّلام إلى بلقيس في كتابه الكريم: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 31] ، فسليمان لم يرجوهم ولم يستسمحهم، بل أمرهم أمرا بالدخول في الإسلام، وهم الذين لم يؤذوه ولم يناصبوه العداء، بل لم يكن يعرف عنهم أي شيء قبل بلاغ الهدهد له بالنبأ المبين، ولم يكن في هذا النبأ ما يعيبهم إلا قول الهدهد: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: 2] ، هذا كل الذي أغضب سليمان عليه السّلام، فجيّش لذلك الجيوش، مع أن الملكة قد حاولت مصالحته، وأن تبدي له أنها تريد السلام لا الحرب وأنها لا تعاديه، فأرسلت له بهدايا عظيمة فلم يقبل تلك الهدايا، لماذا؟ والمثل الشائع يقول: الرسول قبل الهدية، ولكنه لم يقبلها وردها عليهم بل وتوعدهم بالخروج من ديارهم أذلة، لأنها رشوة، في مقابل أن يسكت على ما هم فيهم من الشرك بالله، وقد أكد الله- عز وجل- أن قتال الكفار واجب على المسلمين، إلى أن يكون الدين كله في الأرض لله، لا يعبد معه شيء آخر، قال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39] . قال الإمام النووي رحمه الله: (وفيه استحباب المبالغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة، فإن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلم تسلم» في نهاية الاختصار، وغاية من الإيجاز والمبالغة، وجمع المعاني، مع ما فيه من بديع التجنيس وشمولاه لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل، وأخذ الديار والأموال، ومن عذاب الآخرة) «1» .   (1) شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 108) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وقد وضح الحافظ ابن حجر رحمه الله عظيم ما في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من جوامع الكلم بقوله: (اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله: «أسلم» والترغيب بقوله: «تسلم ويؤتك» والزجر بقوله: «فإن توليت» والترهيب في قوله: «فإن عليك» والدلالة بقوله: «يا أهل الكتاب» وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم صلّى الله عليه وسلّم) «1» . الفائدة السّادسة: في الحديث عظيم أمر الوالي، ومن يقوم مقامه، وكذلك من يرعى رعية صغيرة أو كبيرة، لأن الناس له تبع وهو لهم قدوة، ينقادون لما انقاد له، ويؤمنون بما آمن به، وقد قالوا قديما وحديثا: الناس على دين ملوكهم، عرفنا ذلك من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لهرقل: «يؤتك الله أجرك مرتين» ، وذلك أن بإسلامه سيدخل السواد الأعظم من رعيته في الإسلام، وهذا أيضا ترغيب من النبي صلّى الله عليه وسلّم لهرقل، لما سيناله من مضاعفة الأجر إذا أسلم، أجره وأجر من أسلم بإسلامه، يصدق ذلك ما رواه مسلم، عن أبي مسعود الأنصاريّ قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّي أبدع بي فاحملني فقال: «ما عندي» ، فقال رجل: يا رسول الله أنا أدلّه على من يحمله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» «2» . وكما رغبه بالأجرين رهّبه من الإثمين، أي تضعيف العذاب إذا لم يدخل في الإسلام، وذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين» أي إثم رعاياك الذين لن يسلموا بعدم إسلامك، يضاعف الله- عز وجل- عليه الإثم دون أن يخفف ذلك من آثامهم شيئا. وقد يسأل سائل، كيف يستقيم أن يتحمل العبد وزر غيره؟ وقد قال الله- عز وجل- في محكم التنزيل: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ، أي: لا تتحمل نفس مكلفة وزر نفس أخرى، والرد أنه لا تعارض، لأن النفس التي كانت سببا في إضلال نفس أخرى عليها وزران، وزر ضلالها ووزر إضلال غيرها، دون تحمل وزر النفس التي أضلتها، وذلك منتهى العدل، يصدق ذلك قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [النحل: 25] . الفائدة السّابعة: في سند الحديث، بيان ما كان عليه الصحابة والسلف رضي الله عنهم، من الحرص على علو الإسناد، فها هو ذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يخبرنا أن هذا   (1) فتح الباري (1/ 38) . (2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم ... ، برقم (2276) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 الحديث أخذه من فم أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه بلا وساطة، فقال: (حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ) . الفائدة الثّامنة: قد يسأل سائل، كيف تقبل الأمة هذا الحديث، من أبي سفيان بن حرب، وكان وقتها كافرا، لم يسلم بعد؟ أقول: إن هناك فرقا بين وقت تحمل الحديث، ووقت أداء الحديث- أي روايته- فالأخير هو الذي يهم أهل الحديث، فيجب أن يكون الراوي وقت الأداء، مسلما صادقا عدلا، فأبو سفيان وقت تحمل هذا الحديث كان كافرا، ولكن عند الأداء كان مسلما، مثاله الحديث الذي رواه البخاري عن محمود بن الربيع، والذي ذكر فيه أنه عقل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجّة مجّها في وجهه، وهو ابن خمس سنين «1» ، فوقت تحمل الصحابي هذا الحديث كان صغيرا لا تقبل منه الرواية، ولكن قبلت منه الرواية لما كبر. الفائدة التّاسعة: في الحديث ذكاء هرقل وحكمته، ويتبين ذلك في النقاط التالية: 1- أنه لما جاءه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعوته إلى الإسلام، لم يصدقه ولم يكذبه، حتى يتأكد من أمره، فتوسط في الأمر فقال: (هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي) ، كما أن من حكمته أيضا، أن سأل عن قوم يعرفون مدخله ومخرجه ليسألهم عنه. وهذا من حكمة الرجل، التريث وعدم الحكم دون تروّ أو تفكر. وتذكّرنا هذه الواقعة بحكمة بلقيس ملكة سبأ، والتي تنضح كل قصتها بالحكمة، فنعم الملكة كانت، لما جاءها كتاب سليمان عليه السّلام حكمت عليه بأنه كتاب كريم، ولم تتخذ قرارا سريعا بل شاورت الملأ حتى لا يعتب عليها أحد إذا أخطأت في قرارها، ثم أرسلت إلى سليمان هدية، لتعلم هل يريد دنيا فيقبل هديتها، أم يريد الآخرة فيرد عليها هديتها، ثم لما رأت عرشها عند سليمان عليه السّلام، تروّت في حكمها لما سئلت عنه، فلم تستطع أن تنفي أنه عرشها، لأنه مشابه جدّا له، ولم تحكم أنه هو حيث تركته خلفها باليمن، ولا يعقل أن يأتي قبلها فكانت من حكمتها أنها قالت: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل: 42] ، ولما دعاها سليمان عليه السّلام أن تدخل القصر- وأرض القصر ظهرت لها كأنها بحر عميق فإذا خافت ولم تدخل عيب عليها خوفها وهي ملكة، وإن هي دخلت ابتل لباسها- فكل ما فعلته دون تردد أن كشفت عن ساقيها.   (1) فتح الباري (1/ 37) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وأردت بالإشارة هنا إلى حكمة بلقيس، لنتعلم منها، حسن التصرف وعدم استباق الأمور، وعدم التكذيب أو التصديق، قبل التبين والتحقيق. 2- أنه سأل عن أقرب الوفد نسبا للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث إنه أدرى الناس به، وأعلمهم بحاله، وحريّ به ألايكذب عليه وهو من أهل قرابته. قال الإمام بن حجر رحمه الله: (وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب) «1» . 3- أنه أمر أن يكون أبو سفيان بين هرقل وبين بقية الركب، فيكون الركب خلف أبي سفيان، فلا يستحيوا أن يكذبوه، ويكونوا أمام هرقل، فيعرف كذب أبي سفيان في وجوههم، وإن لم يصرحوا بذلك، فكان هذا من دهائه وذكائه قال الإمام النووي رحمه الله «إنما فعل ذلك ليكون عليهم أهون في تكذيبه إن كذب، لأن مقابلته بالكذب في وجهه صعبة بخلاف ما إذا لم يستقبل» «2» . الفائدة العاشرة: هل كان هرقل يريد حقّا التأكد من صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أقول: نعم كان يريد ذلك، بل إنه استفرغ جهده ليصل للحقيقة، وذلك أنه سأل عن رجل يعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم سأل عن أقرب الناس نسبا إليه، ولم يكتف بذلك، بل وضع أصحاب أبي سفيان على الهيئة التي ذكرت آنفا ليتأكد من صدقه، والأعظم من ذلك والأهم- والذي منه نعرف أنه كان يريد الحق- هو استعراض الأسئلة التي ألقاها على أبي سفيان، فلم يسأله عن فروع الشريعة، التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتي قد يختلف فيها، وتكون مجالا للأخذ والعطاء، فتلك الفروع تختلف من شريعة لآخرى، فلا يستطيع أن يناظرها بما عنده من علوم السابقين، بل سأله عن الأصول الكلية للشريعة ليناظرها، مثل صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وحسبه ونسبه، وبماذا يأمرهم وعماذا ينهاهم؟، وهذه أسئلة من يريد معرفة الحق فعلا، فنتعلم من ذلك أننا إذا أردنا معرفة الحق فيجب أن نأخذه من أقرب مصادره وأوثقها وأصدقها، وهذا ما فعله هرقل عندما سأل عن أقربهم منه نسبا. كما نتعلم أنه لا يجوز لمسلم، إذا أراد أن يسأل أحدا عن أمور دينه، أن يذهب إلى مبتدع، أو جاهل أو يذهب إلى من يستقي معلوماته من كتب تطعن في الكتاب والسنة،   (1) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2018) . (2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، برقم (141) ومسلم، كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم (1434) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 كذلك إذا سأل فيجب عليه أن يكون حكيما في أسئلته، يتخير منها المفيد، والذي يوصل إلى الحق من أقرب طريق، ويتجنب الأسئلة التي يكثر فيها الجدل والنقاش. وهنا أحب أن أهمس في أذن بعض الشيوخ الذين يذهبون إلى تلك المنتديات لعرض الإسلام، فيتجادلون مع الخصوم في الفروع، وليس في الأصول، مثل: لماذا تعدد الزوجات؟ والحال أن الرجال لا تعدل، لماذا الطلاق حق للرجل وهو يسيء استخدامه؟ لماذا للذكر مثل حظ الأنثيين؟ والمرأة الآن تعمل وتشارك الرجل في كل الأعباء المعيشية، بل تقوم بها وحدها في بعض الأحيان، لماذا الذهب حرام على الرجال؟ وبعض المعادن الآخرى الأغلى ثمنا تحل له، وغير ذلك من الأسئلة، وأقول: إنه لا ينبغي لأحد من الشيوخ، وهي وجهة نظر، أن يشترك في تلك الحوارات، وذلك لأن الله- عز وجل- لما دعا أهل الكتاب للإسلام والمحاورة، قال لهم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] ، ولما أراد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إقامة الحجة على الملك الكافر ماذا قال له؟: قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] ، انظروا ماذا قال ربنا: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فالنقاش والجدال الصحيح على المنهج المستقيم، لا يستغرق وقتا طويلا، فهذه جملة واحدة من إبراهيم، أفحمت الملك وألجمت لسانه وألزمته الحجة، وانظروا إلى كل آيات القرآن في إقامة الحجج على الكافرين والمعاندين، وكذلك السنة الصحيحة، هل تجادلت معهم في الفروع أو في حكمة كل حكم من أحكام الدين، هذا لم يحدث أبدا، بل إن الكفار لما أثاروا شبهة في العصر النبوي، وهي لماذا يأكل المسلمون الذبيحة التي ذبحوها بأيديهم ولا يأكلون الميتة التي ماتت بقضاء الله؟! ذكر الله- عز وجل- تلك الشبهة في القرآن، وحذّر المؤمنين من الاغترار بها، وتجاوز هذه الشبهة، ولم يتكلف القرآن الردّ عليها، رغم أنه أفاض واستفاض في الرد على شبه المبطلين، وأهل الزيغ والضلال، ولكن ليس في تفصيلات الشريعة، وإنما في أمور العقيدة والتوحيد، قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) [الأنعام: 121] ، وإذا كانت المجادلة والمحاجة في فروع الشريعة وإقامة الحجة على المعاندين فيها خير لعلّمناها الله، ولأرشدنا إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بل لسبقنا إليها مع كفار قريش، فلما لم يحدث هذا أو ذاك علمنا أن هذا ليس بخير، ولا يجب أن نخوض فيه أبدا، وما سمعت طرفا من تلك المناظرات إلا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الصوت العالي فيها، لأهل الزيغ والضلال، لأن عندهم شبهات كثيرة، وانظر مثلا إلى الشيخ/ أحمد ديدات رحمه الله، عندما حاور وجادل في أصول الشريعة، كيف كانت له الغلبة والنصر في كل الأحيان، وذلك لأن له في تلك المناظرات دليلا وبرهانا من الكتاب والسنة، ومن الحديث الذي بين أيدينا نعلم إن كان المجادل يريد الحق أم يريد أن يثير الشبهات؟! الفائدة الحادية عشرة: لماذا إذن لم يعلن هرقل إسلامه بعد كل تلك الأسئلة وما ذكرته من إرادته الحق؟ أقول: إن هرقل وبلا أدنى شك علم بهذه الأسئلة صدق نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنه النبي المنتظر ولكن منعه حبّ الملك عن الدخول في الإسلام. قال الإمام النووي رحمه الله: (ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما شح في الملك، ورغب في الرياسة، فاثرها على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري: (ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة) «1» . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (لو تفطن هرقل لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الكتاب الذي أرسل إليه: (أسلم تسلم) وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه) «2» . الفائدة الثانية عشرة: في الحديث ذم الكذب، وأنه عادة سيئة وطريقة مشينة، يستقبحها الكفار، فهذا أبو سفيان رضي الله عنه، وهو كافر عدو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويسأل عنه من رجل يقال عنه: عظيم الروم، ويود ألايرتفع للإسلام راية، وأصحابه معه كلهم على دينه، ويبغضون الإسلام ويكرهون نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ومع كل هذا لا يستطيع أبو سفيان أن يكذب ولو مرة واحدة على هرقل، هو لا يخاف أن يكذبه قومه في مجلس هرقل، بل كان يخاف فقط أن يأثروا عليه الكذب عندما يعودون إلى مكة، قال الإمام ابن حجر: (وفي قوله: يأثروا دون قوله: يكذبوا، دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا) . انتهى «3» . وأقول: لم يستطع أبو سفيان أن يدخل كلمة واحدة كذبا في حديثه، إلا في إجابته عن سؤال هرقل، هل يغدر؟ فكانت إجابته: (نحن معه في مدة- أي هدنة- لا ندري ما هو صانع فيها) . أي: لا نعلم أيحفظ ويصون العهد أم لا؟ وهذا في الحقيقة كذب؛ لأنه على   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) . (2) فتح الباري (1/ 38) . (3) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 يقين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لن يغدر، وليس من خلقه الغدر، ولكن لا أحد من أصحابه يمكن أن يأخذها عليه كذبة، لأن ما في الغيب لا يعلمه إلا الله، وإذا حكم الإنسان عما في الغيب بقوله: لا أدري، فليس بكذب صريح، قال الإمام ابن حجر: (ولما كان الأمر مغيبا- لأنه مستقبل- أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه) . وما كان هذا التفصيل مني في هذا الأمر إلا لأبين شناعة الكذب، فكيف يتنزه الكفار قبل الإسلام عن الكذب، ويقع فيه المسلمون دون مواربة ولا مداراة من الصغير والكبير، من الرجل والمرأة، من طلبة العلم أحيانا والعوام في أغلب الأحيان، يكذب الرجل لا لشيء إلا أنه اعتاد الكذب، يتكلم الرجل ولا يبالي أكاذب هو أم صادق، يكذب الرجل أمام زوجته وأولاده، دون أدنى درجات الحياء منهم، يتكلم الرجل في المجلس ويكذب ويعلم أن كل من في المجلس يعلمون كذبه ولا يبالي، الأدهى من ذلك أنهم لا يعيرونه بكذبه، وقد يقبلون شهادته بعد ذلك، والأعظم والأدهى، أن الرجل يكذب، ولو استحلف على صدق كلامه ما استحيا من الله- عز وجل- بل أكد كلامه بأغلظ الأيمان، لا يبالي بغضب الله وسخطه. ولا يتسع المجال أن أستفيض في شناعة هذه الخصلة الحقيرة، إلا أني سأذكر كلمات قليلة جدّا للترغيب في الصدق، وتشنيع أمر الكذب، فأقول: كيف يكذب المسلم ولا يصدق في كلامه؟ وقد رأى في الحديث أن الكافر لا يكذب، أيصدق الكافر ويكذب المسلم؟ أقول: كيف يكذب المسلم ولا يتحرى الصدق وقد ورد في الصحيح عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . كيف يكذب المسلم وقد رأى ما أحدثه الكذب بمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واقعة الإفك؟ ويكفي أن الكذب قد آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف لا يصدق المسلم وقد رأى فضل الصدق على الذين خلّفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فنجّاهم الصدق، بل رفعهم وهم الذين ارتكبوا معصية بتخلفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: إن الصدق رفعهم حتى أنزل فيهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، ما كان ذلك إلا لصدقهم، بل إن هرقل في هذا الحديث قد استدل على صدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 بصدقه قبل النبوة. فو الله لا أرى في هذه الدنيا فضيلة أعظم من الصدق، ورذيلة أقبح من الكذب، ووددت لو أني تكلمات عما فعله الكذب في مجتمعات المسلمين، ولكن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك. الفائدة الثالثة عشرة: قد يدفع الإنسان ما يجده في قلبه من كره أو بغض لأحد، إلى الكذب والافتراء على خصمه، ولو كان يستقبح الكذب، وذلك لقول أبي سفيان رضي الله عنه: (وأيم الله لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت) ، ولذلك يجب أن نحرص في الخصومات من الكذب وقول الزور، حتى ولو كان الخصم عدوّا، بل أقول: ولو كان الخصم كافرا، ألم تسمع للقرآن كيف صدق مع خصومه، ولم يكذب عليهم، وذكر خصلة حسنة فيهم، قال تعالى عن أهل الكتاب: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، والقنطار هو المال الكثير، فما بالنا نحن إذا خاصمنا فجرنا، ولم نذكر أي حسنة في خصمنا. الفائدة الرابعة عشرة: كان هرقل على علم بأوصاف خصال الأنبياء السابقين، ولذلك سأل أبا سفيان عن تلك الخصال، ليتأكد من وجودها في النبي، فعلمنا بذلك أن الصفات المشتركة بين الأنبياء هي: أن يكون نسبهم أشرف الأنساب وأفضلها، ويصدّق ذلك الحديث الذي رواه مسلم عن أبي عمّار شدّاد أنّه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» ، وتجد كذلك أن أغلب أتباع الأنبياء من الضعفاء دون الأغنياء. يصدق ذلك قوله تعالى على لسان المكاذبين بنوح عليه الصلاة والسلام: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] ، وما حكاه الله عن جميع أتباع الأنبياء: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سبأ: 34] ، وأن أتباع الرسل دائما في زيادة، يصدق ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، وأن الحرب بين الحق والباطل، لا تكون دائما بنصرة الحق بل جعلها الله سجالا، وهذا ما حدث في غزوة بدر ثم أحد، وإذا سأل سائل لماذا تكون الحرب سجالا بين المؤمنين والكفار، والله يؤيد المؤمنين ويحبهم ويواليهم؟ قلت: حتى يكون للجهاد معنى، ويكون للتضحية وتقديم   (1) فتح الباري (1/ 40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 النفس والنفيس لله- سبحانه وتعالى- سبيلا، ولئلا يؤمن- كذبا وخداعا- أصحاب القلوب المريضة ويدخلون الإسلام؛ لأن الإسلام ينتصر دائما، ثم إن غلبة الكفار على المؤمنين يكون ذلك استدراكا لهم ومكرا من الله- عز وجل-، والحاصل أن حكمة الله قد اقتضت لتلك الأسباب، ولغيرها أن تكون المدافعة والجهاد بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين، كما يدلنا الحديث على أن الأنبياء كلهم يأمرون بكل خير وينهون عن كل شر، وأول ما يدعون إليه هو توحيد الرب تبارك وتعالى قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . الفائدة الخامسة عشرة: في الحديث مدح ما بعده مدح لأخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم ولشريعته حيث أثبت أبو سفيان- وهو ما يزال كافرا- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكذب ولا يغدر، وأنه ذو حسب ونسب، وأنه يأمر بالصلاة التي هي حق الله على العبد، ويأمر بالزكاة التي هي حق العباد، ويأمر بالصلة التي هي حق أصحاب الأرحام، وبعد أن فصل في الحقوق، جمع فأوعى، فذكر أنه يأمر بالعفاف، وهو اسم جامع، لكل محمود يجب أن يتحلى به العبد، وكل مذموم يجب أن يبتعد عنه العبد، لأنه كما قيل في تعريفه: هو الكف عن المحارم وخوارم المروءة، وقيل: هو الكف عما لم يحل، ولو رأى أبو سفيان من النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يسيئه أو يشينه سواء في صغره أو كبره، قبل البعثة أو بعدها، لذكرها أبو سفيان رضي الله عنه، لأنه كان حريصا كل الحرص أن يشوه سمعة النبي ولو كذبا، فعلمنا من ذلك- أي في عدم ذكر أبي سفيان لأي عيب- أن الله قد عصم النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل حياته، قبل البعثة وبعدها. الفائدة السادسة عشرة: تزكية أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لأن أبا سفيان رضي الله عنه أنكر أن يكون أحد منهم ارتد عن دينه بعد أن دخل فيه سخطة له، أي لكراهة الإسلام وعدم الرضا به، فهذا الارتداد هو الذي يقدح في الدين، أما أن يرتد أحد بغرض دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهذا بالقطع لا يقدح في الدين، بل يقدح في المرتد. الفائدة السابعة عشرة: في الحديث تنبيه إلى ما يجب على أتباع الرسل فعله مع الرسل أصحاب الفضل والخير، علمنا ذلك من قول هرقل: (ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) . فقد تمنى أن يكون عنده ليغسل قدميه أي يكون له خادما، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه- إذا وصل إليه سالما- لا ولاية ولا منصبا، وإنما يطلب ما تحصل له به البركة) «1» ، وأقول لهرقل وأمثاله: قد   (1) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، برقم (1893) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فعل أصحاب النبي أكثر من ذلك بكثير، وقد أوردته مفصلا في أماكن متفرقة من هذا الكتاب، فلله الحمد والمنة. مما سبق من كلام هرقل نقطع بأنه كان يعترف بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وانظر إلى قوله أيضا: (وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه فيكم) ؛ لأنه كان يظن أنه سيخرج من بني إسرائيل. الفائدة الثامنة عشرة: قد يؤخذ مما سبق، أن أغلب الناس لا يؤبه لرأيهم ولا يعتد بقولهم، وكما قلت: هم على دين ملوكهم، يؤمنون إذا آمن الملوك، ويكفرون إذا كفر الملوك، هذا في الغالب، وبذلك تنهار فكرة الديمقراطية من أساسها، والتي يقصد بها حكم الشعب للشعب عن طريق الشعب، وقد عوضنا الإسلام بالشورى عن الديمقراطية. الفائدة التاسعة عشرة: في الحديث أن أهل الباطل، ولو كانوا أقوياء فإنهم يخافون من أهل الحق ولو كانوا ضعفاء، انظر إلى فارق القوة بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهرقل وقت إرسال هذه الرسالة، ومع ذلك يقول أبو سفيان في الحديث: (إنه ليخافه ملك بني الأصفر) . الفائدة العشرون: يؤخذ من الحديث أن الفلاح والرشد، إنما يأتيان بالتمسك بتعاليم الإسلام، وكذا من أراد أن يثبت ملكه، لقول هرقل لعظماء الروم لما دعاهم يعرض عليهم الإسلام: (يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت لكم ملككم) ، وقد أشار الله- عز وجل- إلى ذلك في قوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] ، أي: شرفكم، وهذا هو المشاهد في القرون الأولى المفضلة كيف كان فيها للمسلمين الرشد والفلاح والعزة والشرف؟!. الفائدة الحادية والعشرون: يؤخذ من الحديث، أن في الملك والكراسي والمناصب فتنة عظيمة، فيؤدي ذلك إلى هلاك من يقدمها على الحق، وقد لا يتصور أحد ذلك، إلا إذا نظر إلى هرقل، كيف كان على يقين لا يساوره فيه شك أن رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم هو النبي المنتظر، وذلك من قوله: (كنت أعلم أنه خارج) . وقوله: (ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه) ، وكذلك كل تعليقاته في أجوبة أبي سفيان رضي الله عنه، مع ما قاله لعظماء الروم لما اجتمع بهم، فأراد فعلا أن يسلم، ولكنه أراد أن يجمع بين الإسلام والملك، فلما عجز عن ذلك، فضل الملك الفاني على الإسلام الباقي، وباع الآخرة بالدنيا، وهذا درس لنا جميعا أن المنصب والإسلام قد لا يجتمعان، فانظر أيهما تختار، هذا هرقل اختار المنصب فكم بقي معه، وكم تمتع به، بل الصحيح أن نقول: كم عذّب به من يوم أن مات، حتى تقوم الساعة، وبعد الساعة يكون الأمر أدهى وأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 6- تزكية صدقه صلّى الله عليه وسلّم في التبليغ عن ربه: قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) [الحاقة: 44- 46 ] . هذه الآيات الكريمات دليل صريح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكذب على ربه في أي شيء من الوحي، صغيرا كان أم كبيرا، كما سنرى في الفوائد- إن شاء الله-. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: زكت الآيات الكريمات النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم تزكية إذ أثبتت له منتهى الصدق في التبليغ عن ربه- عز وجل- بلا زيادة أو نقصان أو كتمان حيث ذكرت الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الفرض- لو تقوّل على الله- وحاشاه من ذلك- في أقل شيء لعذبه الله وأهلكه فداه أبي وأمي ونفسي- وما دام لم يحدث هذا الوعيد طيلة حياة الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم، بل نصره الله وآزره وأيده بالروح القدس والمعجزات الباهرات البينات إلى يوم أن قبضه إليه جميل الوجه محمود السيرة، دل ذلك على أن شيئا من الزيادة أو النقص في التبليغ لم يحدث وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد صدق ربه وصدق الناس في كل ما أخبر به، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فلو قدر أن الرسول- حاشا وكلا- تقوّل على الله لعاجله بالعقوبة وأخذه أخذ عزيز مقتدر لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي ألايمهل الكاذب عليه) «1» ، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله- عز وجل- مقرّر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات) «2» . الفائدة الثانية: عظيم أمر الوحي- قرآن وسنة- إذ رتب الله- سبحانه وتعالى- مثل هذه العقوبة الشنيعة على التقول في أمر الوحي، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (تقوّل: أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه، لأخذناه بالقوة والقدرة، وعبّر عن القوة باليمين؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ يعني نياط القلب، أي لأهلكناه، وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه) «3» . الفائدة الثّالثة: عدم محاباة الله في الحق أحدا أبدا، وكذا نعلم أن الله لا يستحيي من الحق، ودليله من الآية أن الله- سبحانه وتعالى- إذا قدر أن يحابي أحدا في الحق- حاشا لله   (1) تفسير السعدي (885) . (2) تفسير القرآن العظيم (4/ 418) . (3) الجامع لأحكام القران (18/ 275، 276) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 - لحابى أحب الخلق إليه محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لم يحدث شيء من هذا بل وجه إليه مثل هذا الخطاب القرآني، فمن باب أولى نعلم أنه- سبحانه وتعالى- لن يحابي أحدا ممن هو دونه صلّى الله عليه وسلّم، وكل الخلق دونه صلّى الله عليه وسلّم. ويتفرع على ذلك التهديد الشديد والوعيد الأكيد لكل من يتجرأ بالكذب على الله- سبحانه وتعالى- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فعلى كل مسلم أن يتقي الله في كل ما يفتي به في دين الله عز وجل- وأن يجعل هذه الآية نصب عينيه. 7- تزكية من علمه صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] . الآية الكريمة تدل على أن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي علم النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن وغيره من الوحي حيث نفت الآية أن الله علم النبي صلّى الله عليه وسلّم الشعر، فنفي تعليم الشعر، يثبت أنه- سبحانه وتعالى- هو الذي تكفل بتعليمه، لأنه لو كان أحد غير الله هو الذي يعلم نبيه صلّى الله عليه وسلّم لأثبت له عدم تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم الشعر، أما قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) ، فهو جبريل عليه السّلام، فلا تنافي بين هذه الآية وما ذكرته آنفا حيث إن جبريل علم النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي الذي أنزله الله- تبارك وتعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فنسبة التعليم إلى الله عز وجل- من حيث إنه هو الذي أنزل على عبده الوحي، ونسبته إلى جبريل من حيث إنه هو الذي باشر إنزال الوحي، بإذن الله وعلمه. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: من طعن في شيء من السنة الصحيحة، فقد طعن في الله- عز وجل-، لأنه هو الذي علم النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي كله، قرآنا وسنة. الفائدة الثانية: لا يليق بشخص النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يناسب دعوته تعلّم الشعر، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (ما ينبغي للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول الشعر، وجعل الله- عز وجل- ذلك علما من أعلام نبيه عليه السّلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر) «1» . ويتفرع على ذلك أن كل ما تكلم به النبي صلّى الله عليه وسلّم من كلام موزون- وهو قليل- ليس   (1) الجامع لأحكام القرآن (15/ 55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 بشعر، ومثاله ما رواه البخاري في صحيحه: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب وقال الإمام القرطبي: من وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به شعرا فليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا) «1» . الفائدة الثّالثة: اعتناء القرآن الكريم بالرد على شبهات الكفار حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لما اتهموه صلّى الله عليه وسلّم أنه شاعر في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] ، رد الله عليهم شبهتهم بنفي تعلمه صلّى الله عليه وسلّم الشعر، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (حسم الله جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ، وأخبر أنه ما علّمه الشعر وما ينبغي له) «2» . وسيأتي الرد على كل شبهات الكافرين مبسوطا إن شاء الله تعالى. الفائدة الرّابعة: أثبتت الآية الكريمة صفة البيان لهذا القرآن، فهو بيّن في نفسه، فلا شبهة فيه ولا التباس، ولا تناقض فيه ولا اعوجاج، بيّن الدلالات واضح الآيات، كما أنه قد أبان كل شيء، الحق من الباطل، والهدي من الضلالة، والمستقيم من المعوج وذلك بتصريف الآيات، وضرب المثلات، وجمع المتماثلات، والتفريق بين المتناقضات، فسبحان الذي رفع ذكره، وأعلى شأنه، فجعله بيّنا في نفسه غاية البيان، مبينا لغيره غاية التبيان، ويتفرع على ذلك الفائدة التالية. الفائدة الخامسة: أن في القرآن غنى عما سواه، من علوم الفلسفة والمنطق وغيرها، فلا ينبغي لنا أن نطلب الهداية من تلك العلوم- التي غالبا ما تعارض القرآن- وقد أنزل الله علينا كتابا بينا مبينا، أنار لنا الطريق، وبين لنا السبيل، فأغنانا عن كل بديل، كما يتفرع عليه أن كل من تدبر القرآن ولم يهتد، فهو إما جاهل بلغة القرآن، وإما مستكبر عن الحق، لأن في القرآن غاية البيان.   (1) الجامع لأحكام القرآن (15/ 55) . (2) تفسير السعدي (699) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 8- تزكية ما أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم من كل وجه: قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) [محمد: 2] . هذه الآية قد زكت الوحي الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء كان قرآنا أو سنة- بكل أنواع التزكية الممكنة فيما نعلم، فقد نصت الآية على أنواع للتزكية وهي: أ- تزكية الوحي من حيث الجهة التي جاء منها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي جهة العلو، قال تعالى: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، ومعلوم أن جهة العلو جهة شريفة، والدليل على ذلك أن الله- عز وجل- ما ذكر ما أوحى به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا وأثبت له صفة الإنزال في سياق المدح لما أنزل، ومثاله قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] وغيره كثير. ب- تزكية الوحي من حيث من أنزله، وهو الله- تبارك وتعالى-، الذي يعلم ما ينفع الناس وما يضرهم، وما يعمر الأرض وما يفسدها، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. ج- تزكية الوحي من حيث ما اشتمل عليه من عقائد وشرائع وقصص، قال تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ والمقصود بالحق: الأمر الثابت المستقر الذي لا يتغير ولا يتبدل، فهو صدق في الإخبار وعدل في الأحكام، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 115] . د- تزكية الوحي من حيث الثواب المترتب على الإيمان به، قال تعالى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ. قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي كفّر الله عنهم سيئاتهم صغارها وكبارها، وإذا كفّرت سيئاتهم نجوا من عذاب الدنيا والآخرة، وأصلح بالهم: أي أصلح دينهم ودنياهم وقلوبهم وأعمالهم وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيته وأصلح جميع أحوالهم، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الحق الذي هو الصدق واليقين وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم) «1» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: تعظيم الوحي الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتأكيد على شأن الإيمان به   (1) تفسير السعدي (784) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 تفصيلا حيث خصّت الآية بالذكر الإيمان به، بعد النص على مطلق الإيمان، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم) «1» . الفائدة الثانية: في القرآن العظيم وفي هدي سيد الأنام صلّى الله عليه وسلّم الشفاء من كل أمراض العصر، كالقلق والتوتر والعصبية وغير ذلك كثير، لقوله تعالى: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ، ولقوله جل في علاه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . وعلى كل من يعاني من تلك الأمراض أن يعالج نفسه بالقرآن الكريم، علما وعملا وتلاوة، فسيجد فيه الشفاء من كل داء، وإذا لم يجد المسلم في القرآن ما يشفي صدره ويريح باله، فليعلم أن العيب فيه، إما لتقصيره في التلاوة والتدبر، أو لضعف اليقين بما وعد به الله- عز وجل-، أو لوجود شك في قلبه أو شبهة في عقله تمنع وصول الحق إليه، ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى أصلح بالهم: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي أمرهم وقال مجاهد: أي شأنهم وقال قتادة: حالهم، والكل متقارب) «2» . ويتفرع على ذلك: أن نحكم على كل من يعاني من تلك الأمراض أنه بعيد عن منهج الله سبحانه وتعالى- ويعلم قدر بعده عن هذا المنهج بقدر ما أصابه من تلك الأمراض، كما يتفرع عليه تفاوت الناس تفاوتا كبيرا في التمسك بما نزّل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لتباينهم في صلاح شأنهم وأحوالهم، ويتفرع عليه أيضا عدم أمانة الطبيب الذي يعالج هذه الأمراض دون نصح المريض بالتمسك بالكتاب والسنة، والخيانة الكبرى أن يعالج الطبيب المريض بما يناقض ما جاء في الكتاب والسنة، كالطبيب الذي يعالج بسماع الموسيقى والأغاني مثلا. الفائدة الثّالثة: عظم شأن العمل الصالح، وهو الذي يتوفر فيه شرطا الإخلاص والمتابعة حيث إن الآية قد قيدت إصلاح شئون الدنيا والآخرة بالإيمان والعمل الصالح. 9- تزكية همته صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة (على لسان مشركي مكة) : قال تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ [ص: 6] ، الشاهد في الآية: قوله تعالى: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ، أي: يريده النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقصده، وليس قول عابر سيتركه بعد أيام أو ليال معدودات، وما علم الكفار ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا   (1) تفسير القرآن العظيم (4/ 173) . (2) المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 بقرائن، وهي همته العالية في الدعوة وتحمله صلّى الله عليه وسلّم في سبيل ذلك كل صعب وشاق، وهذه الفائدة تعلمتها من فضيلة الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى-. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: عظم ما لاقاه النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته إلى الله- سبحانه وتعالى- ويتمثل ذلك في إصرار الكفار على التمسك بعقيدتهم الباطلة أشد التمسك حتى إنهم يتواصون فيما بينهم على عدم الوقوف لسماع الحق، والصبر على عبادة الأصنام، ومدافعة دعوة النبي لتوحيد الله- عز وجل-. قال الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: (والانطلاق: الذهاب بسرعة، أي: انطلق هؤلاء الكافرون من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بعضهم لبعض: امضوا على ما أنتم عليه ولا تدخلوا في دينه) «1» . قلت: وعدم تقييد انطلاق الكفار من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الأولى والأجمل، الأولى: حيث لم يرد دليل على التقييد بذلك، والأجمل: لأنه يضيف معنى أتم، وهو أن انطلاق الكفار كان حسيّا ومعنويّا، فهم ينطلقون من كل مكان وفي كل زمان، يتواصون فيما بينهم بعدم اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: في الآية إشارة وحث لأهل الحق والدعوة إلى ما يجب أن يكونوا عليه، من الصبر على الدعوة والصبر على تعنت أهل العناد والشقاء، والإيذاء في سبيل الله- سبحانه وتعالى- حيث لاقى النبي صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك وصبر عليه، وهو لنا قدوة، بالإضافة إلى أن الكفار كان يأمر بعضهم بعضا بالصبر على عبادة الأصنام ومخالفة أمر النبي، وأهل العلم والدعوة أولى بالصبر؛ للحق الذي هم عليه، ولجزيل المثوبة والثواب من الله- سبحانه وتعالى- بل عليهم أن يتواصوا بذلك فيما بينهم، يصدق ذلك قوله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [سورة العصر: 1- 3] وقد زكى الكفار النبي صلّى الله عليه وسلّم في موضع آخر حيث قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ [سبأ: 43] ، وانظر أخي القارئ إلى ما في هذه الآية من بدائع تتمثل في المسائل التالية: المسألة الأولى: تزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم على لسان الكفار حيث ذكروا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد أن   (1) الجامع لأحكام القرآن (15/ 151) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 يصدهم، ولا يكون الصد إلا ببذل غاية الجهد بكل قوة، لإثناء الخصم عما يعتقده. المسألة الثانية: في مقابل تزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم، سفهوا أنفسهم بذكر حجتهم علي اعتقادهم الفاسد حيث جعلوا كل حجتهم في عبادة الأوثان هو اتباع الآباء، فعرفوا الحق بالرجال. والصواب: أن يعرف الرجال بالحق الذي معهم، ولو كانوا يعتقدون أن الذي معهم هو الحق، لتواصوا بالصبر عليه، بدلا من التواصي بالصبر على ما كان يعبد الآباء، يصدق ذلك ما ورد في صحيح البخاري، أن أبا جهل كان يقول لأبي طالب حين حضرته الوفاة: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟) «1» ، وورد فيه، أن آخر ما قال أبو طالب: (هو على ملة عبد المطلب) . المسألة الثالثة: توجيه أشد التوبيخ إلى الكفار، بما يدل على خفة عقولهم، وسفاهة أحلامهم حيث ذكرت الآية، أن الكفار قد تليت عليهم الآيات البينات الواضحات، التي بمثلها يؤمن أي عاقل لبيب، تليت عليهم من غيرهم، بغير كلفة منهم أو طلب أجر عليها، جاءتهم ولم يأتوا إليها، فلم يتكلفوا حتى مشقة السعي إليها، فردوا تلك الآيات البينات، مقابل ما كان يعبد آباؤهم، وهذا منتهى السفه، وقلة العقل، وبدلا من أن يشكروا فضل من جاءهم بالحق ولم يطلب منهم الأجر، قللوا من شأنه، وذكروه بصيغة النكرة، كأنهم لا يعرفون شرفه وحسبه وصدقه، فقالوا: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ، وهذا غاية الجحود. المسألة الرابعة: يؤخذ من الآية ذم تقليد الآباء والشيوخ، بغير حجة من الله وبينة؛ لأن الواجب على المسلم أن يستمع إلى الآيات البينات، يعمل بما فيها، لأن الله تعبدنا بها، ولو كان في اتباع الآباء حجة عند الله- عز وجل- في رد الآيات البينات، ما وبخ الله الكفار على هذا السلوك. 10- تزكية دعوته صلّى الله عليه وسلّم ووصفه بالسراج المنير: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45- 46] . زكى الله- سبحانه وتعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأحسن أنواع التزكيات، ومدحه بأبلغ صفات المديح، فكانت الآيتان كلتاهما لرفع ذكره صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، فقد وصفه الله- عز وجل- في هاتين الآيتين بخمس صفات، الأولى: أنه الشاهد على أمته يوم القيامة بما عملوا من خير أو شر وأنه شاهد عليهم بالإبلاغ، الثانية: أنه المبشر برحمة الله تعالى ورضوانه لمن   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، برقم (1360) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ... ، برقم (24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 أطاعه واتقاه، الثالثة: أنه النذير بعذاب الله وانتقامه لمن عصاه وعاداه، الرابعة: أنه يدعو إلى الله- سبحانه وتعالى-، الخامسة: وهي أجملها وأتمها وهي الصفة التي جمعت ما سبق وهي وصفه صلّى الله عليه وسلّم بالسراج المنير، ومن كانت تلك بعض صفاته (وليست كلها) كان أحق الخلق عند رب الخلق بالاصطفاء والاجتباء، وأحق الناس عند الناس بالاقتداء والافتداء. بعض فوائد الآيتين الكريمتين: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية- على صاحبها الصلاة والسلام-: 1- إثبات أن كل دعوته صلّى الله عليه وسلّم حق، وأنه لم يدخل عليها باطل في كبير ولا صغير حيث إن الله- عز وجل- أعلمنا أنها كانت بإذنه، والله لا يأذن إلا في حق، وهذا غاية التشريف لدعوته صلّى الله عليه وسلّم. 2- إثبات أن دعوته صلّى الله عليه وسلّم كانت كلها خالصة لوجه الله- سبحانه وتعالى- وأنه صلّى الله عليه وسلّم ما أراد بها وجاهة ولا رئاسة ولا مالا؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو ابتغى من دعوته شيئا من عرض الدنيا، ولو كان أقل القليل، ما صدق عليه قوله- سبحانه وتعالى-: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ. 3- إثبات أن دعوته صلّى الله عليه وسلّم كلها من أولها إلى آخرها كانت برعاية الله ومباركته وحفظه، لأن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي أذن بها، فحقيق به- جل في علاه- أن يحفظها ويحفظ من يقوم بها، قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] . وفي هذا أبلغ الحث للدعاة إلى الله أن يخلصوا في دعوتهم، حتى تكون دعوتهم بإذن الله، يحفظها الله ويوفق القائم عليها. 4- إثبات كمال عدالته وصدقه صلّى الله عليه وسلّم إذ رضي الله به أن يكون شاهدا على أمته، كما أن الأمة سترضى بهذه الشهادة ولن تطعن فيها، وقد بينت ذلك تفصيلا في باب: (أمة وسط) . 5- إثبات سعة علمه صلّى الله عليه وسلّم بالله وأسمائه وصفاته وما ينبغي إثباته لله، وما ينبغي نفيه عنه- سبحانه وتعالى- وما يحبه الله وما يكره، وما حرم وما أحل، فلولا علمه صلّى الله عليه وسلّم بذلك ما استطاع أن يقوم بالدعوة إلى الله على الوجه الأكمل. 6- ظهور بالغ حكمته صلّى الله عليه وسلّم في الموازنة بين البشارة والنذارة حيث أثبتت له الآية الكريمة أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبشرا ونذيرا، ولولا قيامه بهاتين الوظيفتين على الوجه الأكمل ما كان لهذا المدح من معنى، فقد نهج النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه دائما أن يخوفهم من عذاب الله إن هم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 عصوه، ويؤملهم في رحمة الله- سبحانه وتعالى- إن هم أطاعوه وأنابوا إليه. 7- إثبات صفتين هما أحسن ما يكون من الصفات الزكية، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم سراج ومنير، فهو الذي أضاء الله به الدنيا بعد شدة الظلمة، وأشاع به العلم بعد غياهب الجهل، فأنار به طريق العابدين، وهدى به قلوب العارفين، وشرح به صدور العالمين، فصلى الله عليه وسلّم إلى يوم الدين. ولا يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم سراجا منيرا ويثني الله- تبارك وتعالى- عليه بذلك إلا إذا بلغ صلّى الله عليه وسلّم الكمال في نفسه وفيما جاء به، وهذا هو الواقع والمشاهد، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم طيبا طاهرا في نفسه (طيب اللسان، زكي النفس، طاهر القلب، ودودا رحيما تقيّا نقيّا) مع كمال كل ما جاء به ودعا إليه من كتاب كريم، وسنة شريفة، وعقائد سليمة، وشرائع حكيمة، وأحكام بلغت المنتهى في الإتقان والإحكام؛ لأن السراج لا يكون منيرا يذهب عن الناس ما هم فيه من ظلمة ويغنيهم عما سواه، إلا إذا كان زجاجه جيدا وفتيله وزيته كذلك. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في شرح السراج المنير: (أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند) «1» . الفائدة الثّانية: ذمت الآية الكريمة كل من لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من لم يصدق بكتابه أو يهتدي بسنته أو يسلم بشرعه، وهذا مما ذمته الآية أبلغ الذم، إذ كيف يعمى الإنسان عن رؤية السراج المنير أو كيف يجادل فيه، وهو ظاهر بين، وهو ظاهر في نفسه وظاهر في أثره، لا شك أنه لا يماري في السراج المنير إلا من ختم الله على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، أو من كان عنده حظ وافر من العناد والكبر، فرأى الحق باطلا والباطل حقّا، ورأى شدة الظلام نورا، ورأى النور الساطع ظلاما حالكا. الفائدة الثّالثة: ظهور حاجة العباد في كل مكان، والبلاد في كل زمان، إلى هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم والتمسك بسنته واقتفاء أثره، حتى يضمنوا لأنفسهم وجود السراج المنير، الذي ينير لهم الطريق ويوضح لهم السبيل. ويتفرع عليه: علمنا بما كان عليه الناس قبل بعثته الميمونة صلّى الله عليه وسلّم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «وذلك يقتضي أن الخلق كانوا في ظلمة عظيمة لا نور يهتدي به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها، حتى جاء الله بهذا النبي الكريم فأضاء الله به   (1) تفسير القرآن العظيم (3/ 498) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 تلك الظلمات وعلّم به من الجهالات وهدى به ضلّالا إلى الطريق المستقيم، فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، واستناروا به لمعرفة معبودهم، فعرفوه بأوصافه الحميدة وأفعاله السديدة وأحكامه الرشيدة» . انتهى «1» . الفائدة الرّابعة: إرشادات ربانية وتلميحات قرآنية لأهل العلم والفضل. 1- إعلامهم بأنهم يقومون بأشرف الوظائف وهي وظيفة الدعوة إلى الله- عز وجل-، وهي وظيفة نبينا ومن قبله من الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام. 2- وجوب أن تكون دعوتهم خالصة لوجه الله- سبحانه وتعالى- لا يبتغون منها عرضا من أعراض الدنيا. 3- عليهم أن يعالجوا أمراض الأمة بالتبشير والإنذار، فلا تخويف يصل بالناس إلى حد اليأس من رحمة الله، ولا رجاء يصل بهم إلى حد الإغراء بارتكاب المعاصي. 4- إعلامهم بحاجة جميع العباد إليهم- مسلمين وغير مسلمين-؛ لأنهم أعرف الناس بالسراج المنير الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور. 11- تزكية دعوته صلّى الله عليه وسلّم على لسان الكافرين: قال تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] . وجه تزكية دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم على لسان الكافرين أنهم أقروا أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما يدعوهم لعبادة إله واحد، وذلك واضح في قولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. كما سيأتي مفصلا في الفوائد: بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: أوجه تزكية الكافرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم: 1- دعوته صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد الخالص وترك عبادة الأصنام، فلا يختلف عاقلان أن دعوة الأصنام غاية الضلالة والغواية، وأن الدعوة إلى التوحيد كمال الرشاد والهداية، قال الإمام القرطبي في قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، أي: هل صيّر الآلهة إلها واحدا «2» .   (1) تفسير السعدي (668) . (2) الجامع لأحكام القرآن (15/ 149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 2- كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الله وحده، وما كان يدعو إلى نفسه، فلو كان يدعو إلى نفسه لذموه بذلك، فهو أبلغ في التشنيع، لعدم اختلاف الناس في قبح هذا الفعل، كما علمنا أيضا من مقولة كفار مكة، أنه صلّى الله عليه وسلّم ما طلب منهم أجرا على ذلك، لأنه كان يكفي أن يتهموه بذلك لينفضّ الناس من حوله، بدلا من أن يتهموه أنه يدعو إلى التوحيد. 3- كما أن من أوجه تزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم المستنبطة من مقولة الكافرين، أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعرف عنه أبدا أنه عبد الأصنام قبل البعثة؛ لأن الكفار لو علموا عنه ذلك لعيروه صلّى الله عليه وسلّم أنه ترك ما كان يعبد من قبل وأنه كفر بما كان يعبد، أو أنه هو الذي تحول عما اجتمعوا عليه من قبل، والذي يظهر جليّا أن الكفار لم يجدوا ما يذمون به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو ينتقصونه به أو ما ينقضون به رسالته صلّى الله عليه وسلّم فذهبوا يتخبطون فاتهموه بما كان له ثناء ومدحا من كل وجه، وهو أنه كان يدعو إلى التوحيد. الفائدة الثّانية: ظهور سفه الكفار وخفة عقولهم، وبيان ذلك: 1- اتهامهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما يزكيه أبلغ تزكية ويرفع من قدره عند الله وعند الناس، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو إلى التوحيد. 2- إنكارهم لدعوة التوحيد رغم كل الأدلة العقلية والشرعية التي تليت عليهم آناء الليل وآناء النهار، ومما يزيد من سفههم ويؤكد خفة عقولهم أن جعلوا هذه الدعوة أمرا عجيبا فحقيق بالناس أن يتعجبوا منه، وجهلوا أن تلك دعوة إبراهيم عليه السّلام، التي تدعي كل أمة الانتساب إليه، لشرفه وكمال دعوته إلى التوحيد. 12- تزكية كل أحواله صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) [يس: 3- 4] . لم يكتف القرآن العظيم بتزكية لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبصره وفؤاده ودعوته وأخلاقه الفاضلة، بل زكى القرآن الكريم كل أحواله صلّى الله عليه وسلّم بأن أثبت له صلّى الله عليه وسلّم أنه على صراط مستقيم، ولم تكن هذه هي التزكية الوحيدة لأحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم بل جاءت على نسقها تزكيات متعددة، منها على سبيل المثال قول الحق- تبارك وتعالى-: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79] ، فوصف القرآن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه على الحق المبين، دون تخصيص هذا الوصف بأمر معين: قد أفادنا أن هذا الوصف قد انسحب على كل ما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان صلّى الله عليه وسلّم على الحق- الذي لا يخالطه أدنى باطل- في عباداته وعاداته، فيما يقول وفيما يحكم، وفيما يعتقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وفيما يشرع، إذا سكت عن أمر كان هذا هو الحق، وإذا تكلم عن نفس الأمر في موضع آخر كان هذا هو الحق، إذا غضب من أمر كان غضبه موافقا تماما للحق، وكذلك إذا مزح وتبسط مع أصحابه، ولا تعجب أخي القارئ من ذلك، لأن الله- تبارك وتعالى-، وهو الحق المبين، هو الذي وصف عبده بهذا الوصف الأتم الأكمل. كما أن من التزكيات العظيمة التي ذكرها المولى- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم هو قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون: 73] . ووجه التزكية هي موافقة ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان يدعو إليه، وهي أعظم منقبة لأي داعية. قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير آية الباب: (ثم أخبر الله- عز وجل- بأعظم أوصاف الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدالة على رسالته، وهو أنه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: معتدل، موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وذلك الصراط المستقيم مشتمل على أعمال، وهي الأعمال الصالحة، المصلحة للقلب والبدن، والدنيا والآخرة، والأخلاق الفاضلة، المزكية للنفس المطهرة للقلب المنمية للأجر) «1» . 13- قيامه صلّى الله عليه وسلّم بالدعوة على أكمل وجه: قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] . قال الإمام القرطبي رحمه الله: (أي أعرض عنهم واصفح عنهم، فما أنت بملوم عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نقل عن مجاهد قوله: ليس يلومك ربك على تقصير كان منك) . انتهى «2» . وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (فليس عليك لوم في ذنبهم وإنما عليك البلاغ وقد أديت ما حملت وبلّغت ما أرسلت به) . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: إثبات قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعوة على أكمل وجه، من حيث بذله كل جهده ووقته في الدعوة إلى الله، ومن حيث الصدق والأمانة في تبليغ كل ما أمر به، ومن قبل ومن بعد كمال الإخلاص لله- سبحانه وتعالى- عند القيام بهذه الرسالة العظيمة. الفائدة الثّانية: إثبات رضى الله- عز وجل- بما قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم، من الدعوة   (1) تفسير السعدي (692) . (2) الجامع لأحكام القرآن (17/ 54) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 والجهاد، رضى سلم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المساءلة أو اللوم على عدم إيمان من تولى، قال تعالى: فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي عن توليهم وكفرهم، فقد أديت الأمانة وبلغت الرسالة، فرفعت عنك الملامة. الفائدة الثّالثة: في الآية تسرية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بإبلاغه أن عدم إيمان من آمن لا يرجع إلى تقصير منه صلّى الله عليه وسلّم حيث لو كان التقصير لكانت الملامة. الفائدة الرّابعة: يؤخذ من الآية أيضا أن أجره صلّى الله عليه وسلّم يكون له يوم القيامة كاملا موفورا غير منقوص، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لن يؤاخذ بعدم إيمان من لم يؤمن أو تقصير من قصر من المؤمنين. حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يفرط، فإذا انضم إلى ذلك أن أجور حسنات كل أمته في ميزانه- من دون نقص في أجورهم- لأنه صلّى الله عليه وسلّم هو الذي دلهم على كل خير، ونهاهم عن كل شر، علمنا ما أعده الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من جزيل الثواب وعظيم العطاء، فلله الحمد ربنا في الأولى والآخرة على ما أنعم على عبده وتفضل. الفائدة الخامسة: في الآية الكريمة توجيه للعلماء والدعاة إلى الله أن عليهم ألا يبالوا بمن أعرض عن دعوتهم، إذا أخلصوا النية وصدقوا الله- عز وجل- في دعوتهم، وأنّ تولّي من تولّى عنهم يجب ألايثبط عزائمهم أو يثنيهم عن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فقد تولى الناس من قبل عمن هو أفضل منهم في الدعوة وأخلص منهم في النية، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن في الآية أيضا ترهيبا للعلماء والدعاة إلى الله- عز وجل- إن هم قصروا ولم يخلصوا حيث إن اللوم والعتاب سيتوجه إليهم من الله- عز وجل-. 32- تسلية الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم المقصود بتسلية الله- عز وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم هو أن الله يذكر له كل ما من شأنه أن يخفف عنه حزنه وغمه وهمه، فيصبّره على تكذيب عدوه وعناده، وتوليه عن سماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم، بتعليمه الأسباب الباعثة لهم على ذلك كالجحود والاستكبار وموت القلوب، مع تطمينه أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يقصر أبدا في الدعوة إلى الله- عز وجل- وإبلاغ الحق إلى الخلق. وأن الله تبارك وتعالى- ناصره، ومعلي شأنه، ومعذب من عاداه وآذاه، وسنأتي إن شاء الله تعالى على بعض أنواع التسلية الموجودة في الكتاب الكريم، ولا يفوتني أن أقول: إن إثبات تسلية الله تبارك وتعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم هي أعظم مظاهر حب الله له، خاصة إذا علمنا أن هذه التسلية قد شملت جميع الأنواع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 1- وعده النصر على عدوه: قال تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] . وهي آية مكية، وحدث النصر والتمكين في المدينة. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بوعده النصر على عدوه، كانت منذ بدايات البعثة وقبل أول منازلة مع الكفار، فسورة القمر مكية إجماعا وغزوة بدر الكبرى وقعت في السنة الثانية من الهجرة المباركة. ويمكن أن يكون من حكمة نزول مثل تلك الآيات المكية مبكرا، هو تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم على الاستعداد للجهاد بإعلامه صلّى الله عليه وسلّم أن أمر المنازلة واقع لا محالة. الفائدة الثّانية: إثبات الآية الكريمة لبعض صفات الله- سبحانه وتعالى- وهي العلم والقدرة وتقدير الأمور قبل وقوعها، فقد أخبر الله- سبحانه وتعالى- بايات قرآنية تتلى على رؤس الأشهاد في مكة وغيرها- بوقوع المنازلة- قبل حدوثها بعدّة سنوات وبنتيجتها غير المتوقعة لكثرة معسكر الكفار وقلة معسكر المؤمنين- بل أخبر- عز وجل- بكيفية انصراف الكافرين من المعركة: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. فليس الأمر هزيمة فحسب بل هزيمة وجبن وعار. الفائدة الثّالثة: التصديق المطلق للنبي صلّى الله عليه وسلّم بوعد ربه حيث ورد بدعائه صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك» «1» . يشير إلى قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ. وجميع ما جاء في قصص الأنبياء هو من التسلية حيث ذكر القرآن الكريم في جميعها جهاد الأنبياء في الدعوة والتبليغ، وعناد من أرسل إليهم وتكذيبهم واستهزاءهم بأنبيائهم، وكيف أن الله- عز وجل- نصر أولياءه وخذل أعداءه، والنصر قد يتأخر لحكمة بالغة، ولكنه يأتي لا محالة، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده. 2- إخباره بتعذيب أعدائه في الدنيا والآخرة: قال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) [المسد: 1- 5] .   (1) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: قوله تعالى: ما قيل في درع النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (2915) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أولا: سبب نزول الآية الكريمة: روى البخاري في صحيحه، عن ابن عبّاس: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش فقال: «أرأيتم إن حدّثتكم أنّ العدوّ مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدّقوني؟» ، قالوا: نعم، قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟! تبّا لك. فأنزل الله- عز وجل-: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ إلى آخرها. بعض فوائد الآية الكريمة والحديث الشريف: الفائدة الأولى: أوجه تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآية الكريمة ومظاهر حب الله له: 1- نزول سورة قرآنية كاملة، تتلى إلى يوم القيامة، فيمن أساء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن علم قدر هذا الكتاب العظيم، علم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، أن أنزل سورة في القرآن يسليه بها ويرفع عنه حزنه وضيق صدره مما يجد من أعدائه. 2- نزلت السورة الكريمة مباشرة بعد مقولة أبي لهب الشنيعة، ورد في الحديث: (فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ) . والفاء للتعقيب، وهذا يدل على عظيم غيرة الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم وشدة غضبه على من آذاه وناوأه. 3- افتتحت السورة الكريمة بالدعاء على عدو النبي صلّى الله عليه وسلّم- أبي لهب-: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ثم ورد في نفس الآية تحقق ذلك الدعاء بقوله تعالى: وَتَبَّ. واللافت للنظر أن يأتي الدعاء على أبي لهب بنفس الصيغة التي نطق بها لسانه المشئوم، وهذا يؤكد ما ذكرته في الفقرة السابقة. قال الإمامان الطبري وابن كثير- رحمهما الله تعالى-: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ دعاء عليه من الله وقوله: وَتَبَّ فإنه خبر) . انتهى «1» . وتب أي: خسر وهلك. 4- نزول السورة بالدعاء على أبي لهب والإخبار بتحقق ذلك الدعاء، قطع كل أمل في نجاة الرجل وزوجه، كما أن إغلاق باب التوبة على الرجل وزوجه في زمن الإمهال- أي في الحياة الدنيا وقبل غرغرة الموت- يدل على غضب الله الشديد عليهما، فلم يذكر القرآن العظيم سوء خاتمة أحد بكنيته إلا أبي لهب. وهذا من شؤم عمله واستعجاله العذاب بإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم.   (1) انظر تفسير الطبري (30/ 336) ، وتفسير ابن كثير (4/ 565) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الفائدة الثّانية: السورة الكريمة معجزة ظاهرة للقرآن الكريم وهي من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، ذلك أن القرآن الكريم قد حكم على أبي لهب وزوجته أنهما سيموتان على الكفر، وقد حدث ذلك فعلا، فما الذي منعهما أن يظهرا الإسلام- ولو ظاهرا- طعنا في دين الإسلام، فالله- عز وجل- بقدرته لم يحل بينهما وبين إظهار الإسلام على الحقيقة فحسب، ولكن حال أيضا بينهما وبين إعلان الإسلام ولو خداعا ونفاقا، وهذا من عجائب قدرته تبارك وتعالى، ودالّ على أن قلوب العباد بيديه- سبحانه وتعالى- يقلبها كيفما شاء. وأما أن الآية الكريمة من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، فظاهر فلولا أنه صلّى الله عليه وسلّم يوحى إليه من ربه ما جاء بهذا الحكم القاسي على أبي لهب وزوجته وأحرج نفسه- حاشا لله- إن هم دخلا في الإسلام. فقد حكم الله- عز وجل- عليهما بسوء الخاتمة في زمن الإمهال، وهذا لم يحدث، - فيما نعلم- في حق أحد من الكفار، مع ذكر كنيته إلا أبي لهب وزوجته، حتى إنه لم يحدث لفرعون الذي ادعى الألوهية، وهى معجزة ظاهرة للقرآن، وتكريم عظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتهديد شديد لكل من يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثّالثة: أنه لا ينفع الكافر صلة قرابته بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كما لا ينفعه ماله ولا ولده ولا حسن وجهه، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (أبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وكنيته أبو عتيبة وإنما سمّي أبا لهب لإشراقة وجهه وكان كثير الأذية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والبغضة له والازدراء به والتنقص له ولدينه) «1» . الفائدة الرّابعة: يقين أهل مكة- خاصة أهل قرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم- من صدقه وعدم كذبه، والذي لا يكذب على الناس كيف يكذب على رب الناس، ورد في الحديث: «أرأيتكم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني» ؟ قالوا: نعم. وأضرب مثالا آخر سريعا لانتقام الله- عز وجل- من أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين آذوه وعادوه، وهو حكم الله- تبارك وتعالى- في القرآن الكريم على مبغض الرسول بأنه أبتر- أي مقطوع ذكره، قال الله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا: بتر. فلما مات أبناء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: بتر؛ فأنزل الله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) وهذا يرجع إلى ما قلناه أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، وحاشا وكلا، بل قد أبقى الله ذكره   (1) تفسير القرآن العظيم (4/ 565) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 على رؤس الأشهاد وأوجب شرعه على رقاب العباد مستمرا على دوام الآباد إلى يوم الحشر والمعاد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد) . انتهى «1» . 3- بذكر استهزاء الكفار لمن قبله من الرسل: قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10] . قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية ما نصه: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم مسليا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبة ما يلقى منهم من أذى الاستهزاء به والاستخفاف في ذات الله: هوّن عليك يا محمد ما أنت لاق من هؤلاء المستهزئين بك المستخفين بحقك وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيهم وإصرارهم على المقام على كفرهم نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم غيرهم من تعجيل النقمة لهم وحلول المثلات بهم) «2» . وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (هذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذبه من قومه ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة) «3» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: ليس في النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يبعث على استهزاء وسخرية الكافرين- هلك وخاب من اعتقد خلاف ذلك- فهو صلّى الله عليه وسلّم أكمل الناس خلقا وأجملهم وجها وأحسنهم صوتا وأفصحهم لسانا وأبلغهم بيانا وأرجحهم عقلا وأصدقهم قولا وأوفاهم عهدا وأجودهم نفسا وأرقهم قلبا، ومن قبل ومن بعد: أعلمهم وأتقاهم لله رب العالمين، ولكن استهزاء الكفار هو مسلكهم مع الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام.، فإذا كان كفار مكة ليسوا بدعا من الكفار في استهزائهم بالأنبياء، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الأنبياء في استهزاء الكفار به، فإن لله- عز وجل- سنة واحدة وهي نصرة النبيين وإهلاك المستهزئين، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وبذلك تكون الآية قد سلّت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أحسن وجه بأن ذكرت أن من استهزئ به من قبل هم خير الخلق وذكرت عاقبة المستهزئين. فرفعت الحرج الذي يمكن أن يجده النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين نفسه أو أمام أزواجه أو أصحابه رضي الله عنهم جميعا.   (1) تفسير القرآن العظيم (4/ 560) . (2) تفسير الطبري (7/ 153) . (3) تفسير القرآن العظيم (2/ 125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الفائدة الثّانية: بيان عاقبة السوء بمن استهزأ بشيء من حرمات الله تبارك وتعالى، والتي من أعظمها، رسله إلى خلقه حيث ذكرت الآية أن العذاب سيحيق بهم، أي- سيحيطهم من كل جانب، وما أسوأ هذا العذاب وأبشعه. الفائدة الثّالثة: ومن جنس تسليته صلّى الله عليه وسلّم بذكر استهزاء المشركين بالأنبياء من قبله، تسليته صلّى الله عليه وسلّم بذكر تكذيب الأمم السابقة لإخوانه الأنبياء، مع أنهم جاؤا قومهم بايات الله البينات، الكونية والشرعية قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر: 25] . وأيضا: قوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ [الأنبياء: 36] . 4- بذكر أسباب تولي الكفار وتكذيبهم: والغرض من تلك التسلية أن يتيقن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تولي الكفار وعدم سماعهم وإعراضهم عنه ليس بسبب تقصيره في النصح والإرشاد أو ضعف حجته وبيانه أو خلل في قرآنه وسنته، ولكن إعراضهم بسبب تكبرهم واستكبارهم وجحودهم وإنكارهم وأمثلة هذه التسلية في القرآن كثيرة، ولكن سنكتفي بثلاثة أمثلة فحسب: المثال الأول: توليهم بسبب جحودهم بايات الله: قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (إنهم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم) «1» . وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (قد نعلم أن الذي يقوله المكذبون فيك يحزنك ويسوءك، ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية، فلا تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك أو شك فيه فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ؛ لأنهم يعرفون صدقك ومدخلك ومخرجك وجميع أحوالك، حتى إنهم كانوا يسمونك- قبل البعثة- الصادق الأمين) «2» . المثال الثاني: توليهم بسبب موتهم وصمم آذانهم. قال تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] .   (1) تفسير القرآن العظيم (2/ 130) . (2) تفسير السعدي (254) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 قال صاحب المنتخب: (إنك- أيها الرسول- لا تستطيع هدايتهم، فإنهم كالموتى في عدم الوعي، وكالصم في فقدان أداة السمع، فليسوا مستعدين لسماع دعوتك لتماديهم في الإعراض عنك) ، وقال رحمه الله: (ولست بمستطيع أن تهدي إلى الحق من عميت أبصارهم وبصائرهم ولا يمكنك أن تسمع إلا من يقبل على الإيمان باياتنا فهم مطيعون مستجيبون) . المثال الثالث: توليهم بسبب اتباعهم الهوى. قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] . قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فلم يأتوا بكتاب أهدى منه فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ، أي: فاعلم أن تركهم اتباعك ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ولا إلى هدى، وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم) «1» . 33- كفاية الله له صلّى الله عليه وسلّم: الكفاية في اللغة: من كفى وهو الاستغناء يقال كفاه الشيء يكفيه أي استغنى عن غيره فهو كاف وكفىّ. قد قسمت كفاية الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى ثلاثة أقسام وهي (كفايته شرعا- كفايته قدرا- كفايته شرعا وقدرا) ليتبين للقارئ مدى حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وحفظه من جميع الوجوه، وإلا فإن الأقسام الثلاثة قد تتداخل، وقد أتيت بشواهد قليلة لهذه الكفاية لعدم الإطالة- قدر الإمكان- وأترك للقارئ الكريم تدبر القرآن ليتبين له شواهد تلك الكفاية، والتي من أمثلتها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، وقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . 1- كفايته شرعا: قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الصف: 28] . قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، يقول جل ثناؤه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: (أشهدك يا محمد ربّك على نفسه أنه سيظهر الدين الذي بعثك به   (1) تفسير السعدي (618) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وحسبك به شاهدا) ، وقال رحمه الله: (أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله) «1» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: أظهرت الآية بجلاء حب الله سبحانه وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث بينت الآية كفاية الله له صلّى الله عليه وسلّم من كل وجه يتبين ذلك من: 1- ثناء الله- تبارك وتعالى- البالغ على ما أرسل به النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يضره بعد ذلك ذم القادحين ولا يزيده مدح المادحين، فالحمد لله الذي كفى نبيه شر الصنف الأول، وأغناه عن الصنف الثاني. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، أي بالعلم النافع والعمل الصالح فإن الشريعة تشتمل على شيئين علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح والعمل الشرعي مقبول فإخباراتها حق وإنشاآتها عدل) «2» . 2- كفاه الله- سبحانه وتعالى- همّ ظهور هذا الدين: هل سيظهر هذا أم لا؟ هل سيعلو على كل الأديان أم لا؟ فطمأنه الله- تبارك وتعالى- وكفاه حمل هذا العبء الثقيل، بأن وعده أنه سيمكن له دينه صلّى الله عليه وسلّم غاية التمكين، فو الله لو خذل الناس جميعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فسيظهر هذا الدين لأن الذي تكفل بذلك هو الله- عز وجل- ألم تسمع لقوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ. 3- كفاه الله- سبحانه وتعالى- شهادة كل أحد من الخلق على صدق نبوته وإظهار دينه، قال تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، قال الإمام الطبري رحمه الله ما نصه: (أشهدك يا محمد ربك على نفسه أنه سيظهر الدين الذي بعثك به وحسبك به شهيدا) «3» . وقال صاحب تفسير الزبد: (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على إظهار الدين الذي وعد المسلمين به وعلى صحة نبوة نبيه صلّى الله عليه وسلّم) ، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أنه رسوله وهو ناصره) «4» . الفائدة الثّانية: من شكك في نصرة الله- سبحانه وتعالى- نبيه وصحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم أو شكك في أن ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم هو الحق والهدى، فقد طعن في شهادة الله- سبحانه وتعالى-. الفائدة الثّالثة: في الآية الكريمة أبلغ التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة، بأن الغلبة في نهاية الأمر لدين الله- تبارك وتعالى-. قال الإمام الطبري رحمه الله:   (1) تفسير الطبري (26/ 109) . (2) تفسير القرآن العظيم (4/ 204) . (3) تفسير الطبري (26/ 109) . (4) تفسير القرآن العظيم (4/ 204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 (وهذا إعلام من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسليهم بذلك عما نالهم من الكابة والحزن بسبب انصرافهم عن مكة قبل دخولها وقبل طوافهم بالبيت) «1» . 2- كفايته قدرا: قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 94، 95] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: (أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم) «2» . بعض فوائد الآيتين الكريمتين: الفائدة الأولى: حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وغضبه الشديد- عز وجل- على من تعرض لخليله صلّى الله عليه وسلّم فوعده بالانتقام منهم، واللافت للنظر أن هؤلاء المستهزئين قد كفروا بالله وصدوا عن سبيله ولكن الله- سبحانه وتعالى- لما ذكر صفاتهم ابتدأ بصفة الاستهزاء وكأنها الباعث على الانتقام الإلهي منهم. قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: (اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله فإن الله كافيك من آذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة وهم: الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة أهلكهم الله جميعا قبل يوم بدر في يوم واحد لاستهزائهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم) «3» . الفائدة الثّانية: في الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لكل من استهزأ بأدنى شيء يخص نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ويكفي أن أقول له: يكفيك أنك قد جعلت الله خصما لك، ويا ويل من فعل ذلك، فو الله إنّ قدر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم عند ربه وقت بعثته ومن قبلها ومن بعدها إلى يوم القيامة لا يتغير ولا يتبدل، وغضب الله- سبحانه وتعالى- على من استهزأ به صلّى الله عليه وسلّم وانتقامه منه لا يمكن أن يتخلف؛ لأن وعد الله- سبحانه وتعالى- بكفاية نبيه صلّى الله عليه وسلّم المستهزئين لا يرتبط بزمان دون زمان ولا بأمة دون أمة، فقد تهلك قرية بأكملها أو تمحق منها البركة أو تصيبها الأمراض المزمنة أو تنتشر فيها الرذيلة والفحشاء لأن بعض أهل القرية قد تعرض للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأدنى إيذاء ولم يجدوا من يأخذ على أيديهم، ولا أستبعد أن يكون بعض ما أصاب الأمة   (1) تفسير الطبري (26/ 109) . (2) تفسير القرآن العظيم (2/ 560) . (3) الجامع لأحكام القرآن (10/ 62) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الإسلامية الآن بسبب تفريطها في حقوق النبي صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة الملحدين والمستهزئين به وبشريعته وسنته صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثّالثة: عظيم علم الله وحكمته وقدرته- سبحانه وتعالى- فبعلمه اطلع على المستهزئين، وبحكمته وعد نبيه بإهلاكهم، وبقدرته أنفذ وعده ونصر عبده صلّى الله عليه وسلّم. شاهد ثان على كفايته صلّى الله عليه وسلّم قدرا: قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [المائدة: 67] . قال الشيخ السعدي رحمه الله: (هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك) «1» . أقول: وهذه الآية الكريمة من أكبر دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم وأنه يوحى إليه من ربه؛ فقد تضمنت الآية حكما يستحيل أن يضمنه أحد من البشر، مهما كانت قوته ومهما بلغت سطوته، فلا يقدر أحد أن يحمي أحدا أو يعصمه طوال حياته من جميع الناس وفي كل الأحوال، إلا الله- سبحانه وتعالى- خاصة إذا كان مثل الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي امتلأت حياته بالغزوات ومنازلة الكفار حيث الكر والفر، بالإضافة إلى خطر المنافقين الذين ملأوا أرجاء المدينة مع حرصهم الشديد على إيذائه. فما الذي يدفع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن للناس أن الله قد عصمه، وما سيتبع ذلك الإعلان من لزوم الاستغناء عن أي حرس من البشر. وأقول لكل منصف- من غير المسلمين- هل يعقل أن يدعي أحد النبوة ويكذب على ربه طمعا في الدنيا وزينتها ورغد العيش فيها، ثم يعرض نفسه للتهلكة، بدعوى أن الله- سبحانه وتعالى- عاصمه، ثم الأعجب من ذلك أن الله- تبارك وتعالى- بالفعل يعصمه ويحميه- رغم دعوى الخصم أنه يكذب على ربه- هذا لا يقوله عاقل. شاهد ثالث على كفايته قدرا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللّات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته أو لأعفّرنّ وجهه   (1) تيسير الكريم الرحمن (239) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 في التّراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه قال: فقيل له: ما لك؟! فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا وأجنحة!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» ، قال: فأنزل الله- عز وجل- لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) [العلق: 6- 13] ، يعني أبا جهل أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ (19) ، زاد عبيد الله في حديثه قال: وأمره بما أمره به. وزاد ابن عبد الأعلى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، يعني قومه) «1» . 3- كفايته شرعا وقدرا: قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 36] . قلت: إن هذه الآية تدل على كفاية الله- سبحانه وتعالى- شرعا وقدرا- أي أنها كفاية من كل الوجوه- لأن الآية لم تقيد الكفاية بنوع معين، فعلمنا أنها تشمل كل أنواع الكفاية في الدين والدنيا والآخرة وفي الحياة وفي الممات. قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فإن الله سيكفيه في أمر دينه ودنياه ويدفع عنه من ناوأه بسوء) «2» ، وقال صاحب التفسير الميسر: (أليس الله بكاف عبده محمدا وعيد المشركين من أن ينالوه بسوء؟ بلى إنه سيكفيه في أمر دينه ودنياه ويدفع عنه من أراده بسوء) ، ومعنى كفاية الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقوم بمصالحه ومهامه. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: وجوب أن يعتقد كل مسلم أن الشريعة الإسلامية، كتابا وسنة، أصولا وفروعا، فرائض وسننا، كاملة أبلغ الكمال لا تحتاج إلى زيادة، حسنة أشد الحسن وأظهره، لا تحتاج إلى من يجملها أو يحسنها، وهذا الفهم هو مقتضى مفهوم الآية الكريمة، فمن اعتقد أن الشريعة تحتاج إكمال ولو في أمر واحد، أو تحتاج إلى إخفاء شيء منها لعدم حسنه، أو أن في غيرها ما هو خير منها، فقد طعن في شهادة الله- تبارك وتعالى- الذي   (1) مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، برقم (2797) . (2) تيسير الكريم الرحمن (725) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 أبلغناه- وهو الأصدق حديثا- أنه قد كفى عبده في أمره كله. الفائدة الثّانية: العبودية هي أشرف منازل المرسلين ومن أرسل إليهم، لأن الله- تبارك وتعالى- لما ذكر منزلة عظيمة من منازل نبيه صلّى الله عليه وسلّم وهي منزلة كفايته العامة، لم يذكره بصفة الرسالة أو النبوة مع شرفها وعلو قدرها ولكن وصفه بصفة العبودية. الفائدة الثّالثة: في الآية الكريمة حثّ لكل مسلم أن يحقق في نفسه صفة العبودية، بامتثال طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأن يربي نفسه على خوف الله وتقواه، وأن يشعر أنه هو الذليل المسكين الفقير، وأن الله- سبحانه وتعالى- هو الغني القوي العزيز، وأن يترجم هذا الشعور إلى سلوك في أقواله وأفعاله وأخلاقه. وبقدر ما يحقق المرء أمر العبودية لله بقدر كفاية الله له، وليس معنى هذه الكفاية، ألا يصيب العبد سوء أو مكروه، في نفسه أو أولاده أو ماله، ولكن معناها أن يصلح الله له باله ويوفقه لما يحب ويرضى، يشكر في النعماء ويصبر على الضراء، فلا يتسخط على شيء من أمور الدين أو الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 سادسا: مظاهر العناية الإلهية بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين أ- تربيتهن على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق وعدم تسويتهن ببقية نساء الأمة: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) [الأحزاب: 28- 36] . لم يقتصر اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده، ولكن شمل هذا الاعتناء الإلهي أزواجه الطاهرات الميامين، فأمرهن بأفضل الأقوال والأفعال، وشرّفهن على النساء جميعا لمنزلتهن وقربهن من خير الخلق نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسنأتي على مظاهر ذلك من الآيات الكريمات: 1- وجوب الزهد في الدنيا: لما اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه وطلبن منه زيادة النفقة والكسوة، أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] ليعلمهن أن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يليق بهن التعلق بشيء من الدنيا أو التشوف إليها، وكفاهن ما هن فيه من القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسماع القرآن والحكمة النبوية. 2- حثهن على اختيار الله ورسوله والدار الآخرة: من دلائل حب الله لأمهات المؤمنين- رضي الله عنهنّ- أن رغّبهنّ أعظم الترغيب في اختيار الله ورسوله والدار الآخرة، فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 [الأحزاب: 29] فمن مظاهر الترغيب في الآية: * تصدير جواب الشرط ب- «إن» لإفادة توكيد الأجر للمحسنات. * نصت على الآية أن الذي أعد الأجر هو الله- سبحانه وتعالى-، لقوله: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الأحزاب: 29] وكفى بذلك تنويها لكريم الأجر وعظيم قدر من أعدّ له الأجر. * وصف من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة بأعلى مراتب الإيمان وهو الإحسان فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الأحزاب: 29] . * تخصيص الأجر العظيم لمن اختارت الله ورسوله دون سواهما قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ [الأحزاب: الآية 29] إشعارا بأن هذا الأجر لن يشاركهن فيه أحد أبدا. * وصف الأجر المترتب على اختيار الله ورسوله ب (العظيم) ، ولك أخي القارئ أن تتخيل مقدار هذا الأجر فهو عظيم في قدره، عظيم في وصفه، ويكفي أن الذي أعده هو العظيم، وقد وصفه بالعظيم. 3- تضعيف العذاب لمن ارتكبت شيئا (حاشا لله) : وهذا أيضا من أوجه التأديب الرباني لأمهات المؤمنين، ليزداد حذرهن من الفواحش، وليشعرن أن أعراضهن ليست كأعراض غيرهن من النساء، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (فلما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظا صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع) . انتهى «1» . ويختلف نظر المؤمن والمنافق لهذه الآية، فأما المؤمن فيرى فيها عظيم قدر أعراض أمهات المؤمنين، وأن الله أراد بهذه الآية إظهار شرفهن وفضلهن، وأما المنافق فيرى أن فعل الشرط دليل على إمكانية وقوعه، وآيات القرآن الكريم تردّ عليه، قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزّمر: 65] فهل يتصور أحد أن يقع الشرك منه صلّى الله عليه وسلّم ومثاله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزّخرف: 81] ، فكما يقول علماء اللغة: (الشرط لا يقتضي الوقوع) .   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 483) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 4- مضاعفة الأجر للقانتات منهن (وهن جميعا كذلك) : لما حذرهن الله- سبحانه وتعالى- من الوقوع في الفواحش بمضاعفة العذاب، كان من المناسب أن يرغّبهنّ في طاعة الله ورسوله بمضاعفة الأجر، قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 31] قال: (أي في الجنة فإنهن في منازل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش) «1» . 5- عدم تسويتهن ببقية النساء: قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32] ، وهذا تشريف عظيم لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن حيث أثبت الله أنهن باستكمال التقوى لن يساويهن أحد من نساء الأمة، وفي الآية أيضا أبلغ الحث لهن بتقوى الله عز وجل لضمان بلوغ هذه المنزلة العالية الرفيعة التي لن تبلغها امرأة من نساء الأمة. 6- أمرهن بأحسن الأفعال والأقوال والأخلاق: أما أحسن الأفعال: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وتبليغ الكتاب والسنة، والتزام الحجاب والعفة. وأحسن الأقوال: أن يكون كل كلامهن معروفا. وأما أحسن الأخلاق: عدم الخضوع بالقول (أي التكسّر فيه) والقرار في البيت. 7- إرادة الله كمال طهرهن وعفتهن: وهي إرادة خاصة بأهل البيت، ودليله من الآية قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] وهذه الإرادة الخاصة تدل على عظيم اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بأمهات المؤمنين وزيادة شرفهن على كل أفراد الأمة. 8- تذكيرهن بشرف بيوتهن: قال تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] ، وهي أعظم منة امتن الله بها على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد زواجهن منه، أن جعل بيوتهن محلّا لتلاوة   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 483) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة، وإذا كان واجبا على كل مسلم أن يسعى إلى حلق العلم والذكر فأعتقد أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مكلفات بذلك لأن العلم والذكر قد جاء إلى بيوتهن وبذلك قد كفاهن الله مؤونة السعي إليهما، وهذا مما يزيد في شرفهن وفضلهن. وقد ذكر القرطبي ثلاثة معان للفظ الذكر الوارد في الآية الكريمة: الأول: اذكرن موضع النعمة إذ صيّركنّ الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة. والثاني: اذكرن آيات الله واقدرن قدرها وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى. الثالث: احفظن واقرأن وألزمنه الألسن «1» . 9- إعلامهن بلطف الله بهن: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً [الأحزاب: 34] ؛ قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (أي بلطفه بكن بلغتنّ هذه المنزلة وبخبرته بكنّ وأنكنّ أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك) «2» . وقال ابن جرير: (أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة- وهي السنة- خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله) «3» . من كل ما تقدم نعلم المنزلة العالية الرفيعة لأمهات المؤمنين، حيث لم يدع الله- سبحانه وتعالى- معروفا إلا حثهن عليه ورغبهن فيه، ولم يترك محرما إلا حذرهن منه، كما لم يترك شرفا ولا فضلا إلا وأثبته لهن بأكمل وأوفر ما يكون، وما كان ذلك إلا لقربهن واقترانهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. وللتمة فإني سأذكر بعض فوائد الآيات الكريمات عسى الله أن ينفعنا بها، وقد رأيت أن أذكر فوائد كل آية على حدة، حتى لا تختلط الفوائد على القارئ، وليعلم بالضبط موضع الاستنباط، فأقول وبالله التوفيق: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الأحزاب: 28] فيها: 1- قال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- كلاما نفيسا، قال ما نصه: «في آية التخيير فوائد:   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 184) . (2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 487) . (3) انظر تفسير ابن جرير (22/ 9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 منها: الاعتناء برسوله وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية. ومنها: سلامته صلّى الله عليه وسلّم بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الأحزاب: 38] . ومنها: تنزيهه عن لو كان فيهن من تؤثر الدنيا على الله ورسوله والدار الآخرة عنها، وعن مقارنتها. ومنها: سلامة زوجاته رضي الله عنهنّ من الإثم والتعرض لسخط الله ورسوله. فحسم الله بهذا التخيير عنهن التسخط على الرسول الموجب لسخطه المسخط لربه الموجب لعقابه. ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهنّ، إن كان الله ورسوله والدار الآخرة مرادهن ومقصودهن دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يكنّ زوجاته في الدنيا والآخرة. ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد الله أن تكون نساؤه كاملات مكملات طيبات مطيبات وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النّور: 26] . ومنها: أن هذا التخيير داع وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه. ومنها: أن يكون اختيارهن هذا سببا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يكن بمرتبة ليس فيها أحد من النساء» «1» . 2- ظنت أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- أنه يمكن الجمع بين زيادة النفقة في الدنيا وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فلما خيّرن علمن أن هذا الجمع محال فاخترن جميعا الله ورسوله بلا تردد، روى البخاري في صحيحه، عن الزّهريّ قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرّحمن أنّ عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبرته: «أنّ رسول الله جاءها حين أمره الله أن يخيّر أزواجه فبدأ بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّي ذاكر لك أمرا فلا   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 663) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 عليك ألاتستعجلي حتّى تستأمري أبويك» - وقد علم أنّ أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه- قالت: ثمّ قال: «إنّ الله قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] ... » إلى تمام الآيتين- فقلت له: ففي أيّ هذا أستأمر أبويّ؟! فإنيّ أريد الله ورسوله والدّار الآخرة» «1» . 3- حث الأمة على الزهد في الدنيا، فلولا أن الزهد في الدنيا من أسباب الفوز والفلاح، ما رغّب الله نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه بل وجعله شرطا في البقاء بجوار النبي صلّى الله عليه وسلّم. 4- ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من كمال الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة ودليله أن الله عز وجل لم يرض من زوجاته إلا هذا المسلك، وأمرهن به وحثهن عليه، فكيف يرضى من نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأقل من الكمال فيه. وكأن الآية الكريمة تلمح إلى أن الإنسان بقدر ما تعلق بالدنيا بقدر ما نقص تعلقه بالآخرة، فالتعلق التام بالدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب واحد، وتزهيد الصحابة في الدنيا كان مسلك النبي صلّى الله عليه وسلّم في تربيتهم، روى البخاري عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنكبي فقال: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» «2» . وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) . 4- حث الرجال على تسريح زوجاتهن- إذا تم الطلاق- تسريحا جميلا، ففي الآية أمر من الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، أن امرأة من زوجاته لو اختارت الدنيا- رغم حقارتها على جوار النبي صلّى الله عليه وسلّم- ألا يعنفها ولا يقبحها ولا يقف الأمر عند ذلك، بل يجب تسريحها تسريحا جميلا، فما بالكم لو وقع الطلاق بين زوجين لسبب أقل من ذلك ألا ينبغي أن يكون السراح جميلا؟!. 5- في الآية دليل على مشروعية طلاق المرأة التي تشغل الرجل عن أمور آخرته لحبها للدنيا وتعلقها بها، وهي أيضا من حقها أن تطلب الطلاق إذا كان زوجها لا يوفر لها أسباب الفوز والفلاح في الآخرة. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ [الأحزاب: 29] .   (1) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ، برقم (4786) . (2) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كن في الدنيا كأنك غريب ... » ، برقم (6416) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 1- لم تقيد الآية إرادة الله ورسوله بشيء معين من أمور الشرع؛ كالحب أو الطاعة فلم تقل الآية مثلا: (وإن كنتن تردن حب الله ورسوله) ، أو (وإن كنتن تردن طاعة الله ورسوله) ، ولكن الآية أطلقت لتوجيه العبد أن عليه أن يقصد كل أمر يتقرب به إلى الله ورسوله، فإن على العبد أن يجمع في طريقه إلى الله- سبحانه وتعالى- بين الخوف والرجاء والحب والطاعة، وكذلك حب النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوقيره وإجلاله واتباع سنته. 2- ذكرت الآية تُرِدْنَ [الأحزاب: 28] للتنويه على أن الإرادة هي التي توصل العبد إلى الله ورسوله، وهي التي يثاب عليها العبد، أما مجرد التمني دون الإرادة فليس للعبد فيها حظ، وأقصد بالتمني هنا تسويف العبد للأعمال الصالحة، والتمني قد ذمه الله تعالى في قوله: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 14] . 3- عطفت الآية الدار الآخرة على الله ورسوله، مع أنها داخلة قطعا في إرادة الله ورسوله، وهذا العطف لأسباب منها: أ- مقابلة إرادة الحياة الدنيا التي ذكرت في الآية السابقة بإرادة الدار الآخرة. ب- الإشارة إلى أن تعلق العبد بالدار الآخرة وما أعد الله فيها من الثواب الجزيل لعباده هي أعظم ما يعين العبد على اختيار الله ورسوله. ج- التذكير بأن الأجر العظيم الذي أعده الله للمحسنين والمحسنات إنما يكون قطعا في الآخرة، وهذا مما يزهّد الإنسان في الدنيا. 4- إثبات أن الجنة موجودة الآن، لقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الأحزاب: 29] وأعد فعل ماض، لا يصرف عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب والسنة. 5- إحاطة علم الله بكل شيء قبل حدوثه، حيث دلت الآية أن الله قد أعد لمن اختارت الله ورسوله الأجر العظيم قبل وقوع الاختيار من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم. 6- ثبوت درجة الإحسان لكل أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- لاختيارهن جميعا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. 7- ثبوت الأجر العظيم لكل أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- لاختيارهن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. 8- الإحسان هو أعظم منازل العبد، ولو أن هناك منزلة هي أعظم من الإحسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 لوصف الله بها أمهات المؤمنين اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وليكون أبلغ في حثهن. 9- لا يبلغ العبد منزلة الإحسان إلا إذا زهد في الدنيا واختار الله ورسوله والدار الآخرة. قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب: 30] . 1- عدم استحياء الله- تبارك وتعالى- من الحق، حيث ذكر مثل هذه الآية في كتابه الكريم، في حق من؟ زوجات أحب الخلق إليه صلّى الله عليه وسلّم. 2- أنساب الناس وشرفهن في الدنيا ليس معتبرا شرعا ولا يقي من عذاب الله- سبحانه وتعالى-، ولو أن الحسب والنسب يقي من عذابه لكان أولى الناس بالانتفاع بهما هن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الله قد رتب لهن أشد العذاب إذا خالفن أوامره. 3- يجب على المسلمين- خاصة أهل الصلاح والتقوى- ألا يأمنوا شر المعاصي من حيث الوقوع فيها، ولا من عذاب الله إن هم وقعوا فيها، فهؤلاء أفضل النساء قد حذرهن الله- سبحانه وتعالى- من الوقوع في الشرور والآثام، بل ومن سوء الأدب أن يظن الرجل الصالح أنه في مأمن من المعاصي. 4- قد يضاعف العذاب أكثر على أهل الصلاح والتقوى إن باشروا بعض المعاصي والآثام ولم يتوبوا منها لعظيم حق الله عليهم ولما آتاهم من العلم أكثر من غيرهم، فما كان تشديد العقوبة على أمهات المؤمنين إن وقع منهن شيء- وحاشا لله أن يقع منهن منكر- إلا لعظيم فضل الله عليهن عن بقية نساء الأمة، بل نساء العالمين. 5- الإشارة إلى قدرة الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا يصعب عليه شيء لقوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [النّساء: 30] . قوله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] . 1- عدل الله- سبحانه وتعالى- المطلق، حيث ضاعف لكل زوج من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الأجر على طاعتها في مقابل تضعيف العذاب على ارتكاب النواهي. 2- فضل الله- سبحانه وتعالى- العظيم على عباده المؤمنين، إذ أرشدهم لكل عمل صالح، ووفقهم لمباشرته، ورزقهم من الصحة والعافية والمال والأجل ما يجعلهم يقدرون على عمل الصالحات ثم كافأهم أحسن المكافأة على عملهم الذي هو محض فضله من كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وجه، وسمّى تلك المكافأة أجرا. فسبحان الذي أظهر عدله وفضله في آية واحدة. 3- التنويه على ضرورة أن يكون العمل صالحا حتى يكون مقبولا، وشرط صلاح العمل الإخلاص والمتابعة. قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] . 1- عظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنزلته عند ربه- جل وعلا-، إذ حكم بعدم المساواة بين زوجات النبي وغيرهن من نساء العالمين، وما كان ذلك إلا باقترانهن وقربهن من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان الله قد حكم لنسائه بعدم تسويتهن مع بقية النساء فكيف نتصور أن يتساوى النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أي من الخلق؟! 2- الزواج من النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعيش معه تحت سقف واحد، هو عمل صالح يترتب عليه ثواب عظيم ومنزلة عالية رفيعة لا يمكن أن تبلغها امرأة أخرى مهما صنعت من الأعمال الصالحة ولو استغرقت كل عمرها، لأن الآية نصت على أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم- في حالة تقواهن- لا يستوين مع غيرهن من النساء دون تقيد لتقوى غيرهن ولا كثرة أعمالهن الصالحة، وكفى لهنّ شرفا أن جعل الله تأديبهن وتوجيههن بايات من الذكر الحكيم. 3- لا يجوز لأي امرأة مسلمة مهما بلغت من الدين والحسب والنسب والمال والعلم الشرعي أن تعتقد أنها تتساوى مع أقل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم قربا منه، أو حتى تقترب منها في الفضل والشرف، لأن الله قد حكم بعدم المساواة. 4- فضل تقوى الله- سبحانه وتعالى- وعظيم أثرها على العبد المسلم، حيث أن الآية قد اشترطت وجود تقوى الله لأي من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يحكم لها بمباينة النساء من غير أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم. 5- خطورة الخضوع بالقول عند تحدث النساء مع الرجال، لأن ذلك يهيج مشاعر من في قلبه مرض، وإذا كان الله عز وجل قد نهى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وحذرهن من هذا الخلق المذموم مع كونهن أمهات المؤمنين، ومع ما في قلوب جميع المؤمنين من تعظيم لحرمة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخطر ذلك على من دونهن من النساء أولى وأولى. 6- في الآية تنويه إلى أن أسباب إشاعة الفتنة هي في يد المرأة أكثر من كونها في يد الرجل، حيث وجّه الله- سبحانه وتعالى- لها النهي عن الخضوع بالقول، فعلى النساء أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 يتقين الله عز وجل ولا يكن أعوانا للشيطان في إشعال الفتنة وإشاعة الفواحش في المجتمع المسلم. 7- قلوب الرجال من حيث إثارة الغرائز الكامنة على قلبين، قلب مريض يثار بأدنى سبب، وقلب صحيح معافى يثبت أمام من يدعوه إلى الوقوع في المحرمات، وعلى أصحاب القلوب المريضة أن يداووا قلوبهم، وألا يتعرضوا لدواعي الفتن حتى لا تقع في المحظور، وفي الآية أيضا أن حب الشهوات مرض يصيب القلب. 8- في الآية إرشاة إلى ضرورة إزالة الالتباس الذي قد يقع فيه السامع، لأن الآية الكريمة لما توجهت إلى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن الخضوع في القول، وقد نفهم من ذلك أن عليهن الغلظة في القول، أزال الله- سبحانه وتعالى- هذا الالتباس بقوله تعالى: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب: 32] . 9- في الآية حث على التزام المسلم بقول المعروف في تعامله مع الناس. والقول المعروف هو الذي يتصف بالأدب ومجانبة كل ما يخدش الحياء والبذاءة من غير غلظة ولا جفاء. قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33] . الأصل للنساء هو القرار في البيت، فهو الأسلم والأحفظ للمجتمع من شرور الاختلاط وآفاته. 2- ذم التبرج غاية الذم، حيث وصف التبرج في الآية بأنه من عادات الجاهلية الأولى، وعليه فإنه محرم لنهي الآية عنه، ولوصفه بعادات الجاهلية- في سياق الذم- ومعلوم أن من أعظم مقاصد الشريعة مجانبة عادات الجاهلية المذمومة. ويتفرع عليه ذم أغلب المجتمعات المسلمة في وقتنا الحاضر والتي غلب عليها وتفشى فيها مظهر من مظاهر الجاهلية الأولى وهو التبرج وإن كان في زمننا هذا بصورة أقبح عما عرفته الجاهلية الأولى. 3- اقترنت الصلاة بالزكاة في أغلب آيات القرآن الكريم لأنهما أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين، ولأن الصلاة حق الله- سبحانه وتعالى-، والزكاة حق العباد. 4- طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح كل خير وسبيل كل رشد، ودليل ذلك أن تكرر ذكرها ثلاث مرات في خمس آيات متتاليات، ويؤخذ من ذلك وجوب طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وعظم قدرها كطاعة الله- سبحانه وتعالى- سواء بسواء حيث قرن الله طاعته بطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الآيات الثلاثة، بل في أكثر آيات القرآن، بل أفردت بعض الآيات طاعة مستقلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، كقوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النّور: 56] ، وقد بينت أن للنبي صلّى الله عليه وسلّم طاعة مستقلة. 5- التحذير كل التحذير من إرادة أدنى السوء بزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الأطهار الميامين، لأن من أراد ذلك وسعى فيه أو حتى تمناه، فقد ضاد الله في مراده حيث أراد الله سبحانه وتعالى- لهن أكمل الصفات وأحسن الأخلاق، بأن يذهب عنهن كل أذى وشر وأن يلبسهن لباس الطهر والعفاف. 6- نجزم قطعا بأنّ كل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتبرن من أهل البيت الذين لهم من الإجلال والتوقير ما ليس لغيرهم، ودليله أن الآيات المتتاليات من رقم (28) من سورة الأحزاب- التي معنا- موجهة قطعا بنص القرآن إليهن، ثم ختمت الآيات الكريمات بذكر الحكمة من توجيه هذا الخطاب الرباني بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ، فلا يماري في ذلك أحد، ويتفرع عليه عظيم التخويف بالمساس بهن وأعظم الحث على تبجيلهن وتوقيرهن. 7- ذهاب الرجس وثبوت التطهر للعبد إنما يكون بامتثال طاعة الله ورسوله وكل ما ورد في الآيات الكريمات من توجيهات، وبقدر مخالفة العبد لتلك التوجيهات بقدر ما يكون معه من رجس يناقض الطهر والعفاف. قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] . 1- تلاوة آيات القرآن والسنة في البيوت هي من النعم العظيمة التي يتفضل الله بها على العباد. ويتفرع عليها الحثّ على الإكثار من تلاوة القرآن والسنة في البيوت، وأن البيت الذي تكثر فيه تلك التلاوة هو بيت مبارك. 2- الأمر بتلاوة آيات الله والأحاديث النبوية وتدبرها والوقوف عند فوائدها ووجوب تبليغها للأمة، بناء على ما ذكر الإمام القرطبي من معاني قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ [الأحزاب: 34] . 3- عظيم أمر السنة النبوية الشريفة حيث أمر الله- سبحانه وتعالى- بتلاوتها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 البيوت كما أمر بتلاوة آيات القرآن الكريم، كما أنه عز وجل سماها حكمة، وفي هذا أبلغ الحث على الإقبال عليها حفظا وعملا. 4- في الآية إشارة إلى أنه لا يمكن للمسلم أن يستغني عن السنة بالقرآن الكريم، وأنه في حاجة إلى السنة كحاجته إلى القرآن. فما من عبادة أمرنا بها في القرآن إلا واحتجنا للسنة في بيان فرائضها وقدرها ووقتها وهيئتها ونواقضها ومكملاتها ونوافلها وهكذا الشرع كله. 5- شرف بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم على جميع بيوتات العالمين، لأن القرآن لا يتلى فيه فحسب، بل وينزل فيه. ب- جعلهن قدوة لغيرهن: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: 59] . هذه الآية دليل على أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم هن قدوة لغيرهن من نساء الأمة جميعا، في الامتثال لأوامر الله تعالى. وجميع الآيات القرآنية التي توجه خطاب الأمر أو النهي إلى أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل فيه قطعا نساء الأمة، إلا ما ورد الدليل بتخصيصهن بهذا الأمر دون غيرهن. من فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وبناته هن أفضل نساء الأمة إطلاقا، ودليله أن الله- سبحانه وتعالى- أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يوجه الخطاب أولا لهن ثم يأتي من بعد ذلك نساء الأمة، وما كان ذلك إلا لشرفهن رضي الله عنهن جميعا. الفائدة الثانية: على الداعية أن يبدأ بأهل بيته أولا ثم بالأبعد فالأبعد، وأن أهل بيت الداعية هم محط أنظار عامة الناس، فهم يحكمون على صدق الداعية بالنظر إلى أحوال أهله. ويتفرع عليه أن أهل الداعية عليهن مسئولية عظيمة في تصديق الناس للداعية أو تكذيبه فعليهن أن يتقين الله في ذلك. الفائدة الثالثة: قد يؤخذ من الآية أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم شرفا من بناته، لذلك بدأ الله بهن الأمر بالحجاب، وقد يقوي ذلك أن أزواجه صلّى الله عليه وسلّم أمهات للمؤمنين ولم يثبت ذلك الحكم لبناته- رضي الله عنهن جميعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ج- إلزام الأمة توقيرهن: قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] . هذا الحكم من أجلّ صور تكريم وتشريف أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن جعلهن الله- تبارك وتعالى- بمنزلة أمهات المؤمنين. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (شرف الله تعالى أزواج نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال وحجبهن- رضي الله عنهن- بخلاف الأمهات، وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات) «1» . كما قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. انتهى «2» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: وجوب تعظيم وإجلال وتوقير جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلهن على أفراد الأمة مثل حقوق الأمهات، وتدبر أخي القارئ، أن الآية خلت من أداة التشبيه، فلم تقل مثلا: (وأزواجه مثل أمهاتهم) ، بل قالت وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وذلك لتوكيد أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم هن فعلا أمهات للمؤمنين لهن جميع حقوق الأمهات، سواء بسواء، فالأمر ليس للتشبيه أو التقريب ولكن تمام المماثلة. ويتفرع عليه أنه يجب على كل مسلم ومسلمة أن يقارن حاله مع أمهات المؤمنين، وما ينبغي أن يكون حاله مع أمه، فإن وجد أنه يفضل أمه في شيء عن أمهات المؤمنين أو أنه يعظم أمه أكثر أو أن يقبل أن يسمع في أمهات المؤمنين ما لا يقبل أن يسمعه على أمه فليعلم أن في قلبه شيئا وأنه قد أساء الأدب مع الله ورسوله. الفائدة الثانية: مدى عناية الله- سبحانه وتعالى- بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان الله عز وجل قد اعتنى بمنزلة الأم لأنها حملت وولدت وأرضعت وسهرت فأمر أولادها- الذين يعدون على أصابع اليد- أن يعاملوها أحسن المعاملة وأكرمها وجعل توجيه أدنى كلمات الضجر لها من كبائر الذنوب وقرن برّها بتوحيده- سبحانه وتعالى-، فانظر كيف   (1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 123) . (2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 469) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 اعتنى الله بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ أمر الأمة جميعا- رجالها ونساءها، شبابها وشيخوخها، من عاصرهن ومن لم يعاصرهن، من سمع منهن العلم والدين ومن لم يسمع- أن يوقروهن توقير الأم، وما ذلك إلا لعظيم حقهن على جميع الأمة وعلو شرفهن بقربهن من نبي هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثالثة: نعلم من الآية عظيم حق الأم على أولادها، لأن الله- سبحانه وتعالى- لما أراد أن يوجهنا إلى توقير وإجلال أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلهن أمهات لنا، ولو كان هناك أعظم من الأم، لجعل الله لأمهات المؤمنين مثل حقوقهن. الفائدة الرابعة: قد يطلق الحكم في القرآن أو السنة ولا يراد به جميع أفراد الحكم، ويعلم المفردات الداخلة في الحكم أو الخارجة عنه بالنظر فيما ورد بالكتاب أو السنة فيما يتعلق بهذا الحكم، وهي قاعدة عظيمة وهي التي تفرق بين عالم وآخر بل هي من أهم أسباب اختلاف العلماء فيما بينهم. ودليل هذه القاعدة من الآية أن الله حكم أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم هن أمهات لنا في كل شيء، أي من حيث التوقير والإجلال وتحريم الزواج منهن. وهل الخلوة بهن والنظر إليهن أمر مباح أيضا كما للأمهات من النسب؟ لا، فإنه يحرم الخلوة والنظر إليهن، علمنا ذلك من قوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] فهذه الآية قد خصصت آية الباب. يتفرع عليه، أن من حكم الله العظيمة في هذا الدين أنه دين العلم والعلماء وأهل النظر الصحيح والفكر السليم، حيث لم يجعل الله- سبحانه وتعالى- الحكم الشرعي الواحد في موضوع محدد من الكتاب أو السنة يرد فيه كل ما يتعلق به من أحكام واستثناآت ومكملات ومكروهات، بل جعل ذلك متفرقا في مواضع كثيرة من القرآن والسنة. ومن الحكم العظيمة كذلك، حث المسلمين على طلب العلم وشحذ عقول العلماء على النظر في الأدلة والشواهد الشرعية، بل والاجتهاد إن لزم الأمر، كما يتفرع عليه حاجة عوام المسلمين لهؤلاء العلماء، وأنه لا غنى لهم عن سؤال أهل العلم والرجوع إليهم. د- تحريم النظر إليهن بالكلية: قال تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] . هذا أدب آخر علّمه الله- سبحانه وتعالى- للمؤمنين عند مخاطبتهن أمهات المؤمنين- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 رضي الله عنهن- حيث نهاهم الله أن يسألهن المتاع- وهو ما احتيج إليه من أواني المنزل أو غيره وسائر المرافق من أمور الدنيا والآخرة- إلا من وراء ستر، وهذا الأدب إذا انضم إلى آداب دخول بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم تم عقد الآداب المرعية في التعامل مع بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الشريفات العفيفات، فاية واحدة علّمت الصحابة ما ينبغي لهم أن يفعلوه إذا دعوا إلى طعام أو إذا احتاجوا إلى متاع. بعض أقوال العلماء في الآية الكريمة: قال الإمام الطبري- رحمه الله تعالى-: (إذا سألتم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أو نساء المؤمنين متاعا فاسألوهن من وراء حجاب من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن البيوت) «1» . وقال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (في هذه الآية دليل على أن الله- تعالى- أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى بما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها) . انتهى «2» . ولكن يبدو أن كشف وجه أمهات المؤمنين للشهادة محرم، بخلاف سائر نساء المؤمنين، ودليلي في ذلك أن جلّ الدين أخذ عنهن من وراء حجاب، والدين أعظم من الشهادة. أما الإمام ابن كثير فقال: (أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب) . وما ورد في كلام ابن كثير من تحريم النظر إليهن بالكلية، هو ما دفعني إلى اختيار عنوان الباب وهو الذي جعلني أعتقد بتحريم كشف وجوههن في الشهادة وغيرها بعكس ما قد يتجوز فيه بالنسبة لنساء المؤمنين. وأعتقد أن هذا الرأي هو الذي كان يميل إليه الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- حيث قال: (وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه إما أن يحتاج إليه وإما لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه كأن يسألن متاعا أو غيره   (1) انظر تفسير الطبري (22/ 39) . (2) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 227) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 فإنهن يسألن من وراء حجاب أي يكون بينكم وبينهن ستر يستر عن النظر لعدم الحاجة إليه فصار النظر إليهن ممنوعا بكل حال وكلامهن فيه التفصيل الذي ذكره الله) . انتهى «1» . ولو قال الشيخ رحمه الله: (فإن لم يحتج إليه فلا حاجة إليه ويجب تركه) ، لكان أولى؛ لأن الآية تشعر أن الكلام مع أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- إنما يحل فقط في حالة الضرورة؛ كطلب متاع أو غيره، وهذا هو الأولى في تعظيمهن وصيانة حرمتهن. بعض فوائد الآية: الفائدة الأولى: رفيع قدر أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- إذ أنزل الله فيهن قرآنا يوجه الأمة إلى الأمور التالية: أ- تحريم سؤالهن ما احتيج إليه إلا من وراء حجاب، وهذا النهي لا يخص سؤالهن في حال كونهن في البيوت، لعدم التخصيص في الآية. ب- عدم جواز الكلام معهن إلا لحاجة وإلا لما قيّدت الآية الكلام بسؤال المتاع. ج- عدم جواز الدخول عليهن، لأنه إذا كان سؤال المتاع حراما إلا من وراء حجاب فالأولى تحريم الدخول عليهن. د- الحكم بعدم جواز النظر إليهن بالكلية. الفائدة الثانية: حرص الشرع على طهارة قلوب المؤمنين والمؤمنات والحفاظ على سلامتها مما قد يصيبها من حب الفواحش، وأن وسائل الشر ومقدماته تأخذ نفس حكم مواقعة الشر، وهو التحريم، فكل ما من شأنه أن يفضي إلى حرام فهو حرام، وهذا من القواعد الحكيمة لشرعنا الحنيف. الفائدة الثالثة: خطأ من يدعي أنه يمكنه التبسط في الحديث مع الأجنبيات (أو المرأة مع الأجنبي) دون الوقوع في المحظور، بدعوى أن قلبه نظيف ومقصده شريف ولسانه عفيف وهي في محل أخته إلى آخر هذه الأقوال السخيفة التي يتذرع بها الشيطان لإيقاع المسلمين بسببها في الفواحش، والدليل على خطأ هذا الادعاء أن هذه الآية نزلت في حق أفضل الأمة قلوبا ونفوسا وألسنا ومع ذلك عللت الآية تحريم سؤال المتاع إلا من وراء حجاب لأجل سلامة القلب وطهارته.   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 670) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الفائدة الرابعة: لا يحكم أحد على قلبه بالطهارة إلا إذا كان قلبه بعيدا عن حب ارتكاب الفواحش أو حتى تمنى مواقعتها، مع حرصه على البعد عن أسباب ودوافع الوقوع فيها. هـ- تحريم الزواج منهن: قال تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] . من أعظم مظاهر تعظيم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، اللاتي هن أمهات المؤمنين، تحريم الزواج منهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومما يوضح مظاهر ذلك من الآية الكريمة: 1- بدأت الآية الحديث عن تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- بتأسيس قاعدة عظيمة، وهي تحريم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] ، أي ما كان ينبغي لكم أو يليق بكم، وهو أشد أنواع النهي في القرآن الكريم، وهي صيغة مشعرة بأن جميع أنواع الإيذاء في جميع الأحوال محرمة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا استقر هذا المفهوم في القلوب والأذهان جاء ذكر تحريم الزواج من أمهات المؤمنين. 2- ورد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق تحريم إيذائه بأعظم صفاته وهي رَسُولَ اللَّهِ، فلم يذكر باسمه ولم يذكر بصفة النبوة، بل ذكر صلّى الله عليه وسلّم بصفة الرسالة، وإضافة لفظ الجلالة إلى الرسول لها مغزى عظيم، وهو تعظيم أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكونه رسولا من الله- تبارك وتعالى-، والإشعار بأن إيذاءه يسبب- قطعا- إيذاء لله- تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي أرسله، والغرض من ذلك كله هو تعظيم أمر الإيذاء، ولو جاءت الآية بعبارة: (وما كان لكم أن تؤذوا الرسول) ما أفادت هذا المعنى. 3- لفظ: مِنْ بَعْدِهِ يفيد إحدى العلل الرئيسة في تحريم الزواج من أمهات المؤمنين، وهو أن هذا الزواج سيكون بعد نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم لهن، وكفى بذلك تعظيما لتحريم أمر هذا الزواج كما سيأتي- إن شاء الله- عند بيان علل التحريم. 4- قوله تعالى: أَبَداً وهو لفظ يفيد إرادة الله- سبحانه وتعالى- إغلاق جميع أبواب هذا الزواج، وإفادة عدم وجود أي استثناآت أو حالات يمكن القول فيها بحلّ هذا الزواج، فلفظ (أبدا) زادت من تعظيم هذا التحريم، للحكم باستحالة حله في أي زمان أو مكان أو حالة من الحالات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 5- أبلغ مظاهر هذا التحريم جاءت في ختام الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] ، وفيها: أ- بدأت بأداة التوكيد (إن) لتوكيد أمر التحريم عند الله لدى السامع. ب- الفعل الماضي (كان) أفادنا بتحقق هذا التحريم وثبوته. ج- قوله: عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] أفادنا أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أو التزوج من أزواجه قد بلغ المنتهى في التحريم، وأن الله- سبحانه وتعالى- يغضب لهذا أشد الغضب بمقتضى كونه عظيما عنده؛ ولذلك فلا غرابة فيما نقله القرطبي عن الإمام الشافعي- رحمهما الله تعالى- قال: (وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن ومن استحل ذلك كان كافرا) «1» . فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: تحريم فعل ما فيه أدنى إيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء كان هذا الإيذاء بسبب إضافة ما لا يليق إلى شخصه الكريم صلّى الله عليه وسلّم، أو لشرعه المطهر، أو لسنته الشريفة، أو لأهل بيته الكرام الميامين، أو لأحد من أصحابه، فكل ذلك في الإيذاء سواء، ودليله أن الآية نهت عن مطلق إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم دون تقييد بإيذاء مباشر أو غير مباشر، أو إيذاء صغير أو كبير، وذكرت الآية أن هذا الإيذاء- المطلق- هو أمر عظيم عند الله. الفائدة الثانية: في حكمة هذا التحريم الأبدي للزواج من أمهات المؤمنين، ذكر العلماء أسبابا لهذا التحريم، نورد بعضها: قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين) «2» . وقال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (حرّم الله نكاح أزواجه صلّى الله عليه وسلّم من بعده، وجعل لهن حكم أمهات المؤمنين، وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلّى الله عليه وسلّم) ، وأضاف قائلا: (وإنما منع من التزوج بزوجاته لأنهن أزواجه في الجنة وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها) «3» .   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) . (2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 507) . (3) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وقال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى-: (هذا من جملة ما يؤذيه فإنه صلّى الله عليه وسلّم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته بعده يخل بهذا المقام، وأيضا فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته؛ فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته) «1» . ما أجمل ما قاله الإمام القرطبي حيث قال ما نصه: (وإنما جعل الموت في حقه لهن بمنزلة المغيب في حق غيره كونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس) «2» . وأضيف أن من الحكم الجليلة لهذا التحريم: 1- أن أي بيت من البيوت لا يخلو أبدا من الخلافات الزوجية، والتي يحدث فيها أن يرفع الرجل صوته على زوجته أو يوبخها، بل قد يصل الأمر إلى ضربها وهجرها، وهذا قطعا لو تصوّر حدوثه لإحدى أمهات المؤمنين فإنه يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولن يفلح رجل آذى النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة إذا كان هذا الإيذاء في أهل بيته. 2- أعتقد أن من الحكمة الشرعية تحريم مثل هذا الزواج لأنه- كما نقول في كلامنا الدارج- أنّ نسب فشل مثل هذا الزواج أكبر من نسب نجاحه، بل إنه سيكون زواجا محكوما عليه بالفشل، وذلك لاستحالة وجود رجل مهما بلغ من الحكمة والقوة والدين أن يرضي امرأة عاشت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأت منه ما رأت من الكمال والجمال في كل شيء، فلن يمر موقف أو حادث إلا وقارنت بين زوجها وبين ما كانت ترى من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وستكون نتيجة المقارنة أنها لن ترضى من زوجها شيئا، وستسخط عليه في كل شيء، فشتان بين اثنين أحدهما: مشرع متبوع ظهر فضله وسيادته على الناس كلهم جميعا، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني: مشرّع له تابع مفضول بأنبياء وأولياء، وإذا كان هذا هو حال الرجلين، فهل من الأدب أن يحل الأدنى مكان الأكمل؟! 3- إذا كان من الشروط التي يجب مراعاتها عند الزواج- وهي الضمان الأكبر لنجاح الزواج- هو إعمال مبدأ التكافؤ بين الرجل والمرأة، فأين الرجل الكفؤ لامرأة تزوجت من الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ فكانت تفضي إليه ويفضي إليها. فالحمد لله الذي وافق هذا الحكم الإلهي- وهو تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- النقل والعقل.   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 671) . (2) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 الفائدة الثالثة: ما الحكمة في توجيه خطاب النهي عن الزواج بأمهات المؤمنين للأمة، ولم يوجه الخطاب لنساء معدودات- هن أمهات المؤمنين-، وستكون نفس النتيجة، وهي عدم وقوع الزواج منهن، أعتقد أن الحكمة من ذلك قد تكون واحدة أو أكثر من الحكم التالية أو هي جميعا، والله الموفق للصواب. 1- إظهار مكانة وفضل أمهات المؤمنين؛ إذ توجّه الخطاب لكل رجال الأمة. 2- حبس رجال الأمة جميعا عن مجرد التفكير في الزواج بإحدى أمهات المؤمنين؛ إذ إن الخطاب قد توجه لكل فرد من أفراد الأمة. 3- التنويه على أن الأصل في طلب المرأة للزواج أن يصدر من الرجل، فناسب توجيه الخطاب إليه. 4- توجيه خطاب التحريم إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، قد يفهم منه أنه سيحدث قدرا أن يتقدم أحد لخطبة إحداهن فترفضه، وهذا الأمر لا يليق أن يحدث أصلا. 5- قد يكون في توجيه الخطاب للأمة إشارة إلى أن أمهات المؤمنين لا ينبغي لهن التفكير في الزواج بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أنهن لن يفكرن أصلا في ذلك، فيكون من غير الحكمة توجيه الخطاب لهن. 6- الإشارة إلى أن الرجال قد يطمعن في الزواج من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لشرفهن وفضلهن، ولكنهنّ لن يطمعن في أحد من الرجال لأنهم جميعا أقل شرفا وفضلا ممن تشرفن بالزواج منه، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم. تنويه: ذكرت هذا الباب- وهو تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- في سياق الحديث عن شرفهن وفضلهن، ولم أذكره فيما اختص الله- سبحانه وتعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم من خصائص، لأشير إلى عدة نقاط مهمة: 1- فضل الله العظيم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما في تحريم الزواج منهن من حفظ مكانتهن في قلوب المسلمين، وعدم انقطاع صلتهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، فإنهن زوجاته في الجنة بل في المنزلة العالية الرفيعة منها- وهي الوسيلة. 2- التأكيد على أن الله- سبحانه وتعالى- أراد- قدرا وشرعا- تمييزهن عن نساء الأمة، وعدم تسويتهن بهن في واحدة من أوكد حقوق المرأة وهي زواجها بمن تشاء بعد وفاة زوجها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 3- ومن جملة فضلهن في هذه المسألة، أنه لا يخشى عليهن الفتنة بعدم الزواج بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونقطع أن الله يعلم ما هن فيه من اكتمال الإيمان والتقوى الذي يصون أعراضهن، وإلا ما عرضهن للفتنة بعدم الزواج، وهذا أبلغ ما يوضح عظيم فضلهن وعلو قدرهن على بقية نساء الأمة. 4- إيثارهن الله ورسوله على زينة الدنيا ومتاعها، وذلك أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة مع علمهن بتحريم زواجهن بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، مع ما كنّ يلاقينه من شظف العيش وضيق ذات اليد. وتبرئة أعراضهن: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) [النور: 11- 14] . نزلت هذه الآيات الكريمات في تبرئة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، عائشة- رضي الله عنها-، مما خاض فيه طائفة من الصحابة والمنافقين من حديث الإفك، وقد أوردت الحديث كاملا، في باب صبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأذى، وذكرت ما في الحديث من فوائد عظيمة، ولكن إيرادي للآيات هنا لإثبات عظيم شأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله- تبارك وتعالى-، وحرص القرآن الكريم على تبرئتهن وإثبات ما يستحقه الخائضون في أعراضهن الشريفة من العذاب العظيم في الدنيا والآخرة. وسأذكر أولا مظاهر ذلك من الآيات الكريمات ثم بعض فوائد الآيات، وإن كنت أود أن أنبه إلى أن نزول القرآن (ولو آية واحدة تلميحا أو تصريحا) لتبرئة أعراض زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم لهو أعظم دلائل مكانة هؤلاء الزوجات- رضي الله عنهن جميعا- عند الله- تبارك وتعالى- وهو ما تشير إليه عائشة- رضي الله عنها- في الحديث الصحيح: «ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، لكنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرئني الله بها» «1» .   (1) رواه مسلم، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 أولا: مظاهر تعظيم الله- تبارك الله وتعالى- لأعراض زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم وتبرئتهن من كل سوء، وبيان شناعة الأمر الذي وقع وقبحه. 1- تسميته إفكا: والإفك هو الكذب الشنيع، وهو لفظ شديد وقعه على الأذن، حتى وإن لم يفهم المرء معناه الحرفي. وتدبر أخي القارئ جملة: جاؤُ بِالْإِفْكِ [النّور: 11] ، فهي مشعرة أن هذا الإفك كله مختلق ليس له أي أساس من الصحة، كما أنه ليس له مبررات، ولا شواهد تبرر ادعاءه، ومشعرة أيضا أن هذا البهتان دخيل على الجو الإيماني الذي كان يعمر المدينة وقلوب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2- إثبات أن كل من خاض فيه قد تحمل الإثم ؛ لقوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النّور: 11] . فمن عظيم غضب الله لهذه المقولة جاءت الآية بصيغة تؤكد ألّا أحد ممن تكلم مهما بلغت منزلته عفي من تحمل الإثم. 3- نزول الآيات المبّرّئات بأبلغ التسلية: وذلك أن أبلغ ما كانت تريده عائشة- رضي الله عنها-، هو أن يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم رؤيا تبرئها، كما أشرت آنفا، ولكن جاء ما هو أعظم من ذلك، وهو أن الله قد تكلم في شأنها، ولكن هل جاءت الآيات لترفع عنها الشر الذي أصابها فحسب؟ لا، بل جاءت لها بالخير العميم الذي ستناله في الدنيا والآخرة، قال تعالى-: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النّور: 11] وهذا ما قصدته بأبلغ التسلية، ومن بركة عائشة- رضي الله عنها-، أن بسببها نزل الخير لها وللأمة، وما ذلك بغريب عنها فقد ورد عند البخاري، قول أسيد بن حضير لعائشة- رضي الله عنهما-، لما نزلت آية التيمم بسبب فقدان الماء بعد حبس عائشة جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر» «1» . 4- وصف الإفك بأوصاف عديدة: وصف الله- تبارك وتعالى- ما خاض فيه المنافقون وبعض الصحابة بأوصاف شنيعة، بغرض بيان عظم ما وقع فيه الناس عند الله- تبارك وتعالى-، ولتقبيح فعلهم غاية التقبيح، ولزجرهم عن العودة إليه مرة أخرى، وتلك الأوصاف هي: أ- الإفك المبين: والمبين هو البين في نفسه، فالذي وقع من الخوض في عرض عائشة- رضي الله عنها-، هو كذب شنيع ظاهر أنه كذب، ما كان ليختلف اثنان عليه، وكلما كان   (1) أخرجه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ... ، برقم (4607) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الكذب ظاهرا بيّنا لكل أحد، كان الوقوع فيه أعظم جرما؛ لعدم التباس أمره على الناس، وفي وصفه بهذا الوصف أبلغ المدح لعائشة- رضي الله عنها-، حيث وضحت الآية أن الحديث كان إفكا، وهو إفك ظاهر بيّن، وما كان هذا وصفه لا يحتاج إلى إقامة الدليل لنقضه. قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى- في شرح قوله تعالى: إِفْكٌ مُبِينٌ [النّور: 12] ما نصه: (أي كذب ظاهر على أم المؤمنين- رضي الله عنها-، فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل هذا على رؤس الأشهاد، بل كان يكون هذا لو قدّر خفية مستورا) . انتهى «1» . كما أنوه أن وصف الإفك بأنه مبين فيه توبيخ شديد لمن وقع فيه. ب- الأمر العظيم: من مظاهر تقبيح القرآن الكريم لهذا الإفك، وصفه بأنه عظيم، ولبيان شدة عظمه أن الله- تبارك وتعالى- نسب هذا العظم إليه، فقال: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النّور: 15] ، ولم يقل: (وتحسبونه هينا وهو عظيم) . ج- البهتان العظيم: قال تعالى: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النّور: 16] . وتدبر أخي القارئ كم مرة ذكر لفظ عَظِيمٌ [النّور: 16] في تلك الآيات المباركات، فقد ذكر أن الأمر عند الله عظيم والبهتان عظيم والعذاب المترتب عليه عظيم، وما ذلك إلا ليستشعر المؤمن عظم الأمر عند الله- تبارك وتعالى-. د- نفي جواز التكلم به: لقوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النّور: 16] ، فجاء القرآن الكريم بتأديب الصحابة- رضي الله عنهم- بما ينبغي أن يفعلوه إذ سمعوا ذلك الإفك، وهو أن يقولوا: (إنه لا ينبغي لنا أن نتفوه وننطق بهذا الكلام) ، فأرشدهم الله- سبحانه وتعالى- بعدم الوقوع في هذا الإفك بأقل مباشرة ممكنة وهو مجرد الكلام، وهذا أبلغ بيان لفحش هذا الإفك، وإذا كان الكلام فيه محرما، فكيف إشاعته أو اعتقاده؟! - نعوذ بالله من هذا-. هـ- بيان أن نفي الإفك من مقتضيات تنزيه الله- سبحانه وتعالى -: لقوله تعالى: ما   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 274) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ [النّور: 16] ، فأشارت الآية إلى أن الباعث على نفي التكلم بهذا الإفك هو تنزيه الله- سبحانه وتعالى- أن يمسّ عرض وجناب خاتم أنبيائه وسيد مرسليه بسوء، وهذا صحيح؛ لأن الحكمة الإلهية تقتضي أن يحفظ الله- سبحانه وتعالى- عرض نبيه صلّى الله عليه وسلّم باختيار زوجات كريمات عفيفات طاهرات، ولأن تدنيس عرض واحدة منهن يشكك في أعراضهن جميعا، وهو كذلك ضرر متعدّ لنبيه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن من شأنه القدح في ذريته وأهل بيته، وهو كذلك ضرر متعدّ أيضا للدين كله لما سيترتب عليه من رد جميع العلم المنقول للأمة من جهة زوجاته- رضي الله عنهن جميعا-، وهذا خطره عظيم، واسمع لما قاله الله- تبارك وتعالى- في آية كريمة جاءت بعد آيات الإفك: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النّور: 26] . قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسير الآية الكريمة: (أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا وهي طيبة لأنه صلّى الله عليه وسلّم أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا) «1» . 5- وصف الخائضين بأقبح الصفات: وصفت الآيات الذين خاضوا في الإفك بأقبح صفة يمكن أن تلحق بمسلم، وهي صفة الكذب، وكفى بتلك الصفة تشنيعا بأصحاب مقولة الإفك، ولم يقتصر الأمر على ذلك، أو ذكر أنهم كاذبون عند الناس- أي في أوساط الناس-، بل ذكرت الآية أنهم كاذبون عند الله- أي في علم الله- تبارك وتعالى-، فكان ذلك تشنيعا على تشنيع. كما وصفت الآيات الكريمات الخائضين في الإفك بأنهم يقولون ما لا علم لهم به، قال تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النّور: الآية 15] ، فكان كلامهم عن جهل بحقيقة الأمر، وجهل بعظمه وجهل أيضا بعلو شأن وقدر من خاضوا في عرضها، وهي زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم. 6- إثبات العذاب العظيم للخائضين في الإفك: قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النّور: 14] . فالآية قد أثبتت أن الخائضين في الإفك يستحقون عذابا موصوفا بالعظيم، للدلالة على شناعة ما وقعوا فيه.   (1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 279) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 والغريب هو ما أشارت إليه الآية، بأن عدم نزول العذاب احتاج إلى شمول عباد الله المذنبين بصفتين من صفات الكمال المستحقة لله- تبارك وتعالى-، وهما الفضل والرحمة، ولو أن هذه الآية قد أوضحت ما كان يمكن أن يقع للمذنبين لولا فضل الله ورحمته، فإن الآية الآخرى، وهي قوله- تعالى-: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [النّور: 20] أبهمت ما كان يمكن أن يصيب الخائضين، والغرض من هذا الإبهام هو المزيد من التخويف والتهويل من شأن العذاب، فلله الحمد والمنة على وافر فضله وواسع رحمته، التي كان من أثرها أن رفع العذاب العظيم بعد استحقاقه. وإن كان لي تعليق بعد ذكر ما جاء في الآيات الكريمات، فأقول: إنني لم أذكر تلك الآيات لبيان براءة عائشة- رضي الله عنها- حاشا لله- فإن شأني أحقر من ذلك بكثير، وهل هي في حاجة إلى أن يبرئها أحد من الخلق بعد أن برأها رب الخلق؟! ولكني ذكرت تلك الآيات فقط لبيان اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم وأزواجه العفيفات، وغيرته على عرض نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فليس الشأن أن نعلم كم آية نزلت في عائشة- رضي الله عنها-، ولكن الشأن كل الشأن أن نعلم كيف جاء نظم تلك الآيات وما فيها من الدفاع عن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان ذلك إلا لاقترانهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. ثانيا: بعض فوائد الآيات الكريمات: الفائدة الأولى: لا يتعجل المسلم الحكم على الأمر الذي أصابه أنه شر، فقد يكون فيه كل الخير له، كما أن المسلم المحتسب لن يحرم الخير في كل بلاء أصابه، لما رواه مسلم في صحيحه، عن صهيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبا لأمر المؤمن! إنّ أمره كلّه خير، وليس ذاك لأحد إلّا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له» «1» . الفائدة الثانية: كذب مقولة: «كل دخان من نار» أو «ليس دخان إلا من نار» ؛ لأن واقعة الإفك كان فيها دخان كثيف بدون نار، فيجب الانتهاء عن هذه المقولة لأنها قد تكون بمثابة قذف الأبرياء. الفائدة الثالثة: عدل الله المطلق في حكمه بين العباد؛ إذ أثبتت الآية أن المرء لا يسأل   (1) رواه مسلم، كتاب: الزهد، باب: المؤمن أمره كله خير، برقم (2999) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 إلا بقدر ما اكتسبه من الآثام، قال- تعالى-: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النّور: 11] . وفي هذا إشارة إلى عدم استوائهم جميعا في مقدار الإثم، ودليله قوله- تعالى- في تمام الآية: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [النّور: 11] ، ففرّق بين أول من تكلم بالإفك وحرص على إشاعته وبين من نقله لقلة تقواه أو لذهوله عما كان يجب عليه أن يفعله إزاء هذا الإفك. الفائدة الرابعة: بيان واسع فضل الله ورحمته لعموم المؤمنين، وأن هذا الفضل وتلك الرحمة لا يعدمها أصحاب المعاصي والآثام مهما بلغت ذنوبهم، إن هم تابوا وأقلعوا. الفائدة الخامسة: لم تذكر الآيات الكريمات اسم عائشة- رضي الله عنها-، للإشارة إلى أن تعظيم أمر الإفك لم يكن بسبب شخص عائشة- رضي الله عنها-، ولكن لأن الحادثة تتعلق بإحدى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا التهديد والوعيد ينسحب على كل من يتكلم على أي واحدة منهن، فهن في ميزان الشرع سواء، بل إن الطعن في عرض واحدة كالطعن في عرضهن جميعا، ولذلك فضلت أن أذكر في التعليق على الآيات، (أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم) بصيغة الجمع، ترسيخا لهذا الأصل. الفائدة السادسة: يجب على كل مسلم أن يظن بإخوانه خيرا كما يظن بنفسه سواء بسواء، وأن يغضب لعرض أخيه كما يغضب لعرض نفسه، لقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النّور: 12] . وهذا المسلك يسهل على المؤمن إذا تذكر ما رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» «1» . ويؤخذ من الآية أيضا أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولى ببعض. الفائدة السابعة: قد يطلق الظن في القرآن في حق العباد، ويراد به اليقين، لقوله- تعالى-: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ [النّور: 12] . الفائدة الثامنة: نصاب الشهود في حد الزنا أربعة شهداء، فمن شهد على أحد بالزنا ولم يكن معه هذا النصاب يقام عليه حد القذف. الفائدة التاسعة: ذم من يتكلم بلسانه ويقول بفيه ما ليس له به علم، والتحذير الشديد من ذلك؛ لقوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النّور: 15] . الفائدة العاشرة: الفقه في الدين وتعلّم الحلال والحرام هو الذي يقي الإنسان-   (1) رواه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم (13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 بإذن الله تعالى- من الوقوع في المعاصي والآثام؛ لأن العلم هو الذي يضمن للمسلم توافق ما عنده مع ما عند الله؛ قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النّور: 15] ، فيكون من الله أخوف، ومن المحرمات أبعد. الفائدة الحادية عشرة: النهي عن التكلم بالسوء- حتى من دون اعتقاده- خاصة إن لم تكن هناك مصلحة شرعية، فإن كانت هناك مصلحة فيجب أن يكون الكلام بما يحقق المصلحة، يصدق ذلك قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النّساء: 148] . الفائدة الثانية عشرة: في قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً [النّور: 17] ، أبلغ إشارة إلى أن وقوع الفاحشة من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في حيز المستحيل وغير ممكن الوقوع؛ وذلك لورود النهي المطلق عن الخوض في أعراض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم دون تقييد لحال دون حال، فلم تأت الآية بقوله: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إلا ببينة) . وإذا تدبرنا قوله تعالى: أَبَداً [النور: 17] علمنا أن التحذير الشديد عن هذا الإفك ينسحب على جميع الأحوال والأزمنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 سابعا: ثناء الله وثناء رسوله صلّى الله عليه وسلّم على زوجاته وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم جميعا- وكل ثناء عليهم فهو ثناء عليه من باب أولى 1- الثناء على زوجاته صلّى الله عليه وسلّم: قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب: 32] . 2- سلام الله عز وجل والروح الأمين على خديجة بنت خويلد: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» «1» . رواه البخاري. ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن عليّ رضي الله عنه يقول: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة» «2» . 3- سلام الروح الأمين على عائشة (- رضي الله عنها-) : عن أبي سلمة عن عائشة- رضي الله عنها- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السّلام» . فقالت: وعليه السّلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى؟! تريد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» . 4- فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مرحبا بابنتي» . ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثمّ أسرّ   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: تزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم خديجة، برقم (3821) . (2) رواه البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ ... [آل عمران: 42] (3432) . (3) رواه البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، برقم (6249) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 إليها حديثا، فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا، فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عمّا قال، فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى قبض النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألتها فقالت: أسرّ إليّ: «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة وإنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه إلّا حضر أجلي، وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقا بي» . فبكيت، فقال: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة أو نساء المؤمنين» . فضحكت لذلك «1» . 5- الثناء على أصحابه: أ- الثناء العام في القرآن (على المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم) : قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] . وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29] . فقد أثنى الله عليهم بأنهم في معية رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أي معه على طريقته وسنته، كما أثنى عليهم بكمال الباطن أنهم أشداء على الكفار وهذا يقتضي بغض الكفار في الله ومعاداتهم والتبرؤ منهم من باب أولى، والصحابه رحماء بينهم، وهذا يقتضي حبهم في الله والولاء فيما بينهم والنصرة. وتأمل أنه بدأ بالشدة وثنى بالرحمة، فكأن الرحمة في قلوبهم بعضهم لبعض لن تكون إلا بعد بغضهم للكفار، فيجب تطهير القلب أولا من حب الكفار، حتى يتمكن حبّ المؤمنين في القلب، وصدق من قال: التخلية قبل التحلية، فالشدة على الكفار من باب التخلية، كما أثنى عليهم بكمال الظاهر أنهم مستغرقون في عبادة الله عز وجل، يظهرون وهم في أشرف الأحوال (الركوع والسجود) شدة الافتقار إلى الله يبتغون الفضل والرضا. كما قال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8] . وقال تعالى في حق الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية [الحشر: 9] . كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] ، وبذلك يكون الله   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3624) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 عز وجل قد أثنى على المهاجرين والأنصار وكل من اتبع رسوله صلّى الله عليه وسلّم بإحسان إلى يوم الدين، وكفى بذلك شرفا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعليه؛ فقد خرج من هذا الثناء كل من تعرض لأصحابه- رضي الله عنهم جميعا بسوء في القول أو الاعتقاد-؛ لأن ذلك يدل على أنّ في قلبه غلّا للذين آمنوا. فعن أنس رضي الله عنه قال: بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلمّا قدموا، قال لهم خالي: أتقدّمكم فإن أمّنوني حتّى أبلّغهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإلّا كنتم منّي قريبا، فتقدّم فأمّنوه فبينما يحدّثهم عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر فزت وربّ الكعبة، ثمّ مالوا على بقيّة أصحابه فقتلوهم إلّا رجلا أعرج صعد الجبل. قال همّام: فأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السّلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّهم قد لقوا ربّهم فرضي عنهم وأرضاهم، فكنّا نقرأ: أن بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا ثمّ نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصيّة الّذين عصوا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم «1» . ب- إثبات معية الله وصحبة رسوله لأبي بكر الصديق: عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا. فقال: «ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!» «2» . مر الكلام عليه مبسوطا في باب معية الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم. ج- موافقة عمر بن الخطاب لربه: عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (وافقت ربّي في ثلاث؛ فقلت: يا رسول الله لو اتّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى! فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلّمهنّ البرّ والفاجر! فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه، فقلت لهنّ: عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدّله أزواجا خيرا منكنّ، فنزلت هذه الآية) «3» . د- فرار الشيطان من عمر بن الخطاب عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده نساء من قريش   (1) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: من ينكب في سبيل الله، برقم (2801) . (2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم ... ، برقم (3653) . (3) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة ... ، برقم (402) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 يكلّمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبت من هؤلاء اللّاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» . قال عمر: فأنت يا رسول الله أحقّ أن يهبن. ثمّ قال عمر: أي عدوّات أنفسهنّ أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قلن: نعم أنت أغلظ وأفظّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والّذي نفسي بيده ما لقيك الشّيطان قطّ سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك» «1» . هـ-- اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ: عن جابر رضي الله عنه سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ» «2» وتأييد الروح القدس لحسان بن ثابت: عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف أنّه سمع حسّان بن ثابت الأنصاريّ يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله هل سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: يا حسّان أجب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ أيّده بروح القدس» قال أبو هريرة: نعم «3» . ز- شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين: روى البخاري في صحيحه عن خارجة بن زيد أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: نسخت الصّحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها فلم أجدها إلّا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الّذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادته شهادة رجلين وهو قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] «4» . ح- نزول القرآن في أنس بن النضر: قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) [الأحزاب: 23] . عن ثابت قال: قال أنس: (عمّي الّذي سمّيت به لم يشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا،   (1) رواه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه، برقم (2397) . (2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه، برقم (3803) . (3) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الشعر في المسجد، برقم (453) . (4) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: قول الله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ... ، برقم (2807) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 قال: فشقّ عليه قال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غيّبت عنه، وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليراني الله ما أصنع؟ قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمر وأين؟ فقال: واها لريح الجنّة، أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتّى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمّتي الرّبيّع بنت النّضر: فما عرفت أخي إلّا ببنانه. ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، قال: فكانوا يرون أنّها نزلت فيه وفي أصحابه «1» . الشاهد في الحديث: قول الراوي في آخر الحديث: فكانوا يرون أنها نزلت فيه- أي في أنس- وفي أصحابه- أي الذي شهدوا معه غزوة أحد. - وقد أثنت عليهم آية الباب بصفات حميدة: الأولى: أنهم رجال، وهذه اللفظة تعطي للسامع انطباع القوة والشجاعة والهمة العالية، مثاله قوله تعالى في الثناء على أهل مسجد قباء: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التّوبة: 108] . ولم تذكر لفظة رجال في القرآن إلا للمديح. الثانية: أن هؤلاء الرجال فيهم صفة الصدق وهي صفة كمال، قلّ من يتصف بها. الثالثة: أن هؤلاء الرجال عاهدوا الله- سبحانه وتعالى-، فكان خروجهم للجهاد لله، وفي ذلك تزكية عظيمة لهم؛ إذ إن نية خروجهم لا يشوبها أي شائبة، بل كانت وفاء للعهد مع الله، والذي يدل على تلبسهم بهذا العهد ووفائهم به أنه قال: صَدَقُوا. الرابعة: وهي من كمال صدقهم مع الله وإخلاص النية، مع كمال رجولتهم أنهم لم يبدلوا أي تبديل ولم يدخل في عهدهم أي تسويف أو شبهة رياء، وهذا من باب التوكيد الشديد على وفائهم بالعهد وصدق نياتهم. فقد ينوي الإنسان عمل الخير إذا استطاع وهو صادق في نيته، ولكن إذا جاء الاختيار ويسّر له العمل ووافته الفرصة تقاعس وسوّف أو بخل واستغنى، كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.   (1) رواه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1903) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 [ فوائد الحديث ] أما الحديث ففيه الفوائد التالية: الفائدة الأولى: مشروعية التسمية بأسماء أهل الفضل والعلم رجاء أن يكونوا أمثالهم، لأن أنس بن مالك في أول الحديث يشير إلى أن تسميته بهذا الاسم جاءت لتوافق اسم عمه أنس بن النضر، وحيث إن هذا الاسم مجردا لم يرغب فيه الشارع، علمنا أن تسمية أنس بن مالك من قبل والدته لم تأت إلا لتوافق اسم أنس بن النضر. الفائدة الثانية: وفيه بيان ما كان يلاقيه الصحابة من مشقة وحرج لتخلفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أي أمر من أموره لقوله: «فشق عليه» ، وكان يقصد بذلك، كما نص الحديث، غيابه عن غزوة بدر، وهذه المشقة التي يجدها في نفسه كانت في أمر لم يعزم فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم حضوره، ولم يعتب على من تخلف، فقد رغبهم فقط في حضور بدر، لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقصد العير ولم يقصد القتال، وأراد الله أمرا آخر، فما بالكم لو كان أنس بن النضر تغيب عن موقعة بدر وكان حضوره وشهوده مع الرسول واجبا. الفائدة الثالثة: الأمر عند الصحابة يعظم إن كان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء كان غزوات أو غيرها، لأن أنس بن النضر قال: (في أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . ولو كان الأمر عنده سواء، ما ذكر أن المشهد شهده رسول الله، ولقال أي كلمة غيرها، مثل: أول مشهد في الإسلام، أو أول مشهد ضد كفار قريش، حتى لما عاهد الله أن يعوض ما فات نص على أن يكون المشهد مع رسول الله لتكون واحدة بواحدة. وهذا يدل كما أسلفنا على تعظيم الصحابة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالغزوة التي يغزونها معه لا تستوي مع السرايا. وهذا هو الواجب على كل مسلم إلى قيام الساعة أن يستشعر مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولن يحدث هذا إلا بالاطلاع على سيرته، سواء من القرآن أو السنة. ويؤخذ من الحديث أن على المسلم أن يحرص على مصاحبة العلماء وأهل الخير لأن في صحبتهم البركة، لأنه لن تخلو مجالسهم من ذكر أو مدارسة بعكس أصحاب السوء. الفائدة الرابعة: على المسلم إذا فاته أمر من أمور الخير والقرب إلى الله، حاول تعويض ما فاته، وأن يعزم النية على استدراك أمر الخير مستقبلا، حتى وإن لم يكن الذي فاته أمرا واجبا، فحضور الغزوة لم يكن واجبا. الفائدة الخامسة: بيان ما كان عليه الصحابة من ورع وتقوى وعدم التحدث كثيرا عما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 في قلوبهم من النيات الصادقة، فإن أنس بن النضر قال: ليراني الله ما أصنع! قال الراوي: فهاب أن يقول غيرها، أي أنه لم يقل: سأفعل وأفعل في المعركة، وذلك مخافة أن يعجز أو مخافة العجب منه أو به، أو قد يكون ذلك تواضعا مع الله عز وجل، ولا مانع من إرادته كلّ ذلك. فعلى كل مسلم أن يتعلم هذه الأخلاق الحميدة ويعمل بها، فيضمر في قلبه ما فعله لله عز وجل وما هو عازم أن يفعله، وإن كانت هناك مصلحة في التكلم كان بقدر الحاجة فقط، والله عز وجل مطلع على البواطن اطلاعه على الظواهر سواء بسواء، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] ، وهو يعلم إن كان الرجل يتكلم لمصلحة أم لا، وإن كان تكلم بقدر الحاجة أو توسّع بما لا يفيد. الفائدة السادسة: وفي الحديث نرى ما كان عليه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من شجاعة وإقدام وتضحية وفداء لله ورسوله، فقد طعن أنس بن النضر أكثر من ثمانين طعنة قبل أن يلاقي ربه، ولا شك أنه ما كان يطعن إلا وهو يحارب، فكيف كان يتحامل على نفسه ويقف شامخا يحارب مع كل تلك الطعنات مما ضيع معالمه كلها فلم تعرفه أخته إلا بإصبعه. الفائدة السابعة: بيان حب الصحابة الشديد للجنة، فكانوا يبذلون من أجلها النفس والنفيس، والله إني لأتعجب غاية العجب كيف كانوا يحرصون على الشهادة وهم يعلمون أنهم بموتهم سيفارقون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الأعز عندهم؟! كيف كانوا يتحملون أن يذهبوا إلى القتال ويودعوا الرسول، وهم يعلمون أنهم لن يروه مرة أخرى في حال شهادتهم، ولكن أقول في نفسي: إنهم أحبوه بعقولهم وقلوبهم، فقدموا الشهادة في سبيل الله على الصحبة في الدنيا، وذلك لأنّ صحبة الدنيا ستنقطع لا محالة إما لموتهم أو موت النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه بشر قال الله فيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزّمر: 30] . وبموتهم في سبيل الله ضمنوا صحبته الأبدية في الجنة. الفائدة الثامنة: طمع الصحابة في الجنة لأن أنس بن النضر رضي الله عنه اندفع إلى المعركة اندفاعا شديدا وأبلى فيها بلاء حسنا، وكان آخر ما قال فيما علمنا: «لريح الجنة أجده دون أحد» ، فكأن هذا هو الذي دفعه للموت في سبيل الله، ومن هنا نعلم خطأ بل جهل من يقول: إنني أعبد الله حبّا له ليس طمعا في الجنة، إنما هي عبادة التجار، وهذا تكذبه آيات القرآن الكريم الكثيرة التي تبين أبلغ تبيان أن المؤمنين يعبدون الله طمعا في جنته، وخوفا من عقابه بل حتى الملائكة الذين جبلوا على الطاعة إنما يخافون الله عز وجل ويظهرون هذا الخوف لأنه من تمام عبوديتهم لله، بل إن الله هو الذي رغب عباده في الطاعات بأن جعل ثوابها الجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التّوبة: 111] . هذا، وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من مغبة المعاصي ورغّبهم في التوبة منها، حتى لا يقع عليهم العذاب، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التّحريم: 6] . أما الملائكة فقال في حقهم: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28] ، والخشية هي الخوف مع المحبة والإجلال، ومُشْفِقُونَ أي وجلون من ربهم، وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم فهم مجبولون على الطاعة والتسبيح، وقال تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النّحل: 50] . فهل بعد بيان الله من بيان؟!، وهل يتجرأ أحد أن يظن أنه أفضل من الصحابة في فهم نصوص الكتاب والسنة، أو أنه أتقى لله منهم، وأنه يعبد الله بعبادة الحب التي هي في ظنه أفضل من الخوف والرجاء؟! حتى قال أحدهم: لو بنى الله لي خيمة في النار فأدخلها وأنا عنه راض. وقال الآخر: اللهم إن كنت أعبدك طمعا في جنتك فلا تدخلنيها أبدا، وإن كنت أعبدك خوفا من نارك فأدخلنيها. أقول: ما هذه الجرأة على الله عز وجل، وما هذه الاستهانة بالجنة أو بالنار، ألم يسمعوا ما قاله الله في القرآن الكريم على لسان الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل الخلق بعد نبينا؟!: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشّعراء: 82] ، وذلك خوفا من عقوبتها وهو من هو. وقال تعالى على لسانه أيضا: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشّعراء: 85] . فالحاصل أن أهل السنة يعبدون الله عز وجل حبّا في الله وبما أنعم عليهم من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة، كما أنهم يعبدونه ويتوسلون له ويتذللون لعظمته آناء الليل وأطراف النهار لينالوا المرغوب فيه وهو الجنة، وينجوا من المرهوب منه وهو النار. ط- نور أسيد وعباد بن بشر: عن أنس رضي الله عنه: (أنّ رجلين خرجا من عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ليلة مظلمة وإذا نور بين أيديهما حتّى تفرّقا فتفرّق النّور معهما، وقال معمر عن ثابت عن أنس: إنّ أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار. وقال حمّاد: أخبرنا ثابت عن أنس: كان أسيد بن حضير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وعبّاد بن بشر عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) «1» . ي- نزول السكينة بقراءة أسيد بن حضير: عن أبي إسحاق: سمعت البراء بن عازب- رضي الله عنهما- يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدّار الدّابّة فجعلت تنفر فسلّم فإذا ضبابة أو سحابة غشيته، فذكره للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اقرأ فلان فإنّها السّكينة نزلت للقرآن، أو- تنزّلت للقرآن» «2» . ك- تبشير الكثير منهم بالجنة في حياتهم: وإيراد جميع آيات الثناء على الصحابة في القرآن يحتاج إلى مؤلف خاص.   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: منقبة أسيد بن حضير ... ، برقم (3805) . (2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3614) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 ثامنّا: دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلّى الله عليه وسلّم: 1- تكذيب ادعائهم إضلاله صلّى الله عليه وسلّم لهم: قال تعالى على لسان الكفار أنهم قالوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 42] . ادعى الكفار أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كاد أن يكون السبب في إضلالهم وصرفهم عن عبادة الأوثان، فدفع الله هذا الادعاء الكاذب، بإثبات أنهم سوف يرون العذاب، وما داموا سيرون العذاب، علمنا أنهم هم الذين على ضلال، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي على الحق المبين، قال الشيخ السعدي- رحمه الله- في تفسيره للآية: «إن كاد- هذا الرجل- ليضلنا عن آلهتنا- بأن يجعل الآلهة إلها واحدا- لولا أن صبرنا عليها- لأضلنا- أي زعموا- قبحهم الله- أن الضلال هو التوحيد، وأن الهدي ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه، قال- تعالى-: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] . انتهى «1» . بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: اجتهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم غاية الاجتهاد في ثني الكفار عن عبادة الأوثان، حتى أو شك أن يفعل ذلك لولا تواصيهم بالصبر على عبادة الأوثان، وما قاله المشركون من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كاد أن يضلهم هو أبلغ الثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث أرادوا ذمه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو المنتهى في الغباء من الكفار. الفائدة الثانية: إذا كان الكفار قد تواصوا فيما بينهم بالصبر على عبادة الأوثان، وهو ضلال بيّن لكل عاقل، فمن باب أولى أن يتواصى المسلمون بالصبر على الحق البين الذي هم عليه. الفائدة الثالثة: يرى الناس- كلهم جميعا- يوم القيامة الحق حقّا، والباطل باطلا، وتزول عن أعينهم الغشاوات التي كانت تحول بينهم وبين رؤية الحق، ودليله من الآية قوله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 583) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 2- شبهة الأكل والمشي في الأسواق: قال- تعالى-: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 7] . الشاهد في الآية: أراد الكفار أن يطعنوا في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بأنه يحتاج، كبقية البشر لأكل الطعام، والمشي في الأسواق ليؤمن حاجاته، فرد الله عزّ وجلّ شبهتهم بقوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان: 20] ؛ أي: أن كل الأنبياء قبله كانت عادتهم وطبيعتهم التي فطرهم الله عزّ وجلّ عليها، أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل، قال- تعالى-: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] . بعض فوائد قوله- تعالى- : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) : الفائدة الأولى: إذا كان الكفار قد كذبوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فقد أقام القرآن عليهم الحجة أنهم قد كذبوا بكل الرسل؛ لأنهم جميعا كانوا يباشرون ذلك، وقد بين القرآن- في عدة مواضع- أن الذي يكذب رسولا، فقد كذب بجميع الرسل، لأن ربهم واحد ودعوتهم واحدة، فقوم نوح أرسل إليهم نبي واحد، ومع ذلك قال الله- سبحانه وتعالى- في حقهم: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ، يتفرع على ما ذكر أن الكفار يضاعف عليهم العذاب يوم القيامة؛ لأن الذي يعذب بتكذيبه رسولا واحدا، ليس كالذي يعذب على تكذيب كل الرسل. الفائدة الثانية: بينت الآية الحكمة من رفع الناس بعضهم على بعض، بما يذهب غيظ قلوبهم، وما يجدونه من حقد وحسد من بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعلت الآية تفاضل الناس بعضهم على بعض، فتنة واختبارا، ليرى عزّ وجلّ أيصبرون على ذلك أم لا، ولكن الحسد أعمى قلوبهم، قال- تعالى-: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . الفائدة الثالثة: من حكمة الله- سبحانه وتعالى- إرسال المرسلين من جنس من أرسل إليهم، يأكلون ويشربون، يمرضون ويموتون، يتزوجون ويتناسلون؛ قال الله- تعالى-: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ [الأنبياء: 8] ، والله عز وجل كان قادرا أن يرسل فيهم ملائكة، ولكن سيكون لهم شبهة أخرى، وهى كيف نتبع من ليس منا ولا على شاكلتنا، وهل يعقل أن يكون القدوة إلا من نفس جنس المأمور بالاقتداء، هم لم يرضوا أن يقتدوا بمن يتكلم بلسانهم، ويعلمون مدخله ومخرجه منذ ولادته، فهل كانوا سيرضون بمن ليس من جنسهم البشري. وكفى لهم حجة أن يقولوا: هو يستطيع ما لا نستطيع، ويقدر على ما لا نقدر عليه، والله قد امتن على الأمم أن الرسول كان منهم ويتكلم بلسانهم، قال تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، ولو قدر الله عز وجل إرسال ملائكة، لأرسلهم على هيئة رجال، حتى يتمكن البشر من الأخذ منهم، قال- تعالى-: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] . الفائدة الرابعة: في الآية تزكية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث اختتمت الآية بقوله- تعالى-: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً فهو بصير بعباده، يعلم من يستحق منهم شرف النبوة، ومن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، فببصيرته بالخلق، جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، قال- تعالى-: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ، وختم على قلوب المعاندين من كفار قريش، فرفعت الآية قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفعت شبهة المبطلين، وحكمت عليهم باستحقاق الضلال. 3- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلمه بشر: قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] . وهذه الآية- أيضا- نزلت لدفع إحدى الشبهات التي أثارها كفار مكة حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعلم القرآن من غلام أعجمي- لا يتكلم العربية- فكذبهم القرآن الكريم، وأظهر براءة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعلى شأن ما أنزل إليه، بأن وصفه باللسان العربي المبين، أي أنه أفصح ما يكون من العربية ذكر القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق في سبب نزول الآية وفيمن نزلت قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني- كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له: جبر النصراني كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلقنه القرآن» انتهى. «1» وكل التفسيرات لا تختلف إلا في اسم الغلام   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (10/ 177) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الذي كان يجلس إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال القرطبي في اختلاف أسماء هؤلاء: «والكل محتمل؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله وكان ذلك بمكة، وقال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأنه يجوز أن يكونوا أومئوا إلى هؤلاء جميعا وزعموا أنهم يعلمونه» انتهى «1» . ولا شك أن اهتمام القرآن برد كل فرية افتراها الكفار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهي من دلالات الاعتناء الإلهي به، والحرص على تبرئة ساحته، وكان يمكن أن يقوم هو بالدفاع عن نفسه، ولكن نزول القرآن كان أجل وأعظم. بعض فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: بيان كره الكفار للرسول صلّى الله عليه وسلّم ولما أنزل إليه من الآيات والذكر الحكيم، واتضح ذلك جليّا في محاولاتهم إثبات أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يوحى إليه من ربه. الفائدة الثانية: غباء الكفار وسفاهة عقولهم، حيث اتهموا النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه يتعلم القرآن من أعجمي لا يجيد العربية، ويبدو أن الحقد قد أعمى قلوبهم وأذهب عقولهم فلم يجيدوا حتى الكذب. وقد يكون هذا من باب مكر الله بهم، حيث جعلهم يتكلمون بما يفضحهم ويبين كذبهم وحقدهم وتخبطهم. الفائدة الثالثة: هذه الواقعة ومثيلاتها لهي أبلغ برهان على أن القرآن كتاب من عند الله عزّ وجلّ، والدليل من الواقعة أن الذي يكذب- كما فعل الكفار في هذه الفرية سرعان ما يتضح كذبه ويفضح بين الخلائق وهو لا يستطيع أن يستمر في إتقان كذبه مدة طويلة، وكما ذكرت فهو من مكر الله به، فهل يعقل أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم- من عند نفسه- بهذا القرآن ويتكلم به على مدار ثلاث وعشرين سنة، ولا يظهر للناس جميعا على اختلاف مللهم ونحلهم أيّ تناقص في الكتاب الكريم ينم عن الكذب أو حتى التناقض. الفائدة الرابعة: بيان ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من حرص على تبليغ الدعوة إلى كافة الناس عربهم وعجمهم، ودليله ما ذكره المفسرون في سبب نزول الآية، من أنه كان يجلس إلى الغلمان الأعاجم يعلمهم القرآن، فسبحان الله العظيم، كلما أراد الكفار أن يخفضوا من مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم تكون أجل مناسبة ليعلي الله شأنه ويرفع ذكره   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن (10/ 178) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ألم تر أن الله ختم الآية بقوله: وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فقد زكى القرآن الذي أنزل إليه من الوحي غاية التزكية، وهي تزكية له صلّى الله عليه وسلّم. 4- كذب الادعاء بأن الله قد قلاه صلّى الله عليه وسلّم: عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمّد إنيّ لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) تقرأ بالتّشديد والتّخفيف؛ بمعنى واحد: ما تركك ربّك وقال ابن عبّاس: ما تركك وما أبغضك «1» . وهذا أيضا من باب كذبهم وافترائهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث ادعوا كذبا وحقدا أن الذي يأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو شيطان، وليس وحيا من السماء. ونتكلم أولا عن فوائد الحديث، وإن كانت الآيات أشرف، إلا أن الحديث هو سبب نزول الآيات الكريمات. أولا: بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عناية الله عزّ وجلّ بنبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث أنزل قرآنا يسلّي فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ويرد على مقالة الحاقدين، وكان يكفي للرد على مقولة أم جميل العوراء أن يتواصل الوحي، ولكنه الحب. الفائدة الثانية: ورد في صحيح البخاري روايتان، إحداهما بلفظ: «قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك فنزلت: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) ، والثانية بلفظ: «فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك» ، وقد رجح ابن حجر- رحمه الله- أن تكون صاحبة المقالة الأولى هي: خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنها قالت: «يا رسول الله» وعبرت عن جبريل بقولها: «صاحبك» . وصاحبة المقالة الثانية هي: أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب وامرأة أبي لهب «2» ، ويكون معنى كلام ابن حجر أن الآية نزلت ردّا على المقالتين، ولكن شتان بين المراد من المقالتين، فالأولى قيلت توجعا وأسفا والثانية قيلت تهكما وشماتة.   (1) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، برقم (4950) ، ومسلم، كتاب: الجهاد، باب: ما لقى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين، برقم (1797) . (2) انظر فتح البارى (3/ 9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 الفائدة الثالثة: كره الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما ينزل عليه من الوحي، وتمنيهم لو أن هذا الوحي قد انقطع، لقول أم جميل: «يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك» فقد سمته شيطانا وتمنت أن يكون قد ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثانيا: الآيات الكريمات: كما تعودنا من صنيع القرآن، وكما بينت في المواضع سالفة الذكر، أن القرآن العظيم لا ينزل لدفع تهمة أو درء شبهة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ونزل معها في الآيات ما يفرحه ويقر عينه، إلا أن سورة الضحى كانت أبين ما يكون في هذا الشأن، مع ملاحظة أنها ما تعرضت مثل مثيلاتها لصاحبة القول- وهي أم جميل- وما علمنا سبب النزول إلا من الحديث الشريف، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى أن المرأة وزوجها قد نزل فيهما سورة كاملة، هي سورة المسد، وكأن الله عزّ وجلّ أراد أن يجعل سورة الضحى خالصة للنبي صلّى الله عليه وسلّم. بعض فوائد الآيات الكريمات: الفائدة الأولى: بدأت السورة الكريمة بأن أقسم الله عزّ وجلّ بايتين كونيتين، هما من أعظم دلائل قدرته- سبحانه وتعالى- وهما الضحى، والليل إذا سجى، وعظيم المقسم به يدل على عظيم المقسم من أجله، وهو أن الله ما تخلى عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم كما أن اختيار هذا القسم لطيفة من اللطائف، لمناسبته المقسم من أجله، فكما أن الله قد جعل الضحى للسعي والتعب ثم جعل الليل يأتي بعده ليأخذ الإنسان فيه قسطا من الراحة والسكينة، ليكون قادرا على مواصلة السعي من غده، فكذلك فترة انقطاع الوحي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرصة لتهدأ نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم من مشقة التنزيل؛ لأنه كان يعاني منه شدة عظيمة، وليكون بعد هذا الانقطاع في أشد الشوق لمعاودة تنزّل الوحي عليه. الفائدة الثانية: لما كان الوداع يحدث بين الحبيب وحبيبه، والقلى- الذي هو البغض- يحدث بين المتخاصمين، جاء القرآن الكريم بإضافة كاف المخاطبة لأول فعل، وهو التوديع فقال عزّ وجلّ: ما وَدَّعَكَ ثم أتى بالفعل الثاني بدون كاف المخاطبة، فقال: وَما قَلى، وهذا من جميل خطاب القرآن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى في حالة نفي صدور الفعل لاحظ الخطاب القرآني أجمل الأساليب. الفائدة الثالثة: أما تفسير قوله- تعالى-: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) ، فقد قال فيها الشيخ السعدي- رحمه الله- تعالى- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 ما يقر به عين أحباب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فقد قال ما نصه: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ؛ أي: ما تركك منذ اعتنى بك ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أحسن تربية، ويعليك درجة بعد درجة. وَما قَلى الله إياك؛ أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحا، إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم الماضية والحاضرة، أكمل حال وأتمها، محبة الله له واستمرارها، وترقيته في درج الكمال، ودوام اعتناء الله به. وأما حاله المستقبلية، فقال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) [الضحى: 4] ؛ أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل صلّى الله عليه وسلّم يصعد في درج المعالي، ويمكّن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب. ثم بعد ذلك، لا تسأل عن حاله في الآخرة من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام؛ ولهذا قال: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة. انتهى كلام الشيخ- رحمه الله «1» . 5- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم ساحر: عن ابن عبّاس أنّ ضمادا قدم مكّة وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الرّيح فسمع سفهاء من أهل مكّة يقولون: إنّ محمّدا مجنون فقال: لو أنّي رأيت هذا الرّجل لعلّ الله يشفيه على يديّ قال: فلقيه فقال: يا محمّد إنّي أرقي من هذه الرّيح وإنّ الله يشفي على يدي من شاء؛ فهل لك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله، أمّا بعد قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرّات قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السّحرة وقول الشّعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام قال: فبايعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلى قومك؟» قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة فمرّوا بقومه فقال صاحب السّريّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة فقال: ردّوها فإنّ هؤلاء قوم ضماد «2» .   (1) انظر تفسير السعدى (1/ 928) . (2) رواه مسلم، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (868) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الشاهد في الحديث: هو قول ضماد: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في النبي صلّى الله عليه وسلّم: 1- تعظيم الصحابي الجليل، ابن عباس- رضي الله عنهما- لشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ وصف من تكلم في النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسفه؛ لقوله: «فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون» وهذا الذي اعتقده الصحابي، صدق وعدل، فإن كل من يتكلم عن الرسول بما ينقصه، فهو سفيه، لأنه لم يميز بين ما ينفعه وما يضره، ولم يميز بين الحق الذي جاء به الأنبياء، والباطل الذي وجد عليه الآباء، فهو سفيه لأنه لو كان عنده مسحة عقل، لآمن واتبع، وقدّم الباقي على الفاني، واشترى أخراه بدنياه، ولو كان عنده عقل، لتدبر وتفكر في أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، في صدقه، وأمانته، وتقواه، ونصحه، وجوامع كلمه، وعظمة القرآن الذي أنزل عليه، فعلم- بواحدة من هؤلاء- أنه نبي حقّا وأنه ليس بمجنون. وعلينا جميعا أن نعتقد سفه من لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أعطي من العقل أكمله فيما يرى الناس؛ لأن العقل إذا لم يدل صاحبه لما خلق له، وهو التوحيد والاتباع، كان هذا العقل في حكم العدم، وقد حكم الله عزّ وجلّ على من لم يؤمن بعدم وجود العقل، مع أننا نرى منه فيما نظن، أنه أعقل الناس، قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179] . 2- بيان ما أوتيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من جوامع الكلم، وعظيم البيان، وحلاوة المنطق، ورصانة القول، إذ إن ضمادا لما سمع منه خطبة الحاجة، ولم يسمع منه أكثر من ذلك، قال: «فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر» ؛ أي: وسط البحر ولجته، مع أن ضمادا رضى الله عنه، سمع من كل الطوائف ولكنه علم أن كلام النبوة له طابع خاص يختلف تماما عن كلام الناس جميعا، ولو أن أحدا من الناس تكلم بمثل هذا الكلام من قبل، أو يمكن أن يتكلم به من بعد، ما حكم ضماد بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما تكلم به النبي صلّى الله عليه وسلّم، لهو من أعظم الأدلة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 3- حسن ثنائه على الله عزّ وجلّ، وتأدبه الجم مع مقام الألوهية، والإقرار أنه- سبحانه وتعالى-، المتصرف في كل شيء؛ حيث تضمنت خطبة الحاجة ما يلي: أ- إثبات أن الحمد كله لله- سبحانه وتعالى-، واللام في لفظ (لله) ، هي للاختصاص، والحمد هو الثناء على الله بكل صفات الكمال والجمال، ونفي كل صفات النقص ومشابهة الخلق، فالثناء على الله، كان سببه، أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ والثناء كان سببه أيضا، أن له الأسماء الحسنى والصفات العلا. ومعناه، أنه قد تنزه عن النوم والأكل والشرب واتخاذ المعين والناصر والولي من الذل. فكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال: «إن الحمد لله» ، ذكر كل ذلك، وما من أحد يحب الثناء عليه، مثل حب الله له، لما رواه البخاري، عن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرّم الفواحش، وما أحد أحبّ إليه المدح من الله» «1» . ب- إثبات أن الله- سبحانه وتعالى- هو المستعان على قضاء الأمور، ودفع الكروب. وفي الاستعانة بالله عزّ وجلّ، إعلان لضعف العبد؛ لأنه لا يطلب الاستعانة إلا من رأى ضعف نفسه، وأنه لا حول له ولا قوة، كما أنه لا يطلب الاستعانة إلا من قوي قادر على قضاء الحاجات، عليم سميع، يعلم ويسمع لمن استعان به، كما أننا لا نطلب الاستعانة إلا ممن نحسن الظن به، أنه يرحم من يدعوه، ويعطي من يرجوه، نحسن الظن به، أنه لا يخذل من استجار به، ولا يرد من استعان به، كما نحسن الظن به، من حيث إنه لا يعجزه أي شيء، ويقدر على كل شيء، فالاستعانة، هي الخروج من حول الإنسان وقوته، إلى حول الله وقوته، وهي إعلان غاية الضعف والعجز في مقابل غاية القوة والقدرة. والحاصل أن الاستعانة هي من أعظم مظاهر التعبد لله، التي تحققت كلها، في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم. ج- إثبات أن الهداية- وهي أعظم النعم- بيد الله وحده، وكذا الضلالة، وأنه لا أحد ينازع الله- سبحانه وتعالى- في ذلك، فإن الله إذا أراد الهداية لأحد، فلن يمنع وصولها أو حجبها عنه أهل السماوات والأرض، وكذا إذا أراد أن يضل أحدا، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» ، وفي هذا تعليم للأمة، أن على العبد   (1) رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: الغيرة برقم (5220) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 دائما أن يطلب الهداية والتوفيق والثبات من الله تعالى، كما يسأله أن يجنبه كل أسباب الضلالة والغواية. ويتفرع على ذلك: إثبات ضعف أهل السماوات والأرض، فإذا كانوا لا يستطيعون أن يهدوا أحدا، ولا يستطيعون أن يضلوا أحدا، فمن باب أولى لا يستطيعون أن ينفعوا أحدا أو يضروه، وكذا في أبواب الرزق والإحياء والإماتة، فكل ذلك لا يطلب إلا من الله وحده، القادر عليه. وقد يسأل سائل: لماذا هدى الله هذا وحجب الهداية عن ذاك؟ فأقول: إن مشيئة الله- سبحانه وتعالى- النافذة في عباده، تدور بين الفضل والعدل، فهداية العبد من تمام فضله، وضلاله من كمال عدله، والإنسان الذي يقبل بقلبه وعقله على الله عزّ وجلّ، يسلّم بحكمة الله في كل شيء، ولن يرد عليه هذا السؤال أصلا، وإذا ورد تذكر قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فدفع بهذه الآية كل وسواس، وردّ بها كل شيطان. د- مراعاة الأدب مع مقام الألوهية، حيث لما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم الهداية نسبها إلى الله، قال: «من يهده الله فلا مضل له» ، ولما ذكر الضلالة، لم يذكر لفظ الجلالة تأدبا مع الله، فقال: «ومن يضلل فلا هادي له» فإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد راعى كمال الأدب مع الله، حتى في الأمور الثابتة لله، فيجب علينا من باب أولى، عدم إضافة أو إثبات أي أمر من الأمور لله إلا بدليل صحيح وصريح، خاصة في الأسماء والصفات وما يختص بالقضاء والقدر، وجميع الغيبيات التي لا تعلم إلا من الكتاب والسنة. وكذا التأدب مع الله عزّ وجلّ في حديث بعضنا مع بعض، فلا نذكره- سبحانه وتعالى، في النكات والقفشات، ولا نكثر من القسم باسمه، في الجد والهزل، ولا نذكر اسمه تبارك وتعالى- إلا باستحضار الخوف والرهبة والخشية، فالمذكور- جل فى علاه- عظيم الشأن رفيع القدر. قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] كما أن من عظيم أدبه مع الله- تبارك وتعالى- أنه لما نطق بالجزء الثاني من الشهادة، وهو قوله: «وأن محمدا عبده ورسوله» راعى أمرين عظيمين؛ وهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 - الأول: أنه أثبت لنفسه صفة العبودية، قبل مقام الرسالة، ليعلم الخلق أجمعين بعظيم صفة العبودية لله عزّ وجلّ، وأنها مقدمة على مقام الرسالة، وإذا كانت صفة الرسالة لم تتحقق إلا لبعض البشر فإن تحقيق صفة العبودية لله، متاح للبشر أجمعين، يتنافسون فيها. كما نلمح من تقديم العبودية، إقرار النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن الله قد امتن عليه بالرسالة، لأنه حقق كمال العبودية، وأنه مهما بلغ من الدرجات العاليات في الدنيا والآخرة، ومهما تحقق على يديه من المعجزات الباهرات، فإنه لن يخرج من مقام العبودية لله- سبحانه وتعالى ولن ينازع الله- سبحانه وتعالى- في أمر من أموره، وانظر كيف أثبت لله الحمد والثناء والاستعانة والهداية والإضلال، وفي المقابل أثبت لنفسه أنه عبد الله ورسوله وكم تحمل لفظة العبد، من الذل والخضوع والاستكانة والافتقار، للمعبود- تبارك وتعالى. الثاني: أنه انسلخ من نفسه، فلم يأت بالشهادة بصيغة المتكلم بأن قال: «وأني عبده ورسوله» وذلك لأمرين: أولهما: ألايرى نفسه ولا يذكرها، بعد ذكره للخالق الباري المنعم عليه بكل فضل، وهذا نهاية الأدب والتواضع. ثانيهما: الإشعار بأنه ينطق بالشهادة امتثالا لأمر الله- سبحانه وتعالى-، فكأنه يتكلم عن آخر، ولا يتكلم عن نفسه، وكأنه مأمور كبقية العباد، أن يشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهذا نهاية الطاعة والامتثال. هـ- إثبات وحدانية الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا معبود بحق إلا هو، وأنه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في حكمه، حيث إن قوله: «لا شريك له» نفي لكل أنواع الشركاء، كما أن قوله: «لا إله إلا الله» نفي لكل أنواع الآلهة وإثبات لألوهية الله وحده، وتوسط لفظ «وحده» لتوكيد عدم وجود الآلهة، أو الشركاء، سبحان الذي تفرد بالخلق كله، والأمر كله، والحكم كله، فلا نعبد إلا إياه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نثق إلا به، ولا نتوجه إلا إليه. وقد جاءت كلمة التوحيد في الحديث، كالدليل على كل ما أثبته النبي صلّى الله عليه وسلّم، لله عزّ وجلّ، وليعلمنا أن الحمد والاستعانة والهداية لا تكون إلا لله الذي لا إله إلا هو، فمن أثبت لله هذه الأمور، فقد جاء توحيده كاملا لا نقص فيه، مستقيما لا عوج فيه، ومن باب مفهوم المخالفة، أن من أتى بما يناقض الحمد والثناء أو الاستعانة بالله وحده، أو أثبت التصرف في ملك الله لأحد سوى الله، فقد ناقض كلمة التوحيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 4- حرصه صلّى الله عليه وسلّم على هداية الناس، ومباشرة كل عمل من شأنه إيصال هذه الهداية إلى قلوب العباد، وذلك أنه أعاد كلامه ثلاث مرات؛ بناء على طلب الصحابي ضماد، مع ملاحظة أن ضمادا لم يطلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا الإعادة مرة واحدة، فزاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدد المرات، رجاء أن تصل هذه الكلمات إلى عقله وقلبه، وهو الرجل إلى جاء ليرقيه من الجنون، فأي رحمة وشفقة بالأمة أعظم من ذلك، ومع مسلك لا يخلو من التواضع الجم، لم يقل له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قد قلت ما سمعت وإن واحدة لتكفي، خاصة أنه كان صلّى الله عليه وسلّم أفصح الناس لسانا، وأبلغهم بيانا. الفائدة الثانية: في الصحابي ضماد رضي الله عنه: 1- علمه بالله، وما ينبغي إثباته لله عزّ وجلّ قبل إسلامه، حيث ذكر لنفسه أنه يرقى، وأثبت لله- سبحانه وتعالى- أنه هو الشافي، فعلم أنه سبب ليس له من أمر الشفاء شيء، وأن مسبب الأسباب هو الله، قال ضماد: «لعل الله يشفيه على يديّ» ، كما أن من بالغ أدبه، أنه علق الشفاء بمشيئة الله، فمع الأخذ بأسباب الشفاء، يبقى الأمر موكولا إلى الله عزّ وجلّ، يشفي من يشاء، ويرجئ شفاء من يشاء، قال ضماد: «وإن الله يشفي على يديّ من شاء» وهذا الأدب مع الله من قبل رجل لم يسلم بعد، قد افتقده كثير من المسلمين في وقتنا هذا. 2- أدبه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث إنه لم يضف إليه أي كلمة، مما تكلم به سفهاء مكة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، كل ما قاله: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح» ، ويقصد بالريح، الجنون، فلم يلفظ بلفظ الجنون، وهو اللفظ الذي سمعه من سفهاء مكة، كما أنه لم يعد على سمعه ما قالوه حتى لا يؤذيه، كما أن من أدبه أنه قال آخر مقالته للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «فهل لك» بأسلوب عرض وإغراء، لا بأسلوب أمر أو استخفاف. 3- رجاحة عقله، وذلك أنه استعرض في ذهنه في وقت قصير، قول الكهنة، والسحرة، والشعراء، وقارنه بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتيقن أنه رسول من عند الله، فسبحان الله، دخل ضماد على النبي صلّى الله عليه وسلّم يرقيه مما اتهمه به سفهاء مكة، فخرج من المجلس وقد أسلم وتشرف ببيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصافحت يده يد أحب الخلق إلى الله، فانظروا من شفى من؟، ومن الطبيب ومن المطبوب؟ وأظن أن نعمة الله قد شملت ضمادا، ببركة أدبه مع الله ورسوله بعكس من تعرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 للقرآن والسنة بسوء أدب، فإنه يحرم الهداية ويستحق- بفعله- الغواية. 4- انسلاخه من العصبيات والقوميات، التي كانت سائدة في القبائل قبل الإسلام، وذلك أنه بمجرد أن نطق بالشهادتين، جعل ولاءه للإسلام، ودليله ما جاء في الحديث: «وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي» وهذا دليل على أن الولاء للإسلام، ولا ولاء في الإسلام لأي جنسيات أو شعارات أو مذهبيات. الفائدة الثالثة: أن نؤمن حقّا أن الهداية بيد الله وحده، فكم سمع الكفار من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل من آيات الذكر الحكيم، ولم يؤمنوا، بل ازدادوا ضلالة وغواية، وهذا ضماد لم يسمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا كلمات معدودة ليست من القرآن، بل من كلامه هو صلّى الله عليه وسلّم، فامن من وقته بغير تردد ولا تحير. 6- شبهة أن يكون صلّى الله عليه وسلّم غنيّا لا يحتاج إلى التكسب: قال- تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) [الفرقان: 7- 8] اقترح الكفار ليؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يكون له كنز، ينفق منه فلا يحتاج إلى العمل، أو السعي لكسب الرزق، فإن لم يكن هناك كنز، فلا أقل من أن تكون له جنة، يأكل من ثمارها ويستظل بظلها، فيكون منعّما، لأنهم يستكبرون أن يتبعوا رجلا فقيرا؛ قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وهي نفس شبهة من كفر بنوح صلّى الله عليه وسلّم؛ قال- تعالى-: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] ، والمتأمل يرى أن كل شبهات الكفار واحدة على مر العصور. والحاصل: أن الكفار اقترحوا في آية الباب أن ينزل الله على عبده صلّى الله عليه وسلّم كنزا من السماء، أو تكون له جنة في الأرض، فبين الله أولا أن الذي دفعهم إلى هذه الشبهة هو ظلمهم؛ حيث قال تعالى: وَقالَ الظَّالِمُونَ، ثم بين تعالى أنه لو شاء لجعل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ما اقترحوه، بل خيرا منه: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ولكن علق الله عزّ وجلّ ذلك بالمشيئة، وحيث إن كل مشيئة لله- تعالى- فهي مقرونة بالحكمة البالغة، علمنا أنه ليس من الحكمة أن يكون للنبي جنات وأنهار وأكد القرآن مرة أخرى في سياق تفنيد ادعاآتهم، أن الذي دفعهم إلى هذا القول هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 تكذيبهم بالساعة، قال- تعالى-: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الفرقان: 11] ، وتوعدهم الله عزّ وجلّ على هذا التكذيب بالعذاب الشديد. 7- دفع ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب القرآن: قال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] فهذا كذب آخر منهم، حيث ادعوا أن هذا القرآن، ما هو إلا حكايات وأحاديث الأولين، التي فيها الصدق القليل، والكذب الكثير، فرد الله عزّ وجلّ عليهم بأبلغ البيان؛ قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] ، فألمحت الآية إلى أن الذي يقدر على إنزال هذا القرآن، هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ولماذا نصت الآية على عالم السر؟ المتأمل للقرآن يعلم الجواب، ففي القرآن طرف عظيم، من أسرار ملكوت العالم السفلي والعلوي، وأسرار علم الغيب الماضي والحاضر والمستقبل، وأسرار المخلوقين، ملائكة وإنسا وجنّا، وفيه الحديث عن سرائرهم، وما تخفي نفوسهم، فأنزل ما يصلحهم، يتكلم القرآن عن كل ما سبق كأن الكون وما فيه، سره وعلانيته، خفيه وجليه، دقيقه وحقيره، ظاهره وباطنه، كأنه كتاب مفتوح لمن أنزل القرآن، فهل يعقل أن يكون الذي أنزل القرآن أحد غير الخالق، الذي يعلم السر وأخفى، فالذي يدعي أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، هو الذي أتى بهذا القرآن، قد رفعه فوق منزلة البشر، لأنه ليس من البشر أحد يعلم السر، وكفى بذلك حجة أن القرآن من عند الله خالق كل شيء. فإن أصروا على أن هذا القرآن من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلماذا لم يأتوا بمثله؟ وقد تحداهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] ، فلما عجزوا عن أن يأتوا بمثله كاملا، تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود: 13] فلما أعجزهم هذا الأمر أيضا، تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، في موضعين من القرآن، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] ، وقال- عز من قائل-: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 23] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 أقول: ليس المراد من سرد الآيات إطلاع القارئ عليها؛ فهي معلومة لكل أحد، ولكن المراد بيان أن هذا التحدي هو في ذاته معجز، وأن الله عزّ وجلّ قد ألزمهم به الحجة، وأنه دليل لكل ذي لب على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد، وذلك أن العرب في زمن البعثة كانوا أبلغ الناس فصاحة وبلاغة، وكانوا يقيمون الأسواق والمنتديات؛ ليتباروا في كتابة المعلقات، وهذا لا ينكره أحد، فأن يأتي الرسول صلّى الله عليه وسلّم- على سبيل التنزل مع المجادلين- فيضع نفسه في مأزق أمام أصحابه وعشيرته، الذين آمنوا به وبايعوه على أنه نبي من عند الله، فيأتي ويتحدى المكاذبين له أمام الناس أجمعين، ويسجل ذلك في القرآن، ويقترح عليهم أن يتظاهروا ويتساعدوا فيما بينهم، ليأتوا بمثل هذا القرآن، فلا يشترط عليهم، تحرزا لنفسه، أن يأتوا به فرادى، بل يتحدى الإنس والجن معا، وما يدريه ما عند الجن من قوة، فضلا على ما عند العرب مما ذكرنا من فصاحة وبلاغة وبيان، ما الذي يدفعه لذلك، ويضحّي بما وصلت إليه منزلته عند أصحابه، فلمّا عجز العرب عن ذلك لم يسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تحقق له ما أراد من تعجيزهم، بل يتنزل معهم، فيتحداهم بالإتيان بعشر سور، فيعجزون، فلا يرضى المتحدي بهذا التعجيز الظاهر، ويصر على إكمال التحدي، في سورة واحدة، وفي كل مرة يرتفع شأنه أكثر عند أصحابه ويكون دافعا لهم على رسوخ الإيمان، بمن أنزل القرآن، وبمن أنزل عليه القرآن، وفي المقابل يحتقر شأنهم أكثر بعجزهم فيما برعوا فيه، ألم يفكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا سيكون الموقف إذا وفّقوا في هذا التحدي، أو رأى وسمع أصحابه من يأتي بمثل القرآن. والسؤال الآن لماذا لم يستطيعوا أن يأتوا بالسورة، مع وجود الدافع، وانتفاء المانع، فقد حرصوا كل الحرص على تكذيبه وإبطال دعوته، فقالوا: شاعر،. وقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، وكادوا له بكل أنواع الكيد، قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) [آل عمران: 54] ، وقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إبراهيم: 46] ، علمنا أن مكرهم الذي تزول منه الجبال، وتضحيتهم بالمال والنفس والعرض والأولاد، كان أيسر عندهم من الإتيان بسورة واحدة من القرآن، وليعلم كل أحد أن إنكاره أن القرآن من عند الله- سبحانه وتعالى- سيوقعه في إشكال كبير، وهو كيف يأتي رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب بكلام يعجز العرب والعجم، والإنس والجن مجتمعين، فهل يعقل أن يكون هذا الذي أنزل القرآن بشرا، وهل أتى بشر من قبله، أو من بعده بكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 أعجز الأولين والآخرين، إن كان لا، ألزمناهم أن يرفعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فوق منزلة البشر، لأنه وحده أتى بما لم يأت به الإنس والجن مجتمعين، وكيف يفعلون ذلك، وهو لم يدّع أنه فوق البشر، بل لم يدع أصلا أنه كتب هذا القرآن من عنده، وهل يعقل أحد أن رجلا يستطيع أن يعجز الإنس والجن، ثم ينسب كذبا- حاشا لله- هذا الإعجاز لغيره، من فعل هذا قبله؟ ولماذا؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الباب السادس مظاهر حب وإجلال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 1- التصديق المطلق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو «1» من الطّعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: إنّي محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخلّيت عنه، فأصبحت. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟» قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخلّيت سبيله. قال: «أما إنّه قد كذبك وسيعود» ، فعرفت أنّه سيعود؛ لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه سيعود» ، فرصدته فجاء يحثو من الطّعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: دعني فإنّي محتاج وعلي عيال لا أعود، فرحمته فخلّيت سبيله، فأصبحت. فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟» قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخلّيت سبيله. قال: «أما إنّه قد كذبك وسيعود» . فرصدته الثّالثة، فجاء يحثو من الطّعام فأخذته، فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود!! قال: دعني أعلّمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ، حتّى تختم الآية فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنّك شيطان حتّى تصبح فخلّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني الله بها فخلّيت سبيله قال: «ما هي؟» قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أوّلها حتّى تختم الآية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتّى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنّه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟» قال: لا. قال: «ذاك شيطان» «2» . الشاهد في الحديث: أن الرجل الذي جاء يحثو من طعام الصدقة، وهو في الأصل شيطان، يتمثل في صورة إنسان، كان في كل مرة، يعد أبا هريرة أنه لن يعود، وفي كل مرة يرصده أبو هريرة،   (1) أي: يأخذ من الطعام بملء كفيه. (2) علقه البخاري بهذا النحو، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه، وقد وصله البخاري في موقع آخر مختصرا، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، برقم (5010) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ويتيقن أنه سيعود، وما ذاك إلا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أبا هريرة أنه سيعود. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلّى الله عليه وسلّم: 1- إعلامه صلّى الله عليه وسلّم ببعض أمور الغيب: حيث ابتدأ أبا هريرة بالسؤال عن الأسير، بعد أول ليلة، وما انتظر إخبار أبي هريرة، وذلك ليتيقن أبو هريرة بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بالأصح يزداد يقينا على يقينه، وهذه من أعظم فوائد المعجزات- وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم كل صباح يسأل أبا هريرة عن أسيره، ثم ينبّئه أنه سيعود ويأتي، رغم أن الأسير يؤكد في كل مرة أنه لن يأتي، وهذا الإخبار بالغيب في أمر يعلم فيه الصدق من عدمه مساء نفس اليوم، لهو أمر عظيم، يدل قطعا على صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم وتأييد الله عزّ وجلّ له، ويقينه صلّى الله عليه وسلّم بذلك. 2- حسن تعليمه صلّى الله عليه وسلّم وصبره على هذا التعليم: حيث إنه ترك أبا هريرة ليلتين بعد الليلة الأولى، وما أخبره، بمن هو أسيره، لتتحق زيادة اليقين، ويترسخ عند أبي هريرة رضي الله عنه وعند بقية الأمة. 3- فصاحته صلّى الله عليه وسلّم وتمام بيانه: يتبين ذلك من قوله: «صدقك وهو كذوب» . فلو اقتصر على: «صدقك» لكان فيه تزكية لذاك الشيطان، وقد يظن ظان أن الأصل فيه الصدق، ولو اقتصر على قوله: «كذوب» لاشتمل الحكم على كذبه فيما أخبر عنه في فضائل آية الكرسي، فقال بحكمة: «صدقك وهو كذوب» . يتفرع على ذلك، ألايحملنا بغضنا لأحد، ولو كان ألد أعدائنا، أن نكذّبه في كل شيء، بل يجب علينا أن نقول فيه كلمة الحق، ونبين ما صدق فيه وما كذب، بل نبدأ بصدقه قبل كذبه، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو أننا كذبنا كل ما يقول عدونا حتى في حالة صدقه، لتلبسنا بأقبح الخصال، وهي الكذب. الفائدة الثانية: في القرآن الكريم: 1- عظيم شأن القرآن، وبركته العميمة، لاحتوائه على الكثير من الآيات المباركات النافعات، التي تقي الإنسان المهالك وشرور أعدائه، خاصة شياطين الجن، وكذا الآيات التي يرقي الإنسان بها نفسه ومن يحبّ، وآيات يدفع بها المسلم شر العين وأضرارها، والآية التي معنا في هذا الحديث الشريف، يحفظ الله بها من يقرأها طوال الليل حتى يصبح فلا يقربه شيطان كما ورد في الحديث: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 هُوَ حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح» . وللدلالة على عظيم بركتها، أن ضمنت لمن يقرأها أمرين، ولو كان أمرا واحدا لكفى: الأمر الأول: وجود الحافظ، الذي هو من الله، فهو أتى بأمر الله ويستمد قوته من الله، وقد سمي حافظا، فهو لن يضيع ما استحفظ عليه، وهو نفس المؤمن، وإلا ما استحق هذا الوصف الدقيق. الأمر الثاني: عدم قرب الشيطان، ولم يقل: (ولا يمسنك شيطان) . وشتان بين القرب والمس؛ لأن الشيطان قد لا يمس المؤمن، ولكن قد يوصل إليه أدنى أذى ولو من بعيد، ولكن هذا لن يحدث ببركد قراءة المؤمن لآية الكرسي. 2- ثبوت تفاضل آيات القرآن الكريم، وأن بعضها أعظم من بعض في النفع والبركة، مع إيماننا أن القرآن كله عظيم ومبارك، قال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) [الأنعام: 155] . الفائدة الثالثة: في مناقب أبي هريرة رضي الله عنه: 1- فقهه: حيث إنه لم يرفع الأسير إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا رآه يأخذ من مال الصدقة لإقامة حد السرقة عليه، إما لعلمه باستحباب تعافي (أي دفع) الحدود قبل أن تصل إلى الإمام، أو لعلمه أن الأسير له حق في هذه الصدقة لحاجته وعياله، والحد لا يقام على الفقير خاصة إذا سرق من المال العام الذي له فيه حق بقدر ما يحتاجه ويفتقر إليه. 2- حسن ظنه بالناس: حيث إنه صدق الأسير لما أعلمه بحاله، وكذا رحمته بالفقير، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت) . وما كان ليرحمه إلا بعد تقديم حسن الظن به في صدق حديثه. 3- أمانته: حيث كان يترصد الأسير كل ليلة، ويمنعه من الأخذ من مال الصدقة، المأمور بحفظها، وما استطاع الأسير أن يغافله ويسرق ولو مرة واحدة، خاصة أنه كان يأتي ليلا، وهو الوقت الذي ينام فيه الحراس غالبا. 4- تصديقه المطلق للنبي صلّى الله عليه وسلّم: حيث كان في كل ليلة يتيقن من عودة الأسير، وما كان ذلك إلا لتصديق أبي هريرة لخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: (فعرفت أنه سيعود لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: إنه سيعود) ، فما نظر أبو هريرة، رضي الله عنه إلى القرائن التي توحي بأنه لن يعود، وما قارنها بالأسباب التي توحي بعدم عودته، وإنما كان كل الذي اعتقده أن الأسير سيعود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا التصديق المطلق ديدن أبي هريرة رضي الله عنه فقد صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في أعظم من ذلك، وهو أنه أخبر بأن بقرة تتكلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصّبح، ثمّ أقبل على النّاس فقال: «بينا «1» رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنّا لم نخلق لهذا، إنّما خلقنا للحرث. فقال النّاس: سبحان الله بقرة تكلّم! فقال: فإنّي أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثمّ «2» . والعجيب أنه حكم لأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، أنهما سيصدقان الخبر إذا سمعاه، وهي منقبة عظيمة للخليفتين الراشدين، أن يشتهر عنهما تصديقهما المطلق لكل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان مخالفا للعادة والعرف بل والعقل، ومتى كان الصحابة رضي الله عنهم يحكمون عقولهم، في أخبار الوحي؟!. 5- أدبه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يذكر له ما نصحه به الأسير بصيغة الجزم، قال: (زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) . فأتى بلفظ (زعم) ، وما أكد الخبر بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم من باب عدم التقديم بين يدي الله ورسوله، وهذا أيضا من فقهه رضي الله عنه. كما أن من أدبه رضي الله عنه أنه راعى علو قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: (لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . 6- حرصه على الخير، وكذا جميع صحبه الكرام، رضي الله عنهم جميعا، قال الراوي: (وكانوا أحرص شيء على الخير) . وحب أبي هريرة رضي الله عنه للخير، هو الذي دفعه لإطلاق أسيره في الليلة الثالثة، مقابل أنه يعلمه ما ينفعه الله به. الفائدة الرابعة: إيمان الشياطين بالله، وأنه النافع لقوله: (أعلمك كلمات ينفعك الله بها) . فهل اعتقد عوام المسلمين اليوم، ما كان تعتقده الشياطين ولا يزالون، أن النافع والضار هو الله وحده؟. ولم يكن هذا التصديق المطلق ديدن المؤمنين فقط ولكن شمل هذا التصديق الكافرين أيضا واعطي لذلك مثالا: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدّث عن سعد بن معاذ: أنّه قال: كان صديقا لأميّة بن خلف وكان أميّة إذا مرّ بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مرّ بمكّة نزل على أميّة، فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة انطلق سعد معتمرا، فنزل على أميّة بمكّة، فقال لأميّة: انظر لي ساعة خلوة لعليّ أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النّهار،   (1) بينا: أي بينما. (2) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3471) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 فلقيهما أبو جهل. فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكّة آمنا، وقد أويتم الصّباة «1» وزعمتم أنّكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنّك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما. فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنّك ما هو أشدّ عليك منه طريقك على المدينة، فقال له أميّة: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيّد أهل الوادي، فقال سعد: دعنا عنك يا أميّة فو الله لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول: «إنّهم قاتلوك» قال: بمكّة؟ قال: لا أدري؛ ففزع لذلك أميّة فزعا شديدا، فلمّا رجع أميّة إلى أهله قال: يا أمّ صفوان ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أنّ محمّدا أخبرهم أنهم قاتليّ، فقلت له: بمكّة؟ قال: لا أدري فقال أميّة: والله لا أخرج من مكّة، فلمّا كان يوم بدر استنفر أبو جهل النّاس قال: أدركوا عيركم، فكره أميّة أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنّك متى ما يراك النّاس قد تخلّفت وأنت سيّد أهل الوادي تخلّفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتّى قال: أمّا إذ غلبتني فو الله لأشترينّ أجود بعير بمكّة، ثمّ قال أميّة: يا أمّ صفوان جهّزيني، فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربيّ؟! قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلّا قريبا. فلمّا خرج أميّة أخذ لا ينزل منزلا إلّا عقل بعيره فلم يزل بذلك حتّى قتله الله عزّ وجلّ ببدر «2» . ملخص الحديث: كان أمية بن خلف لعنه الله صديقا لسعد بن معاذ رضي الله عنه وقد نزل سعد ضيفا على أمية بمكة، ولما ذهبا يطوفان بالبيت، قريبا من الظهيرة، رآهما أبو جهل لعنه الله فأنكر على سعد بن معاذ رضي الله عنه طوافه بالبيت آمنا، وهو من القوم الذين نصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما تخاصما وأراد أمية أن يخفض من صوت سعد بن معاذ، أخبره سعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنه سيقتل أمية بن خلف. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: التصديق المطلق من الكافرين لكل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم وشاهده من الحديث: 1- فزع أمية بن خلف، لما أخبره سعد بن معاذ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:   (1) يقصد بالصباة: النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. والصابئ: هو من يترك دينه وينتقل إلى دين آخر. (2) البخاري، كتاب: المغازي، باب: ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم من يقتل ببدر، برقم (3950) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 إنهم (أي المسلمين) قاتلوه، قال الراوي: (ففزع أمية فزعا شديدا) ، وظهر ذلك على وجهه وبقية أعضائه وكذا تصرفاته، لذا وصف الفزع أنه كان شديدا، وما ذلك إلا لتيقنه من صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2- قول أمية بن خلف، لما سمع مقولة سعد بن معاذ رضي الله عنه كما في إحدى روايات البخاري: (والله ما يكذب محمد إذا حدّث) «1» ، ونلمح في هذه المقولة بعض النقاط وهي: أ- أنه استفتح كلامه بالقسم؛ وذلك للتوكيد مع أنه لم يطلب منه ذلك. ب- أنه نفى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جميع أنواع الكذب في حديثه، لقوله: (إذا حدث) أي: (بأي شيء حدث) دون تقييد. ج- أنه صدّق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمر عظيم، يشمل عدة أمور، وهي: أنه سيخرج للقاء المسلمين وأن أجله سيمتد حتى يقابل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزو، وأنه سيموت على ما هو عليه من الكفر. وكان من شدة تصديقه لمقولة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن صدرت منه عدة أمور وهي: أنه سأل معاذا رضي الله عنه عن المكان الذي سيقتل فيه، حيث ورد في الحديث: (قال: بمكة؟ قال: لا أدري) ، مما يؤكد أن الأمر قد ثبت عنده، واستقر في قلبه غاية الاستقرار، وما بقي إلا أن يعلم أين يقتلونه. أنه رجع إلى امرأته، يخبرها بما سمع، وكان من مقولته لها: (أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي) . عدم خروجه أول الأمر، وتخلفه عن استنفار أبي جهل، وما خرج إلا بإلحاح من أبي جهل، لخوفه أن الناس سيتخلفون بتخلفه، قال له أبو جهل: (إنك متي ما يراك الناس قد تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك فلم يزل به) . أي: أنه ما خرج إلا تحت الإلحاح الشديد. أنه اشترى أجود بعير بمكة؛ حتى يستطيع أن يهرب عليه إذا رابه شيء، وقد عزم ألا يسير مع الجيش إلا قليلا، بالإضافة إلى حفاظه على البعير غاية المحافظة، مخافة أن يهرب منه، قال الراوي: (ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره) . أي ربطه. وهذا التصديق التام بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان من أمية وحده، بل اشتركت معه زوجته، ومن شدة تصديقها أنها قالت له لما عزم على الخروج: (يا أبا صفوان وقد نسيت ما   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3632) ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قال لك أخوك اليثربي؟!) . ويتفرع على ذلك، علمنا بمدى اعتقاد كفار مكة صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه يصدق في كل ما يقول، بل إنه يوحى إليه، ولذلك صدقوا بعلمه ببعض أمور الغيب على سبيل التفصيل لا الإجمال، حيث سأل الرجل عن مكان قتله، لا عن مجرد القتل، فكيف يستوي تكذيبهم للنبوة مع تصديقهم علمه الغيب الذي أطلعه الله عليه، مما يدل على أنهم ما كفروا إلا عنادا واستكبارا، وصدق الله حيث قال: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . كما يتفرع عليه، ما كان عليه الكفار من جبن وسفه، أما الجبن فيتضح من شدة الخوف والذعر الذي انتاب أمية بن خلف، أما السفه، فهو أن أمية لا يخلو حاله من أمرين، إما أن يكون قد صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الواقع، فكيف يريد أن يهرب من قضائه وقدره الذي صدقه، وحاله الثاني أن يكون قد كذّب الرسول صلّى الله عليه وسلّم فما الداعي لكل هذا الخوف. الفائدة الثانية: في مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه: 1- شجاعته رضي الله عنه: أ- وذلك أنه ذهب إلى مكة معتمرا، مع علمه بعداوة كفار مكة لمن آوى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونصره، وكونه اختار الظهيرة لأداء العمرة، فهذا لا يقدح في شجاعته، لأنه لا يخلو البيت حتى في الظهيرة من الطوافين، ودليله أنه لقي أبا جهل، وهو ألد الأعداء للرسول صلّى الله عليه وسلّم. ب- خاصم رضي الله عنه أبا جهل، ورفع صوته عليه، بل هدده بما هو أخطر وأعظم من تهديد أبي جهل له، حيث قال له: (أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة) ، ولا شك أن الذي يقدر على قطع الطريق الذي يلتمسه التجار من مكة إلى الشام، أقوى من الذي يمنع الناس من الطواف بالبيت، ويجب أن نقارن بين شجاعة سعد بن معاذ رضي الله عنه وجبن أمية. 2- تصديقه المطلق بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال لأمية بن خلف: (فو الله لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنهم قاتلوك) ، فلولا تصديقه التام لكل ما يخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أخبر أمية بذلك، خاصة أنه كان في مجال التنازع والتخاصم معه. 3- قوة عقيدته وصحتها، نلمحها في علمه أن إخبار أمية بن خلف، بخبر قتله، لن يؤخر أو يقدم، وقوع القتل، لاعتقاده أن الله- سبحانه وتعالى- إذا قضى أمرا فإنما يقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 له كن فيكون، وأن الحذر لا يمنع من وقوع القدر، فها هو أمية علم بخبر قتله، وأخذ الحيطة والحذر، فأخرجه الله- سبحانه وتعالى- من بيته رغم أنفه، وسار مع الجيش حتى قتل، فلولا يقين سعد بن معاذ رضي الله عنه بهذا، لأخفى عن أمية الخبر. يتفرع على ذلك، وجوب أن يؤمن المسلم بأن قضاء الله وقدره نافذ لا محالة، وأن كل شيء مقدر ومعلوم ومكتوب عند الله- سبحانه وتعالى- وهو مقتضى الإيمان بسادس الأركان، وهو الإيمان بقضاء الله وقدره، وكلما قويت تلك العقيدة عند المسلم، كلما قل همه وغمّه وأسفه وجزعه بما يلاقيه من أقداره الله المؤلمة، وما يفوته من حظوظ الدنيا. الفائدة الثالثة: منقبة عظيمة لأهل المدينة وهم الأنصار، قال أبو جهل: (وقد أويتم الصّباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم) ، فقد أثبتت المقولة، أن الأنصار رضي الله عنهم، هم الذين آووا المؤمنين المهاجرين ونصروهم وأعانوهم، ويتضمن هذا الإقرار، أن الأنصار قد عادوا كل الدنيا، من أجل نصرة الله ورسوله. ولعل سائلا يسأل: هل كافأ النبي صلّى الله عليه وسلّم الأنصار ورد لهم جميل صنيعهم؟، والجواب: أن رد هذا المعروف من النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أكمل وأجمل، فكفى لأهل المدينة شرفا ورفعة وسؤددا، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عاد معهم بعد أن فتح الله له مكة، زادها الله تشريفا وتعظيما، وهي بلده التي أخرج منها، بل هي أشرف البقاع، ومع ذلك عاد إلى المدينة مع الأنصار، وبقي معهم وبينهم بقية حياته، حتى دفن بين أظهرهم. ومن أراد الوقوف على المزيد فليراجع باب: تفضيل مدينته ومسجده، ليعلم عظيم بركة نصرة أهل المدينة للرسول صلّى الله عليه وسلّم ونقول بحق وصدق: ربح البيع، ربح البيع يا أهل المدينة، يا أنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. 2- طاعتهم المطلقة له صلّى الله عليه وسلّم عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أنّه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتّى سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيته، فخرج إليهما حتّى كشف سجف «1» حجرته، فنادى: «يا كعب بن مالك» . فقال: لبّيك يا رسول الله، وأشار إليه أن ضع من دينك الشّطر. قال: قد فعلت يا رسول الله. قال: «قم فاقضه» «2» .   (1) السجف: السّتر. (2) البخاري كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت في المساجد، برقم (471) ، وأخرجه كذلك (457) ، (2418) ، (2424) وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الشاهد في الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر كعب أن يضع من دينه الشّطر ففعل. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: قد يقع بين الصحابة رضي الله عنهم الخطأ، مثل ما حدث في هذا الحديث، من التخاصم على أداء الدين، ورفع الصوت في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بينت في موضع آخر من الكتاب، أنهم بشر وليسوا معصومين، وعلى المنصف أن يزن بين أعمالهم الصالحة التي كالجبال وبين زلاتهم التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة. الفائدة الثانية: طاعة الصحابة المطلقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتتمثل هنا في: 1- رد كعب بن مالك رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (لبيك) مما يوحي أنه قد أطاع الأمر قبل سماعه، أو حتى صدوره، وهل يعقل أن يجيب الرجل الآمر، بلبيك، ثم يعترض على الأمر؟! 2- الأمر من النبي صلّى الله عليه وسلّم لكعب رضي الله عنه، ما كان ليحتاج إلى كلام لإقناعه أن يضع شطر ماله، بعد هذه الخصومة في المسجد، ولكن كل ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أشار بيده لكعب، أن يضع شطر ماله، مع أن كعبا، كان يسمع نداء النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل أنه أجاب نداءه، وقال: (قد فعلت) ، ولكن يبدو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم من أصحابه عظيم أدبهم معه، وسرعة امتثالهم لأمره، فلم يحتج إلا إلى إشارة لفض النزاع بينهم. 3- هذا الأمر الموجه لكعب، بوضع شطر دينه، ليس من الأوامر الشرعية في نظرنا، ولكن الصحابة رضي الله عنهم، خاصة الأكابر منهم، ككعب بن مالك ما كانوا ليفرقون بين أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم الملزم منها وغير الملزم، حتى ولو كانت تتعلق بالمال، الذي عظّم الله شأنه في القرآن. 4- من علامات الطاعة المطلقة للصحابة، مع شدة أدبهم عند تحقيق هذه الطاعة، يتبين من الرد الجميل لكعب على أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ قال له: (قد فعلت) بصيغة الماضي، ولم يقل له: (سأفعل) ، مبالغة في سرعة امتثال الأمر وثبوته والإشعار بعدم وجود أدنى تردد منه، ومن أدبه- أيضا- أنه لم يجادل في الأمر، ولم يطلب منه أن يأمر مدينه بحسن القضاء وسرعته، وهذا غاية الأدب ومنتهى الطاعة، كما أن المدين امتثل أيضا لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث إنه لم يعقّب على الأمر، كأن يطلب منه التأجيل. الفائدة الثالثة: جواز التقاضي في المسجد، والنداء بصوت مسموع، والمصالحة بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 المتخاصمين، وننوه هنا إلى أن قولهم: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) «1» ليس بحديث. والحث على الشفاعة، وندب المتخاصمين إلى قبولها. مثال آخر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم حرّمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلّا الفضيخ «2» البسر والتّمر، فإذا مناد ينادي، فقال: اخرج فانظر فخرجت، فإذا مناد ينادي: ألا، إنّ الخمر قد حرّمت. قال: فجرت في سكك المدينة. فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها. فقالوا: أو قال بعضهم: قتل فلان قتل فلان وهي في بطونهم!!. قال: فلا أدري هو من حديث أنس، فأنزل الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «3» . الشاهد في الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم، وهم الذين اعتادوا شرب الخمر، وكانت عندهم بمثابة الماء، أول ما سمعوا مناديا ينادي: «إن الخمر قد حرمت انتهوا عنها» ، وهذا يدل على أن طاعة الصحابة كانت على الفور وليس على التراخي، والدليل على ذلك، ما قاله أنس رضي الله عنه في الحديث: (فخرجت فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت قال: فجرت في سكك المدينة) ، أي: أنهم قد سكبوا ما عندهم من الخمر في طرقات المدينة، أثناء الإعلام بتحريم الخمر، فهي مبادرة فورية إلى طاعة الله وطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فائدة عظيمة: وهي أن الامتثال لأمر الله ورسوله واجب على الفور، وليس على التراخي وهذا الذي فهمه الصحابة وطبقوه في كل حياتهم، فما قال أحد منهم: أذهب أتثبت من رسول الله، ولم يقل آخر: أنتظر حتى أعرف الحكمة من تحريمه، ولم يقل أحد: إنني قد اعتدت عليها وأريد وقتا لأنتهي عن شربها، وهل سمعتم أحدا يقول: هي مصدر رزقي، وعلى الرسول أن يجد لي مصدر رزق آخر حتى لا يموت أولادي جوعا؟!. هذا كله لم يحدث في الخمر ولا في غير الخمر، وعجبت من أناس على ألسنتهم كلمة واحدة (أقتنع أولا) ، وقولهم: (الإسلام دين عقل، وأنا لست بالة، فقد كرمني الله بالعقل لأفكر) .   (1) انظر «كشف الخفاء» للعجلوني، (1/ 423) . (2) الفضيخ: خمر يصنع من ثمر النخل. (3) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب، برقم (1980) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 أقول: إن هذا كله من مداخل الشيطان، وسوء أدب مع الله ورسوله، وذلك للأسباب التالية: 1- الشيطان حريص على أن يبعد المسلم عن دينه بحجج واهية، وقد تصيب هذه الحجج هوى في نفس المسلم، وقد تصيب أيضا جهلا منه، وأعظم هذه الحجج أن يأتي له عن طريق العقل، وأن الله فضل الإنسان على الحيوان بالعقل، بل كرمه على سائر المخلوقات بالعقل، فكيف تفعل أي شيء قبل أن تحكّم عقلك، يقصد بذلك أن يصده عن العمل، دون أن يقول له: لا تفعل الأمر، أو يقول له: افعل الحرام، ولكن النتيجة واحدة، وهي أن المسلم ارتكب المخالفات، والسؤال كيف يرد المسلم كيد الشيطان؟. الإجابة بسيطة وهي أن يقول له: يا هذا لم يخلق العقل لهذا «1» ، وأدلة ذلك كثيرة. الدليل الأولى: لم يكن من عادة الصحابة، وهم خير القرون، أن يراجعوا النبي في حكم الله ورسوله، ومن أعظم الأدلة على ذلك الحديث الذي معنا، فإن الصحابة لم يراجعوا الرسول فيه كما ذكرت، مع أن بعضهم كان حديث عهد بالإسلام. الدليل الثاني: أن عقول الناس تختلف من زمان إلى زمان، ومن بلد لآخر، بل من شخص لآخر، حتى الأشقاء في المنزل الواحد، مع أن تعليمهم من مشرب واحد، إلا أنك تجد بينهم تفاوتا عظيما في مداركهم، فهل من المعقول أن تكون هذه العقول المتفاوتة، وهذه المدارك المتباينة هي الحكم على حكم الله ورسوله؟ الدليل الثالث: أن الله عزّ وجلّ لما تعبدنا ب (افعل ولا تفعل) ، ورتب الجزاء على الطاعات، والعقاب على المعاصي، لم يربط الأحكام بالاقتناع، ولم يعذرنا بعدم إدراك الحكمة، فلم يجعل للعقل مجالا للاختيار، فمن يفعل يثاب، ومن يعص يعاقب، وعلى هذا مدار التشريع كله، ومن عنده ما يناقض ذلك من القرآن أو السنة الصحيحة فليأت به. فإذا سأل سائل: ما هو فائدة العقل إذن؟ نقول له: تأمل القرآن الكريم بتدبر، تعلم جيدا ما فائدة العقل، فسيتضح لك سريعا أن فائدته أن يدلك على أعظم ما في هذا الوجود، وهو أمر التوحيد، فقد أتى الله عزّ وجلّ بأدلة عقلية منطقية، على أنه الإله الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في الأمر والخلق، وأنه ليس معه إله آخر يعبد، ولا رب سواه يرجى، وليت المجال يسمح بالاستفاضة، ولكن أعرض أدلة موجزة واضحة توضح المراد،   (1) يعني: لم يخلق العقل للمجادلة في أمر الله ورسوله أو مناقشته بعد ثبوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) [الإسراء: 42] ، وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) [المؤمنون: 91] ، وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) [الطور: 35] ، وقال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] . وهذه بعض الأدلة من القرآن الكريم توضح مجال استخدام العقل، ومن ذلك أيضا الأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل النهار، أما إذا تحدث القرآن الكريم عن التشريع والأوامر والنواهي فالأسلوب يختلف تماما، ليس فيه جدل ولا أدلة عقلية، لماذا؟ لأن الله عزّ وجلّ يوجه الخطاب للمؤمنين، الذين آمنوا به وصدقوا رسوله، وسلموا له بعد التفكر أن الخلق والأمر، وعلموا أن له الحكمة البالغة في كل ما يأمر وينهى، وأنه منزه عن اللهو والعبث، فيكفي أن يصدر الأوامر والنواهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كأنه يقول لهم: إذا آمنتم حقا فهذا هو حكمي، ولا يمنع ذلك أن ينوه ببعض الحكم في بعض المواضع، فيقول عزّ وجلّ في حكمة تحريم الخمر: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) [المائدة: 91] . ويقول- عز من قائل- في حكمة الصيام: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] ، وفي حكمة الصلاة قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] ، ولكن المتأمل يعلم أنه ليست كل الأحكام بيّن الله- سبحانه وتعالى- الحكمة منها كما فعل في أمور التوحيد. أما أن تحكيم العقل سوء أدب مع الله عزّ وجلّ فيتضح مما يلي: 1- الذي يريد أن يحكم العقل في أحكام الشريعة، كأنه يقول بلسان الحال لا المقال: إن أحكام الدين قد لا توافق العقل، أو قد يكون فيها خلل، فيجب أن أنظر فيها أولا، فإن وافقت عقلي سلمت وإلا فلا، والله يقول في محكم التنزيل: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) [المائدة: 50] . 2- الذي يحكم العقل في أمور الدين، جعل من عقله المخلوق القاصر، الذي يدرك القليل، ويغيب عنه الكثير من أمور نفسه فضلا عن أمور غيره، يجعله حاكما على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 أحكام الله، وهذا منتهى سوء الأدب مع الخالق. 3- المسلم الذي يحكم عقله مع تسليمه بأن الله هو الخالق، قد ناقض عقله، وذلك أن أثبت لله شيئا، وسلب منه لازم هذا الشيء، فمن لوازم تفرد الله بالربوبية أن يكون له الخلق والأمر، قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] ، ومعنى الآية أن جميع الخلق لله وأمرهم أيضا لله، يحكم فيهم وبينهم كيفما يشاء، الدليل على ذلك أن الله عزّ وجلّ لما تكلم في صدر سورة (طه) عن إنزال القرآن الذي فيه الأمر والنهي، وكل ما يحتاج إليه العباد إلى قيام الساعة، قال- سبحانه وتعالى-: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) [طه: 4] ، فكأنه يقول للعباد: وجب عليكم العمل بهذا الكتاب الكريم؛ لأنه من الخالق الذي خلق كل شيء، فكيف ترضون به خالقا، تتنعمون بملكه وتتقلبون في نعمه، ولا ترضون به آمرا ناهيا؟ وتقول لهم أيضا: هل يختلف أحد في عظيم ملكه وبديع صنعه، قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فكما أنه- سبحانه- أبدع كل شيء خلقه، فقد أحكم كل شيء شرعه، فلماذا نتفق على عظيم خلقه ونختلف على عظيم حكمه، وبالمناسبة أقول: إن من بدائع القرآن أنه يستدل دائما على صدقه في المنقول بإثبات صدقه في المعقول، وعلى صدقه في أمور الغيبيات بصدقه في أمور المشاهدات، ألم تسمع لقوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) [آل عمران: 12] ، ونزلت هذه الآية قبل غزوة بدر، التي هزم فيها الكفار هزيمة منكرة، وكما صدق الله عزّ وجلّ في النبوءة الأولى، وهى أنه سيحدث قتال بين المسلمين والكفار، وأن النتيجة هي هزيمة الكفار، فسيصدق في النبوءة الثانية، والتي فيها إثبات يوم القيامة، وإثبات جهنم، وأنها مثوى الكافرين، وأن الذين سيقتلون في بدر سيكون مصيرهم جهنم، كما أثبتت الآية أن الله قد جعل في جهنم أشد أنواع العذاب حيث أثبتت الآية أنها بئس المستقر والمال، ومثل هذا في القرآن كثير، فتدبر. 4- الذي يريد أن يحكّم عقله في أمور الدين، حتى يتأكد أو يتضح له أنها صالحة، أو أنها تلبي حاجاته، ولا تتعارض مع مصالحه، قد حكم على الله بثلاثة أمور عظيمة هي: الأولى: أنه حكم وألزم العباد كلهم بأوامر واحدة، ولم يعلم أنها قد لا تصلح لقرن من القرون أو أمة من الأمم أو حتى فرد من الأفراد. الثانية: أن الله خلق الخلق، ولم يحط بما ينفعهم أو يضرهم، والله يقول لهؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وهؤلاء في كلام معجز يفهمه كل أحد: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) [الملك: 14] ، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين: 8] . الثالثة: أن الله عزّ وجلّ قد ظلم العباد، وذلك بتكليفهم تطبيق ما لا يجلب لهم النفع، ويرفع عنهم الضر، والمسلم ينزه الله عزّ وجلّ عن كل ذلك. 5- والذي يقول: (أحكّم عقلي حتى أقتنع) ، قد حكم على نفسه بقلة العقل لأسباب منها: أ- أن الناس كلهم جميعا قد علموا أن العقل لا يتدخل إلا في وجود الاختيارات والبدائل وأمور الدين ليس فيها اختيارات ولا بدائل. ب- هو كالذي ينظر إلى الشمس ضحى فيقول: لن أؤمن أن الشمس ساطعة، إلا إذا تأملت وتفكرت، وإذا سمع من يقول هذا، رمي بالجنون، وذلك أن أحكام الشرع أبلغ وأسطع، في موافقتها للعدل والحكمة من الشمس في رابعة النهار. ج- هو يكذب نفسه كيف يدعي أنه يؤمن بالله ثم يطلب الدليل العقلي على كل ما يقوله الله- سبحانه وتعالى- ويحكم به. [ خاتمة المسألة ] وأختم هذه المسألة بأن أسرّ في أذن الذي يريد أن يحكم عقله بكلمات موجزة: الثواب من الله الذي ترجوه أنت ويرجوه كل المسلمين إنما يكون بالإيمان بالغيب، والإيمان بحكمة الله في الأمور كلها، ما علمناه وما لم نعلمه، ما أدركته عقولنا وما لم تدركه؛ لأننا آمنا بالله وسلمنا لحكمته، وأعلنا تذلّلنا وخضوعنا له، فإذا أردت تحكيم العقل فإنك لم تؤمن بغيبيات وإنما آمنت بما دلك عليه العقل، كما أعلنت عدم تسليمك وإيمانك بحكمة الله في كل شيء، فعلى ماذا تريد أن تفوز بالثواب؟!. أسألك أخي الكريم، أتجادل رئيسك في كل أمر من أوامره وتقول له: أريد الاقتناع والحجة؟ بالطبع لا، وإن جادلت وقلت: نعم أفعل! أقول لك: أيصبر عليك مديرك على هذا الأسلوب أم يفصلك من العمل لسوء خلقك؟ وإن فعلت هذا مع المخلوق؟ فثق أن هذا لا يصلح مع الخالق- جل وعلا-؛ لأنه- سبحانه وتعالى- غني عن هذا العبد الذي لا يتأدب معه. أقول لأخي الكريم: أن كثيرا من أمور الدين لا يمكن إدراكها بالعقول، بل لا مجال للعقل أصلا فيها ومن أمثلة ذلك: المغرب لماذا هو ثلاث ركعات، والعصر أربع؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 لماذا نمسح على ظاهر الخف لا على باطنه؟ لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة، والصلاة أعظم؟ كيف أسري بالنبي في جزء من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلا ورأى ما رأى، ثم عاد؟ الشاهد في هذه الحادثة أنها كانت فتنة واختبارا لما سمعها الناس من النبي صلّى الله عليه وسلّم، إن الذين حكّموا عقولهم أنكروها وارتدوا، أما المؤمنون فقد صدقوا وثبتوا، بل ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ألا تريد أن تكون مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع من المشركين نبأ الحادثة، قال: إن قال فقد صدق، فعلق الأمر كله على صدق الرواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي لا ينطق عن الهوى، وسمي أبو بكر من وقتها بالصديق. ألا تريد أن تكون مثله أو مقتفيا أثره، وما يدريك لعل من حكمة الله في إخفاء بعض حكم الأحكام، هو اختبار العباد وابتلاؤهم ليعلم الصالح منهم والطالح. وانظر أخي القارئ إلى جمال متابعة الصحابة لنبيهم صلّى الله عليه وسلّم في أمر قد اعتادوا عليه أشد الاعتياد، وهو الحلف بالآباء، قال ابن عمر سمعت عمر يقول: (قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم» . قال عمر: فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذاكرا ولا آثرا) «1» . أي ما نطقت بهذا الحلف متعمدا ولا ناقلا ذلك عن غيري، فهل هناك طاعة أبلغ من ذلك؟! بل انظر كيف أنكرت عائشة- رضي الله عنها- على المرأة التي سألتها عن حكمة قضاء الحائض للصيام دون الصلاة، فكأن هذه المرأة تريد أن تقول: كيف يستقيم الأمر مع أن الصلاة أعظم من الصيام؟ فعن معاذة قالت: (سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصّوم ولا تقضي الصّلاة؟ فقالت: أحروريّة أنت؟ «2» قلت: لست بحروريّة، ولكنّي أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصّوم ولا نؤمر بقضاء الصّلاة) «3» ، وكان كل رد عائشة- رضي الله عنها- (فنؤمر) فهل بعد الأمر الشرعي أخذ ورد؟!. مثال لكمال الطاعة المقرون ببالغ التعظيم: عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» ، فقيل للرّجل بعد ما   (1) البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بابائكم، برقم (6647) . (2) الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء. (3) مسلم، كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، برقم (335) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . الشاهد في الحديث: قول الصحابي: (لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . ويتبين وجه الطاعة المطلقة للصحابة مع التعظيم لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأمور التالية التي تستفاد من الحديث: 1- عدم مناقشة الصحابي للنبي صلّى الله عليه وسلّم في سبب تحريم الذهب على الرجال، مع أنه يحلّ للنساء. 2- عدم قيام الصحابي بتبرير فعله للبس الذهب بقوله مثلا: (ما كنت أعلم أنه حرام) ، أو (لو كنت أعلم أنه حرام ما لبسته) ، مع ملاحظة شدة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على لبس الرجل للذهب والذي يتمثل في النزع (وهو الخلع بشدة) ثم الطرح على الأرض، ومن قبل ذلك تشبيه الخاتم بجمرة النار، فقد جمع صلّى الله عليه وسلّم بين الإنكار الشديد باليد وكذلك الإنكار باللسان، ومع ذلك ظهر الأدب المطلق للصحابي في أجمل صورة. ويتفرع عليه سوء أدب من يسمع مثل ذلك الحديث ويعلم شدة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على لبس الذهب ولو كان أقل شيء وهو الخاتم، ومع ذلك يصرّ على لبسه بحجج واهية، قال الإمام النووي- رحمه الله-: (فيه المبالغة في امتثال أمر رسول صلّى الله عليه وسلّم واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة) «2» . 3- بغض الصحابي القاطع لأخذ الخاتم بعد أن ألقاه النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأرض، وهذا هو أظهر ما في الحديث على تعظيم الصحابة لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مع ضرورة أن نلتفت إلى بعض اللفتات الجميلة في الحديث؛ ليظهر المقصود أكثر وأكثر وتكون الصورة أوضح وأجلى: أ- ليس هناك ما يمنع شرعا من بيع خاتم الذهب أو الانتفاع به أو حتى ادخاره لوقت الحاجة، وهذا لا خلاف فيه، وهو واضح من نص الحديث، قال الإمام النووي- رحمه الله: (ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره) . ب- حث الصحابة- ممن حضر الحادثة- الرجل على التقاط الخاتم وبينوا له جواز الانتفاع به، ومع ذلك لم يفعل.   (1) مسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال ... ، برقم (2090) . (2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» ، (14/ 65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ج- أقسم الصحابي بالله على عدم أخذ الخاتم بقوله: (لا والله) ، كما أكد عزمه على عدم الأخذ أو الانتفاع به طيلة حياته بقوله: (لا آخذه أبدا) ، وكأنه أراد أن يمنع الصحابة من محاولة إقناعه وتيئيسهم من ذلك. د- لم يكن المانع من أخذ الخاتم من الأرض هو الكبر أو الترفع عن أخذ شيء ألقي على الأرض، أو الغضب من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن كان المانع أعظم من ذلك بكثير حيث قال الصحابي: (لا أخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . ويبدو أن الصحابي قد رفض أخذ الخاتم حتى لا يرفع شيئا أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعه، فيكون بذلك مخالفا (ولو ظاهرا) للهيئة التي أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون خاتم الذهب عليها، وهي الطرح على الأرض، ولا يستبعد أنه قال في نفسه: (لو أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أنتفع به لما ألقاه على الأرض ولناولني إياه) . أخي القارئ الكريم: أين نحن من هذه الطاعة المطلقة والتعظيم الشديد لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أين نحن من هذا الأدب الرفيع؟ هلا تعلّمنا واتبعنا؟!!. 3- كمال المتابعة ويتضح لنا كمال الاتباع، وليس مجرد المتابعة، من تتبع الصحابة رضي الله عنهم أثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل صغيرة وكبيرة، لأقوال وأفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم على أكمل وجه كما سيتضح من الأمثلة التالية. المثال الأولى: عن حصين عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبّحة) «1» . الشاهد في الحديث: أن عمارة بن رؤيبة دعا على بشر بن مروان بقوله (قبح الله هاتين اليدين) ، وما ذلك إلا أنه أشار بيده كلها خلافا لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم متابعة الصحابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووجه ذلك من الحديث: أ- دعاء عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه على بشر بن مروان، وما كان ليدعو على أحد من   (1) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (874) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 المسلمين بمثل هذا الدعاء إلا لشعوره بأنه ارتكب مخالفة شرعية، والغريب أن تلك المخالفة ما كانت لأمر أو نهي وإنما كانت لمخالفة هيئة معينة. ب- إذا كان الصحابة رضي الله عنهم ينكرون على التابعين في أمور لا نعدها نحن شيئا، وهي الإشارة باليد كلها في خطبة الجمعة، علمنا من ذلك مدى حرصهم ومتابعتهم لكل أمور السّنة صغيرها وكبيرها على حد سواء. يتفرع على ذلك أن نقف على الفارق العظيم بين عصري الصحابة والتابعين، فما كان يفعله التابعون ولا يعدونه شيئا من المخالفات، كان يعده الصحابة أمرا يستحق فاعله أشد الدعاء عليه. ومما يؤكد ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال: (إنّكم لتعملون أعمالا هي أدقّ في أعينكم من الشّعر، إن كنّا لنعدّها على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الموبقات، قال أبو عبد الله: يعني بذلك المهلكات) «1» ، وعلمنا من باب أولى الفارق بين عصر الصحابة والعصور المتأخرة التي تهاون الناس فيها بالسنة الشريفة. ج- حرص الصحابة رضي الله عنهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم كلها، ويتفرع عليه أيضا، علمنا بتقصيرنا الشديد في هذه العبادة العظيمة: (عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فالمجتهدون منا- في هذا الباب- يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على من ترك الصلاة، أو الصيام، أو وقع في الشرك الأعظم، وقليل منا من يأمر وينهى فيما هو أقل من ذلك، ولكن انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم في أي أمر كانوا ينهون عن المنكر. الفائدة الثانية: جواز الدعاء على من فرط في سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان في أمر هين في نظرنا. الفائدة الثالثة: وهي فائدة عظيمة، وهي أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون التقسيمات التي أحدثها الأصوليون- رحمهم الله تعالى- بعد عصر التابعين، للسنة النبوية الشريفة، فهذه سنة مؤكدة وهذه سنة غير مؤكدة، وهذا عمل مكروه يثاب تاركه ولا يأثم فاعله، وآخر مسنون يثاب فاعله ولا يأثم تاركه، ولكنهم رضي الله عنهم كانوا يعتقدون أن كل ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أمر به، أو أقره فإنه ينبغي على المسلمين فعله، وأنه لا ينبغي مخالفة السنة في شيء. الفائدة الرابعة: خطأ من يقول: إن الاهتمام بالسنن الشكلية هو من سفاسف الأمور التي لا ينبغي الاهتمام به، بل يصل الأمر إلى التشنيع على من يحرص عليها، فهذا من سوء   (1) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: ما يتقى من محقرات الذنوب، برقم (6492) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا عمارد بن رؤيبة يرى أن مخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم في إحدى السنن الشكلية والشكلية جدّا- كما يظن البعض- ونبرأ إلى الله من هذا الظن، يوجب الدعاء على المخالف. ويتفرع عليه، أننا مأمورون باتباع كل ما جاءت به السنة، وأن تقسيم السنة إلى أمور شكلية وأخرى جوهرية هو من الأمور المحدثة التي تبعد المسلمين عن دينهم، وأما ما ذهب إليه العلماء من تقسيم للسنة النبوية إلى مؤكدة وغير مؤكدة، فقد اضطروا إليه حتى لا يشقوا على الأمة، وإلا فإننا نعلم أنهم كانوا أحرص الناس على اتباع جميع السّنن بلا تفريق بين مؤكدة وغير مؤكدة. المثال الثاني: عن عبد الله بن سرجس قال: (رأيت الأصلع، يعني عمر بن الخطّاب، يقبّل الحجر ويقول: والله إنّي لأقبّلك وإنّي أعلم أنّك حجر وأنّك لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّلك ما قبّلتك) «1» . فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم اتباع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث كان يعتقد في نفسه أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، ويعلن على الملأ أنه ما قام بتقبيله- ولا يخفى ما في التقبيل من تعظيم- إلا لرؤيته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقبله، ولولا ذلك ما قبّله، ولا يستحي عمر رضي الله عنه مع ما عرف عليه من القوة والشدة في الحق، أن يعلن ذلك، ولكن ليعلم الجميع أن القوة في الحق ما كان ليترفع بها عن اتباع سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإلا كانت قوة وشدة مذمومتين يدخلان صاحبهما النار. الفائدة الثانية: أدب الصحابة الجم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وسنته الشريفة، فهم كانوا يتبعونها اتباعا مطلقا، يقبلون حجرا وهم لا يعلمون الحكمة من تقبيله، ويعلنون للملأ أنهم ما فعلوا ذلك إلا رغبة في الاتباع، لكنهم يعتقدون أن التقبيل سينفعهم قطعا من حيث كونه اتباعا لسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ويعلمون أنّ الترفع عنه أو المجادلة فيه سيضرهم قطعا لنفس العلة، وهذا هو الفهم الصحيح للاتباع، أما من يشترط أن يعرف حكمة كل أمر حتى يقوم بفعله، فأقول له: أنت لست بمتبع، بل أقول له: لقد تعديت حدود الأدب مع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.   (1) البخاري، كتاب: الحج، باب: تقبيل الحجر، برقم (1610) ، ومسلم، كتاب: الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، برقم (1270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الفائدة الثالثة: حرص الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حث الأمة على الاقتداء بسنة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم مع حرصه على عدم وقوع الأمة في أي مظهر من مظاهر الشرك، ذكر ابن حجر في الفتح أن عمر أراد بقوله: (لقد علمت أنك حجر) حثّ الأمة على الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تقبيله وينبه على أنه لولا الاقتداء به لما فعله، وإنما قال: (وإنك لا تضر ولا تنفع) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف عمر أن يراه بعضهم يقبّله ويعتني به فيشتبه عليه فبينّ أنه لا يضر ولا ينفع بذاته) . انتهى كلامه- رحمه الله- «1» . تنبيه: زيد في هذا الحديث كلام مختلق لا أصل له ولم يصح من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويشتبه على الناس هذه الزيادة لعلمهم أن أصل الحديث في الصحيح، ونص هذه الزيادة الغريبة: (وكان عليّ رضي الله عنه يقف وراء عمر بن الخطاب فقال له: بلى يا أمير المؤمنين فإنه ينفع ويضر، فإني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: من قبل الحجر الأسود جاء يوم القيامة (أي الحجر) شاهدا له عند ربه) . وروايات أخرى مشابهة لهذا المعنى، فأردت أن أنبه على بطلانها. المثال الثالث: عن حفص بن عاصم قال: (صحبت ابن عمر في طريق مكّة قال: فصلّى لنا الظّهر ركعتين، ثمّ أقبل وأقبلنا معه حتّى جاء رحله وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلّى فرأى ناسا قياما فقال: ما يصنع هؤلاء. قلت: يسبّحون. قال: لو كنت مسبّحا لأتممت صلاتي، يا ابن أخي إنّي صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السّفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله. وقد قال الله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) «2» . وهذا مثال ثالث يبين بجلاء معنى الاتباع عند الصحابة رضي الله عنهم، وفي أمر مهم جدّا وهو الصلاة، الركن الركين والشعيرة الأعظم في هذا الدين الحنيف، فما هو وجه الاتباع في هذا الحديث والفوائد المستنبطة منه؟ أقول وبالله التوفيق: [ فوائد الحديث ] الفائدة الأولى: معلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم، كم كانوا يحبون ويحرصون على أداء   (1) انظر «فتح الباري» ، (3/ 362- 363) . (2) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 النوافل من الصلوات، لما يجدون فيها من متعة مناجاة الرب تبارك وتعالى، وما فيها من الأجور العظيمة، فلهم بكل تسبيحة، أو تحميدة، أو تكبيرة صدقة، وكذا بكل ركوع وسجود وحرف من قراءة القرآن، ولكن لم يدفعهم ما يجدونه في قلوبهم من لذة مناجاة الرب عز وجل من فعل شئ لم يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الفقيه العابد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يترك أداء النوافل في السفر، لا لتعب أصابه أو لماء افتقده أو لشغل طرأ له، ولكن ترك صلاد النفل- فقط- لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلها. الفائدة الثانية: لا يحتج علينا أحد بأن هذا المسلك في الاتباع قد تفرد به النقي التقي، عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأنه قد تشدد في مسألة الاتباع، فهذا الاحتجاج يبطله ما ورد في هذا الحديث أن الاقتصار على الركعتين وعدم الزيادة عنهما- في السفر- كان فعل الخلفاء الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا. الفائدة الثالثة: رجاحة عقل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث استنبط أن صلاة النوافل الراتبة لو كانت مشروعة في السفر، لكان الأولى إتمام صلاة الفريضة، وأن أداء النوافل الراتبة يتعارض مع حكمة الله عزّ وجلّ من قصر الصلاة الرباعية للمسافر، وقد قيدت في كلامي صلاة النوافل بالرواتب منها، لأن مطلق النفل في السفر هو من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويستنبط من قول ابن عمر رضي الله عنهما: (لو كنت مسبّحا لأتممت) مشروعية القياس الصحيح، المبني على كتاب الله وسنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وتأتي أهمية هذا الاستنباط أنه جاء لنا من كلام صحابي عرف عنه عظيم اتباعه وتقيده بالنص. الفائدة الرابعة: أفادنا كلام الصحابي عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، الفهم الصحيح لقوله تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ، فليس معنى أنك جعلت الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الأسوة والقدوة لك في حياتك، أن تطيع أمره وتجتنب نهيه فحسب، لا، فإن معنى الأسوة الحسنة أوسع وأشمل من ذلك بكثير، فإن معناها هو الاتباع المطلق لكل ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو تركه، وهذا يبين خطأ من يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى الرباعية ركعتين في السفر، ولكنه لم ينهنا عن إتمامها، وآخر يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصر الرباعية ولكنه لم يحرم أداء النوافل الراتبة، وثالث يقول: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل ولم ينه عن الفعل فلا حرج أن تفعل خاصة إذا كان الفعل عبادة يحبها الله. سبحانه وتعالى-، وهذا كله يرده قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وفهمه للآية الكريمة التي استشهد بها في نهاية حديثه. الفائدة الخامسة: منقبة عظيمة لعبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، حيث ثبت له في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الحديث صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في السفر وكذا صحبته لأبي بكر وعمر وعثمان حتى توفاهم الله- سبحانه وتعالى-، كما أن من فقهه رضي الله عنه أنه كان يرى أن في أعمال الخلفاء الراشدين سنة متبعة، ولولا ذلك ما استدل على قوله بفعلهم، ولما ذكر فعلهم بعد ثبوت فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أن من فقهه وأدبه أيضا أنه ذكر الخلفاء الراشدين بحسب فضلهم، وحب النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم، حيث ذكر أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم جميعا، فلم يبدأ مثلا بأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر جميع شواهد كمال متابعة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إلى مؤلف خاص ولكن يطيب لي أن أختم الباب بما رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (ما تركت استلام هذين الرّكنين في شدّة ولا رخاء منذ رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستلمهما) . قلت لنافع: (أكان ابن عمر يمشي بين الرّكنين قال: إنّما كان يمشي ليكون أيسر لاستلامه) «1» . 4- كراهة مخالفته صلّى الله عليه وسلّم ولو في الهيئة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (صلّيت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فلم يزل قائما حتّى هممت بأمر سوء. قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) «2» . الشاهد في الحديث: قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هممت أن أقعد وأذر النبي صلّى الله عليه وسلّم قائما) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: همة النبي صلّى الله عليه وسلّم في العبادة والتي منها القيام الطويل جدّا في صلاة الليل، وقد بينت طرفا من تلك الهمة العالية في باب مستقل سميته: (همته العالية صلّى الله عليه وسلّم) . الفائدة الثانية: في مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. 1- تشرّفه رضي الله عنه بالصلاة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قيام الليل وليس معهما أحد، وكفى بذلك شرفا وفضلا. 2- صبره على التعب الذي أصابه من طول القيام وتحامله على نفسه حتى أتم الصلاة قائما.   (1) البخاري، كتاب: الحج، باب: الرمل في الحج والعمرة، برقم (1606) . (2) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: طول القيام في صلاة الليل، برقم (1135) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (773) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 3- سمّى الجلوس في الصلاة أمر سوء، بالرغم أن الجلوس في صلاة النافلة جائز شرعا، حتى ولو لم يشعر المصلى بالتعب فما بالكم إذا شعر بالتعب الشديد، ولكن الأمر السوء عنده ليس الجلوس ذاته ولكنه مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد يكون سماه سوآ لأمر آخر، هو أنه سيستريح بالجلوس ويذهب عنه التعب الذي يشعر به، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما زال يتحمل تعب القيام. 4- لم يلتفت رضي الله عنه إلى الأجر الزائد الذي سيناله إذا واصل القيام مع تعبه الشديد، أو الأجر الفائت بالجلوس، وإن كان هذا أمرا عظيما عند الصحابة رضي الله عنه ولكن الذي التفت إليه وشغله كثيرا هو مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا غرابة في ذلك؛ لأن الذي علمهم كيف يحصلون على أجر الصلاة والصوم وسائر العبادات، هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أنه رضي الله عنه لم يلتفت للأجر الفائت من الجلوس لاعتقاده أن سوء الأدب الذي سيلحقه من مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم خسارة من الأجر الفائت بتحمل طول القيام مع التعب الشديد. أخي القارئ: إذا كانت مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم في القيام أو الجلوس- وهي أمر لا يؤاخذ عليه المولى- سبحانه وتعالى- أمر سوء عند الصحابة، فما بالكم بمخالفة أمره ونهيه صلّى الله عليه وسلّم، فما بالكم لو رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الناس اليوم ومنهم من يعبد الله- سبحانه وتعالى- على هيئة تخالف ما سنه النبي صلّى الله عليه وسلّم. ماذا سيقول؟ هل تظنون أنه سيكتفي بقوله: (أمر سوء) ؟. الفائدة الثالثة: يؤخذ من الحديث أن هذا الوقوف الطويل في الصلاة لم يكن أمرا سهلا أو معتادا على الصحابة في ذلك الوقت، حتى الأصغر منهم سنّا. 5- غضبهم الشديد رضي الله عنهم من معارضة سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أبي قتادة قال: كنّا عند عمران بن حصين في رهط منّا، وفينا بشير بن كعب فحدّثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء خير كلّه» . قال: أو قال: «الحياء كلّه خير» . فقال بشير بن كعب: إنّا لنجد في بعض الكتب، أو الحكمة: أنّ منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتّى احمرّتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعارض فيه؟ قال: فأعاد عمران الحديث قال فأعاد بشير. فغضب عمران قال: فما زلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد إنّه لا بأس به «1» .   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، برقم (37) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الشاهد في الحديث: قول الراوي: (فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعارض فيه) . ومعنى الحديث: أن الصحابي عمران بن حصين كان يروي حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مفاده: أن الحياء كله خير، فاستشكل على بشير بن كعب التوفيق بين عموم الحديث والذي يدل على أن الحياء كله خير، بلا استثناء أي نوع فيه، وما يجده مكتوبا في بعض الكتب أن فيه ضعفا. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجه ذلك من الحديث: أ- إنكارهم الشديد على كل من يأتي بمعارض للسنة، وهي ليست معارضة حقيقية، يقصد بها الطعن في الحديث، ولكنها معارضة من حيث الظاهر، حيث استشكل فقط على التابعي بشير بن كعب حمل الحديث على عمومه، ورد في عون المعبود شرح سنن أبي داود: (إنما أنكره عليه من حيث ساقه في معرض من يعارض كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكلام غيره) . انتهى «1» . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (أشكل حمله على العموم لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق، والجواب: أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيّا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا، بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو خلق يبعث على ترك القبيح) . انتهى «2» . ب- غضبهم الشديد لمن يأتي بمعارض لكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ والدليل على أن هذا الغضب كان شديدا، أنه ظهر أثره على عيني عمران رضي الله عنه حتى احمرتا. واستمر هذا الغضب من الصحابي عمران بن حصين رضي الله عنه كلما أعاد بشير مقولته: (إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف) . وأظن أن الصحابي قد غضب مثل هذا الغضب الشديد بسبب معارضة التابعي كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام من هو دونه في المنزلة، بما يوحي للمستمعين أن أحدا من الخلق يمكنه الرد   (1) انظر «عون المعبود» ، (13/ 105) . (2) نقله أبو الطيب في «عون المعبود» ، (13/ 105) . عن الحافظ ابن حجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 على الأحاديث النبوية بما يعارضها أو يخصمها أو حتى يضيف عليها، وهذا خطره عظيم من حيث عدم إكبار الناس لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو اعتقادهم أنه يسعهم أن يقدموا بين يدي الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو أن السنة لا تكفيهم وعليهم أن ينظروا في كلام الحكماء وكتب السابقين. وأعتقد أن عمران بن حصين رضي الله عنه لم يكن ليغضب مثل هذا الغضب لو أن التابعي ألقى عليه ما وقع عنده من إشكال في فهم الحديث على هيئة سؤال دون ذكر ما قرأه في الكتب أو سمعه من الحكم. 3- ظن الصحابي عمران بن حصين رضي الله عنه من مجرد معارضة التابعي لكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام آخر أن به شيئا يطعن في دينه، لذلك رد عليه الحاضرون بكلام يهدّئه ويذهب عنه ظنونه بالتابعي، فقالوا له: (إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به) . أي: ليس هو ممن يتّهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة، ذكره الإمام النووي- رحمه الله-. الفائدة الثانية: بيان الاعتقاد الجازم للصحابة رضي الله عنهم أن السنة تكفيهم وأنها كلها حق، وأنها قد سلمت من كل نقص وتنزهت عن كل خلل، ودليل ذلك من الحديث هذا الغضب والإنكار الذي صدر من عمران بن حصين رضي الله عنه. الفائدة الثالثة: بيان ما نحن عليه من تفريط وسوء أدب وتهاون شديد في سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنا من يجادل فيها، إما حبّا للجدل أو رغبة في إظهار علمه، أو محاولة لتعجيز خصمه، ومنا من يعتقد أنه يسعه الخروج عنها أو أخذ ما يعجبه منها ورد ما لا يعجبه، ومنا من يأتي في كلامه ومقالاته وكتبه بأقوال لفلاسفة ومفكرين تناقض صريح السنة، أو حتى توافقها ولكن لا يقدم تلك السنة على قول المفكرين، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم عرفوا قدر الوحي وأنزلوه منزلته التي أراد الله عزّ وجلّ ووقر في قلوبهم تعظيمه وحبه، وما كانوا ليستبدلوا به شيئا، بل ما كانوا ليذكروا معه شيئا؛ إجلالا له، بل كانوا يرون أن التعقيب على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ببالغ الأدب (كما فعل بشير) هو المنتهى في سوء الأدب. كما ظهر في غضب عمران بن حصين رضي الله عنه. 6- حب الصحابة له صلّى الله عليه وسلّم أكثر من حبهم لأنفسهم عن زهرة بن معبد عن جدّه قال: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: والله لأنت يا رسول الله أحبّ إليّ من كلّ شيء إلّا نفسي. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون عنده أحبّ إليه من نفسه» . قال عمر: فلأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الآن يا عمر» «1» .   (1) البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (6632) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الشاهد في الحديث: قول عمر رضي الله عنه فلأنت الآن- والله- أحبّ إلي من نفسي. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: وجوب حب النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من كل شيء، أكثر من الدنيا وما فيها، من زخرف وزينة، أكثر من الناس الذين فيهم الوالد والولد والزوجة، أكثر من النفس، التي هي ألصق شيء إلى الإنسان، حيث ورد في الحديث قول عمر رضي الله عنه: (والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء) ، وحيث إن قوله: (كل شيء) عامة لأنها جاءت نكرة، فيدخل فيها العظيم من الأشياء والحقير منها، وعندما استثنى عمر النفس، لم يرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم منه ذلك، وما كان ذلك إلا من باب تبليغ الوحي، الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتبليغه وعدم كتمان أي شيء منه. يتفرع على ذلك، علمنا بعلو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعظيم فضله الظاهر على عموم أفراد هذه الأمة، ووجوب أن يشعر كل مسلم بهذه المنزلة وعظيم الفضل، ومن ثمّ فإن العبد لا يكمل إيمانه حتى يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه التي بين جنبيه، والله. سبحانه وتعالى-، هو الذي جعل حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الإيمان، بل من أعظم شعبه، ولا غرابة في ذلك، فإن الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، قد جبلت واتفقت على أن النفس السوية تحب من يقدم لها الخير، ويسدي لها المعروف، ويبين لها ما يصلحها وما يفسدها، فهل أحد من البشر قدم لنا من الخير والمعروف أكثر منه صلّى الله عليه وسلّم، وهل أحد نصحنا وأشفق علينا، وجعل كل همه نجاة أمته يوم القيامة مثله؟ بل أقول: هل من أمة ستفرح باتباع نبيها، فرحنا باتباع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم؟ وإننا من أمته وعلى سنته، فلماذا لا نحبه أكثر من أنفسنا! وقد روى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين» «1» . الفائدة الثانية: في مناقب عمر رضي الله عنه: 1- ما كان عليه من الصدق، حيث قال في الأولى للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (والله لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء إلا نفسي) ، فلما كان يعلم من حاله أنه يحب نفسه أكثر من الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، ذكر ذلك، فكان صادقا في حديثه. 2- استكماله رضي الله عنه لأعظم شعب الإيمان وهي حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر من نفسه،   (1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حب الرسول صلى عليه وسلّم من الإيمان، برقم (15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وكل شيء، لقوله: (فلأنت الآن والله أحب إلي من نفسي) . 3- ما كان عليه من رجاحة العقل، وصفاء القلب، حيث إنه زرع في قلبه حب النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من نفسه بمجرد علمه أن إيمانه لن يكمل إلا بذلك، ولصفاء قلبه وطهارته، لم يجد مشقة ولم يحتج إلى وقت لاستكمال هذه الشعبة الإيمانية العظيمة. الفائدة الثالثة: طبع الإنسان على حب نفسه أكثر من أي شيء، ولا يذم الشرع هذا الحب للنفس؛ لأن مقولة عمر رضي الله عنه تقتضي أنه كان يحب نفسه أكثر من أي شيء، ولكن بعد هذا التوجيه النبوي، يجب على كل مسلم أن يحب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر من نفسه، وإذا كانت النفس تأمر صاحبها في بعض الأوقات بما يضرها، ويكون سبب هلاكها، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمرها دائما بما يصلحها ويضمن لها عدم الهلاك، ولهذا كان حبه صلّى الله عليه وسلّم مقدما على حب النفس. 7- إيثارهم له صلّى الله عليه وسلّم عن جابر قال: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذات الرّقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجاء رجل من المشركين وسيف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم معلّق بالشّجرة، فاخترطه، فقال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: «الله» «1» . الشاهد في الحديث: قول جابر رضي الله عنه: (فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلّى الله عليه وسلّم) . وسيأتي التعليق على هذا الحديث إن شاء الله في باب (حسن توكله صلّى الله عليه وسلّم وثقته بالله) . 8- تعظيم الصحابة رضي الله عنه لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم: عن أنس رضي الله عنه قال: كان للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ناقة تسمّى العضباء، لا تسبق. قال حميد: أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابيّ على قعود فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين حتّى عرفه، فقال: «حقّ على الله ألايرتفع شيء من الدّنيا إلّا وضعه» «2» . الشاهد في الحديث: قول الراوي (فشق ذلك على المسلمين) .   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، برقم (4137) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، برقم (843) . (2) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (2872) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تعظيم الصحابة رضي الله عنهم ليس لشخص النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب، بل امتد هذا التعظيم وانسحب إلى ما يخصه صلّى الله عليه وسلّم، ومثاله القدح الذي كان يشرب فيه صلّى الله عليه وسلّم وفي الحديث الذي في أيدينا مثال على تعظيمهم لناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد حزنوا ليس لموت الناقة أو مرضها، بل لما هو أقل من ذلك بكثير، وهو أنها قد سبقت، ورد بالحديث (فشق ذلك على المسلمين) ، ويبدو أن تلك المشقة التي لحقتهم كانت كبيرة لأنه ظهرت على ملامحهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد لحظ ذلك على وجوههم، فقد ورد في الحديث: (فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه) . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- (فيه حسن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواضعه وعظمته في صدور أصحابه) «1» . الفائدة الثانية: ملاحظته صلّى الله عليه وسلّم أحوال الصحابة حيث عرف ما حدث لهم لما سبقت العضباء، مع رحمته وشفقته بهم صلّى الله عليه وسلّم حيث خفف عنهم ما يجدونه بقوله: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» . الفائدة الثالثة: أسس النبي صلّى الله عليه وسلّم قاعدة كونية عظيمة، تخفف ألم كل مكلوم وتواسي كل محزون، وتعرّف الناس بطبيعة الدنيا فلا يغترون بها ولا يعولون عليها، فأي شيء مهما علا وارتفع تكفل الله بخفضه ووضعه. ومصداق ذلك في الحديث قوله: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» . وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الكلام في سياق الحديث عن دابته العضباء، إنما يدل على تواضعه وحرصه على تعليم أمته صلّى الله عليه وسلّم. قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: «وفيه التزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلا اتضع وفيه حث على التواضع وفيه حسن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواضعه» «2» . 9- حبهم رضي الله عنهم لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم من أمور الدنيا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إنّ خيّاطا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لطعام صنعه. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فذهبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك الطّعام، فقرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبزا ومرقا فيه دبّاء «3» وقديد، فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتتبّع الدّبّاء من حوالي القصعة. قال:   (1) انظر «فتح الباري» ، (6/ 74) (2) انظر المصدر السابق. (3) الدباء: هو القرع واليقطين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 فلم أزل أحبّ الدّبّاء من يومئذ) «1» . وفي رواية عند مسلم: (فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل من ذلك الدّبّاء، ويعجبه. قال: فلمّا رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه. قال: فقال أنس: فما زلت بعد يعجبني الدّبّاء) «2» . وعند مسلم أيضا: (فما صنع لي طعام بعد أقدر على أن يصنع فيه دبّاء إلّا صنع) «3» . الشاهد في الحديث: أن أنسا رضي الله عنه لما رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحب الدباء ويتتبعه، وهو أمر لا يدخل في أمور الشرع، ولم نؤمر بالعمل به، أقول: لما رأى أنس ذلك، وقع في قلبه مباشرة حبّ هذا الصنف من الطعام، وما كان يحبه ولا يشتهيه من قبل علمه أن الرسول يحبه، وهكذا إذا أحب أحد أحدا وقع في قلبه كل ما يحبه الطرف الآخر، من مأكل ومشرب وملبس وحتى المشية، ألا ترى إذا أحب الشاب الآن أحدا من الممثلين الذين لا خلق لهم ولا دين، يتمثل به حتى في قصة شعره بدون إرادة أو وعي، وإن لم تكن ملائمة له، أو مناسبة لقومه وعشيرته، وقد يعصي أبويه في سبيل هذا الاقتداء، حتى أنه يحب أن من يراه، يعلم بدون كلام أنه يحب الممثل الفلاني، ولكن شتان، بين التبر والتراب، والثرى والثريا، فمن الذي أحب الصحابة اتباعه، إنه أفضل الخلق جميعا، هو الذي باتباعه نسعد فلا نشقى أبدا، حتى إن أنسا يقول: إنه ما صنع طعاما يمكن أن يوضع له فيه دباء إلا وضع فيه، أرأيتم الحب ماذا يفعل بصاحبه؟، وأي حب هذا الذي كان في قلوب الصحابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، إنه لا يمل أن يأكل الدباء في كل طعام، فيكون أشبه بالمريض الذي يعلم أن هذا الدواء فيه شفاء له من مرض عضال فيحب أن يتناوله ولو بجرعة أكبر، ولكن يبدو أن أنسا كان يتلذذ به كلما تناوله لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحبه. [ فوائد الحديث ] وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: كيف كان النبي يتتبع حوالي القصعة، وهو الذي أمر الغلام «4» أن   (1) البخاري، كتاب: الأطعمة، باب: من تتبع حوالي القصعة مع أصحابه ... ، برقم (5379) . (2) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين..، برقم (2041) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) انظر المصدر السابق. (4) وذلك كان في حديث عمر بن أبي سلمة إذ كان صغيرا تطيش يده في الصحفة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا غلام سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك» ، انظر حديث (5376) في صحيح البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 يأكل مما يليه؟ أقول: يمكن أنه فعل ذلك لسببين: الأول: أنه أراد أن تمس يده الشريفة جميع القصعة فتحل فيها البركة. الثاني: أنه يعلم أن جليسه لن يتقزز من ذلك بل يحبه، فكان يفعله بغير حرج، بعكس غيره فقد يتأفف الناس منه. الفائدة الثانية: إيثار الصحابة لرسول الله، حيث إن أنسا لما رأى النبي يتتبع الدباء، تركه له ولم يطعمه. الفائدة الثالثة: على المسلم الذي يحرص على محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويريد أن يناله هذا الشرف العظيم، أن يحب ما كان يحبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء كان ذلك في أمر من أمور الدنيا أو الدين، ما أمرنا به وما لم نؤمر، لأن ذلك يساعد المسلم على أن يتشرّب قلبه بحبه صلّى الله عليه وسلّم. 10- حب مرافقته والقرب منه صلّى الله عليه وسلّم المثال الأول: عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال: (رأيت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر بن الخطّاب عليك السّلام، ثمّ سلها أن أدفن مع صاحبيّ. قالت: كنت أريده لنفسي فلأ وثرنّه اليوم على نفسي، فلمّا أقبل. قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع، فإذا قبضت فاحملوني ثمّ سلّموا ثمّ قل: يستأذن عمر بن الخطّاب، فإن أذنت لي فادفنوني وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين، إنّي لا أعلم أحدا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النّفر الّذين توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض) «1» . الشاهد في الحديث: قول عمر رضي الله عنه: (ثم سلها أن أدفن مع صاحبي) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: مناقب عمر رضي الله عنه: 1- توقيره لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويتمثل ذلك في: أ- ذكرها بصفتها قبل اسمها، وهذا من باب التوقير لأمهات المؤمنين، الذي أمرنا الله به، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، وشاهده من الحديث: (يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-) .   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (1392) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 ب- في مقابل ذكره، عائشة رضي الله عنها، بصفتها، لم يذكر صفته هو، أنه أمير المؤمنين، بل ورد في إحدى الروايات عند البخاري: (وقل يقرأ عمر عليك السلام ولا تقل أمير المؤمنين) «1» وهذا لسببين؛ الأول: من باب التواضع مع زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم واستشعارا لقوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ، مع أن عائشة رضي الله عنها لم تتعد الخامسة والثلاثين من عمرها، وهو قد تعدى الستين، وهو الخليقة الراشد، وثاني أفضل الصحابة بعد الصديق، رضي الله عنهم، والثاني: أنه أرسل يطلب من أم المؤمنين رضي الله عنها شيئا من خالص حقها، فمن الأدب أن يشعرها، أنه لا يطلب منها بصفته أميرا للمؤمنين، فقد يسبب ذلك حرجا لها، لأن طاعة ولي الأمر واجبة، بل هي من طاعة الله ورسوله، وإن صح الاستنباط، فيكون ذلك من عمر رضي الله عنه في منتهى الأدب وغايته، مع غاية النصح لله ورسوله، في تولي خلافة المسلمين، حيث لم يرد أن يكسب بخلافته شيئا لصالحه. فمن يتعلم؟. حتى لما علم رضي الله عنه بموافقة عائشة رضي الله عنها على أن يدفن في المكان الذي يحبه، أمر ابنه عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن يستأذن أم المؤمنين، مرة أخرى قبل دفنه مباشرة، عسى أن تكون استحيت منه في حياته، قال: (فإذا قبضت فاحملوني ثم سلموا ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني) ، ويؤخذ منه، أنه لا ينبغي لأحد أن يأخذ شيئا من أخيه المسلم بسيف الحياء، فقد أعطى عمر رضي الله عنه الفرصة لأم المؤمنين، أن تتحلل من وعدها إذا أرادت. ج- إقراره، رضي الله عنه بفضل عائشة رضي الله عنها وأنها الأحق بجوار النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه مات وهو عنها راض، قال: (إني لا أعلم أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض) . 2- عظيم حب عمر رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم مع غزير علمه، حيث ذكر أنه ما كان شيء في الدنيا يهمه ويفكر فيه أعظم من مجاورته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، قال: (ما كان شيء أهم إليّ من ذلك المضجع) ، وانظر إلى حرصه إلى هذا الجوار، أنه بادر ابنه السؤال لدى عودته من عند عائشة رضي الله عنها وما استطاع الانتظار حتى يعرض عليه ابنه الإجابة، يقول: (فلما أقبل قال له: ما لديك) ، وهذا يدل على أن هذا الأمر كان يشغله جدّا، وكان يخاف أن تأتي الإجابة بما لا يحب.   (1) البخاري مطولا، كتاب: المناقب، باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان، برقم (3700) ، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 أما عن علمه رضي الله عنه فإنه ما حرص هذا الحرص الشديد على مجاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بعلمه بمدى البركة التي ستناله من هذا الجوار المبارك، وهذا، والحمد لله، مشاهد لكل أحد. كما تبدو حكمة عمر رضي الله عنه أنه لما أراد أن يستأذن عائشة رضي الله عنها قال لابنه: (ثم سلها أن أدفن مع صاحبيّ) ، فأراد بأسلوب فيه الأدب واللطف، أن يبرر لها طلبه، ويستحثها على الموافقة، بأن يذكرها بمكانته من النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: (صاحبيّ) فلما كان له شرف مصاحبتهما الشديدة في الدنيا، رأى أنه له الحق في مثل هذا الشرف بعد الموت، ولو قال لها: أريد أن أدفن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاستوى هو وغيره من عموم المسلمين، الذين لهم جميعا الحق في هذا الطلب، لكونه صلّى الله عليه وسلّم رسولا إليهم جميعا، ولكن من يسامي الصديق والفاروق في شرف الصحبة الخاصة؟ ... لا أحد. الفائدة الثانية: في مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ويتبين ذلك من: 1- إرادتها أن تدفن بجواز النبي صلّى الله عليه وسلّم وما قلته عن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة، ينطبق هنا أيضا، فلا داعي للإعادة، قالت أم المؤمنين: (كنت أريده لنفسي) . 2- إيثارها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المضجع الذي كانت تتمناه لنفسها، قالت: (فلأوثرنه اليوم على نفسي) ، مع أن أحدا لا ينكر أحقيتها بهذا المكان، حيث إنه بيتها، والمدفون فيه زوجها صلّى الله عليه وسلّم الذي كان لا يحب أحدا مثلها، ثم أبوها، الصديق رضي الله عنه وأعتقد أنها آثرت عمر رضي الله عنه اعترافا بفضله وحسن صحبته للرسول صلّى الله عليه وسلّم فكأن هذا رد منها للجميل. الفائدة الثالثة: بل هي الفائدة الأولى في الأهمية، وهي أن عظيم بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كعظيم بركته وهو حي صلّى الله عليه وسلّم سواء بسواء فالمكان الذي يضم جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم قطعا لا يستوي مع غيره من الأمكنة، وإلا ما حرص عمر رضي الله عنه أن يدفن في هذا المكان، ويكون ذلك هو كل شغله الشاغل، وكذا عائشة رضي الله عنها، ولا يخفى على أحد ما للاثنين من علم وفقه واتباع للسنة، فاق الجميع، ويتفرع على ذلك مسألتان: المسألة الأولى: ما خص الله سبحانه وتعالى به أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما من فضل، إذ لم يكن لأحد من هذه الأمة شرف جوار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته إلا لهما، فسبحان الله الذي جعل الجزاء من جنس العمل، وهذا واضح في هذا الأمر وضوح الشمس في رابعة النهار، وصدق الله الذي قال: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) ، وما أجمل عطاء الله الجواد الكريم، الذي يكافئ على القليل بالكثير، فالعبد إذا قام بعبادة الله. سبحانه وتعالى. طوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 حياته وبذل فيها أغلى ما يملك، من مال ونفس وولد، وبذل كل معروف، وكفّ عن كلّ مكروه، ما عدل كلّ ذلك وأمثاله، جوار النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن كما أقول دائما: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. المسألة الثانية: إذا كان الميت ينتفع بدفنه بجوار الصالحين، فإنه أيضا يتضرر من جواره لأهل المعاصي والكبائر، وأهل الشقاق والعناد، وعلى المسلم أن يتخير المكان الذي سيدفن فيه، ويوصي به في وصيته، وما عمت به البلوى الآن، أن المسلم لا يبالي أين يدفن، ولا بجوار من سيكون، وانظر إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم لما علم أنه سيموت سأل الله عزّ وجلّ أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، «1» واستجاب الله دعاءه، كما ورد في صحيح البخاري «2» . المثال الثاني: فعن ربيعة بن كعب الأسلميّ رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيته بوضوئه وحاجته. فقال لي: «سل» . فقلت: أسألك مرافقتك في الجنّة. قال: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود» «3» . الشاهد في الحديث: أن ربيعة بن كعب- وكنيته أبو فراس- طلب مرافقته في الجنة، وليس دخول الجنة فحسب، أي أن الصحابة كانوا يحبون مرافقته ليس في الدنيا فقط، بل في الآخرة، ويرون أن الجنة برفقة الرسول، تكون أسعد بكثير، وإلا لم يكن لطلبه المرافقة معنى. [ فوائد الحديث ] وفي الحديث بعض الفوائد منها: الفائدة الأولى: تعظيم الصحابة لأمر الجنة، ومرافقة الرسول فيها، حيث إن ذلك كان الطلب الأول لأبي فراس، ولما عرض عليه الرسول أن يطلب شيئا آخر امتنع، لأنه يرى أنه ليس ثمّة شيء آخر يجب أن يزاحم هذا الطلب، أو أنه كان يستصغر كل طلب مع طلب مرافقة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنة. الفائدة الثانية: زهد الصحابة في الدنيا، فإن ربيعة كان فقيرا (من أهل الصفة) وعرض عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يطلب أي شيء من أمر الدنيا أو الآخرة لأنه لم يحدد في عرضه ومع ذلك زهد في كل شيء.   (1) أي قرب الأرض المقدسة بهذا القدر، الرمية بحجر. (2) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء باب: وفاة موسى ... ، برقم (3407) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه، برقم (489) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 الفائدة الثالثة: حسن تعامل النبي مع خادمه، يؤخذ ذلك من حب الخادم له، حيث طلب مرافقته في الجنة، ويؤخذ أيضا من ملاطفة الرسول لخادمه، فهو يطلب منه أن يسأله ما يشاء، ويكرر عليه السؤال ليستزيد الخادم. الفائدة الرابعة: أن دخول الجنة يحتاج إلى عمل، وإلى مجاهدة النفس، وأرجى وسيلة للمجاهدة هي كثرة السجود، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. 11- كراهيتهم ترهك شيء فارقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنّته «1» فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرّجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا ولم يفتّش لنا كنفا «2» منذ أتيناه. فلمّا طال ذلك عليه ذكر للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: القني به، فلقيته بعد. فقال: «كيف تصوم؟» قال: كلّ يوم. قال: «وكيف تختم؟» قال: كلّ ليلة. قال: «صم في كلّ شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كلّ شهر» . قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «صم ثلاثة أيّام في الجمعة» . قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «أفطر يومين وصم يوما» . قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «صم أفضل الصّوم، صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كلّ سبع ليال مرّة» . قال عبد الله: فليتني قبلت رخصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذاك أنّي كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السّبع من القرآن بالنّهار والّذي يقرؤه يعرضه من النّهار ليكون أخفّ عليه باللّيل، وإذا أراد أن يتقوّى أفطر أيّاما وأحصى وصام مثلهنّ كراهية أن يترك شيئا فارق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه) «3» . الشاهد في الحديث: قول الراوي: (كراهية أن يترك شيئا فارق النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: لم يعظم الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب بل عظموا كل شيء يخصه، وتعدى الأمر إلى أن عظموا كل ما التزموا به أمامه من العبادات أو الأعمال التي فارقهم- بموته صلّى الله عليه وسلّم- وهم يحافظون عليها. وهذا المسلك منهم رضي الله عنهم يدعو- والله- إلى التدبر والتفكر في أدبهم وإجلالهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتضح ذلك من:   (1) أي زوجة ابنه. (2) أي شيئا مستورا، وتقصد أنه لم يقربها للجماع. (3) البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: في كم يقرأ القرآن، برقم (5052) ، ومسلم، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... ، برقم (1159) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 1- الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص لم يلتزم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو يعاهده على تلك العبادات التي ذكرها في الحديث. وهي صوم يوم وإفطار يوم وختم القرآن في سبعة أيام. وإنما اعتبر نصح الرسول صلّى الله عليه وسلّم له بذلك والتزامه رضي الله عنه بتلك العبادات طيلة حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم كالعهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يجب الوفاء به. 2- العبادات التي التزم بها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ليس من الواجب ولا الفروض ولكنها من السنن. 3- بلغت المشقة بعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أقصاها، لما كبر سنّه، من المواظبة على تلك العبادات. ومع كل ما ذكر لم يستطع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يترك تلك العبادات، مع أنه يعلم تماما أن المشقة توجب التخفيف، ويتذكر جيدا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم راجعه ليخفف عن نفسه، وما تركها رضي الله عنه مخافة ضياع ثوابها- لأنه يعلم أن الله يكتب للمريض ما كان يفعله وهو صحيح- وإنما لم يتركها كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال الإمام النووي- رحمه الله- (معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشق عليه فعله لعجزه ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف) «1» . وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه) «2» . الفائدة الثانية: شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، حيث راجع الصحابي عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في أمر زوجته حتى يعطيها حقها، كما راجعه في أمر عبادته حتى لا يشق على نفسه ويجهدها مما قد يضطره إلى قطع تلك العبادة إذا كبر سنه، وهذا فيه بعد نظر جميل من النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثالثة: حياؤه صلّى الله عليه وسلّم وحكمته، أما حياؤه فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصارح عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بما بدر منه تجاه زوجته منذ زواجهما، أما حكمته صلّى الله عليه وسلّم فتتضح من معالجته لأصل المشكلة وهي تفرغ عبد الله بن عمرو للعبادة وانشغاله بها طوال ليله ونهاره. الفائدة الرابعة: حب الصحابة رضي الله عنهم للعبادة، لقد ودوا لو استغرقت كل أوقاتهم، لولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرشدهم دائما إلى القصد وإعطاء كل ذي حق حقه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «فإن   (1) شرح النووي على صحيح مسلم (8/ 43) . (2) انظر فتح الباري (4/ 220) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 لجسدك عليك حقّا وإن لعينك عليك حقّا وإن لزوجك عليك حقّا وإن لزورك عليك حقّا» «1» . الفائدة الخامسة: حياء الصحابة رضي الله عنهم وتقديمهم التعريض على التصريح فيما يخدش الحياء، ولو كان المتحدّث إليه من المحارم، يتضح ذلك جليّا من قول زوجة عبد الله بن عمرو: (لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا) . وهذا أمر نفتقده كثيرا في كلامنا اليوم، فنأتي بكلام يخدش الحياء بمصلحة وبغير مصلحة، وفي جدّنا وهزلنا. 12- عظيم أدبهم معه صلّى الله عليه وسلّم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليس بيني وبينه إلّا أخرة الرّحل «2» . فقال: «يا معاذ بن جبل» . قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: «يا معاذ» . قلت: لبّيك رسول الله وسعديك. ثمّ سار ساعة ثمّ قال: «يا معاذ» قلت: لبّيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حقّ الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» . ثمّ سار ساعة ثمّ قال: «يا معاذ بن جبل» . قلت: لبّيك رسول الله وسعديك. فقال: «هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوه؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقّ العباد على الله أن لا يعذّبهم» «3» . متفق عليه. الشاهد في الحديث: أن النبي قد نادى معاذا ثلاث مرات، وفي كل مرة يرد عليه معاذ ثم يسكت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا يتكلم بكلمة واحدة، فلا يقول معاذ للرسول في أي من مرات الثلاث: ناديتني يا رسول الله فماذا كنت تريد؟، أو يقول: يا رسول الله أنسيت ماذا كنت تريد أن تقول؟ أو أي كلمة مشابهة. ولكن يسكت، والرسول صلّى الله عليه وسلّم ينادي، فلا يمل ولا يقول شيئا، بين يدي النبي، وهذا أدب عظيم.   (1) البخاري، كتاب: الصوم، باب: حق الجسم في الصوم، برقم (1975) ، مسلم كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر ... ، برقم (1159) ، من حديث عبد الله بن عمرو. (2) أي الخشبة التي يستند إليها راكب البعير (3) البخاري، كتاب: اللباس، باب: إرداف الرجل خلف الرجل، برقم: (5967) ، مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، برقم (30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 [ فوائد الحديث ] وفي الحديث فوائد كثيرة منها: الفائدة الأولى: ما كان يبديه الصحابة من سرعة استجابة وأدب في رد دعاء النبي، حيث رد معاذ في كل مرة بقوله: (لبيك يا رسول الله وسعديك) . ومعنى لبيك: أي طاعة لك بعد طاعة، أو أنا مقيم على طاعتك، أو إجابة بعد إجابة، ومعنى سعديك: أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة «1» . وهذا الأدب هو ما علمه الله عزّ وجلّ للصحابة في قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . الفائدة الثانية: اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بكل أحوالهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، خاصة راوي الحديث، حيث يقول أنس: عن معاذ (ومعاذ رديفه على الرحل) . وهذا مهم جدّا في مثل هذا الحديث؛ لأن هذا القرب أوعى للسامع، وتأكدنا أنه قد ضبط الحديث ولم تشتبه عليه ألفاظه. الفائدة الثالثة: في الحديث منقبة عظيمة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث نال شرف القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما كان يفصله عنه إلا مؤخرة الرحل، كما ثبت في لفظ مسلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أعلمه بهذا الحديث العظيم، أعظم بشارة للأمة، وهي الفائدة التالية. الفائدة الرابعة: البشارة بأن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وفي ذلك: 1- حجة على من قال: إن أهل المعاصي في منزلة بين منزلتين، لا نحكم لهم بالإيمان، ولا نحكم عليهم بالكفر، ولكنهم مخالدون- حسب زعمهم- في النار وهذا قول المعتزلة، والحديث حجة دامغة عليهم، من حيث ربط النبي دخول الجنة بعدم الشرك، والشرك معروف من الدين بالضرورة، وهو أن تجعل لله عز وجل ندّا في صفاته أو في أفعاله، ومعلوم أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولو كان أهل المعاصي يخالدون في النار ولا يدخلون الجنة، لقال في الحديث: (أن يعبدوه ولا يعصوه) . فيدخل في العصيان الشرك من باب أولى، ولكن لا تدخل المعاصي في الشرك أبدا، لقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] . وقيل عن هذه الآية: إنها أرجى آية في كتاب الله، ويشهد بذلك ما رواه البخاري من حديث الشفاعة الطويل: (فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود) «2» .   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 231) . (2) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، برقم: (4476) . من حديث أنس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 2- فيه التحذير كل التحذير، من أدنى أدنى أعمال الشرك، لأن الرسول قال «أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا» وكلمة (شيئا) نكرة في سياق النفي، وهي تقتضي العموم، فتشمل أدنى أفعال الشرك. 3- علمنا من الحديث أن الذين يدعون من دون الله أولياء، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، أو يعتقدون أن النفع والضر، يشارك الله فيه أحد، وماتوا على ذلك دخلوا النار مخالدين فيها أبدا. 4- على المسلم المبتغي مرضاة الله، الحريص على الجنة، وحسن الخاتمة، أن يسأل الله الثبات على الإيمان، لأن الإيمان هو الذي يدخل العبد الجنة، وألا يتكل على هذه البشارة، وليعلم أن المعاصي بريد الكفر والشيطان حريص على وقوعه في الشرك، وليعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، وأن يتذكر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران: 102] . وقد فسر العلماء الآية، بأنها أمر من الله بالطاعة والتقوى، ومواصلة الأعمال الصالحة حتى يثبت المسلم ويموت وهو مؤمن، بل إن المسلم الصادق بقدر فرحه بهذا الحديث واستبشاره به، بقدر اجتهاده في العبادة، كما فعل النبي لما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قام لله شكرا على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة عليه وقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» «1» ، وهو نفس ما أمر الله به آل داود، قال- سبحانه وتعالى-: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] . الفائدة الخامسة: التأكيد على أمر العبادة، فلم يقتصر حق الله على العباد ألايشركوا به شيئا بل ذكر «أن يعبدوه» والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ورسوله، ونتقرب به إلى الله عزّ وجلّ، أي تشمل جميع أنواع الطاعات، ولو كانت العبادة ليست بشرط في دخول الجنة، ما ذكرها النبي في موضع يبين فيه عظيم امتنان الله على عباده المؤمنين، وفي هذا رد على من يقول: يكفي أن قلبي سليم، والله رب قلوب، وأنا لا أوذي أحدا، وهذا يكفي لدخول الجنة، والحديث حجة على هؤلاء. الفائدة السادسة: على العالم ألا يلقي مسائل العلم العظيمة إلا بعد أن يتأكد أن طلبة العلم قد أرعوه كامل انتباههم، ويمكن أن يتأكد أيضا بسؤالهم عما فهموه بعد إلقاء المسألة، وللتفريط الواقع في هذه المسألة نرى كثيرا من طلبة العلم قد ينسبون لمشايخهم ما لم يقولوه.   (1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم الليل، برقم (1130) ، مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2819) ، من حديث المغيرة بن شعبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 [ مثال آخر لعظيم أدب الصحابة مع النبي ص ] وهناك مثال آخر لعظيم أدب الصحابة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مرّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على نفر من أسلم ينتضلون «1» . فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان» ، قال، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لكم لا ترمون؟» قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟! قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ارموا فأنا معكم كلّكم» «2» . الشاهد في الحديث: إمساك أحد الفريقين عن الرمي بعد أن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للفريق المقابل: «ارموا وأنا مع بني فلان» . حقيق بمن تدبر هذا الأدب الجم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتعجب كل التعجب، خاصة إذا تأمل قول الفريق الذي كف عن الرمي «كيف نرمي وأنت معهم» ، وأعتقد أن من أسباب كفهم عن الرمي أنهم سيكونون في وضع (ظاهره) أنهم خصوم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد بينت في عدة مواطن من الكتاب أنهم كانوا يأبون أن يكونوا على هيئة ظاهرها عدم التأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو برضاه، كما حدث مع أبي أيوب الأنصاري، وقد أورد الحافظ ابن حجر- رحمه الله- وجهين آخرين لإمساك الفريق عن الرمي نقلا عن بعض العلماء قال: (أمسكوا لكون النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الفريق الآخر خشية أن يغلبوهم، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم مع من وقع عليه الغلبة، والقول الثاني: أنهم أمسكوا لما استشعروا من قوة قلوب أصحابهم بالغلبة حيث صار النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم، وذلك من أعظم الوجوه المشعرة بالنصر) . انتهى. وفي الحديث ملاطفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه حيث قال لهم في الأولى: «ارموا وأنا مع بني فلان» . وفيه أيضا حرصه صلّى الله عليه وسلّم على تطييب خاطر أصحابه جميعا، لما قال لهم في الآخرة: «ارموا فأنا معكم كلكم» . 13- تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم في نفوسهم تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس كلمات تقال ولا قصصا تروى ولا تكون دعوى باللسان ولا هياما بالوجدان بل لا بد أن يصاحب ذلك: الاتباع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة العملية، فتعظيمه صلّى الله عليه وسلّم ليس ترانيم تغنى ولا قصائد وأناشيد تنشد ولا كلمات تقال ولا خطبا تعلو المنابر فحسب بل محبة وإجلال واقتداء وسلوك وتقديمه صلّى الله عليه وسلّم   (1) ينتضلون: أي يتسابقون في رمي السهام. (2) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: التحريض على الرمي، برقم (2899) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 على كل شيء من أولاد وأحباء وأخوة وحتى النفس التي بين أضلعنا، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومنها: الحديث الأول: عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصّلاة، فجاء المؤذّن إلى أبي بكر فقال: أتصلّي للنّاس فأقيم قال: نعم فصلّى أبو بكر فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والنّاس في الصّلاة فتخلّص حتّى وقف في الصّفّ، فصفّق النّاس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلمّا أكثر النّاس التّصفيق التفت، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، ثمّ استأخر أبو بكر حتّى استوى في الصّفّ، وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى فلمّا انصرف قال: «يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟» . فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لي رأيتكم أكثرتم التّصفيق، من رابه شيء في صلاته فليسبّح، فإنّه إذا سبّح التفت إليه، وإنّما التّصفيق للنّساء» «1» . الشاهد في الحديث: أن أبا بكر رضي الله عنه أبي أن يصلي بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أبى أن يكون إماما والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأموما. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: تواضع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتضح ذلك من: 1- ذهابه بنفسه إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، وكان في مقدوره أن يرسل أحدا، أو أكثر ليقوم بهذه المهمة بأمره واسمه. 2- رضاه أن يصلي مأموما، وهو نبي هذه الأمة وقائدها، خلف أبي بكر رضي الله عنه؛ بل إنه أمره أن يثبت مكانه. الفائدة الثانية: على الإمام أو من ينوب مكانه في الولايات، أن يحرصوا على أن يصلحوا بين الناس وكذا بين القبائل، ويبذلوا في ذلك غاية جهدهم، امتثالا لقول الله- سبحانه-: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] ، واتباعا لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف للإصلاح، وعليه يتبين خطأ من يعتقد أن وجود الخلافات بين الناس والقبائل يعضد ملكه ويقوي أركانه.   (1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول، برقم (684) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الفائدة الثالثة: في مناقب الصديق رضي الله عنه خير هذه الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وسلّم: 1- علم الصحابة بأنه أفضلهم بعد نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، حيث جاءه المؤذن يسأله أن يصلي بالناس، وما ذهب لغيره من الصحابة، ولو كان فعل المؤذن عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكان الفضل آكد وأثبت، وقد ورد في البخاري الأمر الصريح من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي أبو بكر بالناس وذلك في مرض موته، وقد ذكر بعض شراح حديث الباب، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أمر أن يؤم أبو بكر الناس، ولكن كلام المؤذن لا يوحي بذلك، حيث ورد بالحديث: (فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم) . فالسياق يوحي أن المؤذن إنما يستأذن أبا بكر في الإمامة، فإذا وافق أقام، ولو كان هناك أمر من النبي صلّى الله عليه وسلّم لاستأذنه فقط في الإقامة، أو لأخبره أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بذلك. 2- فقهه رضي الله عنه ويتبين من: أ- عدم التفاته في الصلاة، لقول الراوي: (وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته) ، لعلمه أن الالتفات اختلاسة من الشيطان، وهو أيضا من كمال أدبه مع الله. سبحانه وتعالى-؛ إذ كيف يلتفت في صلاته، من يعظم الله ويعلم قدره، كما يتبين فقهه من التفاته، على غير عادته، عندما أكثر الناس من التصفيق، فاختار أخف الضررين، وهو الالتفات، أو أنه علم أن الناس لن تكف حتى يلتفت. ب- علمه رضي الله عنه أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم له بمواصلة إماما، لم يكن على الوجوب، وإنما المقصود منه إظهار فضله وتكريمه، وهذا الفهم منه رضي الله عنه صحيح، وإلا لبين له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الأمر كان للوجوب، وأنه ما كان ينبغي أن يرجع. والوجه الثاني في المسألة، أن الأمر باتمام الصلاة إماما كان للوجوب، ولكن أبا بكر رضي الله عنه تأول هذا الأمر وأخرجه عن ظاهره- وهو الوجوب- لحيائه الشديد من النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ كيف يصلي به إماما؟! ج- علمه أن الالتفات، والتأخر في الصلاة للوراء، وتحوله من إمام إلى مأموم، كله لا يفسد الصلاة، وكان له الفضل أن تعلمت الأمة حكم تلك المسائل. د- علمه أنّ حمد الله في الصلاة، على أمر خارج الصلاة، لا يفسدها، مع جواز رفع اليدين في الصلاة، شكرا لله. 3- تعظيمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتجلى ذلك فيما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 أ- عدم قدرته على إتمام الصلاة، إماما في الوقت الذي يكون فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مأموما، مع أن الصلاة قد بدأت والنبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أمره بمواصلة الصلاة على تلك الهيئة، وهذا منتهى الأدب، وغاية الإجلال للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان هذا هو دأب أبي بكر رضي الله عنه وحده ولكن كان دأب كل الصحابة رضي الله عنهم، فقد بلغ تعظيمهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم ظنوا أنه لا ينبغي لأحد أبدا أن يسمى ابنه باسم محمد، فعن جابر بن عبد الله قال: ولد لرجل منّا غلام فسمّاه محمّدا. فقال له قومه: لا ندعك تسمّي باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانطلق بابنه حامله على ظهره، فأتى به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام فسمّيته محمّدا، فقال لي قومي: لا ندعك تسمّي باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم أقسم بينكم» «1» . فالتعظيم قد انسحب إلى كل شيء، حتى شمل الاسم، وأعتقد أن الصحابة قد أنكروا على الرجل التسمية باسم (محمد) مخافة أن يوجه الرجل لابنه أي سب أو إهانة، فتقع الإهانة على اسم (محمد) وهو نفس اسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ب- استشعار أبي بكر أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإتمام الصلاة على تلك الهيئة لهي من النعم العظيمة عليه، توجب حمد الله على الفور لا التراخي، فاضطر على مرأى من أهل المسجد، أن يرفع يديه بالحمد ولا ينتظر الفراغ من الصلاة أو الركوع والسجود، ونلمس فيه كيف كانت تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه الأمة. ج- تواضعه الجم، مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث ذكر نفسه باسمه، لا بكنيته مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ناداه بكنيته، لأن المقام، يقتضي التواضع، وبيان من الفاضل ومن المفضول، فقال: (ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . وتدبر أنه لم يقل: (بين يديك) وذلك رغبة منه في بيان التفاضل غاية البيان. الفائدة الرابعة: حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على تعليم الأمة، وبيان ما تحتاج إليه، حيث سأل أبا بكر رضي الله عنه عن سبب عدم امتثال الأمر، ليعلمه الصواب إذا استدعى الأمر، كما وجّه الصحابة لما وقعوا فيه من محظور يتمثل في كثرة التصفيق، وبين لهم الصواب في المسألة، فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء. وأعتقد أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما التصفيق للنساء» ، ليس بحجة لمن يمنع الرجال من التصفيق   (1) مسلم، كتاب: الآداب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم، برقم (2133) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 خارج الصلاة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال هذه المقولة، مقابل ما فعله الصحابة من التصفيق في الصلاة، وكأن التصفيق وما يحدثه من إزعاج وشوشرة لا يناسب الصلاة، فنهى عنه الرجال، أما النساء فضرر التصفيق في الصلاة أقل من الضرر الذي قد يحدث من التفات المصلين لأصواتهن، خاصة إن كان فيه فتنة. الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى على امرأة تبكي على صبيّ لها. فقال لها: «اتّقي الله واصبري» . فقالت: وما تبالي بمصيبتي. فلمّا ذهب. قيل لها: إنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذها مثل الموت. فأتت بابه فلم تجد على بابه بوّابين. فقالت: يا رسول الله لم أعرفك. فقال: «إنّما الصّبر عند أوّل صدمة، أو قال عند أوّل الصّدمة» «1» . الشاهد في الحديث: قول الراوي عن حال المرأة، لما علمت أن الذي خاطبها هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم (فأخذها مثل الموت) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- مداومته وحرصه صلّى الله عليه وسلّم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على كل حال، لقوله للمرأة: «اتقي الله واصبري» ولم يقل صلّى الله عليه وسلّم: إن المرأة الآن مصدومة، ولا يصح توجيه الخطاب إليها، ولما جاءته لتعتذر إليه، نصحها مرة أخرى، فقال لها: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» . 2- حكمته ورفقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما حكمته، أنه أمر المرأة أولا، بتقوى الله، أي بالأمر العام، الذي هو سبب امتثال العبد لكل أمر وبعده عن كل نهي، لتشعر بخوف الله، - سبحانه وتعالى-، ووجوب طاعته والبعد عن معصيته، وليكون ذلك أدعى لامتثالها لما سيأتي من أمر، ليقع الأمر على قلب خاشع، ثم أمرها بالأمر الخاص، ألا وهو الصبر، الذي تحتاج إليه المرأة في مثل هذا الموضع، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقي الله واصبري» . أما رفقه صلّى الله عليه وسلّم في الأمر فيتضح من: أ- أنّ نصحه للمرأة ما زاد عن قوله: «اتقي الله واصبري» .   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: زيارة القبور، برقم: (1283) ، مسلم، كتاب: الجنائز. باب: في الصبر على المصيبة، عند الصدمة الأولى، برقم (926) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ب- أنه ما نهر المرأة وما عاتبها أولا وآخرا، أولا: لما لم تعرفه وقالت له: (وما تبالي بمصيبتي) . وفي رواية عند البخاري: (فإنك خلو من مصيبتي) وآخرا: لما عرفته واعتذرت إليه، فقالت: (يا رسول الله لم أعرفك) ، والغريب أنه صلّى الله عليه وسلّم غير سياق الموضوع ولم يشعرها بحرج من عدم معرفته، وقال لها: «إنما الصبر عند أول صدمة» . ويتفرع عليه، وجوب تحلي أهل الحسبة، بالصبر على أذى الناس، والاحتساب في ذلك، وألاينتقموا لأنفسهم، وأن تكون غايتهم التوجيه والنصح والإرشاد، قدر المستطاع، وأن يعذروا الناس خاصة عند وقوع المصائب، وألا يكلفوهم أكثر مما يطيقون؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ألحّ على المرأة في امتثال ما يأمرها به، وما وقف على رأسها حتى تتوقف عن المحظور الواقعة فيه، لأن المقام لا يحتمل ذلك، ولو فعل لاحتمل أن تتلفظ بكلام لا يليق، فتقع في محظور أكبر. ج- تواضعه صلّى الله عليه وسلّم ويتضح ذلك من: أن المرأة لم تعرفه عند ما قال لها: «اتق الله واصبري» . فلو أنه كان يمشي بحاشية وأتباع، يمشون خلفه أو كانت له مشية معينة أو أنه كان له زي خاص، أو يتبع أسلوبا معينا في الكلام يختلف عن الناس لعرفته المرأة، أو حتى ظنت أنه من أكابر القوم ومن خاصتهم، ولراعت ذلك في ردها. أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل بوابين على أبواب بيته، أما ما ورد في الأحاديث الصحيحة أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له بوابون، يستأذنهم الداخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيحمل على أن هذا الأمر لم يكن على الدوام، ولم يكونوا منقطعين لهذا العمل، ووقوفهم عند البيت كان وقت المصلحة، ولكن الأصل عدم وجودهم، ذكره ابن حجر العسقلاني. 3- مهابته وإجلاله في نفوس أصحابه رضي الله عنهم ويتضح ذلك من شدة الكرب والفزع الذي انتاب المرأة، لما عرفت أن الذي حدثها هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وإذا أردت أخي القارئ أن تتصور الحالة التي انتابت المرأة، فعليك أن تحضر من تأتيه مصيبة الموت، فانظر كيف يكون حاله، خوف ورعشة وعرق وأكثر من ذلك بكثير، هذا كان حال المرأة لما عرفت من الذي حدّثها. ويتفرع عليه، أن المهابة والإجلال الذي وقر في قلوب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن نابعا من طريقة حديثه معهم، ولا من كثرة الأتباع والحاشية، ولا من وجود البوابين، ولا من خوفهم أن يوبخهم أو يعاقبهم إن أساؤا وإنما كان هذا الإجلال والإكبار لشخصه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما تعلموه من القرآن العظيم، من وجوب توقيره وإجلاله، ودليله أن المرأة قد رأته وسمعته ولم تخف، وما حدث لها ما حدث، إلا عندما أخبرت أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان معها في ذلك الوقت. الفائدة الثانية: تأدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن ذلك: 1- أن بعض الصحابة أنكروا على المرأة الطريقة التي ردت بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو أنهم اعتادوا الكلام معه بغير توقير وإجلال، ما أنكروا على المرأة، وقد أدبهم الله- سبحانه وتعالى- باداب الحديث معه تفصيلا لا إجمالا، كما ورد في باب (تأديب الأمة في معاملته صلّى الله عليه وسلّم) . 2- ذهاب المرأة إليه صلّى الله عليه وسلّم تعتذر إليه عما بدر منها، وتبين له سببه، فقالت: (يا رسول الله لم أعرفك) ، وتدبر أخي القارئ، أن كل ما قالته المرأة لتعتذر عما بدر منها، وهو عظيم جدّا، في حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: (لم أعرفك) وهي التي ذهبت بعد أن أخذها مثل الموت، ولو كانوا لا يعرفون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التسامح والعفو وعدم الغضب لنفسه، ما اقتصرت المرأة على تلك الكلمة البسيطة، ولو أن المرأة قد قصرت في الاعتذار، أو كان الأمر يحتاج لأكثر من ذلك لنصحها النبي صلّى الله عليه وسلّم بما هو أكمل، ولقال لها مثلا: (استغفري ربك وتوبي إليه) . وهو مسلك ومنهج جدير بالتأمل والتدبر، فقد يحدث اليوم أن توجه كلمة غير لائقة، فيمن يعتقد في نفسه أنه كبير، فيحتاج الأمر إلى أيام وليال لإصلاح ما فسد، وقد لا تنفع مجالس الصلح، ويصل الأمر إلى المشاحنات، التي قد تجرّ إلى القتل. الفائدة الثالثة: أن الصبر درجات، وأعظم هذه الدرجات، هو الصبر عند الوهلة الأولى من نزول المصائب، وهذا هو الصبر الذي يكافئ الله- سبحانه وتعالى-، عليه بعظيم الأجر والثواب، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] ، وهو الصبر الجميل، الذي لا يكون فيه الجزع والهلع وشق الجيوب ولطم الخدود وقول ما لا يرضي المولى سبحانه وتعالى. ويتفرع عليه: جميل منة الله على عباده، أن خفف على الإنسان عظيم وقع المصيبة عليه، بمرور الأوقات وملاقاة الأصحاب وتسلية الأحباب، فمن يظن بعد موت الأب أو الأم، أنه سيأتي عليه يوم يضحك فيه، أو حتى يأكل ويشرب، وعلى الإنسان أن يحمد الله كثيرا على هذه النعمة الجليلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الحديث الثالث: عن أبي أيّوب رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه، فنزل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في السّفل، وأبو أيّوب في العلو، قال: فانتبه أبو أيّوب ليلة. فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنحّوا فباتوا في جانب، ثمّ قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «السّفل أرفق» . فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها. فتحوّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العلوّ، وأبو أيّوب في السّفل، فكان يصنع للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طعاما، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبّع موضع أصابعه، فصنع له طعاما فيه ثوم، فلمّا ردّ إليه، سأل عن موضع أصابع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: لم يأكل؛ ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا، ولكنّي أكرهه» . قال: فإنّي أكره ما تكره، أو ما كرهت. قال: وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يؤتى) «1» . الشاهد في الحديث: أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه أبى أن يكون أعلى المنزل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم في أسفله. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: هي منقبة عظيمة لأبي أيوب الأنصاري، حيث نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم في داره. الفائدة الثانية: مظاهر تعظيم الصحابي، أبي أيوب، للنبي صلّى الله عليه وسلّم: 1- استعظامه أن يسكن في منزل، يعلو فيه على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيكون هو في الدور العلوي، والنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدور السفلي، ومما يبين هذا الاستعظام: أ- أنه انتبه ذات ليلة من يومه، فيقول: (نمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) ، فكأن هذا الأمر كان يشغله طول الوقت، حتى أنه استيقظ في ليلة فقال ذلك. ب- أنه تنحى بعد استيقاظه من نومه، هو وأهل بيته، في جانب واحد من جوانب البيت وتركوا كل نواحي البيت، وهذا فيه مشقة ظاهرة على أهل البيت، ولكنها مشقة أهون بكثير من الحرج الذي شعروا به، وأسأل إذا مشى أبو أيوب بالدور العلوي، فهل هو فعلا يمشي على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلا والله. ج- رغم أن الصحابة، رضي الله عنهم، هم أشد الناس حبّا للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأحرصهم على فعل ما يحبه، وأكثرهم امتثالا لأمره، والبعد عن ما يسبب أدنى أدنى حرج له، ورغم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي طلب السكن في السّفل، وأوضح لأبي أيوب، أنه أرفق له، لما يأتيه من أصحاب ووفود، أقول: مع كل ذلك ما استطاع أبو أيوب أن يلبي رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويحقق   (1) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إباحة أكل الثوم، برقم (2053) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 له ما هو أيسر له، وهذا يدل على عظيم الحرج الذي كان يشعر به، وأجزم أنه لو كان في مقدوره ولو بمشقة أن ينزل على رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لفعل، ولكن كان هذا الأمر عنده مستحيل التحقيق، وهذا يدلّنا على ما كان مستقرّا في نفوس الصحابة من تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنهم لا يفعلون ما ينافي ولو في صورته فقط، عدم تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى ولو كان بأمره. 2- قيامه رضي الله عنه بصنع الطعام للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: أ- أنه كان يأكل فضلة النبي صلّى الله عليه وسلّم لقوله: (فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه) ، وما كان يكتفي أن يأكل من القصعة التي أكل فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي نجزم به ونعتقده أن البركة قد حلت بالقصعة كلها، ولكن ما كان يرضى إلا أن يأكل من المكان الذي لامس أصابع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا يدل على همته العالية، وطلبه الأعلى من الأمور، والأتم منها، وحرصه على ما ينفعه. ب- الفزع الذي انتابه، عندما رد إليه الطعام ولم يأكل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم، والفزع هو أشد حالات الخوف التي يمكن أن تنتاب الإنسان، وماذا فعل أبو أيوب رضي الله عنه حتى ينتابه الفزع، أمات له قريب؟ أفقد ماله وولده؟ ارتكب كبيرة من الكبائر فخاف من سوء الخاتمة؟ لا، لم يفعل أيا من هذه الأمور، كل ما فعله أنه صنع طعاما رده النبي صلّى الله عليه وسلّم وخشي من نفسه أنه قدم طعاما للرسول صلّى الله عليه وسلّم حرام أكله، وهو لا يدري، مما اضطره للصعود إليه لاستقصاء الأمر، قال الراوي: (ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو) . ج- لما علم الحكمة من عدم أكل النبي صلّى الله عليه وسلّم للطعام، وهي أنه يكره الثوم، وهو أمر خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه يأتيه الوحي في أي ساعة من الليل أو النهار، والملائكة تكره ذلك، ودليله قول الراوي: (وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤتى) وهو أمر لا يشترك فيه مع النبيّ أحد فماذا كان رده، قال: (فإني أكره ما تكره) ، وما كان هذا الكره للثوم موجودا قبل ذلك اليوم، بل كان محبوبا له، ودليله، أنه كان يضعه في الطعام الذي يقدم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن أبو أيوب من شدة تعظيمه وحبه للنبي صلّى الله عليه وسلّم كره هذا الطعام من وقته، وعلل سبب الكره بقوله: (فإني أكره ما تكره) ، فهو لا يتصور أن يحب شيئا يكره النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان من عادات الأمور، وقد يكون من أسباب كره للثوم، أنه كان سببا في رد الطعام. ويتفرع على ذلك فائدة عظيمة، وهي أن نقول: إذا كان الصحابي قد كره الثوم، المباح أكله شرعا، لكره النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أنه لم يأمرهم بكره، ولم ينفرهم منه، فكيف كان كره الصحابة، رضي الله عنهم، للمعاصي التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أشد الناس كرها لها، وتنفيرا لأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 منها، وتعظيما لشأنها، وتخويفا من عاقبتها؟!، لا شك أنهم كانوا يكرهونها بقلوبهم وعقولهم. الحديث الرابع: عن ابن شماسة المهريّ قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا، أما بشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إنّ أفضل ما نعدّ: شهادة ألاإله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله، إنّي كنت على أطباق ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّي، ولا أحبّ إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال، لكنت من أهل النّار، فلمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي. قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي. قال: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟» وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأنّي لم أكن أملأ عينيّ منه، ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنّة، ثمّ ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليّ التّراب شنّا، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتّى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي) «1» . الشاهد في الحديث: قول الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلّم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في مناقب الصحابي الجليل، عمرو بن العاص رضي الله عنه. 1- شدة خوفه من الله تبارك وتعالى وعلمنا ذلك من بكائه الطويل، عندما حضرته الوفاة، قال الراوي: (فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار) . وما كان هذا لردّه ما بشّره به   (1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، برقم (121) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 النبي صلّى الله عليه وسلّم من خير الآخرة، وإنما لتوليه بعضا من أمور المسلمين، يخشى أن يكون قد قصر في بعضها، وقد وضح ذلك في قوله: (ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها) ، فهو يبكي كل هذا البكاء، ليس لجزمه أنه وقع منه التقصير، بل لعدم يقينه أصاب فيها أو أخطأ، وهذا من ورعه وتقواه، أن اتهم نفسه. وقد فرق رضي الله عنه بين عصر الوحي والتنزيل، والعصر الذي بعده، بأمر دقيق، في قوله: (ما أدري ما حالي فيها) ، حيث إنه كان يعرف حاله قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يبشرهم برضى الله، - سبحانه وتعالى-، والفوز بالجنة، أما بعد موته صلّى الله عليه وسلّم فهم يعملون ويحسنون، لكن من يبشرهم بقبول أعمالهم وأنها موافقة للصواب، لذلك بكى طويلا، لعدم وجود المصوّب لعمله والمبشّر له بالفوز والفلاح. يتفرع على ذلك، ضرورة أن يبكي المسلم على نفسه طويلا، لأنه لم يشهد الصحبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبشره أحد بالجنة، وليس له من الأعمال الصالحة، مثل ما كان لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلام كل ذلك الاطمئنان الذي نشعر به؟!!، أعمال قليلة وذنوب كثيرة وغفلة عظيمة. 2- فقهه رضي الله عنه ويتضح من الأمور التالية: أ- رؤيته أن الشهادتين، هي أفضل ما يدخره العبد للقاء الله، - سبحانه وتعالى-، وهذا هو الصواب، لما رواه أنس بن مالك: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاذ رديفه على الرّحل. قال: «يا معاذ بن جبل» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال: «يا معاذ» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال: «ما من أحد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله صدقا من قلبه إلّا حرّمه الله على النّار» «1» . ب- إقراره أن الله، - سبحانه وتعالى-، هو الهادي إلى سواء السبيل، وأن الهداية للإسلام هي محض فضل منه عزّ وجلّ لقوله رضي الله عنه: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي) ، وعلمه أن القلب هو محل الإيمان أو الكفر. ج- أنه اشترط عند إسلامه، أن يغفر له كل ما أسلف من الذنوب، فلم يكن أمر الشهادتين عنده، كلمة يقولها، بل فكّر وتدبر في عواقب ما فعل قبلها، فعظم تلك الذنوب التي اقترفها، وكأنه شعر أنها ستكون عائقا له في طريقه إلى الله، - سبحانه وتعالى-، فاشترط أن تغفر تلك الذنوب أولا، قال: (أردت أن أشترط) قال: «تشترط   (1) البخاري، كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم، برقم (128) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 بماذا؟» قلت: (أن يغفر لي) ، كما أنه علم أن الاشتراط إنما يكون قبل البيعة، وأن الشرط بعد القبول والإيجاب لا يعتد به. ويتفرع عليه: أن من علامات حكمة الرجل، ألايتعجل أمره في الأمور العظيمة، بل يجب أن يتروى ويتدبر عاقبة كل أمر من حيث محاسنه ومساوئه، وأن علامات سفه الرجل وهذا كثير في وقتنا الحاضر العجلة وعدم التروي، وأن يقبل ما لا يطيق القيام به. د- اعتقاده أن من أتى بالشهادتين على الوجه الأكمل، مع اقترافه بعض الأعمال غير الصالحة، فإن عليه أن يخاف ما فعل، ويعتقد أنه قد يحاسب على تلك الأعمال يوم القيامة، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فليست الشهادتان تعفي من سؤال الله العبد عن ذنوبه، ولا الذنوب تلغي انتفاع العبد بالشهادتين، والدليل أن عمرو بن العاص رضي الله عنه يأمل في الشهادتين رغم حذره من الذنوب، يقول: (إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) . هـ- علمه أن مبايعة النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجال تكون باليد لقوله: (ابسط يمينك فلأبايعك) . وتكون باليمين من اليدين. وعلمه بتحريم النياحة على الميت، واصطحاب النار في الجنازة، وأنه بالوصية بذلك فقد استبرأ لدينه، إن حدث في جنازته مخالفة شرعية، ودليله قوله رضي الله عنه: (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار) . فما كان قوله هذا لابنه الفقيه عبد الله بن عمرو، ليعلمه تحريم تلك الأمور؛ لأنه لا شك كان على علم بتحريمها، ولكن ذكرها للبراءة منها إن حدثت. ز- علمه أن الميت، يسمع ما يكون حول قبره لقوله: (ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) . كما علم أن سؤال الملكين إنما يكون فور نزول الميت قبره؛ لأنه رضي الله عنه أمرهم أن يقيموا حول قبره قليلا، وعلل ذلك بقوله: (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) ، ودليل الأمرين، ما رواه البخاري من حديث أنس وفيه: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه» «1» . 3- بلاغته وحكمته، في التقسيم والاستقصاء، حيث إنه قد قسم حياته إلى ثلاثة أقسام، راعى فيها أساسا واحدا للتقسيم، وهو تأكده من رضى الله- سبحانه وتعالى- من   (1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، برقم (1338) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 عدمه، وهذا التقسيم يدلنا على أكبر همهم، والهدف الأسمى الذي كان يعيشون من أجله، والأقسام الثلاثة هي: أ- قسم ما قبل الإسلام، وهذا لا خوف منه، حيث إن الإسلام يجبّ ما قبله، وكانوا يشترطون قبل البيعة على الإسلام أن يغفر لهم. ب- قسم ما بعد الإسلام (طيلة حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم) ، ويرجو فيه الصحابي لنفسه الجنة، إن مات في هذه الحقبة، وذلك لتبشير النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بالجنة، وعظيم أعمالهم من نصرته وصحبته ومؤازرته، فضلا عن نزول الوحي بتأييد ما يفعلونه ومباركته، أو تصويبه وبيان الحق فيه، وكذا تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم وإرشادهم وتوجيههم. ج- قسم ما بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويخشى الصحابي فيه على نفسه، لا نفتاح الدنيا عليه وولايته المناصب، وكيف تستوي عندهم دنيا كانوا فيها يرون النبي صلّى الله عليه وسلّم صباحا ومساء، ودنيا حرموا فيها هذا الفضل العظيم. وهذه الأقسام الثلاثة يشترك فيها جل الصحابة، رضي الله عنهم. كما تظهر حكمته أيضا في بيان أقسام حياته من قوله: (إني كنت على أطباق ثلاث) . فأجمل أولا ثم فصّل ثانيا، ويظهر في ذلك تأثرهم الكبير بلغة القرآن، قال- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] . وأمثلة ذلك في القرآن والسنة كثيرة. 4- أدبه مع الله عزّ وجلّ ويتبين ذلك من: أ- قوله رضي الله عنه: (لرجوت أن أكون من أهل الجنة) فأتى بلفظ «رجوت» لأنه لو جزم أنه من أهل الجنة، لكان من الآمنين لمكر الله- سبحانه وتعالى- قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) [الأعراف: 99] ، ولو نفى هذا الرجاء لكان كالمكذّب لما بشّره به النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان من أدبه أن توسط في القول. ب- قوله رضي الله عنه: (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) ، فهو مع إعداده أفضل ما في هذا الدين الحنيف، وهي الشهادتان، لقوله: (إن أفضل ما نعد شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله) . ومع أن سؤال الملكين إنما يكون عن الشهادتين، إلا أنه يخاف أيضا من السؤال، ويحتاج إلى من يأنسه ويقيم حول قبره حتى يجيب الملكين. كما أن من أدبه رضي الله عنه أنه أضاف الملكين إلى الرب تبارك وتعالى كما أضاف الرب إلى نفسه، ليشعر بتمام العبودية في هذا الوقت الذي سيقبل فيه على مولاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 5- استحقاره رضي الله عنه لأمور الدنيا، بما في ذلك الولاية، حيث قال: (ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها) ، فلم يسمّ الولاية، كما أنه أتى بها نكرة، لزيادة التحقير. 6- إجلاله رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو أعظم ما في الحديث وأظهره ولكني أحببت أن أختم بها تلك المناقب لجمالها وتكون الختام المسك، ويتبين لنا مظاهر هذا الإجلال من الأمور الآتية: أ- تقسيمه الجزأين الأولين من حياته، على أساس محبته وعدواته للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقد رأى أن أعظم ما كان منه في الجاهلية بغضه للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي المقابل فإن أعظم ما عنده في الإسلام، حبّه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا يدل على شدة تعظيمهم لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ب- إقراره على نفسه أنه لو مات على بغض الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكان من أهل النار، ولو مات على مثل هذا الحب له، لكان من أهل الجنة. ج- شدة محبته للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنه ما كان يحب أحدا أكثر منه، لقوله: (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . د- إجلاله العظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلاماته: أنه ما كان يستطيع أن ينظر إليه طويلا أو يحدّق فيه النظر، لدرجة أنه لو طلب منه أن يصفه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وما منعه من ذلك الخوف منه، ولكن ما يشعر به في قلبه من مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعظيم شأنه عند الله. وانظر إلى قوله رضي الله عنه: (وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه) . أي أنه لا يستطيعه ولو مع المشقة البالغة. فأين نحن- معاشر المسلمين- من إجلال نبينا كإجلال صحبه الكرام له، هل نشعر بهذا الإجلال في نفوسنا، هل نشعر به عند الحديث عنه، وذكر اسمه، هل نشعر به عند سماع أمره ونهيه، فهلا راجعنا أنفسنا، ووقفنا معها وقفة محاسبة في كل ما يخص مسلكنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: فقه وأدب، الصحابي العابد، عبد الله بن عمرو بن العاص، أما فقهه، حيث إنه ذكّر أباه، رضي الله عنه، بما بشره به النبي صلّى الله عليه وسلّم ليجعله يغلب جانب الرجاء، ويحسن الظن بالله- سبحانه وتعالى- قال رضي الله عنه: (أما بشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا) وأعاد لفظ: (بشرك) مرتين، ليستقر ذلك في قلب أبيه. وأما أدبه فيتمثل في ندائه لأبيه بقوله: (يا أبتاه:) فهي ألطف وأحب كلمة للأب، ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 أن كلمة أفضل من ذلك لاستخدمها عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، خاصة في آخر مجالسة له مع أبيه. يتفرع على ذلك، سوء أدب من ينادي أباه، بالشيبة أو العجوز، أو الحاج، أو غير ذلك من الأسماء، وانظر كيف نادى إبراهيم أباه وكان مشركا، قال- تعالى-: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ [مريم: 43] . وتدبر كم مرة قال: (يا أبت) . لقد قالها أربع مرات، يعيدها مع كل أمر أو نصيحة، وما اكتفى إبراهيم- عليه السلام- أن يقولها مرة واحدة عند بداية الكلام. الفائدة الثالثة: ما كان عليه بعض المسلمين قبل الإسلام وغيرهم من الكفار، من بغض الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحرصهم البالغ على قتله، في مقابل، ما كان يجده صلّى الله عليه وسلّم في نفسه، ويعانيه في قلبه، من أسف وحزن يكاد يهلكه، من توليهم وإعراضهم، والعجيب أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم منهم ذلك، وكان الله يأمره أن يهون على نفسه، قال- تعالى-: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) [الكهف: 6] ، قال عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: (ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته) . يتفرع عليه، وجوب أن نحمد الله حمدا كثيرا، ونشكره شكرا جزيلا، أن جعلنا مسلمين، إذ كيف نتصور حالنا، ونتوقع مالنا يوم القيامة- لو قدّر الله علينا- ألانكون مسلمين، ونأتي الله- سبحانه وتعالى- وفي قلوبنا هذا البغض العظيم لهذا الرسول الكريم، بل كيف نتصور أن نأتي يوم القيامة، وليس في صحائفنا الصلاة والسلام على المبعوث رحمة العالمين. ويتفرع عليه أيضا، عصمة الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث عصمه من قتل الكفار له طول حياته، مع حرصهم الشديد على ذلك، قال- تعالى-: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. الفائدة الرابعة: وهي متفرقات: 1- وجوب الوصية، خاصة في حال وجود ديون على المسلم، أو إن كان عنده مال كثير، يريد أن يوقف شيئا منه، أو يخاف أن تحدث عند موته أو في جنازته منكرات أو محرمات، فيجب عليه الوصية ليبرأ إلى الله مما قد يحدث، وهذا الأمر الأخير قد انتشر في هذه الأيام، كالإسراف في مظاهر الحزن، كلبس المرأة السواد، والنياحة، وقراءة القرآن في سرادقات كبيرة، بصوت أحد الشيوخ المعروفين، مما يهدر أموالا بلا طائل، ويعظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 التحريم إذا كان للميت أولاد قصّر، أو عليه ديون، وكذا اتباع الجنائز بالموسيقى والورود وما عند الميت من نياشين وأوسمة، بالإضافة إلى الاجتماع على الولائم الكبيرة بمنزل الميت، والاجتماع فيه على العزاء عدة أيام، ونشر النعي في الجرائد بمساحات كبيرة، ويزداد الأمر سوآ، بالجزم بما أعده الله للميت من الثواب والعطاء، كل هذا بخلاف ما يحدث في القبر من التشييد ورفع القبر فوق الأرض بأكثر من شبرين، وكون البناء من الرخام، وأخص بالذكر منكرين، أولهما: أن يكون سرير الميت ثقيلا، بحيث يسبب لحامليه مشقة بالغة، وثانيهما: أن يلف النعش أو الميت بقماش كتب عليه الأسماء الحسنى وبعض سور القرآن العظيم، ولا أعلم كيف وصل الحال بالمسلمين، أن يزينوا أكفان الموتى بالقرآن الكريم، وكيف هان عليهم أن يحقروا شأن آيات الله إلى هذا الحد. وهذه البدع التي ذكرتها، قد لا تجتمع في قطر إسلامي بعينه، ولكنها بالتأكيد موجودة بشكل متفرق في الأقطار الإسلامية. 2- إثبات سؤال القبر، وما يكون فيه من فتنة عظيمة على الميت، وكذا إثبات الملكين، وإثبات الحياة البرزخية للميت، التي يعقل فيها الميت ويسمع ويتكلم، لقول عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: (وأنظر ماذا أراجع رسل ربي) . وأهمس في أذن من يجادل الآن، في عذاب القبر وسؤال الملكين، وأقول لهم: إن الأمر قد ثبت في السنة الصحيحة بالأحاديث الصريحة، ونصيحتي إليكم: أن تتداركوا أمركم وتؤمنوا بهذا الغيب، قبل أن تفاجئوا بالملكين، يسألانكم، فكيف يثبتكم الله. جل في علاه. عند السؤال ويفتح عليكم بالإجابة، وأنتم بداية تنكرون السائل والسؤال، ويومئذ سيقع الندم حيث لا ينفع، وستقدمون العتبى إلى ربكم والاعتذار فيرد عليكم، بأفظع ما يمكن أن يصل إلى أسماعكم من توبيخ وتقريع. وإذا كنتم تستعظمون على قدرة الله- سبحانه وتعالى- أن يسأل الميت، ويحاسبه فإما النعيم وإما العذاب، فماذا تقولون فيمن خلق من منيّ الرجل إنسانا، مر بالنطفة ثم العلقة ثم المضغة، ثم أصبح عظاما ثم كسا هذا العظم لحما، أين حدث كل هذا؟ في مصنع أو مختبر، لقد حدث في أمكن مكان للنطفة بل أغرب مكان، في رحم الأم، ولو أن أحدا أخبرنا أن هذا يمكن حدوثه قبل أن نراه، لحكمنا عليه بالجنون، فوالذي لا إله غيره، إن ما يحدث في رحم الأم، مما نعرفه ولا نعرفه، لهو أعظم من سؤال القبر، ولا ينكر ذلك من كان عنده مسحة عقل، فلله الحمد أن أثبت لنا قدرته فيما نرى لنستدل بها على ما لا نرى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 فانقطعت بذلك كل حجة وردت كل شبهة. الحديث الخامس: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس جاء يهوديّ. فقال: يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقال: «من؟» قال: رجل من الأنصار. قال: «ادعوه» . فقال: «أضربته؟» قال: سمعته بالسّوق يحلف والّذي اصطفى موسى على البشر. قلت: أي خبيث على محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخيّروا بين الأنبياء، فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة فأكون أوّل من تنشقّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى» «1» . الشاهد في الحديث: قول المسلم لليهودي: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- ثبوت اصطفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على جميع البشر، الأولين والآخرين، ودليله من الحديث، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينكر على الأنصاري فهمه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو المصطفى على البشر جميعا، بما فيهم موسى وأن قول اليهودي: (والذي اصطفى موسى على البشر) في وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم خطأ، فلو كان هذا الفهم من الصحابي غير صحيح لبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحال، ولكن الذي أغضب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لطم وجه من له عهد وذمة، وحدوث التفاضل بما ينتقص من قدر الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام. قال ابن حجر- رحمه الله- ما نصه: (قال العلماء في نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التفضيل بين الأنبياء: إنما نهي عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقص المفضول أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع التفاضل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلا إذا قلنا: إنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان وقيل: النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها كقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات   (1) البخاري، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والخصومة، برقم (2412) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 على بعض لقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، وقال الحليمي: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى ازدراء الآخر فيقضي إلى الكفر أما إذا كان التخيير مستندا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي) . انتهى كلامه رحمه الله «1» . ومما يؤكد اصطفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على البشر ما رواه البخاري، من حديث أبي هريرة قوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيد القوم يوم القيامة» ، وكون موسى، عليه الصلاة والسلام، يفيق قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو لا يصعق أصلا، فليس هذا دليلا على أفضليته المطلقة، على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد يخصّ المفضول على الفاضل في خصلة من الخصال، والذي يحكمنا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» «2» . 2- عدله صلّى الله عليه وسلّم بين الناس جميعا، المؤمن والكافر على سواء، وشيوع عدله صلّى الله عليه وسلّم بين الناس، ولولا علم الناس بعدله وعدم رضاه بالظلم، ما ذهب إليه اليهودي يشتكي إليه أحدا من أصحابه، وكان رجلا من الأنصار، ومع شديد حب النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصار، ومع أن الأنصاري إنما لطم وجه اليهودي، غضبا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومع أن اليهود هم أشد الناس عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لذلك حتى ظهرت علامات الغضب على وجهه، ففي إحدى روايات البخاري: (فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى رئي في وجهه) . واليهودي لما ذهب يشتكي كان من فطنته أن أول ما ذكره للنبي صلّى الله عليه وسلّم في شكواه، كما ورد في إحدى روايات البخاري: (أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا) ، وقال ذلك لعلمه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يخفر ذمة ولا عهدا، ولذلك قال اليهودي بعد ذلك: (ضرب وجهي رجل من أصحابك) . قاله وهو مطمئن لعدله وأن كون الذي ضربه رجلا من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم لن يغير من الأمر شيئا. ومن وجوه عدله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث، أن سمع من اليهودي كامل شكواه، وما حكم له بل وما غضب، حتى دعا الأنصاري، وسأله عن صحة شكوى اليهودي، كما سمع منه كامل دفاعه، ورد في الحديث: (قال: «ادعوه» . قال: «أضربته؟» قال: سمعته في السوق يحلف ... ) .   (1) انظر فتح الباري (6/ 446) . (2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: تفضيل نبينا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق، برقم (2278) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 ويتفرع على ذلك عدم جواز الحكم بين المتخاصمين إلا بعد سماع دعواهما كاملة. وأودهنا أن أقول للقضاة، وغيرهم ممن يتصدى للحكم بين الناس، إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لليهودي، ووجّه عتابه لصاحبه الأنصاري، وشتان ما بين الرجلين في ميزان الإسلام، فإياكم أيها القضاة، أن تراعوا في أحكامكم نسبا أو صهرا أو مصالح مشتركة مع أحد المتنازعين، فتحكموا له دون الآخر. قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) [النساء: 58] . ويزداد الأمر سوآ إذا باع القاضي دينه وأخذ رشوة من أحد المتخاصمين. 3- وفاؤه صلّى الله عليه وسلّم للأنبياء، وذكرهم بكل جميل وحسن، وإظهار فضلهم في كل مناسبة، ورد في رواية عند البخاري: «فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي» «1» . فلم يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم غضاضة أن يذكر لموسى فضلا يختص به عنه صلّى الله عليه وسلّم فلا شك أن الذي بعث أولا، أو لم يصعق أصلا، أفضل في هذه الجزئية، من الذي بعث بعده، وهذا من تمام تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وحبه لإخوانه من الأنبياء، وسلامة صدره وصفاء قلبه، وقد خصصت فصلا كاملا لهذا الموضوع. 4- جواز وقوع الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم فيما ليس فيه وحي من الله، تبارك وتعالى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي؟!» ووجه الاجتهاد هنا، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد وضع فرضين للمسألة، ولو كان عنده صلّى الله عليه وسلّم وحي في المسألة، ما كان هناك مجال للاحتمالات. ونقطع أن أحد الاحتمالين هو الحق، وأنه لا احتمال ثالث في المسألة، ولولا ذلك لصوب الله- سبحانه وتعالى- اجتهاده في الحال. الفائدة الثانية: فضيلة ظاهرة لموسى- عليه الصلاة والسلام- من كونه أول من يفيق من الصعقة الثانية، أو أنه لا يصعق أصلا، ومن كونه أيضا (يمسك بقائمة من قوائم عرش الرحمن) ، وهذا من أعظم مظاهر التشريف له يوم القيامة، ففي الحديث: «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» ، وهذا من دلائل قربه من الله- تبارك وتعالى- وعلو منزلته. الفائدة الثالثة: تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفوس أصحابه رضي الله عنهم جميعا، ويظهر هنا في إنكار الأنصاري قسم اليهودي في قوله: (والذي اصطفى موسى على البشر) ليلقنه أن ببعثة محمد   (1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، برقم (3415) ، من حديث أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينبغي أن يفضّل عليه أحد من الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- وفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا هو مراد الأنصاري لذلك قال في نهاية حكمه: «ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى» . وأعود للأنصاري فأقول: إن إنكاره لمقولة اليهودي كانت بالقلب واللسان واليد، لأنها جاءت على النحو التالي: 1- غضب غضبا شديدا، حيث قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم «فأخذتني غضبة» . وهذا يشعر أن الغضب تملّكه جميعا، وهذا هو وجه إنكار القلب. 2- قوله لليهودي: (أي خبيث، على محمد؟!) ، وهو إنكار باللسان، وأرى أن الأنصاري قد اتهم اليهودي بهذا الوصف الشنيع، لاعتقاده أن كلام اليهودي نابع من حقد في قلبه وتكذيب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأن اليهودي استخدم قسما، ظاهره حق، ليغمط حق النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك وصفه بالخبث وليس بالكذب. 3- ضرب وجه اليهودي، وهو إنكار اليد، وأظن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لامه على ذلك، لكون الأنصاري قد تملكه غضب شديد كان هو الدافع للضرب وكان هذا واضحا في كلام الأنصاري حيث قدم الغضب على الضرب، قال: (فأخذتني غضبة ضربت وجهه) ، وكأنه يبرر ما وقع منه. ومن كل ما ذكر، نعلم كيف كان الصحابة يعظمون النبي صلّى الله عليه وسلّم في قلوبهم أبلغ تعظيم ويغضبون كل ذلك الغضب، ليس لأن أحدا سب أو كذب أو ازدرى النبي صلّى الله عليه وسلّم حاشا لله، ولكن لأن واحدا فضّل الكليم، المصطفى بحق على البشر في عصره، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم قد بعث. إلى هذا الحد بلغ الإجلال والإكبار والحب، أخي القارئ: هل نغضب نحن مثل هذا الغضب؟ لا أقول إذا تكلم يهودي يكفر أصلا بالله ورسوله، ولكن إذا تكلم مسلم مثلنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام غير لائق، أو تكلم عليه كما يتكلم الرجل على خصمه أو حتى على صاحبه، هل نغضب مثل هذا الغضب؟ إن لم نغضب فإن في إيماننا شيئا نسترجع الله فيه. الحديث السادس: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة فأبى أهل مكّة أن يدعوه يدخل مكّة حتّى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيّام، فلمّا كتبوا الكتاب، كتبوا هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله، فقالوا: لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمّد بن عبد الله، قال: «أنا رسول الله، وأنا محمّد بن عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الله» . ثمّ قال: لعليّ: «امح رسول الله» ، قال: لا والله لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله) «1» . هذه الواقعة حدثت في صلح الحديبية، عام ستة من الهجرة، وفيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم ذهبوا إلى مكة معتمرين، فأبى أهل مكة، أن يدعوه يعتمر، وكانوا يريدون قتاله صلّى الله عليه وسلّم فعرض عليهم الهدنة، وبعد عدة مفاوضات اشتركت فيها طائفة من كفار مكة، أتى إليه سهيل بن عمرو، من عسكر المشركين ليعقد الصلح مع المسلمين، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يملي على كاتبه، وكان سهيل بن عمرو يعترض على كتابة ما لم يؤمن به في المعاهدة، فكان مما اعترض عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول المعاهدة، بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: (أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب) . ثم اعترض أيضا على كتابة: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) . وقال: (والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله) . واشترط الكفار في المعاهدة عدم دخول المسلمين البيت من عامهم هذا معتمرين، ولكن يحلون إحرامهم، ويقيمون بمكة ثلاثة أيام، ثم يأتون العام المقبل لأداء العمرة (عمرة القضاء) ، كما اشترط المشركون، ألا يأتي منهم رجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا ردّه إليهم ولو كان مسلما، قال سهيل: (وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) . وقد وافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على كل شروط المشركين في المعاهدة، وذلك لقوله، صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» «2» . الشاهد في الحديث: قول علي رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمره أن يمحو لفظ (رسول الله) بناء على طلب سهيل بن عمرو، قال علي: (لا والله لا أمحوك أبدا) . ووجه تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفوس الصحابة في هذه الواقعة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أمر عليّا أن يمحو لفظ (رسول الله) ، ومع ذلك ما استطاع عليّ أن يفعل ذلك، تعظيما للفظ، رسول الله، وهو لن يمحو اللفظ من قلبه، ولا من قلوب الناس، ولن يمحو واقعا، بل سيمحوه من السطور فقط، فهل المحو من السطور يقدّم أو يؤخر، مع أن الله. تبارك وتعالى. عذرهم فيما هو أعظم من ذلك بمراحل عظيمة، وهو النطق بكلمة الكفر مرغمين، طالما كان القلب مطمئنا بالإيمان، ومع ذلك ما استطاع،   (1) البخاري، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، برقم (2700) . (2) البخاري، كتاب: الشروط، باب: في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، برقم (2734) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وأقول: لماذا لم يستطع؟ هل- كما ذكرت- تعظيما لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب، أم خوفا على يديه أن تمحى منها البركة كما محت لفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم خاف أن يلوم نفسه يوما من الأيام على إقدامه على هذه الفعلة أو حتى يلومه غيره، أم أنه خاف من كل تلك العواقب، كما أقول: لماذا لم يعاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم على قسمه بالله ألا يفعل ما أمره به؟ هل لأن الأمر لم يكن للوجوب، وهذا أستبعده لعدم وجود دليل عليه، أم لعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تنفيذ مثل هذا الأمر كان فوق طاقة علي رضي الله عنه النفسية ومن القواعد المقررة في الشرع، أن الله. سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهل وازن علي رضي الله عنه، قبل أن يرد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين رد الأمر، والمحو، فوجد أن المحو أعظم من رد الأمر، كل ذلك علمه عند الله. سبحانه وتعالى. ولكن ما يهمنا في الأمر، هو استشعار تعظيم هؤلاء الأصحاب، للنبي صلّى الله عليه وسلّم. فوجه التعظيم الذي أردت أن أبينه في هذا الباب، لم أستدل عليه، من كونهم كانوا يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه صلّى الله عليه وسلّم وإنما استدللت عليه من كونهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يكون ظاهره أو صورته فقط توهم بسوء الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أن صورة الأمر ستكون مخالفة لما يشعرون به في نفوسهم تجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا أبلغ في تقريب الصورة للقارئ. فتدبر أخي القارئ، كيف أبى أبو بكر الصديق أن يصلي إماما للرسول صلّى الله عليه وسلّم رغم أنه هو الذي أمره، وكيف شق على أبي أيوب أن يسكن في العلو والنبي صلّى الله عليه وسلّم يسكن في السّفل، ويقول مستعظما الأمر: (أنمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . بالإضافة إلى الأنصاري الذي غضب غضبا شديدا من اليهودي لما قال: (والله الذي اصطفى موسى على البشر) . أضف إلى ذلك ما مر من أمر الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه ما كان يستطيع أن يملأ عينه من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو سأل أن يصفه ما استطاع؛ إجلالا وإكبارا له صلّى الله عليه وسلّم. ونأخذ أمثلة أخرى لهذا الإجلال والإكبار، وردت في قصة، صلح الحديبية، كما رواها البخاري: 1- لما قال عروة بن مسعود، وهو مفاوض آخر من عسكر كفار مكة، للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (فإني والله لأرى وجوها أوشابا- أي أخلاطا- خليقا أن يفروا ويدعوك) ، غضب أبو بكر غضبا شديدا، ورد عليه قائلا: (امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه) ، والبظر قطعة بين جانبي فرج المرأة، وكان من عادة العرب أن يقولوا لمن يسبونه أو يشتمونه: امصص بظر أمه، فاستعار أبو بكر رضي الله عنه باللات لتعظيمهم إياها بقصد المبالغة في سبه. 2- كان عروة بن مسعود كلما كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بلحيته، فماذا فعل الصحابي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه ورد في الحديث: (وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى بيده إلى لحية النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . فكذا كانت غيرتهم الشديدة على لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغضبهم ممن يمسها ولو بيده، وضرب رجل كعروة بن مسعود بنعل السيف، أي بمؤخرته، ليس بالأمر السهل، ولم يكن الضرب مرة، بل تكرر كلما أخذ عروة بلحية حبيبهم صلّى الله عليه وسلّم. 3- ومما ورد في حديث صلح الحديبية، يبين بجلاء كيف كان الصحابة رضي الله عنهم، يجلّون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إجلالا أعظم من إجلال أحدنا للملوك والقياصرة، إجلال في كل شيء، تمثل في التعامل مع آثاره وما خرج منه، ولو كانت نخامة، وفي النظر إليه مع جمال وجهه، وفي خفض الصوت في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، وأنقل لكم ما قاله عروة بن مسعود، دون أدنى تعليق بعده؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى تعليق، بقدر ما يحتاج من القارئ إلى تدبر وتأمل، قال عروة لما رجع إلى أصحابه من كفار مكة: (أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلّك به وجهه وكادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيما له) . انتهى. 14- تعظيم دعائه صلّى الله عليه وسلّم عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله إنّي كنت أصلّي فقال: «ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ؟» ثمّ قال لي: «لأعلّمنّك سورة هي أعظم السّور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» ، ثمّ أخذ بيدي، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلّمنّك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: «الحمد لله ربّ العالمين هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته» «1» . الشاهد في الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعا الصحابي أبا سعيد بن المعلى وهو يصلي فلم يجبه عاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم واستدل بقوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك من:   (1) البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب، برقم (5006) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 1- وجوب إجابة دعوته وندائه، حتى ولو كان المنادى في الصلاة، التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهو قول الشافعية، على اختلاف عندهم هل تبطل الصلاة بهذه الإجابة أم لا، ذكره الحافظ في الفتح «1» ، وموطن الخلاف: هل هذه الإجابة تخرج الصحابيّ من الصلاة لبطلانها بتكلمه، أم يجيب ويستمر في الصلاة وأعتقد أن الرأي الأخير هو قول الشافعي- رحمه الله- فقد نقل عنه الإمام القرطبي قوله في شرح الآية: (هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أوتي به في الصلاة لا تبطل؛ لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإجابة وإن كان في الصلاة) «2» . وأقول: إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم واجبة سواء كان الصحابي في صلاة فريضة أم نافلة، والدليل على ذلك عدم سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابيّ عن نوع الصلاة التي كان يصليها، وإلا لأوضح النبي صلّى الله عليه وسلّم للصحابي وجوب استجابة دعائه في صلاة النافلة دون الفريضة لما استدل صلّى الله عليه وسلّم بالآية الكريمة. 2- إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم فرض على الفور وليس على التراخي، ولو كانت على التراخي ما عاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا سعيد رضي الله عنه لعدم إجابته وهو في الصلاة. 3- مما يعظم أمر وجوب استجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ولو كان المرء في صلاة. أن هذا الأمر قد ورد في القرآن الكريم، والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استدل بالآية وهو أعلم الخلق بمراد الله. سبحانه وتعالى. كما أن من أوجه تعظيم أمر إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم أن الله قد قرن بين وجوب طاعته. سبحانه وتعالى. وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم في أمر واحد، فقال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. يتفرع على ما ذكر، وجوب تعظيم المسلم لنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم. نداؤه على سبيل الحقيقة وهو بين أصحابه صلّى الله عليه وسلّم، ونداؤه صلّى الله عليه وسلّم لأمته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويتمثل في اتباع سنته القولية والفعلية، يصدّق ذلك قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) [النور: 63] . الفائدة الثانية: امتثال سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما أمر به ونهى عنه، واجب على كل مسلم ومسلمة- وجوبا على الفور- والدليل على ذلك الآية الكريمة التي استدل بها النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاتبته الصحابي على عدم إجابة دعوته وهو في الصلاة. الفائدة الثالثة: تفاضل سور القرآن العظيم، والدليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لأعلمنك   (1) انظر فتح الباري (8/ 158) . (2) انظر الجامع لأحكام القرآن (7/ 390) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 سورة هي أعظم السور في القرآن» . نقل الحافظ ابن حجر- رحمه الله- عن ابن التين قوله: (معناه أن ثوابها أعظم من غيرها) «1» . الفائدة الرابعة: سورة الفاتحة- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ-، هي أعظم سورة في كتاب الله العظيم، وهي المقصودة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي؛ لأن أولى من يفسر القرآن هو النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أسلفت، ونقل الحافظ ابن حجر- رحمه الله- عن بعض العلماء سبب تسمية الفاتحة بالسبع المثاني، فقال ما نصه: (واختلف في تسميتها مثاني فقيل لأنها تثنى كل ركعة أي تعاد، وقيل: لأنها يثنى بها على الله تعالى، وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها) . الفائدة الخامسة: على المفتي أن يذكر للمستفتي أو السامع دليل حكمه على المسألة، خاصة إذا وقع للمستفتي لبس أو إشكال، فهذا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم المشرع لهذه الأمة لما أحس أن الصحابي قد يستشكل عليه أمر قطع الصلاة ذكر له صلّى الله عليه وسلّم الدليل من كلام الله تبارك وتعالى، وفيه أيضا أنه يسنّ للمفتي أن يذكر أولا في حكم المسألة الدليل القرآني تبركا بكلامه تبارك وتعالى، ووجه ذلك أن كلامه صلّى الله عليه وسلّم هو تشريع للأمة، ولكن لما كان هناك دليل في المسألة من القرآن العظيم، قدّمه صلّى الله عليه وسلّم. 15- تبركهم به صلّى الله عليه وسلّم أولا: تبركهم بفضل وضوئه صلّى الله عليه وسلّم: عن أبي جحيفة قال: (خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهاجرة، فأتي بوضوء، فتوضّأ فجعل النّاس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسّحون به، فصلّى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الظّهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة. وقال أبو موسى: دعا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومجّ فيه، ثمّ قال لهما: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» ) «2» . الشاهد في الحديث: قوله: فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به.   (1) انظر فتح الباري (8/ 158) . (2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، برقم (188) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 بعض الفوائد الحديث: الفائدة الأولى: ثبوت بركة فضل وضوء النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الماء المتبقي في الإناء بعد وضوئه أو الماء الذي سال من أعضاء وضوئه، قال أبو جحيفة رضي الله عنه (فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) ، ومما يوضح ذلك ويبينه أكثر وأكثر ما رواه البخاري عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الرّبيع قال: (وهو الّذي مجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجهه وهو غلام من بئرهم وقال عروة عن المسور وغيره يصدّق كلّ واحد منهما صاحبه: وإذا توضّأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كادوا يقتتلون على وضوئه) «1» . 2- ثبوت بركة ريقه صلّى الله عليه وسلّم، لقول أبي موسى: (فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال: «اشربا منه» ، ومعنى مج فيه: صب الماء الذي في فمه في الإناء، قال ابن حجر- رحمه الله: (والغرض بذلك إيجاد البركة بريقه المبارك) . وانظر أخي القارئ أدب العلماء مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث وصف ابن حجر ريقه صلّى الله عليه وسلّم بالمبارك، والمبارك هو كل ما كثر خيره، ودليل بركته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه أن يشربوا منه، بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا حريصين كل الحرص على ألا يدخل فم المولود شيء قبل ريقه المبارك صلّى الله عليه وسلّم، فعن أنس رضي الله عنه قال: (لمّا ولدت أمّ سليم قالت لي يا أنس انظر هذا الغلام فلا يصيبنّ شيئا حتّى تغدو به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحنّكه فغدوت به فإذا هو في حائط وعليه خميصة حريثيّة وهو يسم الظّهر الّذي قدم عليه في الفتح) «2» . 3- عظيم بركة ريقه وفضلة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم، ووجه ذلك: أن هذه البركة تصيب من نالها بأي وجه من الوجوه، ومن تلك الوجوه: أ- الشرب، لقوله صلى الله عليه وسلّم لأبي موسى: «اشربا منه» . ب- الإفراغ، أي الصب، على الوجه والنحر، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» . ج- التمسح به، لقول أبي جحيفة (فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) . د- مجرد النضح، لما ورد عند البخاري من حديث أبي جحيفة: (فخرج بلال، فمن   (1) البخاري، الكتاب والباب السابقين، برقم (189) . (2) البخاري، كتاب: اللباس، باب: الخميصة السوداء، برقم: (5824) ، ومسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: جواز وسم الحيوان غير الآدمي، برقم (2119) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 نائل وناضح) . قال ابن حجر- رحمه الله- (معناه: فمنهم من ينال منه شيئا، ومنهم من ينضح على غيره شيئا مما ناله ويرش عليه بللا مما حصل له) . انتهى. وتدبر أخي القارئ، أن الصحابة رضي الله عنهم قد رجوا البركة من مجرد النضح، ليقينهم أنه لن تعدم البركة فيه، وكيف تعدمه وهذا الماء قد لامس جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية: حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه رضي الله عنهم وحرصه على تعليمهم ما يجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الشر، بإذن الله تعالى، حيث كان صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بشرب فضلة وضوئه، بل ومجّته، قال أبو موسى: (ثم قال لهما: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما) . الفائدة الثالثة: تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان ذلك إلا ليقينهم التام، الذي لا يخالطه أدنى شك، بصدق نبوته، وحبّ الله- سبحانه وتعالى- له، مع تأييده بالمعجزات الباهرات، ومما يدل على ما ذكرت من حديث الباب: 1- تمسحهم رضي الله عنهم بفضل وضوئه صلّى الله عليه وسلّم فما كانوا يكتفون بالشرب بل كانوا يمسحون بهذا الماء جميع جسدهم طمعا لتعميم البركة، قال الراوي: (فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) . 2- من لم يستطع منهم أن ينال من فضلة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم نضح من يد أخيه، كما بينت قريبا، وأعتقد أن من فعل ذلك خاف ألايدرك جزآ ولو يسيرا من الماء فاضطر للنضح، حتى لا يخرج صفر اليدين، فيشق عليه حرمانه، بينما نال الآخرون بغيتهم. 3- لم يقتصر الحرص على نيل بركة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه رضي الله عنهم بل تعدى إلى زوجاته، أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، وهذا عجيب جدّا جدّا لمن تدبره، فأزواجه اللائي ينلن من حبه والقرب منه وبركته، ما لا يمكن أن يناله غيرهن، لم يزهدن في فضلة وضوئه، ورد في إحدى روايات البخاري من قول أبي موسى: (فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة) . ألم تكن أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها، في يوم نوبتها، تأكل وتشرب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أما كانت تنام على الفراش الذي ينام عليه، أما كانت تشرب من فضلة وضوئه كلما كان عندها، بل أما كانت تغتسل معه، وأكثر من ذلك بكثير، لماذا لم تكتف بكل ذلك، لماذا لم تؤثر الصحابة بهذه الفضلة، وهم الذين لم يشاركوها فيما ذكرت، هل لأن الزهد في الخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 من سوء الأدب؟ هل لطمعها الشديد أن تنالها بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما سنحت لها الفرصة؟ هل كانت ستجد مشقة في نفسها أن يوزع هذا الخير ولا تنال هي منه، وانظر كيف رفعت صوتها رضي الله عنها من حجرتها حتى تسمع أبا موسى نداءها، وكيف استحثتهم على أن يخصوها بطائفة، فقالت لهما (أن أفضلا لأمكما) . ولم تقل: (لي) ؛ لتذكرهما بحقها العظيم عليهما من حيث كونها أمّا للمؤمنين. ثانيا: تبركهم بفضلة الماء الذي شرب منه صلّى الله عليه وسلّم: عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بشراب، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا. فتلّه في يده) «1» . الشاهد في الحديث: قول الغلام للنبي: (لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا) . الغلام كما ذكر في روايات في غير الصحيحين، هو: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ومع شدة تعظيم هذا الغلام الفقيه للنبي، واستئذان النبي منه، إلا أنه أبى أن يعطي فضلة النبي لأحد، فهو يعلم ما فيها من بركة، وهذا يدل على فطنته وحرصه على الخير، ومعرفته قدر الرسول وكل ذلك مع كونه غلاما. وفي الحديث فوائد منها: الفائدة الأولى: أن الإيثار في الطاعات والخير، غير مطلوب شرعا، فعلى الإنسان أن يقدم نفسه في أمور الخير، وذلك في حالة كون العمل لا يقوم به إلا واحد، مثل وجود فرجة في الصف الأول، لا تكفي إلا واحد، فعلى المسلم أن يبادر إليها ولا يؤثر غيره بها، أما الإيثار المطلوب، فهو الذي يكون في أمور الدنيا مثل الطعام والشراب والملبس، فهذا إيثار محمود شرعا، يثاب المرء عليه. أما إذا كان العمل يمكن أن يقوم به اثنان أو أكثر، فعلى المسلم أن يحرص على أن يشاركه غيره فيه، ليعم الخير والبركة، ويشرع له أن يختار المشارك له من أهل قرابته، لأنهم أولى بالمعروف، ألم تر كيف شفع موسى في أخيه حتى جعله نبيّا، قال- تعالى- على لسان موسى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي [طه: 29، 30] .   (1) البخاري، كتاب: المظالم والغصب، باب: إذا أذن له أو أحله ... ، برقم (2451) ، مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إدارة الماء واللبن عن يمين ... ، برقم (2030) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 أما الدليل من السنة على اختيار أقرب الناس للمشاركة في الخير، فعن أم حبيبة أنها قالت: (قلت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: «وتحبّين؟» قلت: نعم. لست لك بمخلية، وأحبّ من شاركني في خير أختي) «1» . ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل لأنها كانت بنت أخ من الرضاعة بالإضافة إلى تحريم الجمع بين الأختين وأنصح كل مسلم فأقول له: لا تبخل على أخيك المسلم بأي خير، واعلم أن خير الله الذي أراده لأخيك سيصل إليه لا محالة، فاحرص أن يكون هذا الخير على يديك، فيحبك الله عزّ وجلّ، ويحبك الناس، وتكون من أهل المعروف في الدنيا. الفائدة الثانية: إذا قال قائل: الغلام كان صغيرا فكيف نأخذ من فعله حكما؟ قلت: عدم تعقيب النبي صلّى الله عليه وسلّم على قول الغلام أو الإنكار عليه، دلنا أن فعل الغلام هو الصواب، إذ لا يجوز في حقه صلّى الله عليه وسلّم تأخير البيان عن وقت الحاجة. الفائدة الثالثة: الذي يجلس عن اليمين هو الأولى، ولا يعطي لغيره إلا بإذنه، وهو مخير بالإذن من عدمه. الفائدة الرابعة: تواضع النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الغلام، وحفظ حقه، ويظهر ذلك في الاستئذان، ولو علم الغلام أن هذا الاستئذان ليس على بابه، أي أنه بمثابة الأمر، لبادر إلى الطاعة والامتثال. ثالثا: تبركهم بشعره صلّى الله عليه وسلّم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لمّا رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمرة، ونحر نسكه، وحلق ناول الحالق شقّه الأيمن، فحلقه، ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاريّ، فأعطاه إيّاه ثمّ ناوله الشّقّ الأيسر، فقال: احلق فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال: اقسمه بين النّاس) «2» . الشاهد في الحديث: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقسمه بين الناس» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: الشمائل النبوية: 1- بركة شعره صلّى الله عليه وسلّم، ودليله أنه أعطى شعر شقه الأيمن لأبي طلحة، زوج أم سليم   (1) البخاري، كتاب: النكاح، باب: وأن تجمعوا بين الأختين ... ، برقم (5107) . مسلم، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، برقم (1449) . (2) مسلم، كتاب: الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ... ، برقم (1305) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 والدة أنس، رضي الله عنهم، وأمر صلّى الله عليه وسلّم أبا طلحة بتقسيم شعر شقه الأيسر على الناس، وعند مسلم: (فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين) ، ولفظ (اقسمه) يشعر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد من أبي طلحة رضي الله عنه العدل بين الناس في توزيع الشعر، ولولا علمه صلّى الله عليه وسلّم بعظيم بركة شعره، ما أمر بتقسيمه بين الناس. بل إنه أمر بمراعاة العدل في التقسيم. يتفرع على ذلك إثبات بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما يخصه؛ إذ تم توزيع شعره بين الصحابة، رضي الله عنهم بالشعرة والشعرتين، ولولا حدوث البركة بالشعرة الواحدة، ما كان هناك حكمة من وراء توزيعها على الصحابة، ولك أخي القارئ أن تتصور الجهد الذي بذله أبو طلحة ليقسم شعر الشق الأيسر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بين الناس ومعلوم أن شعره صلّى الله عليه وسلّم كان كثيفا وطويلا. 2- عظيم اعتناء المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم إذ جعل في كل شيء اتصل به عظيم البركة، من الشعر واللباس والأظافر والعرق ومكان الصلاة وفضلة الماء والوضوء، وبصاقه بل ونخامته التي كان الصحابة رضي الله عنهم يتبادرونها فيمسحون بها وجوههم، واقرأ أخي المسلم، ما ورد في البخاري في حديث صلح الحديبية الطويل، ما ذكره عروة بن مسعود لأصحابه من كفار قريش: (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده) . ولا تتعجب أخي القارئ من سلوك الصحابة رضي الله عنه ولا تقول في نفسك: كيف يفعلون ذلك بالنخامة، وتظن أنك لو كنت مكانهم لاستقذرت ذلك؛ لأن الذي عاين وعايش أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس كالذي سمع، وإذا كان عرقه صلّى الله عليه وسلّم كان مثل حبات اللؤلؤ في جماله، وأطيب من المسك في ريحه، فلماذا نقيس نخامته صلّى الله عليه وسلّم بنخامة بقية الناس، حتى محجنه صلّى الله عليه وسلّم قد ثبتت له البركة لملامسة يد النبي صلّى الله عليه وسلّم فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزاة فأبطأ بي جملي، وأعيا فأتى عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «جابر؟» فقلت: نعم. قال: «ما شأنك؟» قلت: أبطأ عليّ جملي، وأعيا فتخلّفت، فنزل يحجنه بمحجنه، ثمّ قال: «اركب» . فركبت، فلقد رأيته أكفّه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) «1» .   (1) البخاري، كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمر ... ، برقم: (2097) ، مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين، برقم (715) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الفائدة الثانية: بالغ حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك من: 1- حرصهم على اقتناء شعر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث ورد عند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) . وما كان هذا إلا لتعظيمهم كل ما يتصل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا نقول الشعره، بل نقول الشعرة الواحدة منه، كانوا يرون أن من الخسارة أن تقع الشعرة على الأرض، ولا ينتفع أحد منها، وقد يكون ذلك أيضا، من باب إجلالهم للشعرة من أن تقع على الأرض التي يمشي الناس عليها بأقدامهم، وهذا ليس ببعيد ولا مستغرب. 2- رؤيتهم أن اقتناء شعرة واحدة من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إليهم من الدنيا وما فيها، لما رواه البخاري: (عن ابن سيرين قال: قلت لعبيدة: عندنا من شعر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها) . أي أن أحدهم لو خيّر بين الدنيا بما فيها من الأولاد والمال والحلائل من النساء، وبين شعرة واحدة، من شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم والله ما تردد ولاختار الشعرة، فهي أرجح عنده في الميزان من الدنيا وما فيها، فأي حب كان هذا الحب، وتنبه أخي القارئ، أن ابن سيرين لم يكن من الصحابة، ولكن كان من التابعين، أي أن الشعر كانوا يحتفظون به، مددا طويلة، وكانوا إما يتوارثونه أو يتهادونه فيما بينهم، لقول ابن سيرين عن شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم: (أصبناه من قبل أنس) . الفائدة الثالثة: وهي منقبة عظيمة لأبي طلحة، حيث خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم وحده بشطر شعره الأيمن، وبقية الناس بالشطر الآخر. رابعا: تبركهم بمكان صلاته صلّى الله عليه وسلّم: عن محمود بن الرّبيع الأنصاريّ: (أنّ عتبان بن مالك؛ وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّن شهد بدرا من الأنصار، أنّه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري، وأنا أصليّ لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الّذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلّي بهم، ووددت يا رسول الله أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي فأتّخذه مصلّى. قال: فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأفعل، إن شاء الله» . قال عتبان: فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر حين ارتفع النّهار فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذنت له فلم يجلس حتّى دخل البيت، ثمّ قال: أين تحبّ أن أصلّي من بيتك؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت) «1» .   (1) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت، برقم (425) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الشاهد في الحديث: قول عتبان بن مالك رضي الله عنه: (وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم تقتصر هذه البركة على ما خرج منه فحسب، مثل: العرق، والتفل، والمجّة، والريق، والشّعر، والماء الذي خرج من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم بل تعدت تلك البركة إلى المكان الذي لامسه والتصق جسده به، والمكان الذي تعبد فيه لله- سبحانه وتعالى-، ولولا ثبوت هذه البركة ما لبى النبي صلّى الله عليه وسلّم طلب عتبان بن مالك رضي الله عنه بالحضور إلى بيته والصلاة فيه ليتخذه عتبان مصلى له، وترى كذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل البيت لم يصلّ في أي مكان، بل سأل عتبان رضي الله عنه أين تحب أن أصلي من بيتك؟ ليختار عتبان المكان المناسب الذي سيتمكن من التزامه في كل صلاة، ويتفرع على ما ذكره الفائدة التالية. الفائدة الثانية: المكان الذي تعبد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أحب إلى الله من المكان الذي لم يتعبد فيه صلّى الله عليه وسلّم وكذا التقرب إلى الله في مكان تقرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أرجى لقبول تلك العبادة عند الله، بل نجزم أن ثوابها أعظم، ودليله: أن عتبان بن مالك رضي الله عنه لما عجز عن أداء بعض الصلوات جماعة في المسجد لضعف بصره، ولشعوره أن أجر الجماعة في المسجد. خاصة أنه كان إماما لقومه. قد يفوته لصلاته في بيته، طلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي له في بيته، فيتخذ ذلك المكان مصلى له، فيعظم أجره لصلاته في نفس المكان الذي تشرف بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه- فإن اعترض أحد وقال: ما وجه دلالة هذا الاستنباط؟ قلت له: إن عتبان رضي الله عنه لم يطلب هذا الطلب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل ضعف بصره، مع أنه كان من المؤكد يصلي في بيته ولو بعض النوافل، كما لم يطلب منه أن يأتي إلى مسجده فيصلي فيه مرة، حتى يتخذ تلك البقعة في المسجد مصلى له، وإنما طلب هذا الطلب لما اضطر إلى الصلاة في البيت بعض الفرائض التي يعجز أن يصليها في المسجد. الفائدة الثالثة: مشروعية أن يتحرى المسلم الأماكن التي ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعبد فيها ويقصد الصلاة فيها طمعا أن ينال بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم وينوي بذلك التقرب إلى الله عزّ وجلّ. ومثاله الحجر الأسود الذي ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبّله، وكذا الأماكن التي ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى فيها بمسجده الشريف كمكان المنبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 تنبيه هام: هل يجوز التبرك باثار أحد بخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ الجواب: نعم، قال الإمام النووي- رحمه الله- (في الحديث التبرك بالصالحين وآثارهم والصلاة في المواضع التي صلوا بها وطلب التبريك منهم) «1» . وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (ويستفاد منه أن من دعي من الصالحين ليتبرك به أنه يجيب إذا أمن الفتنة) «2» . وأضيف أنه يجب أن تتوفر شروط في الرجل الذي نلتمس منه البركة، وإليك أخي القارئ بعض تلك الشروط: 1- أن يكون متبعا للكتاب الكريم وسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهرا وباطنا، خاصة في باب العقائد والمحافظة على صلوات الجماعة والورع عن الحرام والقيام بالسنن والمندوبات. 2- ألا يحب أو يحرص على إظهار كراماته أمام الناس، وإذا حدثت هذه الكرامات دون قصد منه لا يفرح بها ولا ينبه الناس عليها، لأن من المفترض فيه أن يخشى الفتنة على نفسه، كما يخشى الرياء والسمعة. 3- ألا يبتغي بهذه الكرامات عرضا من أعراض الدنيا، كالأموال والمناصب والتقرب إلى الحاكم وغيرها. والأولى عدم التوسع في التبرك باثار الصالحين مخافة وقوع العوام في الشرك خاصة في تلك الأزمنه المتأخرة. الفائدة الرابعة: وهي فوائد متفرقة ذكرها الحافظ ابن حجر والإمام النووي- رحمهما الله تعالى. جواز إمامة الأعمى وجواز إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة ولا يكون من الشكوى. جواز التخلف عن الجماعة في المطر والظلمة ونحو ذلك، واتخاذ موضع معين للصلاة في البيت، وإنما جاء في الحديث النهي عن إيطان موضع من المسجد للخوف من الرياء ونحوه. إجابة الفاضل دعوة المفضول، والتبرك بالمشيئة والوفاء بالوعد، واستصحاب الزائر بعض أصحابه، إذا علم أن الداعي لا يكره ذلك.   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 161) . (2) انظر فتح الباري (1/ 522) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 تعليق: قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- في علة طلب عتبان بن مالك رضي الله عنه من النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة في بيته (ويحتمل إنما طلب بذلك الوقوف على جهة القبلة بالقطع) . وأقول: إن هذا الاحتمال غير محتمل ألبتة، وذلك للأسباب التالية: 1- أن الوقوف على جهة القبلة بالقطع يقوم به النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فلا حاجة لسؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم الحضور للبيت للوقوف على جهة القبلة. 2- يستبعد أن صحابيّا مثل عتبان بن مالك رضي الله عنه لم يكن يصلي أيّا من النوافل في بيته، قبل أن ينكر بصره، أو أنه كان يصلي النوافل دون التأكد من جهة القبلة على سبيل القطع. 3- معرفة القبلة يكفي فيها تحديد اتجاهها، دون الحاجة إلى الصلاة، وإنما طلب عتبان بن مالك رضي الله عنه من النبي صلّى الله عليه وسلّم زيارته في بيته ليصلي فيه، فيتخذ رضي الله عنه هذا المكان مصلى. 4- ولو كانت الصلاة في بيت عتبان لمعرفة اتجاه القبلة، ما سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المكان الذي يحب أن يصلي فيه، ولصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في أي مكان من البيت، وعلم أهل البيت أين اتجاه القبلة. خامسا: تبركهم بيديه صلّى الله عليه وسلّم: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات، فلمّا مرض مرضه الّذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنّها كانت أعظم بركة من يدي) «1» . الشاهد في الحديث: قول عائشة رضي الله عنها: (وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: عظيم بركة يد النبي صلّى الله عليه وسلّم لقول عائشة رضي الله عنها: (وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي) . يتفرع على قول عائشة- رضي الله عنها-: (أعظم بركة) جواز استخدام هذا اللفظ (أعظم) بصيغة أفعل التفضيل من (عظيم) ، في جميع ما يخص النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا لا يتنافى مع التوحيد.   (1) مسلم، كتاب: السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث: برقم (2192) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الفائدة الثانية: حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفع أهله، لقول عائشة: (إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) . ويتفرع عليه مشروعية الرقية، وتكون بالقرآن، والأدعية المشروعة، الثابتة في السنة الصحيحة. الفائدة الثالثة: في مناقب عائشة رضي الله عنها: 1- حبها للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتمنيها شفاءه، ويدلنا على ذلك كثرة رقيتها له بالمعوذات لقولها: (فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه) . 2- تعظيمها للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كانت تمسح جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده هو، مع أنها هي التي كانت تقرأ المعوذات، وما كانت تفعل ذلك إلا لاعتقادها أن يده صلّى الله عليه وسلّم أعظم بركة من يدها، وهي من؟، أم المؤمنين، وبنت أفضل الصحابة، الصديق رضي الله عنه وأحب الناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وانظر ماذا قالت لما قارنت بركة يدها مع بركة يد النبي صلّى الله عليه وسلّم هل قالت: أشد بركة أو أكثر بركة، لا، قالت: (أعظم بركة) . مع إيمانها رضي الله عنها أن ليدها بركة، حيث إن التفضيل لا يكون إلا بين اثنين قد اشتركا في أصل الشيء المفضل. 3- حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لها رضي الله عنها، حيث كان يمرّض صلّى الله عليه وسلّم في مرض موته في بيتها، وما كان ذلك إلا بأمره، فعن عائشة- رضي الله عنها-: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسأل في مرضه الّذي مات فيه يقول: «أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟» . يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتّى مات عندها. قالت عائشة: فمات في اليوم الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي فقبضه الله وإنّ رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثمّ قالت: دخل عبد الرّحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستنّ به فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: أعطني هذا السّواك يا عبد الرّحمن. فأعطانيه، فقضمته، ثمّ مضغته، فأعطيته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستنّ به وهو مستند إلى صدري) «1» . وهذا يدل دلالة قاطعة على عظيم حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها، وكفاها شرفا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبض في بيتها، في يوم نوبتها، ورأسه الشريفة بين نحرها وسحرها. والسحر هو أسفل الصدر، بل أقول كفاها شرفا أنها آخر من لامس جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم حيّا، وسيأتي ذلك تفصيلا في فصل «يوم الوفاة النبوية» . الفائدة الرابعة: قد تحدث الرقية، بشيء معظم، وهو القرآن الكريم، من قبل نفث   (1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ... برقم: (4450) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 زكي، وهو نفث عائشة رضي الله عنها وبيد عظيمة البركة، وهي يد النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع توفر كل تلك الأسباب المباركة، قد لا يحدث الشفاء لأن أجل الله، - سبحانه وتعالى-، قد سبق بالموت، أو قد يتأجل الشفاء لحكمة يعلمها الله- تبارك وتعالى-، وفي كل الأحوال، قد ثبت الأجر، إن شاء الله، للراقي والمرقي، إذا ما تمت الرقية، بما يشرع من الكتاب والسنة، وكانت من قلب توفر فيه حسن الإخلاص وتمام اليقين، أما إذا كانت الرقية بوسيلة غير شرعية، فقد ثبت الوزر، حتى وإن تم الشفاء، وقد يكون الشفاء تم استدراكا من الله للعبد الذي يأبى اتباع الكتاب والسنة، فلا نغتر. الفائدة الخامسة: لم تكن عائشة- رضي الله عنها- وحدها هي التي تتبرك بيديه الشريفتين، بل كان ذلك نهج الصحابة رضي الله عنهم فعن أبي جحيفة قال: (قام النّاس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم. قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثّلج، وأطيب رائحة من المسك) «1» . سادسا- تبركهم بعرقه صلّى الله عليه وسلّم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدخل بيت أمّ سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت. فقيل لها: هذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نام في بيتك على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها «2» ، فجعلت تنشّف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما تصنعين يا أمّ سليم؟» فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا. قال: «أصبت» ) «3» . الشاهد في الحديث: قول أم سليم: (يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا) . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الشمائل النبوية: 1- عظيم بركة عرقة وشعره صلّى الله عليه وسلّم حيث رد النبي صلّى الله عليه وسلّم على أم سليم رضي الله عنها لما قالت (يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا) . بقوله: «أصبت» . أي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أقر أم سليم، على   (1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي ... برقم: (3553) . (2) العتيدة: وعاء يوضع فيه ما يشرف ويعظم من المتاع. (3) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: طيب عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم ... ، برقم (2331) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 كل ما فعلت، من عصر العرق الذي تصبب منه على قطعة الأديم التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينام عليها، ووضع ذلك العرق في قوارير لحفظه، ومن ثم سقايته للصبيان للاستشفاء، وكان يمكن أن يسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمع من أم سليم، ويكون سكوته أيضا إقرارا منه صلّى الله عليه وسلّم على فعلها، ولكن رده بقوله صلّى الله عليه وسلّم (أصبت) أبلغ من سكوته، حيث دلّ هذا على رضاه التام بكل ما فعلت، وأن فعلها قد وافق الصواب، والصواب هو الحق، فكأنه قد زكى كل ما فعلت. أما بركة شعره صلّى الله عليه وسلّم فيؤخذ مما ورد في رواية البخاري (فإذا نام النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة) . 2- طيب عرقه صلّى الله عليه وسلّم حيث كانت أم سليم رضي الله عنها تأخذ هذا العرق فتخلط به طيبها، ورد عند البخاري: (فإذا نام النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك) . والسك هو طيب مركب، وعنده أيضا قولها للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (عرقك أذوف به طيبي) . أي أخلط به طيبي، وعند مسلم: (هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب) ، أي أن عرقه صلّى الله عليه وسلّم كانوا يطيبون به الطيب، وبذلك يكون عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم وشعره للاستطباب والتطيب. 3- ثبوت علو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومكانته الرفيعة عند ربه، حيث جعل الله- سبحانه وتعالى- شعره وعرقه يستخدمان للاستطباب والتطيب، واللذان هما في حق غيره من الناس من المستقذرات، تخيل أخي القارئ، أن ما يكون في حقنا مستقذرا، يكون في حقه صلّى الله عليه وسلّم كامل البركة والخير، بل يتوارثها الناس جيلا بعد جيل، وتأمل أخي القارئ قول أم سليم: (هو أطيب الطيب) . أي أنها ما رأت طيبا أجمل وأزكى رائحة، من عرقه على اختلاف أنواع الطيب وغلو ثمنه. الفائدة الثانية: في مناقب أم سليم وأنس بن مالك رضي الله عنهما: 1- تعظيم أم سليم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبين ذلك من: أ- حرصها الدائم على الاحتفاظ بعرق النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما نام في بيتها، ورد في إحدى روايات البخاري: (أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلّى الله عليه وسلّم نطعا فيقيل عندها على ذلك النطع فإذا نام النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذت من عرقه وشعره) . فهذه الرواية تثبت أن الحادثة كانت تتكرر، وفي كل مرة تحرص أم سليم- رضي الله عنها- أن تأخذ عرقه صلّى الله عليه وسلّم فلا هي قالت مرة: (عندي ما يكفيني) ، ولا ملت من تكرار جمع الشعر والعرق، وهذا يدل أيضا على عظيم الحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 ب- حرصها رضي الله عنها على أخذ كل ما يخرج من النبي صلّى الله عليه وسلّم من عرق، وألا يفوتها شيء منه، رغم أن الأمر كان يتكرر في بيتها، ففي الحديث: (فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها) . ولفظ «تعصره» يوحي بحرصها على تجميع كل نقطة عرق. ج- من أجلّ مظاهر تعظيمها رضي الله عنها لعرق النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها كانت تحفظ ذلك العرق في عتيدتها، وهو الصندوق المعد لحفظ المتاع النفيس، ومما يدل على أن هذا الصندوق كانت تحافظ عليه مغلقا حرصا على ما فيه قول الراوي: (ففتحت عتيدتها) . فالفارق بيننا وبينهم شاسع، كالفارق بين الثرى والثريا، خزائنهم يحفظون فيها آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم وخزائننا نحفظ فيها الورق والذهب. 2- نوم النبي صلّى الله عليه وسلّم على فراشها، الذي هو في بيتها، وأي منقبة يمكن أن يحوزها أي صحابي، أعظم من تلك المنقبة، ولا أدري كيف كان شعورها إذا أوت بالليل لتنام على فراش نام عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ولامس جسده ذلك الفراش. 3- ادخارها رضي الله عنها، عرق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لتداوي به أعز ما تملك وهم صبيانها، قالت: (نرجو بركته لصبياننا) . 4- لم يكن هذا التعظيم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل أم سليم وحدها، بل كان من قبل أنس بن مالك، رضي الله عنه؛ إذا أوصى عند موته أن يجعل في حنوطه، وهو العطر الذي يطيب به الميت، من الطيب الذي كان يخلط به عرق رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فعند البخاري من حديث ثمامة: (فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه) ، ولولا أن الأمر كان يشغله ويهتم به في أوقات صحته، ما تذكره يوم وفاته رضي الله عنه. وتدبر أخي القارئ كم مكث هذا الطيب عقودا طويلة عند أنس رضي الله عنه حتى مات. سابعا: التبرك بأثر قدحه الذي شرب فيه صلّى الله عليه وسلّم عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أقبل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومئذ حتّى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثمّ قال: «اسقنا يا سهل» . فخرجت لهم بهذا القدح، فأسقيتهم فيه فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه. قال: ثمّ استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له) «1» .   (1) البخاري، كتاب: الأشربة، باب: الشرب من قدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم: (5637) ، مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد ... ، برقم (2007) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 في الحديث بيان ما كان عليه الصحابة والتابعون من تعظيم آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم والحرص على اقتنائها والتبرك بها، ويظهر ذلك من الأمور التالية: 1- احتفاظ سهل بن سعد رضي الله عنه بالقدح الذي شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم كل هذه المدة الطويلة، وما يتصور أن قدحا يبقى مثل تلك الفترة الزمنية الطويلة إلا إذا حافظ عليه صاحبه أشد المحافظة. 2- الظاهر من الحديث- والله أعلم- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشرب من هذا القدح إلا مرة واحدة، عند ما نزل سقيفة بني ساعدة، ورد في الحديث على لسان سهل بن سعد: (فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه) ، ولو تكرر شرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه أكثر من مرة لحرص سهل أن يذكر ذلك، وهذا يدل على تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم والحرص على التبرك بها والمحافظة عليها بأقل مماسة أو ملامسة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا قدح لم يشرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا مرة واحدة ويكون كل ذلك الحرص عليه. 3- حرص الصحابة على إعلام التابعين باثار النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل وحرصهم أيضا على أن ينال التابعون شرف ملامسة تلك الآثار وبركتها، لأن أبا حازم راوي الحديث ما علم أن القدح الذي شرب فيه عند سهل بن سعد هو نفسه الذي شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بإخبار سهل له، بل يمكن أن يقال: إن سهلا رضي الله عنه كان من حفاوته بضيوفه وحرصه على حسن ضيافتهم أنه كان يسقيهم من هذا القدح المبارك. 4- حرص التابعين على اقتناء آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله- تعالى- يسأل سهلا أن يهب له القدح الذي شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما فعل ذلك إلا حرصا منه على أن ينال بركة ملامسة ما لامسه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده وفمه، وقد فعل ذلك الخليفة الصالح وهو الذي يعلم كراهة سؤال الغير، ولكن إذا كان الأمر يتعلق باثار النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا حرج عندهم، فكأن هذا الخليفة الراشد استطاع أن يزهد في الدنيا وزينتها، ولكن لم يستطع أن يزهد في قدح شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: (ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز فوهبه له) . 5- وإن تعجب أخي القارئ مما ذكر، فالعجب كل العجب هو اعتقاد الصحابة الجازم ومن تابعهم أن بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي حلت في القدح الذي شرب فيه مرة واحدة تبقى فيه فلا تذهب بكثرة الشاربين والملامسين لهذا القدح وبطول المدة التي تبقى فيها القدح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وانتقال القدح من الصحابة إلى التابعين هو من جنس ما ذكر في باب: (التبرك بشعره صلّى الله عليه وسلّم) ، فقد توارث الصحابة والتابعين شعرة واحدة من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأختم بما قاله الإمام النووي- رحمه الله- (في الحديث التبرك باثار النبي صلّى الله عليه وسلّم وما مسه أو لبسه أو كان منه فيه سبب، وهذا نحو ما أجمعوا عليه وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغير ذلك، ومن هذا إعطاؤه صلّى الله عليه وسلّم أبا طلحة شعره ليقسمه بين الناس، وإعطاؤه صلّى الله عليه وسلّم حقوه تكفن فيه بنته رضي الله عنها، وجعله الجريدتين على القبرين، وجمعت بنت ملحان عرقه صلّى الله عليه وسلّم وتمسحوا بوضوئه صلّى الله عليه وسلّم ودلكوا وجوههم بنخامته، وأشباه هذه كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل ذلك واضح لا شك فيه) «1» .   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، (13/ 179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الباب السابع أيام من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 يوم الهجرة المباركة عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: لم أعقل أبويّ قطّ إلّا وهما يدينان الدّين ولم يمرّ علينا يوم إلّا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النّهار بكرة وعشيّة فلمّا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتّى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدّغنة وهو سيّد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي، قال ابن الدّغنة: فإنّ مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنّك تكسب المعدوم وتصل الرّحم وتحمل الكلّ وتقري الضّيف وتعين على نوائب الحقّ فأنا لك جار ارجع واعبد ربّك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدّغنة فطاف ابن الدّغنة عشيّة في أشراف قريش فقال لهم: إنّ أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرّحم ويحمل الكلّ ويقري الضّيف ويعين على نوائب الحقّ فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدّغنة وقالوا لابن الدّغنة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره فليصلّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنّا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدّغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربّه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثمّ بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدّغنة فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنّا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربّه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصّلاة والقراءة فيه وإنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل وإن أبى إلّا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ إليك ذمّتك فإنّا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة: فأتى ابن الدّغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الّذي عاقدت لك عليه فإمّا أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إليّ ذمّتي فإنّي لا أحبّ أن تسمع العرب أنّي أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإنّي أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بمكّة فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين: «إنّي أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين» وهما الحرّتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهّز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «على رسلك فإنّي أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال: «نعم» فحبس أبو بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر وهو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظّهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقنّعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمّي والله ما جاء به في هذه السّاعة إلّا أمر قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «أخرج من عندك» . فقال أبو بكر: إنّما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: فإنّي قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصّحابة بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» . قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بالثّمن» . قالت عائشة: فجهّزناهما أحثّ الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سمّيت ذات النّطاقين قالت: ثمّ لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شابّ ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكّة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلّا وعاه حتّى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظّلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتّى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كلّ ليلة من تلك اللّيالي الثّلاث واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر رجلا من بني الدّيل وهو من بني عبد بن عديّ هاديا خرّيتا والخرّيت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السّهميّ وهو على دين كفّار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدّليل فأخذ بهم طريق السّواحل قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرّحمن بن مالك المدلجيّ وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أنّ أباه أخبره أنّه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفّار قريش يجعلون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر دية كلّ واحد منهما من قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتّى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إنّي قد رأيت آنفا أسودة بالسّاحل أراها محمّدا وأصحابه قال سراقة: فعرفت أنّهم هم فقلت له إنّهم ليسوا بهم ولكنّك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثمّ لبثت في المجلس ساعة ثمّ قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجّه الأرض وخفضت عاليه حتّى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرّب بي حتّى دنوت منهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الّذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرّب بي حتّى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتّى بلغتا الرّكبتين فخررت عنها ثمّ زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلمّا استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السّماء مثل الدّخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الّذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتّى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: إنّ قومك قد جعلوا فيك الدّية وأخبرتهم أخبار ما يريد النّاس بهم وعرضت عليهم الزّاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلّا أن قال: أخف عنّا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثمّ مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزّبير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقي الزّبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشّأم فكسا الزّبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة فكانوا يغدون كلّ غداة إلى الحرّة فينتظرونه حتّى يردّهم حرّ الظّهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلمّا أوا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مبيّضين يزول بهم السّراب فلم يملك اليهوديّ أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدّكم الّذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السّلاح فتلقّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرّة فعدل بهم ذات اليمين حتّى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل فقام أبو بكر للنّاس وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممّن لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحيّي أبا بكر حتّى أصابت الشّمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أبو بكر حتّى ظلّل عليه بردائه فعرف النّاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك فلبث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسّس المسجد الّذي أسّس على التّقوى وصلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ ركب راحلته فسار يمشي معه النّاس حتّى بركت عند مسجد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو يصلّي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتّمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل» ثمّ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتّى ابتاعه منهما ثمّ بناه مسجدا وطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم اللّبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللّبن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربّنا وأطهر ويقول: اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره فتمثّل بشعر رجل من المسلمين لم يسمّ لي قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تمثّل ببيت شعر تامّ غير هذا البيت «1» . بعض فوائد الحديث: الفائدة الأولى: أدبه الجم صلّى الله عليه وسلّم مع الخالق- تبارك وتعالى- ومع المخلوقين: 1- أدبه صلّى الله عليه وسلّم مع الخالق: فمع كل ما كان يلاقيه صلّى الله عليه وسلّم من أذى الكفار، البدني والنفسي، والتضييق عليه في الدعوة والتعبد، إلا أنه لم يخرج حتى أذن الله له في الخروج من مكة مهاجرا، وهذا تكليف شرعي لجميع الأنبياء ألا يخرجوا حتى يؤذن لهم، وما خرج منهم أحد- فيما نعلم- بدون إذن إلا يونس عليه السلام، قال صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» وقال صلّى الله عليه وسلّم في الثانية: «فإني قد أذن لي في الخروج» . ويتفرع عليه: أن الخروج للهجرة يختلف فيه الأنبياء عن الناس اختلافا بينا، حيث إن عامة الناس، بما فيهم خير الأمة الصديق رضي الله عنه، يخرجون وقتما شاؤا، أما الأنبياء فلا. 2- أدبه صلّى الله عليه وسلّم مع المخلوقين: فكان صلّى الله عليه وسلّم يستأذن قبل دخول البيوت، ولو كان صاحب البيت أقرب الناس إليه، ورد في الحديث: «فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن فأذن له» . الفائدة الثانية: حكمته صلّى الله عليه وسلّم: وهي ظاهرة جدّا في حادثة الهجرة، وتتمثل في: 1- أخذه صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الحيطة والحذر في الإعلان عن موعد الهجرة، وفي تحركاته صلّى الله عليه وسلّم أثناء الهجرة: فأما الأولى: ففي الحديث: «فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: أخرج من عندك» حتى لا يسمع   (1) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، برقم (3906) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 أحد بخروجه صلّى الله عليه وسلّم. أما الثانية: فقد مكث في جبل ثور ثلاث ليال على سبيل الاستخفاء لعلمه صلّى الله عليه وسلّم أن المشركين سيرسلون في أثره من يأتي بخبره، ورد بالحديث: «ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال» . 2- إرساله صلّى الله عليه وسلّم العيون واختيار أحسنها وإخفاء أمره على العدو، فقد اختار صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبي بكر لهذه المهمة، حيث توفرت فيه الصفات المطلوبة، فهو شاب حديث السن يتحمل الأعباء الجسدية، وهو حاذق سريع الفهم يتحمل الأعباء الفكرية، ورد في الحديث: «وهو غلام شاب ثقف لقن» ، أما التعمية على العدو فكان عبد الله يرجع إلى مكة آخر الليل حتى يظن أهلها أنه بات معهم «فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك» . 3- استخدام الدليل لمعرفة الطريق واختيار أحسنه وأعلمه ولو كان كافرا، فقد استأجر صلّى الله عليه وسلّم رجلا ماهرا بالطريق، بينه وبين مشركي مكة عهد وأمان، ورد في الحديث: «قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش» ومن كان على دينهم لن يكون موضع شكهم. 4- تضليل العدو، فقد طلب صلّى الله عليه وسلّم من سراقة رضي الله عنه أن يخفي أمره عن كفار مكة وما طلب منه غير ذلك، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: «قد كفيتكم ما هاهنا فلا يلقى أحدا إلى رده» وورد أيضا «ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا» . 5- تأمين الطعام والشراب للسفر الطويل، فقد كلف صلّى الله عليه وسلّم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يرعى عليهما، وورد في الحديث أيضا: «قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهم سفرة في جراب» والسفرة هي الزاد الذي يصنع للمسافر. الفائدة الثالثة: حبه صلّى الله عليه وسلّم للإنفاق في سبيل الله: ومظاهر ذلك: 1. اشتراطه صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع لأبي بكر رضي الله عنه ثمن الراحلة التي سيهاجر بها إلى المدينة، ورد بالحديث: «قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بالثمن» «1» .   (1) أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، برقم (2138) من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- نقلا عن بعض شيوخ المغرب قولهم: «أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه» «1» . 2- لم يأخذ صلّى الله عليه وسلّم شيئا من مال سراقة رضي الله عنه، مع أنه هو الذي عرض عليه ذلك، قال سراقة رضي الله عنه: «وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني» كناية عن أنهما لم يأخذا منه شيئا. وروى مسلم في صحيحه قول سراقة: «فإن غنمك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك قال: لا حاجة لي في إبلك» «2» . 3- رفضه صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ أرض الغلامين لبناء المسجد إلا بثمنه، ورد في الحديث: «ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا» . الفائدة الرابعة: شجاعته صلّى الله عليه وسلّم: لقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يلتفت في قراءته وهو يعلم أن أهل مكة يطلبونه ليوقعوا به، قال سراقة رضي الله عنه في الحديث: «سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات» وأعتقد أن كثرة التفات أبي بكر رضي الله عنه كانت خوفا على حياة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الخامسة: حسن تعبده صلّى الله عليه وسلّم لربه: حيث كان يصلي لربه- تبارك وتعالى- وهو مطلوب من أعدائه، والصلاة في هذا الموقف لهي أدل دليل على افتقار العبد لله، وحسن تضرعه إليه، وطلبه العون والمدد منه سبحانه وتعالى. الفائدة السادسة: تواضعه صلّى الله عليه وسلّم: يظهر ذلك في موضعين من الحديث: الأول: لم يعرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل المدينة من لم يره من قبل، فظن الناس أن أبا بكر هو النبي، ولو كان صلّى الله عليه وسلّم قد ميز نفسه بشيء في اللباس أو المشية أو الدابة لعرفه الناس، ففي الحديث: «جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحسبه أبا بكر» . الثاني: نقله صلّى الله عليه وسلّم اللبن مع أصحابه لبناء المسجد، ويؤخذ منه أيضا، حبه صلّى الله عليه وسلّم الاستزادة   (1) انظر فتح الباري (7/ 235) . (2) أخرجه مسلم، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة، ويقال له حديث الرحل، برقم (2009) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 من أعمال الخير، وعدم الزهد فيها، والحرص على استرضاء الرب- تبارك وتعالى-، وحكمته صلّى الله عليه وسلّم في سياسة الناس حيث يشاركهم العمل ليكون أهون عليهم وأطيب على نفوسهم، ففي الحديث: «وطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر » . الفائدة السابعة: عناية الله- سبحانه وتعالى- بمسجد نبيه صلّى الله عليه وسلّم: لقد اعتنى الله- سبحانه- بمسجد نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وليس ذلك من جهة مضاعفة أجر الصلاة فيه، أو احتوائه على روضة من رياض الجنة، أو الترغيب في شد الرحال إليه، ولكن بلغت العناية الربانية به من حيث المكان الذي بني عليه المسجد فهو مكان اختاره الله- سبحانه وتعالى-، حيث أمر الناقة أن تبرك فيه، «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله- المنزل» . الفائدة الثامنة: حسن ثقته صلّى الله عليه وسلّم بربه- سبحانه وتعالى- وأنه ناصره ومؤيده: ورد في الحديث: «فقلت- أي أبو بكر-: يا رسول الله: أوتينا- أي أدركنا سراقة-؛ فقال: لا تحزن إن الله معنا» . الفائدة التاسعة: سرعة استجابة الله- تبارك وتعالى- لدعائه صلّى الله عليه وسلّم: حيث دعا على سراقة في الأولى فقال: «اللهم اصرعه» - أي سراقة- فصرعه الفرس، ثم دعا لسراقة في الثانية فنجاه الله في الحال ورد في الحديث: «قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا» . ويؤخذ منه أيضا الإيجاز في الدعاء، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم مع الخطر الذي أحدق به وأوشك أن يقع به، ما زاد في دعائه عن قوله: «اللهم اصرعه» ، وأعتقد أن هذا الإيجاز يدل على حسن الثقة بالله، وأنه- سبحانه وتعالى- يسمع ويرى، ولو كان الإسهاب والإطناب والتطويل في الدعاء أكثر عبودية لله وأرجى للإجابة لكان أولى الناس به هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ألم تر كيف دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم على مضر لما آذوه وعادوه؟ فقال في كلمات مختصرات: «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسنين يوسف» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 الفائدة العاشرة: قدرة الله- تبارك وتعالى- العجيبة: حيث ساخت يدا فرس سراقة جدّا- أي غاصت في الأرض- حتى بلغتا الركبتين، وهذا من دلائل قدرة الله- تبارك وتعالى-، ومن دلائل صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم، والدليل على ذلك أن سراقة أسلم في الحال وعلم أنها آية قال في الحديث: «ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها» ، ولم تكن هذه هي الآية الوحيدة التي حمى الله- تبارك وتعالى- بها نبيه صلّى الله عليه وسلّم وشرح بها قلب سراقة للإيمان، بل هناك آية أخرى؛ وهي: أن الأزلام- وهي أقداح كانوا يقترعون بها في الجاهلية لإنفاذ أمر ما- كالقرعة الآن- كانت تخرج كل مرة بعدم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع تكرار سراقة للاستقسام، قال سراقة: «فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره» . الفائدة الحادية عشرة: إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن يؤنس ويطمئن قلب نبيه صلّى الله عليه وسلّم: فأراه دار هجرته، وهو في مكة لم ينتقل منها بعد، ورد في الحديث: «قد رأيت دار هجرتكم رأيت سبخة- وهي الأرض المالحة التي لا تكاد تنبت- ذات نخل بين لابتين» ولا مانع شرعا ولا عقلا أن تكون رؤية بالعين. وهذا الذي نعتقده. الفائدة الثانية عشرة: بره صلّى الله عليه وسلّم برحمه: حيث اختار صلّى الله عليه وسلّم أقرب أهل المدينة منه رحما فنزل عندهم، ورد عند مسلم: «فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم» . قال الإمام النووي- رحمه الله-: «وفيه فضيلة صلة الرحم سواء قربت القرابة والرحم أم بعدت، وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيها أقارب ينزل عندهم يكرمهم بذلك» «1» . الفائدة الثالثة عشرة: حب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإجلاله وتوقيره النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيثاره له على نفسه في كل شيء: وأعتقد أنه رضي الله عنه قد بلغ المنتهى في كل ما ذكر، وسأذكر شواهد ذلك من حديث الهجرة بشيء من التفصيل. ثم أعقبه بحب الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن هذا الحب   (1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 151) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 والإجلال من أعظم دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم. 1- افتداؤه رضي الله عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحب ما عنده؛ بأبيه وأمه: ورد في الحديث: «فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» ؛ أي: أفديه بأبي وأمي. وهذا يدل على أن حب النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مقدما عنده على حب والديه، فود لو ضحى بهما في سبيل إرضائه وسلامته صلّى الله عليه وسلّم ولا غرابة في ذلك فإن فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم على عموم الأمة أعظم وأظهر من فضل الوالدين. 2- حبس نفسه رضي الله عنه في مكة، رغم عدم قدرته على الاستعلان بدينه، وتحزب أهل مكة عليه: حتى إنهم أجبروا سيد القارة أن يرد عليه ذمته، فعل ذلك طمعا في صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى دار الهجرة، وطاعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أمره له بعدم الخروج، ففي الحديث: «فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه» . 3- خوفه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أ. خوفه على النبي صلّى الله عليه وسلّم من العدو، ورد بالحديث على لسان سراقة: «حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات» . ب. خوفه عليه صلّى الله عليه وسلّم من أشعة الشمس وحرها، وهو أدنى ما يمكن أن يصيب الرجل في السفر الطويل، ولكن هذا أيضا يأباه أبو بكر رضي الله عنه على الحبيب صلّى الله عليه وسلّم ففي الحديث: «حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه» . ج. خوفه رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم من هوام الأرض، وحرصه على حمايته منها، ولو أدى ذلك إلى عدم نومه، ففي الحديث على لسانه رضي الله عنه: «ثم قلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام وخرجت أنفض ما حوله» ، ولو أنه رضي الله عنه نام بعد أن اطمأن على نوم النبي صلّى الله عليه وسلّم لكانت فضيلة ظاهرة له، ولكنه لم ينم وآثر السهر، في سفر طويل ينتظره، مخافة أن يصيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدنى أذى وهو نائم، وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه قد أبى أن ينام أثناء نومة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان وظف نفسه لخدمة الحبيب وهو يقظان، ولا أظن أبدا أن الصديق ينام والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقظان، فمتى كان ينام رضي الله عنه. 4- عنايته رضي الله عنه بكل ما يخص النبي صلّى الله عليه وسلّم: أ- عنايته بفراشه صلّى الله عليه وسلّم، من حيث التسوية والظل والراحة أثناء النوم، قال رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 عنه: «فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم في ظلها ثم بسطت عليه فروة» . ب. عنايته رضي الله عنه بوضوء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشرابه قال رضي الله عنه: «ومعي أداة أرتوي فيها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليشرب منها ويتوضأ» . ج. عنايته رضي الله عنه بغذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، من حيث نظافته ومناسبته للشرب، أما نظافته: فقد قال رضي الله عنه للراعي في إحدى روايات البخاري: «ثم أمرته أن ينفض ضرعه من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه» «1» ، وأما مناسبته للشراب: فقد حرص رضي الله عنه أن يكون طعامه سائغا لذيذا، وليس مجرد طعام يتغذى به، لذلك عمل على تبريده قبل تقديمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا غاية الاجتهاد منه رضي الله عنه في إرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ورد في رواية للبخاري: «وقد جعلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله» . 5- فرحه ورضاه، بل وسعادته القلبية، بما يسعد النبي صلّى الله عليه وسلّم: ورد عند البخاري: «فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت» كيف كان هذا الحب، لا يشعر أبو بكر رضي الله عنه بالرضا. وهو شعور قلبي لا يشعر به الإنسان إلا إذا حدث ما يفرحه ويسعده ويذهب عنه ما يسوؤه ويحزنه. إلا إذا تيقن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد شرب حتى ارتوى. وذهب عنه ما يسوؤه من ظمأ وعطش. 6- شفقته رضي الله عنه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم: ومن مظاهر ذلك في الحديث كراهيته أن يوقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، فلا حرج بالنسبة إليه بعد أن أعد الغذاء أن يقف به، ينتظر أن يستيقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم من نفسه، وهذا أهون عليه أن يقطع على النبي صلّى الله عليه وسلّم نومته، وهو في حاجة إليها، أو أنه لم يأخذ كفايته منها. ففي رواية مسلم: «وكرهت أن أوقظه من نومه فوافقته استيقظ» . هذا طرف من حب وإجلال وتوقير النبي صلّى الله عليه وسلّم في قلب وعقل صديق هذه الأمة، وتدبر أخي القارئ أن هذا السلوك القويم، والنهج الجميل، لم يحدث من رجل من عموم المسلمين المغمورين، بل كان هذا السلوك من رجل حسيب نسيب شريف، غني في قومه، صاحب   (1) أخرجه البخاري، كتاب: اللقطة، باب: من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان، برقم (2439) من حديث أبي بكر رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 أموال وتجارة، وصاحب عقل وحكمة، يشهد له بذلك القريب والبعيد، بل شهد له عدوه من غير جلدته، وهو سيد القارة، فهل بعد هذا الحب من حب، وأقول: أين نحن من حب وتوقير وإجلال الصحب الكرام للنبي صلّى الله عليه وسلّم، صحيح أننا لن نصل إلى معشار ما وصلوا إليه، لكن علينا أن نجتهد ونعمل ونسدد ونقارب، فالله برحمته ومنته يقبل القليل ويباركه، ويعفو عن الكثير من التقصير، وأسأل أخي المسلم: لماذا فعل الصديق مع نبي الأمة كل هذا؟ والإجابة معروفة، لقد رأى من النبي صلّى الله عليه وسلّم كل خير، وعدم معه كل شر، مع قوة يقين الصديق رضي الله عنه وطمعه في رضى ربه. الفائدة الرابعة عشرة: حب الصحابة- رضي الله عنهم- للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ويتبين لنا في المواقف التالية: 1- خروجهم كل يوم إلى الحرة لاستقبال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يردهم إلى بيوتهم إلا حر الظهيرة، وهذا يدل على شوقهم الشديد لرؤيته صلّى الله عليه وسلّم، فما استطاعوا أن يصبروا في بيوتهم حتى يأتيهم خبر مقدمه الميمون صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: «وسمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة» «1» حدث هذا منهم رضي الله عنهم وهم لم يروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فكيف كان حالهم بعد أن رأوه. 2- فرحهم جدّا بمقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن فرحتهم صعدوا أسطح البيوت ومشوا في الطرقات يتغنون باسمه صلّى الله عليه وسلّم ابتهاجا وسرورا، فعند مسلم: «فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله» ، وفي إحدى روايات البخاري: «فقيل في المدينة: جاء نبي الله فأشرفوا ينتظرون ويقولون: جاء نبي الله جاء نبي الله» «2» . 3- احتفاؤهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وملازمتهم له، ورد في الحديث: «ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة» وفي رواية أخرى عند البخاري: «فركب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح» .   (1) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، برقم (3906) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، برقم (3911) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 4- إعلان الأنصار. رضي الله عنهم. من بداية مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم سيطيعونه ويحمونه، ليس هو فحسب، بل هو وصاحبه الصديق رضي الله عنه، ورد في إحدى روايات البخاري: «ثم بعث إلى الأنصار فجاؤا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين» . 5- حب كل منهم أن يتشرف بنزول النبي صلّى الله عليه وسلّم عنده، ورد عند مسلم على لسان الصديق رضي الله عنه: «فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . الفائدة الخامسة عشرة: بعض مناقب الصديق رضي الله عنه: 1- حكمته رضي الله عنه، وتظهر جلية في مداراته وتعمية أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم على المشركين، ورد في لفظ البخاري: «أقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة. أي في طريقه إلى المدينة. وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ونبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديناي السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير» . ويظهر من قول أبي بكر رضي الله عنه تجنبه الكذب، واستخدامه المعاريض، وحبّه الثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم والاعتراف بفضله وجميله. 2- صلته الوثيقة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتشرّفه بحضور النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته كل يوم، ورد بالحديث على لسان عائشة- رضي الله عنها-: «ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية» . 3- حسن عبادته لربه- تبارك وتعالى- ويتضح ذلك من: أ. بناؤه مسجدا بفناء داره، يصلي فيه ويقرأ القرآن ويسمع قراءته المشركين. ب. بكاؤه رضي الله عنه عند قراءة القرآن، ورد في الحديث: «وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن» ؛ أي: أن البكاء كان يغلبه. قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه» «1» ، وإعلانه رضي الله عنه بالقرآن يدل على شجاعته وبذل نفسه في سبيل الله- تبارك وتعالى-.   (1) انظر فتح البارى (7/ 234) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 4- بذل نفسه وماله في سبيل الله عز وجل، حيث أراد الخروج إلى الحبشة وما رده إلا سيد القارة، وبين رضي الله عنه أنه ما أراد الخروج إلا لعبادة ربه عز وجل، كما استأذن رضي الله عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم للخروج مرة أخرى ومنعه النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بذل المال تجهيزه رضي الله عنه راحلتين، والعناية بهما أربعة أشهر استعدادا للهجرة. 5- حسن توكله على الله عز وجل وثقته به، حيث قال لما رد جوار سيد القارة: «فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل» . 6- أخلاقه الحميدة رضي الله عنه، والتي شهد بها المشركون، حيث قال له سيد القارة: «فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» ، وهي نفس الأخلاق التي أثنت بها خديجة- رضي الله عنها- على النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث بدء الوحي. هذا هو صديق الأمة أبو بكر رضي الله عنه وما ذكر في حقه قليل من كثير، وإن كانت أعظم مناقبه وأعلاها رتبة وأشرفها درجة وأرفعها مكانة، هي حب النبي صلّى الله عليه وسلّم له ويظهر ذلك جليّا في اختياره رضي الله عنه ليكون الصاحب والرفيق للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الهجرة المباركة. وقد ذكرت مناقبه رضي الله عنه بشيء من التفصيل لترى الأمة كيف ربّى النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فمناقب الصديق شمائل للنبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة السادسة عشرة: مناقب بعض الصحابة- رضي الله عنهم- جميعا: 1- فضل أم المؤمنين عائشة وأسماء- رضي الله عنهما- منذ نعومة أظفارهما: حيث قامت عائشة- رضي الله عنها- بتجهيز متاع السفر وصناعة الطعام ووضعه في الجراب، وقامت أسماء. رضي الله عنها. بربط فم الجراب بعد شق نطاقها قطعتين، ويكفيهما شرفا وفخرا أن زاد ومتاع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رحلته إلى الله. سبحانه وتعالى. قد خرج من تحت أيديهما ومن بيتهما. 2- حب الصحابة. رضي الله عنهم. لفعل الخير والإنفاق في سبيل الله، ليس من الرجال والنساء، بل من الغلمان والأيتام الذين هم في أشد الحاجة إلى المال، ورد في الحديث: «ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الفائدة السابعة عشرة: دروس وعبر مستفادة من الهجرة المباركة: وقد ذكرت تلك الفوائد على حسب ورودها بالحديث ليسهل الرجوع إليها: 1- يجب أن يكون أمر الدين عند المسلم أعظم من سلامة بدنه وماله، وأهم من ملازمة الأهل والأحباب والأرض التي ولد فيها، فإذا خاف المسلم على دينه وعجز أن يقيم شعائره، أو خاف على نفسه الفتنة، فعليه أن يرحل ويبحث عن أرض أخرى، يأمن فيها على نفسه ودينه، ورد في الحديث: «فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة» «1» ، ولما سئل عن سبب هجرته قال: «أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي» . 2- يجب أن يحرص الناس على وجود أهل الخير والعلم والفضل بين أظهرهم، ويعلموا أن وجودهم بينهم فيه أسباب الخير والبركة، بل والنجاة من الفتن، فهذا سيد القارة، وهو على غير ملة الإسلام، يرفض خروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه من مكة، لا لشيء إلا لأنه من أهل الصلاح والتقوى، قال سيد القارة في الحديث: «فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» . ويتفرع عليه: أن يفرح أهل البلدة برحيل أهل الفسق والفجور من بين أظهرهم. 3- ما كان عليه بعض كفار العرب من الإنصاف وشهادة الحق وعدم الخيانة، فهذا سيد القارة قد أثنى على أبي بكر رضي الله عنه أحسن الثناء وأجمله، وهؤلاء أهل مكة أبوا أن ينقضوا العهد مع سيد القارة بأمان أبي بكر ورد في الحديث قولهم لسيد القارة: «فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك» ؛ أي: نغدر بك. ويتفرع عليه: أن المسلمين أولى بالوفاء والالتزام بالعهود من غيرهم، قال. تعالى.: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) [النحل: 91] . 4. علم الكفار بما للقرآن من أثر عجيب على قلوب وعقول سامعيه، مما جعلهم يخافون على أهليهم وذويهم من سماع القرآن، ومن سمع منهم بقلب وعقل مقبل أعجب به غاية   (1) سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 الإعجاب، ورد في الحديث «1» : «مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليقرأ ما شاء ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا» أما حال من سمع القرآن من أهل مكة فقد ورد في الحديث: «ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه» ، ومعنى «ينقذف» وما ورد في بعض الروايات «فيتقصف» فمعناه: يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر؛ كما ذكر الحافظ. رحمه الله «2» . 5. من شيم الرجل المؤمن الصالح أن يكون رقيق القلب، ومن علامة رقة القلب، البكاء من سماع القرآن أو تلاوته. ولا يتسنى للعبد ذلك إلا بجمع التدبر والخشوع والإخلاص. 6- وجوب الأخذ بالأسباب الموصلة شرعا أو قدرا إلى مراد الإنسان، وأن هذا لا يقدح في التوكل على الله، بل هو من علامات التوكل الصحيح، ومن لم يأخذ بالأسباب مدعيا التوكل على الله. تبارك وتعالى. فقد قدح في نبي هذه الأمة وصاحبه الصديق، ألم تر كيف أعد أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين والزاد والطعام والشراب للهجرة المباركة، ألم تر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف أخذ بكل أسباب السلامة في الهجرة، فاستأجر الدليل وأمن العيون وعمّى على المشركين، ولما عجز أن يرد من يطلبه دعا ربه أن يصرعه. وكان الله. تبارك وتعالى. قادرا على أن يكفيه مثل هذا العناء في الهجرة، فيرسل له الروح القدس بالبراق، ولكن أراد الله. سبحانه وتعالى. أن يعلم الأمة دروسا وعبرا. 7. من السنة أن ينفق الإنسان من ماله الخاص، خاصة في العبادات التي فيها إنفاق مال، كالحج والعمرة والجهاد والهجرة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وألا يكون عالة على غيره، علمناه من إصرار النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع لأبي بكر رضي الله عنه ثمن الراحلة. 8. ومن السنة أيضا وجوب إكرام أهل العلم والفضل وإيثارهم على النفس، وأن هذا شائع بين الناس؛ لأن الأنصار. رضي الله عنهم. ما عرفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظلل عليه أبو بكر بردائه يحميه من أشعة الشمس. 9. عظيم أمر المسجد في الإسلام، حيث كان أول عمل قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة. 10. مشروعية الإنشاد أثناء العمل، وفائدته أنه يقوي الهمم ويشحذ العزائم، ويسن   (1) سبق تخريجه. (2) انظر فتح البارى (7/ 234) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 أن يكون فيه ذكر الله. تعالى. والترغيب في ثواب الآخرة، ويحرم فيه الفحش من القول وما ينافي خوارم المروءة. 11. اهتمام الشرع الحنيف بالنظافة، سواء النظافة الشخصية أو نظافة المهمات والمعدات، وأن هذا الخلق من الإسلام، وقد مر بنا كيف اهتم أبو بكر رضي الله عنه بنظافة الراعي الشخصية ونظافة ضرع الحلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 يوم الفتح العظيم هو يوم مشهود من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ نصره الله فيه نصرا مؤزرا عزيزا، كانت بدايته صلح الحديبية، والذي سماه الله فتحا مبينا، كان يوما مشهودا في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ رجع إلى مكة التي خرج منها قبل ثمان سنوات، متخفيا غير مستعلن، واليوم يدخلها مستعلنا مستعليا بفضل الله وقوته، ومعه عشرة آلاف مقاتل، يوم مشهود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث دخل البيت الحرام يكسر فيه الأصنام، ويعلن فيه علوّ الحق وأهله، واضمحلال الشرك وحزبه، هو يوم مشهود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ رأى ثمرة جهاده وكفاحه. في سبيل الله. أكثر من عشرين عاما، رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا وفرادى. فأقر الله له عينه وأتم عليه نعمته صلّى الله عليه وسلّم. مجمل الأحداث في هذا الفتح المبارك: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، في عشرة آلاف مقاتل، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من العام الثامن للهجرة الميمونة، وكان صلّى الله عليه وسلّم صائما عدة أيام، حتى إذ بلغ مكانا يسمى الكديد، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، بلغه أن أصحابه قد أعياهم الصيام، فأفطر صلّى الله عليه وسلّم وذم من لم يقبل الرخصة واستمر صائما، ولما بلغ قريشا خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم قاصدا مكة، خرج له أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر، فلما اقتربوا من جيش المسلمين رأوا نارا عظيمة، أشبه ما تكون بالنيران التي يوقدها الحجاج يوم عرفة، ورآهم حرس النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتوا بهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم أبو سفيان، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بحبسه حتى يرى جحافل الجيش فيثبت إيمانه، فمر الجيش من أمامه كتيبة كتيبة، فإذا سعد بن عبادة يمر من أمامه ومعه الراية على رأس كتيبة عظيمة، فقال لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة تستحل فيه الكعبة، فاشتكى أبو سفيان هذه المقولة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فرد عليه بمقولته الخالدة: كذب سعد ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة، وقد قسم النبي صلّى الله عليه وسلّم الجيش أقساما، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي، واستدعى صلّى الله عليه وسلّم الأنصار فأمرهم أن يقتلوا أوباش مكة، الذين يحملون عليه السلاح، ودخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة من أعلاها لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأمر بعدة أوامر، منها إهدار دماء بعض مشركي مكة ممن أمعنوا في إيذائه صلّى الله عليه وسلّم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ومنهم ابن خطل وكان وقتها متعلقا بأستار الكعبة، كما أمر صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن طلحة رضي الله عنه أن يأتي بمفتاح الكعبة، فدخلها وصلّى فيها، ومكث فيها نهارا طويلا، كما نادى صلّى الله عليه وسلّم في الناس بمقولته المشهورة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن» ، وما إن سمعت الأنصار هذه المقولة حتى خافت أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم حنّ لعشيرته وأنه قد يتركهم يعودون إلى المدينة وحدهم، فطمنهم بل وبشرهم بما أسعدهم، كما أجار صلّى الله عليه وسلّم من أجارت أم هانئ، وحطم صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم ثلاثمائة وستين صنما كانت حول الكعبة تعبد من دون الله عز وجل، وهو يردد قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، ثم خطب في اليوم الثاني من الفتح خطبة أعلم فيها الناس أن مكة قد عادت حراما، وأن الله. سبحانه وتعالى. لم يحلّها لأحد من قبله ولا من بعده. عن أبي هريرة قال: وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان فكان يصنع بعضنا لبعض الطّعام، فكان أبو هريرة ممّا يكثر أن يدعونا إلى رحله فقلت: ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي؟ فأمرت بطعام يصنع، ثمّ لقيت أبا هريرة من العشيّ، فقلت: الدّعوة عندي اللّيلة، فقال: سبقتني؟ قلت: نعم، فدعوتهم، فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار، ثمّ ذكر فتح مكّة فقال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى قدم مكّة فبعث الزّبير على إحدى المجنّبتين، وبعث خالدا على المجنّبة الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسّر، فأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتيبة، قال: فنظر فرآني فقال: «أبو هريرة؟» . قلت: لبّيك يا رسول الله، فقال: لا يأتيني إلّا أنصاريّ- زاد غير شيبان- فقال: اهتف لي بالأنصار، قال: فأطافوا به ووبّشت قريش أوباشا لها وأتباعا، فقالوا: نقدّم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنّا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الّذي سئلنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم» ثمّ قال بيديه، إحداهما على الآخرى، ثمّ قال: «حتّى توافوني بالصّفا» ، قال: فانطلقنا فما شاء أحد منّا أن يقتل أحدا إلّا قلته وما أحد منهم يوجّه إلينا شيئا، قال: فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثمّ قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أمّا الرّجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى ينقضي الوحي، فلمّا انقضى الوحي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الأنصار» قالوا: لبّيك يا رسول الله، قال: «قلتم: أمّا الرّجل فأدركته رغبة في قريته؟» قالوا: قد كان ذاك، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 «كلّا، إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم» . فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الّذي قلنا إلّا الضّنّ بالله وبرسوله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم» . قال: فأقبل النّاس إلى دار أبي سفيان وأغلق النّاس أبوابهم. قال: وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أقبل إلى الحجر فاستلمه ثمّ طاف بالبيت، قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوس- وهو آخذ بسية القوس- فلمّا أتى على الصّنم جعل يطعنه في عينه ويقول: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ» ، فلمّا فرغ من طوافه أتى الصّفا فعلا عليه حتّى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو «1» . بعض فوائد الفتح المبارك: الفائدة الأولى: في النبي صلّى الله عليه وسلّم: 1- بيان واحدة منّ أعظم ما من الله به على نبيه صلّى الله عليه وسلّم من فضائل، وهي أنه. تبارك وتعالى. أحل له مكة ساعة من النهار، ورد عند الشيخين: عن أبي هريرة يقول: إنّ خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكّة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب راحلته فخطب فقال: «إنّ الله عز وجل حبس عن مكّة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنّها لم تحلّ لأحد قبلي ولن تحلّ لأحد بعدي ألا وإنّها أحلّت لي ساعة من النّهار ألا وإنّها ساعتي هذه» «2» . وقد مر شرح الحديث مبسوطا في فصل: «أحلت له مكة» . 2- حسن تنظيمه صلّى الله عليه وسلّم للعسكر وإدارته للمعركة، إذ كان من عادته صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم الجيش إلى أقسام، ورد في الحديث: «فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي» قيل: البياذقة هم الرّجّالة وسموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم. ومن حسن تنظيمه صلّى الله عليه وسلّم للمعركة تحديد المسئوليات، إذ وكل مهمة قتل أوباش قريش إلى الأنصار، ورد في الحديث: فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» ، فدعوتهم فجاؤا يهرولون فقال: «يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش» ؟ قالوا: نعم، قال: «انظروا، إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا» «3» .   (1) رواه مسلم، كتاب: الجهاد، باب: فتح مكه، برقم (1780) . (2) رواه البخاري، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، برقم (6880) . (3) رواه مسلم، كتاب: الجهاد، باب: فتح مكه، برقم (1780) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 3. وفاؤه صلّى الله عليه وسلّم للأنصار الذين بايعوه على نصرته والدفاع عنه، فقد ظنوا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حنّ لأهله وعشيرته، وقد يفضل المكث في مكة على الرجوع معهم إلى المدينة فأعلمه الوحي بذلك فأخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بما دار بينهم ولم يحضره، وبيّن لهم أنه بمقتضى اسمه، محمد، وبمقتضى صفته وهو عبد الله ورسوله، لا يمكن أن يتخلى عنهم بعد أن قدموا له معروفا جميلا وأسدوا إليه صنيعا عظيما، وأبلغهم أنهم أولى الناس به في حياته ومماته، ورد في الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: قال: «قلتم: أمّا الرّجل فأدركته رغبة في قريته» ؟ قالوا: قد كان ذاك، قال: «كلّا، إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم» . فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الّذي قلنا إلّا الضّنّ بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم» «1» . وفي هذه الواقعة بعض اللّفتات الجميلة؛ وهي: أ- الاشتياق إلى الأهل وإلى العشيرة التي نشأ الإنسان فيها ليس فيه محظور شرعي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أنكر على الأنصار مقولتهم إلا من حيث إنه لا ينبغي في حقه صلّى الله عليه وسلّم أن يتخلى عنهم بعد أن نصروه وآووه. ب- تأييد الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بالوحي في كل أموره، فهذا جبريل نزل بالوحي يعلمه بمقولة الأنصار، ولنا أن نتخيل ما كان عليه الصحابة من مطلق الإيمان بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ يخبرهم في الحال بما قالوه سرّا ولم يطلع هو عليه. لا شك أنه إيمان لا يساوره أدنى شك. ج- كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم الحظ الأوفر من اسمه إذ سماه الله محمدا، ويؤخذ من الحديث أنه ما ينبغي له صلّى الله عليه وسلّم أن يقول أي مقولة أو يفعل أي فعلة تناقض اسمه، وعلى كل مسلم الآن أن يراعي اسمه وما تضمنه من صفات ومحامد يجب أن يحرص عليها، ويكون من عدم المروءة أن يأتي بنقيضها. قال الإمام النووى- رحمه الله- شرحا لمقولة النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو فعلت هذا الذي خفتم منه وفارقتكم ورجعت إلى استيطان مكة لكنت ناقضا لعهدكم في ملازمتكم، ولكان هذا غير مطابق لما اشتقّ منه اسمي وهو الحمد، فإني كنت أوصف حينئذ بغير الحمد» «2» .   (1) انظر الحديث السابق. (2) شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 131) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وانظر أخي القارئ كيف حمل صلّى الله عليه وسلّم الجميل للأنصار وأقرّ به في يوم عظيم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هاجرت إلى الله وإليكم» . د- إعلامه صلّى الله عليه وسلّم الأنصار بشيء من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولا يقدر على الوفاء بها إلا هو جل في علاه، ألا وهي أنه صلّى الله عليه وسلّم سيموت في المدينة ويدفن فيها، وقد يكون هذا مما أوحاه الله له في هذه الواقعة، وقد تكون أيضا مكافأة منه عز وجل للأنصار على ما قدموه لدين الله حتى تم الفتح والنصر، ورد في الحديث: «فالمحيا محياكم والممات مماتكم» . كما أن فيه أمر غيبي آخر، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم سيبقى في المدينة بقية حياته المباركة، ولن يكون له مقام آخر في أي بلد من البلدان. قال الإمام النووي- رحمه الله- في شرح كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله. تعالى.، بل أنا ملازم لكم، فلا أحيا إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم، وهذا أيضا من المعجزات» «1» . هـ- تأدب الأنصار. رضي الله عنهم. في حديثهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ قدموا له العذر على مقولتهم، حيث قالوا: «والله ما قلنا إلا ضنّا بالله ورسوله» والضن هو البخل بالشيء والحرص عليه، ولا يخفى ما في هذه المقولة من شدة حبهم لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. قال الإمام النووي. رحمه الله. شرحا لمقولة الأنصار: «والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصا عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك ونتبرك بك وتهدينا الصراط المستقيم» «2» . و. جميل خلقه صلّى الله عليه وسلّم، ومنه قبوله للعذر، إذ رضي من الأنصار عذرهم وأحسن الظن بهم فصدقهم، وكأنه صلّى الله عليه وسلّم قد شعر بالمصيبة التي ظنوا أنها واقعة بهم إذ لم يرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم إلى المدينة، ورد بالحديث على لسانه صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم» . 4. رحمته صلّى الله عليه وسلّم العامة بالناس، وحرصه على هدايتهم يتبين ذلك من: . تكذيبه لمقولة سعد بن عبادة عندما قال: «يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة» ؛ أي: المقتلة العظيمة، وردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة» ، وهذا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن متعطشا للدماء، بل كان   (1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 129) . (2) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (3/ 178) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 حريصا على حقنها ما أمكنه. . تأمينه صلّى الله عليه وسلّم لطوائف كثيرة من الناس، حيث قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» ، وهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان ينتقم لنفسه، أو يحمل الضغينة والحقد لأحد، وإلا لأثخن في قريش القتل جزاء على ما فعلوه به وبمن آمن به قبل الهجرة وشروطهم المجحفة في صلح الحديبية. 5. شفقته صلّى الله عليه وسلّم بأمته، وإرادته التوسعة عليها والتخفيف عنها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويظهر ذلك جليّا في: أ. إفطاره صلّى الله عليه وسلّم بعد أن بلغ الكديد بالرغم من اقتراب وقت المغرب، لعلمه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وأنهم ما كانوا ليفطروا حتى ينظروا ماذا يفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورد عند مسلم: «فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر» كما تدل الواقعة على حسن تصرفه صلّى الله عليه وسلّم إذ بدأ بنفسه فأفطر. ب. صلاته صلّى الله عليه وسلّم كل الصلوات المفروضة يوم الفتح بوضوء واحد، على غير عادته صلّى الله عليه وسلّم، روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى الصّلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيّه فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه قال: «عمدا صنعته يا عمر» . قال الإمام النووي- رحمه الله-: فيه تصريح بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يواظب على الوضوء لكل صلاة عملا بالأفضل، وصلى الصلوات في هذا اليوم بوضوء واحد بيانا للجواز كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «عمدا صنعته يا عمر» ، وهذا من كمال شفقته بالأمة صلّى الله عليه وسلّم. تنبيه: الحديث لا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوضأ لكل صلاة، ولكن يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم ما كان يصلي الفروض كلها في يوم واحد بوضوء واحد، فمفهوم الحديث لا يمنع أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي أكثر من صلاة بوضوء واحد، وهذا تعقيب على ما ذكره واستنبطه الإمام النووي. رحمه الله. 6. حسن تعبده صلّى الله عليه وسلّم لله عز وجل، وتواضعه لله. سبحانه وتعالى.، حيث باشر بنفسه ما كان يمكن أن يأمر غيره بمعالجته وفعله، ابتغاء مرضات الله وطلبا لثوابه واجتهادا في مرضاته، فهو الذي قام بتكسير ما حول البيت من أصنام كانت تعبد من دون الله في أطهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 أماكن الأرض وأقدسها، روى الشيخان في صحيحهما: عن عبد الله رضي الله عنه قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكّة يوم الفتح وحول البيت ستّون وثلاث مائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحقّ وزهق الباطل جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد» . قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: وفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئا «1» . 7. حسن إكرامه صلّى الله عليه وسلّم لأهل الفضل والخير لا فرق عنده في ذلك بين الرجال والنساء؛ روى الشيخان: عن أمّ هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره فسلّمت عليه، فقال: «من هذه» فقلت: أنا أمّ هانئ بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأمّ هانئ» فلمّا فرغ من غسله قام فصلّى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمّي عليّ أنّه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئ» ، قالت أمّ هانئ: وذلك ضحى. الفائدة الثانية: في مناقب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: 1. شدة حب الأنصار. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن علامات ذلك الحب، غير ما ذكرته آنفا، أنهم بكوا لما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المحيا محياكم والممات مماتكم» . قال الإمام النووي. رحمه الله.: «وكان بكاؤهم فرحا بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يستحي منه» . 2. جميل استجابة الأنصار. رضي الله عنهم. لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر أبا هريرة أن يدعو الأنصار ليعهد إليهم بقتل أوباش قريش، جاؤا إليه يهرولون، ورد في الحديث من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعوتهم فجاؤا يهرولون. كما أنهم من تمام طاعتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم ما رأوا أحدا من أوباش مكة إلا أناموه. قال الإمام النووي: (ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه فوقع على الأرض أو يكون بمعنى أسكتوه بالقتل كالنائم) «2» . 3. حرص الصحابة. رضي الله عنهم. على تتبع أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعجيب أن يكون   (1) انظر فتح البارى (8/ 17) . (2) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 مثل هذا الحرص على التتبع في يوم عظيم كيوم الفتح، قد ينشغل فيه الناس بأمور كثيرة غيرها، ولكن الصحابة. رضي الله عنهم. ما كان عندهم أمر أعظم من تتبع السنة، ومن مظاهر ذلك: أ. سؤال عبد الله بن عمر رضي الله عنه بلالا هل صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم داخل الكعبة وأين صلى؟ وكان يحتاج إلى أن يعرف كم صلى، ولكن نسي أن يسأل، روى الشيخان في صحيحهما: «عن ابن عمر. رضي الله عنهما. قال: أقبل النّبيّ الصلاة عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتّى أناخ عند البيت ثمّ قال لعثمان: «ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح» ففتح له الباب، فدخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأسامة وبلال وعثمان، ثمّ أغلقوا عليهم الباب فمكث نهارا طويلا ثمّ خرج وابتدر النّاس الدّخول فسبقتهم فوجدت بلالا قائما من وراء الباب، فقلت له: أين صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: صلّى بين ذينك العمودين المقدّمين، وكان البيت على ستّة أعمدة سطرين، صلّى بين العمودين من السّطر المقدّم، وجعل باب البيت خلف ظهره واستقبل بوجه الّذي يستقبلك حين تلج البيت بينه وبين الجدار قال: ونسيت أن أسأله كم صلّى؟ وعند المكان الّذي صلّى فيه مرمرة حمراء» «1» . ب. معرفة عبد الله بن عمر. رضي الله عنهما. أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى كل الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، يلزم من ذلك أنه رضي الله عنه قد علم أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم كل الأيام السالفة وحاله ذلك اليوم، وهذا يحتاج إلى مراقبة النبي صلّى الله عليه وسلّم طوال يوم الفتح ليعلم هل توضأ أم لا. ولا شك أن هذا التتبع والحرص على العلم واقتفاء أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى في مكان صلاته لهي منقبة عظيمة لعبد الله بن عمر. رضي الله عنهما.. 4. فضل الصحابة الذين حضروا الفتح، حيث إن الله. تبارك وتعالى. ميزهم عمن سواهم، قال. تعالى.: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) [الحديد: 10] .   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: حجة الوداع، برقم (4400) ، ومسلم، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للخاج وغيره (1329) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ودليله أيضا ما رواه الشيخان عن ابن عبّاس. رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا» «1» . قال الإمام النووي. رحمه الله.: «وفي تأويل هذا الحديث قولان: أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب، وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنها تبقى دار الإسلام لا يتصور منها الهجرة. والثاني: معناه: لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح» «2» . وقال- رحمه الله- في موضع آخر: «الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة لأن الإسلام قوي وعزّ بعد فتح مكة عزا ظاهرا بخلاف ما قبله» «3» . الفائدة الثالثة: وهي فوائد متفرقة: 1. جواز أن يفطر الصائم أثناء سفره بعد أن قضى جزآ من نهاره صائما، شريطة أن يكون قد دخل في الصيام وهو مسافر، ولكن هل له أن ينوي الصيام وهو مقيم فإذا سافر من نهاره أفطر؟ قال صاحب الفتح: «أما لو نوى الصيام من الليل وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بالجواز» «4» . 2. هل يجوز دخول مكة بغير إحرام استنادا لما رواه البخاري عن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «دخل مكّة عام الفتح وعلى رأسه مغفر فلمّا نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلّق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه» «5» . قال الإمام النووي- رحمه الله-: «مذهب الشافعي وأصحابه وآخرين أنه يجوز دخولها حلالا للمحارب بلا خلاف، وكذا لمن يخاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره، وأما من لا   (1) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد، برقم (2783) ، ومسلم، كتاب: الإمارة، باب: تحريم مكة وصيدها ... ، برقم (1353) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 123) . (3) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 8) . (4) انظر فتح البارى (4/ 181) . (5) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: قتل الأسير وقتل الصبر، برقم (3044) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 عذر له أصلا فللشافعي. رحمه الله. فيه قولان مشهوران: أصحهما: أنه يجوز له دخولها بغير إحرام ولكن يستحب له الإحرام، والثاني: لا يجوز» «1» . 3. مشروعية المسح على الخف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعله في عام الفتح، وهو متأخر عن نزول آيات الوضوء في سورة المائدة، فعلمنا أن المسح كان آخر أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا عبرة بالمخالف. 4. تحريم زواج المتعة، لما رواه مسلم «2» : عن الرّبيع بن سبرة عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم الفتح عن متعة النّساء. 5. ليس مدار الأمر على كثرة العبادة والتعمق فيها، ولكن مدار الأمر على اتباع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد علّمنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الأخذ بالرخصة في وقتها هو السنة، والأخذ بالعزيمة وقت الحاجة إلى الرخصة ليس من الدين في شيء، ودليله ما رواه مسلم: عن جابر بن عبد الله. رضي الله عنهما. أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان فصام حتّى بلغ كراع الغميم، فصام النّاس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر النّاس إليه، ثمّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إنّ بعض النّاس قد صام فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» .   (1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 129) . (2) رواه مسلم، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة، برقم (1406) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 يوم الوفاة النبوية هو يوم مشهود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل في حياة البشرية، تباينت فيه الأتراح والأفراح تباينا عظيما، لم يعرف لها مثيل من قبل، حزن فيه أهل الأرض- من المسلمين- حزنا شديدا كاد يذهب عقولهم ويقطع نياط قلوبهم، وفرح فيه أهل السماء فرحا شديدا، حزن فيه أهل الأرض لحرمانهم من رؤية وجه أحب وأعز الخلق إليهم، الذي طالما افتدوه بالمال والأهل والنفس، وآثروه على كل غال ونفيس، فهاهم قد حرموا الذي علمهم وهداهم ونصحهم ودلهم على كل خير ونهاهم عن كل شر، حزن أهل الأرض لانقطاع الأمن والأمان الذي كانوا يشعرون به والحبيب صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، إذا قالوا خطأ صوّبهم، وإذا رأى منهم اعوجاجا قوّمهم، وإذا وقعوا في المخالفات ذهبوا إليه فاستغفروا الله واستغفر لهم صلّى الله عليه وسلّم، فغفر الله لهم وتاب عليهم، حزن أهل الأرض لأن بموته صلّى الله عليه وسلّم انقطع وحي السماء، فلا وحي بعده أبدا، ولن ينزل جبريل بالكتاب والحكمة، فأي مصيبة أعظم من ذلك. وعلى النقيض، فرح أهل السماء فرحا شديدا؛ لأن الروح الزكية العطرة الكريمة صعدت في ذلك اليوم إلى بارئها وخالقها، روح الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، اليوم سيشم أهل السماء رائحة النفس المباركة، التي ما عصت الله مرة واحدة، وما غفلت عن ذكره طرفة عين ولا أقل من ذلك، نفس بذلت كامل وسعها لله جل في علاه، فإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد بن معاذ استبشارا وسرورا بقدوم روحه، فكيف سيكون الحال بقدوم روح من علّم سعدا ورباه، هو يوم عظيم ليس في حياة أهل الأرض والسماء فحسب، بل في حياة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، يوم عظيم له لأن الخليل سيلقى فيه خليله، فيسعد برؤياه ويأنس بلقياه ويفرح بعطاياه، يوم مشهود في حياته صلّى الله عليه وسلّم حيث تتوالى عليه المنح بغير محن. فإذا كانت المنح في الدنيا قد أهديت إليه ببعض الألم والحزن وشدة المرض، فاليوم ستكون العطايا خالصة صافية لا يشوبها شائبة، يوم مشهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لا كرب عليه بعده أبدا جزاء على جميل صنيعه وعظيم معروفه المبذول لوجه ربه الكريم الحنان المنان، قال تعالى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) [الضحى: 4] . وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين عن الوفاة النبوية، سأقتصر هنا على ذكر حديث واحد، وأورد ما استطعت من ألفاظ الروايات الآخرى في سياق ذكر الفوائد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 عن أنس بن مالك أنّ أبا بكر كان يصلّي لهم في وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي توفّي فيه، حتّى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأنّ وجهه ورقة مصحف، ثمّ تبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا قال: فبهتانا ونحن في الصّلاة من فرح بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصّفّ، وظنّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خارج للصّلاة فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده: أن أتمّوا صلاتكم، قال: ثمّ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرخى السّتر قال: فتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه «1» . بعض فوائد الوفاة النبوية أولا: في الشمائل النبوية: الفائدة الأولى: إرادة الله عز وجل الخير بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث ضاعف عليه شدة الألم، سواء في المرض أو في سكرات الموت، ليضاعف له الأجر يوم القيامة، ورد في الحديث الذي رواه ابن عباس. رضي الله عنهما.: «لما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه» «2» ، وعن عائشة. رضي الله عنهما.: «ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «3» . أما الدليل على أن ذلك الوجع ما كان إلا لتثقيل الموازين ورفع الدرجات، فقد روى الشيخان «4» عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنّك لتوعك وعكا شديدا!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل إنّي أوعك كما يوعك رجلان منكم» . قال: فقلت ذلك أنّ لك أجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أجل.   (1) أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم (419) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة، برقم (436) ، ومسلم، كتاب: المساجد، باب: النهى عن بناء المساجد على القبور، برقم (531) . (3) أخرجه البخاري، كتاب: المرضى، باب: شدة المرض، برقم (5646) ، ومسلم، كتاب: البر، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، برقم (2570) . (4) أخرجه البخاري، كتاب: المرضى، باب: وضع اليد على المريض، برقم (5660) ، ومسلم، كتاب: البر، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه برقم (2571) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشّجرة ورقها» . ومن أوجه إرادة الله عز وجل الخير لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن أعطاه منزلة الشهداء، وهي منزلة وإن كانت عظيمة إلا أنها. قطعا. أقل من منزلة الأنبياء، لكن الله عز وجل أراد أن يجمع له كل المنازل والدرجات، روى البخاري: «قالت عائشة. رضي الله عنها.: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الّذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطّعام الّذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السّمّ» «1» . وفي ذلك إشارة إلى خبر اليهودية التي وضعت السم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد ذكرها في الحديث الذي أخرجه البخاري: عن أنس أنّ امرأة يهوديّة أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلّطك على ذاك. قال: أو قال: عليّ. قال قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» . الفائدة الثانية: حفظ الله عز وجل لنبيه وجهه الجميل حتى آخر يوم في حياته، رغم شدة المرض الذي ألمّ به صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: «فكشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف» . قال الإمام النووي. رحمه الله.: «عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته» «3» . وأقول: إن عدم تغير وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل موته، هو أيضا من أفضاله. تبارك وتعالى. على الصحابة. رضي الله عنهم.؛ لأنه من المؤكد أنه كان سيحزنهم ويسوءهم أن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم الجميل قد تغير، كما أراد الله عز وجل أن يكون آخر عهد الصحابة بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم هذا الوجه الجميل لتبقى هذه الصورة محفوظة في أذهانهم ماثلة أمام أعينهم، ولم تزل هذه الصورة   (1) رواه البخاري معلقا، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته برقم (4165) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: الهبة، باب: قبوله الهدية من المشركين، برقم (2617) ، ومسلم واللفظ له، كتاب: السلام، باب: السم برقم (2190) . (3) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (4/ 142) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 الجميلة لوجهه صلّى الله عليه وسلّم حتى بعد وفاته، ورد عند البخاري من حديث عائشة. رضي الله عنها.: «فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبّله قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيّا وميتا» «1» . الفائدة الثالثة: تواصل حبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه مع شدة مرضه صلّى الله عليه وسلّم، حيث تبسم ضاحكا لما رآهم مجتمعين على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ورد في الحديث: «كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك» «2» . قال الإمام النووي: - رحمه الله-: «سبب تبسمه صلّى الله عليه وسلّم فرحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة واتباعهم لإمامهم وإقامتهم شريعتهم واتفاق كلمتهم واجتماع قلوبهم، ولهذا استنار وجهه صلّى الله عليه وسلّم على عادته إذا رأى أو سمع ما يسرّه» «3» . ومن دلائل حبه صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، حرصه على الخروج إليهم للصلاة بهم، وكثرة نصحهم ووعظهم حتى آخر يوم في حياته صلّى الله عليه وسلّم، كما سيأتي مفصلا. الفائدة الرابعة: اجتهاده صلّى الله عليه وسلّم في ضمان هداية الأمة، حتى بعد موته، حيث طلب صلّى الله عليه وسلّم كتابا ليكتب لهم ما إن تمسكوا به فلن يضلوا بعده، ورد في الحديث: «لما اشتد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده «4» . الفائدة الخامسة: كمال الأدب الذي ينبغي التحلي به في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال لهم لما اختلفوا في إحضار الكتاب: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» . الفائدة السادسة: عظيم صبره صلّى الله عليه وسلّم على شدة الألم الذي لاقاه عند الموت، فما زاد صلّى الله عليه وسلّم عن قوله: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» وهذا من باب الصبر على أقدار الله المؤلمة، ليجمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم   (1) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كنت متخذا خليلا، برقم (3670) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4448) . (3) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (4/ 142) . (4) أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: كتاب العلم، برقم (114) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 جميع أنواع الصبر، فلا يحرم من قوله- تعالى-: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] . الفائدة السابعة: حبه صلّى الله عليه وسلّم للقاء ربه وحسن ظنه به عز وجل، ورد في حديث عائشة. رضي الله عنها.: «وجعل يقول: في الرفيق الأعلى» أما حسن ظنه بربه عز وجل، فقد ورد في الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة. رضي الله عنها.: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» «1» . وروى الشيخان عن عائشة قالت: كنت أسمع أنّه لا يموت نبيّ حتّى يخيّر بين الدّنيا والآخرة، فسمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الّذي مات فيه وأخذته بحّة يقول: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... الآية؛ فظننت أنّه خيّر» «2» . ويتفرع عليه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لن يصيبه أدنى فزع أو مكروه، بعد وفاته، سواء في قبره صلّى الله عليه وسلّم أو عند النفخ في الصور، أو عند الحساب وتطاير الصحف. لقوله: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» الفائدة الثامنة: تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في نفوس أهل بيته. رضي الله عنهم. حيث قالت فاطمة. رضي الله عنها.: «يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب» «3» . فكأنها. رضي الله عنها. تريد أن تقول له: كيف استطعتم أن تعاملوا النبي صلّى الله عليه وسلّم كما تعاملون غيره من البشر بإهالة التراب عليه؟! أو: كيف طاوعتكم أنفسكم أن تسلكوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلكا يخالف ظاهره الأدب؟! وقد تكون استعظمت قيام الصحابة بإحثاء التراب؛ لأنه كالإعلان منهم أن هذا هو آخر العهد. في الدنيا. بالحبيب والخليل صلّى الله عليه وسلّم. قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «أشارت. عليها السّلام. بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته عنهم من رقة قلوبهم عليه لشدة محبتهم، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا أنا قهرناها على فعله امتثالا لأمره» «4» .   (1) أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (4462) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4435) . (3) سبق تخريجه. (4) انظر فتح الباري (8/ 149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 الفائدة التاسعة: عظيم حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة. رضي الله عنها.، حيث استأذن نساءه أن يمرّض في بيتها. ورد في الحديث: لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي» «1» بل وصل حبه صلّى الله عليه وسلّم لعائشة. رضي الله عنها. أنه كان يريد أن تجري الأيام سريعة ليأتي يوم عائشة، ويشغله السؤال عن يومها في شدة مرضه، ورد في الحديث عن عائشة: (إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتعذر في مرضه «أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟» استبطاء ليوم عائشة) «2» ، وفي رواية أخرى: «أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة» «3» . أقول: إذا كان هذا هو آخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بأهل بيته ونسائه، فإننا نقطع أنه صلّى الله عليه وسلّم قد مات وهو يحب أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها. أكثر مما سواها من النساء، كما نقطع أنه صلّى الله عليه وسلّم قد مات وهو في أشد الرضى عنها، فنحن نحب عائشة. رضي الله عنها. ونفضلها على سائر أمهات المؤمنين تأسيا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة العاشرة: حسن معاشرته صلّى الله عليه وسلّم لأمهات المؤمنين. رضي الله عنهن جميعا. فقد حرص صلّى الله عليه وسلّم على تطييب خاطرهن ليس في أيام الانبساط والصحة، بل أيضا في أيام الشدة والمرض، فلم يغافل صلّى الله عليه وسلّم مع شدة مرضه. أن يستأذنهن في أن يمرّض عند عائشة. رضي الله عنها.، ولم يقل إن الله عز وجل قد رفع عني القسمة بين النساء. ورد في الصحيحين: عن عائشة. رضي الله عنها. زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتدّ وجعه استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي فأذنّ له فخرج بين رجلين تخطّ رجلاه في الأرض بين عبّاس وآخر، فأخبرت ابن عبّاس قال: هل تدري من الرّجل الآخر الّذي لم تسمّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو عليّ» «4» . الفائدة الحادية عشرة: همته العالية صلّى الله عليه وسلّم في العبادة، والتي منها حرصه على صلاة الجماعة، مع شدة ألمه   (1) رواه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء، برقم (198) . (2) رواه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم برقم (1389) . (3) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته برقم (4450) . (4) رواه البخاري، كتاب: الطب، باب: اللدود برقم (5714) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وتوجعه صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث عند البخاري قول عائشة. رضي الله عنها.: (ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: «أصلّى الناس؟» قلت: لا، هم ينتظرونك. قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» . قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء. أي ينهض بتكلف. فأغمي عليه، ثم أفاق فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أصلّى الناس؟» وتكرر ذلك ثلاث مرات، وذلك من شدة حرصه صلّى الله عليه وسلّم على صلاة الجماعة. بل إنه صلّى الله عليه وسلّم في أول مرض الموت خرج إلى الصلاة يترنح من شدة وجعه بين رجلين حتى أجلس إلى جوار أبي بكر وهو يصلي بالناس. ورد في البخاري: «ثمّ إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خفّة فخرج بين رجلين، أحدهما العبّاس لصلاة الظّهر، وأبو بكر يصلّي بالنّاس، فلمّا رآه أبو بكر ذهب ليتأخّر فأومأ إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يتأخّر قال: أجلساني إلى جنبه. فأجلساه إلى جنب أبي بكر» «1» . ويؤخذ من الحديث أيضا حب الصحابة. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحرصهم البالغ على رؤيته والصلاة خلفه؛ لأن ظاهر الحديث يدل على أنهم انتظروه طويلا صلّى الله عليه وسلّم. الفائدة الثانية عشرة: حب الصحابة. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبكاؤهم على فراقه وتجدد حزنهم على تذكّر أيامه، روى البخاري في صحيحه: «عن سعيد بن جبير سمع ابن عبّاس. رضي الله عنهما. يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثمّ بكى حتّى بلّ دمعه الحصى قلت: يا ابن عبّاس ما يوم الخميس؟ قال: اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» «2» . قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «وبكاء ابن عباس يحتمل لكونه تذكر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتجدد له الحزن عليه، ويحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كتب ذلك الكتاب» «3» . وانظر إلى قول عائشة. رضي الله عنها.: «فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلّم» «4» .   (1) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، برقم (687) . (2) رواه البخاري، كتاب: الجزية، باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، برقم (3168) ، ومسلم، كتاب: الوصية، باب: الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه، برقم (1637) . (3) انظر فتح البارى (8/ 132) . (4) رواه البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4446) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 ومما يدل على حبهم الشديد. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم عدم تصديق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخبر الوفاة، وهو القوي الشديد، فقد ورد في حديث أخرجه البخاري عن عائشة. رضي الله عنها.: «فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك وليبعثنه الله» فلم يصدق رضي الله عنه أنه لن يرى الحبيب بعد اليوم فصبر نفسه بأمل ولو ضعيف، وهو أن الله عز وجل قد رفعه كما رفع عيسى، وسيبعث مرة أخرى» . الفائدة الثالثة عشرة: إذا كان المسلمون قد حزنوا حزنا شديدا على وفاة معلمهم الخير صلّى الله عليه وسلّم فإن واحدة فقط قد انقلب حزنها فرحا وسرورا، ليس لوفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل لأن انقطاعها عنه لن يدوم طويلا، وبقاءها في الدنيا بدون رؤيته صلّى الله عليه وسلّم سيكون قليلا، بل قد ضمنت أعظم من ذلك وأجمل، ضمنت مرافقته في الفردوس الأعلى، وهي فاطمة. رضي الله عنها.، روى الشيخان عن عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا فاطمة ابنته فسارّها فبكت ثمّ سارّها فضحكت فقالت عائشة: فقلت لفاطمة: ما هذا الّذي سارّك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبكيت ثمّ سارّك فضحكت قالت: سارّني فأخبرني بموته فبكيت ثمّ سارّني فأخبرني أنّي أوّل من يتبعه من أهله فضحكت» «1» . وهذا من عجائب حبهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يفرح العبد ويضحك لما يعلم قرب أجله وفراقه للدنيا، وماذا في الدنيا يحرص عليه المسلم بعد فراق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وما أعذب الموت وأجمله إن كان بعده لقاء الحبيب صلّى الله عليه وسلّم. قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «هذه معجزة ظاهرة له صلّى الله عليه وسلّم، بل معجزتان، فأخبر ببقائها بعده، وبأنها أول أهله لحوقا به، ووقع كذلك، وضحكت سرورا بسرعة لحاقها، وفيه إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا» «2» . الفائدة الرابعة عشرة: وهي متفرقات مهمة تحيط بوفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وآخر كلامه ووصاياه: 1- في أي الأيام مات الحبيب صلّى الله عليه وسلّم؟: مات النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم اثنين؛ لما رواه البخاري عن الزّهريّ قال: أخبرني أنس بن مالك   (1) رواه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (2450) . (2) انظر فتح الباري (8/ 135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الأنصاريّ وكان تبع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخدمه وصحبه أنّ أبا بكر كان يصلّي لهم في وجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي توفّي فيه حتّى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة فكشف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا» «1» ..... وتوفى رسول الله من يومه» . 2- آخر ما قاله اللسان الطيب الطاهر في هذه الحياة الدنيا: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم الرفيق الأعلى» ؛ لما رواه البخاري عن عائشة. رضي الله عنها.: «فكانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى» «2» . 3- آخر من تعطر فمه بمخالطة ريق النبي صلّى الله عليه وسلّم: هي عائشة. رضي الله عنها.؛ روى البخاري في صحيحه عن عائشة. رضي الله عنها. قالت: توفّي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وكانت إحدانا تعوّذه بدعاء إذا مرض فذهبت أعوّذه فرفع رأسه إلى السّماء وقال: «في الرّفيق الأعلى، في الرّفيق الأعلى» . ومرّ عبد الرّحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة فنظر إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فظننت أنّ له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه فاستنّ بها كأحسن ما كان مستنّا، ثمّ ناولنيها فسقطت يده- أو سقطت من يده- فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدّنيا وأوّل يوم من الآخرة» «3» . ولو لم يكن لها- رضي الله عنها- إلا هذه المنقبة لكفتها، كيف وقد اجتمع لها الأمور التالية. 4- أين كان الجسد الشريف عندما فاضت روحه المباركة صلّى الله عليه وسلّم إلى خالقها عز وجل؟: كان الجسد الشريف ملامسا لجسد عائشة. رضي الله عنها.، بل كان في صورة تدل على شدة الحب والحنان، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم على صدرها، روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة- رضي الله عنها-: فمات في اليوم الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي فقبضه الله وإنّ رأسه لبين نحري وسحري وخالط ريقه ريقي» «4» والسحر: هي الرئة. 5- في نوبة من من النساء انتقل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى؟: في نوبة عائشة. رضي الله عنها.، ومع أنه كان يقيم عندها كل الأيام في مرضه الذي توفي فيه صلّى الله عليه وسلّم، إلا أنه باحتساب نوبات الزوجات، لو أنه صلّى الله عليه وسلّم استمر في القسمة بينهن، فقد   (1) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، برقم (680) . (2) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللهم الرفيق الأعلى، برقم (6348) . (3) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4451) . (4) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4450) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 كانت الوفاة يوم نوبتها، روى البخاري في صحيحه عن عائشة. رضي الله عنها.: «فلما كان يومي قبضه الله» . قال الإمام النووى- رحمه الله-: «أي يومها الأصيل بحساب الدور والقسم وإلا فقد صار جميع الأيام في بيتها» «1» . 6- في أي البيوت توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفن؟: في بيت أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها.، ورد عن البخاري من حديثها: «فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري ودفن في بيتي» «2» . ويتفرع عليه: أن مكان بيت عائشة. رضي الله عنها. محفوظ إلى يوم القيامة، ولا يختلف عليه، بحفظ الله عز وجل جسد نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من مناقبها العظمى. رضي الله عنها.. 7- آخر ما تمتع به النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمور الدنيا: هو السواك، ورد في صحيح البخاري من حديث عائشة. رضي الله عنها.: «دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستن به وهو مستند إلى صدري» «3» . 8- ما هي آخر صلاة جماعة في المسجد صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبأي السور قرأ؟: هي صلاة المغرب وقرأ فيها صلّى الله عليه وسلّم بالمرسلات عرفا، لما ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا ثم ما صلى صلّى الله عليه وسلّم لنا بعدها حتى قبضه الله» «4» . 9- آخر ما وصى به أو حذر منه صلّى الله عليه وسلّم: أ. وصيته صلّى الله عليه وسلّم بالأنصار خيرا، ورد في البخاري عن أنس بن مالك يقول: مرّ أبو بكر والعبّاس. رضي الله عنهما. بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟!   (1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 208) . (2) رواه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، برقم (1389) ، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة رضي الله تعالى عنها برقم (2443) . (3) رواه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره، برقم (890) . (4) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4429) ، ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، برقم (462) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 قالوا: ذكرنا مجلس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منّا، فدخل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك قال: فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أوصيكم بالأنصار؛ فإنّهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الّذي عليهم وبقي الّذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» . ويؤخذ منه أن هذه آخر مرة يصعد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، أما حزن الأنصار على فراق النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو واضح في الحديث. قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «ذكروا مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يجلسونه معه، وكان ذلك في مرضه صلّى الله عليه وسلّم فخشوا أن يموت من مرضه فيفقدوا مجلسه فبكوا حزنا على فوات ذلك» «2» . ب. تحذيره صلّى الله عليه وسلّم أمته من اتخاذ قبره مسجدا، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- عن عائشة وعبد الله بن عبّاس قالا: لمّا نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما صنعوا «3» . وهذا التحذير في ذلك الوقت يدل على شدة نصح النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته وخوفه عليهم أن يفتنوا به كما فتنت اليهود والنصارى بأنبيائهم. قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «أو أنه صلّى الله عليه وسلّم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظّم قبره كما فعل من مضى؛ فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم» «4» . ج. ثناؤه البالغ على أبي بكر الصديق رضي الله عنه: روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متّخذا خليلا من أمّتي لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقينّ في المسجد باب إلّا سدّ إلّا باب أبي بكر» «5» .   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم اقبلوا من محسنهم ... ، برقم (3799) . (2) انظر فتح البارى (7/ 121) . (3) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة، برقم (436) . (4) انظر فتح البارى (1/ 532) . (5) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، برقم (466) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 قال الإمام النووي- رحمه الله-: «معناه: أكثرهم جودا لنا بنفسه وماله، وليس هو من المن الذي هو الاعتداء بالصنيعة؛ لأنه أذى مبطل للثواب؛ ولأن المنة لله وللرسول في قبول ذلك» «1» . وقال القرطبي: «هو من الامتنان والمراد أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره نظيرها لمنّ بها» . وقال ابن حجر رحمه الله-: «وفي وقوله: ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، منقبة عظيمة لأبي بكر لم يشاركه فيها أحد» «2» . ثانيا: في فضائل ومناقب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: الفائدة الخامسة عشرة: حبهم الشديد. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك فرحتهم العارمة التي كادت تلهيهم عن الصلاة، عندما كشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر حجرته وجعل ينظر إليهم، وذلك يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ورد عند البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «فكشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم» «3» ، وعند مسلم: «فبهتانا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «4» . والظاهر من الحديث أن هذا الفرح الذي بلغ الغاية والمنتهى كان بسبب ظن الصحابة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تماثل للشفاء وأنه خارج يصلي بهم. الفائدة السادسة عشرة: إجلالهم. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجمال وجهه في أعينهم، حتى إنهم ما كانوا يرون شيئا أجمل منه صلّى الله عليه وسلّم، حتى مع شدة مرضه، ورد في الحديث: «كأن وجهه ورقة مصحف» .   (1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 150) . (2) انظر فتح البارى (8/ 142) . (3) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، برقم (680) . (4) رواه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض، برقم (419) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وأقول: لو كانوا يعلمون شيئا أجمل وأبهى عندهم من ورقة المصحف لشبهوا به وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل الأعجب من ذلك ما ورد في الصحيحين من رواية أنس بن مالك- رضي الله عنه-: «فلما وضح وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث وضح لنا» . الفائدة السابعة عشرة: مكانة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعند الصحابة- رضي الله عنهم-: 1- رضا النبي صلّى الله عليه وسلّم بإمامته رضي الله عنه المسلمين، بل هو الذي أمر أن يصلي بهم أبو بكر رضي الله عنه، رغم مراجعة عائشة. رضي الله عنها. النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وترشيحها الفاروق رضي الله عنه- للصلاة بالناس، ورد في الصحيحين من حديث عائشة- رضي الله عنها-: «لما مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس فأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة» . كما ارتضاه النبي صلّى الله عليه وسلّم خليفة له بعد موته صلّى الله عليه وسلّم، ورد عند مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك حتّى أكتب كتابا، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر» «1» . قال الإمام البيهقي- رحمه الله-: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر- رضي الله عنه- ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله. تعالى. ذلك، كما همّ بالكتاب في أول مرضه حين قال: «وا رأساه» ثم ترك الكتاب وقال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» ، ثم نبّه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة «2» . 2. شجاعته ورباطة جأشه رضي الله عنه، في موقف كان هو أولى الناس فيه بذهاب العقل وذهول القلب، ولكن من منة الله على هذه الأمة أن ثبت الصديق وقواه، وهو موقفه عند وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ قام في الناس، يهدئهم ويذكرهم بكلام الله عز وجل، بعد أن   (1) أخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2387) . (2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 90) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 أقسم عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مات. ورد عند البخاري من حديث عائشة. رضي الله عنها.: «ثم خرج. أي أبو بكر. فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، وحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: من كان يعبد محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران: 144] ، وقالت عائشة. رضي الله عنها. في آخر الحديث: «لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «1» . 3. تواضعه رضي الله عنه وزهده في الإمارة، واعتراف الصحابة بفضله، ورد في حديث عائشة الذي أوردته في الفقرة السابقة قوله- رضي الله عنه-: «بايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل بايعناك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس» . الفائدة الثامنة عشر: فضل عائشة. رضي الله عنها.، وقد مر فضلها في مواضع كثيرة، ولكني أضيف هنا فضلا عظيما لها، وهو أنها كانت. رضي الله عنها. تشعر أن وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيتها وفي يومها وعلى صدرها لهو من نعم الله عليها، وما يكون ذلك إلا لتعظيمها وتوقيرها وحبها للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ورد في الحديث الذي رواه البخاري قولها. رضي الله عنها.: «إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته» «2» . ويستفاد من ذلك أن الله عز وجل قد اختص أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها. بنعم عظيمة لم يشاركها فيها أحد من رجال هذه الأمة أو نسائها. الفائدة التاسعة عشرة: في فضل فاطمة- رضي الله عنها-: «روى الشيخان» عن عائشة. رضي الله عنها.   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كنت متخذا خليلا، برقم (3670) . (2) سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مرحبا بابنتي ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثمّ أسرّ إليها حديثا فبكت فقلت لها: لم تبكين؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عمّا قال: فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى قبض النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألتها فقالت: أسرّ إليّ إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة وإنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه إلّا حضر أجلي وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقا بي فبكيت فقال: أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة أو نساء المؤمنين؟ فضحكت لذلك» «1» . ففيه من الفضائل لفاطمة- رضي الله عنها-: 1- مشابهة هيئتها. رضي الله عنها. لهيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: «كأن مشيتها مشي النبي صلّى الله عليه وسلّم» . 2. تحية النبي صلّى الله عليه وسلّم لها وهو يدل على فرحه بقدومها عليه ومناداته صلّى الله عليه وسلّم لها بصفتها لا باسمها وتقريبها منه صلّى الله عليه وسلّم، كل ذلك يدل على شديد حبه لها- رضي الله عنها-، ورد في الحديث: «مرحبا بابنتي ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله» . 3. إسرار النبي صلّى الله عليه وسلّم لها بقرب أجله واختصاصها بذلك السر دون سائر الصحابة. 4. كونها. رضي الله عنها. أول أهل البيت لحوقا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، بالإضافة إلى كونها سيدة نساء أهل الجنة. 5. أمانتها في كتمان سر النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قبض. الفائدة العشرون: فضل الأنصار. رضي الله عنهم. ووصية النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم خيرا وامتنانه صلّى الله عليه وسلّم لهم أنهم وقفوا معه وقاموا بما عليهم، ورد في آخر خطبة له صلّى الله عليه وسلّم على المنبر قوله: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «2» . قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «يشير إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم   (1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3624) ، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم برقم (2450) .. (2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم اقبلوا من محسنهم ... برقم (3799) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 بايعوا على أن يؤووا النبي صلّى الله عليه وسلّم وينصروه على أن لهم الجنة، فوفّوا بذلك» «1» . ويتفرع عليه: وجوب حب الأنصار وبغض من يبغضهم؛ روى الشيخان في صحيحهما عن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن، ولا يبغضهم إلّا منافق؛ فمن أحبّهم أحبّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» «2» . الفائدة الواحدة والعشرون: فضل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وفقهه- وشفقته بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، يظهر ذلك من معارضته إحضار كتاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليكتب للأمة أمورا إن تمسكوا بها لا يضلوا بعدها أبدا، ورد في الحديث: «لما اشتد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا» . قال الإمام النووي. رحمه الله.: «اتفق العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة؛ لكونها منصوصة، وأراد ألاينسد باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه صلّى الله عليه وسلّم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويب رأيه، ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما يتركه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأجل اختلافهم» «3» . الفائدة الثانية والعشرون: ما كان عليه أمهات المؤمنين من الأدب الجم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، والحرص على مرضاته، ودليله أنهن أذنّ لهن في أن يمرّض في بيت عائشة. رضي الله عنها.، مع كونهن أحرص الناس على ملازمته صلّى الله عليه وسلّم خاصة في أيامه الأخيرة، ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة. رضي الله عنها.: «لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذنّ له» «4» .   (1) انظر فتح البارى (7/ 122) . (2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: حب الأنصار، برقم (3783) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار ... برقم (75) . (3) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (11/ 90) . (4) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (665) ، ومسلم، كتاب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 ثالثا: فوائد عامة من الوفاة النبوية: الفائدة الثالثة والعشرون: من مقتضيات حكمة الله عز وجل ربط الأسباب بالمسببات، فربط. تبارك وتعالى. الأجر بالبلاء، حتى مع الأنبياء أحب الخلق إليه، وكان من الممكن أن يجازي الله. تبارك وتعالى. الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام بالأجر العظيم دون أن يضاعف عليهم شدة المرض وشدة سكرات الموت، فعلى المسلم أن يصبر ويسترجع في كل ما يلاقيه في دنياه من مصائب وكرب وفتن وأمراض، فلعل الله عز وجل يريد أن يرفع درجته في الآخرة. الفائدة الرابعة والعشرون: ما يجب أن يكون عليه المسلم من حسن ظن بالله. خاصة عند سكرات الموت. وأن يغلب جانب الرجاء على الخوف لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «1» ، وعلى المسلم أن يتذكر في ذلك الوقت، ما ورد في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: أنا عند حسن ظن عبدي بي» «2» . الفائدة الخامسة والعشرون: ليس من النياحة قول المسلم: «واكرب فلان» ؛ لعدم نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة. رضي الله عنها. عن هذا القول. تنبيه: قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «وأما قولها. أي فاطمة. رضي الله عنها.: «وا أبتاه وقولها: يا من جنة الفردوس مأواه ... إلخ» ، فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفا بها لا يمنع ذكره لها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا وهو في الباطن بخلافه أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل في المنع» «3» . أقول: ما ذهب إليه الحافظ. رحمه الله. خلافا للصواب؛ لما رواه البخاري: «عن أمّ   الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض، برقم (418) . (1) أخرجه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4462) . (2) رواه البخاري، كتاب: التوحيد، بابم قول الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ... برقم (7405) . (3) انظر فتح البارى (8/ 149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 العلاء وهي امرأة من نسائهم بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السّكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين فاشتكى فمرّضناه حتّى توفّي ثمّ جعلناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: رحمة الله عليك أبا السّائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله قال: وما يدريك؟ قلت: لا أدري والله. قال: أمّا هو فقد جاءه اليقين إنّي لأرجو له الخير من الله والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت أمّ العلاء: فو الله لا أزكّي أحدا بعده» «1» . ثم إن قوله- رحمه الله-: «بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا وهو في الباطن بخلافه» ليس بصواب أيضا، لأن الباطن لا يعلمه قطعا إلا عالم السر والعلن، وأما قول فاطمة. رضي الله عنها. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو صحيح وصواب؛ لأنها زكت النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أول من يستفتح أبواب الجنة فتفتح له. الفائدة السادسة والعشرون: اختلاف المسلمين باجتهاد وتدبر وحسن نظر أمر وارد، ولا يقدح في طائفة منهم، فهاهم أكابر الصحابة رضي الله عنهم، قد اختلفوا على أمر من أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي حضرته، ولم ينكر عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اختلافهم، وإنما أنكر أن يكون هذا التنازع في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، كما أن هذا الخلاف لم يوقع بينهم العداوة أو البغضاء، بل استمر التبجيل والتوقير بين المختلفين حتى بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودليله ما رواه البخاري: «عن ابن عبّاس. رضي الله عنهما. قال: لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجعلت أهابه فنزل يوما منزلا فدخل الأراك فلمّا خرج سألته فقال: عائشة وحفصة» «2» . الفائدة السابعة والعشرون: عظيم أمر صلاة الجماعة في الإسلام، فقد مر كيف كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حريصا عليها في مرض الوفاة، ورد عند مسلم: «وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه ذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن مكانك» «3» .   (1) رواه البخاري، كتاب: التعبير، باب: العين الجارية في المنام، برقم (7018) . (2) رواه البخاري، كتاب: اللباس، باب: ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتجوز من اللباس، برقم (5843) . (3) سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 الفهرس الباب الخامس مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند خالقه سبحانه وتعالى 3 أولا: تعظيم أمر سنته صلّى الله عليه وسلّم 5 1- السنة والقرآن بمنزلة واحدة 5 2- السنة محفوظة إلى يوم القيامة 5 3- السنة تبيان للقرآن 6 4- نفي الهوى عن كل ما جاء بالسنة 9 5- تسمية السنة حكمة 11 6- السنة شرط في قبول العمل 14 7- الوعيد الشديد لمن كذب على صاحبها صلّى الله عليه وسلّم 19 8- شاهد على سوء عاقبة من كذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم 27 ثانيا: وجوب تعظيمه وتحريم إيذائه صلّى الله عليه وسلّم 29 ثالثا: تأديب الأمة في التعامل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم 37 رابعا: ألطف الخطاب في القرآن حتى عند معاتبته صلّى الله عليه وسلّم 53 خامسا: مظاهر حب الله- عز وجل وعنايته به صلّى الله عليه وسلّم 64 1- عموم اعتناء الله- عز وجل- به صلّى الله عليه وسلّم 64 2- حفظه صلّى الله عليه وسلّم في الصغر 64 3- حفظ عرضه صلّى الله عليه وسلّم من السب واللعن 66 4- رفع ذكره صلّى الله عليه وسلّم 66 بعض الفوائد المستفادة من قول الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ 67 5- القسم بحياته صلّى الله عليه وسلّم 72 6- تعظيم المكان بإقامته صلّى الله عليه وسلّم فيه 74 7- الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم 75 8- جعل صلاته واستغفاره صلّى الله عليه وسلّم رحمة للمؤمنين 82 9- سماع الله لتلاوته صلّى الله عليه وسلّم 85 10- تثقيل موازينه صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة 86 11- الأمر بالصدقة بين يدي نجواه صلّى الله عليه وسلّم 87 12- رؤية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم 88 13- ولاية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم 89 14- معية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم 92 15- الوعد بنصره صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة 95 16- جعله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين 96 17- النبي صلّى الله عليه وسلّم خليل الله 98 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 18- النبي صلّى الله عليه وسلّم كليم الله 100 19- تطهير قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حظ الشيطان 100 20- ملء القلب إيمانا وحكمة 103 21- إسلام قرينه صلّى الله عليه وسلّم 105 22- إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم 109 23- كماله وعصمته صلّى الله عليه وسلّم 118 24- يبيت صلّى الله عليه وسلّم يطعمه ربّه ويسقيه 120 25- زوّجه ربّه من فوق سبع سماوات 121 26- أثنى عليه ربه باسمين من أسمائه 127 27- من استهزأ به صلّى الله عليه وسلّم كفر 129 28- أمر المؤمنين بتقديمه صلّى الله عليه وسلّم على أنفسهم 130 29- تتابع الوحي عليه قبل موته صلّى الله عليه وسلّم 132 30- نعيه وتوديعه صلّى الله عليه وسلّم في القرآن 133 31- تزكيته صلّى الله عليه وسلّم 136 32- تسلية الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم 191 33- كفاية الله له صلّى الله عليه وسلّم 197 سادسا: مظاهر العناية الإلهية بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين 203 أ- تربيتهن على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق وعدم تسويتهن ببقية نساء الأمة 203 1- وجوب الزهد في الدنيا 203 2- حثهن على اختيار الله ورسوله والدار الآخرة 203 3- تضعيف العذاب لمن ارتكبت شيئا (حاشا لله) 204 4- مضاعفة الأجر للقانتات منهن (وهن جميعا كذلك) 205 5- عدم تسويتهن ببقية النساء 205 6- أمرهن بأحسن الأفعال والأقوال والأخلاق 205 7- إرادة الله كمال طهرهن وعفتهن 205 8- تذكيرهن بشرف بيوتهن 205 9- إعلامهن بلطف الله بهن 206 ب- جعلهن قدوة لغيرهن 214 ج- إلزام الأمة توقيرهن 215 د- تحريم النظر إليهن بالكلية 216 هـ- تحريم الزواج منهن 219 وتبرئة أعراضهن 223 سابعا: ثناء الله وثناء رسوله صلّى الله عليه وسلّم على زوجاته وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم جميعا وكل ثناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 عليهم فهو ثناء عليه من باب أولى 230 1- الثناء على زوجاته صلّى الله عليه وسلّم 230 2- سلام الله عز وجل والروح الأمين على خديجة بنت خويلد 230 3- سلام الروح الأمين على عائشة رضي الله عنها 230 4- فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة 230 5- الثناء على أصحابه 231 ثامنا: دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلّى الله عليه وسلّم 239 1- تكذيب ادعائهم إضلاله صلّى الله عليه وسلّم لهم 239 2- شبهة الأكل والمشي في الأسواق 240 3- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلمه بشر 241 4- كذب الادعاء بأن الله قد قلاه صلّى الله عليه وسلّم 243 5- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم ساحر 245 6- شبهة أن يكون صلّى الله عليه وسلّم غنيّا لا يحتاج إلى التكسب 251 7- دفع ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب القرآن 252 الباب السادس مظاهر حب وإجلال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم 255 1- التصديق المطلق 257 2- طاعتهم المطلقة له صلّى الله عليه وسلّم 264 3- كمال المتابعة 273 4- كراهة مخالفته صلّى الله عليه وسلّم ولو في الهيئة 278 5- غضبهم الشديد رضي الله عنهم من معارضة سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم 279 6- حب الصحابة له صلّى الله عليه وسلّم أكثر من حبهم لأنفسهم 281 7- إيثارهم له صلّى الله عليه وسلّم 283 8- تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم 283 9- حبهم رضي الله عنهم لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم من أمور الدنيا 284 10- حب مرافقته والقرب منه صلّى الله عليه وسلّم 286 11- كراهيتهم ترك شيء فارقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه 290 12- عظيم أدبهم معه صلّى الله عليه وسلّم 292 13- تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم في نفوسهم 295 14- تعظيم دعائه صلّى الله عليه وسلّم 317 15- تبركهم به صلّى الله عليه وسلّم 319 الباب السابع أيام من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الهجرة المباركة 337 الفائدة الأولى: أدبه الجم صلّى الله عليه وسلّم مع الخالق- تبارك وتعالى- ومع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 المخلوقين 340 الفائدة الثانية: حكمته صلّى الله عليه وسلّم 340 الفائدة الثالثة: حبه صلّى الله عليه وسلّم للإنفاق في سبيل الله 341 الفائدة الرابعة: شجاعته صلّى الله عليه وسلّم 342 الفائدة الخامسة: حسن تعبده صلّى الله عليه وسلّم لربه 342 الفائدة السادسة: تواضعه صلّى الله عليه وسلّم 342 الفائدة السابعة: عناية الله- سبحانه وتعالى- بمسجد نبيه صلّى الله عليه وسلّم 343 الفائدة الثامنة: حسن ثقته صلّى الله عليه وسلّم بربه- سبحانه وتعالى- وأنه ناصره ومؤيده 343 الفائدة التاسعة: سرعة استجابة الله تبارك وتعالى- لدعائه صلّى الله عليه وسلّم 343 الفائدة العاشرة: قدرة الله- تبارك وتعالى- العجيبة 344 الفائدة الحادية عشرة: إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن يؤنس ويطمئن قلب نبيه صلّى الله عليه وسلّم 344 الفائدة الثانية عشرة: بره صلّى الله عليه وسلّم برحمه 344 الفائدة الثالثة عشرة: حب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإجلاله وتوقيره النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيثاره له على نفسه في كل شيء 344 الفائدة الرابعة عشرة: حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم 347 الفائدة الخامسة عشرة: بعض مناقب الصديق رضي الله عنه 348 الفائدة السادسة عشرة: مناقب بعض الصحابة- رضي الله عنهم- جميعا 349 الفائدة السابعة عشرة: دروس وعبر مستفادة من الهجرة المباركة يوم الفتح العظيم 353 الفائدة الأولى: في النبي صلّى الله عليه وسلّم 355 الفائدة الثانية: في مناقب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم 359 الفائدة الثالثة: وهي فوائد متفرقة 361 يوم الوفاة النبوية 363 بعض فوائد الوفاة النبوية 364 الفهرس 381 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384