الكتاب: لطائف الإشارات = تفسير القشيري المؤلف: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465هـ) المحقق: إبراهيم البسيوني الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر الطبعة: الثالثة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- لطائف الإشارات = تفسير القشيري القشيري، عبد الكريم الكتاب: لطائف الإشارات = تفسير القشيري المؤلف: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465هـ) المحقق: إبراهيم البسيوني الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر الطبعة: الثالثة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] [ الجزء الاول ] مدخل ترجع أهمية نشر هذا الكتاب إلى ثلاثة عوامل رئيسية: أولا: أنه من الناحية الموضوعية يعالج قضية هامة وهى تفسير القرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال، وهذا منهج في التفسير نادر في المكتبة العربية، فأنت تستطيع أن تجد عددا غير قليل من التفاسير التي تتناول النص القرآنى فى ضوء اللغة العربية أو الإعراب أو البلاغة أو الفقه أو أسباب النزول أو التشريع أو القصص والأخبار أو نحو ذلك مما هو مألوف ومعروف منذ نزل القرآن ومنذ ظهرت الاتجاهات المختلفة فى دراسته، ويمكن أن تجد عدة مصنفات لعدة شخصيات فى كل لون من هذه الألوان بحيث يغنيك واحد أو اثنان منها عمّا سواهما. فإذا بحثت عن التفسير الصوفي ألفيته- على العكس من ذلك- نادرا، وألفيت الإنتاج فيه غير شاف، فإمّا أن يكون مقتضبا «كتفسير القرآن العظيم» لسهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة 283 هـ) وقد طبعته السعادة فى عام 1908 م فيما لا يزيد على مائتى صفحة، ويستطيع القارئ أن يتصور كيف يمكن لمائتى صفحة أن تعنى بدراسة القرآن على نحو مرض. وإمّا أن يكون مطعونا فيه كما هو الشأن فى «حقائق التفسير» لأبى عبد الرحمن السّلمى (المتوفى سنة 412 هـ) الذي يقول فى وصفه- ونحن نقتطف منه هذه الفقرة لنوضّح ما قلناه آنفا عن ندرة التفسير الصوفي: «لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفضّل، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى» [حقائق التفسير للسلمى مخطوطة 150 تفسير دار الكتب ص 221] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وعند ما ظهر حقائق التفسير، أحدث ضجة كبرى، فقد لقى معارضات شديدة من معاصريه وممن أتوا بعده، فانّهم بالابتداع والتحريف والقرمطة والتشيع ووضع الأحاديث على الصوفية يقول ابن الصلاح: (وجدت عن الإمام الواحدي أنه قد صنّف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر) وقال الذهبي فى «تذكرته» : أتى السّلمى فى «حقائقه» بمصائب وتأويلات للباطنية نسأل الله العافية تذكرة الحفاظ ج 3 ص 249. ووصفه ابن تيمية بالكذب: (منهاج السنة ج 4 ص 155) . وعدّ السيوطي تفسيره ضمن التفاسير المبتدعة معللا لذلك بقوله: « .... وإنما أوردته فى هذا القسم لأنه غير محمود (طبقات المفسرين للسيوطى ط ليدن سنة 1839 ص 31) . أما إخوان الصفا الذين يحشرهم جولد تسيهر ضمن مفسرى الصوفية فى كتابه (مذاهب التفسير الإسلامى) ، فهم أولا غير صوفية وإنما هم جماعة من المشتغلين بالفلسفة ذوى أغراض بعيدة خبيثة، ضمت صفوفهم لفيفا من الناس مختلفى النزعات والثقافات حتى كان من بينهم ملاحدة، فإحالتهم على الصوفية تجن على الحقيقة وعلى التاريخ وعلى التصوف، ولسنا نبرىء جولد تسيهر من ذلك- مع تقديرنا لكتابه القيّم. وحتى القرن الخامس الهجري لا نجد كما يقول صاحب (تاريخ أدبيات در ايران) : «أهمّ من حقائق السلمى ولطائف الإشارات للقشيرى وتفسير سورة الإخلاص للغزالى» [تاريخ أدبيات در ايران للدكتور ذبيح الله صفا (مكتوب بالفارسية) فصل التفسير صفحة 256، 257] . وبعد ذلك بنحو قرن نلتقى بتفسير ابن عربى الذي هو قبل كل شىء مطعون فى نسبته إليه، وفى ذلك يقول الشيخ محمد عبده (اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، وينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطني الشهير) ويضيف الأستاذ الإمام (وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز) تفسير المنار ج 1 ص 18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 نعم صدق الأستاذ الإمام، فالكتاب مملوء بدعاوى وحدة الوجود، وما جرّه هذا المذهب من ويلات، ولسنا هنا بصدد دراسة تفصيلية له، ولكننا نشعر بالحاجة إلى أن نسوق شواهد قليلة تثبت مجانبة هذا التفسير للحق، وكيف أنه لا يصح أن يكون نموذجا للاتجاه الصوفي السديد- كما حلا لجولد تسيهر أن يظهره ويتحمس له، ليخرج من ذلك بأحكام عامة يصدرها عن التصوف الإسلامى- كأنما يروى غليله. ففى سورة المزمل عند قوله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا، يقول: (واذكر اسم ربك الذي هو أنت..) !! ج 2 ص 352. وفى سورة الواقعة عند قوله تعالى (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) ، يقول: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا، وظهورنا فى صوركم) ج 2 ص 291 وليس هذا التصوّر بمستغرب على من يقول إن عجل بنى إسرائيل أحد المظاهر التي اتّخذها الله وحلّ فيها!! وليس من الإنصاف أن يقال للناس هذا هو رأى الصوفية المسلمين ولا رأى بعده، بل يجب أن نضع فى اعتبارنا أن مذهب وحدة الوجود مذهب فلسفى يبتعد عن المنهج القلبي العرفانى الذي اختطه أرباب المجاهدات والأحوال للوصول إلى وحدة الشهود، وفى وحدة الشهود- ومهما قيل عنها من كلام ظاهره مستشنع وباطنه سليم على حدّ تعريف أبى نصر السراج الطوسي للشطح- يبقى دائما شىء هام قوى ناصع أن العبد عبد والرب رب ولا تداخل ولا امتزاج ولا حلول ولا اتحاد، بل بمقدار ما يصل العبد إلى تحقيق عبوديته يصل إلى التحقق من ربوبيته الرب وتنزيهه عن كل إفك وباطل ... تعالى الله علوّا كبيرا. ولا ينبغى لنا أن نغض الطرف عن قيمة التفاسير المبعثرة فى المراجع الصوفية الكبرى لآيات بعينها من القرآن الكريم، فإن تبعثر هذه التفاسير لا يحول دون تقديرها حق قدرها، ذلك لأنها غالبا ما سيقت لتدعيم موقف أو لتشهد على استمداد فكرة أو لفظة، فهى من هذه الناحية لا تخرج عن كونها تفسيرا صوفيا غير مجموع. وفيما عدا ذلك يمكن القول إن أبرز التفاسير الصوفية التي نعرفها كتابان أولهما «عرائس البيان فى حقائق القرآن» لأبى محمد روزبهان بن أبى النصر البقلى الشيرازي المتوفى سنة 606 هـ[كشف الظنون ج 2 ص 21] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وثانيهما التأويلات النجمية» لنجم الدين داية المتوفى سنة 654 هـ وقد مات قبل أن يكمله فأكمله علاء الدولة السمناني المتوفى 736 هـ (كشف الظنون ج 1 ص 238) . لأجل هذا كله نحتفل «بلطائف الإشارات» فأغلب ما سقناه من تفاسير صوفية لا يسلم من النقد، ولا يصحّ أن يكون نموذجا صالحا لتمثيل الصوفية والتصوف بأمانة وصدق. «لطائف الإشارات» سفر نفيس كتبه صاحبه محاولا أن يوفّق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة، وقاصدا إلى هدف بعيد أنه لا تعارض بين هذه وتلك، وأن أي كلام يناقض ذلك خروج على أىّ منهما وعلى كليهما (فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، الشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده) الرسالة القشيرية ص 46. وهذا ما حدث فعلا.. فأنت خلال قراءة «اللطائف» تشعر أن كل صغيرة وكبيرة فى علوم الصوفية لها أصل من القرآن، ويتجلّى ذلك بصفة خاصة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا فى النص القرآنى كالذكر والتوكل والرضا، والولي والولاية والحق والظاهر والباطن، والقبض والبسط ... إلخ فلا تملك إلا أن تحكم أن الصوفية قد استمدوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم، وأن علومهم ليست غريبة ولا مستوردة كما يحلو لبعض الباحثين حين يتهمون التصوف الإسلامى بالتأثر بالتيارات الأجنبية: اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية ونحوها. كذلك تلحظ عبقرية القشيري إزاء اللفظة أو الآية حيثما لا يكون فيها اصطلاح صوفى، فإنه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات فى الصحبة والصاحب، ومن علاقة النبي بأصحابه إشارات عن الشيخ ومريديه، ومن مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والجبال إشارات رائعة تتصل اتصالا وثيقا بالرياضيات والمجاهدات أو بالمواصلات والمكشوفات. وربما قيل إن صنيع القشيري مسبوق وملحوق، ولكن ها نحن منذ قليل أوضحنا مقدار ما أصاب التفاسير الصوفية من سهام النقد، وبقي أن نتعرف الأسباب التي جعلتنا نحكم بأن لطائف الإشارات، خير مناضل عن التفسير الصوفي بعامة، بل بأنه من أفضل الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 التي أنتجتها قرائح الصوفية فى شتى العصور، وربما يبدو فى ذلك بعض التعميم مع أن الأحكام العلمية ينبغى ألا تخضع للتعميم لأننا لا نستطيع أن ندّعى المعرفة الشاملة بكل التراث الصوفي، ونعترف أن عشرتنا مع الكتاب وصاحبه عشر سنوات كاملة أثناء إعداد بحثى الماجستير والدكتوراه فى الموضوعات الصوفية، ونعترف أن حماسنا لما نلحظه من الاعتدال عند القشيري دون سائر الباحثين، ونعترف أنّ ما كنا نشعر به من وجوه النقص فى سائر المصنّفات التي نهض بها غيره فى هذا الخصوص- كلّ ذلك ربما كان الدافع إلى لجوئنا إلى هذا الحكم الذي سقناه. ومن أعجب الأمور أن القشيري يشتهر «بالرسالة» التي لا تخرج عن كونها مجموعة من الأسانيد المنسوبة إلى الشيوخ فى موضوعات بعينها، ومجموعة من التراجم لأبرز الشيوخ الذين ظهروا منذ نهاية القرن الثاني الهجري حتى بداية القرن الخامس فى صفحات قليلة ربّما أغنت عنها الكتب المطوّلة التي وضعت خصيصا لهذا الغرض مثل تذكرة العطار أو طبقات السلمى أو طبقات الشعراني ونحوها. ومع تقديرنا «للرسالة» إلا أننا لا نعتبرها بحال من الأحوال أفضل أعمال القشيري، وأنها ظلمته حين شهرته، وحين أوقفت اسمه عليها، وأصبح حتما منذ الآن أن يقول الناس «القشيري صاحب اللطائف» لا صاحب «الرسالة» . فاللطائف هى أبلغ أعماله التي تزيد على العشرين- فى نقل صورة واضحة لشخصيته، ولست أدرى لماذا لم يجد هذا الكتاب ما هو جدير به من الاهتمام فى العصور الماضية؟ لماذا حكم عليه دائما أن يبقى فى منطقة الظل؟ حتى صار ما نعرفه عن نسخه كما نفهم من «تذكرة النوادر» وكما يقول بروكلمان- محدودا ومبعثرا بين روما وبرلين واسطنبول وتونس والهند والقاهرة، ومعظمها كما سنذكر بعد قليل غير كامل. ولكى ندرك أهمية هذا الكتاب فى تصحيح كثير من المقاييس العلمية عن التصوف والتفسير الصوفي لا بدّ لنا أن نلم بشىء من سيرة صاحبه، ونكتفى من معالم هذه السيرة بما يمكن أن يتبرر به وصول هذا العمل الجليل بتلك الأوصاف وإلى تلك النتائج. وذلكم هو العامل الثاني لأهمية نشر هذا الكتاب: ثانيا: صاحب هذا الكتاب هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ولقبه زين الإسلام، وشهرته القشيري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ولد فى ربيع الأول عام 376 هـ الموافق يوليو 986 م. وتوفى فى يوم الأحد السادس عشر من ربيع الآخر عام 465 هـ وهو عربى النسب من جهة أبيه فهو من قبيلة قشير العدنانية المتصلة بهوازن، ويذكر ابن حزم أن سلالات من قشير اتجهت إلى المغرب نحو الأندلس إبّان الفتح الإسلامى زمن الأمويين، واتجه بعضها إلى المشرق وكان منها ولاة وقواد على خراسان ونيسابور. (جمهرة الأنساب 273 و 459) كذلك فإن القشيري عربى النسب من جهة أمه فهى سلمية وأخوها أبو عقيل السلمى من وجوه دهاقين أستوا، واستوا هى الناحية التي ولد فيها القشيري وتلقى بها تعليمه الأولىّ. وحدث أن اجتاحت المنطقة ضائقة اقتصادية، ففكر الأهالى فى إرسال لفيف من أبنائهم إلى نيسابور لكى يتلقوا من دروس الحساب ما يمكّنهم- بعد عودتهم- من المشاركة فى تنظيم الأمور الاقتصادية، وكان القشيري أحد هؤلاء الأبناء. وبدأ القشيري فى نيسابور يتهيأ لهذا اللون من الدراسة، ولكنه ما لبث أن انصرف عنها عند ما اجتذبته مجالس الفقه والكلام والحديث والتفسير والأدب، ولم تبخل نيسابور عليه بزاد، فلقد كانت فى ذلك الوقت تعج بالنشاط الفكرى، وتحفل بكبار الشيوخ أمثال ابن فورك، ومحمد بن أبى بكر الطوسي، وأبى إسحق الاسفرايينى، وقد ظفر القشيري فى كنف هؤلاء الأئمة برعاية خاصة حينما أتيح له الاتصال بهم، وأتيح لهم معرفته عن قرب، ووضح لهم فيه حسن الاستعداد، والدأب، واستقامة الخلق. ولم يكن القشيري يضيع فترة ما بعد الدرس هباء، بل كان ينكب على القراءة والاستذكار وكان شديد الولع بالعلوم العقلية، وبخاصة تلك التي تتناول المسائل التي طالما اشتجر الخلاف حولها بين الأشاعرة وأهل الاعتزال، واستوعب فى هذه الفترة معظم ما صنّف الباقلاني. وجاء يوم سأل فيه الإمام الاسفرايينى تلميذه القشيري- حين وجده لا يكتب كما يكتب سائر الطلاب: أما علمت يا بنى أن هذا العلم لا يحصل بالسماع؟ (ولكن القشيري أعاد عليه كل ما سمعه، وقرره أحسن تقرير، من غير إخلال بشىء فتعجّب منه وأكرمه، وقال له ما كنت أدرى يا بنى أنك بلغت هذا المحل، فلست تحتاج إلى درس يكفيك أن تطالع مصنفاتى، وتنظر فى طريقتى، وإن أشكل عليك شىء طالعتنى به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ففعل ذلك، وجمع بين طريقة الاسفرايينى وطريقة ابن فورك) طبقات الشافعية للسبكى ج 3 ص 243 وما بعدها. وبينما كان القشيري منصرفا بكل همته إلى هذا اللون من الدراسة، دائب الاتصال بهذا الطراز من الشيوخ ساقه القدر ذات يوم إلى مجلس من لون آخر يتصدره شيخ من طراز آخر. استمع القشيري إلى أبى على الدقاق وهو يعظ على طريقة الصوفية ويتحدث فى الرياضات والمجاهدات، والأحوال والمكشوفات، والأذواق والمواجيد، والمعارف العليا التي تنثال من الحق على عباده الذين اصطفاهم، وإذا بالرجل والحديث يستوليان عليه، ويملكان فيه كل ذرة، وإذا القشيري يحادث نفسه صامتا: إنى لهذا خلقت! وعند ما كان يتهيأ ليغشى ما اعتاد من مجالس كانت أقدامه تسوقه نحو الدقاق ومجلسه فكان أول من يجلس وآخر من ينهض. ولمحه الشيخ، ورأى فيه إصغاء ملفتا للنظر، فقربه منه، وحباه بعطفه. وذات يوم تقدم الطالب- فى استحياء- من شيخه، فشكا إليه أمرا حزبه إنه لا يستطيع أن يجمع بين المواظبة على ما اعتاد من مجالس وبين مجلس الدقاق، وهو يؤثر أن ينصرف بكل همته وعزيمته إلى علم القلوب، وابتسم الشيخ للشاب، وتطلع إلى وجهه، وربت على كتفه قائلا: - إنما ينبغى لك أولا أن تتقن دراستك بقدر طاقتك! ومضى الشاب الطموح يجمع بين الدراستين، وساعده ذلك على أن يتكون تكوينا عقليا ووجدانيا فى مرحلة من أدق مراحل العمر، كما ساعده على أن يتجنّب كثيرا من المشاكل النفسية التي تلم بأمثاله نتيجة الاغتراب عن بلده، ونتيجة الملل. وأعجب الدقاق بمثابرته وطموحه واستقامته وتواضعه (فاختاره لكريمته فاطمة مؤثرا إياه على سائر أقربائها الذين تقدموا لخطبتها) ، وفيات الأعيان ج 2 ص 375. وهكذا توثقت الصلة بين الشيخ والشاب، وصار الدقاق رائدة وملهمه الذي أعانه على مواجهة مشكلات الحياة، وبصّره بآفات النفس وأدوائها، وكشف له عن الكثير من الخفايا والدقائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فكان هذا الاتصال عاملا جديدا من عوامل الاستقرار النفسي، وبداية لمرحلة جديدة من النضج الفكرى، لأنه أتاح له أن يجد فى صهره شيخا ورائدا وصديقا، وسهّل عليه أن يهرع إليه يستنصحه إزاء كل مسألة تعرض له أو أمر ينبهم عليه، فلم يقع تحت تأثير بلبلة، ولم يخضع لأزمة، ولم تتجاذبه ضغوط أو صراعات. كل ذلك ترك أثره فى شخصيته، فلسنا نجد فى مؤلفاته اضطرابا أو جموحا أو غموضا، ولسنا نشعر فيما وراء السطور بعقدة من العقد، ولسنا نحس بميل إلى ابتداع، إنما نجد أنفسنا أمام شخصية سويّة، يتميز الخط الفكرى لها بالاستقامة والاعتدال، والوضوح والصدق، والإخلاص والبذل. ولعلّ أبسط دليل على وفاء القشيري لشيخه أنك لو تصفحت «رسالته» لما غاب اسم الدقاق عن عينك، وهو يذكر اسمه دائما مقرونا بالتكريم والترحم، ويكفيك أن تقرأ هذه الفقرة لتوضح لك أولا شيئا عن مسلك القشيري خلال حياته العلمية وتوضح لك ثانيا مدى ما ينبغى أن تكون عليه علاقة المريد بشيخه، فهذه وتلك تصوّر ما نرمى إليه من بعيد عن كشف جوانب فى سيرة الرجل الذي تقدّم لك كتابه. يقول القشيري: «لم أدخل على الأستاذ أبى على- رحمه الله- فى وقت بدايتى إلا صائما، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت، كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر حتى لو غرز فىّ إبرة مثلا لعلّى كنت لا أحس بها. ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة فكلما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتى، وغير مرة رأيت منه هذا عيانا، وكنت أفكر فى نفسى كثيرا إنه لو بعث الله عزّ وجلّ فى وقتى رسولا إلى الخلق هل يمكننى أن أزيد فى حشمته على قلبى فوق ما كان منه رحمه الله تعالى؟ فكان لا يتصور لى أن ذلك ممكن، ولا أذكر أنّى فى طول اختلافي إلى مجلسه ثم كونى معه بعد حصول الوصلة أن جرى فى قلبى أو خطر ببالي عليه قط اعتراض إلى أن خرج- رحمه الله تعالى- من الدنيا) الرسالة ص 147. وليس استطرادا أن نذكر لك كلمة موجزة عن رأى عبد الرءوف المناوى فى الدقاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لأن هذه الكلمة على إيجازها لا تكشف لك عن سمات الدقاق وحسب إنما هى سمات، القشيري ذاته فى أدق التفاصيل. يقول المناوى «هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى الشافعي، كان لسان وقته وإمام عصره، فارها فى العلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدى الطريقة، سرّىّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفال والحصرى وغيرهما، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدّت إليه الرّحال فى ذلك، ثم أخذ فى العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النصرآباذي، قال ابن شهبه: وزاد عليه حالا ومقاما ... وقد أخذ عنه القشيري صاحب «الرسالة» وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة 104 هـ كلام المناوى بعد أن أخذ يضرب أمثلته لأقواله المنثورة والمنظومة [الكواكب الدرية فى تراجم الصوفية ترجمة الدقاق] . أمّا فى مجال الصداقة فلعلّ أوثق من نعرف اتصالا به صديقه أبو عبد الرحمن السلمى وصديقه أبو المعالي الجويني إمام الحرمين. وترجع أهمية السّلمى فى حياة القشيري إلى أنه غزير الإنتاج فى العلوم الصوفية، وأن القشيري استفاد من علمه، وآية ذلك أنك تجد السلمى فى «الرسالة» حلقة اتصال بارزة فى العديد من الأسانيد والأخبار التي عليها يعتمد القشيري موصولة بالدارقطنى والسّراج والنصرآباذي وغيرهم، ولكن الأهم من ذلك- فى تقديرنا- أن القشيري استفاد من السّلمى فائدة أبعد أثرا، ذلك أنه تجنّب التورط فى المزالق التي أدّت بصديقه إلى أن يتّهم وأن يكون موضع نقد معاصريه ومن جاء بعده، وقد نوّهنا بشىء من ذلك عند كلامنا عن «حقائقه» . أمّا الجويني فقد كان- كالقشيرى- شافعيا من حيث المذهب الفقهي، أشعريا من حيث العقيدة الكلامية، وقد تعرّض- كالقشيرى- لآلام المحنة التي اكتوى بنارها الأشاعرة، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، وهاجر البلاد وجاور الحرمين، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد انجلاء الغمّة. وإذا كان السّلمى صديقا أقرب إلى الأستاذ فإن الجويني كان صديقا أقرب إلى التلميذ، فقد استفاد من علم القشيري، فإذا تذكرنا أن الجويني أستاذ الغزالي أمكن أن نقول إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 القشيري موصول بالغزالي لا بطريق المصنفات التي خلّفها وحسب بل بطريق السّند الذي يمثله الجويني. وفى مجال الحياة العملية نجد القشيري يضطلع بأعمال تتفق واستعداده وثقافته، فقد اشتغل بالتدريس فى مسجد المطرز وهو فى الثلاثين من عمره ويتضح ذلك من هذا النص: «كنت فى ابتداء وصلتي بالاستاذ أبى علىّ- رضى الله عنه- عقد لى المجلس فى مسجد المطرز، فاستأذنته وقتا للخروج إلى «نسا» ، فكنت أمشى معه يوما فى طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عنّى فى مجالسى أيام غيبتى .... إلخ» الرسالة ص 116. وإلى جوار ذلك كان القشيري يعكف على التأليف دون انقطاع فانتهى من التفسير الكبير المعروف (بالتيسير في التفسير) قبل عام 410 هـ، ومن اللطائف عام 434، ومن الرسالة عام 437 واستمر يمارس هذا النشاط فى دأب لا يعرف الكلال حتى وصلت كتبه إلى خمسة وعشرين كتابا أو نحوها، ومن أهمها إلى جوار ما سبق: ترتيب السلوك، والتحبير فى التذكير، والأربعون حديثا، وشكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، واستفادات المرادات، والقصيدة الصوفية، والتوحيد النبوي، واللّمع، والفصول، والفتوّة، ونحو القلوب الصغير، والكبير، والمقامات الثلاثة، وفتوى، والمعراج. ولم يطبع من هذه الكتب إلا النذر اليسير، وفى النية أن نقوم- بعون من الله- بإخراج ما وقع لنا منها خلال رحلات طويلة عديدة، حتى يزداد الناس علما به وتقديرا له. ولم يسلم القشيري خلال حياته من المحن والآلام، وربّما كانت أشدها جميعا ما حدث له إبّان حكم السلطان طغرل ووزيره اللعين الكندري. كان السلطان طغرل سنيا حنفيا، ووزيره أبو نصر الكندري معتزليا رافضيا، خبيث العقيدة، ذا آراء مسرفة فى التشبيه وخلق الأفعال، والقدر، وكان متعصبا فى ذلك أشد التعصب. وفى هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذّة لها فى أوساط العامة والخاصة نفوذ كبير، ومحبة فائقة، ذلكم هو الأستاذ أبو سهل بن الموفق أحد رجال الطبقة الرابعة الشافعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وكان كثير المال جوادا، وكان مرموقا بالوزارة، وداره مجتمع العلماء، وملتقى الأئمة، ونظرا لما عرف عنه من تعلّق بالمذهب الأشعري، وذود عنه، وسعى حثيث لنشره فقد ألهب ذلك حقد الكندري، خاصة وقد كان يخشى أن يقع اختيار السلطان عليه للوزارة من دونه، فمضى يلفق- لدى السلطان- عنه التهم. ولم يكتف بذلك بل لجأ إلى حيلة دنيئة حين حصل من السلطان على تفويض بسبّ المبتدعة على المنابر، فلم يجد السلطان فى ذلك بأسا، فوافق عليه، ولكن الكندري استغل هذه الموافقة فأقحم اسم أبى الحسن الأشعري ضمن المبتدعة الواجب سبّهم، وكل من كان يرفض الانصياع لذلك من الوعاظ والخطباء يفصل من عمله، ويطرد من البلاد، فنجم عن ذلك شر خطير، وفتنة كبرى امتد شررهما إلى سائر المشرق، وبات الأشاعرة فى حزن مقيم. وفى وسط هذه المحنة، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيري وإمام الحرمين والرئيس الفراتي وأبى سهل الموفق، ونفيهم، ومنعهم من المحافل، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتي وعلى القشيري وأخذوا يجرونهما فى الطرقات، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهكم والاستخفاف حتى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر. أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان، واتجه إلى الحجاز، وهناك جاور، وأمّا أبو سهل. فقد كان لحسن الحظ غائبا فى بعض النواحي. وبقي السجينان الجليلان فى المحبس، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما، ولكن كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أن جهاز الحكم لن يهدأ له قرار، وأن الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق. فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالا عظيما، حتى لقد خصص الخليفة العباسي- القائم بأمر الله- له مجلسا خاصا فى مسجد قصره، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه، ويكرمه، ويحظى ببركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقد وصف الخطيب البغدادي (صاحب تاريخ بغداد) مقدار إعجاب الناس بالقشيري، وكان هو نفسه أحد تلاميذه حيث يقول (حدّثنا وكتبنا عنه وكان ثقة) . (تاريخ بغداد ج 10 ص 83) . وذهب القشيري الحج، وهناك التقى بصديقه الجويني وبعدد كبير من الأئمة الذين شردتهم المحنة طوال سنوات عديدة، فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم، واستقر رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة حتى يتم الاتفاق على مبدأ ثابت يسرى عليهم جميعا، ولم يكن ذلك الذي وقع عليه اختيار الجمع غير عبد الكريم القشيري. فصعد المنبر، وظل يتكلم، وهم يجدون لكلامه وقعا مؤثرا على قلوبهم وعقولهم، ثم مرّت لحظات صمت، بعدها شخص القشيري ببصره إلى السماء ضارعا ثم أطرق، والناس من حوله يتابعون أمره، ويتفرّسون ملامحه ... ثم قبض على لحيته وصاح بصوت عال: «يا أهل خراسان.. بلادكم بلادكم، إن الكندري غريمكم يقطّع الآن إربا إربا، وإنى أشاهده الساعة وقد تمزّقت أعضاؤه ثم أنشد: عميد الملك ساعدك الليالى ... على ما شئت من درك المعالي فلم يك منك شىء غير أمر ... بلعن المسلمين على التوالي فقابلك البلاء بما تلاقى ... فذق ما تستحق من الوبال (تبيين كذب المفترى لابن عساكر ليدن ص 93) ويقول السبكى فى طبقاته: (وضبط التاريخ فكان ذلك اليوم بعينه وتلك الساعة بعينها قد أمر السلطان بأن يقطع الكندري إربا إربا. وأن يرسل عضو منه إلى كل مكان) السبكى فى «طبقات الشافعية» ج 2 ص 272. وهكذا عاد القشيري بعد هذه السنوات العشر الثّقال (من 445 إلى 455) إلى بلاده، وهى وإن كانت أقسى فترات عمره، وأشدها آلاما إلا أنها كانت حافلة بالتجارب، وأعانته على زيادة خبرته بالحياة والأحياء، وساعدت على توثيق الصلة بينه وبين الأوساط العلمية والأدبية خارج المشرق، ودفعته إلى أن يصنّف العديد من المصنفات المتصلة بالمذهب الأشعري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وبخاصة كتابه الجليل القدر «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة» ، وهى قبل كل شىء وبعد كل شىء آية ثباته على مبدئه، وأنه خليق أن يتصدّر المفكرين الأحرار فى جيله. وجاء السلطان ألب أرسلان خلفا لعمه طغرل، وبمجىء أرسلان ووزيره الهمام الفذ نظام الملك استقبل العالم الإسلامى كله والأشاعرة بوجه خاص والقشيري بوجه أخص عهدا زاهرا آمنا، وعاد القشيري إلى مدينته الحبيبة نيسابور حيث قضى بها بقية عمره، وقضى بها عشر سنوات (كان فيها مرفها محترما، ومطاعا معظما، وأكثر صفوه فى آخر أيامه التي شاهدناه فيها آخرا، وازداد من يقرأ عليه كتبه وتصانيفه والأحاديث المسموعة له، وما يؤول إليه من نصرة المذهب حتى بلغ المنتمون إليه آلافا، فأملوا تذكيره وتصانيفه أطراف) «تاريخ نيسابور لعبد الغافر الفارسي حفيد القشيري» . وكان نظام الملك أحد تلاميذه والمقربين إليه، وأعاد الوزير- بفضل توجيه القشيري- للأشاعرة وللزهاد وللعلماء كل ما فقدوه إبّان المحنة الأليمة من كرامة وحظوة. أمّا أبناء القشيري فلا نعرف له إلا بنتا واحدة هى أمة الرحيم أم عبد الغافر الفارسي (قاموس الأعلام باللغة الأوزبكية ط اسطانبول سنة 1314 ص 3080) . ونعرف له ستة أبناء كلهم عبادلة وكلهم أئمة، سلكوا مسلك أبيهم وقد ترجم لهم السبكى فى طبقاته كما تحدّث عنهم ابن عساكر وابن خلكان. ولهذا ينبغى أن نتحفظ فى نسبة الأقوال المنسوبة إلى القشيري فى بعض المراجع فقد تكون هذه الأقوال صادرة عن أحد أبنائه فهم جميعا أشاعرة وهم جميعا شافعية وهم جميعا سلكوا طريق الإرادة. لبث القشيري فى نيسابور فى أخريات حياته لم يكد يبرحها إلا لزيارة أقاربه فى البلاد المجاورة مثل نسا وأبيورد، ولكنه كان يعود مسرعا إلى نيسابور بعد كل زيارة. وقبل أن تبزغ شمس السادس عشر من ربيع الآخر من عام 465 هـ، كانت روحه الطاهرة قد عادت إلى بارئها. فوورى جثمانه إلى جوار صهره وشيخه وملهمه وصديقه أبى على الدقاق فى مقبرة خاصة بالأسرة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر يزورها الناس للتبرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 من خلال هذه السيرة التي حاولنا إيجازها نستطيع أن ندرك أهمية الكتاب الذي نقدم له. فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم- كما يدعى ابن الجوزي غفر الله له. والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه. فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل. ثم هو شافعى أشعرى، وهو سنى متحفظ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف، لا يأخذ- وهو يستخرج إشارة من العبارة- إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله فقد كان رائده دائما نصرة الحق، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب، وتارة بدعوى الفناء المغرق، ونحو ذلك من الأباطيل. والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه، وتكون علما على تقواه، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ليؤدى الفرائض الواجبة عليه ثم يعود إلى حالة الجمع مرة أخرى، ويكون فى كل أحواله مصرّفا بإرادة مولاه. كذلك فإن من كان صادقا فى بدايته ووسيلته وغايته كان محفوظا- من قبل الحق- فى كل كلمة ينطق بها أو كل حركة تصدر عنه، فإذا نطق نطق بالله، وإذا تحرّك تحرّك بالله. ومثل هذا العبد لا ينتظر منه- وهو فى يد الله على هذا النحو- أن يكون غريب الأقوال أو غريب الأفعال. فالصدق هو عمدة الأمر فى هذا السبيل- كما يرى هذا الإمام الجليل. ثالثا: ننتقل بعد ذلك إلى العامل الثالث فى أهمية إخراج هذا الكتاب، وهو فى هذه المرة يعود إلى النسخة أو النسختين اللتين نعتمد عليهما فى التحقيق. النسخ الكاملة من «اللطائف» نادرة فهى حسبما تقول تذكرة النوادر لا تزيد على خمس إحداها فى خزانة بانكى پور مكتوبة فى القرن التاسع، والثانية فى المكتبة الحبيبية تاريخ كتابتها عام 844 وهى ناقصة من أولها، والثالثة فى الخزانة الآصفية بخط قديم جدا، والرابعة فى مكتبة الجامعة العثمانية بحيدرآباد مكتوبة بخطوط مختلفة سنة 726 والخامسة فى مكتبة محمد باشا باسطنبول. غير أننا نعتقد أن هناك عددا أكبر من النسخ يزيد عما ذكرت التذكرة وأنها منبثة فى أنحاء متفرقة من العالم، ونرجح أن النسخ الكاملة نادرة جدا كما يشير بروكلمان. وإنه لمن دواعى التوفيق أن يتاح لنا أن نحصل- لأول مرة- على الكتاب كاملا، فقد وجدنا فى مدينة طشقند عاصمة جمهوريات أوزبكستان السوفيتية فى المركز الديني لمسلمى آسيا الوسطى وقازاخستان نسخة شبه كاملة تحت رقم 1302 تفسير تبدأ بمقدمة بقلم القشيري- وهى على جانب كبير من الأهمية- لأنها تكشف عن منهجه فى الدراسة، ثم بعدها الفاتحة والبقرة و .... حتى سورة قريش، ومعنى ذلك أنها تنقص فقط سور الماعون والكوثر والكافرون والنصر والمسد والإخلاص والفلق والناس. وهذه السور القصيرة موجودة فى النسخة الأخرى التي عندنا فى مصر ورقمها 266 تفسير (أنظر فهرس الخزانة التيمورية ط تفسير ص 230) والتي تبدأ بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ... ) فى سورة الأنبياء وقد قمنا بنسخ هذه المخطوطة، كما قمنا بالتقاط صورة بالميكروفيلم للنسخة الطشقندية ثم أجرينا تصويرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وتكبيرها بحيث تسهل قراءتها وكانت النسختان المادة الأساسية التي اعتمدنا عليها أثناء إعداد الدكتوراه عند كلامنا عن القشيري المفسّر. النسختان إذا تتكاملان، ويصبح هذا السفر النفيس كاملا، ويقع فى نحو ألف ومائتين صفحة، اخترنا أن نقسمها إلى أربعة أجزاء تصدر متلاحقة فى مدى عام أو عامين حسبما تساعدنا الظروف ويرزقنا الله العافية. وصف عام للنسخة السوفيتية تبلغ أوراقها 597 ورقة، والأرقام التي كتبها الناسخ مطموسة فى كثير من الأحيان ولذا حرصنا عند تكبير الميكروفيلم والتصوير والطبع أن نرقمها نحن من خلف حتى لا تضطرب الأمور عند القراءة والدراسة. وعلى الورقة الأولى توجد تعليقة مكتبة الإدارة الدينية هكذا: تفسير أبو القاسم القشيري 200- صو ا 1302- II 35 أما الورقة الثانية فيبدو أنها كانت خالية فملأها أحد القراء بأحاديث وشواهد شعرية وكتابة باللغة الفارسية. ثم تبدأ مقدمة الكتاب بقلم القشيري منذ الورقة الثالثة. وقد وقع خطأ فى ترقيم الصفحات، فبينما نجد الحديث متصلا غير منقطع بعد الورقة 214 نجد رقم الورقة التالية هو 225 بدلا من 215، وهناك خطأ آخر ربما حدث قبل تغليف الكتاب: فالأوراق من 394 إلى 401 كلها موجودة عقب الورقة 431 دون أن يحدث خلل أو سقوط، ومعنى هذا أن الكتاب رغم هذا- كامل لم يضع منه شىء. كذلك يقع تفسير أواخر طه وأوائل الأنبياء- خطأ- ضمن تفسير الفرقان. وقد صححنا هذا الوضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ونظرا لعدم اكتمال النسخة من آخرها- كما قلنا من قبل- فلقد كنا نخشى أن يغيب عنّا التذييل الذي يذكر فيه الناسخ اسم وتاريخ انتهائه من عمله كما جرت العادة، ولكن لحسن الحظ وجدناه قد قسّم الكتاب قسمين كبيرين ينتهى القسم الأول بنهاية تفسير سورة الكهف ورقة 378، وعندها كتب هذه العبارة باللغة الفارسية المختلفة بالعربية: (تمّ بعون الله وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ شهر شوال سنة 1224) . ومن هذه العبارة يتضح أن الناسخ غير عربى، وأنه ربما كان فارسيا أو أفغانيا أو أوزبكيا أو أذربيجانيا، فكثرة من سكان أفغانستان وأزبكستان وأذربيجان يعتبرون الفارسية لغة اتصالهم بالعلوم الإسلامية حتى اليوم. وقد نجم عن كون الناسخ فارسيا جنسا أو لغة أن كتابته ومراعاته للإملاء لم تكونا جيدتين، وكان علينا أن نقرأ الكتاب قراءة متفحصة لنحاول أن نحدد الطريقة التي اتبعها، لأنها- بما فيها من خطأ أحيانا أو خروج على المألوف فى الرسم أحيانا أخرى- هى التي جرى عليها عند نقله من النسخة الأخرى التي يحتمل أنها تجرى على هذا النحو، وربما كان الناسخ ينقل على نحو يكون مفهوما لديه، وميسور القراءة له وحده. وهو لا يهتم بضبط الكلمات، ولا بترقيم العبارات فليس هناك ضبط أو فاصلة أو علامات استفهام أو أقواس أو علامات تعجب أو نحو ذلك. وقد وقع الناسخ فى أخطاء عديدة أثناء النسخ، وربّما كان مسئولا عن ذلك أو يحتمل أن النسخة التي نقل عنها بهذا الوصف. وهامش النسخة وبخاصة فى القسم الأول من الكتاب حافلة بالتعليقات، بعضها مكتوب بالفارسية قصد منها شرح المفردات وترجمتها. وهناك عناوين جزئية مكتوبة باللغة العربية بخط حسن تشير إلى موضوعات متنوعة ربما قصد بعض القراء إلى أن يجمعها ليستفيد منها، وليحدد موقف المصنّف إزاءها مثل (الروح- حقوق الوالدين- الدعاء- النّفس ... إلخ) . وعند ما كانت تسقط بعض الكلمات أو العبارات من الناسخ أثناء النقل كان يستدرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فيضع علامة مميزة على آخر كلمة فى المتن بدأ بعدها السقوط ويضع العلامة نفسها فى الهامش فوق الكلمة أو العبارة الساقطة، فإذا تكرر السقوط فى الصفحة الواحدة ميّز كل موضع وكل مستدرك بعلامة مباينة. كذلك فإنه كان يضع علامة خاصة عند ما يعيد كتابة كلمة أو عبارة أو سطر بدون داع حتى يلفت نظر القارئ إلى ما وقع فيه من سهو. ولم يحدث أن وضع الناسخ ترجمة فارسية لكلمة داخل المتن بل كان يكتب الترجمة أسفل نظيرها، اللهم إلا فى حالة واحدة داخل شاهد شعرى: آن كه شاد شود در عطا دادن ومعناها: أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء. ونستبعد أن القشيري يفعل ذلك، فعلى الرغم من إتقانه للغة الفارسية إلا أنه حرص فيما نعرف له من مصنفات أن يكتب بالعربية خالصة. ويبدو أن النسخة أتيح لها أن تراجع ذات مرة، فهناك تصحيحات مختلفة فى رسم الكتابة موجودة فى الهامش فى أماكن مقابلة لموضع التصحيح فى المتن. ومن أمثلة ذلك ما جاء فى الورقة 350 أول سورة الإسراء (وتوحّد بعلو قعونه) تصحح فى المراجعة (وتوحّد بعلو نعوته) . وفى الورقة 361 (لبلاء أو شدة يقاليها) تصحح فى الهامش (لبلاء أو شدة يقاسيها) . وفى الورقة 372 جاء فى سياق وصف الدنيا (نعمها مشوقة بنقمتها تصحح فى المراجعة (نعمها مشوبة بنقمها) . وقد كنا نحكّم الدقة عند الاستفادة من هذه المراجعة لأننا نفترض أنها قد تكون نوعا من الاجتهاد الشخصي وليست تصويبا على نسخه أفضل. بقي شىء هام جدا، وهو توضيح موقفنا من أخطاء الناسخ، ويمكن أن نقول إننا اتخذنا منها ثلاثة مواقف. (ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكّدا ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (ب) موقفا فيه الخطأ شبه مؤكد وعند ذلك نكتب فى المتن ما نراه صوابا دون أن نترك الأمر على عواهنه بل نثبت فى الهامش ما جاء فى النسخة، موضحين أسباب رفضنا لما كتبه الناسخ حتى نضع أمام القارئ صورة أمينة لما نقوم به من عمل، وكان المفروض أن نكتب كل ما كتب الناسخ فى المتن وأن نصوّب ما نراه فى الهامش ولكن هذه الأخطاء كثيرة جدا بحيث تعوّق القراءة، وتشق على الدارس. (ح) موقفا فيه خطأ الناسخ محتمل، وعند ذلك ننقل عن الناسخ ما كتب فى المتن، ونشير إلى موقفنا إزاءه فى الهامش قائلين (ونرجح كذا ... أو لا نستبعد أنها فى الأصل كذا) تاركين الرأى للقارئ والدارس فى أن يختارا ما يريانه أقرب إلى الصواب. أمّا المشتبهات فنضع مكانها نقطا بين أقواس ونشير إليها فى الهامش، وليس لنا فيها حيلة إلا إذا ظهرت لنا نسخة من الكتاب أكثر وضوحا. وإذا تطلب السياق كلمة أو حرفا ليتماسك ويتضح وضعناها من عندنا بين قوسين مشيرين إليها فى الهامش. وتجب ملاحظة أننا لا نقحم أنفسنا فى تكملة أو ترجيح إلا بناء على معرفة بأسلوب القشيري الذي ترجع معاشرتنا له إلى سنوات تزيد على العشر، كذلك كثيرا ما نرجع إلى مصنفاته الأخرى لنتبيّن رأيه فى موضع مناظر ومع كل ذلك فإننا دائما نضع الأمر بين يدى القارئ لنترك له أن يشاركنا، وله أن يقتنع بما نقول أو يتقبل ما نقلناه عن الناسخ بحذافيره حسبما يحلو له، وله أن يرفض. ومع أن الهوامش لا تخلو من تعليقات وشروح وتخريجات للحديث الشريف إلا أننا نشعر أنها مقتضبة وغير كافية، فحرصنا على تزويد الناس بالمتن كان رائدنا الأول فى هذه المرحلة، على أننا نعد- إن أعاننا الله- أن نتمم هذا العمل بشروح أكثر بسطة، فليس «اللطائف» بأقل حاجة إلى الشروح من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين طوال أجيال متعاقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 النسخة المصرية تبدأ هذه النسخة كما قلنا من قبل بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ... ) حتى نهاية الكتاب، وترجع أهمية هذه النسخة إلى أنها أولا أكملت ما ينقص النسخة السوفيتية من قصار السور، كما أنها ساعدت- نظرا لوضوح كتابتها أكثر من زميلتها- على التقليل من المشتبهات، وتتجلى أهمية ذلك فى المجلد الثاني. ولسنا ندرى شيئا عن الناسخ الذي اضطلع بها ولا عن تاريخ نسخها نظرا لأنها ناقصة من بدايتها كما أن الناسخ لم يترك شيئا عنه فى نهايتها، ونرجح أنها أحدث عهدا من النسخة السابقة اعتمادا على رسم الكتابة وقواعد الإملاء. منهج القشيري فى تأليف الكتاب وأهميته صدّر القشيري كتابه بمقدمة مفيدة أوضحت خطته فى تناول الأسلوب القرآنى، وهذه المقدمة لا تلقى ضوءا على الكتاب وحده إنما تقف بنا على المقصود بالتفسير الإشارى للقرآن، وسائله وغاياته. أطلق القشيري على كتابه اسم «لطائف الإشارات» وإذا فالتسمية التي زعمها صاحب كتاب (تاريخ أدبيات در ايران) ج 2 ص 257 ط ثالثة سنة 1339 غير صحيحة حيث يقول: «لطائف الإشارات فى حقائق العبارات» . ومن المقدمة نفهم أن هذا اللون من التفسير يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ- مفردة أو مركبة- دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية، وإنما ينظر إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي، وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم- بفضل من الله- العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر. وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل إذ لا يحظى به إلا من جرّد قلبه من كل سانحة، وصفّى نفسه من كل كدورة، وتهيأ بكل الهمة لهذه المهمة الجليلة: دراسة كلام الحق جلّ ذكره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وفى ذلك يقول القشيري فى مقدمته: «أكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره لاستبصار ما ضمنه من دقيق إشاراته وخفّى رموزه، بما لوّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم، والحق- سبحانه وتعالى- يلهمهم بما به يكرمهم، فهم به عنه ناطقون، وعن لطائفه مخبرون، وإليه يشيرون، وعنه يفصحون، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون» . ويتضح- بادئ ذى بدء- أنّ هذا اللون من الدراسة يفترق عن سائر ألوان الفكر الإسلامى فى أمور كثيرة، لعلّ أهمها عنصر الاصطفاء من قبل الله، فليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه. فأنت تستطيع أن تكون متكلما أو فيلسوفا أو نحويا أو أديبا إذا توفّرت لذلك، وكان لديك استعداد ملائم، وخصصته بعنايتك، أمّا أن تكون مستنبطا للإشارة من العبارة فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهى. كذلك يمكنك أن تكون عالما فى أي فرع من فروع المعرفة دون أن يصحب ذلك عمل، أمّا أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغى أن تقترن بجهود مضنية فى تصفية النفس والقلب من كل العلائق، وتخليتهما عن كل الشواغل الدنية، وتحليتهما بكل الأوصاف السنيّة. وربما كانت هذه الشروط المتصلة بالاجتباء المسبوق، والعمل المقترن بالعلم من أسباب ندرة ما وصلنا من هذا اللون من التفسير، كما أنها قد تكون أسباب خروج بعض ما يحشر فى نطاقه- زورا أو خطأ- عن التفسير الإشارى السديد. فرق آخر يفرق هذا اللون من التفسير عن غيره أنه لا يعتمد اعتمادا كليا أو مسرفا على العقل، إنما هو يعنى بالأمور العقلية بالقدر الذي يعني به الصوفية بالعقل، ونعني به أن الذهن آلة لتصحيح الإيمان فى مراحل البداية، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا فهناك ملكات أخرى يناط بها حمل هذا العبء، وهى فى مذهب القشيري تتدرج صعودا من القلب إلى الروح إلى السر ثم إلى سر السر أو عين السر. معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النص القرآنى ليس عملية عقلية صرفة إلا فى الحدود التي تضمن عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 افتيات الإشارة على العبارة، فلا تخرج بها عن مألوف ما ينسجم مع الأسلوب العربي سواء من حيث اللغة أو النحو أو الاشتقاق أو الفنون الأدبية، ولا تخرج بها عن الدلالات التي توافق أسباب النزول والأخبار الموثوقة وعلوم الحديث والأصول والفقه، فكأن الإشارة ليست انبعاثا تلقائيا محضا ولكنها مقيدة- منذ البداية- بالكثير من العلوم العقلية والنقلية فما أشبه موقف اللفظة القرآنية فى هذا المجال بموقف من يتهيأ لارتياد الطريق الصوفي فكلاهما يتعرّى عن ظاهره، وكلاهما يخضع لما تتطلبه المعارف العقلية والنقلية من شرائط البداية، وكلاهما يصبح صافيا رائقا يشف درجة بعد درجة كلما زاد الصعود وارتقى القصود.. فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نمو، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحب. قد يقال وأي فرق إذا بين التفسير الإشارى وغيره من التفاسير مادام يعنى بالأمور العقلية والنقلية؟ والجواب على ذلك أنه لا يعنى بهذه الأمور لذاتها، ولا يوقف نفسه داخل أسوارها، ولا يقطع العمر فى حزازاتها وخلافاتها، إنما هى وسيلة فى الابتداء يلجأ إليها المفسر بمقدار ما يسعفه حظه منها لكى يفض الأغلفة الظاهرية. وهذه العناية إن التزمت بذلك صارت وسيلة من وسائل إقناعنا بأن التفسير الإشارى ليس عشوائيا يخب فيه كل من هبّ ودبّ ولكنه خاضع لنواميس وقواعد. ونستطيع بعد ذلك أن نميّز بين تفسير القشيري فى «لطائفه» وبين أولئك الذين ننسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله، أولئك الذين أسرفوا حين حمّلوا النص القرآنى فوق ما يحتمل، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآنى أخضعوا النصّ القرآنىّ لنصرة مذاهبهم، وساروا فى الدروب العقلية حتى جمحوا، وابتعدوا عن الخط الأصيل حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس فى مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال. أمّا عند القشيري فليس هناك مذهب عقلى خبىء، ولا عقيدة باطنية مستورة، كلّ ما عنده من قصد أن يتمّ لقاء كامل بين الشريعة والحقيقة فى ظلال كلمات الله- جل ذكره، لأنه إذا لم يتم هذا اللقاء فى كنف كلام الله فأين يمكن أن يتم؟! وهنا تلتقى هذه المحاولة التي بذلها فى «اللطائف» مع المحاولة التي بذلها فى «الرسالة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فهو منذ الصفحة الأولى فى «رسالته» يحاول أن يعرّف بأن عقيدة الشيوخ «الذين بهم اقتداء» عقيدة سليمة لا تخرج في قليل أو كثير عن عقيدة التوحيد الرائقة الصافية، ثم يسير فى تراجم الشيوخ ليختار لك من أقوالهم وأخبارهم وأفعالهم ما يؤيد ذلك، ثم يبوّب رسالته إلى التوبة والزهد والتوكل والرضا والمحبة ... إلخ. ولا ينثنى عند استفتاح كل باب عن ذكر آيات من كتاب الله الكريم بعدها أحاديث وأخبار عن الرسول صلوات الله عليه.. لماذا كل ذلك؟ لكى يثبت أن هناك لقاء بين الشريعة والحقيقة، وأنهما وجهان لشىء واحد.. تلك هى الغاية القصوى التي يطمح إليها هذا الإمام الجليل، والتي من أجلها نذر عمره، وخصص جهده، ولم يضن عليها بشىء في استطاعته، ولم يفارقه الطموح إليها فى مصنّف من مصنفاته ... وما أعظمها وما أشرفها من غاية! فإذا كنّا أخرجنا من نطاق التفسير الإشارى هذه التفاسير المنسوبة لبعض المنتسبين للتصوف فأولى أن نخرج من هذه التأويلات الاعتزالية والشيعية والبدعية والإلحادية وغيرها مما تعتمد فى مباحثها على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ذلك لأن قضية الظاهر والباطن استغلت استغلالا سيئا لخدمة الكثير من العقائد الهدّامة، وارتكبت فى حق الظاهر القرآنى جرائم خطيرة حين أريد له أن يؤول لنصرة الأغراض المريضة والدعوات الجامحة، وفى ذلك يقول التفتازانيّ فى شرح العقائد النسفية: «سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفى الشريعة بالكلية» ، ويستدرك التفتازانيّ قائلا: «وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال العرفان ومحض الإيمان» (شرح العقائد النسفية ط الحلبي سنة 132 هـ) . والذي نحمده للقشيرى وينبغى أن نشيد به فى هذا التقديم أنه حرص أشد الحرص على النص القرآنى، وأنه التزم بالنظر إليه نظرة اعتبار وتقديس، وكان عمله أشبه بمن يقبس قطفات من الضوء من مشكاة كبيرة ينير بها الطريق أمام الزهاد والعارفين، دون أن يتورط فى تعسّف أو ينزلق فى درب من دروب الشطط، والسبب الهام الذي يعود إليه هذا المنهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أنه سني حريص على سنيته بقدر ما هو صوفى حريص على صوفيته، فكان عليه أن يرضى أوساط أهل السنة فى الوقت الذي كان عليه أن ينفع الصوفية، وأن يوضح لكلا الطرفين أن الأصول والفروع فى الحالين مستمدة من كتاب الله الكريم. ولقد أعان القشيري فى عمله أنه صنّف قبل «اللطائف» كتابا كاملا فى تفسير القرآن على نحو تقليدى هو «التيسير فى التفسير» - الذي حصلنا على مصورة للجزء الخامس منه من أكاديمية العلوم السوفيتية- ونجده فى «التيسير» يعنى أشد العناية باللغة والاشتقاق والنحو وأسباب النزول والأخبار والقصص. وقد صنّفه قبل أن يلتقى بشيخه الدقاق أي قبل أن يسلك المسلك الصوفي، فأعانه ذلك على أن يفقه العبارة من معظم زواياها المتصلة بالظاهر، حتى إذا بدأ يكتب «اللطائف» كان طريقه إلى الإشارة وإلى فقه الباطن ممهدا، ومناله ميسورا، وآفاقه مفتّحة. سار القشيري فى «اللطائف» على خطة واضحة محددة التزم بها من أول الكتاب إلى آخره، فهو يبدأ بتفسير البسملة كلمة كلمة، وأحيانا حرفا حرفا، والبسملة تتكرر بلفظها فى مفتتح كل سورة، ومع ذلك فإننا نجده يلجأ إلى تفسير كل بسملة على نحو ملفت للنظر إذ هى تختلف وتتنوع ولا تكاد تتشابه، ويزداد إعجابنا بالقشيري كلّما وجدنا تفسير البسملة يتمشى مع السياق العام للسورة كلّها، فالله والرحمن والرحيم لها دلالات خاصة فى سورة القارعة، ولها دلالات أخرى فى سورة النساء ولها دلالات خاصة فى الأنفال وهكذا ... ونستنتج من ذلك عدّة نتائج: أولا: أنه يعتبر البسملة قرآنا وليست كما يقول البعض- شيئا يستفتح به للتبرك، شأن ما نصنع فى بداية أقوالنا وأفعالنا (انظر «المغني» للقاضى عبد الجبار المتوفى سنة 415 هـ ج 11 ط وزارة الثقافة (تراثنا) ص 161) . ثانيا: أنه مادام يعتبر البسملة قرآنا، ومادام يجد لها مقاصد متجددة، فكأنه لا يؤمن بفكرة التكرار فى القرآن، وفى ذلك يقول فى الورقة الثالثة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 اللطائف: «فلمّا أعاد الله- سبحانه وتعالى- هذه الآية- أعنى بسم الله الرّحمن الرّحيم- فى كل سورة، وثبت أنها منها أردنا أن نذكر فى كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة وإشارات غير معادة» . ثالثا: أن لدى القشيري قدرة غير عادية ونفسا طويلا عند استبطان الظاهر، لأننا نجده أمام أربع كلمات تتكرر بلفظها ومعناها من بداية القرآن إلى نهايته، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه سار على هذه السّنّة فى «التيسير» ازداد إعجابنا به وعجبنا له. ومن الخير أن نضرب هنا مثلين لما صنع فى بسملة «اللطائف» لنستوضح مقاصده من هذا الاتجاه. يقول فى بسملة سورة «الحجر» : «سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علة فلا يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب (لاستحقاق) علة. فإن قيل العلة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء فى بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة في زيادة شكل الباء بركة أفضالها بسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال فيها موجود. فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة يرفع من يشاء ويمنع من يشاء» . ويتضح من هذا أن استنباط الإشارة ليس- كما قلنا من قبل- مسألة عشوائية إنما هو خاضع لقواعد وأصول، وإلى تفنيد لمختلف الآراء، ومحاولة للإقناع. وليس هذا فقط.. بل إنك لو تعمقت داخل السورة لأدهشك- كما أدهشنى- أن هناك صلة وثيقة محكمة بين هذا الذي فسرت به البسملة وبين كلام فى داخل السورة عن رفع الخلق بلا علة، وخفضهم بلا علة، وذلك كما ورد فى قصة خلق آدم، وكيف أن الملائكة (كانوا فى حال سترهم لأنهم نظروا إلى القوالب مع أن الاعتبار بالمعاني التي يودعها، فالملائكة استصغروا قدر آدم وحاله وتعجبوا من الأمر لهم بالسجود فكشف لهم شظيّة مما اختصه فسجدوا للأمر وكذا حال من ادّعى الخيرية) أما إبليس فلم يفطن للمشيئة الإلهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 العليا، فسجد الملائكة كلهم أجمعون (بعد ما لاحت لهم المعرفة) وبقي هو على عناده متأبيا أن يسجد لبشر مخلوق من صلصال من حمأ مسنون (لأنه لا يعرف أن مشيئة الله تجرى على غير علة) . وفى سورة براءة- التي نعرف أنها السورة الفريدة فى القرآن الكريم التي تبدأ بدون بسملة نجد الأمر يستوقف نظر القشيري فلا يتركه كى يمردون استنباط إشارة، استمع إليه يقول: «الحقّ- سبحانه- جرّد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء بما يشاء، لا لصنعه سبب، ولا فى أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال إنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- إلا أنه ضعيف، وفى التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا ... » ومثل قوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ... » فهذه كلها مفاتح السور، والبسملة مثبتة فى أوائلها، وهى متضمنة ذكر الكفار. وقد يقال إنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة، وإن تضمنته تلويحا هذه البراءة هنا فى ذكر البراءة من الكفار قطعا فلم تصدر بذلك الرحمة، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرى أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق» . ... ... وبعد أن ينتهى القشيري من بسط مذهبه فى كل بسملة على هذا النحو الطريف الممتع يبدأ فى تفسير السورة آية آية، ولم يتخلّ عن آية إلا فى مواضع نادرة، بل ربما تكون الآية طويلة نسبيا ومع ذلك لا يتركها دون إشارة حتى ولو كانت سريعة مقتضبة «على سبيل الإقلال خشية الملال» كما يقول فى مقدمته. ولا بد أن القارئ يتوقع أن تسوق إليه موقف القشيري من الحروف المقطعة التي تلى البسملة فى عديد من السور نظرا لما دار حول هذه الحروف من جدل كثير، ونظرا لأنها لبعدها عن مألوف الكلام العادي أقرب ما تكون إلى الرموز وبمعنى آخر أقرب ما تكون إلى الإشارات أي أدخل فى عمل القشيري فى «لطائف الإشارات» . وربما كان أفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ما يورده هنا قول القشيري فى (الم) التي افتتحت بها سورة البقرة لأنها كانت أول حروف مقطعة يقابلها أثناء عمله. يقول: «هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم. ولكل كتاب سر، وسرّ الله فى القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم أنها مفاتيح أسمائه فالألف من اسم «الله» واللام يدل على اسم «اللطيف» ، والميم يدل على اسم «المجيد» و «الملك» . وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه، وقيل إنها أسماء السور، وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلّى الله عليه وسلّم فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد (ص) . والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط، وسائر الحروف يتصل بها إلا أحرف يسيرة، فلينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة لاحتياج الخلق بجملتهم إليه واستغنائه عن الجميع. ويقال «1» يتذكر العبد المخلص من حالة الألف تقدّس الحق- سبحانه وتعالى- عن التخصص ذلك أن سائر الحروف لها محل من الحلق والشفة واللسان إلى غيرها من المخارج، غير الألف فإنها هويته لا تضاف إلى محل. ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه. ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين الجانب، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. وقد اختص كل حرف بصفة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالمرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوي، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير   (1) عند ما يقول القشيري «ويقال ... » فليس معنى ذلك دائما أن يورد بعدئذ رأيا لغيره فربما- وهذا هو الغالب- أنه يقصد إلى توضيح وجهة نظره من زوايا مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مركبة على سنّة الأحباب فى ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبى من هذه القصة، قال شاعرهم: قلت لها قفى قالت قاف ولم يقل وقفت سترا عن الرقيب، ومراعاة لقلب الحبيب، وهكذا تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم: قال لى مولاى ما هذا الدنف ... قلت تهوانى قال: لام ألف ... ... ويمضى القشيري بعد ذلك فيستخرج للصوفية إشارات ثمينة مما يصادفه فى الآية من حكم تشريعى يتصل بالقتال والغنيمة والأسر والكيل والميزان والدين والشهادة ونحو ذلك أو كلام فى العبادات كالصوم والصلاة والحج والزكاة أو ما يعود بالآية إلى أسباب نزولها والأخبار والقصص التي رويت من حولها، أو ما تحتوى من مظاهر قدرة المولى- جل وعلا- فى خلق الإنسان والكون. وينبغى ألا ننتظر من القشيري إسهابا فى الأحكام الفقهية والقواعد التعبدية والأسانيد ونحو ذلك فما لهذا ألّف كتابه، ولا يصح للقارئ أن يتوقع منه ذلك فهناك تفاسير مخصوصة وضعت للوفاء بهذه الأمور، إنما قصد القشيري إلى استمداد شىء نافع للصوفية يتدعم به رأى من آرائهم أو عمل من أعمالهم، فهذا هو مقصوده، وتلك مراميه، ونحن من أجل ذلك نقول بلا تحفظ إن «لطائف الإشارات» يمثل تمثيلا صادقا مذهب القشيري فى التصوف أكثر مما تمثله «الرسالة» فهو يغنى عنها وهى لا تغنى عنه. وعلينا الآن أن نسوق أمثلة قليلة توضح موقف القشيري فى تلك الأمور حتى يعرف القارئ منذ البداية أي نوع من التفسير ذلك الذي نضعه بين يديه. ففيما يختص بالأحكام التشريعية نراه مثلا عند الآية الكريمة «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» يقول: الغنيمة ما يحصل عليه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند الجهاد والقتال. ولمّا كان الجهاد قسمين: جهاد الظاهر مع الكفّار وجهاد الباطن مع النفس والشيطان، وكما أن للجهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأصغر غنيمة عند الظفر كذلك للجهاد الأكبر غنيمة وهو أن يملك نفسه التي كانت فى يد عدوّيه: الهوى والشيطان، وبعد أن كانت ظواهره مقرا للأعمال الذميمة وباطنه مستقرّا للأحوال الدنيئة يصير محلّ الهوى مسكن الرضا، ومقرّ الشهوات والمنى محلّا لما يرد عليه من مطالبات المولى، وتصير النّفس مستلبة من إصرار الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والروح منزوعة من أيدى العلاقات، والسرّ مصونا من الملاحظات. وكما أنّ من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول وهو الخمس فما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب لا من كرائم العقبى ولا من ثمرات التقريب ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محررا عن رقّ كل نصيب، خالصا لله بالله، يمحو ما سوى الله» . ونلفت نظر القارئ إلى ما ورد فى هذا النص من ترتيب الملكات الباطنة للإنسان من أسفل إلى أعلى، وهى: النفس ثم القلب ثم الروح ثم السر، ولكل منها وظيفة ولكل وظيفة غاية، كما أن لكلّ منها آفات ولكن لكل علاج ... والكلام فى ذلك كله موزع فى الكتاب حسب السياق الذي توحى به آيات الكتاب الكريم. والقشيري مشكور أعظم الشكر حين التزم بهذا الترتيب، ولم يتخلّ عنه لا فى اللطائف وحده بل فى كل ما بين أيدينا من مصنفاته، حتى صار له مذهب واضح السمات بارز القسمات فى المعراج الروحي، وتفصيل ذلك موضح فى كتابنا عن «مذهبه فى التصوف» الذي هو القسم الأول من بحثنا للدكتوراه. ويطابق القشيري بين ما يحدث من نسخ لبعض الأحكام وبين ما يحدث من نسخ فى السلوك الصوفي حيث يقول عند قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ ... » «حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع، ولكنه نسخ بعده. والنسخ هو الإزالة، ومعنى النسخ فى سلوك المريدين أنهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظاهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر» . أما فيما يختص بالعبادات فإننا نلحظ أن القشيري يغتنم كل فرصة كى يوضح ضرورة التزام العبد بأدائها مهما أوغل فى الفناء عن نفسه، فليس ثمة عذر لسقوطها عنه أو إعفائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 منها، كذلك نراه يهتم اهتماما ملحوظا بالحث على التغلغل فى بواطنها، ومعرفة جواهرها، فهى ليست رسوما ظاهرية يؤديها البدن وحسب ولكنها ذات مقاصد بعيدة. فاستقبال القبلة عند الصلاة له عند القشيري إشارة: (لتكن القبلة مقصود نفسك، وسبحانه مقصود مشهود قلبك لا تعلّق قلبك بأحجار وآثار، وأفرد قلبك لى) وعند قوله تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: «إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيه، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى، ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية، وأفضل الحج الشجّ والعجّ فالشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها، ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الالتجاء والوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف القلوب الأسامى والصفات (أسماء الله الحسنى وصفاته) ، وطواف القلوب حول مشاهد العز، والسعى بالأسرار بين صفى كشف الجلال ولطف الجمال، ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيار والمنى والمعارضات بكل وجه» . وتسمع القشيري عند: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... » يقول: «الصوم على ضربين: صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السر عن الملاحظات .... ونهاية الصوم إذا هجم الليل، ولكن من أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحقّ. والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه السلام فالرؤية عائدة على الهلال، وعند أهل التحقيق فالرؤية عائدة إلى الحق فصومهم لله حتى شهودهم، وفطرهم لله، وإقبالهم على الله، والغالب عليهم الله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 هذا عن العبادات أما عن أسباب النزول فينظر إليها القشيري كما ينظر إلى مورد المثل ومضربه، فالآية «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» يقول عندها القشيري: «نزلت حين أمر الله رسوله بقطع بعضها فقالت اليهود: أي فائدة فى هذا؟ أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟ فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفى هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعىّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه: لم؟ لم يفلح، وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر فى قلبه جولان لا يجىء منه شىء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الاعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجرى، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله- بسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء» . وفى قوله تعالى: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» يقول: «نزلت هذه الآية فى أهل رجل من اليمن ترك لهم جنة متمرة، وكان يتصدّق منها للمساكين، فلما ورثه أهله قالوا: لن نفعل فعله، وأقسموا ألا يعطوا شيئا، فأهلك الله جنتهم. وندموا وتابوا» وهذه حال من له بداية حسنة، ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله فى الوقت نشاطا، وتلوح فى باطنه أحوال فإذا بدر منه سوء دعوى، وترك أدبا من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال، ويقع فى فترة، فإذا حصل منه بالعبادات والفرائض إخلال انقلب حاله، وردّ عن الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، وصارت صفوته قسوة، فإن كان له بعد ذلك توبة على ما سلف، وندامة على ما فات من أمره، فقلّما يصل إلى حاله، ولكن لا يبعد أن ينظر إليه الحق بأفضاله، فيقبله بعد ذلك، رعاية لما سلف منه فى البداية من أحواله، فإن الله تعالى رءوف بعباده» . ومن مظاهر القدرة الإلهية فى الكون والحياة والإنسان لا يغيب عن القشيري أن يستمد إشارات مناسبة يوجهها نحو الموضوعات الصوفية فيقول مثلا عند «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» : «مهين أي حقير ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم، فإنه لا جنس من المخلوقات والمخلوقين أشد دعوى من بنى آدم، ومن الواجب أن يتفكر الإنسان فى أصله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 كان نطفة وفى انتهائه إلى جيفة، وفى وسائط حاله كنيف فى قميص، فبالحرىّ ألا يدل ولا يفخر ... ثم صوّره فأحسن صورته فهو قادر على أن يرقيك من الأحوال الخسيسة إلى المنازل الشريفة النفيسة. والإنسان أفضل من الجان لأن الجان من نار، والنار بالماء تنطفىء وتصبح رمادا ولا يجىء منها شىء. أمّا الطين (الإنسان) فإذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه، ولذلك العدو (إبليس) انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة، ولكن آدم عليه السّلام لما اغترّ جبره ماء العناية فقال تعالى: ثم اجتباه ربه» . «خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «رضى الله عنهم ورضوا عنه» خلق الإنسان من طين ولكنه يقول «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» خلق الإنسان من طين ولكن: فكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري وبعد ... فهذه أمثلة سريعة أردنا أن نقدمها للتدليل على المواقف التي يتخذها القشيري فى ظلال القرآن من زوايا مختلفة وفى ظروف متنوعة، ومن مجموع هذه المواقف يتحصل مذهبه فى التصوف فضلا عن مذهبه فى الكلام، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه حاول أن يحل بطريق العلم الصوفي ما عجز المتكلمون عن حلّه، فحين حلّ القلب محلّ العقل ليصعد ويقصد نحو الملأ الأعلى، وأصبح الحقّ مناط الأمل لم يعد هناك معنى لأى حديث فى الجبر والاختيار والحسن والقبيح والثواب والعقاب- على النحو الذي اشتجر من حوله الخلاف بين المتكلمين. الله- فى عرف هذا الصوفي وفى عرف الصوفية الخلّص- مشهود ومحبوب لا معبود فقط، وكلّ كلام عن جبر الحب وعذاب الحب يسمج ويسخف، وهل هناك أجمل من أن يتعذب الإنسان فى حبه حتى يهلك؟ ألا ما أروعها من غاية! وما أجدر من أن يضيع العمر بين فقد ووجد! وما أعظم أن يكون الحقّ خلفا لك عن كل حطام الدنيا وأن تكون مشاهدته بديلا لك عن كل نعيم الجنان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بقيت مسألة هامة لا أحب أن أنهى هذا التقديم دون أن أوضحها، وهى قيمة هذا الكتاب من الناحية الأدبية. والواقع أن المسألة أكثر شمولا وأوسع أبعادا من أن تنصرف إلى «لطائف الإشارات» وحده أو حتى إلى أعمال القشيري كلها، إنها تتصل بقضية أعظم هى الطريقة التي يؤخذ بها الإنتاج الصوفي عموما، فما زلنا حتى الآن نكتفى بدراسة الأعمال الصوفية ضمن الدراسات الفلسفية والعقلية، فالتصوف فى جامعاتنا يدرس فى أقسام الفلسفة بينما لا يدرس فى أقسام اللغة العربية وآدابها، وإذا حدث شىء من ذلك فهو ينتقل إليها بطريق أساتذة الفلسفة. وإنى لأتساءل: إلى متى يظل الحال هكذا؟ إن الوضع مقلوب، فالمشتغلون بالأدب أولى باحتضان التصوف، لأن الإنتاج الصوفي- فى كثير من الأحوال- درر من المنظوم والمنثور، والصوفية أنفسهم قوم يصرحون أن مذهبهم لا يعنى بالعقل إلا فى مراحل البداية من أجل تصحيح الإيمان، أمّا طريقهم بعد ذلك فوثيق الصلة بالقلب والوجدان، فهم بذلك يقتربون من أهل الفن وينأون عن أهل العقل، هم فى حاجة إلى من يتذوق أقوالهم أكثر مما هم فى حاجة إلى من يتفكر فيها، وتجربتهم فى الفناء تدنو من تجربة الإلهام فى الفن، ومصطلحاتهم التي وضعوها لأنفسهم تنم عن بصر نافذ فى الأسلوب العربي والاشتقاق، وهكذا يفرض الإنتاج الصوفي نفسه على الدراسات الأدبية، بينما المشتغلون بهذه الدراسات لا يكادون يحركون ساكنا. وليس بمعقول أن أقنع القارئ بجدوى دراسة «اللطائف» من الناحية الأدبية بواسطة هذه السطور القليلة، فهذا له مكان آخر، إنما قصدت لأثير قضية عامة قد يؤدى الأخذ بها إلى تصحيح كثير من المقاييس التي تتصل بالتصوف وبالأدب على حدّ سواء. وفى تقديرنا أن منهج القشيري فى استخراج الإشارة من العبارة منهج أدبى، لأنه يعتمد على تذوق اللفظة- مفردة ومركبة- تذوقا ينبنى على أصول من اللغة والاشتقاق والإعراب والبلاغة، ثم إن التعبير الذي يفصح به القشيري تعبير أدبى له خصائص الأسلوب الأدبى والصياغة الفنية، ومعنى هذا أنه نظر للقرآن بمنظار أدبى وعبّر عن نظرته بطريقة أدبية، وليس أدخل فى التفسير الأدبى من منهج كهذا، حيث استكمل ناحيتين: أدب المفسّر وأدب المفسّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 حقا إن القرآن كتاب دين وهداية وتشريع وعلم وغير ذلك مما يمكن أن تحج إليه المقاصد الإنسانية تلتمس فيه زادا ينمى المعارف، ويثرى العلوم، ويفتح مغاليق الأمور. ولكنه قبل كل ذلك معجزة فنية بهرت سامعيها أول ما بهرتهم بالبيان، والنظم، والقول، فوجدوا لذلك حلاوة، وعليه طلاوة، وهم أهل لسن وفصاحة، فنحن نعلم أن المعجزة تكون من جنس معجزات المخاطبين ولكنها من حيث الدرجة أعلى قدرا وأصعب دركا وأعزّ منالا. تخرج من هذا إلى أن دراسة إعجاز القرآن إن أغفلت تفسيرا كاللطائف- راعى فيه صاحبه أدب المفسّر وأدب المفسّر- إنما تغفل عن رافد غنى من روافد الدراسات القرآنية. ويمكن أن نضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري عند ما يتصدّى لبعض الجوانب فى الأسلوب القرآنى. فمن اللفظة المفردة تنبعث إيحاءات جميلة مؤثرة تزيد المعنى قوة وتأكيدا كأن يقول عند قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» : اللعب فعل يجرى على غير ترتيب، تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، فوصف المنافق باللعاب تصويرا لتردده وتحيره وشكه فى عقيدته» . والتسبيح عنده مرتبط «بالسباحة فى بحار التوحيد بلا شاطئ، فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيديهم جواهر التفريد، نظموها فى عقود الإيمان ورصعوها فى أطواق الوصلة» . والفجر «انفجار الصبح كما يتفجّر الماء من الصخر» . ومن القصة تنبعث إيحاءات ممتعة فمريم حين خوطبت «وهزّى إليك بجذع النخلة» : كان ذلك الجذع يابسا أخرج الله سبحانه فى الوقت الرّطب الجنىّ، وكان ذلك آية ودلالة على أن الذي قدر على فعل هذا قادر على خلق عيسى عليه السّلام من غير أب، وقد أمرت بهز النخلة اليابسة حينما جاءتها علاقة الولد بعد أن كانت لا تتكلف السعى إذ كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا، أمرت بهز النخلة وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد ليعلم أن العلاقة توجب المشقة والعناء، أمرت بهز النخلة اليابسة وأمكنها ذلك وهى فى حال ضعفها وفى ذلك أوضح دلالة على صدقها ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وإذا ضرب القرآن مثلا بالكلب أو الذبابة أو البعوضة أو التي نقضت غزلها من بعد قوة، فإن هذا التصوير القرآنى الأخاذله على وجدان القشيري الأديب وقع مؤثر، يقول مثلا ( .... وضرب المثل بالبعوضة لأنها إذا جاعت فرّت وطارت، وإذا شبعت تشققت وتلفت، كذلك الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. «وما فوقها» أي الذباب، وجهة الإشارة فى أن للذباب وقاحة حيث يعود عند البلاغ فى الذبّ، والله سبحانه خلق القوة فى الأسد ولكنه خلق فيه النفور من الناس، وخلق الضعف فى الذباب، ولكنه خلق فيه الوقاحة، وتلك حكمة الله) . والمظاهر الكونية فى القرآن مصادر إشارات لا تنتهى وهى من أقوى الوسائل التي استغلّها القشيري لتوضيح حقائق العلم الصوفي فالشمس والقمر، والليل والنهار، والجبال والبحار، والسحب والأمطار .... كلها توحى بمعان كثيرة لتوضيح الفروق الدقيقة بين الطوالع واللوامع واللوائح، وعلم اليقين وحق اليقين، وعلوم الإنسان العقلية والمعارف اللدنية .... إلى آخره. يقول عند «كلا والقمر» : أقمار العلوم إذا أخذ هلالها فى الزيادة بزيادة البراهين فإنها تزداد حتى إذا صارت إلى حد التمام وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، ثم تأخذ علوم البراهين فى النقصان حين تطلع شموس المعرفة، وكما أن القمر كلما قرب من الشمس يزداد نقصانه حتى يصير محاقا كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان بزيادة المعارف كالسراج فى ضوء الشمس) . وتوقف القشيري طويلا عند المواقف النفسية وعند الاستدلالات الوجدانية فى الأسلوب القرآنى فكشف الكثير من أسرار الإعجاز القرآنى كما أبان عن عبقريته فى التذوق الفنى، وليس ذلك غريبا بالنسبة لصوفىّ ذى بصيرة كاشفة، وشاعر له حس دقيق مرهف، وباحث متعمق فى أغوار النفس البشرية، وأديب يحسن التعبير عما يذوق ويجد. نفعنا الله بعلمه وبركته. دكتور ابراهيم بسيونى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 نرمز للنسخة السوفيتية المصوّرة بالحرف (ص) ونرمز للنسخة المصرية بالحرف (م) ونرمز للرسالة القشيرية ط الحلبي سنة 1959 (بالرسالة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 صورة لورقة من النسخة السوفيتية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ربّ يسّر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرح قلوب أوليائه بعرفانه، وأوضح نهج الحق بلائح برهانه، لمن أراد طريقه، وأتاح البصيرة لمن ابتغى تحقيقه، وأنزل الفرقان هدى وتبيانا، على صفيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- معجزة وبيانا، وأودع صدور العلماء معرفته وتأويله، وأكرمهم بعلم قصصه ونزوله، ورزقهم الإيمان بمحكمه ومتشابهه وناسخه، ووعده ووعيده، وأكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأن (واره) لاستبصار ما ضمنّه من دقيق إشاراته، وخفىّ رموزه، بما لوّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصّوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم، والحق سبحانه وتعالى يلهمهم بما به يكرمهم، فهم به عنه ناطقون وعن لطائفه مخبرون «1» وإليه يشيرون، وعنه يفصحون، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون. قال الإمام جمال الإسلام أبو القاسم القشيري رحمه الله: وكتابنا هذا يأتى على ذكر طرف من إشارات القرآن» على لسان أهل المعرفة، إما من معانى مقولهم، أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلا (ل) خشية الملال، مستمدين من الله تعالى عوائد المنّة، متبرئين من الحول والمنّة «3» مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوفقين لأصوب القول والعمل، ملتمسين أن يصلى على سيدنا محمد صلّى الله عليه و (سلّم) ، ليختم لنا بالحسنى بمنّه وأفضاله. وتيسّر الأخذ   (1) وردت فى ص (مخيرون) والسياق لا يتطلبها. (2) ما تحته خط هو تكملة اعتمدنا فى إثباتها هنا على ما جاء فى (تذكرة النوادر) التي اقتبست بضع فقرات رجوعا إلى نسخة أخرى. (3) المنّة بضم الميم القوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فى ابتداء هذا الكتاب فى شهور سنة أربع وثلاثين وأربعمائة «1» ، وعلى الله إتمامه إن شاء الله تعالى عز وجلّ. سورة فاتحة الكتاب هذه السورة بدا (ية) الكتاب، ومفاتحة الأحباب بالخطاب والكتاب منه أجلّ النّعمى، وأكرم الحسنى إذ هى ( ... ) «2» وابتداء وفى معناه قيل. أفديك بل أيام دهرى كلها ... تفدين أياما ( ..... ) سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبى للصبابة معهدا «3» ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم غير مرتقب لهذا الشأن، وما كان هذا الحديث منه على بال، وحينما نزل عليه جبريل صلوات الله عليه وسلامه أخذ فى الفرار، وآثر التباعد لهذا الأمر آوى ( ... ) قائلا: دثرونى دثرونى، زمّلونى زمّلونى، وكان يتحنّث فى حراء، ويخلو هنالك ( .... ) فجأة، وصادفته القصة بغتة كما قيل: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا «4» وكان صلوات الله عليه وسلم رضى بأن يقال له أجير خديجة ولكن (الحق سبحانه وتعالى أراده لأن) «5» يكون سيد الأولين والآخرين حيث قال. «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» ، (رفعه إلى) أشرف المنازل وإن لم يسم إليه بطرف التأميل سنّة منه تعالى وتقدّس ( ... ) إلا عند من تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك ما قصّوا العجب من شأنه ( ... ) يتيم أبى طالب   (1) اعتمدنا في استكمال رقمى الآحاد والعشرات من السنة على (تذكرة النوادر) حيث سقطا فى ص. وبهذا يبطل قول صاحب كشف الظنون (المجلد الثاني ص 1551) بأن القشيري ألف اللطائف قبل عام 410، ويبدو أن الأمر قد التبس على حاجى خليفة فظن تاريخ تأليف «التيسير فى التفسير» هو تاريخ تأليف «اللطائف» . (2) ما بين الأقواس المفرغة ساقط فى ص ومن حسن الحظ أن السقوط الكثير على هذا النحو لا يتكرر بعد الورقتين الأولى والثانية من (ص) . (3) اعتمدنا فى تكملة البيت على هذا النحو على وروده فى (م) كاملا عند تفسير سورة الحديد. (4) الشطر الثاني من البيت ناقص فى (ص) ومكمل فى (م) عند تفسير آية: علم القرآن من سورة الرحمن. (5) زيادة أضفناها ليستقيم المعنى . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 من بين البرية، ولقد كان صلوات الله عليه وسلم فى سابق (علمه) سبحانه وتعالى مقدّما على الكافة من أشكاله وأضرابه، وفى معناه قيل: هذا ( ... ) أطمار ... وكان فى فقر من السيار آثر عندى (بالإكبار) ... من أخى (ومن) جارى وصاحب الدرهم (والدينار) ... فإن صاحب الأمر مع الإكثار «1» ولقد كان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة حميد الشأن، (محمود) الذكر، ممدوح الاسم، أمينا لكل واحد. وكانوا يسمونه محمدا الأمين، ولكن (الكافرين) ( ... ) حالته، بدّلوا اسمه، وحرّفوا وصفه، وهجّنوا ذكره، فواحد كان يقول ساحر وآخر يقول ( ... ) وثالث يقول كاذب، ورابع يقول شاعر: أشاعوا لنا فى الحي أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا وهكذا صفة المحبّ، لا ينفك عن الملام ولكن كما قيل أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمنى اللّوم «2» وماذا عليه من قبيح قالة (من) يقول، (والحق سبحانه يقول) : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» أي استمع إلى ما يقال فيك بحسن الثناء علينا. [فصل] وتسمى هذه السورة أيضا أمّ الكتاب، وأم الشيء أصله، وإمام كل شىء مقدّمه. وهذه السورة لما تشتمل عليه من الأمر بالعبودية، والثناء على الله بجمال الربوبية، ثم «3» كمالها من الفضائل- لا تصح الفرائض إلا بها. وقوله صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه سبحانه وتعالى: «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» يعنى قراءة هذه السورة، فصارت أمّ الكتاب، وأصلا لما تنبنى عليه من لطائف الكرامات وبدائع التقريب والإيجاب.   (1) أضاع البياض الذي فى المصورة كثيرا من ألفاظ هذه الأبيات فحاولنا إضافة بعض الألفاظ. وإن كان وزن الشعر ما زال غير سليم. (2) وردت خطأ فى (ص) : فليسلمنى اللؤم. (3) لا نستبعد أن تكون فى الأصل (تمّ) كمالها ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 قوله جل ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الباء فى «بسم الله» حرف التضمين أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغير من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل- إلا بالحق وجوده، والحق ملكه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وجد من وحّد، وبه جحد من ألحد «1» ، وبه عرف من اعترف، وبه تخلّف من اقترف. وقال «بسم الله» ولم يقل بالله على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم، وللفرق بين هذا وبين القسم عند الآخرين، ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء، ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان، ليكون ورود قوله «الله» على قلب منقّى وسر مصفّى. وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكرون من الباء (بره) «2» بأوليائه ومن السين سره مع أصفيائه ومن الميم منته على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببره عرفوا سرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع بسم الله تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين «3» سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعز وصفه، وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه، فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية أعنى بسم الله الرحمن الرحيم فى كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر فى كل سورة من إشارات هذه الآية «4» كلمات غير مكررة «5» ، وإشارات غير معادة، فلذلك نستقصى القول هاهنا وبه الثقة.   (1) وردت فى ص (اللحد) . (2) سقطت فى ص وأثبتناها لأن ما بعدها يدل عليها. [ ..... ] (3) وردت فى ص (بالسنين) . (4) من هنا ندرك أن القشيري يعتبر البسملة قرآنا خلافا لمن يعدونها من قبيل الاستفتاح والتبرك، فتبدأ بها القراءة كما يفعل فى سائر الأفعال (أنظر المغني للقاضى عبد الجبار ج 11 ط وزارة الثقافة سلسلة تراثنا ص 161) . (5) من هنا ومما نعلم من مذهب القشيري نراه لا يعتقد فى فكرة التكرار فى القرآن لأن التكرار أليق بالمخلوقين ولأسباب أخرى لا محل لها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قوله جل ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام هاهنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق فجميع المحامد لله سبحانه إمّا وصفا وإمّا خلقا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحوله، وحمد الخلق له على إنعامه وطوله، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود (قدرة) «1» القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدى، والكون الصمدى، والبقاء الأزلى، والبهاء الأبدى، والثناء الديمومى، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطول، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد فى ملكوته. تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه! [فصل] علم الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حمد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: «الحمد لله» فانتعشوا بعد الذّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم بكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا: ولوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به فى هذه الحالة فقال: «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . داوود لو سمعت أذناه قالتها ... لما ترنّم بالألحان داوود غنت سعاد بصوتها فتخاذلت ... ألحان داوود من الخجل   (1) هذه كلمة زائدة يمكن الاستغناء عنها، ويرجح ذلك نظم الأسلوب وسياق المعنى، أو ربما كانت (قدمه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [فصل] وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم فى أحوالهم فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعى صفة نفعه ودفعه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» ، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفى غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده. وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القسم، و (فرق بين) «1» من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم: وما الفقر عن أرض العشيرة ساقنا ... ولكننا جئنا بلقياك نسعد وقوم حمدوه مستهلكين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبّرون، ومنه إليه يشيرون، يجرى عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم «2» بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذة بحكم جمع «3» الجمع، كما قالوا: بيان بيان الحق أنت بيانه ... وكل معانى الغيب أنت لسانه قوله جل ذكره: رَبِّ الْعالَمِينَ الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومنشيها، وموجد الرسوم والديار بما فيها. ويدل اسم الرب أيضا على تربية الخلق، فهو مرب نفوس العابدين بالتأييد ومرب قلوب الطالبين بالتسديد، ومرب أرواح العارفين بالتوحيد، وهو مرب الأشباح بوجود النّعم، ومرب الأرواح بشهود الكرم. ويدل اسم الرب أيضا على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته، ومصلح أمور الواجدين   (1) وردت (وفر ... ) ثم بعدها بياض فأكملناها على هذا النحو ليتم المعنى. (2) وردت (وظاهرهم) ولكن السياق يقتضى ما أثبتناه. (3) وردت (جميع الجمع) ولكن الاصطلاح الصوفي هو جمع الجمع وهو درجة فوق الجمع وجمع الجمع هو الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس بما سوى الله (رسالة القشيري ط سنة 1959 ص 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بقديم عنايته، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه، قال قائلهم: مادام عزّك مسعودا طوالعه ... فلا أبالى أعاش الناس أم فقدوا قوله جلّ ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 3] الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهى إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق. وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم فى الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هى (عند قوم فالنعم فى أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هى) «1» نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هى نعمة الأرواح والأسرار. وعلى طريقة من فرّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روّح، والرحيم بما لوّح فالترويح بالمبارّ، والتلويح بالأنوار: والرحمن بكشف تجلّيه والرحيم بلطف تولّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى «2» من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يمنّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية. قوله جل ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) المالك من له الملك، وملك الحق سبحانه وتعالى قدرته على الإبداع، فالملك مبالغة من المالك وهو سبحانه الملك المالك، وله الملك. وكما لا إله إلا هو فلا قادر على الإبداع إلا هو، فهو بإلهيته متوحد، وبملكه متفرد، ملك نفوس العابدين فصرفها فى خدمته، وملك قلوب العارفين فشرّفها بمعرفته، وملك نفوس القاصدين   (1) تكملة فى الهامش استدرك بها الناسخ فأثبتناها فى موضعها. (2) وردت (أسرى) والأصح (أسدى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فتيّمها، وملك قلوب الواجدين فهيّمها. ملك أشباح من عبده فلاطفها بنواله وأفضاله، وملك أرواح من أحبهم ( .... ) «1» فكاشفها بنعت جلاله، ووصف جماله. ملك زمام أرباب التوحيد فصرفهم حيث شاء على ما شاء ووفّقهم حيث شاء على ما شاء كما شاء، ولم يكلهم إليهم لحظة، ولا ملّكهم من أمرهم سنّة ولا خطرة، وكان لهم عنهم، وأفناؤهم له منهم «2» . [فصل] ملك قلوب العابدين إحسانه فطمعوا فى عطائه، وملك قلوب الموحدين سلطانه فقنعوا ببقائه. عرّف أرباب التوحيد أنه مالكهم فسقط عنهم اختيارهم، علموا أن العبد لا ملك له، ومن لا ملك له لا حكم له، ومن لا حكم له لا اختيار له، فلا لهم عن طاعته إعراض ولا على حكمه اعتراض، ولا فى اختياره معارضة، ولا لمخالفته تعرّض، «ويوم الدين» . يوم الجزاء والنشر، ويوم الحساب والحشر- الحق سبحانه وتعالى يجزى كلّا بما يريد، فمن بين مقبول يوم الحشر بفضله سبحانه وتعالى لا بفعلهم، ومن بين مردود بحكمه سبحانه وتعالى لا بجرمهم. فأمّا الأعداء فيحاسبهم ثم يعذبهم وأمّا الأولياء فيعاتبهم ثم يقربهم: قوم إذا ظفروا بنا ... جادوا بعتق رقابنا قوله جل ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) معناه نعبدك ونستعين بك. والابتداء بذكر المعبود أتمّ من الابتداء بذكر صفته- التي هى عبادته واستعانته، وهذه الصيغة أجزل فى اللفظ، وأعذب فى السمع. والعبادة الإتيان بغاية ما فى (بابها) «3» من الخضوع، ويكون ذلك بموافقة الأمر، والوقوف حيثما وقف الشرع. والاستعانة طلب الإعانة من الحق. والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمنّة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمنّة، فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد. فى العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه. والعبادة ظاهرها تذلل، وحقيقتها تعزّز وتحمّل: وإذا تذللت الرقاب تقربا ... منّا إليك، فعزّها فى ذلّها   (1) مشتبهة فى ص، وربما كانت (وأحبوه) . (2) (له) هنا معناها لأجله اى أنه أفناهم من أنفسهم لأجله ليبقوا به، وكان الأسلم أن تكون العبارة: وأفناؤهم منهم له ولكن حرص المصنّف على مراعاة الانسجام بين عنهم ومنهم. (3) وردت (بابه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وفى معناه: حين أسلمتني لذال ولام ... ألقيتنى فى عين وزاى «1» [فصل] العبادة نزهة القاصدين «2» ، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قرّة أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه «3» أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: أرحنا بها يا بلال» . ولقد قال مخلوق فى مخلوق: يا قوم ثارى عند أسمائى ... يعرفه السامع والرائي لا تدعنى إلا بيا عبدها ... فإنه أصدق أسمائى والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه، ونزلك بساحة جوده، وتسليمك إلى يد حكمه، فتقصده بأمل فسيح، وتخطو إليه بخطو وسيع، وتأمل فيه برجاء قوى «4» ، وتثق بكرم أزلى، وتتكل على اختيار سابق، وتعتصم بسبب جوده (غير ضعف) «5» . قوله جل ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) الهداية الإرشاد، وأصلها الإمالة، والمهدىّ من عرف الحق سبحانه، وآثر رضاه، وآمن به. والأمر فى هذه الآية مضمر فمعنا اهدنا بنا «6» - والمؤمنون على الهداية فى الحال- فمعنى السؤال الاستدامة والاستزادة. والصراط المستقيم الطريق الحق وهو ما عليه أهل التوحيد. ومعنى اهدنا أي مل بنا إليك، وخذنا لك، وكن علينا دليلنا، ويسّر إليك سبيلنا، وأقم لنا هممنا، واجمع بك همومنا. [فصل] اقطع أسرارنا عن شهود الأغيار، ولوّح فى قلوبنا طوالع الأنوار، وأفرد   (1) وردت و (زار) (2) وردت (القاصرين) [ ..... ] (3) أي وإلى ذلك أشار (4) وردت (قومى) وهى غير مناسبة للمعنى. (5) إما أن تكون زائدة أو ينقصها حرف الجر في فتكون (فى غير ضعف) أو تكون (غير ضعف) (أساس البلاغة ص 563) أي غير متكثر بالأسباب لجلب المال. (6) ويكون المعنى على هذا أقم فينا ما يجعلنا نهتدى به إليك، ولكن نرجح أن يكون قد وقع خطأ من الناسخ وأن الأصل (اهدنا بك) لأن ذلك يتفق مع مذهب القشيري وغيره من الصوفية حيث يعتبرون كل شىء يقع من العبد مرده إلى الحق سبحانه، فلا قدرة للعبد- وحده- على معرفة الله، ولا على الاهتداء إليه، وتدل الدلائل فيما بعد على ذلك مثل قوله (فنجدك بك) . واما أن يكون الأصل (اهد بنا) أي- كما جاء فيما بعد- مل بنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قصودنا إليك عن دنس الآثار، ورقّنا عن منازل الطلب والاستدلال إلى جمع ساحات القرب والوصال. [فصل] حل بيننا وبين مساكنة «1» الأمثال والأشكال، بما تلاطفنا به من وجود الوصال، وتكاشفنا به من شهود الجلال والجمال. [فصل] أرشدنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، ويقع على وجه التوحيد غبار الظنون وحسبان الإعلال. «اهدنا الصراط المستقيم» أي: أزل عنّا ظلمات أحوالنا لنستضىء «2» بأنوار قدسك عن التفيؤ بظلال طلبنا، وارفع عنا ظل جهدنا لنستبصر بنجوم جودك، فنجدك بك. [فصل] اهدنا الصراط المستقيم حتى لا يصحبنا قرين من نزغات الشيطان ووساوسه، ورفيق من خطرات النفوس وهواجسها، أو يصدنا عن الوصول تعريج فى أوطان التقليد، أو يحول بيننا وبين الاستبصار ركون لى معتاد من التلقين، وتستهوينا آفة من نشو أو هوادة، وظن أو عادة، وكلل أو ضعف إرادة، وطمع مال أو استزادة. [فصل] الصراط المستقيم ما عليه من الكتاب والسنة دليل، وليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل. الصراط المستقيم ما شهدت بصحته دلائل التوحيد، ونبهت عليه شواهد التحقيق. الصراط المستقيم ما درج عليه سلف الأمة، ونطقت بصوابه دلائل العبرة. الصراط المستقيم ما باين الحظوظ سالكه، وفارق «3» الحقوق قاصده. الصراط المستقيم ما يفضى بسالكه إلى ساحة التوحيد، ويشهد صاحبه أثر العناية والجود، لئلا يظنّه موجب (ببذل) «4» المجهود.   (1) وردت (ساكنة) والأصح بالميم فقد جاءت كذلك فى مواضع كثيرة أخرى. (2) وردت خطأ (لنصتضىء) . (3) وردت (وفارن) فى ص، والأصح أن تكون بالقاف فالحظوط للعبد والحقوق للحق. (4) وردت (بذل) بدون باء والأقوى فى رأينا أن تكون بالباء وأن نقرأ موجب بفتح الجيم أي مستحق، وبذلك يتضح موقف القشيري من قضية هامة وهى هل يجب على الله أن يثيب المطيع؟ ولا يرى القشيري هذا الوجوب لأنه يربط كل عمل للعبد بالعناية الإلهية لا بالمجهود الإنسانى. وقد صدق الرسول (ص) حين قال: «ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قوله جل ذكره: [سورة الفاتحة (1) : آية 7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) يعنى طريق من أنعمت عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهم الأولياء والأصفياء. ويقال طريق من (أفنيتهم) «1» عنهم، وأقمتهم بك لك، حتى لم يقفوا فى الطريق، ولم تصدهم عنك خفايا المكر. ويقال صراط من أنعمت عليهم بالقيام بحقوقك دون التعريج على استجلاب حظوظهم. ويقال صراط من (طهرتهم) «2» عن آثارهم حتى وصلوا إليك بك. ويقال صراط من أنعمت عليهم حتى تحرروا من مكائد الشيطان، ومغاليط «3» النفوس ومخاييل الظنون، وحسبانات الوصول قبل خمود آثار البشر (ية) . ويقال صراط من أنعمت عليهم بالنظر والاستعانة بك، والتبري من الحول والقوة، وشهود ما سبق لهم من السعادة فى سابق الاختيار، والعلم بتوحيدك فيما تمضيه من المسار والمضار. ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بحفظ الأدب فى أوقات الخدمة، واستشعار نعت الهيبة. ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بأن حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها عند غلبات (بواده) «4» الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم، ولم يخلّوا بشىء من أحكام الشريعة. ويقال صراط الذين أنعمت عليهم حتى لم تطفئ شموس معارفهم أنوار ورعهم ولم يضيّعوا شيئا من أحكام الشرع «5» . ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بالعبودية عند ظهور سلطان الحقيقة. قوله جلّ ذكره: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ   (1) وردت (أقنتهم) فى ص. (2) وردت (ظهرتهم) فى ص. (3) وردت (مغاليظ) فى ص. (4) وردت (بواد) . (5) نلاحظ أن القشيري يلح كثيرا على التزام آداب الشريعة مهما غلبت على العبد سطوة الانمحاء، واستلبه سلطان الفناء، ويحسن هنا أن نشير إلى اصطلاح فى مذهب القشيري وهو الفرق الثاني وهى حالة عزيزة يرد عندها العبد إلى الصحو لكى يؤدى ما يجب عليه من الفرائض فى أوقاتها، ويكون رجوعه لله بالله (انظر الرسالة القشيرية ص 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 المغضوب عليهم الذين صدمتهم هواجم الخذلان «1» ، وأدركتهم مصائب الحرمان، وركبتهم سطوة الرد، وغلبتهم بواده الصد والطرد. ويقال هم الذين لحقهم ذل الهوان، وأصابهم «2» سوء الخسران، فشغلوا فى الحال باجتلاب الحظوظ- وهو فى التحقيق (شقاء) إذ يحسبون أنهم على شىء، وللحق فى شقائهم سر. ويقال هم الذين أنسوا بنفحات التقريب زمانا ثم أظهر الحق سبحانه فى بابهم شانا بدّلوا بالوصول بعادا، وطمعوا فى القرب فلم يجدوا مرادا، أولئك الذين ضلّ سعيهم، وخاب ظنهم. ويقال غير المغضوب عليهم بنسيان التوفيق، والتعامي عن رؤية التأييد. ولا الضالين عن شهود سابق الاختيار، وجريان التصاريف والأقدار. ويقال غير المغضوب عليهم بتضييعهم آداب الخدمة، وتقصيرهم فى أداء شروط الطاعة. ويقال غير المغضوب عليهم هم الذين تقطعوا فى مفاوز الغيبة، وتفرّقت بهم الهموم في أودية وجوه الحسبان. [فصل] ويقول العبد عند قراءة هذه السورة آمين، والتأمين سنّة، ومعناه يا رب افعل واستجب، وكأنه يستدعى بهذه القالة التوفيق للأعمال، والتحقيق للآمال، وتحط رجله بساحات الافتقار، ويناجى حضرة الكرم بلسان الابتهال، ويتوسل (بتبريه) «3» عن الحول والطاقة والمنّة والاستطاعة إلى حضرة الجود. وإن أقوى وسيلة للفقير تعلقه بدوام الاستعانة لتحققه بصدق الاستغاثة. السورة التي تذكر فيها البقرة قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم مشتق من السمو والسّمة، فسبيل من يذكر هذا الاسم أن يتسم بظاهره بأنواع المجاهدات، ويسمو بهمته إلى محالّ المشاهدات. فمن عدم سمة المعاملات على ظاهرة، وفقد   (1) يقول القشيري في الرسالة (ومنهم من تغيرهم البواده وتصرفه الهواجم، ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالا ووقتا.. أولئك هم سادات الوقت) ص 44. [ ..... ] (2) وردت (أحبابهم) . (3) وردت (ببريته) والصواب (بتبريه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 سموّ الهمّة للمواصلات بسرائره لم يجد لطائف الذكر عند قالته، ولا كرائم القرب فى صفاء حالته. [فصل] معنى الله: الذي له الإلهية، والإلهية استحقاق نعوت الجلال. فمعنى بسم الله: باسم من تفرّد بالقوة والقدرة. الرحمن الرحيم من توحّد فى ابتداء الفضل والنصرة. فسماع الإلهية يوجب الهيبة والاصطلام، وسماع الرحمة يوجب القربة والإكرام. وكلّ من لاطفه الحق سبحانه عند سماع هذه الآية ردّه بين صحو ومحو، وبقاء وفناء، فإذا كاشفه بنعت الإلهية أشهده جلاله، فحاله محو. وإذا كاشفه بنعت الرحمة أشهده جماله فحاله صحو: أغيب إذا شهدتك ثم أحيا ... فكم أحيا لديك وكم أبيد قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) هذه الحروف المقطعة فى أوائل السورة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله- عند قوم، ويقولون لكل كتاب سر، وسر الله فى القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم إنها مفاتح أسمائه، فالألف من اسم «الله» ، واللام يدل على اسمه «اللطيف» ، والميم يدل على اسمه «المجيد» و «الملك» . وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه. وقيل إنها أسماء السور. وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام تدل على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلى عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع. ويقال يتذكر العبد المخلص «1» من حالة الألف تقدّس الحق سبحانه وتعالى عن التخصص   (1) وردت في ص (المخلض) وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بالمكان فإن سائر الحروف لها محل من الحلق أو الشفة «1» أو اللسان إلى غيره من المدارج «2» غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل. ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه. ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه فى (مراعاة) حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير مركبة، على سنة الأحباب فى ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبى من القصة- قال شاعرهم: قلت لها قفى لنا قالت قاف لا تحسبى أنّا نسينا لا يخاف ولم يقل وقفت سترا على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل: «قالت قاف» . ويقال تكثر العبارات «3» للعموم والرموز والإشارات للخصوص، أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: ألف ... وقال عليه السّلام: أوتيت جوامع الكلم «4» فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم: قال لى مولاى: ما هذا الدنف؟ قلت: تهوانى؟ قال: لام الف قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 2] ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)   (1) وردت فى ص (الشفق) وهى خطأ من الناسخ. (2) معناها المخارج- كما جاء فى الهامش. (3) وردت فى ص (العبادات) والأصح بالراء لأن القشيري فى مواضع كثيرة يقابل بين العبارة والإشارة. (4) وردت فى ص (القلم) وهى خطأ من الناسخ. وسيأتى تخريج الحديث فى هامش قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قيل ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وقيل إشارة إلى ما تقدم إنزاله من الخطاب، وقيل ذلك الكتاب الذي وعدتك إنزاله عليك يوم الميثاق. لا ريب فيه، فهذا وقت إنزاله. وقيل ذلك الكتاب الذي كتبت فيه الرحمة على نفسى لامتك- لا شك فيه، فتحقق بقولي. وقيل الكتاب الذي هو سابق حكمى، وقديم قضائى لمن حكمت له بالسعادة، أو ختمت عليه بالشقاوة لا شك فيه. وقيل (حكمى الذي أخبرت أن رحمتى سبقت على غضبى لا شك فيه «1» ) . وقيل إشارة إلى ما كتب فى قلوب أوليائه من الإيمان والعرفان، والمحبة والإحسان، وإن كتاب الأحباب عزيز على الأحباب، لا سيما عند فقد اللقاء، وبكتاب الأحباب سلوتهم وأنسهم، وفيه شفاؤهم وروحهم، وفى معناه أنشدوا: وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم وأنشدوا: ورد الكتاب بما أقرّ عيوننا ... وشفى القلوب فنلن غايات المنى وتقاسم الناس المسرة بينهم ... قسما وكان أجلهم حظّا أنا «2» قوله جل ذكره: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بيانا وحجة، وضياء ومحجة، لمن وقاه الحق سبحانه وتعالى من ظلمات الجهل، وبصّره بأنوار العقل، واستخلصه بحقائق الوصل. وهذا الكتاب للأولياء شفاء، وعلى الأعداء عمّى وبلاء. المتّقى من اتقى رؤية تقاه، ولم يستند إلى تقواه، ولم ير نجاته إلا بفضل مولاه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)   (1) ما بين القوسين تكملة استدرك بها الناسخ فأثبتها فى هامش الصفحة. (2) لم يكن الناسخ يظهر اهتماما بأبيات الشعر فوصلتنا رديئة الخط كثيرة الأخطاء فقمنا بتصحيحها بقدر الإمكان حتى تبدو ذات معنى، وذلك استنادا إلى حالة لها اكثر ضبطا إما في مواضع أخرى من هذا الكتاب أو من كتب القشيري الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق، وموجب الأمرين التوفيق. والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد، فى حفظ العهد، ومراعاة الحد. فالمؤمنون هم الذين صدّقوا باعتقادهم ثم الذين صدقوا فى اجتهادهم. وأمّا الغيب فما يعلمه «1» العبد مما خرج عن حد الاضطرار فكل أمر دينى أدركه العبد بضرب استدلال، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غيبيّ. فالرب سبحانه وتعالى غيب. وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر، والثواب والمآب، والحساب والعذاب- غيب. وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم وإشارة اليقين، فأوردهم صدق الاستدلال ساحات الاستبصار، وأوصلهم صائب الاستشهاد إلى مراتب السكون فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعى الريب. ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية، وطلب بخواطر ذكية، وردّ وردع لدواع ردية، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم، وفى معناه أنشدوا: ليلى من وجهك شمس الضحى ... وظلامه فى الناس سارى والناس فى سدف الظلا ... م ونحن فى ضوء النهار وأنشدوا: طلعت شمس من أحبّك ليلا ... فاستضاءت ومالها من غروب إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب «2» ومن آمن بالغيب بشهود الغيب غاب فى شهود الغيب فصار غيبا يغيب. وأمّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة «3» عن شهودها برؤية من يصلّى له «4»   (1) وردت (يعمله) والأرجح أن تكون (يعلمه) حتى تتلاءم مع طبيعة الغيب. (2) وردت (مما لها) ، (وتغيب بالليل) ، (ليت تغيب) وقد صححنا ذلك بما يتلاءم مع الوزن والمعنى (3) وردت (ثم الغيت) وهى خطأ من الناسخ والأصح (الغيبة) كما سنجد فى الهامش التالي. (4) القشيري هنا متأثر بفكرة الواسطي حينما دخل نيسابور وسأل أصحاب أبى عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها. فقال « .... هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها» الرسالة ص 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجرى عليه منه، وهو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم مستقبلة القبلة، وقلوبهم مستغرقة فى حقائق الوصلة: أرانى إذا صلّيت يمّمت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا أصلى فلا أدرى إذا ما قضيتها ... أثنتين صليت الضحى أم ثمانيا؟ وإن أصحاب العموم يجتهدون عند افتتاح الصلاة ليردوا قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون من الفرض، ولكن عن أودية الغفلة ما يرجعون. أما أهل الخصوص فيردون قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون ولكن عن حقائق الوصلة ما يرجعون فشتّان بين غائب يحضر أحكام الشرع ولكن عند أوطان الغفلة، وبين غائب يرجع إلى أحكام الشرع ولكن عند حقائق الوصلة. قوله جل ذكره: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الرزق ما تمكّن الإنسان من الانتفاع به، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمّا نفلا وإما فرضا على موجب تفصيل «1» العلم. وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئا من ميسورهم فينفقون نفوسهم فى آداب العبودية، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية. فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال، فهؤلاء يكتفى منهم عشرين بنصف ومن المائتين بخمس «2» ، وعلى هذا السّنن جميع الأموال يعتبر فيه النّصاب. وأمّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم- لأنفسهم ولحظوظهم- لحظة قامت عليهم القيامة. [فصل] الزاهدون أنفقوا فى طريقة متابعة هواهم، فآثروا رضاء الله على مناهم، والعابدون أنفقوا فى سبيل الله وسعهم وقواهم، فلازموا سرا وعلنا نفوسهم. والمريدون أنفقوا فى سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شىء من دنياهم وعقباهم. والعارفون أنفقوا فى سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرّبهم الحق سبحانه وأجزاهم، وبحكم الإفراد به لقّاهم.   (1) وردت (تفضيل) ولا يرجحها السياق فالمقصود ما يفصله العلم من مقادير زكاة المال. [ ..... ] (2) إشارة إلى ان زكاة الأموال مقدارها ربع العشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 [فصل] الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم. والفقراء أنفقوا من هممهم على منابتهم «1» ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله، فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لحقّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن، ولكنه أعاد ذكر الإيمان هاهنا على جهة التخصيص والتأكيد، وتصديق الواسطة صلّى الله عليه وسلّم فى بعض ما أخبر يوجب تصديقه فى جميع ما أخبر، فإن دلالة صدقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، وكأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون «2» وكأنى بعرش ربى بارزا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أصبت فالزم. وهذا عامر بن عبد القيس يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» . وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) يعنى على بيان   (1) من (أناب) وعند القشيري: التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطتهما، فكل من تاب لخوف عقوبة فهو صاحب توبة ومن تاب طمعا فى الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في الثواب، او رهبة من العقاب فهو صاحب اوبة (الرسالة ص 50) . (2) وردت (وكانى بأهل النار تعاويون) ووردت فى موضع آخر من الكتاب عند تفسير الآية 49 من سورة البقرة (يتعادون) . وبالرجوع إلى مصادر الحديث وجدناه على النحو التالي: «سأل النبي (ص) حارثة فقال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسى عن الدنيا، فأسهرت ليلى، واظمأت نهارى، وكأنى انظر إلى عرش ربى بارزا، وكأنى انظر إلى اهل الجنة يتزاورون، وإلى اهل النار فى النار كيف يتعاوون. فقال له النبي (ص) : عرفت فالزم.» . البزاز بسند ضعيف عن انس، والطبراني فى الكبير من حديث الحارث بن مالك، وسنده ضعيف ايضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 من ربهم ويقين وكشف وتحقيق، وذلك أنه تجلّى لقلوبهم أولا بآياته ثم تجلّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته. وقوم «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بدلائل العقول وضعوها فى موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار. «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الفلاح الظفر بالبغية «1» ، والفوز بالطلبة، ولقد نال القوم البقاء فى مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهى غانمة «2» النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها «3» ، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) من كان فى غطاء وصفه محجوبا عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعى الغفلة أميل، وفى الإصغاء إليها أرغب. كيف لا؟ وهو بكىّ الفرقة موسوم، وفى سجن الغيبة محبوس، وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس لهم من الحق أمان فلمّا لم يؤمنوا لم يؤمنوا. حكم سبق من الله حتم، وقول له فصل، وإن القدرة لا تعارض، ومن زاحم الحق فى القضية «4» كبسته سطوات العزة، وقصمته بواده «5» الحكم. ويقال إن الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده. ويقال إن   (1) وردت فى ص (بالبغتة) وهى خطأ من الناسخ. (2) الغاغة مرعى البهائم. (3) يقول القشيري فى رسالته: إن الهاجس خاص بالنفس والخاطر خاص بالقلب ص 46، 47. (4) القضية هنا معناها القضاء. (5) البواده ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة (الرسالة ص 44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الذي بقي فى ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المبطلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركات الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يصغى إلى داعى الرشاد، كما قيل: وعلى النصوح نصيحتى ... وعلىّ عصيان النصوح ويقال من ضلّ عن شهود المنّة عليه فى سابق القسمة توهّم أن الأمر من حركاته وسكناته فاتّكل على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 7] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) الختم على الشيء يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه، وكذلك حكم الحقّ سبحانه بألا يفارق قلوب أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شىء من البصيرة والهداية. على أسماع قلوبهم غطاء الخذلان، سدّت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان، فوساوس الشيطان وهواجس النفوس شغلتها عن استماع خواطر الحق. وأمّا الخواص فخواطر العلوم وجولان تحقيقات المسائل فى قلوبهم شغلت قلوبهم عن ورود أسرار الحق عليهم بلا واسطة، وإنما ذلك لخاص الخاص، لذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر» «1» فهذا المحدّث مخصوص من الخواص كما أن صاحب العلوم مخصوص من بين العوام. وعلى بصائر الأجانب غشاوة فلا يشهدون لا ببصر العلوم ولا ببصيرة الحقائق، ولهم عذاب عظيم لحسبانهم أنهم على شىء، وغفلتهم عما منوا من المحنة (و ... ) » فى الحال والمال «3» ، فى العاجل فرقته، وفى الآجل حرقته. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 8] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)   (1) للحديث صورة أخرى «إن من أمتى مكلّمين ومحدّثين وإن عمر منهم» . (2) مشتبهة فى ص. (3) والأرجح أنها (فى الحال والمآل) حتى تنسجم مع العاجل والآجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثبتوا على نفاقهم، ودأبوا على أن يلبّسوا على المسلمين، فهتك الله أستارهم بقوله: وما هم بمؤمنين كذا قيل: من تحلى بغير ما هو فيه ... فضح الامتحان ما يدّعيه ولما تجردت أقوالهم عن المعاني كان وبال ما حصلوه منها أكثر من النفع الذي توهموه فيها، لأنه تعالى قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» ولولا نفاقهم لم يزدد عذابهم. ويقال لما عدموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق فى الحال، وقيل: أيها المدعى سليمى هواها ... لست منها ولا قلامة ظفر إنما أنت فى هواها كواو ... ألصقت فى الهجاء ظلما بعمرو قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 9] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه «1» إلى أنفسهم فصاروا فى التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما استخفّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبال فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينهم. ومن كان عالما بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه. والإشارة فى هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لى ربى ومنى وأنا يقع فى وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات «2» لأنه يرى سرابا فيظنه شرابا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوقّاه حسابه. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 10] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) فى قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضا بتوهمهم أنهم نجوا بما لبّسوا   (1) وردت فى ص (عليها) والأصح أن تكون عليه لأن الضمير يعود على الخداع وربما قصد القشيري عودة الضمير على مفهوم، وهو جريمة الخداع. (2) جاء فى رسالة القشيري «التوحيد إسقاط الياءات فلا تقول لى وبي ومنى وإلى» ص 149 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يخلص وجعه إليهم فى المآل. (وفى) الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظّه، وشاب إرادته بهواه (أن) يتقدم فى الإرادة بقدم، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النفس بأخرى، فهو لا مريد صادق ولا عاقل متثبت. ولو أن المنافقين أخلصوا فى عقائدهم لأمنوا «1» فى الآخرة من العقوبة كما أمنوا فى الدنيا من نحو بذل الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة «2» ، كذلك لو صدق المريد فى إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبغية، ولكن حاله كما قيل: فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف ... ولو خلصنا تخلصنا من المحن «3» وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القرب والمناجاة. وأمّا من ركن إلى الدنيا واتّبع الهوى فسكونهم «4» إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة فى علتهم تكون بزيادة حرصهم كلما وجدوا منها شيئا- عجّل لهم العقوبة عليه- يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه. ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتت همومهم ثم تنغّص عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفى معناه قيل: تبدلت فتبدلنا وا حسرتا ... لمن ابتغى عوضا ليسلو فلم يجد «5» والإشارة فى العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هى الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأوا أنفسهم كيف خسروا.   (1) وردت (لآمنوا) وهى خطأ من الناسخ. [ ..... ] (2) وردت (وألزمته) وهى خطأ فى الكتابة. (3) أصلحنا قليلا فى البيت لكى يؤدى معنى، لأن ما فى البيت من اخطاء كتابية تفقده كل قيمة، وترجح أنها (حيف) لا (حنف) وإن كان الحنف معناه الميل إلا أن الحيف وهو الظلم أقرب. (4) ويحتمل ايضا انها فى الأصل (فركونهم) حتى تتلاءم مع (ومن ركن ... ) ، وكلاهما مقبول. (5) وزن البيت غير سليم وقد ورد فيه (وا خسرانا) و (ليلى) ويبدو أن الناسخ قد وقع فى اخطاء أخرى عند النقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) الإشارة منها: أنه إذا دعاهم واعظ فى قلوبهم من خفى خواطرهم إلى ما فيه رشدهم تتبعوا رخص التأويل، ولبّسوا على أنفسهم ما يشهد بقساوة قلوبهم، وحين جحدوا برهان الحق من خواطر قلوبهم نزع الله البركة من أحوالهم، وأبدلهم تصامما عن الحق، وابتلاهم بالاعتراض على الطريقة «1» وسلبهم الإيمان بها. وكما أن المرتد أشد على المسلمين عداوة كذلك من رجع عن الإرادة إلى الدنيا والعادة فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة، وأبعد من أهلها، وفى المثل: من اخترق كدسه «2» تمنى أن يقع بجميع الناس ما أصابه. وإرفاق المرتدين عن طريق الإرادة- عند الصادقين منهم- غير مقبول كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل زكاة ثعلبة. ويقال كفى لصاحب الكذب فضيحة بأن يقال له فى وجهه كذبت، فهم لمّا قالوا إنما نحن مصلحون، أكذبهم الحق سبحانه فقال: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» : إنّا نعلمهم فنفضحهم. قوله عز ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) الإشارة منها أن المنافقين لما دعوا إلى الحق وصفوا المسلمين بالسّفه، وكذلك أصحاب الغنى إذا أمروا بترك الدنيا وصفوا أهل الرشد بالكسل والعجز، ويقولون إن الفقراء ليسوا على شىء، لأنه لا مال لهم ولا جاه ولا راحة ولا عيش، وفى الحقيقة هم الفقراء وهم أصحاب المحنة وقعوا فى الذل مخالفة الذل، ومارسوا الهوان خشية الهوان، شيّدوا القصور ولكن   (1) يقصد القشيري طريقة الصوفية. (2) الكدس بضم الكاف وتسكين الدال: المجتمع من كل شىء كالحب المحصود والتمر والدرام والرمل والجمع اكداس (الوسيط واللسان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 سكنوا القبور، زيّنوا المهد ولكن أدرجوا اللحد، ركضوا فى ميدان الغفلة ولكن عثروا فى أودية الحسرة، وعن قريب سيعلمون، ولكن حين لا ينفعهم علمهم، ولا يغنى عنهم شىء. سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أراد المنافقون أن يجمعوا بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين، فإذا برزوا للمسلمين قالوا نحن معكم، وإذا خلوا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمرين فنفوا عنهما. قال الله تعالى: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» ، وكذلك من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم ذلك، فالضدان لا يجتمعان، و «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» ، وإذا ادلهم الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا، ومن كان له فى كل ناحية خليط، وفى زاوية من قلبه ربيط كان نهبا للطوارق، ينتابه كل قوم، وينزل فى قلبه كل ( .... ) «1» ، فقلبه أبدا خراب، لا يهنأ بعيش، ولا له فى التحقيق رزق من قلبه، قال قائلهم: أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام ولما قال المنافقون إنما نحن مستهزئون قال الله تعالى: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزمّتهم فى أيدى الشهوات استهوتهم فى أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا فى متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين فى طغيانهم يعمهون يطيل مدة «2» هؤلاء فى مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملا، وأسوأ ما كانوا عملا، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا. وتحسين أعمالهم القبيحة فى أعينهم من   (1) مشتبهة فى ص. (2) وربما كانت يطيل (مد) والسياق يقبل كليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة «1» أجلّ مصيبة لهم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء فى أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم: وما ربحت تجارتهم. والذي رضى بالدنيا عن العقبى لفى خسران ظاهر. ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا. وإذا كان المصاب «2» بفوات النعيم مغبونا فالذى مني بالبعاد عن المناجاة وانحاز «3» بقلبه عن مولاه، وبقي فى أسر الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا فى سرّه شهود- فهذا هو المصاب والممتحن. وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خلف عنها ولا بدل منها، ولقد قال بعضهم: كنت السواد لمقلتى ... فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 17] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) هذا مثل ضربه الله سبحانه للمنافقين بمن استوقد نارا «4» فى ابتداء ليلته ثم أطفئت النيران فبقى صاحبها فى الظلمة، كذلك المنافق ظهر عليه شىء من العوافي فى الدنيا بظاهره ثم امتحنوا فى الآخرة بأليم العقوبة، أو لاح شىء من إقرارهم ثم بقوا فى ظلمة إنكارهم. والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة يسلك طريق الإرادة، ويتعنّي مدة، ويقاسى بعد الشدة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية. أورق عوده ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجّل كسوف الفترة على   (1) الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها، والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل، ووقفة المريد شر من فترته (الرسالة ص 199) . (2) وردت (المصايب) فى ص وهى غير ملائمة. (3) وردت (وأنجاز) والأرجح ما اخترنا. (4) وردت (نارى) والأرجح ما اخترنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل. حين قرّ الهوى وقلنا سررنا ... وحسبنا من الفراق أمنّا بعث البين رسله فى خفاء ... فأبادوا من شملنا ما جمعنا وكذلك تحصل الإشارة فى هذه الآية لمن له أدنى شىء من المعاني فيظهر الدعاوى فوق ما هو به، فإذا انقطع عنه ( ... ) «1» ماله من أحواله بقي فى ظلمة دعاواه. وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد- برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكل ويحمل الكلّ. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 18] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) صم عن سماع دواعى الحق بآذان قلوبهم، بكم عن مناجاة الحق بألسنة أسرارهم، عمى عن شهود جريان المقادير بعيون بصائرهم، فهم لا يرجعون عن تماديهم فى تهتكهم، ولا يرتدعون عن انهماكهم فى ضلالتهم. ويقال صم عن السماع بالحق، بكم عن النطق بالحق، وعمى عن مطالعة الخلق بالحق. لم يسبق لهم الحكم بالإقلاع، ولم تساعدهم القسمة بالارتداع. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 19] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) معنى قوله أو لإباحته ضرب مثلهم إمّا بهذا وإما بذلك شبّه القرآن بمطر ينزل من السماء، وشبّه ما فى القرآن من الوعد والوعيد بما فى المطر من الرعد والبرق، وشبه التجاءهم إلى الفرار عند سماع أصوات الرعد. كذلك الإشارة لأصحاب الغفلات إذا طرق أسماعهم وعظ الواعظين، أو لاحت لقلوبهم أنوار السعادة ولو أقلعوا عمّاهم فيه من الغفلة لسعدوا، لكنهم ركنوا إلى التشاغل بآمالهم الكاذبة، وأصروا على طريقتهم الفاسدة، وتعللوا بأعذار واهية،   (1) هنا كلمات زائدة وضع الناسخ عليها علامات مميزة توضح ضرورة الاستغناء عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، ويسعون فى الخطر بأيمانهم «1» : إن الكريم إذا حباك بودّه ... ستر القبيح وأظهر الإحسانا وكذا الملول «2» إذا أراد قطيعة ... ملّ «3» الوصال وقال كان وكانا قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) من تمام مثل المنافقين- كذلك أصحاب الغفلات- إذا حضروا مشاهد الوعظ، أو جنحت «4» قلوبهم إلى الرقة، أو داخلهم شىء من الوهلة تقرب أحوالهم من التوبة، وتقوى رغبتهم فى الإنابة حتى إذا رجعوا إلى تدبرهم، وشاوروا إلى قرنائهم، أشار الأهل والولد عليهم بالعود إلى دنياهم، وبسطوا فيهم لسان النصح، وهدّدوهم بالضعف والعجز، فيضعف قصودهم، وتسقط إرادتهم، وصاروا كما قيل: إذا ارعوى، عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسة وقال: «ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم» يعني سمع المنافقين الظاهر وأبصارهم الظاهرة، كما أصمهم وأعماهم بالسر، فكذلك أرباب الغفلة، والقانعون من الإسلام بالظواهر- فالله تعالى قادر على سلبهم التوفيق فيما يستعملونه من ظاهر الطاعات، كما سلبهم التحقيق فيما يستبطنونه من صفاء الحالات. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 21] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) العبادة موافقة الأمر، وهى استفراغ الطاقة فى مطالبات تحقيق الغيب، ويدخل فيه التوحيد بالقلب، والتجريد بالسر، والتفريد بالقصد، والخضوع بالنفس، والاستسلام للحكم. ويقال اعبدوه بالتجرد عن المحظورات، والتجلد فى أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات   (1) جمع يمين ومعناها هنا اليد. [ ..... ] (2) وردت (الملوك) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت (ملا) وهى خطأ فى النسخ. (4) وردت في ص (جنهت) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بالخشوع والاستكانة، والتجافي عن التعريج فى منازل الكسل والاستهانة. قوله: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» : تقريب الأمر عليهم وتسهيله، ولقد وقفهم بهذه الكلمة- أعنى لعلّ- على حد الخوف والرجاء. وحقيقة التقوى التحرز والوفاء (بالطاعة) «1» عن متوعدات العقاب. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 22] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) تعرّف إليهم بذكر ما منّ به عليهم من خلق السماء لهم سقفا «2» مرفوعا، وإنشاء الأرض لهم فرشا موضوعا، وإخراج النبات لهم بالمطر رزقا مجموعا. ويقال أعتقهم عن منّة الأمثال بما أزاح لهم من العلة فيما لا بدّ منه، فكافيهم السماء لهم غطاء، والأرض وطاء، والمباحات رزقا، والطاعة حرفة، والعبادة شغلا، والذكر مؤنسا، والرب وكيلا- فلا تجعلوا لله أندادا، ولا تعلّقوا قلوبكم بالأغيار فى طلب ما تحتاجون إليه فإن الحق سبحانه وتعالى متوحّد بالإبداع، لا محدث سواه، فإذا توهمتم أن شيئا من الحادثات من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك- فى التحقيق شركا. وقوله عز وجل: «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أن من له حاجة فى نفسه لا يصلح أن ترفع حاجتك إليه. وتعلّق المحتاج بالمحتاج، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد فى الفقر، ولا يزيل هواجم الضر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)   (1) هذه كلمة احتاجها السياق فآضفناها مستفيدين من اقوال القشيري فى موقف مماثل فى الرسالة ص 56 (وحقيقة الاتقاء التحرز ...... ) . (2) وردت (شقفا) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لبّس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه صلوات الله عليه، فتاهوا فى أودية الظنون لما فقدوا نور العناية، فلم يزدد الرسول عليهم إتيانا بالآيات، وإظهارا من المعجزات إلا ازدادوا ريبا على ريب وشكّا على شك، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمى عن الحقيقة قال الله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ، وليبلغ عليهم فى إلزام الحجة عرّفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم، وقدّر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم، واعتضدوا بأشكالهم، واستفرغوا كنه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن. ثم قال فإن لم تفعلوا- وأخبر أنهم قطعا لا يقدرون على ذلك ولا يفعلون فقال: «ولن تفعلوا» ، فكان كما قال- فانظروا لأنفسكم، واحذروا الشّرك الذي يوجب لكم عقوبة النار التي من (سطوتها) «1» بحيث وقودها الناس والحجارة، فإذا كانت تلك النار التي لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها () «2» فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم، وحين أشرفت «3» قلوب المؤمنين على غاية الإشفاق من سماع ذكر النار تداركها بحكم التثبيت فقال: «أعدّت للكافرين، ففى ذلك بشارة للمؤمنين. وهذه سنّة من الحق سبحانه: إذا خوّف أعداءه «4» بشّر مع ذلك أولياءه. وكما أنّ كيد الكافرين يضمحل فى مقابلة معجزات الرسل عليهم السلام فكذلك دعاوى الملبسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين، وأمارة المبطل فى دعواه رجوع الزجر منه إلى القلوب، وعلامة الصادق فى معناه وقوع القهر «5» منه على القلوب. وعزيز من فصلّ وميّز بين رجوع الزجر وبين وقوع القهر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)   (1) وردت بالصاد وعند ذلك يكون الخطأ من الناسخ، وربما كانت فى الأصل (صفتها) ، وقد تخيرنا (سطوتها) لأنها أقرب إلى الشكل الوارد ولتلاؤمها مع المعنى والسياق. (2) هنا كلمة زائدة وضع الناسخ عليها علامة مميزة. (3) وردت بالقاف وهى خطأ فى النسخ. (4) وردت هكذا (اعداويه) وهى خطأ فى النسخ. (5) وردت (التهم) ولكن ما جاء بعدها يثبت خطأ الناسخ، فضلا عن أنها غير ذات معنى هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 هذه البشارة بالجنان تتضمن تعريفا بنعم مؤجلة لعموم المؤمنين على الوصف الذي يشرح بلسان التفسير. ويشير إلى البشارة للخواص بنعم معجّلة مضافة إلى تلك النعم يتيح (ها) الله لهم على التخصيص، فتلك المؤجلة «1» جنان المثوبة وهذه جنان القربة، وتلك رياض النزهة وهذه رياض الزّلفة، بل تلك حدائق الأفضال وهذه حقائق الوصال، وتلك رفع الدرجات وهذه روح المناجاة، وتلك قضية جوده، هذه الاشتعال بوجوده، وتلك راحة الأبشار وهذه نزهة الأسرار، وتلك لطف العطاء للظواهر وهذه كشف الغطاء عن السرائر، وتلك لطف نواله وأفضاله وهذه كشف جماله وجلاله. قوله جل ذكره: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. كما أن أهل الجنة تتجدد «2» عليهم النعم فى كل وقت، فالثانى عندهم- على ما يظنون- كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم- فكذلك أهل الحقائق: أحوالهم فى السرائر أبدا فى الترقي، فإذا رقىّ أحدهم عن محلّه توهّم أن الذي سيلقاه فى هذا النّفس مثل ما تقدم فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم: مازلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحيّر الألباب دون نزوله قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 26] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الاستحياء من الله تعالى بمعنى التّرك، فإذا وصف نفسه بأنه يستحى من شىء فمعناه أنه لا يفعل ذلك وإذا قيل لا يستحى فمعناه لا يبالى بفعل ذلك. والخلق فى التحقيق- بالإضافة إلى وجود الحق- أقلّ من ذرة من الهباء فى الهواء،   (1) وقع الناسخ فى خطأ فكتبها (المعجلة) والسياق يرفضها لأن الإشارة للبعيد بتلك وللقريب بهذه. (2) وردت (يحدد) والسياق برفضها ويقبل (تتجدد) وربما كانت (يجدد) أي الحق سبحانه وتعالى يجدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لأن هذا استهلاك محدود فى محدود. فسيّان- فى قدرته» - العرش والبعوضة، فلا خلق العرش أشق وأعسر، ولا خلق البعوضة أخف عليه وأيسر، فإنه سبحانه متقدّس عن لحوق العسر واليسر. فإذا كان الأمر بذلك الوصف، فلا يستحى أن يضرب بالبعوضة مثلا كما لا يستحى أن يضرب بالعرش- فما دونه- مثلا. وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فرّت «1» وطارت، وإذا شبعت تشققت فتلفت كذلك (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) . وقيل ما فوقها يعنى الذباب، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته، حتى إنه ليعود عند البلاغ فى الذب، ولو كان ذلك فى الأسد لم ينج منه أحد من الخلق، ولكنه لمّا خلق القوة فى الأسد خلق فيه تنافرا من الناس، ولمّا خلق الوقاحة فى الذباب خلق فيه الضعف، تنبيها منه سبحانه على كمال حكمته، ونفاذ قدرته. قوله جل ذكره: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار. وأمّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضرب الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال. قوله جل ذكره: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. هذا الكتاب لقوم شفاء ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» تذكّروا عند ورود الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- قديم عهده، وسابق ودّه فازدادوا بصيرة على بصيرة، ومن رسمه بذلّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة   (1) وردت (فريت) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت (قدرة) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 النبوية إلا جحدا على جحد، وما خفى عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لما تقدم لهم سابق الضلالة. لذلك قال الله تعالى: «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 27] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) الإشارة فيه إلى حال من سلك طريق الإرادة، ثم رجع إلى ما هو عليه أهل العادة، قال بترك نفسه ثم لم يصدق حين عزم الأمر، ونزل من إشارة الحقيقة إلى رخص الشريعة «1» ، وكما أنّ من سلك الطريق بنفسه- مادام يبقى درهم فى كيسه- فغير محمود رجوعه فكذلك من قصد بقلبه- مادام يبقى نفس من روحه- فغير مرضىّ رجوعه: إن الألى ماتوا على دين الهدى ... وجدوا المنية منهلّا معلولا «2» ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: وصل أسباب الحق بقطع أسباب الخلق، ولا يتم وصل ماله إلا بقطع ما لك، فإذا كان الأمر بالعكس كان الحال بالضد. ومما أمر العبد بوصله: حفظه ذمام أهل هذه الطريقة، والإنفاق على تحصيل ذلك بصدق الهمم لا ببذل النّعم، فهممهم على اتصال أسباب هذه الطريقة وانتظام أحوالها موقوفة، وقلوبهم إلى توقع الحراسة من الله تعالى لأهلها مصروفة. وفساد هذه الطريقة فى الأرض: أما من لهم حواشى أحوالهم، وإطراق أمورهم فيتشاغلون عن إرشاد مريد بكلامهم، وإشحاذ قاصد بهممهم وذلك مما لا يرضى به الحق سبحانه منهم. ومن نقض العهد أيضا أن يحيد سرّك لحظة عن شهوده، ومن قطع ما أمرت بوصله   (1) من عناصر المذهب الصوفي عند القشيري إلحاحه الدائم على ألا يلجأ الصوفي إلى الاسترخاص، ذلك لأن الرخصة- وإن كانت متاحة بأمر الشريعة- إلا أنها- أي الشريعة- للعموم، وفيها يؤخذ فى الاعتبار أمر المستضعفين وأصحاب الأشغال والحوائج أما «هؤلاء الطائفة فليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه، فإذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عهده مع الله تعالى» . الرسالة ص 199. (2) وردت (الهوى) وفى موضع آخر من اللطائف (و 165) وردت: (منهلا معسولا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أن يتخلل أوقاتك نفس لحظّك دون القيام بحقه، ومن فسادك فى الأرض ساعة تجرى عليك ولم تره فيها. ألا إن ذلك هو الخسران المبين، والمحنة العظمة، والرزية الكبرى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هذه كلمة تعجيب وتعظيم لما فيه العبد، أي لا ينبغى مع ظهور الآيات أن يجنح إلى الكفر قلبه. ويقال تعرّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته. فقال: «وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» يعنى نطفة، أجزاؤها متساوية، «فَأَحْياكُمْ» : بشرا اختصّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظما، وبعضها بكونه لحما، وبعضها بكونه شعرا، وبعضها بكونه جلدا ... إلى غير ذلك. «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بأن يجعلكم عظاما ورفاتا، «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» بأن يحشركم بعد ما صرتم أمواتا، «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة. ويقال «كُنْتُمْ أَمْواتاً» بجهلكم عنّا، «فَأَحْياكُمْ» بمعرفتكم بنا، «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عن شواهدكم، «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» به بأن يأخذكم عنكم، «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق «1» . ويقال «كُنْتُمْ أَمْواتاً» لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم فى قبضته سبحانه وتعالى. ويقال يحبس عليهم الأحوال فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة- وبيناهم كذلك- إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أثبتهم وأبقاهم، فهم أبدا بين نفى وإثبات، وبين بقاء وفناء، وبين صحو ومحو ... كذلك جرت سنته سبحانه معهم.   (1) وردت (بأجزاء) وهى خطأ قطعا. والمقصود بإجراء الحق هنا هو ما سبق ان نوّهنا به فى هامش سابق عن حالة الفرق الثاني حيث «يرد العبد إلى الصحو عند اوقات أداء الفرائض ليجرى عليه الفرائض فى أوقاتها فيكون رجوعا لله بالله. فالحق مجرى أفعاله وأحواله عليه» الرسالة ص 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) سخّر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شىء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون. لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون. ويقال مهّد لهم سبيل العرفان، ونبّههم إلى ما خصّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» . قوله جل ذكره: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته- على مخلوق- استوى، وأنّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكان بذاته استوى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) هذا ابتداء إظهار سرّه فى آدم وذريته. أمر حتى سلّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحا، وكل واحد من الملائكة يفضى «1» العجب: ما حكم هذه الطينة؟ فلمّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها فى بديع الصنعة وعجيب الحكمة، فحين قال «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ... » ترجّمت الظنون، وتقسّمت القلوب، وتجنّت الأقاويل، وكان كما قيل: وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يقل فى شأن شىء منه ما قال فى حديث آدم حيث قال: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة   (1) وردت فى ص (يقصى) بالقاف والصواب أن تكون (يفضى) بالفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لو كان من المخلوقين. والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إنى خالق عرشا أو جنة أو ملكا، وإنما قال تشريفا وتخصيصا لآدم إنى جاعل فى الأرض خليفة. [فصل] ولم يكن قول الملائكة: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حمل الخطاب على ما يوجب تنزيه الملائكة أولى لأنهم معصومون ... قال تعالى «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ» . ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنّ فى قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم: «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» . ثم إن الحق سبحانه عرّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلا وأقدمه، وآدم كان أكثر علما وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته. ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» ، من غفرانى لهم. ويقال: فى تسبيحهم إظهار فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم «1» ، ومن غفرانه لمعاصى بنى آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غنى عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه. ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم فى محبتنا، وذكاء سرائرهم فى حفظ عهودنا وإن تدنّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف «2» شفيع ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من محبتى لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفى عليهم أسرارى فيهم، وفى معناه أنشدوا: ما حطّك الواشون عن رتبة ... عندى ولا ضرك مغتاب كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- ... عليك عندى بالذي عابوا «3»   (1) نلاحظ هنا تأثر القشيري بفكرة الملامة النيسابورية التي ظهرت فى موطنه، والتي من أصولها عدم إظهار الفعل، لأن فى ذلك ملاحظة واستجلاب، ملاحظة لفعل الإنسان وهو مهما بلغ تافه حقير، واستجلاب لرضاء الناس والاشتهار بينهم، وكلا الأمرين- فى نظر الملامتية- شرك خفى. (2) وردت (بألفى) وبها ينكر الوزن. (3) وردت أخطاء كثيرة فى البيتين مثل (ضربك) ولم (يعلموا علمك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولة قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم فى رتبة وفاقكم وفى عصمة أفعالكم، وفى تجميل تسبيحكم، وهم منكرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماما قويا. ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلى، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوى؟ ويقال لبّستكم طاعتكم ولبستهم رحمتى، فأنتم فى صدار «1» طاعتكم وفى حلّة تقديسكم وتسبيحكم، وهم فى تغمد عفوى وفى ستر رحمتى ألبستهم ثوب كرمى، وجللتهم رداء عفوى. ويقال: إن أسعدتكم عصمتى فلقد أدركتهم رحمتى. وإيصال عصمتى بكم عنده وجودكم وتعلّق رحمتى بهم فى أزلى. ويقال: لئن كان محسنكم عتيق العصمة فإن مجرمهم غريق الرحمة. ويقال: اتكالهم علىّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 31] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) عموم قوله الأسماء يقتضى الاستغراق، واقتران قوله سبحانه بكلها يوجب الشمول والتحقيق، وكما علّمه أسماء المخلوقات كلها- على ما نطق به تفسير ابن عباس وغيره- علّمه أسماء الحق سبحانه، ولكن إنما أظهر لهم «2» محل تخصصه فى علمه أسماء المخلوقات وبذلك المقدار بان رجحانه عليهم، فأما انفراده بمعرفة أسمائه- سبحانه- فذلك سرّ لم يطّلع عليه ملك مقرّب. ومن ليس له رتبة مساواة آدم فى معرفة أسماء المخلوقات فأى طمع فى مداناته فى أسماء الحق، ووقوفه على أسرار الغيب؟ وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يتقضى أن يصحّ (به سجود) «3» الملائكة   (1) الصدار قميص صغير يلى الجسد، ولاحظ مقابلة القشيري بين الصدار للملائكة وبين الثوب والرداء للإنسان لتدرك مقاصده البعيدة. (2) أي للملائكة. (3) وردت فى ص (بسجود) ونرجح أنها كما أثبتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه؟ ما الذي يوجب لمن أكرم به؟ ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين فإنّ الطاعة سمة العبيد ولا تتعداهم، والعلم فى الجملة صفة مدح يجب فى نعت الحق سبحانه واجبا لا يصحّ لغيره، فالذى يكرمه بما يتصف هو سبحانه (بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقا على جنس المخلوقات) «1» . ويقال أكرمه فى السر بما علّمه ثم بيّن تخصيصه يوم الجهر وقدّمه. ويقال قوله: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ» ثم: حرف تراخ ومهلة.. إمّا على آدم فإنه أمهله من الوقت ما تقرر ذلك فى قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذ استخبره عما تحقّق به واستيقنه. وإمّا على الملائكة فقال لهم على وجه الوهلة: «أَنْبِئُونِي» فلمّا لم يتقدم لهم تعريف تحيّروا، ولمّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهارا لعنايته السابقة- سبحانه- بشأنه. وقوله: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيه إشارة إلى أنهم تعرّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه فى قديم تخصيصه. ولمّا علم الحقّ سبحانه تقاصر علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنّ الأمر أمره، والحكم حكمه، فله تكليف المستطيع، ردا على من توهّم أن أحكام الحق سبحانه معلّلة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحسن ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه «2» . قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 32] قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قدّموا الثناء على ذكر ما اعتذروا به، ونزّهوا حقيقة حكمه عن أن يكون يعرض وهم المعترضون «3» ، يعنى لا علم لنا بما سألتنا عنه، ولا يتوجّه عليك لوم فى تكليف العاجز   (1) هكذا جاءت العبارة فى ص وهى لا تخلو من غموض ولكننا آثرنا عدم التدخل فى إصلاحها نظرا لخطورة الموقف الذي تصفه، ونرجح أن الناسخ مخطئ فى نقله. (2) يغمز القشيري هنا بالمعتزلة الذين يقيسون الأفعال الإلهية بمقاييس إنسانية عقلية (ولكنهم نزهوا الله من حيث العقل فأخطأوا ونزهه الصوفية من حيث العلم فأصابوا) الرسالة ص 29. (3) وردت (المعترضين) ، ويعرض هنا مضارع عرض فى الآية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بما علمت أنه غير مستطيع له، إنك أنت العليم الحكيم أي ما تفعله فهو حقّ صدق ليس لأحد عليك حكم، ولا منك سفه وقبح. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 33] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) من آثار العناية بآدم عليه السّلام أنّه لمّا قال للملائكة: «أَنْبِئُونِي» داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم، لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط به علومهم. ولما كان حديث آدم عليه السّلام ردّه فى الإنباء إليهم فقال: «أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» ومخاطبة آدم عليه السلام الملائكة لم يوجب له الاستغراق فى الهيبة. فلما أخبرهم آدم عليه السّلام بأسماء ما تقاصرت عنها علومهم ظهرت فضيلته عليهم فقال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يعنى ما تقاصرت عنه علوم الخلق، وأعلم ما تبدون من الطاعات، وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم عليه السّلام والصلاة. [فصل] ولمّا أراد الحق سبحانه أن ينجّى «1» آدم عصمه، وعلّمه، وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نسى فى الحضرة عهده، وجاوز حدّه، فقال الله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإحسان، والوقت الذي أمضى عليه الحكم ردّه إلى حال النسيان والعصيان، كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجرى وتمضى، ذلّ بحكمه العبيد، وهو فعّال لما يريد. [فصل] ولمّا توهموا حصول تفضيلهم بتسبيحهم وتقديسهم عرّفهم أن بساط العز مقدس عن التجمل بطاعة مطيع أو التدنس بزلة جاحد عنيد، فردّهم إلى السجود لآدم أظهر الغناء عن كل وفاق وخلاف «2» .   (1) وردت (ينجب) وهى بلا ريب خطأ فى النسخ ويمكن أن تكون ينجى آدم- كما أثبتنا- أو ينجو آدم، والأرجح ما اخترناه. [ ..... ] (2) وردت (وخلاق) وهى خطأ فى النسخ، وقد اخترنا ما يلائم السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) السجود لا يكون عبادة لعينه «1» ولكن لموافقة أمره سبحانه، فكأن سجودهم لآدم عبادة لله لأنه كان بأمره، وتعظيما لآدم لأنه أمرهم به تشريفا لشأنه، فكأن ذلك النوع خضوع له ولكن لا يسمى عبادة، لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصحّ لغيره سبحانه. ويقال بيّن أن تقدّسه- سبحانه- بجلاله لا بأفعالهم، وأن التجمّل بتقديسهم وتسبيحهم عائد إليهم، فهو الذي يجل من أجلّه بإجلاله لا بأفعالهم، ويعز من أعزّ قدره سبحانه بإعزازه، جلّ عن إجلال الخلق قدره، وعزّ عن إعزاز الخلق ذكره. قوله تعالى: «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» أبى بقلبه، واستكبر عن السجود بنفسه، وكان من الكافرين فى سابق حكمه وعلمه. ولقد كان إبليس مدة فى دلال طاعته يختال فى صدار موافقته، سلّموا له رتبة التقدم، واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص، فصار أمره كما قيل: وكان سراج الوصل أزهر بيننا ... فهبّت به ريح من البين فانطفا كان يحسب لنفسه استيجاب الخيرية، ويحسب استحقاق الزلفة والخصوصية: فبات بخير والدنى «2» مطمئنة ... وأصبح يوما والزمان تقلبا فلا سالف طاعة نفعه، ولا آنف رجعة رفعه، ولا شفاعة شفيع أدركته، ولا سابق عناية أمسكته. ومن غلبه القضاء لا ينفعه العناء. ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية، فتداركته رحمة أحدية، وأما إبليس فأدركته شقوة أزلية، وغلبته قسمة وقضية. خاب رجاؤه، وضلّ عناؤه.   (1) الضمير عائد على آدم أي ليس السجود لآدم عينه، ويحتمل أنها (لغيره) بدليل قوله فيما بعد (وذلك لا يصح لغيره سبحانه) (2) وردت (والزمان) وقد صححنا البيت طبقا لما ورد فى عيون الأخبار لابن قتيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 35] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) «1» أسكنه الجنة ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة، ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولا، وبالخضرة يبسا، وبالوجود فقدا، وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه- ويقع منه ما يقع. ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدّها لم يقع فى شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم. ولا مكان أفضل من الجنة ولا بشر أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قولة إشارة الحق عليه، ولا غريبة (منه) قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته- ولكنّ القدرة لا تكابر، والحكم لا يعارض. ويقال لما قال له: «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً» كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخلق السكون إلى الخلق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السّلام وحده كان بكل خير وكل عافية، فلمّا جاء الشكل والزوج ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة فحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل: داء قديم فى بنى آدم ... صبوة إنسان بإنسان [فصل] وكلّ ما منع «2» منه ابن آدم توفرت دواعيه إلى الاقتراب منه. فهذا آدم عليه السّلام أبيحت له الجنة بجملتها ونهى عن شجرة واحدة، فليس فى المنقول أنه مدّ يده إلى شىء من جملة ما أبيح، وكان عيل صبره حتى واقع ما نهى عنه- هكذا صفة الخلق. [فصل] وإنما نبّه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها حين قال: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» فإذا أخبر أنه جاعله خليفته فى الأرض كيف يمكن بقاؤه فى الجنة؟   (1) وردت خطأ (فكلا) ، والصحيح (وكلا) البقرة: 35. (2) وردت (امتنع) ثم استدرك الناسخ فصححها على هذا النحو فى الهامش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ويقال أصبح آدم عليه السّلام محمود الملائكة، مسجود الكافة، على رأسه تاج الوصلة، وعلى وسطه نطاق القربة، وفى جيده ( .... ) «1» الزلفة، لا أحد فوقه فى الرتبة، ولا شخص مثله فى الرفعة، يتوالى عليه النداء فى كل لحظة يا آدم يا آدم. فلم يمس حتى نزع عنه لباسه، وسلب استئناسه، والملائكة يدفعونه بعنف أن اخرج بغير مكث: وأمنته فأتاح لى من مأمنى ... مكرا، كذا من يأمن الأحبابا ولمّا تاه آدم عليه السّلام فى مشيته لم يلبث إلا ساعة حتى خرج بألف ألف عتاب، وكان كما قيل: لله درّهم من فتية بكروا ... مثل الملوك وراحوا كالمساكين [فصل] نهاه عن قرب الشجرة بأمره، وألقاه فيما نهاه عنه بقهره، ولبّس عليه ما أخفاه فيه من سرّه. قوله جلّ ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) أزلهما أي حملها على الزّلة، وفى التحقيق: ما صرّفتهما إلا القدرة «2» ، وما كان تقلبهما إلا فى القضية، أخرجهما عما كانا فيه من الرتبة والدرجة جهرا، ولكن ما ازداد- فى حكم الحق سبحانه- شأنهما إلا رفعة وقدرا. قوله جل ذكره: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. أوقع العداوة بينهما وبين الشيطان، ولكن كان سبحانه مع آدم (وحرب وهو معهم محالهم بالظفر «3» ) . [فصل] لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات، فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزه قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» . [فصل] لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره لكان له إمكان فى هداية نفسه،   (1) مشتبهة ولكن يحتمل انها (نضار) فهى قريبة من ذلك فى الرسم. (2) هذا رأى على جانب كبير من الأهمية. (3) هكذا وردت العبارة فى ص وقد أثبتناها كما هى دون تصرف حتى فى رسم الحروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وكيف يكون ذلك؟ والتفرد بالإبداع لكل شىء من خصائص نعته سبحانه. قوله جل ذكره: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. مشهد الأشباح ومألفها أقطار الأرض، ومعهد الأرواح ومرتعها رداء العرش، ولفظ الرداء استعارة وتوسع فكيف يكون للهمم بالحدثان تعلّق، ولصعود القصود إلى الحقائق على الأغيار وقوع. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 37] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) جرت على لسان آدم مع الحق- سبحانه- كلمات، وأسمع الحقّ- سبحانه- آدم كلمات، وأنشدوا: وإذا خفنا من الرقباء عينا ... تكلمت السرائر فى القلوب وأجمل الحقّ سبحانه القول فى ذلك إجمالا ليبقى القصة مستورة، أو ليكون للاحتمال والظنون مساغ، ولما يحتمله الحال من التأويل مطرح «1» . ويحتمل أن تكون كلمات آدم عليه السّلام اعتذارا وتنصلا، وكلمات الحق سبحانه قبولا وتفضلا. وعلى لسان التفسير أن قوله تعالى له: أفرارا منا يا آدم؟ كذلك قوله عليه السلام: ربنا ظلمنا أنفسنا. وقوله: أمخرجى أنت من الجنة؟ فقال: نعم، فقال أتردني إليها؟ فقال: نعم. ويقال حين أمر بخروجه من الجنة جعل ما أسمعه إياه من عزيز خطابه زادا، ليكون له تذكرة وعتادا: وأذكر أيام الحمى ثم انثني على ... على كبدى «2» من خشية أن تقطّعا ومخاطبات الأحباب لا تحتمل الشرح، ولا يحيط الأجانب بها علما، وعلى طريق الإشارة لا على معنى التفسير والتأويل، والحكم على الغيب بأنه كان كذلك وأراد به الحق سبحانه   (1) مطرح أي موضع. (2) وردت على (كبد) . (والأصل فى البيت) (تصدعا) بدلا من (تقطعا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ذلك يحتمل فى حال الأحباب عند المفارقة، وأوقات الوداع أن بقال إذا خرجت من عندى فلا تنس عهدى، وإن تقاصر عنك يوما خبرى فإياك أن تؤثر علىّ غيرى، ومن المحتمل أيضا أن يقال إن فاتنى وصولك فلا يتأخّرنّ عنى رسولك. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 38] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) سوء الأدب على البساط يوجب الرد إلى الباب، فلما أساء آدم عليه السّلام الأدب فى عين القربة قال الله تعالى: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، بعد أن كان لكم فى محل القربة قرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، يستمتعون يسيرا ولكن (فى) آخرهم يعودون إلى الفقر، وأنشدوا: إذا افتقروا عادوا إلى الفقر حسبة «1» ... وإن أيسروا عادوا سراعا إلى الفقر وحين أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض بشّره بأنه يردّه إلى حاله لو جنح بقلبه إلى الرجوع فقال: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) والذين قابلوا النعمة بغير الشكر، وغفلوا عن التصديق والتحقيق فلهم عذاب أليم مؤجلّ، وفراق معجّل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 40] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) حقيقة النعمة على لسان العلماء «2» لذة خالصة عن الشوائب، وما يوجب مثلها فهى أيضا عندهم نعمة، وعند أهل الحقيقة النعمة ما أشهدك المنعم أو ما ذكّرك بالمنعم أو ما أوصلك إلى إلى المنعم أو ما لم يحجبك عن المنعم.   (1) حسبة أي احتسابا- هكذا فى الهامش. (2) واضح أن مقصود القشيري من (لسان العلماء) و (لسان التفسير) هو التفسير العادي، أما (عند أهل الحقيقة) و (الإشارة منه) ونحو ذلك فهو التفسير الصوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وتنقسم إلى نعمة أبشار وظواهر، ونعمة أرواح وسرائر، فالأولى وجوه الراحات والثانية صنوف المشاهدات والمكاشفات. فمن النعم الباطنة عرفان القلوب ومحاب الأرواح ومشاهدات السرائر «1» . [فصل] ويقال أمر بنى إسرائيل بذكر النّعم وأمر أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم بذكر المنعم، وفرق بين من يقال له اذكر نعمتى وبين من يقال له: فاذكرونى أذكركم. قوله جل ذكره: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. عهده- سبحانه- حفظ المعرفة وعهدنا اتصال المغفرة، عهده حفظ محابه وعهدنا لطف ثوابه، عهده حضور الباب وعهدنا جزيل المآب. أوفوا بعهدي بحفظ السر أوف بعهدكم بجميل البر، أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق، أوفوا بعهدي فى ألا تؤثروا علىّ غيرى أوف بعهدكم فى ألا أمنع عنكم لطفى وخيرى، أوفوا بعهدي برعاية ما أثبتّ فيكم من الودائع أوف بعهدكم بما أديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع «2» ، أوفوا بعهدي بحفظ أسرارى أوف بعهدكم بجميل مبارّى، أوفوا بعهدي باستدامة عرفانى أوف بعهدكم فى إدامة إحسانى، أوفوا بعهدي فى القيام بخدمتي أوف بعهدكم فى المنّة عليكم بقبولها منكم، أوفوا بعهدي فى القيام بحسن المجاهدة والمعاملة أوف بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة، أوفوا بعهدي بالتبري عن الحول والمنّة أوف بعهدكم بالإكرام بالطول والمنّة، أوفوا بعهدي بالتفضيل والتوكل أوف بعهدكم بالكفاية والتفضل، أوفوا بعهدي بصدق المحبة أوف بعهدكم بكمال القربة، أوفوا بعهدي اكتفوا منى بي أوف بعهدكم أرضى بكم عنكم، أوفوا بعهدي فى دار الغيبة على بساط الخدمة بشدّ نطاق الطاعة، وبذل الوسع والاستطاعة أوف بعهدكم فى دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأنس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة، أوفوا بعهدي فى المطالبات بترك   (1) نعرف من هذا ان الملكات الباطنة عند القشيري هى فضلا عن النفس التي هى محل المحظورات والمعلولات، والعقل الذي به تصحيح الإيمان فى البداية- القلب وهو مستودع المعرفة والروح وهى مستودع المحبة ثم السر وهو الذي يشاهد الحقائق، وله فوق ذلك ملكة أخرى هى سر السر أو عين السر لا يطلع عليها سوى الحق. (2) اللوامع تسبق الطوالع فى الظهور، والطوالع أبقى وقتا وأقوم سلطانا وأدوم مكثا وأذهب للظلمة وانفى للتهمة (الرسالة ص 43، 44) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الشهوات أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات، أوفوا بعهدي بأن تقولوا أبدا: ربى ربى أوف بعهدكم بأن أقول لكم عبدى عبدى. وإياى فارهبون، أي أفردونى بالخشية لانفرادى بالقدرة على الإيجاد فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا منّة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 41] وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) الإشارة أن يقرن (العبد) إيمانه من حيث البيان بإيمانه من حيث البرهان، وجمهور المؤمنين لهم إيمان برهان بشرط الاستدلال، وخواص المؤمنين لهم إيمان من حيث البيان بحق الإقبال، وأقبل الحق سبحانه عليهم فآمنوا بالله، وآخر أحوالهم الإيمان من حيث العيان، وذلك لخواص الخواص. ولا تكونوا أول كافر به، ولا تسنّوا «1» الكفر سنّة فإن وزر المبتدئ فيما يسنّ أعظم من وزر المقتدى فيما يتابع. «ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا» لا تؤثروا على عظيم حقى خسيس حظّكم. «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ» كثير «2» من يتقى عقوبته وعزيز من يهاب اطلاعه ورؤيته. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 42] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) «3» لا تتوهموا أن يلتئم لكم جمع الضدين، والكون فى حالة واحدة فى محلين «4» ، (فالعبد) إما مبسوط بحق أو مربوط بحظ، وأمّا حصول الأمرين فمحال من الظن. «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» تدنيس، «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» تلبيس، «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أن حق الحق تقديس، وأنشدوا: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله، كيف يلتقيان؟! هى شامية إذا ما استهلت ... وسهيل إذا استهل يمانى!   (1) وردت (ولا تنسوا) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (كثيرا) وهى خطأ حيث يجب الرفع على تقدير (من يتقى عقوبته كثير) . (3) أخطأ الناسخ إذ كتبها. (ولا تلبس) والصحيح ولا تلبسوا (البقرة: 41) . (4) وردت فى (محلى) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 43] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) احفظوا آداب الحضرة فحفظ الآداب أتمّ فى الخدمة من الخدمة، والإشارة فى إيتاء الزكاة إلى زكاة الهمم كما تؤدّى زكاة النّعم، قال قائلهم: كلّ شىء له زكاة تؤدّى ... وزكاة الجمال رحمة مثلى فيفيض من زوائد هممه ولطائف نظره على المتّبعين والمربين بما ينتعشون به و ( ... ) «1» ، «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» : تقتدى بآثار السلف فى الأحوال، وتجتنب سنن الانفراد فإن الكون فى غمار الجمع أسلم من الامتياز من الكافة «2» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 44] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) أتحرّضون الناس على البدار «3» وترضون بالتخلّف؟ ويقال أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنّا؟ أتسرحون الوفود وتقصرون فى الورود «4» ؟ أتنافسون الخلق «5» وتنافرونهم بدقائق الأحوال وترضون بإفلاسكم عن ظواهرها؟ ويقال أتبصرون من الحق مثقال الذّر ومقياس الحبّ وتساهمون لأنفسكم أمثال الرّمال والجبال؟ قال قائلهم: وتبصر فى العين منى القذى ... وفى عينك الجذع لا تبصر؟! ويقال أتسقون بالنّجب «6» ولا تشربون بالنّوب؟   (1) هنا لفظتان مشتبهتان وفيهما شطب. (2) الاشارة وإن كانت لصلاة الجماعة إلا أنها توضح أيضا حرص القشيري على الاهتمام بالإجماع كمصدر من مصادر الشريعة. (3) وردت بالياء وهى خطأ فى النسخ. (4) من ورد الماء أي ذهب ليستسقى. (5) وردت أتنافسون (الحق) وواضح أنها خطا فى النسخ. (6) نجب الأشياء وتجائبها لبابها وخالصها، وربما كانت النخب (بالخاء) ج نخب وهو الشربة العظيمة الوسيط ص 915. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 «وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» ثم تعاندون بخفايا الدعاوى وتجحدون بما شام قلوبكم من فضيحات الخواطر وصريحات الزواجر. «أَفَلا تَعْقِلُونَ» إن ذلك ذميم من الخصال وقبيح من الفعال. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 45] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الصبر فطم النفس عن المألوفات، والصلاة التعرّض لحصول المواصلات، فالصبر يشير إلى هجران الغير، والصلاة تشير إلى دوام الوقوف بحضرة الغيب، وإن الاستعانة بهما لخصلة شديدة إلا على من تجلّى الحق لسرّه فإن فى الخبر المنقول: «إن الله تعالى إذا تجلّى لشىء «1» خشع له» . وإذا تجلّى الحق، خفّ وسهل ما توقّى الخلق لأن التوالي للطاعات يوجب التكليف بموجب مقاساة الكلفة، والتجلي بالمشاهدات- بحكم التحقيق- يوجب تمام الوصلة ودوام الزلفة. ويقال استعينوا بي على الصبر معى، واستعينوا بحفظي لكم على صلاتكم لى، حتى لا تستغرقكم واردات الكشف والهيبة، فلا تقدرون على إقامة الخدمة. وإن تخفيف سطوات الوجود على القلب فى أوان الكشف حتى يقوى «2» العبد على القيام بأحكام الفرق لمنّة عظيمة من الحق «3» . وأقسام الصبر كلها محمودة الصبر فى الله، والصبر لله، والصبر بالله والصبر مع الله إلا صبرا واحدا وهو الصبر عن «4» الله: والصبر يخسن فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم «5» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 46] الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) .   (1) وردت بدون اللام، والأصح بها. (2) وردت حتى (يقول) وهى خطأ فى النسخ. (3) يشير القشيري بذلك إلى الفرق الثاني، ويعتبر أن من علامة قبول العبد عند ربه أن يساعده على الرجوع إلى هذا الفرق حتى يستطيع أداء ما عليه من فريضة (4) الأرجح أنها (على) بدليل ورودها فى البيت الشاهد، كذا في «الرسالة» فى سياق مماثل. [ ..... ] (5) ورد البيت فى الرسالة هكذا (والصبر يجمل) و (فإنه لا يجمل) ص 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الظن يذكر، ويقال المراد به اليقين، وهو الأظهر هاهنا. ويذكر ويراد به الحسبان فمن ظنّ ظن يقين فصاحب وصلة. ومن ظنّ ظن تخمين فصاحب فرقة. وملاقو ربهم، صيغة تصلح لماضى الزمان والحاضر وهم ملاقون ربهم فى المستقبل. ولكن القوم «1» لتحققهم بما يكون من أحكام الغيب صاروا كأن الوعد لهم تقرّر، والغيب لهم حضور. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 47] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) أشهد بنى إسرائيل فضل أنفسهم فقال: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» . وأشهد المسلمين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فضل نفسه فقال: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» «2» . فشتّان بين من مشهوده فضل نفسه، وبين من مشهوده فضل ربه فشهود العبد فضل نفسه يوجب له الشكر وهو خطر الإعجاب، وشهود العبد فضل الحق- الذي هو جلاله فى وصفه وجماله فى استحقاق نعته- يقتضى الثناء وهو يوجب الإيجاب «3» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 48] وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) العوام خوّفهم بأفعاله فقال: «وَاتَّقُوا يَوْماً» «وَاتَّقُوا النَّارَ» . والخواص خوّفهم بصفاته فقال: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» وقال: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ... إلى قوله إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» «4» . وخاص الخاص خوّفهم بنفسه فقال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» .   (1) يقصد الصوفية. (2) سورة يونس آية 58. (3) الإيجاب- الاستحقاق والقبول. (4) يونس آية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والعدل الفداء. ويوم القيامة لا تسمع الشفاعة إلا لمن أمر الحق بالشفاعة له، وأذن فيه، فهو الشفيع الأكبر- على التحقيق- وإن كان لا يطلق عليه لفظ الشفيع لعدم التوقيف «1» . وفى معناه قيل: الحمد لله شكرا ... فكلّ خير لديه صار الحبيب شفيعا ... إلى شفيع إليه والذين أصابتهم نكبة القسمة لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وما لهم من ناصرين، فلا يقبل منهم فداء، ولو افتدوا بملء السموات وملء الأرضين. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) من صبر فى الله على بلاء أعدائه عوّضه الله صحبة أوليائه، وأتاح «2» له جميل عطائه فهؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياءهم، وجعلهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين. «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» : قيل نعمة عظيمة وقيل محنة شديدة. وفى الحقيقة ما كان من الله- فى الظاهر- محنة فهو- فى الحقيقة لمن عرفه- نعمة ومنّة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 50] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) تقاصرت بصائر بنى إسرائيل فأراهم المعجزات عيانا، ونفذت بصائر هذه الأمة فكاشفهم بآياته سرا، وبذلك جرت سنّته سبحانه، وكل من كان أشحذ بصيرة كان الأمر عليه أغمض،   (1) وردت (التوفيق) وهى خطأ فى النسخ، والقشيري- كغيره من الباحثين- يرى أنه لا ينبغى إضافة اسماء وصفات لما ورد فى الحديث المروىّ عن أبى هريرة والذي أبلغها تسعة وتسعين، فلا يصح أن يسمى الله عاقلا ولا ذكيا ونحو ذلك. (2) وردت (بالخاء) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والإشارات معه أوفر، قال صلّى الله عليه وسلّم» : أوتيت جوامع الكلم واختصر لى الكلام اختصارا» «1» . وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر وإغراق آل فرعون- داخلهم ريب فقالوا: إنه لم يغرق «2» حتى قذفهم البحر، فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون. وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وقوة بصائرهم (أن) قال واحد من أفتاء «3» الناس: «كأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون وكأنى أنظر عرش ربى بارزا» «4» فشتّان بين من يعاين فيرتاب مع عيانه، وبين من يسمع فكالعيان حاله من قوة إيمانه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 51] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) شتّان بين أمة وأمة فأمّة موسى عليه السّلام- غاب نبيّهم عليه السّلام أربعين يوما فاتخذوا العجل معبودهم، ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبودا، فقالوا: «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» «5» وأمة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم مضى من وقت نبيّهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحدا يذكر فى وصف معبودهم ما يوجب تشبيها لما أبقوا على حشاشتهم ولو كان فى ذلك ذهاب أرواحهم «6» .   (1) «إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لى الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون» البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى قتادة مرسلا (المنتخب من كنز العمال 4 ص 302) . والتهوك الاضطراب فى القول وأن يكون على غير استقامة. (2) الفعل بالمفرد هنا لأنه عائد على لفظ آل أو على فرعون، ثم تحدث بعد ذلك بالجمع حين أعاده على المعنى (3) إفتاء وفتاء جمع فتّى وهو الشاب من إنسان أو حيوان الوسيط ص 610. (4) خرّجتا هذا الحديث المروي عن حارثة فى هامش سبق. (5) سورة طه آية 88. (6) يغمز القشيري هنا بالمشبهة، فيلحق من يقول بالتشبيه بعيدة العجل، فكلاهما توقح ونسب للالوهية ما ينبغى أن تتنزه عنه. وأهل السنة يرفضون رفضا قاطعا كل ما يشين الذات الإلهية من تصورات مادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ويقال إن موسى- صلوات الله عليه- سلّم أمته إلى أخيه فقال: اخلفني فى قومى، وحين رجع وجدهم وقعوا فى الفتنة، ونبيّنا- صلوات الله عليه- توكّل على الله فلم يشر على أحد فى أمر الأمة وكان يقول فى آخر حاله: الرفيق الأعلى. فانظر كيف تولّى الحق رعاية أمته فى حفظ التوحيد عليهم. لعمرى يضيّعون حدودهم ولكن لا ينقضون «1» توحيدهم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 52] ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) سرعة العفو على عظيم الجرم تدل على حقارة قدر المعفو عنه، يشهد لذلك قوله تعالى (مخاطبا أمهات المسلمين) : «مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» ، هؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال الله تعالى: «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» ، وقال لهذه الأمة (يقصد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم) : «وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 53] وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) فرقان هذه الأمة الذي اختصّوا به نور فى قلوبهم، به يفرّقون بين الحق والباطل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لوابصة: «استفت قلبك» «2» . وقال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «3» . وقال الله تعالى: «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» وذلك الفرقان ميراث ما قدّموه من الإحسان. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 54] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) أي ما أضررتم إلا بأنفسكم فيما ارتكبتم من ذنوبكم، فأمّا الحق سبحانه فعزيز الوصف، لا يعود إلى عزّه من ظلم الظالمين شىء، ومن وافق هواه واتّبع مناه فعجله ما علّق به همّه، وأفرد له قصده.   (1) وردت (ينقصون) بالصاد والأقوى أن تكون بالضاد لأن المقصود هو تمسك أمة محمد (ص) بعدم (نقض) التوحيد. [ ..... ] (2) هكذا رواه أحمد فى مسنده والبخاري فى تاريخه والدارمي فى سننه وحسنه النووي فى رياض الصالحين بلفظ «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون» . (3) الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة والترمذي من حديث أبى سعد والطبراني وابو نعيم عن انس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قوله جل ذكره: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ. الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية. قوله جل ذكره: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. التوبة بقتل النفوس غير ( ... ) «1» إلا أن بنى إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سرا، فأوّل قدم فى القصد إلى الله الخروج عن النفس. [فصل] ولقد توهم الناس أن توبة بنى إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمّا أهل الخصوص من هذه (الأمة) «2» ففى كل لحظة قتل، ولهذا: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء وقتل النفس فى الحقيقة التبري عن حولها وقوتها أو شهود شىء منها، ورد دعواها إليها، وتشويش تدبيرها عليها، وتسليم الأمور إلى الحق- سبحانه- بجملتها، وانسلاخها من اختيارها وإرادتها، وانمحاء آثار البشرية عنها، فأمّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطر له ولا عبرة به. قوله جل ذكره: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. كونه لكم عنكم أتمّ من كونكم لأنفسكم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 55] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) التعرض بمطالعة الذات على غير نعمة إلهية إفصاح بترك الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقوة.   (1) هنا كلمة مشتبهة. (2) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقرونا بملاطفات القربة من علامات الوصلة دلالات السعادة. فلا جرم لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 56] ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) أعادهم إلى حال الإحساس بعد ما استوفتهم سطوات العذاب إملاء لهم بمقتضى الحكم، وإجراء للسنّة فى الصفح عن الجرم، ومن قضايا الكرم إسبال الستر على هنات الخدم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 57] وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) لمّا طرحهم فى متاهات الغربة لم يرض إلا بأن ظلّلهم، وبلبسة الكفايات جلّلهم، وعن تكلف التكسّب أغناهم، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولّاهم فلا شعورهم كانت تطول، ولا أظفارهم كانت تنبت، ولا ثيابهم كانت تتسخ، ولا شعاع الشمس عليهم كان ينبسط. وكذلك سنّته لمن حال بينه وبين اختياره، يكون ما يختاره سبحانه له خيرا مما يختاره لنفسه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 58] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) () «1» بنو إسرائيل على تضييع ما كانوا يؤمرون، حتى قالة أوصوا بحفظها فبدّلوها، وحالة من السجود أمروا بأن يدخلوا عليها فحوّلوها، وعرّضوا أنفسهم لهام الغيب، ثم لم يطيقوا الإصابة بقرعها «2» ، وتعرضوا لمفاجات العقوبة فلم يثبتوا عند صدمات وقعها.   (1) كلمة مشتبهة فى ص. (2) وردت بدون الباء فى ص وقد أضفناها ليستقيم المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 59] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) لم يمكنهم أن يردوا باب السماء باحتيالهم، أو يصدوا من دونهم أسباب البلاء بما ركنوا إليه من أحوالهم، فزعوا من الندم لما عضّهم ناب» الألم، وهيهات أن ينفعهم ذلك لأنه محال من الحسبان. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) إن الذي قدر عل إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادرا على إروائهم بغير ماء ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، وإيصال محل الاستغاثة إليه، وليكون على موسى عليه السّلام- أيضا فى نقل الحجر- مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا مقاساة نوع من معالجة ما أمضى حكمه عند استسقائه لقومه «2» . ثم أراد الحق سبحانه أن يكون كل قوم جاريا على سنّة، ملازما لحدّه، غير مزاحم لصاحبه فأفرد لكل سبطة علامة يعرفون بها مشربهم، فهؤلاء لا يردون مشرب الآخرين، والآخرون لا يردون مشرب الأولين. وحين كفاهم ما طلبوا أمرهم بالشكر، وحفظ الأمر، وترك اختيار الوزر، فقال: ولا تعثوا فى الأرض مفسدين. والمناهل مختلفة، والمشارب متفاوتة، وكلّ يرد مشربه فمشرب عذب فرات، ومشرب ملح أجاج، ومشرب صاف زلال، ومشرب رتق أوشال «3» . وسائق كلّ قوم   (1) وردت (تاب) بالتاء وهى خطأ فى النسخ. (2) لاحظ هنا مذهب القشيري فى التوكل، وكيف أنه لا يتعارض مع السعى. (3) أوشال: جمع وشل وهو الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره الوسيط ص 1047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يقودهم، ورائد كلّ طائفة يسوقهم فالنفوس ترد مناهل المنى والشهوات، والقلوب ترد مشارب التقوى والطاعات، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف عن الكون والمرسومات، ثم عن الإحساس والصفات ثم بالاستهلاك فى حقيقة الوجود والذات. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) لم يرضوا بحسن اختياره لهم، ولم يصبروا على قيامه بتولي ما كان يهمّهم من كفاية مأكولهم وملبوسهم، فنزلوا فى التحير إلى ما جرت «1» عليه عاداتهم من أكل الخسيس من الطعام، والرضا بالدون من الحال، فردّهم إلى مقاساة الهوان، وربطهم بإدامة الخذلان، حتى سفكوا دماء الأنبياء وهتكوا حرمة الأمر بقلّة الاستحياء، وترك الاروعاء، فعاقبهم على قبيح فعالهم، وردّهم إلى ما اختاره لأنفسهم من خسائس أحوالهم، وحين لم تنجح فيهم «2» النصيحة، أدركتهم النقمة والفضيحة. ويقال كان بنو إسرائيل متفرقى الهموم مشتّتي القصود لم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد، ولم يكتفوا فى تدينهم بمعبود واحد، حتى قالوا لموسى عليه السّلام- لمّا رأوا قوما يعبدون الصنم «3» - يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم إله،   (1) وردت فى ص (مرت) وهى بالجيم أصوب. (2) وردت (فهيم) وهى خطأ في النسخ. (3) وردت (الضم) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وهكذا صفة أرباب التفرقة. والصبر مع الواحد شديد، قال تعالى: «وإذا ذكرت ربك فى القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) اختلاف الطريق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدّق الحق سبحانه فى آياته، وآمن بما أخبر من حقه وصفاته، فتباين الشرع واختلاف وقوع الاسم غير قادح فى استحقاق الرضوان، لذلك «1» قال: «إن الذين آمنوا والذين هادوا» ثم قال: «من آمن منهم، أي إذا اتفقوا فى المعارف فالكلّ لهم حسن المآب، وجزيل الثواب. والمؤمن من كان فى أمان الحق سبحانه، ومن كان فى أمانه- سبحانه وتعالى- فبالحرىّ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) أخذ سبحانه ميثاق جميع المكلّفين، ولكنّ قوما أجابوا طوعا لأنه تعرّف إليهم فوحّدوه وقوما أجابوه كرها لأنه ستر عليهم فجحدوه، ولا حجّة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور- وهو الجبل- ولكن عدموا نور البصيرة، فلا ينفعهم عيان البصر. قال الله تعالى «ثم توليتم من بعد ذلك» ، أي رجعتم إلى العصيان بعد ما شاهدتم تلك الآيات بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحلمه بأفضاله لعاجلكم بالعقوبة، وأحلّ عليكم عظيم المصيبة ولخسرت صفقتكم بالكلّية. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 65] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) .   (1) وردت (كذلك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مسخ هذه الأمة حصل على القلوب، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما ألزموا به من الشرع- عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النّصّ، فهذه الأمة من نقض العهد ورفض الحدّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال، قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «1» » وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس، وفى معناه أنشدوا: يا سائلى: كيف كنت بعده؟ ... لقيت ما ساءنى وسرّه ما زلت أختال فى وصالى حتى ... أمنت من الزمان مكره «2» طال علىّ الصدود حتى ... لم يبق مما شهدت ذرّة قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 66] فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) هكذا من منى بالهجران، ووسم بالخذلان صارت أحواله عبرة، وتجرّع- من ملاحظته لحاله- عليه الحسرة، وصار المسكين- بعد عزّه لكلّ خسيس سخرة. هكذا آثار سخط الملوك وإعراض السادة عن الأصاغر: وقد أحدق الصبيان بي وتجمعوا ... علىّ وأشلوا بالكلاب ورائيا قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 68] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) كان الواجب عليهم استقبال الأمر بالاعتناق ولكنهم تعللوا ببقاء الأشكال توهما بأن يكون لهم ( ... ) «3» تفضى بالإخلاد إلى الاعتدال «4» عن عهدة الإلزام فتضاعفت عليهم المشقة وحلّ بهم «5» ما حذروه من الافتضاح. [فصل] ولما قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك، أي ليست بفتية ولا مسنّة بل هى بين السّنّين. حصلت الإشارة أن الذي يصلح لهذه الطريقة من لا يستهويه   (1) سورة الأنعام آية 110. [ ..... ] (2) ورد في البيت (أحتال) و (وجال) و (أتيت) من الزمان وقد أصلحنا ليستقيم المعنى والوزن. (3) سقطت هنا لفظة من الناسخ وهو ينتقل من ورقة إلى أخرى (4) الاعتدال هنا بمعنى العدول عن الشيء. (5) وردت (وجلبهم) وهى غير ملائمة للمعنى والسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 نزق الشباب وسكره، ولم يعطّله عجز المشيب وضعفه، بل هو صاح استفاق عن سكره، وبقيت له- بعد «1» - نضارة من عمره. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 69 الى 70] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة «2» يستغرق شاهده القلوب لما ألبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب «3» حتى أن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولى عليه ذكر الحق، كذا فى الخبر المنقول: أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله ( .... ) «4» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 71] قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) «5» كما أن تلك البقرة لم يذللها العمل، ولم تبتذل فى المكاسب، لا لون فيها يخالف عظم لونها فالإشارة منه أن أهل الولاية «6» الذين لم يتبذلوا بالأغيار لتحصيل ما طلبوا من الأسباب، ولم يركنوا بقلوبهم إلى الأشكال والأمثال، ولم يتكلوا على الاختيار والاحتيال، وليسوا نهبا لمطالبات المنى، ولا صيدا فى مخلب الدنيا، ولا حكم للشهوات عليهم، ولا سلطان للبشرية تملّكهم، ولم يسعوا قط فى تحصيل مرادهم، ولم يشقوا لدرك بغيتهم، وليس عليهم رقم الأغيار، ولا سمة الأسباب- فهم قائمون بالله، فانون عما سوى الله، بل هم محو، مصرّفهم الله. والغالب- على قلوبهم- الله. وكما أن معبودهم الله كذلك مقصودهم الله.   (1) ربما صحت على هذا ويكون المعنى ما زالت فيه بقية من نضارة عمره، ويحتمل أن تكون فى الأصل (بعض) ويكون المعنى وبقيت له بعض نضارة من عمره. (2) يقصد أهل التصوف. (3) وردت (الغير) ولا معنى لها هنا لأن شهود الغيب هو الذي يحدث ذلك الأثر. (4) فى (ص) علامات تدل على أن الكلام مبتور، ونرجح أن (ذاكر) بدل (ذكر) . (5) أخطأ الناسخ عند كتابة هذه اللفظة من الآية الكريمة حيث وردت (قال) الآية 70 من سورة البقرة. (6) فى ص (ولاية) بدون تعريف والأصح بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وكما أن مقصودهم الله كذلك مشهودهم الله، وموجودهم الله، بل هم محو بالله و ( .... ) «1» عنهم الله، وأنشد قائلهم. إذا شئت أن أرضى وترضى وتملكى ... زمامى- ما عشنا معا- وعنانى إذن فارمقى الدنيا بعيني واسمعي ... بأذنى وانطقى بلساني قوله جل ذكره: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ. طلبوا الحيلة ما أمكنهم فلما ضاقت بهم الحيل استسلموا للحكم فتخلصوا من شدائد المطالبات، ولو أنهم فعلوا ما أمروا به لما تضاعفت عليهم المشاق. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 72] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) الخائن خائف، ولخشية أن يظهر سرّه يركن إلى التلبيس والتدليس، والإنكار والجحود ولا محالة ينكشف عواره، وتتضح أسراره، وتهتك عن شين فعله أستاره. قال الله تعالى: «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 73] فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) أراد الله سبحانه أن يحيى ميتهم ليفضح بالشهادة على قاتله فأمر بقتل حيوان لهم فجعل سبب حياة مقتولهم قتل حيوان لهم، صارت الإشارة منه: أن من أراد حياة قلبه لا يصل إليه إلا بذبح نفسه فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيى قلبه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد الله حياة ذكره فى الأبدال «2» أمات فى الدنيا ذكره بالخمول «3» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) .   (1) مشتبهة فى ص. (2) ربما كانت فى الأصل (الأبد) (3) أي منع عنه الاشتهار بين الخلق لأن المهم مرتبته لدى الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بيّن أنهم- وإن شاهدوا عظيم الآيات وطالعوا واضح البينات- فحين لم تساعدهم العناية ولم يخلق الله (لهم) الهداية، لم تزدهم كثرة الآيات إلا قسوة، ولم تبرز لهم من مكامن التقدير إلا شقوة (على شقوة، وشبّه قلوبهم بالحجارة لأنها لا تنبت ولا تزكو، وكذلك قلوبهم لا تفهم «1» ، ولا تغنى «2» . ثم بيّن أنها أشد ( ...... ) «3» من الحجارة، فإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، ومنها ما تظهر عليه آثار خشية الله «4» ، وأمّا قلوبهم فخالية عن كل خير، وكيف لا وفد منيت بإعراض الحقّ عنها، وخصّت بانتزاع الخيرات منها. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 76] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أنبأهم عن إيمانهم، وذكر أنهم بعد سماع الخطاب من الله- سبحانه- حرّفوا وبدّلوا فكيف يؤمنون لكم وإنما يسمعون بواسطة الرسالة، ومن لم يبق على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان، والذي لم يصلح للحق لا يصلح لكم، ومن لم (يحتشم من الحق) فكيف يحتشم منكم؟. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 77] أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) تواصوا فيما بينهم بإنكار الحق، وإخفاء الحال على المسلمين، ولم يعلموا أن الله يطلع رسوله عليه السّلام على أسرارهم، وأن نورا أظهره الغيب لا ينطفئ بمزاولة الأغيار. وموافقة اللّسان مع مخالفة العقيدة لا يزيد إلا زيادة الفرقة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .   (1) تكملة فى الهامش استدرك بها الناسخ أثبتناها فى موضعها. [ ..... ] (2) أي لا تغنى عنهم من الله شيئا، وربما كانت فى الأصل (ولا تعى) حتى تتلاءم مع (لا نفهم) . (3) زيادة ميزها الناسخ- لا لزوم لها. (4) إشارة إلى قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أخبر أنهم متفاوتون فى نقائص كفرهم، فقوم منهم أخسّ درجة وأكثر جهلا ركنوا إلى التقليد، ولم يملكهم استيلاء شبهة بل اغتروا بظنّ وتخمين، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها، دون معرفة معانيها. ومنهم من أكثر شأنه ما يتمناه فى نفسه، ولا يساعده إمكان، ولا لظنونه قط تحقيق. ثم أخبر عن سوء عاقبتهم بقوله جل ذكره: «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» . أي خسروا فى الحال والمآل، والإشارة فى هذه الآية لمن عدم الإخلاص فى الصحبة فى طريق الحق ينضمّ إلى الأولياء ظاهرا ثم لا تصدق له إرادة فهو مع أهل الغفلة مصاحب، وله مع هذه الطريقة جانب، كلما دعته هواتف الحظوظ تسارع إلى الإجابة طوعا، وإذا قادته دواعى الحق- سبحانه- يتكلف شيئا، فبئست الحالة حين لم يخلص، وما أشد ندمه فيما ادّخر عن الله! ثم لا يفلح. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 80] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) الإشارة فى هذه الآية لمن مرت على قلبه دعاواه العريضة، وغلب عليه حسبانه، فحكم لنفسه- لفرط غفلته- بأنه من أهل القصة «1» ، ويخلد إلى هواجس مناه، فيحكم على الغيب بأنه يتجاوز عنه نسى قبائح ما أسلفه، ويذكر مغاليط ما ظنّه، فهو عبد نفسه، يغلب عليه حسن ظنه، وفى الحقيقة تعتريه نتائج غفلته ومكره، قال تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 81] بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) الذي أحاطت به خطيئته هو الكافر- على لسان العلم «2» .   (1) أي من أهل الطريق الصوفي. (2) أي على لسان التفسير العادي أي غير الاشارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ولكنّ الإشارة منه إلى من سكن قلبه على استغاثاته على وجه الدوام، فإن أصحاب الحقائق كالحبّ «1» على المقلى- فى أوقات صحوهم، فمن سكن فلفرط عزّته- لا يفترون «2» . ومن استند إلى طاعة يتوسّل بها ويظن أنه يقرب بها ينبغى أن يتباعد عن السكون إليها ومن تحقّق بالتوحيد علم ألا وسيلة إليه إلا به. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 82] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) فى الحال جنان الوصل ......... ( .......... ) ( .......... ) ( ......... ) «3» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 85] ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) ... أضرابكم وقرنائكم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، الإشارة فيه أن نصرتكم لإخوانكم على ما فيه بلاؤهم نصرة عليهم بما فيه شقاؤهم، فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو. قوله جل ذكره: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى «4» تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. أي كما تراعون- بالفداء عنهم- حقوقهم، فكذلك يفترض عليكم كفّ أيديكم عنهم، وترك إزعاجهم عن أوطانهم، فإذا قمتم ببعض ما يجب عليكم فما الذي يقعدكم   (1) وردت (كالحسب) وهى خطأ فى النسخ. (2) من الفترة، وقد أوضحنا رأى المصنف فى الفترة والوقفة فى هامش سبق. (3) حدث سقوط فيما بين (الوصل) و ... (أضرابكم) وبذلك لم يصلنا تفسير الآيات الكريمة من رقم 82 إلى 84. (4) يستخرج القشيري من لفظة أسارى إشارات معينة بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عن الباقي، حتى تقوموا به كما أمرتم؟ أما علمتم أن من فرّق بين ما أمر به فآمن ببعض وكفر ببعض فقد حبط- بما ضيّعه- أجر ما عمله. قوله جل ذكره: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أي ظنوا أن ما فعلوه نفعهم، فانكشف لهم فى الآخرة أن جميع ما فعلوه- لمّا مزجوه بالآفات وجرّدوه عن الصدق والإخلاص- غير مقبول منهم. والأسراء أصناف: فمن أسير غرق فى بحار الهوى فإنقاذه بأن تدلّه على الهدى. ومن أسير بقي فى أيدى الوساوس فافتداؤه أن ترشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذه من الشك والتخمين، وتخرجه عن ظلمات التقليد فيما تقوده إلى اليقين. ومن أسير تجده فى أسر هواجسه استأسرته غاغة نفسه، ففكّ أسره بأن تدلّه على شهود المنن، بتبرّيه عن حسبان كلّ حول يخلق وغير. ومن أسير تجده فى ربيطة ذاته ففكّ أسره إنشاده «1» إلى إقلاعه، وإنجاده على ارتداعه. ومن أسير تجده فى أسر صفاته ففكّ أسره أن تدله على الحق بما يحل عليه من وثائق الكون» ، ومن أسير تجده فى قبضة الحق فتخبره أنه ليس لأسرائهم فداء، ولا لقتلاهم عود، ولا لربيطهم خلاص، ولا عنهم بدّ، ولا إليهم سبيل، ولا من دونهم حيلة، ولا مع سواهم راحة، ولا لحكمهم ردّ. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 86] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) إن الذين آثروا عليه شيئا خسروا فى الدنيا والآخرة كما قالوا:   (1) إنشاده إلى إقلاعه أي مطالبته والنصح له. (2) وردت (المكون) والأصوب الكون لأن المقصود يقتضى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أناس أعرضوا عنّا ... بلا جرم ولا معنى فإن كانوا «1» قد استغنوا ... فإنّا عنهم أغنى قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 87] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) الإشارة: أوصلنا لهم الخطاب، وأردفنا رسولا بعد رسول، والجميع دعوا إلى واحد. ولكنهم أصغوا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قبلوه، وما استثقلته «2» أهواؤهم جحدوه «3» ، فإذا كان الهوى «4» صفتهم ثم عبدوه، صارت للمعبود «5» صفات العابد، فلا جرم الويل لهم ثم الويل! قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 88] وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) لو كان منهم شىء بمجرد الدعوى لهان وجود المعاني، ولكن عند مطالبات التحقيق تفترّ أنياب المتلبّسين عن أسنان شاحذة بل ( ..... ) «6» وقيل: إذا انسكبت دموع فى خدود ... تبيّن من بكى ممن تباكى   (1) اللفظة ناقصة فى المتن ومصححة فى الهامش على اليسار. (2) وردت (استسقلته) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت (هجدوه) ثم تصحيح لها فى الهامش (جهدوه) ولا يستبعد أنها: (جحدوه) على أساس نكرانهم للتوحيد. [ ..... ] (4) وردت (الهوا) والصحيح (الهوى) . (5) وردت (المعبود) وهى خطأ فى النسخ. (6) هنا كلمة مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 89] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) الإشارة فيه لمن عزم على الصفاء، ووعد من نفسه تحقيق الوفاء، ونشر أعلام النشاط عند البروز «1» إلى القتال، تنادى بالنّزال وصدق القتال- انهدم عند التفات «2» الصفوف، وانجزل عن الجملة خشية هجوم المحذور، قال تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 90] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) أنزلهم التحاسد عن مقر العزّ «3» إلى حضيض الخزي، وسامهم ذلّ الصّغر حين لم يرضوا بمقتضى الحكم، فأضافوا استيجاب مقت آنف إلى استحقاق مقت سالف. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 91] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) .   (1) وردت (البرود) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت هكذا فى (ص) ، وربما كانت فى الأصل (التقاء) الصفوف أو (التفاف) كذلك يحتمل (انهزم) بدلا من (انهدم) . (3) وردت (العسر) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الإشارة فيه: إذا قيل لهم حقّقوا ما أظهرتم من حكم الوفاق بتحقيق الحال وإقامة البرهان سمحت نفوسهم ببعض ما التبس عندهم لما يوافق أهواءهم، ثم يكفرون بما وراء حظوظهم، ( .... ) «1» بعدا عن زمرة الخواص، غير معدودين فى جملة أرباب الاختصاص. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 92] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) «2» أي دعاكم إلى التوحيد، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عجل اتخذتموه، وصنم تمنيتموه. فرفع ذلك من بين أيديهم، لكن بقيت آثاره فى قلوبهم وقلوب أعقابهم، ولذلك يقول أكثر اليهود بالتشبيه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 93] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) كرّر الإخبار عن غلوّهم فى حبّ العجل، ونبوّهم عن قبول الحق، و ( ......... ) «3» وتعريفهم معاجلتهم بالعقوبة على ما يسيئون من العمل، فلا النصح نجع فيهم، ولا العقوبة أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلوا «4» ، ولا بموجب الأمر عملوا.   (1) هنا لقطة مشتبهة. (2) أخطأ الناسخ حين كتبها (جاءهم) فصححناها طبقا للاية 92. (3) هنا عبارة غامضة كتابة وبالتالى معنى. (4) وردت (اختلفوا، والملائم للسياق (احتفلوا) أي أظهروا الاهتمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) من علامات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافي فمن وثق بأن له الجنة قطعا- فلا محالة- يشتاق إليها، ولمّا لم يتمنوا الموت «1» - وأخبر الله سبحانه أنهم لن يتمنوه أبدا- صار هذا التعريف معجزة للرسول صلوات الله عليه وعلى آله إذ كان كما قال. وفى هذا بشارة «2» للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة، وقديما قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء. قال الله تعالى: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) «3» حبّ الحياة فى الدنيا نتيجة الغفلة عن الله، وأشد منه غفلة أحبّهم للبقاء فى الدنيا. وحال المؤمن من هذا على الضدّ. وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم فالعبد الآبق لا يريد رجوعا إلى سيّده. والانقلاب إلى من هو خيره مرجو خير للمؤمنين من البقاء مع من شرّه غير مأمون، ثم إن امتداد العمر مع يقين   (1) فى النسخة (الجنة) ولكن الآية الكريمة والسياق يشيران إلى تمنى الموت ثم إن الضمير فيما بعد في (لن يتمنوه أبدا) ضمير مذكر وليس ضمير مؤنث. (2) وردت (وفى هذا إشارة) والمعنى يتطلب (بشارة) مما يرجح هذه على تلك. (3) أسقط الناسخ من الآية من أول (وما هو) إلى (أن يعمر) فأثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الموت (لا قيمة له) إذا فاجأ الأمر وانقطع العمر. وكلّ ما هو آت فقريب، وإذا انقضت المدّة فلا مردّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) زعمت اليهود أن جبريل لا يأتى بالخير، وأنهم لا يحبونه، ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به، فأكذبهم الحقّ سبحانه فقال: من كان عدوا لجبريل لأنه لا يأتى بالخير فأى خير أعظم مما نزل به من القرآن؟! ثم قال إن من عادى «1» جبريل وميكائيل فإن الله عدو له فإنّ رسول الحبيب إلى الحبيب العزيز المورد- كريم المنزلة، عظيم الشرف. وما ضرّت جبريل- عليه السّلام- عداوة الكفار، والحق سبحانه وتعالى وليّه، ومن عادى جبريل فالحقّ عدوّه، وما أعزز «2» بهذا الشرف وما أجلّه! وما أكبر علوه! قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 100] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) لم يكفر بواضح آياته إلا من سدّت عن الإدراك بصائره، وسبقت من الله بالشقاوة   (1) وردت (عبادى) وهى خطأ في النسخ، فعادى مناسبة لعدم محبتهم لجبريل كما سبق. [ ..... ] (2) الصحيح ان يقال وأعزز بهذا الشرف أو: ما أعز هذا الشرف فليس فى التعجب ما أفعل به فما حدث هو خطأ من الناسخ لأن القشيري- كما تعلم من سيرته- حريص أشد الحرص على قواعد النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قسمته، ولا عقل لمن يجحد أنّ النهار نهار، وكذلك لا وصل لمن لم تساعده من الحق أنوار واستبصار. أو كلّما عاهدوا عهدا سابق التقدير لهم كان يشوّش عليهم، وينقض عهدهم لا حق التدبير منهم، والله غالب على أمره. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 101] وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) «1» جحدوا رسل الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر، وكذّبوا رسلهم الذين أتوهم فى الظاهر، فيا جهلا ما فيه شظية من العرفان! ويا حرمانا قارنه خذلان! قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 102] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) من فرّقته الأهواء وقع فى كل مطرح من مطارح الغفلة، فيستقبله كل جنس من قضايا   (1) أخطأ الناسخ فكتبها (مصدقا) والصحيح (مصدق) الآية 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الجهالة، ثم إن من طالت به الغيبة صار للناس عبرة، ولمن سلك طريقه فتنة، فمن اقتدى به فى غيّه انخرط فى سلكه، والتحقق بجنسه، هكذا صفة هاروت وماروت فيما استقبلهما، صارا للخلق فتنة بل عبرة، فمن أصغى إلى قيلهما، ولم يعتبر بجهلهما تعلّق به بلاؤهما، وأصابه فى الآخرة عناؤهما. والإشارة من قصتهما إلى من مال فى هذه الطريقة إلى تمويه وتلبيس، وإظهار دعوى بتدليس، فهو يستهوى من اتّبعه «1» ، ويلقيه فى جهنم بباطله، ( ............ ) «2» ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتكت أستاره، وظهر لذوى البصائر عواره. وإن هاروت وماروت لما اغترّا بحاصل ما اعتاداه من المعصية بسطا لسان الملامة فى عصاة بنى آدم، فلما ركّب فيهما من نوازع الشهوات، ودواعى الفتن والآفات، اقتحما فى العصيان، وظهر منهما ما انتشر ذكره على ألسنة القصاص، وهما منكّسان إلى يوم القيامة ولولا الرفق بهما وبشأنهما لما انتهى فى القيامة عذابهما، ولكنّ لطف الله مع الكافة كثير. ولمّا قال الله تعالى: «وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» علم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم- وإن كان صفة مدح- ففيه غير مرغوب فيه، بل هو مستعاذ منه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بك من علم لا ينفع. قوله جل ذكره: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. لو علم المغبون ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسرات، ولكن سيعلم- يوم تبلى السرائر- الذي فاته من الكرائم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 103] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) ولو آثروا الإقبال على الله على اشتغالهم عن الله، لحصّلوا ذخر الدارين، ووصلوا إلى   (1) وردت (التبعة) وهى خطأ فى النسخ. (2) هنا عبارة غامضة كتابة ومعنى، ويرجح أن الناسخ قد وقع فى أخطاء نقلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عزّ الكونين، ولكن كبستهم سطوات القهر، فأثبتهم فى مواطن الهجر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 104] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) قصود الأعداء فى جميع أحوالهم- من أعمالهم وأقوالهم- قصود خبيثة فهم- على مناهجهم- يبنون فيما يأتون ويذرون. فسبيل الأولياء التّحرز عن مشابهتهم، والأخذ فى طريق غير طريقهم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 105] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) كراهية الأعداء لانتظام صلاح الأولياء متصلة مستدامة، ولكن الحسود لا يسود، ولا يحصل له مقصود وخصائص الرحمة للأولياء كافية- وإن زعم من الأعداء أفّاك أنه انهدمت من أوطان فرحهم أكناف وأطراف. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 106] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) النسخ الإزالة أي ما ينقلك من حال إلى ما هى فوقها وأعلى منها، فغصن وصلك أبدا ناضر، ونجم عزّك أبدا ظاهر، فلا ننسخ من آثار العبادة شيئا إلا وأبدلنا عنه أشياء من أنوار العبودية، ولا نسخنا من أنوار العبودية أشياء إلا أقمنا مكانها أشياء من أقمار العبودة «1» .   (1) وردت (من أقمار العبودية) وهى خطأ من الناسخ، لأن السياق هنا يتطلب (العبودة) - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فأبدا «1» سرّك فى الترقي، وقدرك فى الزيادة بحسن التّولّي وقيل ما رقّاك عن محل العبودية إلا سلكك بساحات الحرية، وما رفع عنك شيئا من صفات «2» البشرية إلا أقامك بشاهد من شواهد الألوهية. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 107] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) سنّته- سبحانه- أن يجذب أولياءه عن شهود ملكه إلى رؤية ملكه «3» ، ثم يأخذهم من مطالعة ملكه إلى شهود حقّه، فيأخذهم من رؤية آياته إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى شهود ذاته. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) إنّ بنى إسرائيل آذوا موسى عليه السّلام، فنهى المسلمون عن فعل ما أسلفوه، وأمروا   - فنحن نعرف من مذهب القشيري ان العبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخاص. العبادة لأصحاب المجاهدات، والعبودية لأرباب المكابدات، والعبودة صفة أهل المشاهدات ... وهكذا- ومن أسانيد كثيرة فى باب العبودية فى «الرسالة» - نلحظ أن الدرجة القصوى في الأمر هى (العبودة) ، والترتيب هنا يمشى هكذا آثار العبادة، أنوار العبودية، أقمار العبودية، وهو ترتيب فى غاية الدقة، يعطى كل درجة قدرها. (1) وردت (فأبد) بدون تنوين. (2) تلقت النظر هنا إلى أهمية كلمة صفات البشرية، أي أن المقصود- حسب مذهب القشيري- ليس سقوط البشرية فى حد ذاتها، وإنما صفاتها المعلولة، وينبغى أن يكون واضحا تمام الوضوح أن التصوف الإسلامى الحق- والقشيري من أفضل المعبرين عنه- لا يقول بأدنى تداخل بين البشرية والألوهية فالعبد عبد والرب رب. (3) ضبطنا ملك وملك مستفيدين من كلام القشيري فى كتابه «التحبير» ضمن اسم «الملك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 بمراعاة أن حشمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغاية ما يتسع فى الإمكان. فكانوا بحضرته كأنّ على رءوسهم الطير. قال تعالى: «تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» وحسن الأدب- فى الظاهر- عنوان حسن الأدب مع الله فى الباطن. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) من لحقه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودّ ألا يطلع لأحد بالسلامة نجم، ومن اعتراه الحسد أراد ألا تنبسط على محسوده شمس. وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم الله أنفهم، وكبّهم على «1» وجوههم. والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة فى البداية إذا رغبوا فى السلوك، فمن لم يساعده التوفيق (فى الصحبة، وعاشر أناسا مترسّمين بالظواهر) «2» فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة، أولئك أعداء الله حقا، أدركهم مقت الوقت. وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئا من روائح الصدق. «فاعفوا واصفحوا ... » فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سرّه، ويستعمل مع كل أحد ضلة «3» ، ويبذل فى الطلب رفعة «4» ، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه.   (1) فى النسخة ص (وكبهم لوجوههم) وقد آثرنا عليها (على وجوههم) . (2) أصلحنا فى هذه العبارة قليلا لكى يتضح معناها طبقا لوصايا القشيري للمريدين فى «رسالته» (3) هكذا وردت فى (ص) وقد نقلناها كما جاءت، وربما كانت فى الأصل (خلة) بمعنى الصفة اى أن يحافظ على سره مع ربه عن طريق اتصافه مع صحبته بصفات ملائمة. تضمن أن يكون سره محفوظا (4) ربما كانت فى الأصل (ويبذل فى الطلب وسعه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 110] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) الواجب على المريد إقامة المواصلات، وإدامة التوسل بفنون «1» القربات، واثقا بأن ما يقدمه من صدق المجاهدات تدرك «2» ثمرته فى أواخر الحالات. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 111] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) «3» كلّ حزب يمهّد الأمل لنفسه، ويظنّ النجاة لحاله، ويدعى الوسل «4» من سهمه. ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتى بحاصل، ولا يحوز بطائل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 112] بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) «5» أسلم وجهه أي أخلص لله قصده، وأفرد لله وجهه، وطهّر عن الشوائب عقله. «وهو محسن» . عالم بحقيقة ما يفعله وحقيقة ما يستعمله، وهو محسن فى المآل كما أنه مسلم فى الحال. ويقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فتكون مستسلما بظاهرك، مشاهدا بسرائرك، فى الظاهر جهد وسجود وفى الباطن كشف ووجود.   (1) جاءت هكذا فى ص (يقنون) ثم صححها الناسخ فى الهامش. [ ..... ] (2) جاءت فى ص (تدركوا) . (3) أخطأ الناسخ إذ كتبها (يدخلوا) والصحيح (يدخل) الآية 111. (4) الوسل والوسيلة والواسلة الوصلة والقربى من الله (الوسيط ص 1044) . (5) أسقط الناسخ (بلى) والصحيح وجودها الآية 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ويقال «أسلم وجهه» بالتزام الطاعات، «وهو محسن» قائم بآداب الخدمة بحسن آداب الحضور، فهؤلاء ليس عليهم خوف الهجر، ولا يلحقهم خفىّ المكر، فلا الدنيا تشغلهم عن المشاهدة ولا الآخرة تشغلهم غدا عن الرؤية. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 113] وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) الإشارة فى هذه الآية على العكس من حكم الظاهر فالأعداء يتبرأ بعضهم من بعض اليوم، والأولياء من وجه كذلك، ولذا قالوا: لا زالت الصوفية بخير ما تنافروا، ولا يقبل بعضهم بعضا لأنه لو قبل بعضهم بعضا بقي بعضهم مع بعض. لكنّ الأعداء كلهم على الباطل. عند تبرّى بعضهم من بعض أمّا الأولياء فكلّهم على الحق- وهذه ما ذكرنا من حكم العكس. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 114] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) الإشارة فيه أن الظالم من خرّب أوطان العبادة بالشهوات، وأوطان العبادة نفوس العابدين. وخرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وأوطان المعرفة قلوب العارفين. وخرّب أوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهى أرواح الواجدين. وخرّب أوطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المشاهدات بالالتفات إلى القربات وهى أسرار الموحدين «1» . قوله جلّ ذكره: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. لأهل الإشارة خزى الدنيا بذل الحجاب، وعذاب الآخرة الامتناع بالدرجات. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 115] وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) الإشارة منها إلى مشارق القلوب ومغاربها. وللقلوب شوارق وطوارق. وطوارقها هواجس النفوس تطرق فى ظلمات المنى والشهوات. وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف. فما دامت الشوارق طالعة فقبلة القلوب، واضحة ظاهرة، فإذا استولت «2» الحقائق خفى سلطان الشوارق، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر، فلا شهود رسم، ولا بقاء حسّ وفهم، ولا سلطان عقل وعلم، ولا ضياء عرفان. فإن وجدان «3» هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية، وإذا صار الموصوف محوا فأنّى لهم ببقاء الصفة! قال تعالى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» مادام يبقى من الإحساس والتمييز بقية- ولو شظية- فالقبلة مقصودة، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة. وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائل بكلّ وجهة، ولا معرفة بالقبلة تساوت الجهات فى جواز الصلاة إلى كل واحد منها إذا لم يكن للنية ترجيح.   (1) نعرف من مذهب القشيري أن الأسرار (للموحدين) ولذا نرجح أن الناسخ أخطأ حينما كتبها (الواجدين) وقد أثبتناها هنا على هذا الترجيح. (2) وردت (سولت) وهى خطأ فى النسخ. (3) وجدان، ووجود مصدران لوجد، غير أن القشيري يؤثر استعمال لفظة (الوجود) بمعناها الاصطلاحي الدقيق فى موضعها للائم (التواجد بداية والوجد واسطة والوجود نهاية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 116] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) مكر بهم لم يفنهم- من الإفناء- فى الحال، بل جعل موجب اغترارهم طول الإمهال، فنطقوا بعظيم الفرية على الله، واستنبطوا عجيب المرية فى وصف الله، فوصفوه بالولد! وأنّي بالولد وهو أحدى الذات؟! لا حدّ لذاته، ولا تجوز الشهوة فى صفاته. قوله جل ذكره: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. أي ليس فى الكون شىء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادى عليه آثار الخلقة، وتفصح منه شواهد الفطرة، وكل صامت منها ناطق، وعلى وحدانيته- سبحانه- دليل وشاهد. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 117] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) البديع عند العلماء موجد العين لا على مثل، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شىء مثله. فهذا الاسم يشير إلى نفى المثل عن ذاته، ونفى المثال عن أفعاله، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه، والصمد الذي لا أمد يقطعه، والحق الذي لا وهم يصوّره، والموجود الذي لا فهم يقدره. وإذا قضى أمرا فلا يعارض «1» عليه مقدور، ولا ينفك من حكمه محظور. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 118] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) «2» «3»   (1) الصواب أن تكون (فلا يعتاص) ، فهكذا يعبر القشيري فى مثل هذا السياق. (2) وردت (لولا يكلمهم) وهى خطأ، وقد صححناها طبقا للآية 117. (3) وردت خطأ (بيّن) والصحيح (بينا) الآية 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كلام الله سبحانه متعلق بجميع المخلوقات بأعيانها وآثارها، وأمر التكوين (يتناول المكلفين وأفعال المكلفين) «1» ، لكن من عدم سمع الفهم تصامم «2» عن استماع الحق، فإنه- سبحانه- خاطب قوما من أهل الكتاب، وأسمعهم خطابه «3» ، فلم يطيقوا سماعه، وبعد ما رأوا من عظيم الآيات حرّفوا وبدّلوا. وفى الآيات التي أظهرها ما يزيح العلّة من الأغيار، ويشفى الغلّة من الأخيار، ولكن ما تغني الدلائل- وإن وضحت- عمن حقّت لهم الشقاوة وسبقت؟ قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 119] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) أفردناك بخصائص لم نظهرها على غيرك فالجمهور والكافة تحت لوائك، والمقبول من وافقك، والمردود من خالفك، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال، ولا عنك لأحد ( ... ) «4» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 120] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) لا تبال برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا، فإنهم لا يرضون عنك إلا بمتابعة أديانهم، ودون ذلك لهم حظ القتال فأعلن «5» التبري منهم، وأظهر الخلاف معهم، وانصب العداوة   (1) العبارة التي فى (ص) مضطربة فى الخط والمعنى، وقد صحناها طبقا لما نعرف من آراء القشيري الكلامية: إن الله خالق العباد وأفعال العباد (فالله خالق كل شىء، أما الإنسان فليس له أن يوصف بذلك لأن كل من لحقه وصف التكوين لا يصح منه الإيجاد) . (2) وردت (تصامح) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت أسمعهم (خاطبهم) والأرجح أنها فى الأصل أسمعهم (خطابه) . (4) مشتبهة. [ ..... ] (5) وردت (ما علف) وهى خطأ فى النسخ، وقد جعلناها (فأعلن) لتلائم (وأظهر) بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 لهم، وأعلم أن مساكنتهم إلى ما يرضون سبب الشقاوة المؤبدة، فاحرص ألا يخطر ذلك ببالك «1» ، وادع- إلى البراءة عنهم وعن طريقتهم- أمّتك، وكن بنا لنا، متبرّيا عمن سوانا، واثقا بنصرتنا، فإنّك بنا ولنا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 121] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) الذين فتحنا أبصارهم بشهود حقنا وكلنا أسماع قلوبهم بسماع خطابنا، وخصصناهم بإسبال نور العناية عليهم، وأيّدناهم بتحقيق التعريف فى أسرارهم، يقومون بحق التلاوة، ويتصفون بخصائص الإيمان والمعرفة فهم أهل التخصيص، ومن سواهم أصحاب الرد. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 122] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) جرت سنته- سبحانه- فى الخطاب مع قوم موسى عليه السّلام أن يناديهم بنداء العلامة فيقول: يا بنى إسرائيل اذكروا، أي يا بنى يعقوب، ومع هذه الأمة «2» أن يخاطبهم بنداء الكرامة فيقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 123] وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) أمّا الأعداء فلا يقبل منهم شيئا، وأما الأولياء فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة» ، والكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين فهذا حكم كل أمة مع نبيّها، وأمّا المؤمنون- فعلى التخصيص- تنفعهم شفاعة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم.   (1) جاءت الجملة فى ص هكذا (فاحرس عن أخطار ذلك ببالك) وسمحنا لأنفسنا بشىء من التصرف يقبح فهم المعنى، وربما كان أقرب إلى الأصل. (2) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكلّ أحد يقول يومئذ نفسى نفسى ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم يقول: أمتى أمتى «1» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 124] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) البلاء تحقيق الولاء، فأصدقهم ولاء أشدّهم بلاء. ولقد ابتلى الحق- سبحانه- خليله عليه السّلام بما فرض عليه وشرع له، فقام بشرط وجوبها، ووفّى بحكم مقتضاها، فأثنى عليه سبحانه بقوله: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» - من التوقية- أي لم يقصّر بوجه البتة. يقال حمّله أعباء النبوة، وطالبه بأحكام الخلّة، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شىء، فقام بتصحيح ذلك مختليا عن جميع ما سواه، سرّا وعلنا. «2» كذلك لم يلاحظ جبريل عليه السّلام حين تعرض له وهو يقذف فى لجة الهلاك، فقال: هل من حاجة؟ فقال: أمّا إليك .... فلا. ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السّلام فى تلك الحالة، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنا من كان؟!   (1) أخطأ الناسخ حين نقلها «كل عهد يقول ... والصواب» كل أحد ... وقد سمع القشيري هذه العبارة من أستاذه الدقاق- كما يقول فى رسالته فى باب الفتوة. (2) هذا هو رأى القشيري فى «الخلّة» ، ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى بعض الآراء الأخرى فيها. فالمعتزلة- الذين يبتعدون عن كل ما يحمل على التشبيه- يبذلون جهدهم فى الاستعانة باللغة للحصول على تأويلات للنص القرآنى تخدم هذه الغاية، فلما لم يرضهم حمل لفظة الخليل على ظاهرها فى الآية «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (النساء: 125) استشهدوا ببيت من الشعر القديم لزهير وهو: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم (ديوان زهير نشر دار الكتب ص 153) وفيه خليل بمعنى محتاج، وقد أورد القشيري هذا الرأى ضمن تفسيره للآية 124 النساء، أي أنه لا يعارض أن تحتمل اللفظة هذا المعنى. ويفسر دكتور عبد الرحمن بدوي قول أبى طالب المكي (إن رابعة قد ارتفعت إلى وصف معنى الخلة) بما يلى: (على أن مقام الخلة هذا يمكن أن يفسر على أساس أنه شعور بتجاوز الخير والشر، ذلك أن القيم الأخلاقية لا اعتبار لها إلا بالنسبة إلى بنى الإنسان والدنيا. أما- رابعة ورباح- فقد تجاوزا نطاق البشرية وصارا يلوذان بجوار الألوهية واطرحا الناسوت وشاع فيهما اللاهوت» . شهيد العشق الإلهي ص 63، 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وفى هذا إشارة دقيقة إلى الفرق بين حال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وحال إبراهيم عليه السّلام، لأنه تعرض جبريل للخليل وعرض عليه نفسه: فقال: أمّا إليك.. فلا. ولم يطق جبريل صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فنطق بلسان العجز وقال: لو دنوت أنملة لاحترقت «1» . وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السّلام من قوّته بحيث يعرض للخليل عليه السّلام نفسه، وبين حالة يعترف للحبيب- صلوات الله عليه- فيها بعجزه. قوله جل ذكره: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً. الإمام من يقتدى به، وقد حقّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال: «ملة أبيكم إبراهيم» أي اتبعوا ملة إبراهيم يعنى التوحيد، وقال: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» . هذا هو تحقيق الإمامة. ورتبة الإمامة أن يفهم عن الحق ثم يفهم الخلق فيكون واسطة بين الحق والخلق، يكون بظاهره مع الخلق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدا للحق، لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلق ما يقوله له الحق. قوله جل ذكره: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. نطق بمقتضى الشفقة عليهم، فطلب لهم ما أكرم به. فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نسب، أو باستيجاب سبب، وإنما هى أقسام مضت بها أحكام فقال له: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»   (1) يشير بهذا إلى ما حدث ليلة الاسراء والمعراج فى الملأ الأعلى (انظر كتاب المعراج) للقشيرى نشره دكتور على عبد القادر. ط. (الكتب الحديثة) سنة 1964. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها، فهى لا ادّخار لها عن أحد وإن كان كافرا، ولذلك: قال جلّ ذكره: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فقال الله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 126] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) يعنى ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار، ولكن عهدى لا يناله إلا من اخترته من خواص عبادى. أمّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد. أمّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد. قوله جل ذكره: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً. واذكر يا محمد حين جعلنا البيت- يعنى الكعبة- مثابة للناس إليه يثوبون، ومأمنا لهم إليه يرجعون، وإياه من كل نحو يقصدون. هو بيت خلقته من الحجر ولكن أضفته إلى الأزل فمن نظر إلى البيت بعين الخلقة انفصل، ومن نظر إليه بعين الإضافة وصل واتصل «1» ، وكلّ من التجأ إلى ذلك البيت أمن من عقوبة الآخرة إذا كان التجاؤه على جهة الإعظام والاحترام، والتوبة عن الآثام. ويقال بنى البيت من الحجر لكنه حجر يجذب القلوب كحجر المغناطيس يجذب الحديد. بيت من وقع عليه ظلّه أناخ بعقوة «2» الأمن.   (1) قارن رأى القشيري الصوفي الحريص بآراء بعض الصوفية الذين أوتوا حظا من الجرأة فى التعبير. عن هذا الموضوع، من ذلك مثلا قول رابعة «لا أريد الكعبة بل رب الكعبة أما الكعبة فماذا أفعل بها ... ولم تشأ أن تنظر إليها (تذكرة الأولياء. العطار ج 1 ص 61) . وقول الحلاج: «إن شوقنا إلى الله يجب أن يمحو عقليا فى نفوسنا صورة الكعبة، كيما نجد من أقامها «شخصيات قلقة فى الإسلام. د. بدوي ص 68. (2) العقوة- الموضع المتسع أمام الدار أو المحلة أو حولهما (الوسيط ص 624) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بيت من وقع عليه طرفه بشّر بتحقيق الغفران. بيت من طاف حوله طافت اللطائف بقلبه، فطوفة بطوفة، وشوطة بشوطة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. بيت ما خسر من أنفق على الوصول «1» إليه ماله. بيت ما ربح من ضنّ عليه بشىء من زاره نسى مزاره، وهجر دياره. بيت لا تستبعد إليه المسافة، بيت لا تترك زيارته لحصول مخافة، أو هجوم آفة، بيت ليس له بمهجة الفقراء آفة. بيت من قعد عن زيارته فلعدم فتوّته، أو لقلة محبته. بيت من صبر عنه فقلبه أقسى من الحجارة. بيت من وقع عليه شعاع أنواره تسلّى عن شموسه وأقماره. بيت ليس العجب ممن بقي (عنه) «2» كيف يصبر، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع! قوله جل ذكره: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. عبد رفع لله سبحانه قدما فإلى القيامة جعل أثر قدمه قبلة لجميع المسلمين إكراما لا مدى له. قوله جل ذكره: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ   (1) وردت (الوصل) وهى خطا فى النسخ. (2) (عنه) تكملة جاءت فى هامش الصفحة وهى تكملة ضرورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الأمر فى الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلب. وتطهير البيت بصونه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار. وطواف الحجاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، وطواف المعاني معلوم لأهل الحق فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة، فهؤلاء أصحاب التلوين «1» وهؤلاء أرباب التمكين. وقلوب القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدا واقفة. وقلوب الموحّدين على بساط الوصل أبدا راكعة. وقلوب الواجدين على بساط القرب أبدا ساجدة. ويقال صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدا واقفة، وسوامى قصود المريدين بمشهد الجود أبدا طائفة، ووفود همم العارفين بحضرة العزّ أبدا عاكفة. قوله جل ذكره: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً. السؤال إذا لم يكن مشوبا بحظّ العبد كان مستجابا، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظّ نفسه، وإنما كان لحقّ ربّه عزّ وجلّ. ولمّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم   (1) وردت (التكوين) وهى خطأ من الناسخ، والصحيح أنها (التلوين) . والتلوين والتمكين لفظان اصطلاحيان: (التلوين صفة ارباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق، فما دام العبد فى الطريق فهو صاحب تلوين لأنه يرتقى من حال إلى حال، وينتقل من وصف إلى وصف وهو أبدا فى الزيادة أما صاحب التمكين فوصل ثم اتصل، وأمارة أنه اتصل أنه بالكلية عن كليته بطل. والتغير بما يرد على العبد إما لقوة الوارد او لضعف صاحبه، والسكون إما لقوته أو لضعف الوارد عليه) الرسالة ص 44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وفى الذين لم يؤمنوا. ولمّا قال فى حديث الإمامة: «ومن ذرّيتى» من غير إذن منع وقيل له: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 127] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) نجح السؤال فى صدق الابتهال فلما فزعا إلى الخضوع فى الدعاء أتاهما المدد، وتحقيق السؤال. «إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لأقوالنا «الْعَلِيمُ» بأحوالنا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 128] رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) «مُسْلِمَيْنِ» : منقادين لحكمك حتى لا يتحرك منّا عرق بغير رضاك، واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك لتقوم بعدنا مقامنا فى القيام بحقوقك، وشتان بين من يطلب وارثا لماله، وبين من يطلب نائبا بعده يقوم بطاعته فى أحواله. «وَأَرِنا مَناسِكَنا» إذ لا سبيل إلى معرفة الموافقات إلا بطريق التوفيق والإعلام. «وَتُبْ عَلَيْنا» : بعد قيامنا بجميع ما أمرتنا حتى لا نلاحظ حركاتنا وسكناتنا، ونرجع إليك عن شهود أفعالنا لئلا يكون خطر الشّرك الخفىّ فى توهّم شىء منّا بنا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 129] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 إن الواجبات لمّا كانت من قبل الرسل دون مجرد المعقول سأل ألا يتركهم سدى، وألا يخليهم عن رسول وشرع. وطلب فى ذلك الموقف أن يكون الرسول «مِنْهُمْ» ليكونوا أسكن إليه وأسهل عليهم، ويصحّ أن يكون معناه أنه لما عرّفه- سبحانه- حال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم سأل إنجاز ما وعده على الوجه الذي به (أمره «1» ) . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 130] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) أخبر أنه آثر الخليل صلوات الله عليه على البرية، فجعل الدين دينه، والتوحيد شعاره والمعرفة صفته فمن رغب عن دينه أو حاد عن سنّته فالباطل مطرحه، والكفر مهواه إذ ليست الأنوار بجملتها إلا مقتبسة من نوره. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 131] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) الإسلام هو الإخلاص وهو الاستسلام، وحقيقته الخروج عن أحوال البشرية بالكلية من منازعات الاختيار ومعارضات النفس، قال: «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» : قابلت الأمر بالسمع والطاعة، واعتنقت الحكم على حسب الاستطاعة. ولم يدخر شيئا من ماله وبدنه وولده، وحين أمر بذبح الولد قصد الذبح، وحين قال له خلّه من الأسر (عمل) «2» ما أمر به، فلم يكن له فى الحالين «اختيار» ولا تدبير. ويقال إن قوله: «أَسْلَمْتُ» : ليس بدعوى من قبله لأن حقيقة الإسلام إنما هو التّبرى من الحول والقوة، فإذا قال: «أَسْلَمْتُ» فكأنه قال أقمنى فيما كلفتنى، وحقّق منى ما به أمرتنى. فهو أحال الأمر عليه، لا لإظهار معنى أو ضمان شىء من قبل نفسه. ويقال أمره بأن يستأثر بمطالبات القدرة فإن من حلّ فى الخلّة محلّه يحل به- لا محالة- ما حلّ به.   (1) نرجح أنها فى الأصل (أخبره) حتى تتلاءم مع السياق وبذا يكون الناسخ مخطئا فى نقلها. (2) فى ص (فعلم) ويمكن أن يحتملها المعنى، ولكن ترجيح (عمل) أقوى فى الدلالة على الامتثال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ويسأل هاهنا سؤال فيقال: كيف قال إبراهيم صلوات الله عليه: «أَسْلَمْتُ» ولم يقل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم حينما قيل له اعلم «علمت» ؟. والجواب عن ذلك من وجوه: منها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أنا أعلمكم بالله «1» » ولكن لم يرد بعده شرع فكان يخبر عنه بأنه قال علمت. ويقال: إن الله سبحانه أخبر عن الرسول عليه السّلام بقوله: «آمن الرسول» لأن الإيمان هو العلم بالله سبحانه وتعالى، وقول الحق وإخباره عنه أتمّ من إخباره- عليه السّلام- عن نفسه. والآخر أن إبراهيم لما أخبر بقوله: «أسلمت» اقترنت به البلوى، ونبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- يتحرز عما هو صورة الدعوى فحفظ وكفى. والآخر أن إبراهيم عليه السّلام أمر بما يجرى مجرى الأفعال، فإن الاستسلام به إليه يشير. ونبينا صلّى الله عليه وسلّم أمر بالعلم، (ولطائف العلم أقسام) «2» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 132] وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أخبر أن إبراهيم عليه السّلام وصّى بنيه، وكذلك يعقوب عليه السّلام قال لبنيه لا يصيبنكم الموت إلا وأنتم يوصف الإسلام. فشرائعهم- وإن اختلفت فى الأفعال- فالأصل واحد، ومشرب التوحيد لا ثانى- له فى التقسيم- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ»   (1) «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله» . البخارى عن أنس «والله إنى لأخشاكم وأتقاكم له» . والشيخان عن عائشة «والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» . [ ..... ] (2) هنا وضع الناسخ علامة تدل على أنه أخطأ فى الثقل، ولهذا فإن العبارة التى وردت فى (ص) مضطربة وقد آثرنا أن نلتقط منها ما نرجح أنه ملائم للمعنى. فالمقصود أن إبراهيم عليه السّلام عبّر بقوله «أسلمت» وهذا فعل إنسانى بينما لم يقل الرسول (ص) «علمت» لأن العلم ليس كسبا للعبد وإنما هو قسمة له أى أنه من عين الجود لا من قبيل المجهود، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بشارة بما تقوى به دواعيهم على الرغبة فيما يكلفهم من الإسلام، لأنهم إذا تحققوا أن الله سبحانه اصطفى لهم ذلك علموا أنه لا محالة يعينهم فيسهل عليهم القيام بحق الإسلام. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 133] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) جروا كلهم- صلوات الله عليهم- على منهاج واحد فى التوحيد والإسلام، وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف، فهم أهل بيت الزلفة، ومستحقو القربة، والمطهّرون من قبل الله- على الحقيقة. قوله جل ذكره: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. لم يقولوا إلهنا مراعاة لخصوصية قدره، حيث سلموا له المزية، ورأوا أنفسهم ملحقين بمقامه، ثم أخبروا عن أنفسهم أنهم طيّع له «1» بقولهم «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 134] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) أنزل الحقّ- سبحانه- كلّا بمحلّه، وأفرد لكل واحد قدرا بموجب حكمه، فلا لهؤلاء عن أشكالهم خبر، ولا بما خصّ به كل طائفة إلى آخرين أثر، وكلّ فى إقليمه ملك، ولكل يدور بالسعادة فلك. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 135] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) .   (1) وردت (طبع لهم) ونرجح أن الناسخ قد أخطأ فى النقل لأن «ونحن له مسلمون» معناه (ونحن طيّع له) وطيّع جمع طائع مثل ركّع وسجّد من راكع وساجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 معناه إذا تجاذبتك الفرق، واختلفت عليك المطالبات بالموافقة، فاحكم بتقابل دعاواهم، وأزد من توجهك إلينا، جاريا على منهاج الخليل عليه السّلام فى اعتزال الجملة، سواء كان أباه، أو كان ممن لا يوافق مولاه، ولذا قال «وأعتزلكم وما تدعون من دون الله» للحق بالحق. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 136] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) لمّا آمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بجميع ما أنزل من قبله أكرم بجميع ما أكرمه من قبله، فلمّا أظهر موافقة الجميع أمر الكلّ بالكون تحت لوائه فقال: «آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة» » . ولمّا آمنت أمّته بجميع ما أنزل الله على رسله «2» ، ولم يفرقوا بين أحد فهم ضربوا فى التكريم بالسّهم الأعلى فتقدموا على كافة الأمم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 137] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) إن سلكوا طريقتكم، وأخذوا بسبيلكم، أكرموا بما أكرمتم، ووصلوا إلى ما وصلتم، وإن أبوا إلا امتيازا أبينا إلا هوانهم. فإنّ نظرنا لمن خدمك يا محمد بالوصلة،   (1) «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبى يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» . من أحاديث الشفاعة رواه الترمذي (79/ 6 منتخب كنز العمال) . (2) وردت رسوله، والأولى أن تكون رسله لأن السياق يقتضى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وإعراضنا عمن باينك وخالفك ( ... ) «1» ، من خالفك فهو فى شق الأعداء، ومن خدمك فهو فى شق «2» الأولياء. «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» : كفاية الله متحققة لأن عناية الله بكم متعلقة، فمن نابذكم قصمته أيادى النصرة، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم (منا) «3» خصائص اللطف والإكرام. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 138] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) معناه الزموا صبغة الله، فهو نصب بإضمار فعل. والإشارة أن العبرة بما وضع الحق لا بما جمع العبد، فما يتكلفه الخلق فإلى الزوال مآله، وما أثبت الحقّ عليه الفطرة فبإثباته العبرة. وللقلوب صبغة وللأرواح صبغة وللأسرار صبغة وللظواهر صبغة. صبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 139] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) «4» كيف تصحّ محاجة الأجانب «5» وهم تحت غطاء الغيبة، وفى ظلال الحجبة. والأولياء فى ضياء الكشف وظهر الشهود؟   (1) هنا كلمة (بالواجب) ونظن أنها فى الأصل (بالفرقة) او ما فى معناها لتقابل (الوصلة) . (2) وردت (سك) والمعنى يرفضها تماما مما يدل على أنها خطأ من الناسخ وربما كانت (سلك) . (3) وردت (من) وهى مقبولة، ولكن الأجمل أن تكون (منا) حتى تنسجم الموسيقى الداخلية- وهذه خصيصة فى أسلوب القشيري- مع (معنا) فى الجملة السابقة عليها، فضلا عن أن فيها إعادة كل فضل إلى الله. (4) أخطأ الناسخ وكتبها (مصلحون) وصحة الآية (138) (.. مخلصون) . (5) وردت (الاجابة) وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ومتى يستوى حال من هو بنعت الإفلاس بغيبته مع حال من هو فى حكم الاختصاص والإخلاص لانغراقه فى قربته؟ هيهات لا سواء! قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 140] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) من نظر من نفسه إلى الخلق يتخيّل كلّا برقمه، ويحسب الجميع بنعت مثله فلمّا كانوا بحكم الأجنبيّة حكم الأنبياء- عليهم السّلام- بمثل حالتهم، فردّ الحقّ- سبحانه- عليهم ظنّهم و ( ... ) «1» فيهم رأيهم. وهل يكون المجدوب عن شاهده كالمحجوب فى شاهده؟ وهل يتساوى المختطف «2» عن كلّه بالمردود إلى مثله؟ ذلك ظن الذين كفروا فتعسا «3» لهم! قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 141] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) حالت بينكم وبينهم حواجز من القسمة فهم على الفرقة والغفلة أسسوا بنيانهم، وأنتم على الزلفة والوصلة ضربتم خيامكم. وعتيق فضلنا لا يشبه طريد قهرنا «4» .   (1) مشتبهة فى (ص) . (2) وردت (المختلف) وهى خطأ من الناسخ، فمن معرفتنا بأسلوب القشيري نجزم أنها (المختطف) عن كله خذ مثلا قوله فى مستهل رسالته معبرا عن الفكرة ذاتها ... واختطفوا عنهم بالكلية) . (3) وردت (فتعاسا) والصحيح (فتعسا) . (4) أخطأ أحد قراء النسخة (ص) حينما فهم (عتيق) هنا على معنى قديم والمقصود هنا- حسب السياق العام- أنها بمعنى حر، فمعنى العبارة: إن من يتحرر فى أكناف فضل الله ليس كمن يشرد في متاهات قهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 142] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) سقمت بصائر الكفار فلم يلح لهم وجه الصواب فى جميع أحوال المؤمنين، فطالعوها بعين الاستقباح، وانطلقت ألسنتهم بالاعتراض «1» فى كل ما كان ويكون منهم، فلم يروا شيئا جديدا إلا أتوا عليه باعتراض جديد. فمن ذلك تغير أمر القبلة حينما حوّلت إلى الكعبة قالوا إن كانت قبلتهم حقا فما الذي ولّاهم «2» عنها؟ فقال جل ذكره: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يتعبّد العباد إلى أي قطر و ( ... ) ونحو شاءوا، وكذلك أصحاب الغيبة والحجبة- عن شهود تصريف الحق لأوليائه- يطلبون وجوها من الأمر، يحملون عليها أحوالهم، ولو طالعوا الجميع من عين واحدة لتخلصوا عن ألم توزّع الفكر، وشغل ترجّم الخاطر، ومطالبات تقسّم الظنون، ولكنّ الله يهدى لنوره من شاء. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) الوسط الخيار، فجعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة «3» خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار. فكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم فى القيامة فهذه الطائفة هم الأصول، وعليهم المدار، وهم القطب، وبهم يحفظ الله جميع الأمة، وكلّ من قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردّته «4» قلوبهم فهو المردود. فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم   (1) وردت (بالأعراض) وربما يقبلها المعنى، ولكن النطق (بالاعتراض) أكثر ملاءمة، خصوصا وقد جاءت (الاعتراض) بعد قليل. [ ..... ] (2) وردت (وليهم) وهى خطأ فى الكتابة. (3) يقصد أهل الحقائق. (4) فى النسخة (روية) ومصححة فى الهامش (ردّته) وهى الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 عصم جميع الأمة (عن) «1» الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة عن الخطأ فى النظر والحكم، والقبول والرد، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وكل ما لا يكون فيه اقتداء بالرسول «2» عليه السّلام فهو عليه ردّ «3» ، وصاحبه على لا شىء. قوله جل ذكره: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. بيّن أن الحكم فى تقرير أمر القبلة إلى وقت التحويل، وتحويلها من وقت التبديل كان اختبارا لهم من الحق ليتميز الصادق من المارق «4» ، ومن نظر إلى الأمر بعين التفرقة لكبر عليه أمر التحويل، ومن نظر بعين الحقيقة ظهرت لبصيرته وجوه الصواب. ثم قال: «وما كان الله ليضيع إيمانكم» أي من كان مع الله فى جميع الأحوال على قلب واحد فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواء غيّر أو قرّر، وأثبت أو بدّل، وحقّق أو حوّل فهم به له فى جميع الأحوال، قال قائلهم: كيفما دارت الزجاجة درنا ... يحسب الجاهلون أنّا جننّا فإن قابلوا شرقا أو واجهوا غربا، وإن استقبلوا حجرا أو قاربوا مدرا، فمقصود قلوبهم واحد، وما كان للواحد فحكم الجميع فيه واحد. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) .   (1) وردت (على) والصحيح عصم (عن) وقد استعملت (عن) فى الجملة التالية فى المعنى نفسه. (2) أخطأ الناسخ فكتبها (بالوصل) . (3) جاءت (فهو عليهم رد) والصواب أن تكون (فهو عليه رد) . (4) وردت (المارن) وقد جعلناها (المارق) لملاء منها للمعنى. ونرجح أنها كذلك فى الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 حفظ- صلوات الله عليه- الآداب حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنّاه من أمر القبلة بقلبه، فلاحظ السماء لأنها طريق جبريل عليه السّلام، فأنزل الله عزّ وجل: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» أي علمنا سؤلك عمّا لم تفصح عنه بلسان الدعاء، فلقد غيّرنا القبلة لأجلك، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب. كلّ العبيد يجتهدون فى طلب رضائى وأنا أطلب رضاك: فلنولينك قبلة ترضاها» . «فولّ وجهك شطر المسجد الحرام» : ولكن لا تعلّق قلبك بالأحجار والآثار، وأفرد قلبك لى، ولتكن القبلة مقصود نفسك، والحقّ مشهود قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أخلصوا قلوبكم لى وأفردوا شهودكم بي. قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. ولكنه علم لا يكون عليهم حجة، ولا تكون لهم فيه راحة أو منه زيادة، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» تهويلا على الأعداء، وتأميلا على الأولياء. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) «1» سبق لكم من قديم الحكم ( ... ) «2» انفراد بطريق الحق، ووقوع أعدائكم فى شق   (1) وقع الناسخ فى الخطأ حين وضع مكان (إنك إذا لمن الظالمين) مالك من الله من ولى ولا نصير، فأصلحناه. (2) هنا كلمة (القرب) ثم استبعدها الناسخ لزيادتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 البعد، فبينكما برزخ لا يبغيان، فما هم بتابعى قبلتكم وإن أريتهم من الآثار ما هو أظهر من الشموس والأقمار، ولا أنت- بتابع قبلتهم وإن أتوا بكل احتيال، حكما من الله- سبحانه- بذلك فى سابق الأزل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 146] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) حملتهم مستكنّات الحسد على مكابرة ما علموه بالاضطرار، فكذلك المغلوب فى ظلمات نفسه، ألقى «1» جلباب الحياء فلم ينجع فيه ملام، ولم يردعه عن انهماكه كلام. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 147] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) أي بعد ما طلعت لك شموس اليقين فلا تذعن «2» إلى مجوزات التخمين «3» . والخطاب له والمراد به الأمة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) الإشارة منه: أنّ كل قوم اشتغلوا عنّا بشىء حال بينهم وبيننا، فكونوا أنتم أيها المؤمنون لنا وبنا، وأنشد بعضهم: إذا الأشغال ألهونى عنك بشغلهم ... جعلتك أشغالى فأنسيتنى شغلى   (1) وردت (تلقى) وهى خطأ من الناسخ. (2) وردت (فلا ترعن) . والصواب أن تكون (فلا تذعن) بالذال. (3) يغمز القشيري هنا بما بين علوم أرباب الأحوال وبين العلوم العقلية، لأننا نعرف من مذهبه أنه مع احترامه للعقل فى البداية إلا أنه محتمل للإصابة بالتجويز والتخمين وغيرهما من الآفات التي لا تجعله جديرا- وحده- بالوصول إلى المعارف العليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 149] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) كما تستقبلون أينما كنتم القبلة- قربتم منها أم بعدتم- فكذلك أقبلوا علينا بقلوبكم كيفما كنتم حظيتم منا أو منيتم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) إذا أردت ألا يكون لأحد عليك سبيل، ولا يقع لمخلوق عليك ظلّ، ولا تصل إليك بالسوء يد، فحيثما كنت وأينما كنت وكيفما كنت كن لنا وكن منّا، فإنّ من انقطع إلينا لا يتطرق إليه حدثان. قوله جل ذكره: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي. إذا كانوا محوا عن كونهم رسوما تجرى عليهم أحكامنا- فأنّى بالخشية منهم!؟ قوله جل ذكره: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. إتمام النعمة إضافة الكشف إلى اللطف، فإن من كفاه بمقتضى جوده دون من أغناه بحق وجوده، وفى معناه أنشدوا: نحن فى أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتمّ السرور عيب ما نحن فيه- يا أهل ودّى- ... أنّكم غيّب ونحن الحضور قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 151] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) «1»   (1) أخطأ الناسخ حين كتبها (يتلون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 إرسال الرسول مفاتحة لأبواب الوصول، فكان فى سابق علمه- سبحانه- أن قلوب أوليائه متعطشة إلى لقائه. ولا سبيل لأحد إليه إلا بواسطة الرسل فأقوام ألزمهم- بإرسال الرسل إليهم الكلف، وآخرون أكرمهم- بإرسال الرسل إليهم- بفنون القرب والزّلف، وشتّان بين قوم وقوم! قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 152] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) الذكر استغراق الذاكر فى شهود المذكور، ثم استهلاكه فى وجود المذكور، حتى لا يبقى منك أثر يذكر، فيقال قد كان مرة فلان. «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» أي كونوا مستهلكين فى وجودنا، نذكركم بعد فنائكم عنكم، قال الله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» كانوا وقتا ولكنهم بانوا دائما «1» : أناس حديث حسن ... فكن حديثا حسنا لمن وعنى «2» وطريقة أهل العبارة «3» (فَاذْكُرُونِي) بالموافقات (أَذْكُرْكُمْ) بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة (فَاذْكُرُونِي) بترك كل حظ (أَذْكُرْكُمْ) بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم. (فَاذْكُرُونِي) مكتفين بي «4» عن عطائى وأفضالى (أَذْكُرْكُمْ) راضيا بكم دون أفعالكم. (فَاذْكُرُونِي) بذكرى لكم ما تذكرون، ولولا سابق ذكرى لما كان لاحق ذكركم. (فَاذْكُرُونِي) بقطع العلائق (أَذْكُرْكُمْ) بنعوت الحقائق. ويقال اذكرني لكل من لقيته أذكرك لمن خاطبته، فمن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم.   (1) يقول يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن. ومرة قال: المعارف كان فبان (الرسالة ص 157) . [ ..... ] (2) البيت منقول كما جاء فى ص، لم نحاول أن نبدل فى كتابته وهو مضطرب وزنا ومعنى. (3) وردت (العبادة) والأصوب أن يكون احتمال ورودها فى الأصل (العبارة) لتعبّر عن درجة أدنى من درجة أهل (الإشارة) . (4) وردت (مكتفيا لى) والأقرب الى المعنى أن تجعلها فى صورة الجمع وأن يكون حرف الباء أولى من اللام حيث يقال اكتفيت بالله عن عطاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ويقال (وَاشْكُرُوا لِي) على عظيم المنّة عليكم بأن قلت: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) . ويقال الشكر من قبيل الذكر، وقوله (وَلا تَكْفُرُونِ) النهى عن الكفران أمر بالشكر، الشكر ذكر، فكرر عليك الأمر بالذكر، والثلاث أول حدّ الكثرة، والأمر بالذكر الكثير أمر بالمحبة لأنّ فى الخبر: «من أحب شيئا أكثر ذكره» فهذا- فى الحقيقة- أمر بالمحبة أي أحببني أحبك «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» أي أحبونى أحببكم. ويقال: (فَاذْكُرُونِي) بالتذلل (أَذْكُرْكُمْ) بالتفضّل. (فَاذْكُرُونِي) بالانكسار (أَذْكُرْكُمْ) بالمبار. (فَاذْكُرُونِي) باللسان (أَذْكُرْكُمْ) بالجنان. (فَاذْكُرُونِي) بقلوبكم (أَذْكُرْكُمْ) بتحقيق مطلوبكم. (فَاذْكُرُونِي) على الباب من حيث الخدمة (أَذْكُرْكُمْ) بالإيجاب على بساط القربة بإكمال النعمة. (فَاذْكُرُونِي) بتصفية السّر (أَذْكُرْكُمْ) بتوفية البرّ. (فَاذْكُرُونِي) بالجهد والعناء (أَذْكُرْكُمْ) بالجود والعطاء. (فَاذْكُرُونِي) بوصف السلامة (أَذْكُرْكُمْ) يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة. (فَاذْكُرُونِي) بالرهبة (أَذْكُرْكُمْ) بتحقيق الرغبة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 153] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) استعينوا بالصبر على الصلاة أي بصبركم- عند جريان أحكام الحق عليكم- استحقاقكم صلاة ربكم عليكم، ولذا فإنه تعالى بعد «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» يقول: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ» . ويقال استوجب الصابرون نهاية الذخر، وعلو القدر حيث نالوا معيّة الله قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 154] وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) فاتتهم الحياة فى الدنيا ولكن وصلوا إلى الحياة الأبدية فى العقبى، فهم فى الحقيقة أحياء، يجدون من الله فنون الكرامات. ويقال هم أحياء لأن الخلف عنهم الله ومن كان الخلف عنه الله لا يكون ميتا، قال قائلهم فى مخلوق: إن يكن عنّا مضى بسبيله فما ... مات من يبقى له مثل خالد ويقال هم أحياء بذكر الله لهم، والذي هو مذكور الحق بالجميل يذكره السرمدي ليس بميت. ويقال إنّ أشباحهم وإن كانت متفرقة، فإنّ أرواحهم- بالحق سبحانه- متحققة. ولئن فنيت بالله أشباحهم فلقد بقيت بالله أرواحهم لأنّ من كان فناؤه بالله كان بقاؤه بالله. ويقال هم أحياء بشواهد التعظيم، عليهم رداء الهيبة وهم فى ظلال الأنس، يبسطهم جماله مرة، ويستغرقهم جلاله أخرى «1» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 155] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) ابتلاهم بالنعمة ليظهر شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم فى الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قسمه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، ابتلاهم   (1) شبيه بذلك ما يقوله القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» حينما شرح «المحيي المميت» و «الجليل الجميل» : «من كاشفه بجلاله أفناه، ومن كاشفه بجماله أحياه، فكشف الجلال يوجب محوا وغيبة، وكشف الجمال يوجب صحوا وقربة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال تزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم. «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» يعنى الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه. ويقال طالبهم بالخوف (ابتعادا) عن عقوبته ثم بمقاساة الجوع ابتغاء قربته وكرامته، ونقص من الأموال بتصدّق الأموال والخروج عنها طلبا للخير منه بحصول معرفته. «وَالْأَنْفُسِ» تسليما لها إلى عبادته. «وَالثَّمَراتِ» القول بترك ما يأملونه من الزوائد فى نعمته «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» على استحسان قضيته، والانقياد لجريان قدرته. ومطالبات الغيب إما أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب فمن أوقف المال لله فله النجاة «1» ، ومن بذل لحكمه النّفس فله الدرجات، ومن صبر عند مصائب الأقارب فله الخلف والقربات، ومن لم يدخر عنه الروح فله دوام المواصلات. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 156] الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) ... الآية. قابلوا الأمر بالصبر لا بل بالشكر لا بل بالفرح والفخر. ومن طالع الأشياء ملكا للحق رأى نفسه أجنبيا بينه وبين حكمه فمنشىء الخلق أولى بالخلق من الخلق. ويقال من شهد المصائب شهد نفسه لله وإلى الله، ومن شاهد المبلى علم أن ما يكون من الله فهو عبد بالله، وشتان بين من كان لله وبين من كان بالله الذي كان لله فصابر واقف، والذي هو بالله فساقط الاختيار والحكم، إن أثبته ثبت، وإن محاه انمحى، وإن حرّكه تحرك، وإن سكّنه سكن، فهو عن اختياراته فان، وفى القبضة مصرّف. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 157] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) .   (1) ربما كانت فى الأصل (الجنات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بصلواته «1» عليهم ابتداء وصلوا إلى صبرهم ووقوفهم عند مطالبات التقدير، لا بصبرهم ووقوفهم وصلوا إلى صلواته، فلولا رحمته الأزلية لما حصلت طاعتهم بشرط العبودية، فعنايته السابقة أوجبت لهم هداية خالصة «2» . قال تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» لما رحمهم فى البداية اهتدوا فى النهاية. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) تلك المشاهد والرسوم، وتلك الأطلال والرقوم، تعظّم «3» وتزار، وتشدّ إليها الرحال «4» لأنها أطلال الأحباب، وهنالك تلوح الآثار: أهوى الديار لمن قد كان ساكنها ... وليس فى الدار هم ولا طرب «5» وإن لتراب طريقهم بل لغبار آثارهم- عند حاجة الأحباب- أقدارا عظيمة، وكل غبرة تقع على (حافظات طريقهم) «6» لأعزّ من المسك الأذفر: وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمة ... فى تربها وجرّت به بردا قوله جل ذكره: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ. حظى الصفا والمروة بجوار البيت فشرع السعى بينهما كما شرع للبيت الطواف، فكما أن الطواف ركن فى النّسك فالسعى أيضا ركن، والجار يكرم لأجل الجار.   (1) وردت (بصلواتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن السياق يؤدى إلى (صلاته) سبحانه عليهم فى سابق الأزل، كذلك تشير الآية الكريمة إلى صلاته لا إلى صلواتهم. (2) لاحظ هنا معارضة القشيري لفكرة وجوب إثابة المطيع على الله. فالله فى رأى القشيري تنزه عن أن يجب عليه شىء، لأن طاعة المطيع أو لا فضل من الله، وليست بفضل العبد. (3) وردت (تعظيم) وهى خطأ فى النسخ. (4) وردت (الرجال) وهى خطأ فى النسخ. (5) إما أن تكون (همّ) صحيحة، أي لا حزن ولا فرح، واما أنها فى الأصل (همس) لتناسب الطرب، وليتناسبا مع خلو الدار من أقل أثر للحياة. (6) هكذا وردت فى (ص) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) الإشارة فى هذه الآية لمن كاشفه الحقّ سبحانه بعلم من آداب السلوك ثم ضنّ «1» بإظهاره للمريدين على وجه النصيحة والإرشاد استوجب المقت فى الوقت، ويخشى عليه نزع البركة عن علمه متى قصّر فيه لما أخّر من تعليم المستحق. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 160] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحسن الرّجعى، والقيام للمريدين على وجه النصيحة، وبيّنوا لهم- بجميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون- حسن قيامهم بمعاملاتهم. فإنّ أظهر الحجج لبيان أفعالك وأصدق الشهادة لتصحيح ما تدعو به الخلق إلى الله- ألا يخالف بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك، قال الله تعالى: «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) الإشارة فيه أن الذين بدا لهم بعد ما سلكوا طريق الإرادة (أن) يرجعوا إلى أحوال العادة، ثم فى تلك الوحشة قبضوا، وعلى تلك الحالة من الدنيا خرجوا، أولئك أصحاب الفرقة،   (1) وردت (ضمن) وهى خطأ من الناسخ وقد استندنا فى الوصول إلى أنها (ضنّ) من كلمة (بخل) التي سجلها الناسخ تحتها. والسياق يؤيدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فلا على أرواحهم إقبال ولا لمصيبتهم جبران، ولا لأحد عليهم ترحم، خسروا فى الدنيا والآخرة، يلعنهم البقّ فى الهواء والنقع على الماء. خالِدِينَ أي مقيمين أبدا فى هوانهم وصغرهم، لا تخفيف ولا إسعاف، ولا رفق ولا ألطاف. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 163] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) شرّفهم غاية التشريف بقوله وإلهكم. وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا: علامة من يعدّه من خاصّ الخواص أن يقول له: عبدى، وذلك أتمّ من هذا بكثير لأن قوله: «وَإِلهُكُمْ» : وإضافة نعته أتمّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لك بلا علّة، وكونك له عبد يعوّض كل نقصك وآفتك. ومتى قال لكم «وَإِلهُكُمْ» ؟ حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حين ولا أوان، ولا رسم ولا حدثان. و «الواحد» من لا مثل له يدانيه، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا قديم يؤانسه. لا شريك يعاضده ولا معين يساعده ولا منازع يعانده. أحدىّ الحق صمدىّ العين ديمومّى البقاء أبدىّ العز أزلىّ الذات. واحد فى عز سنائه فرد فى جلال بهائه، وتر فى جبروت كبريائه، قديم فى سلطان عزّه، مجيد فى جمال ملكوته. وكل من أطنب فى وصفه أصبح منسوبا إلى العمى «1» (ف) لولا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبد إذا تعرّض لعرفانه عند أول ساطع من باديات عزّه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)   (1) وردت (الأعمى) فى ص ويمكن قبولها على أنها اسم جنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تعرّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته، وأمارات وجوده، وسمات ربوبيته التي هى أقسام أفعاله. ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهين تلطف عن العبارة، ووجوه من الدلالات تدقّ عن الإشارة، فما من عين من العدم محصولة- من شخص أو طلل، أو رسم أو أثر، أو سماء أو فضاء «1» ، أو هواء أو ماء، أو شمس أو قمر، أو قطر أو مطر، أو رمل أو حجر، أو نجم أو شجر- إلا وهو على الوحدانية دليل، ولمن يقصد وجوده سبيل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة، فشغلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هوته أنفسهم، فرضوا بمعمول لهم أن يعبدوه، ومنحوت- من دونه- أن يحبوه. قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام، ولكن من أحبّ حبيبا استكثر ذكره، بل استحسن كل شىء منه. ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن (هذه) محبة الجنس   (1) وردت (قضاء) فى ص. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 للجنس، وقد يميل الجنس إلى الجنس، وتلك محبة من ليس بجنس لهم فذلك أعزّ وأحق. ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود، وأمّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حال بينهم وبين (شهوده) رداء الكبرياء على وجهه. ويقال الذين آمنوا أشد حبا لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإن عذّبهم. والكافر تبرأ من الصنم والصنم من الكافر كما قال تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... » الآية. ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهى أتم، قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» . ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم. ويقال محبة المؤمنين أتمّ وأشدّ لأنها على موافقة الأمر، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناما أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك فى حال فقرهم فكانوا يتخذون من الفضة- عند غناهم- أصناما ويهجرون ما كان من الحديد ... وعلى هذا القياس! وأمّا المؤمنون فأشدّ حبا لله لأنهم عبدوا إلها واحدا فى السّرّاء والضراء. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 166] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) إذا بدت لهم أوائل العذاب اتضح أنهم لم يقفوا من الصدق على قدم، وأمّا المؤمنون فيسلبهم أرواحهم وأملاكهم وأزواجهم وأولادهم، ويسكن (أولئك) «1» فى القبور سنين ثم يبتليهم فى القيامة بطول الآجال «2» وسوء الأعمال ثم يلقيهم فى النار.   (1) أضفنا (أولئك) ليمتنع اللبس. (2) فى ص (طول الأحوال) ونرجح أنها فى الأصل (الآجال) لأن وصف الأحوال بالطول غير ملائم فضلا عن أننا نفترض أن القشيري لا يستعمل الأحوال الا لأرباب الأحوال. وطول الآجال فى جهنم معناه تأبيد العذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 (أما المؤمنون) «1» فيأتى عليهم طول الأيام والأعمال فلا يزدادون إلا محبة (على محبة) «2» ولذلك قال: والذين آمنوا أشدّ حبا لله. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 167] وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) عند «3» ذلك يعرفون مرارة طعم صحبة المخلوقين ولكن لا يحصلون إلا على حسرات. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 168] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) الحرام- وإن استلذّ فى الحال- فهو وبيء فى المآل، والحلال- وإن استكره فى الحال- فهو مرىء فى المآل. والحلال الصافي ما لم ينس مكتسبه الحقّ فى حال اكتسابه «4» . ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق فى كل حال. وكلّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 169] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) لاجترائه على الله يدعوك به إلى افترائك على الله.   (1) أضفناها ليستقيم السياق إذ يبدو أنها سقطت أثناء النسخ. (2) فى الهامش مستدركة وعليها علامة بموضعها. (3) وردت (عن) والأصح (عند) . (4) القشيري هنا مستفيد من تعريف سهل بن عبد الله التستري للحلال الصافي (الرسالة ص 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 170] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) لا ترفع أبصارهم عن أشكالهم وأصنافهم، من أضرابهم وأسلافهم، فبنوا على منهاجهم، فلا جرم انخرطوا فى النار، وانسلكوا فى سلكهم، ولو علموا أن أسلافهم لا عقل يردعهم، ولا رشد يجمعهم لنابذوهم مناصبين، وعاندوهم مخالفين، ولكن سلبوا أنوار البصيرة، وحرموا دلائل اليقين. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) عدموا سمع الفهم والقبول، فلم ينفعهم سمع الظاهر، فنزلوا منزلة البهائم فى الخلوّ عن التحصيل، ومن رضى أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 172] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) الحلال ما لا تبعة عليه، والطيب الذي ليس لمخلوق فيه منّة، وإذا وجد العبد (طعاما) يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب. وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس فى غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 حرّم على الظواهر هذه المعدودات وهى ما أهل به لغير الله، وحرّم على السرائر صحبة. غير الله بل شهود غير الله، فمن اضطر- أي لم يجد إلى الاستهلاك فى حقائق الحق وصولا- فلا يسلكنّ غير سبيل الشرع سبيلا، فإما أن يكون محوا فى الله، أو يكون قائما بالله، أو عاملا لله، والرابع همج لا خطر له. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 174] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) العلماء مطالبون بنشر دلائل العلم، والأولياء مأمورون بحفظ ودائع السّر فإن كتم هؤلاء براهين العلوم ألجموا بلجام من النار، وإن أظهر هؤلاء شظية من السر عوجلوا ببعاد الأسرار، وسلب ما أوتوا «1» من الأنوار. ولكل حدّ، وعلى كل أمر قطيعة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 175 الى 176] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) إن الذين آثروا الغير على الغيب، والخلق على الحقّ، والنفس على الأنس، ما أقسى قلوبهم، وما أوقح محبوبهم ومطلوبهم، وما أخسّ «2» قدرهم، وما أفضح «3» لذوى الأبصار أمرهم! ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق، وأمضى القضاء والحكم فيه بالصدق، وأوصلهم إلى ما له أهّلهم، وأثبتهم على الوجه الذي عليه جبلهم.   (1) وردت (أتوا) والصواب (أوتوا) لتناسب المعنى. (2) وردت (أخص) والصواب أخس لتناسب المعنى. (3) وردت ما (أفصح) ونرجح أنها فى الأصل ما (افضح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) «1» والإشارة أن الظواهر ليس لها كثير اعتبار إنما الخبر عن الله عزيز. وكثرة الأوراد- وإن جلّت- فحرفة العجائز، وإخلاص الطاعات- وإن عزّ- فصفة العوام، ووصل الليل بالنهار فى وظائف كثيرة ومجاهدات غزيرة عظيم الخطر فى استحقاق الثواب، ولكنّ معرفة الحق عزيزة. وما ذكر فى هذه الآية من فنون الإحسان، ووجوه قضايا الإيمان، وإيتاء المال، وتصفية الأعمال، وصلة الرحم، والتمسك بفنون الذّمم والعصم، والوفاء بالعهود، ومراعاة الحدود- عظيم الأثر، كثير الخطر، محبوب الحق شرعا، ومطلوبه أمرا لكنّ قيام الحق عنك بعد فنائك، وامتحانك من شاهدك، واستهلاكك فى وجود القدم، وتعطل رسومك عن مساكنات إحساسك- أتمّ وأعلى فى المعنى لأن التوحيد لا يبقى رسما ولا أثرا، ولا يغادر غيرا ولا غبرا «2»   (1) اخطأ الناسخ فكتها (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) . (2) الغير السوي أما (الغبر) فمعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 178] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) حق القصاص مشروع، والعفو خير، فمن جنح إلى استيفاء حقه فمسلّم له، ومن نزل عن ابتغاء حقه فمحسن، فالأول صاحب عبادة بل عبودية، والثاني صاحب فتوة بل حرية والدم المراق يجرى فيه القصاص على لسان أهل العلم، وأمّا على لسان الإشارة لأهل القصة «1» فدماؤهم مطلولة وأرواحهم هدرة قال: وإن فؤدا رعته لك حامد ... وإنّ دما أجريته بك فاخر وسفك دماء الأحباب (فوق) «2» بساط «3» القرب خلوف أهل الوصال، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللون لون الدم ... والريح ريح المسك» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 179] وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) فى استيفاء القصاص حياة لأنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أمسك عن القتل وفى ذلك حياة القاتل والمقتول. ولكن ترك القصاص- على بيان الإشارة- فيه أعظم الحياة لأنه إذا تلف فيه (سبحانه)   (1) أهل القصة هم أرباب الأحوال. (2) وردت (فى) والأصوب فوق. (3) وردت (سباط) وقد رجحنا (بساط) القرب لورودها فى مواضع أخرى هكذا. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فهو الخلف عنه، وحياته عنه أتم له من بقائه بنفسه، وإذا كان الوارث عنهم الله والخلف عنهم الله فبقاء الخلف «1» أعزّ من حياة من ورد عليه التلف. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) من ترك مالا فالوصية له فى ماله مستحبة، ومن لم يترك شيئا فأنّى بالوصية!! فى حالة الأغنياء يوصون فى آخر أعمارهم بالثلث، أمّا الأولياء فيخرجون فى حياتهم عن الكلّ، فلا تبقى منهم إلا همة انفصلت عنهم ولم تتصل بشىء لأن الحق لا سبيل للهمة إليه، والهمة لا تعلّق لها بمخلوق، فبقيت وحيدة منفصلة غير متصلة، وأنشدوا: أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... يحبكم عظمى فى التراب رميم هذه وصيتهم: وقال بعضهم: ( .............. ) «2» لا بل كما قال قائلهم: وأتى الرسول فأخبر أنهم رحلوا قريبا ... رجعوا إلى أوطانهم فجرى له دمعى صبيبا قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) من حرّف نطقا جرى بحقّه لحقه شؤم ذلك ووباله. وعقوبته أن يحرم رائحة الصدق أن يشمه. فمن أعان الدين أعانه الله، ومن أعان على الدين خذله الله.   (1) وردت (الخلق) والصواب (الخلف) . (2) هنا شاهد شعرى عجزنا تماما عن قراءته أو إصلاحه ... وما أكثر خطأ الناسخ فى نقل شواهد الشعر!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 182] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الإشارة فيه: أن من تفرّس «1» فى بعض المريدين ضعفا، أو رأى فى بعض «2» أهل البداية رخاوة قصد أو وجد بعض الناصحين يتكلم بالصدق المحض على من لم يحتمله- فرأى أن يرفق بذلك المريد بما يكون ترخيصا له أو استمالة له أو مداراة أو رضا بتعاطى مباح- فلا بأس به فإن حمل الناس على الصدق المحض مما لم يثبت له كثير أجر. فالرّفق بأهل البداية- إذا لم يكن لهم صارم عزم، ولا صادق جهد- ركن فى ابتغاء الصلاح عظيم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 183] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) الصوم على ضربين: صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السّرّ عن الملاحظات. ويقال صوم العابدين شرطه- حتى يكمل- صون اللسان عن الغيبة، وصون الطرف عن النظر بالريبة كما فى الخبر: (من صام فليصم سمعه وبصره ... ) ... الخبر «3» ، وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره. وإن من أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق، قال صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» : الهاء فى قوله   (1) وردت بالصاد وهى خطأ من الناسخ. (2) وردت (فى أهل بعض البداية) وواضح أنها خطأ من الناسخ. (3) (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ويدك: معناه من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) . رواه البخاري وأصحاب السنن عن أبى هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 عليه السّلام- لرؤيته- عائدة عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه، فالعلماء يقولون معناه عندهم صوموا إذا رأيتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله، والذي «1» هم به محو- الله. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 184] أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) من شهد الشهر صام لله، ومن شهد خالق الشهر صام بالله، فالصوم لله يوجب المثوبة، والصوم بالله يوجب القربة. الصوم لله تحقيق العبادة والصوم بالله تصحيح الإرادة. الصوم لله صفة كل عابد والصوم بالله نعت كل قاصد. الصوم لله قيام بالظواهر والصوم بالله قيام بالضمائر. الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة. من شهد الشهر أمسك عن المفطرات ومن شهد الحق أمسك فى جميع أوقاته عن شهود المخلوقات. من صام بنفسه سقى شراب السلسبيل والزنجبيل، ومن صام بقلبه سقى شراب المحاب بنعمة الإيجاب. ومن صام بسرّه فهم الذين قال فيهم الله تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» . شراب يا له من شراب!! شراب لا يدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف. شراب استئناس لا شراب كاس. قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك. الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة   (1) وردت (والذين) وهو خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فليمهل حتى تقوى عزيمته وتشتد إرادته، فعند ذلك يستدرك منه ما رخّص له بالأخذ بالتأويل، وتلك سنّة الله سبحانه وتعالى فى التسهيل على أهل البداية، ثم استيفاء ذلك منهم واجب فى آخر الحال. قوله جل ذكره: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ «1» ............ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الإشارة منه أنّ من فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجردا للواحد. [فصل] ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضى المشقة خففه عليك ذلك بأن قلّل أيام الصوم فى قلبك فقال: «أياما معدودات» أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره، وهذا كقوله تعالى: وجاهدوا فى الله حق جهاده. ثم قال: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي لا يلحقكم كثير مشقة فى القيام بحق جهاده. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) رمضان يرمض ذنوب قوم ويرمض رسوم قوم، وشتان بين من تحرق ذنوبه رحمته وبين من تحرق رسومه حقيقته.   (1) وقع الناسخ فى سهو حين أعاد ثلاثة أسطر مما سبق له أن كتبه، ووقعت هذه الأسطر المعادة بين كلمتى (فدية، وطعام) فى الآية الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة. شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة. شهر النجاة، شهر المناجاة. قوله جل ذكره: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. أراد بك اليسر (وأنت تظن) أنه أراد بك العسر. ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه (أقامه) «1» بطلب اليسر ولو لم يرد به اليسر لما جعله راغبا فى اليسر، قال قائلهم: لو لم ترد نيل ما أرجوا وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتنى الطلبا حقّق الرجاء وأكّد الطمع وأوجب التحقيق حيث قال: «ولا يريد بكم العسر» لينفى عن حقيقة التخصيص مجوزات الظنون. قوله جل ذكره: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ. على لسان العلم تكملوا مدة الصوم. وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال (وفاء) «2» (المآل) «3» ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون» فى النّفس الأخير، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم. والتوفيق فى أن تكمل صوم شهرك عظيم لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة- أعظم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)   (1) جاءت (أقام) وقد جعلناها (أقامه) ليزداد وضوح المعنى. (2) جاءت (ووفاء) ونظن أن الواو الأولى زائدة من الناسخ. (3) جاءت (المال) وقد اعتاد الناسخ أن يكتب المال مثل المآل أي بدون علامة على المد، وآثرنا هنا أن نضعها، فالمقصود الإعداد لليوم الآخر بالطاعات والعبادات، وغاية التمام أن تجمع بين الحقيقة والشريعة. هذا فضلا عن أن الإشارة للصوفية، والصوفية قوم لا مال لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 سؤال كل أحد يدلّ على حاله لم يسألوا عن حكم ولا عن مخلوق ولا عن دين «1» ولا عن دنيا ولا عن عقبى بل سألوا عنه فقال تعالى: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي» . وليس هؤلاء من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» ، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» ، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ» ، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» ، ولا من جملة من قال: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» ، و «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ» . هؤلاء قوم مخصوصون: «وَإِذا سَأَلَكَ «2» .... عِبادِي عَنِّي» . أي إذا سألك عبادى عنى فبماذا تجيبهم؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد، فأنت وإن كنت السفير بيننا وبين الخلق فهذا الجواب أنا أتولاه «فَإِنِّي قَرِيبٌ» (رفع الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يقل قل لهم إنى قريب بل قال جل شأنه: فإنى قريب) «3» . ثم بيّن أن تلك القربة ما هى: حيث تقدّس الحقّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» وإن الحق سبحانه قريب- من الجملة والكافة- بالعلم والقدرة والسماع والرؤية، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة، وجلّ وتقدّس عن أن يكون قريبا من أحد بالذات والبقعة فإنه أحدىّ لا يتجه فى الأقطار، وعزيز لا يتصف بالكنه والمقدار. قوله جل ذكره: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. لم يعد إجابة من كان باستحقاق زهد أو فى زمان عبادة بل قال دعوة الداعي متى دعانى وكيفما دعانى وحيثما دعانى ثم قال: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» هذا تكليف، وقوله:   (1) تكررت كلمة (دنيا) مرتين فرجحنا أن تكون الأولى (دين) وتركنا الثانية (دنيا) لتتقابل مع (عقبى) . (2) وضع الناسخ علامة تشعر بوجود كلمات زائدة بين (سألك) ... (وعبادى) فحذفنا الزائدة. (3) ما بين القوسين تكملة من الهامش استدركها الناسخ فوضعناها فى موضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» تعريف وتخفيف، قدّم التخفيف على التكليف، وكأنه قال: إذا دعوتنى- عبدى- أجبتك، فأجبنى أيضا إذا دعوتك، أنا لا أرضى بردّ دعائك فلا ترض- عبدى- بردّى من نفسك. إجابتى لك بالخير تحملك- عبدى- على دعائى، ولا دعاؤك يحملنى على إجابتك. «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي» : وليثقوا فى، فإنى أجيب من دعانى، قال قائلهم: يا عزّ أقسم بالذي أنا عبده ... وله الحجيج وما حوت عرفات «1» لا أبتغى بدلا سواك خليلة ... فثقى بقولي والكرام ثقات ثم قال فى آخر الآية: «لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» أي ليس القصد من تكليفك ودعائك إلا وصولك إلى إرشادك. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) أخبر أنه- فى الحقيقة- لا يعود إليه عائد من أوصاف الخلق إن كنت فى العبادة التي هى حق الحق أو فى أحكام العادة من صحبة جنسك التي هى غاية النفس والحظ، فسيّان فى حالك إذا أورد فيه الإذن.   (1) جاءت (عرفان) وهى خطأ فى النسخ. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 نزلت الآية فى زلّة بدرت من الفاروق «1» ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع «2» المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية. ويقال علم أنه لا بدّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار فى هذا الشهر بين حقه وحظّك، فقال أما حقى ف «أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» ، وأما حظك ف «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» . قوله جل ذكره: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أخبر أن محل القدرة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بكم فيكم، وإذا كنتم قائمين بنا فلا تعودوا منّا إليكم. ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يمزج الجدّ بالهزل، قالت عائشة رضى الله عنها: يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك فقال عليه السّلام: ذريتى يا ابنة أبى أبكر أتعبد ربى. وقال صلّى الله عليه وسلّم لى وقت لا يسعنى غير ربى «3» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) .   (1) أي عمر بن الخطاب. قال هشام عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال قام عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله إنى أردت أهلى البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتلّ فواقعتها فنزل فى عمر (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) وهكذا روى عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 1 ص 220، 221 ط الحلبي) . (2) وردت (جميع) . (3) للحديث صورة أخرى «لى مع الله وقت لا يسعنى فيه شىء غير الله عز وجلّ» والمعنى صحيح ولكن سنده غير معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 إذا تحاكم إلى المخلوقين فاعلموا أن الله مطلع عليكم، وعلمه محيط بكم، فراقبوا موضع الاستحياء من الحق سبحانه، ولئن كان المخلوقون «1» عالمين بالظواهر فالحق- سبحانه وتعالى- متولى السرائر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) الأهلة- جمع هلال- مواقيت للناس لأشغالهم ومحاسباتهم. وهى مواقيت لأهل القصة فى تفاوت أحوالهم فللزاهدين مواقيت أورادهم، وأما أقوام مخصوصون فهى لهم مواقيت لحالاتهم، قال قائلهم. أعد الليالى ليلة بعد ليلة ... وقد كنت قدما لا أعد اللبالبا وقال آخر: ثمان قد مضين بلا تلاق ... وما فى الصبر فضل عن ثمان وقال آخر: شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار «2» قوله جل ذكره: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. يعنى ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 190] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) لتكن نفوسكم عندكم ودائع الحق إن أمر بإمساكها أمسكوها وصونوها، وإن أمر   (1) وردت (المخلوقين) وهى خطأ من الناسخ لأن اسم كان مرفوع بالواو. (2) سرار النهر وسراره (بالكسر والفتح) آخر ليلة فيه (الوسيط ص 428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بتسليمها إلى القتل فلا تدّخروها عن أمره، وهذا معنى قوله: «وَلا تَعْتَدُوا» وهو أن تقف حيثما أوقفت، وتفعل ما به أمرت. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 191] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) يعنى عليكم بنصب العداوة مع أعدائى- كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائى- فلا تشفقوا «1» عليهم وإن كان بينكم واصد «2» الرحم ووشائج القرابة. «وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» . أولا أخرجوا حبّهم وموالاتهم من قلوبكم، ثم ( .... ) «3» عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جاريا عليهم. قوله جل ذكره: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. والإشارة: أنّ المحنة التي ترد على القلوب من طوارق الحجب أشد من المحنة التي ترد على النفوس من بذل الروح، لأن فوات حياة القلب أشد من فوات حياة النّفس، إذ النفوس حياتها بمألوفاتها، ولكن حياة القلب لا تكون إلا بالله. ويقال الفتنة أشد من القتل: أن «4» تنأى عن الله أعظم من أن تنأى عن روحك وحياتك. قوله جل ذكره: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. الإشارة منه: لا تشوش وقتك «5» مع الله إذا كان بوصف الصفات بما تدخله على نفسك   (1) ووردت (فلا تشقوا) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم. (2) الواصد والآصد العهد. مثل الورث والإرث والوحد والأحد وربما كانت أواصر. (3) مشتبهة فى ص وربما كانت: ثم (أخرجوهم) . (4) وردت (تنقى) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم. (5) قال الدقاق- شيخ القشيري- فى تعريف الوقت: الوقت ما أنت فيه فإن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن. ويعلّق القشيري على رأى أستاذه قائلا: يريد بهذا أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان. ويقولون الصوفي ابن وقته يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به فى الحال، قائم بما هو مطالب به فى الحين. وينبغى ألا يفرط العبد فيما يقتضيه حق الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وإن كانت نوافل من الطاعات، فإن زاحمك مزاحم يشغلك عن الله فاقطع مادة ذلك عن نفسك بكل ما أمكنك لئلا تبقى لك علاقة تصدك «1» عن الله. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 192] فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) الإشارة منه: إذا انقطعت عنك غاغة خواطرك وأعداء نفسك، مما يخرجك عنه ويزاحمك، فلم حديث النفس ودع مجاهداتها فإنّ من طولب بحفظ الأسرار لا يتفرغ إلى مجاهدات النفوس بفنون المخالفات «2» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 193] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الإشارة من الآية إلى مجاهدات النفوس فإنّ أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. أي استوف أحكام الرياضات حتى لا يبقى للآثار البشرية شىء، وتسلم النّفس والقلب لله، فلا يكون معارض ولا منازع منك لا بالتوقي ولا بالتلقى، لا بالتدبير ولا بالاختيار- بحال من الأحوال تجرى عليك صروفه «3» كما يريد، وتكون «4» محوا عن الاختيارات، بخلاف ما يرد به الحكم، فاذا استسلمت النفس فلا عدوان إلا على أرباب التقصير، فأمّا من قام بحق الأمر تقصى عن عهدة الإلزام. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) .   (1) وردت (تصدق) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم: (2) يريد القشيري بهذه الفقرة أن تنزل على حكم المرحلة التي وصلت إليها، فإذا اجتاز بك فضل الله مرحلة جهادك مع نفسك إلى ما فوقها فلا تشغلنّ وقتك إلا بما صرت عليه، بمعنى أن تنزل على حكم الوقت. (3) وردت (حروفه) والصواب صروفه، وقد جاء فى الرسالة هذا الشاهد: تجرى عليك صروفه ... وهموم سرك مطرقة (الرسالة ص 63) (4) وردت (يكون) وهى خطأ من الناسخ. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الإشارة فيه: إذا تقابل حقان كلاهما لله فسلّم الوقت بحكم الوقت، ودل مع إشارات الوقت، وإياك أن ترجح أحدهما على الآخر بمالك من حظ- وإن قلّ- فتحجب عن شهود الحق، وتعمى بصيرة قلبك. وكلّ ما كان إلى خلاف هواك أقرب، وعن استجلابك وسكونك إليه أبعد- كان ذلك فى نفسه أصوب. «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» : الذين اتقوا إيثار هواهم على ما فيه رضاه، فإذا قاموا لله- فيما يأتون- لا لهم فإن الله تعالى بالنصرة معهم، قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ» - قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) إنفاق الأغنياء من أموالهم، وإنفاق العابدين بنفوسهم لا يدخرونها عن العبادات والوظائف، وإنفاق العارفين بقلوبهم لا يدخرونها عن أحكامه، وإنفاق المحبين بأرواحهم لا يدخرونها عن حبّه. إنفاق الأغنياء من النّعم وإنفاق الفقراء من الهمم. إنفاق الأغنياء إخراج المال من الكيس، وإنفاق الفقراء إخراج الروح عن أنفس النفيس، وإنفاق الموحّدين إخراج الخلق من السّر. قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» الإشارة فيه إلى إمساك يدك عن البذل فمن أمسك يده وادّخر شيئا لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة. ويقال: إلى إيثار هواك على رضاه. ويقال «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» أي الغفلة عنه بالاختيار. ويقال توهّم أنك تعيش من دون لطفه وإقباله لحظة. ويقال الرضا بما أنت فيه من الفترة والحجاب. ويقال إمساك اللسان عن دوام الاستغاثة فى كل نفس. قوله تعالى: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» الإحسان أن ترفق مع كل أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 إلا معك فإحسانك إلى نفسك فى صورة إساءتك إليها فى ظن الاعتماد، وذلك لارتكابك كل شديدة، ومقاساتك فيه كل عظيمة. والإحسان أيضا ترك جميع حظوظك من غير بقية، والإحسان أيضا تفرغك الى قضاء حق كل أحد علّق عليك حديثه. والإحسان أن تعبده على غير غفلة. والإحسان أن تعبده وأنت بوصف المشاهدة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيها (دون) التقصير فى بعض أحوالها. وفى التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك «1» . وعلى لسان الإشارة الحج هو القصد فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص. وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى، وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى. ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك. وأفضل الحج الشجّ والعجّ الشّجّ صبّ الدّم والعجّ رفع الصوت بالتلبية، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين الخلاف «2» ، ورفع أصوات السّر بدوام الاستغاثة، وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف   (1) قال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن على أنه قال فى هذه الآية (وأتموا الحج والعمرة لله) قال أن تحرم من دويرة أهلك، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس. (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 1 ص 230 ط الحلبي) . (2) الخلاف هنا معناها (المخالفة) أي مخالفة النفس وأهوائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 القلوب الأسامى والصفات لعزّ الذات (عند) «1» المواصلات. ثم طواف القلوب حول (مشاهدة) «2» العز، والسعى بالأسرار بين صفّىّ كشف الجلال ولطف الجمال. ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات، والمنى والمعارضات.. بكل وجه. قوله جل ذكره: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. الحصر بأمرين بعدو أو مرض. والإشارة فيه إن استولى عدو النفس فلم تجد بدا من الإناخة بعقوة الرّخص وتأويلات العلم فعند ذلك تتحلل بموجب العذر والاضطرار إذ لا مزاحمة مع الحكم. «والهدى» الذي يهدى به عند التحلل بالعذر، والخروج عن المعلوم، وتسليمه للفقراء، وانتظار أن يزول الحصر فيستأنف الأمر. وإن مرضت الواردات وسقمت القصود وآل الأمر إلى التكليف فليجتهد ألا ينصرف كما أنه فى الحج الظاهر يجتهد بألا ينصرف لكل مرض أو إن احتاج إلى اللبس والحلق وغير ذلك- بشرط الفدية. ثم إن عجز، اشترط أن محله حيث حسبه فكذلك يقوم ويقعد فى أوصاف القصد وأحكام الإرادة، فإن رجع- والعياذ بالله- لم يقابل إلا بالردّ والصد، وقيل: فلا عن قلى كان التقرب بيننا ... ولكنه دهر يشتّ ويجمع وقال الآخر: ولست- وإن أحببت من يسكن الفضا ... بأوّل راج حاجة لا ينالها قوله جل ذكره: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.   (1) وردت (عن) فى ص، والأسامى والصفات مقصود بها أسماء الله الحسنى وصفاته. (2) نرجح أنها فى الأصل (مشاهد) جمع مشهد لتناظر (مشاهد) الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يبذل ما أمكنه، ويخرج عن جميع ما يملكه، وعليه آثار الحسرة، واستشعار أحزان الحجبة. «فمن كان منكم مريضا ... » إلخ: الإشارة منه أن يبتهل ويجتهد بالطواف على الأولياء، والخدمة للفقراء، والتقرب بما أمكنه من وجود الاحتيال والدعاء. قوله جل ذكره: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. فإذا تجلت أقمار القصود عن كشوف التعزز، وانجلت غيابة الحجبة عن شموس الوصلة وأشرق نور الإقبال فى تضاعيف أيام الوقفة، فليستأنف للوصلة وقتا، وليفرش للقربة بساطا، وليجدد للقيام بحق السرور نشاطا، وليقل: حىّ على البهجة! فقد مضت أيام المحنة. وليكمل الحج والعمرة، وليستدم القيام بأحكام الصحبة والخدمة. «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بالحجاب لمن لم يره أهلّة الوصلة والاقتراب. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) كما أن الحج بالنفوس أشهر معلومات لا ينعقد الإحرام به إلا فيها، ولا يجوز فعل الحج فى جميع السّنة إلا فى وقت مخصوص، من فاته ذلك الوقت فاته الحج- فكذلك حج القلوب له أوقات معلومة لا يصح إلا فيها، وهى أيام الشباب فمن لم تكن له إرادة فى حال شبابه فليست له وصلة فى حال مشيبه، وكذلك من فاته وقت قصده وحال إرادته فلا يصلح إلا للعبادة التي آخرها الجنة، فأما الإرادة التي آخرها الوصلة.. فلا. قوله جل ذكره: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 كذلك الإشارة لمن سلك طريق الإرادة ألا يعرّج على شىء فى الطريق، ولا يمزج إرادته بشىء. فمن نازعه أو عارضه أو زاحمه- سلّم الكل للكل، فلا لأجل الدنيا مع أحد يخاصم، ولا لشىء من حظوظ النّفس والجاه مع أحد يزاحم، قال تعالى: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» . قوله جل ذكره: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. تكتفى بعلمه وحكمه عن شهود خلقه وحكم خلقه وعلم خلقه. قوله جل ذكره: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ. تقوى العامة مجانبة الزلات، وتقوى الخواص مجانبة الأغيار بالسرائر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) الإشارة فيه أن ما تبتغى من فضل الله مما يعنيك على قضاء حقّه، ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدين- فهو محمود. وما تطلبه لاستيفاء حظك أو لما فيه نصيب لنفسك- فهو معلول. قوله جل ذكره: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. الإشارة فيه إذا وقفت حتى قمت بحق طلبه فاذكر فضله معك فلولا أنه أرادك لما أردته، ولولا أنه اختارك لما آثرت رضاه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 199] ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) الإشارة فيه ألا تعلم نفسك بما تمتاز عن أشكالك فى الظاهر لا بلبسة ولا بخرقة ولا بصفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 بل تكون كواحد من الناس، وإذا خطر ببالك أنك فعلت شيئا، أو بك أو لك أو معك شىء فاستغفر الله، وجدّد إيمانك فإنه شرك خفى خامر قلبك. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 200] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) «قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» إشارة إلى القيام بحق العبودية. «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» إشارة إلى القيام بحق المحبة. قضاء المناسك قيام بالنفس. «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» قيام له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر. ويقال كما أنّ الأغيار يفتخرون بآبائهم، ويستبشرون بأسلافهم فليكن افتخاركم بنا واستبشاركم بنا. ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقّ التربية فحقّنا عليكم أوجب، وأفضالنا عليكم أتم. ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب «1» ، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال. ويقال إنك لا تملّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك، فاستدم ذكرنا، ولا تعترضنّك ملالة أو سآمة «2» أو نسيان. ويقال إن طعن فى نسبك طاعن لم ترض فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبدع فذبّ عنّا. ويقال الأب يذكر بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية. وقال «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يذكر احتراما والأم تذكر شفقة عليها، والله يرحم ولا يرحم.   (1) وردت (مثاقب) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (مسامة) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» لأن الحقّ أحقّ، ولأنك قد تستوحش كثيرا عن أبيك، والحقّ سبحانه منزّه عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضى الواجب حتى إن كان ذرة. وقوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» الأب على ما يستحقه والرب على ما يستحقه. قوله جل ذكره: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا «1» وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. خطاب لوقاله مخلوق لك كان شاكرا «2» ، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة، ولكن بفضله أحلّك محل أن يشكو إليك فقال: من الناس من لا يجنح قلبه إلينا، ويرضى بدوننا عنّا، فلا يبصر غير نفسه وحظّه، ولا يمكن إيمان له بربه وحقّه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 201] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) إنما أراد بها حسنة تنتظم بوجودها جميع الحسنات، والحسنة التي بها تحصل جميع الحسنات فى الدنيا- حفظ الإيمان عليهم فى المآل فإنّ من خرج من الدنيا مؤمنا لا يخلد فى النار، وبفوات هذا لا يحصل شىء. والحسنة التي تنتظم بها حسنات الآخرة- المغفرة، فإذا غفر فبعدها ليس إلا كل خير. ويقال الحسنة فى الدنيا العروف عنها، والحسنة فى الآخرة الصون عن مساكنتها. والوقاية من النار ونيران الفرقة إذ اللام فى قوله «النار» لام جنس فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة جميعا. ويقال الحسنة فى الدنيا شهود بالأسرار وفى الآخرة رؤية بالأبصار. ويقال حسنة الدنيا ألا يغنيك عنك وحسنة الآخرة ألا يردك إليك.   (1) التبس على الناسخ نقل هذه الآية بالآية التي تليها فوضع هنا (حسنة) وهى زائدة. (2) نرجح أنها (شاكيا) فى الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ويقال حسنة الدنيا توفيق الخدمة وحسنة الآخرة تحقيق الوصلة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 202] أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) إن كان خيرا فخير وإن كان غير فغير. «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» للعوام فى الفرصة، وللخواص فى كل نفس. ويقال ذكر فريقين: منهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا، والثاني يقول فى الدنيا والعقبى، وثالث لم يذكرهم وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لأمره، الساكنون عن كل دعاء واقتضاء. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 203] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) هذه صفة أواخر النسك، وهو الرمي فى أيام مني لما قدموا بأركان الحج خفّف عنهم بأن خيّرهم فى المقام والإفاضة والتعجيل فى التفريق. والإشارة منه أنّ من خمدت نفسه، وحبى قلبه، واستدام بحقائق الشهود (سرّه) «1» - فإن سقط عنه شىء من فروع الأوراد ففيما هو له مستديم من آداب الحضور عوض عن الذي يفوت. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 204] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) أخبر أن قوما أعرض الحق سبحانه وتعالى عن قلوبهم فأعطاهم فى الظاهر بسطة فى اللسان ولكن ربط على قلوبهم أسباب الحرمان فهم فى غطاء جهلهم، ليس وراءهم معنى، ولا على قولهم اعتماد، ولا على إيمانهم اتّكال، ولا بهم ثقة بوجه.   (1) نعلم من مذهب القشيري أن حقائق الشهود متصلة بالسر، وما دام قد ذكر النفس والقلب فقد وجدنا من الضروري للتوضيح ذكر (سره) حيث نرجح أنها سقطت من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم تساعدهم أنوار البصيرة فهم مربوطون بأحكام الظاهر لا لهم بهذا الحديث إيمان، ولا بهذه الجملة استبصار، فالواجب صون الأسرار عنهم فإنهم لا يقابلون هذا الحديث إلا بالإنكار «1» ، وإن أهل الوداعة «2» من العوام الذين فى قلوبهم تعظيم لهذه الطريقة، ولهم إيمان على الجملة بهذا الحديث لأقرب إلى هذه الطريقة من كثير ممن عدّ نفسه من الخواص وهو بمعزل عن الإيمان بهذا الأمر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 205] وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) الإشارة لمن سعيه مقصور على استجلاب حظوظه، فهو لا يبالى بما ينحلّ من عرى الدين، ويهى من أسباب الإسلام، بعد ما تشتد حبال دنياهم، وتنتظم أسباب مناهم، من حرام جمعوه، وحطام حصّلوه. فإذا خلوا لوساوسهم وقصودهم الردية سعوا بالفساد بأحكام أسباب الدنيا، واستعمالهم من يستعينون بهم فى تمشية أمورهم من القوم الذين نزع الله البصيرة من قلوبهم. «والله لا يحب الفساد» : ما كان فيه خراب الأمور الدينية ونظام الأحوال الدنيوية فهو الفساد الظاهر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 206] وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبّر، وزال عنهم خضوع الإنصاف فشمخت آنافهم عن قبول الحق فإذا أمرته بمعروف قال: ألمثلي يقال هذا؟!   (1) هنا نلاحظ أن القشيري يرى عدم البوح باسرار الطريقة وأن الكتمان خير- وهذا موقف هام فى مسألة على جانب عظيم من الخطورة. (2) وردت (الاوداعة) ونرجح أنها الوداعة لأنها أقرب إلى السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك ( ... ) «1» فيقول: وأنت أولى بأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا. أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء «2» وصفه، لم يطو على نصيحة جنبيه وتبقى فى القلب- إلى سنين- آثارها. قال تعالى «فحسبه جهنم» يعنى ما هو فيه فى الحال من الوحشة وظلمات النّفس وضيق الاختيار حتى لا يسعى فى شىء غير مراده، فيقع فى كل لحظة غير مرة فى العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم، والله رءوف بالعباد: ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 208] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) كلّف المؤمن بأن يسالم كل أحد إلا نفسه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده فإن من سالم نفسه فتر عن مجاهداته، وذلك سبب انقطاع كل قاصد، وموجب فترة كل مريد. و «خطوات الشيطان» ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وترك نزعات لا عبرة بها، ولا ينبغى أن يلتفت إليها، بل كما قال الله تعالى: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» ثم أبصر ما الذي فعل به حين ألقته، وكيف مدّه إليها بعد ما نجّاه.   (1) مشتبهة. (2) وردت (سواء) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 209] فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) الزّلة الواحدة بعد كشف البرهان أقبح من كثير منها قبل ذلك، ومن عرف فى الخيانة لا يعتمد عليه فى الأمانة. ومحنة الأكابر «1» إذا حلّت كان فيها استئصالهم بالكلية. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 210] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) استبطأ القوم قيام الساعة فأخبروا عن شدة الأمر إذا قامت الساعة بتفصيل ما ذكر. وتلك أفعال فى معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال فى علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد. «وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق. ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها إذ الحق سبحانه منزّه عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان «2» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 211] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) فائدة السؤال ليقرر عليهم بالسؤال الحجة، لا ليقرّر للرسول صلّى الله عليه وسلّم بسؤالهم ما أشكل عليهم من واضح المحبة. «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بزوال تلك النعمة. وعند ذلك يعرفون قدرها، ثم يندبونها ولا يصلون إليها قط، قال قائلهم: ستهجرنى وتتركنى ... فتطلبنى فلا تجد   (1) محنة الأكابر المقصود بها هنا زلات الأكابر، وعقوبتها أشد، وقد استدل القشيري على ذلك فى موضع سابق بأن من ترتكب فاحشة من أمهات المسلمين يضاعف لها العذاب ضعفين. [ ..... ] (2) إشارة إلى ما فى الآية الكريمة (يأتيهم الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) مكروا «1» فلم يشعروا، وحملهم اشتداد الظلمة على بصائرهم على الوقيعة فى أوليائه سبحانه، والسخرية منهم، وحين تقشعت غواية الجهل عن قلوبهم ( ..... ) «2» علموا من الخاسر منهم من الذي كان فى ضلال بعيد. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) يعنى الغيبة عن الحق جمعتهم، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رزقوا من أنوار البصيرة وحرموها. ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم، وبمجىء الرسل تهود قوم وتنصّر قوم، ثم فى العاقبة يردّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير، وإن الناس اجتمعوا كلهم فى علمه سبحانه ثم تفرّقوا فى حكمه، فقوم هداهم وقوم أغواهم، وقوم حجهم وقوم   (1) ربما كانت فى الأصل (مكر بهم) فلم يشعروا، فالآية تقول (زيّن للذين ... ) فهم لم يشعروا بأن تزيين الدنيا لهم مكر من الله والله خير الماكرين. (2) زائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 جذبهم، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان، فلا من المقبولين أمر مكتسب، ولا لردّ المردودين سبب، بل هو حكم بتّ وقضاء جزم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) خلق الله الجنة وحفّها بالمصائب، وخلق النار وحفّها بالشهوات والرغائب، فمن احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال. ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنون من مقاساة الشدائد، وكلّ من ألحق بهم من خلف الأولياء أدخلهم فى سلكهم، وأدرجهم فى غمارهم، فمن ظنّ غير ذلك فسراب ظنّه ماء، وحكم لم يحصل على ما ظنه تأويلا. ولقد مضت سنّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا ينيخون بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم الترقّب صادفهم اللطف بغتة وتحقق لهم المبتغى فجأة. قال تعالى «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) علموا أن العبد غير منفرد بالفاعلية أن يفعل، فإنّ العبد ليس له فعل شىء إلا بإذن مولاه فتوقفوا فى الإنفاق على ما يشير إليه تفصيل الإذن، لأنّ العبوديّة الوقوف حيثما أوقفك الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى. وإنّ ما طالعوه تفاصيل الأمر وإشارات الشرع والواو فى هذه الآية فى قوله: «وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى» تشير إلى نوع من الترتيب فالأولى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) صعبت على النفوس مباشرة القتال، فبيّن أن راحات النفوس مؤجلة لأنها فى حكم التأديب، وبالعكس من هذا راحات القلوب فإنها معجلة إذ هى فى وصف التقريب، فالسادة فى مخالفة النفوس فمن وافقها حاد عن المحبة المثلى، كما أن السعادة فى موافقة القلوب فمن خالفها زاغ عن السنّة العليا. وبشرى ضمان الحق باليسر أولى أن تقبل من محذرات هواجس النفوس فى حلول العسر وحصول الضر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) من المعاصي ما يكون أشد من غيره وأصعب فى المعنى، فسوء الأدب على الباب لا يوجب ما يوجبه على البساط فإذا حصلت الزلة بالنّفس فأثرها بالعقوبة المؤجلة وهى الاحتراق، وإذا زلّ «1» القلب فالعقوبة معجلة وهى بالفراق، وأثر الغفلة على القلوب أعظم من ضرر الزلة   (1) وردت (زال) وهى قطعا خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 على النفوس، فإن النفس عن الحظ تبقى، والقلب عن الحق يبقى قوله جل ذكره: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. الإشارة من هذا أن أهل الغفلة إذا راودوك أرادوا صرفك إلى ما هم عليه من الغفلة، فلا يرضون إلا بأن تفسخ عقد إرادتك بما تعود إليه من سابق حالتك، ومن فسخ مع الله عهده مسخ قلبه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) إن الذين صدقوا فى قصدهم، وأخلصوا فى عهدهم، ولم يرتدوا فى الإرادة على أعقابهم، أولئك الذين عاشوا فى روح الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) الخمر ما خامر العقول، وكما أن الخمر حرام بعينها فالسكر حرام بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «حرّمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» ، فمن سكر من شراب الغفلة استحق ما يستحق شارب الخمر من حيث الإشارات، فكما أنّ السكران ممنوع من الصلاة فصاحب السكر بالغفلة محجوب عن المواصلات وأوضح شواهد الوجود، فمن لم يصدّق فليجرّب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ومعنى القمار موجود فى أكثر معاملات أهل الغفلة إذا سلكوا طريق الحيل والخداع والكذب فى المقال. وبذل الصدق والإنصاف عزيز. قوله جل ذكره: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. قيل العفو ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص يخرجون من فاضل أموالهم عن قدر كفاياتهم، فأمّا خواص الخواص فطريقهم الإيثار وهو أن يؤثر به غيره على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثر به غيبا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) إصلاح حالهم بما يكون فيه تأديبهم أتمّ من إصلاح مالهم، ثم الصبر على الاحتمال عنهم مع بذل النصح، و (مفارقة المال من من إرشادهم خير من الترخص بأن يقول إنه لا يتوجه على فرضيهم) «1» . قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فيعامل كلا على سواكن قلبه من القصود لا على ظواهر كسبه من جميع الفنون. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)   (1) فيما بين قوسين غموض ربما نتج عن خطأ فى النقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 صلة حبل الدين والتمسك بعصمة المسلمين أتم من الرضا بأن تنتهى إلى أحد يسلك إلى الكفر، ولئن كانت رخصة الشريعة حاصلة فى فعله فإشارة الحقيقة مانعة من حيث التبرئة عن اختياره، هذا فى الكتابيات اللاتي يجوز مواصلتهن، فأما أهل الشرك فحرام مواصلتهم قطعا، وأوجه مباينتهم فى هذا الباب حكم جزم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) ليس كل ما يكون موجب الاستحياء والنفور مما هو باختيار العبد، فقد يكون من النقائص ما ليس للعبد فيه كسب، وهو ابتداء حكم الحق، فمن ذلك ما كتب الله على بنات آدم من تلك الحالة، ثم أمرن باعتزال المصلّى فى أوان تلك الحالة، فالمصلّى مناج ربّه، فنحيّن عن محل المناجاة حكما من الله لا جرما لهن. وفى هذا إشارة فيقال: إنهن- وإن منعن عن الصلاة التي هى حضور بالبدن فلم يحجبن عن استدامة الذكر بالقلب واللسان، وذلك تعرض بساط القرب، قال صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه تعالى: «أنا جليس من ذكرنى» . قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. يقال يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب. ويقال التوابين من الزلة، والمتطهرين من التوهم أن نجاتهم بالتوبة. ويقال التوّابين من ارتكاب المحظورات، والمتطهرين من المساكنات والملاحظات. ويقال التوّابين بماء الاستغفار والمتطهرين بصوب ماء الخجل بنعت الانكسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ويقال التوّابين من الزلة، والمتطهرين من الغفلة. ويقال التوّابين من شهود التوبة، والمتطهرين من توهم أن شيئا بالزلة بل الحكم ابتداء من الله تعالى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) لمّا كانت النفوس بوصف الغيبة عن الحقيقة أباح لها السكون إلى أشكالها إذا كان على وصف الإذن، فلمّا كانت القلوب فى محل الحضور حرم عليها المساكنة إلى جميع الأغيار والمخلوقات. «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) نزّهوا ذكر ربكم عن ابتذاله بأى حظ من الحظوظ. ويقال لا تجعلوا ذكر الله شركا يصطاد به حطام الدنيا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 225] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطر فى الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيرا فجزاء جميل، وإن كان شرا فعناء طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 226] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) إذا كان حق صحبة الأشكال محفوظا عليك- حتى لو أخللت به- وأخذك بحكمه: فحقّ الحقّ أحقّ بأن تجب مراعاته. «فَإِنْ فاؤُ» أي رجعوا إلى إحياء ما أماتوا، واستدراك ما ضيّعوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فلما تقاصر لسان الزوجة- لكونها أسيرا فى يد الزوج- تولّى الله- سبحانه- الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 227] وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) إن ملّ حق صحبتها، وأكّد العزم على مفارقتها فإن الله مطلع على حاله وسره، فإن بدا له باد من ندم فلا يلبس بأركان الطلاق فإن الله سبحانه عليم أنه طلّقها. ولمّا كان الفراق شديدا عزّى المرأة بأن قال إنه «سَمِيعٌ» أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) أمر المطلقات بالعدّة احتراما لصحبة الأزواج، يعنى إن انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سلف من الصحبة، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة فاصبروا حتى يمضى مقدار من المدة. ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة؟ ثم قال جل ذكره: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. يعنى إن انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النّسب. ثم قال جل ذكره: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يعنى من سبق له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع فى النكاح من الثلمة فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً. يعنى أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعد ما أرجعها. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ. يعنى إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فى الفضيلة، ولهن مزية فى الضعف وعجز البشرية. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تسارع إلى إتمام الفراق، وقيل فى معناه: إن تبيّنت أنّ عزمك قتلى ... فذرينى أضنى قليلا قليلا ثم قال جلّ ذكره: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. إمّا صحبة جميلة أو فرقة جميلة. فأمّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مرضى فى الطريقة، ولا محمود فى الشريعة. قوله جل ذكره: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. فإن فى الخبر «العائد فى هبته كالعائد فى قيئه» والرجوع فيما خرجت عنه خسّة. ثم قال جل ذكره: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 يعنى إن أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنّ النفس تساوى لصاحبها كل شىء، والرجل إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئا فلا أقلّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شىء من المال. قوله جل ذكره: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. هذه آداب يعلّمكمها الله ويسنّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الرجل يشقّ عليه أن ينكح زوجته غيره فمنعه عن اختيار الفراق بغاية الفراق بغية المنع «1» لما بيّن أنها لا تحل له إن فارقها إلا بأن تفعل «2» غاية ما يشق عليه وهو الزواج الثاني ليحذر الطلاق ما أمكنه. ثم قال «فَإِنْ طَلَّقَها» يعنى الزوج «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» يعنى تتزوج بالزوج الأول. والإشارة فيه أن استيلاء المحبة على القلب يهوّن مقاساة كلّ شديدة فلو انطوى الزوجان بعد الفرقة على التحسّر على ما فاتهما من الوصلة، وندما على ذلك غاية الندامة فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمرأة فى هذه الحالة كأنها ( ... ) «3» من الزوج الأول بمكان الزوج الثاني والزوج كالآتى على نفسه فى احتمال ذلك. ثم قال جل ذكره: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. يعنى لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانيا إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه، قال قائلهم: ولقد حلفت لئن لقيتك مرة ... ألا أعود إلى فراقك ثانية   (1) وردت (بغاية المنع) والأرجح أنها (بغية المنع) فإن السياق يتطلب ذلك. (2) وردت (يفعل) والأصوب أن تعود على المرأة لأنها هى التي ستتزوج ثانية وهذا هو ما يشق على الزوج الأول. (3) هنا كلمة رسمها هكذا (الميشور) وربما كانت (المبتور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) تضمنت الآية الأمر بحسن العشرة، وترك المغايظة مع الزوجة، والمحك على وجه اللجاج فإمّا تخلية سبيل من غير جفاء أو قيام بحق الصحبة على شرط الوفاء. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) تضمنت الآية نهى الأولياء «1» عن مضارتهن، وترك حمية الجاهلية، والانقياد لحكم الله فى تزويج النساء إن أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية. بل إذا رضيت بكفو يخطبها فحرام عليكم ظلمها. والتذويب عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشدّ مجاهدة وأصدق معاملة لله. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) .   (1) الأولياء هنا من ولاية الرجل على المرأة وليست من الولاية فى باب التصوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 غاية الرحمة التي يضرب بها المثل رحمة الأمهات فأمر الله سبحانه الأمهات بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حولين كاملين، وقطع الرضاعة عنه قبل الحولين إشارة إلى أن رحمة الله بالعبد أتمّ من رحمة الأمهات. ثم قال جل ذكره: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. يعنى الأب عليه رزقهن وكسوتهن- أي المرضعات- بالمعروف. لمّا ينبن عنك وجب حقّهن عليك، فإنّ من لك كله فعليك كله. ثم قال جل ذكره: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها. ادخار المستطاع بخل، والوقوف- عند العجز- عذر. ثم قال جل ذكره: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها. فى الإرضاع وما يجب عليه. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ. يعنى الوالد «1» بولده يعنى فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود. ثم قوله جل ذكره: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. يعنى فطاما قبل الحولين، فلا جناح بعد ما كان القصد الصلاح. اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة، وتعليم محاسن الأخلاق فى أحكام العسرة وإن من لا يرحم لا يرحم. وقال صلّى الله عليه وسلّم لمن ذكر أنه لم يقبّل أولاده: «إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقى» .   (1) وردت (الولد) والسياق يقتضى أن تكون (الوالد) بعد أن تحدث عن (الوالدة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) لمّا كان حق الميت أعظم لأن فراقه لم يكن بالاختيار كانت مدة الوفاء له أطول. وكانت عدة الوفاة فى ابتداء الإسلام سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتتحق براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر. والميت لا يستديم وفاءه إلى آخر العمر أحد كما قيل: وكما تبلى وجوه فى الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة. وحرّم منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عدة بجرم «1» . قوله جل ذكره: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.   (1) وردت بالحاء والصحيح أن تكون بالجيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أي تنقضى عدة الأول فإن حرمة الماضي لا تضيع. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 236] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) إن ابتلاء تمّ بوصيلة «1» أشكالكم ثم بدا لكم فلا جناح «2» عليكم فى اختيار الفرقة- إذا أردتم- فإن الذي لا يجوز اختيار فرقته- واحد فأمّا صحبة الخلق بعضهم مع بعض فليس بواجب، بل غاية وصفه أنه جائز. ولمّا وقع عليهن اسمكم فنصف المسمّى يجب لهن، فإن الفراق- كيفما كان- فهو شديد، فجعل ما يستحق من العوض كالخلف لها عند تجرع كأس الفرقة. فإن لم يكن مسمّى فلا يخلو العقد من متعة فإن تجرع الفرقة- مجردا عن الراحة- بلاء عظيم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 237] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) ثم ذكر أن العفو أتم وأحسن، إمّا من جهة المرأة فى النصف المستحق لها، أو من قبل الزوج فى النصف العائد إليه.   (1) وردت (بوصيلة) وربما كانت الياء زائدة وأنها (بوصلة) أشكالكم. (2) وردت (فلاح جرح) وهى خطأ من الناسخ، وقد صححناها (فلا جناح) طبقا للآية، ويحتمل أيضا أنها فى الأصل (فلا جرم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ثم قال جلّ ذكره: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل «1» بالفرض. ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل، وإن من سنّة الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم فى اقتناء أسباب الفضل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) المحافظة على الصلاة أن يدخلها بالهيبة، ويخرج بالتعظيم، ويستديم بدوام الشهود بنعت الأدب، والصلاة الوسطى (أيهم ذكرها على البيت) «2» لتراعى الجميع اعتقادا منك لكل واحدة أنها هى لئلا يقع منك تقصير فى شىء منها. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) أي لا تخلّوا بمناجاتي لأوقاتها على الوصف الذي أمكنكم فان ما تحسونه «3» من أعدائكم أنا سلّطتهم عليكم، فاذا خلوتم بي بقلوبكم قصرت أيديهم عنكم، وجعلت لكم الظفر عليهم، ثم إذا زال عنكم الخوف وأمنتم فعودوا إلى استقراركم باستفراغ أوقاتكم فى الاعتكاف بحضرتي سرا وجهرا.   (1) يحتمل انها (بخل) و (يخلّ) ، فإذا عرفنا أن الصوفية عموما يتشددون في التعبد ويتفوقون فيه على الكافة أمكن القول أن المعنى ممكن أن ينصرف إلى بخل بمعنى أن القشيري يحذر من أن الاكتفاء بالفرض قد يؤدى إلى البخل به، وهذا بدوره يؤدى إلى أن بخل بشأنه وقد وردت بخل وبخل فى السياق فيما بعد- والله أعلم. [ ..... ] (2) وردت هكذا وقد نقلناها من النص دون تعديل وربما كانت (أبهم ذكرها عن البت) . (3) يحتمل أن تكون (تخشونه) من أعدائكم وكلاهما مقبول، وإن كنا نؤثر (تخشونه) لتناسب «فَإِنْ خِفْتُمْ» فى الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) كانت عدّة الوفاة فى ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب وفعلهم ذلك حيث يقول قائلهم: إلى الحول ثم اسم السلام عليكم ... ومن لبّاك حولا كاملا فقد اعتذر ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بد من انتهاء مدة الحداد ولقد قال قائلهم: قال: لو متّ لم أعش ... قلت: نافقت فاسكت أي حى رأيته ... مات وجدا بميّت؟! «1» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الإشارة ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الدلائل، فتتأدبوا بما أشير عليكم، وتفلحوا بما تعقلون من إشارات حكمى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 243] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) .   (1) فى الشعر أخطاء كثيرة وقع فيها الناسخ فحاولنا إصلاحها بقدر الممكن ليكون مفهوما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 لمّا استبعدوا قدرة الله فى الإعادة أراهم فى أنفسهم عيانا، ثم لم ينفع إظهار ذلك لمن لم يشحذ بصيرته فى التوحيد. ومن قويت بصيرته لم يضره عدم تلك المشاهدات فإنهم تحققوا بما أخبروا، لما آمنوا به بالغيب. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 244] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) يعنى إن مسّكم ألم فتصاعد «1» منكم أنين فاعلموا أن الله سميع لأنينكم، عليم بأحوالكم، بصير بأموركم. والآية توجب تسهيل ما يقاسونه من الألم، وقالوا: إذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليك فتسمع قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) سمّى القرض قرضا لأنه يقطع «2» من ماله شيئا ليعطيه للمقترض، والمتصدّق لما يقطع الصدقة من ماله سميت صدقته قرضا، فالقرض القطع، ولكن هذه التسمية لحفظ قلوب الأحباب حيث خاطبك فى باب الصدقة باسم القرض ولفظه. ويقال دلّت الآية على عظم رتبة الغنيّ حيث سأل منه القرض، ولكن رتبة الفقير فى هذا أعظم لأنه سأل لأجله القرض، وقد يسأل القرض من «3» كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد. وفى الخبر «مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند أبى شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله «4» أبصر ممّن اقترض ولأجل من اقترض! ويقال القرض الحسن ما لا تتطلع عليه لجزاء ولا تطلب بسببه العوض.   (1) وردت (فقصاعد) وواضح أنها خطأ فى النسخ. (2) أخطأ الناسخ فجاءت (يقع) وقد اخترنا (يقطع) لتناسب القرض ... القطع كما سيذكر بعد. (3) وردت (عن) والصحيح والملائم للسياق أن يقال (من) . (4) للحديث بقية ( ... ولم يترك دينارا ولا درهما، ولم يقسم له ميراث ولم يوجد له فى بيت أثاث) البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة (توفي ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين) ، وعن البيهقي بثلاثين صاعا من الشعير، والترمذي والنسائي والبيهقي عن ابن عباس بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله. وسنده حسن، ولم يترك ولا درهما، مسلم عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ويقال القرض الحسن ألا يعطى على الغفلة، وإنما يعطى عن شهود. ويقال القرض الحسن من العلماء «1» إذا كان عند ظهر الغنى، ومن الأكابر إذا كان بشرط الإيثار يعطى ما لا بد منه. ويقال القرض الحسن من العلماء عن مائتين خمسة «2» ، وعلى لسان القوم بذل الكل، وزيادة الروح على ما يبذل. قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله، ويبسط عليهم بسط خلفه. ويقال يقبض الرزق أي يضيق، يبسط الرزق أي يوسّع يقبض على الفقراء ليمتحنهم بالصبر، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر. ويقال يقبض تسلية للفقراء ليطالبهم حتى لا يروا من الأغنياء، ويبسط لئلا يتقلدوا المنّة من الأغنياء. ويقال قال للأغنياء: إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم. ويقال قبض القلوب بإعراضه وبسطها بإقباله. ويقال القبض لما غلب القلوب من الخوف، والبسط لما يغلب عليها من الرجاء. ويقال القبض لقهره والبسط لبرّه. ويقال القبض لسرّه والبسط لكشفه. ويقال القبض للمريدين والبسط للمرادين. ويقال القبض للمتسابقين «3» والبسط للعارفين. ويقال يقبضك عنك ثم يبسطك به.   (1) يقصد القشيري بالعلماء. على لسان الشريعة، وبالأكابر- على لسان الحقيقة. (2) يشير بذلك إلى مقدار زكاة المال وهى ربع العشر. (3) ربما كانت «للسابقين» إشارة إلى قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ويقال القبض حقه، والبسط حظك. ويقال القبض لمن تولّى عن الحق، والبسط لمن تجلّى له الحق. ويقال يقبض إذا أشهدك فعلك، ويبسط إذا أشهدك فضله. ويقال يقبض بذكر العذاب ويبسط بذكر الإيجاب. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) استقبلوا الأمر بالاختيار، واقترحوا على نبيّهم بسؤال الإذن لهم فى القتال، فلمّا أجيبوا إلى ما ضمنوه من أنفسهم ركنوا إلى التكاسل، وعرّجوا في أوطان التجادل والتغافل. ويقال إنهم أظهروا التصلب والجد فى القتال ذبّا عن أموالهم ومنازلهم حيث: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يخلص- لحقّ الله- عزمهم، ولو أنهم قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، فإنه سيدنا ومولانا، ويجب علينا أمره- لعلّهم وفّقوا لإتمام ما قصدوه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 نسوا حق الاختيار فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فاستبعدوا أن يكون طالوت ملكا لأنه «1» كان فقيرا لا مال له، فبيّن لهم أن الفضيلة باختيار الحق، وأنه وإن عدم المال فقد زاده الله علما ففضلكم بعلمه وجسمه، وقيل أراد أنه محمود خصال النفس ولم يرد عظيم البنية فإن فى المثل: «فلان اسم بلا جسم» أي ذكر بلا معنى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) إن الله سبحانه إذا أظهر نورا أمدّه بتأييد من قبله، فلما ملك طالوت عليهم أزال الإشكال عن صفته بما أظهر من آياته الدالة على صدق قول نبيّهم فى اختياره، فردّ عليهم التابوت الذي فيه السكينة، فاتضحت لهم آية ملكه، وأن نبيهم عليه السّلام صدقهم فيما أخبرهم. ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بنى إسرائيل فى التابوت الذي رضوا عن الألواح، وعصا موسى عليه السّلام، وآثار صاحب نبوتهم. وجعل سكينة هذه الأمة «2» فى قلوبهم، فقال: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» ثم إن التابوت كان تتداوله أيدى الأعداء وغيرهم فمرّة كان يدفن ومرة كان يغلب عليه فيحمل، ومرة يرد ومرة ومرة ... وأما قلوب المؤمنين فحال بين أربابها وبينها، ولم يستودعها ملكا ولا نبيا، ولا سماء ولا هواء، ولا مكانا ولا شخصا، وقال صلّى الله عليه وسلّم:   (1) وردت (كأنه) وهى خطأ فى النسخ. (2) يقصد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» يعنى فى قبضة الحق سبحانه، وتحت تغليبه وتصريفه، والمراد منه «القدرة» ، وشتّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تسلّط وأمة سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه سلطان. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 249] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخلق بصحبة الخلق وبالدنيا وبالنّفس، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدّ الاضطرار بمقدار القوام، وما لا بد منه نجا وسلم «1» ، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط فى صحبته مع شىء من ذلك من الدنيا والنفس والخلق بموجب الشهادة «2» والاختيار- فليس من الله فى شىء إن كان ارتكاب محظور، وليس من هذه الطريقة فى شىء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بد. ثم قال جل ذكره: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. كذلك الخواص فى كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم. قوله جل ذكره: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ. فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فداخلهم شىء من رعب البشرية، فربط الله على قلوبهم بما ذكرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء.   (1) هذه درجة فى الاعتدال يتسم بها مذهب القشيري، يوفق بها بين الشريعة والحقيقة فى النظر إلى الدنيا والنفس والناس فى عرف أرباب القلوب. (2) أي أن يشهد الدنيا والنفس والخلق في شىء من الأشياء والواجب أن يشهد الله فى كل شىء، غير أننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (الشهوة) أي أنه ليس من الله فى شىء من ينظر إلى هذه الأمور بشهوة واختيار. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قوله جل ذكره: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. لا بهم ولكن بإذن الله، بمشيئته وعونه ونصرته، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 250] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) كان أهم أمورهم الصبر والوقوف للعدو، ثم بعده النصرة عليهم، فإن الصبر حق الحق، والنصرة نصيبهم، فقدّموا تحقيق حقه- سبحانه- وتوفيقه لهم، ثم وجود حظّهم من النصرة، ثم أشاروا إلى أنهم يطلبون النصرة عليهم- لا للانتقام منهم لأجل ما فاتهم من نصيبهم- ولكن لكونهم كافرين، أعداء الله. فقاموا بكل وجه لله بالله فلذلك نصروا ووجدوا الظفر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 251] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) هيّب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة فى الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدى داود. وكان كما فى القصة ربع القامة غير عظيم الجثة، مختصر الشخص، ولم يكن معه من السلاح إلا مقلاع، ولكن الظفر كان له لأن نصرة الله سبحانه كانت معه. قوله جل ذكره: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داود جالوت. وداود بالإضافة إلى جالوت فى الضخامة والجسامة كان بحيث لا تتوهم غلبته إياه ولكن كما قال قائلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 استقبلني وسيفه مسلول ... وقال لى واحدنا معذول «1» قوله جل ذكره: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. لو تظاهر الخلق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرّهم عن قوم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 252] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) لم يكن فى علمك ولا فى وسع احتيالك الوقوف على هذه الغائبات من الكائنات التي سلفت، وإنما وقفت عليها بتعريف من قبل الله سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا فى خصائص التفضيل، لكل واحد منهم أنوار، ولأنوارهم مطارح، فمنهم من هو أعلى نورا، وأتم من الرفعة وفورا. فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم، بل حكم بالحسنى أدركهم، وعاقبة بالجميل تداركتهم. قوله جل ذكره: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.   (1) ربما كانت (مخذول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولكنهم مصرّفون بالمشيئة الأزلية، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار. والعبودية شدّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) يعنى اغتنموا مساعدة الإمكان فى تقديم الإحسان قبل فتور الجلد وانقضاء الأمل. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) «الله» اسم تفرّد به الحق- سبحانه فلا سمىّ له فيه. قال الله تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» أي هل تعرف أحدا غيره تسمّى «الله» ؟ من اعتبر فى هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال. قوله «لا إله إلا هو» : إخبار عن نفى النظير والشبيه، بما استوجب من التقديس والتنزيه. ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذرّة من الإثبات بغيره أو من غيره فلا يرفع إلى غيره حاجته، ولا يشهد من غيره ذرة، فيصدق إليه انقطاعه، ويديم لوجوده انفراده، فلا يسمع إلا من الله وبالله، ولا يشهد إلا بالله، ولا يقبل إلا على الله، ولا يشتغل إلا بالله، فهو محو عما سوى الله، فما له شكوى ولا دعوى، ولا يتحرك منه لغيره عرق، فاذا استوفى الحق عبدا لم يبق للحظوظ- البتة- مساغ. ثم إن هذه القالة تقتضى التحقق بها، والفناء عن الموسومات بجملتها، والتحقق بأنه لا سبيل لمخلوق إلى وجود الحق- سبحانه، فلا وصل ولا فصل ولا قرب ولا بعد، فإن ذلك أجمع آفات لا تليق بالقدم. وقوله «الحي القيوم» : المتولى لأمور عباده، القائم بكل حركة، و (المحوى) «1» ، لكل عين وأثر.   (1) وردت هكذا ويحتمل أن تكون فى الأصل إما (المحيي) لتتلاءم مع (الحي) أو أن تكون (المجرى) أي القائم أو (القيوم) على ملكه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» لأنه أحدى لا ترهقه غفلة، وصمد لا تمسه علة، وعزيز لا تقاربه قلة، وجبار لا تميزه عزلة، وفرد لا تضمه جثة، ووتر لا تحده جهة، وقديم لا تلحقه آفة، وعظيم لا تدركه مسافة. تقدّس من جماله جلاله، وجلاله جماله، وسناؤه بهاؤه، وبهاؤه سناؤه، وأزله أبده، وأبده سرمده، وسرمده قدمه، وقدمه وجوده قوله جل ذكره: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. ملكا وإبداعا، وخلقا واختراعا. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. من ذا الذي يتنفس بنفس ( ... ) «1» إلا بإجرائه، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه. ومن ظنّ أنه يتوسل إليه باستحقاق أو عمل، أو تذلل أو أمل، أو قربة أو نسب، أو علة أو سبب- فالظنّ وطنه والجهل مألفه والغلط غايته والبعد قصاراه. قوله جل ذكره: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. لأنه لا يخرج عن علمه معلوم، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ. يعنى من معلوماته، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا باذنه. فأى طمع لها فى الإحاطة بذاته وحقه؟ وأنّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه فى عزّه أمد، ولا يدركه حدّ؟! قوله جل ذكره: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. خطاب لهم على قدر فهمهم. وإلا فأى خطر للأكوان عند صفاته؟ جلّ قدره عن التعزز بعرش أو كرسى، والتجمل بجن أو إنسى.   (1) مشتبهة فى (ص) ويحتمل أن تكون مشطوبة لزيادتها فهناك شبه علامة على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قوله جل ذكره: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. كيف تتعب المخلوقات من خلق الذرة والكون بجملته- له سواء فلا من القليل له نيسّر، ولا من الكثير عليه تعسّر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 256] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) فإن الحجج لائحة، والبراهين ظاهرة واضحة. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. وامتاز الليل بظلامه عن النهار بضيائه، والحقوق الأزلية معلومة، والحدود الأولية معلولة فهذا بنعت القدم وهذا بوصف العدم. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وطاغوت كلّ واحد ما يشغله عن ربه وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ والإيمان حياة القلب بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الاستمساك بالعروة الوثقى الوقوف عند الأمر والنهى، وهو سلوك طريق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله. لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فمن تحقق بها سرا، وتعلّق بها جهرا فاز فى الدارين وسعد فى الكونين. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) الولي بمعنى المتولى لأمورهم، والمتفرد بإصلاح شئونهم، ويصح أن يكون الولي على وزن فعيل فى معنى المفعول فالمؤمنون يقولون «1» طاعته. وكلاهما حق: فالأول جمع والثاني فرق،   (1) أخطا الناسخ فكتبها (يقولون) بالقاف ونرجح أنها (يتولون) بالتاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وكلّ جمع لا يكون مقيدا بفرق وكلّ فرق لا يكون مؤيدا بجمع فذلك خطأ وصاحبه مبطل «1» والآية تحمل عليهما جميعا. يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعنى بحكمه الأزلى صانهم عن الظلمات التي هى الضلال والبدع، لأنهم «2» ما كانوا فى الظلمات فط فى سابق علمه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ما استهواهم من دواعى الكفر يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. باستيلاء الشبه على قلوبهم، فيجحدون الربوبية، أولئك الذين بقوا عن الحق بقاء أبديا. ويقال يخرجهم من ظلمات تدبيرهم إلى سمة شهود تقديره. ويقال يخرجهم من ظلمات ظنونهم أنهم يتوسلون أو يصلون إليه بشىء من سكناتهم وحركاتهم. ويقال يخرجهم من ظلماتهم بأن يرفع عنهم ظلّ أنفسهم ويدخلهم في ظل عنايته. ويقال يخلصهم عن حسبان النجاة بهم. ويقال يحول بينهم وبين الاعتماد على أعمالهم والاستناد إلى أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)   (1) يقصد القشيري من ذلك أن الفرق ضرورى وهام إذ يتسنى للعبد خلاله أن يؤدى ما عليه من فرائض، وهذا ركن أساسى فى مذهب القشيري وغيره من الشيوخ الثقات. (2) سقطت (ما) والمعنى يتطلبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 عجّل الحق سبحانه لاعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة، وهذه العقوبة أشد أثرا فى التحقيق- لو كانت لهم عين البصيرة. وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السّلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى، أوضح منها- لا لخلل فى الحجة- ولكن لقصور فى فهم الكافر، ومحكّ من سدّت بصائره عن التحقيق تضييع الوقت بلا فائدة تجدى، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمر لا بدّ منه. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) لم يكن ذلك سؤال جحد، ولا قضية جهل، ولا دلالة شك فى القدرة، فإن هذا الخبر عن عزير النبي عليه السّلام، والأنبياء عليهم السّلام لا يجوز عليهم الشّكّ والجهل، ولكنه كان سؤال تعجّب، وأراد بهذه المقالة زيادة اليقين، فأراه الله ذلك فى نفسه، بأن أماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه، فازداد يقينا على يقين. وسؤال اليقين من الله، والحيلة فى ردّ الخواطر المشكلة، ديدن المتعرفين، ولذلك ( ..... ) «1» الله سبحانه عزيرا فى هذه المقالة حتى قدّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه. ثم قال «واعلم أن الله على كل شىء قدير» من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك، وأرانى من عظيم الآيات ما ازداد به يقينا فإنّ طعامه وشرابه لم يتغيرا فى طول تلك المدة، وحماره مات بلا عظام. والطعام والشراب بالتغيير أولى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) قيل كان فى طلب فى زيادة اليقين، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلا من عين اليقين «2» . وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى» كنت أومن ولكنى اشتقت إلى قولك لى أو لم تؤمن، فإن بقولك لى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» تطمينا لقلبى. والمحبّ أبدا يجتهد فى أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.   (1) مشتبهة. (2) من أقوال القشيري التي تتناثر فى كتبه نجد أنه ينظر للمعرفة على أنها ثلاث درجات. 1- عقلية ونورها البرهان أو علم اليقين. 2- قلبية ونورها البيان أو عين اليقين: 3- كشفية ونورها العرفان أو حق اليقين، ويقول: (علم اليقين كالنجوم يطلع عليها بدر عين اليقين، ولكن كل الأنوار تتبدد أمام شمس حق اليقين) . اللطائف- التحبير فى التذكير ص 70- الرسالة ص 43، 44 والواقع أن القشيري التزم بهذا الترتيب التزاما دقيقا ولم يتخل عنه فى كل ما كتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وقيل إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فمنع منها بالإشارة بقوله «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . وإن موسى- عليه السّلام- لما سأل الرؤية جهرا وقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فردّ بالجهر صريحا وقيل له «لن ترانى» . وقيل إنما طلب حياة قلبه فأشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور، وفى الطيور الأربعة طاووس، والإشارة إلى ذبحه تعنى زينة الدنيا، وزهرتها، والغراب لحرصه، والديك لمشيته، والبط لطلبه لرزقه. ولما قال إبراهيم عليه السّلام: أرنى كيف تحيى الموتى؟ قيل له: وأرنى كيف تذبح الحي؟ يعنى إسماعيل، مطالبة بمطالبة. فلمّا وفّى بما طولب به وفّى الحق سبحانه بحكم ما طلب. وقيل كان تحت ميعاد من الحق- سبحانه- أن يتخذه خليلا، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده، فجرى ما جرى. ووصل بين «1» قصة الخليل صلّى الله عليه وسلّم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عزير إذ أراه فى نفسه لأن الخليل يرجح على عزير فى السؤال وفى الحال، فإن إبراهيم- عليه السّلام- لم يردّ عليه فى شىء ولكنه تلطّف فى السؤال، وعزير كلمه كلام من يشبه قوله قول المستبعد، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمّ دلالة حيث أظهر إحياء الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم- عليه السّلام- ربى الذي يحيى ويميت، فقال «أنا أحيى وأميت» أراد إبراهيم أن يريه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادّعى. وفى هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادة اليقين من الله سبحانه وتعالى فى حال النظر «2» . ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» يعنى أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شىء رأيته «هذا ربى» فلم تدر كيف بلّغناك إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سمعت إليه همّتك.   (1) جميل من القشيري أن يوضح التماسك والالتئام فى السياق القرآنى بين قصة وقصة. (2) خصوصا فى مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعنى النفس فمن لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يحى قلبه بالله. وفيه إشارة أيضا وهو أنه قال قطّع بيدك هذه الطيور، وفرّق أجزاءها، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا، فما كان مذبوحا بيد صاحب الخلة، مقطعا مفرّقا بيده- فإذا ناداه استجاب له كل جزء مفرّق.. كذلك الذي فرّقه الحق وشتّته فإذا ناداه استجاب: ولو أنّ فوقى تربة ودعوتني ... لأجبت صوتك، والعظام رفات قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 261] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) فالخلف لهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم فى سبيل الله فالخلف عنهم الحقّ سبحانه، وشتان بين خلف من أنفق ماله فوجد مثوبته، ومن أنفق حاله فوجد قربته فإنفاق المال فى سبيله بالصدقة، وإنفاق الأحوال فى سبيله بملازمة الصدق، وبنفي كل حظ ونصيب، فترضى لجريان حكمه عليك من غير تعبيس القلب، قال قائلهم: أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد والإنفاق على ضربين: إنفاق العابدين وإنفاق الواجدين. أمّا العابدون فاذا أنفقوا حبّة ضاعف لهم سبعين إلى ما ليس فيه حساب، وأما الواجدون فكما قيل: فلا حسن نأتى به يقبلونه ... ولا إن أسأنا كان عندهم محو قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 262] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) المنّ شهود ما تفعله، والأذى تذكيرك- لمن أحسنت إليه- إحسانك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ويقال ينفقون ما ينفقون ثم لا يشهدون البتة أفعالهم ولا أعمالهم. ويقال كيف يمنون بشىء تستعذرونه وتستحقونه. ويقال لا يمنون بفعلهم بل يشهدون المنة لله بتوفيق ذلك عليهم. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 263] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يعنى قول- للفقير المجرد- يرد به من تعرض له بإظهار العذر خير وأتم من صدقة المعجب بفعله، وما يتبع من إلزام المنة فيه. ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجرمك، وغفران الله لك على تلك القالة- خير من صدقة بالمنّ مشوبة، وبالأذى مصحوبة. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 264] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) إنما يحمل جميل المنة من الحق سبحانه، فأمّا من الخلق فليس لأحد على غيره منّة فإنّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة، وشهود المنة من الله أعظم نعمة، قال قائلهم: ليس إجلالك الكبار بذلّ ... إنما الذّلّ أن تجلّ الصّغارا ويقال أفقر الخلق من ظنّ نفسه موسرا فيبين له إفلاسه، كذلك أقل الخلق قدرا من ظن أنه على شىء فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق: لمن أنفق فى سبيل الله، ولمن أنفق ماله فى الباطل فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف، وهؤلاء لا يحصل لهم فى الحال إلا الردّ، وفى المآل «1» إلا التلف. وهؤلاء ظلّ سعيهم مشكورا، وهؤلاء يدعون ثبورا ويصلون سعيرا هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم، وهؤلاء حبطت أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وبالهم. ويقال مثل هؤلاء كالذى أنبت زرعا فزكا أصله ونما «2» فصله، وعلا فرعه وكثر نفعه. ومثل هؤلاء كالذى خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت- على كبره «3» -   (1) وردت (المال) والصحيح أنها (المآل) على عادة القشيري فى المقابلة بين ما يحدث فى الدنيا وفى الآخرة بين الحال والمآل. (2) وردت (نماء) والصحيح أنها فعل (نما) لينسجم التركيب الداخلى للأسلوب. (3) إشارة إلى ما فى الآية: (وأصابه الكبر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 حيلته وتواترت من كل وجه وفى كل وقت محنته .... هل يستويان مثلا؟ وهل يتقاربان شبها؟ قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) لينظر كلّ واحد ما الذي ينفقه لأجل نفسه، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك: فما كان لحظّك فنفائس ملكك، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله (فاللّقمة لقمته) «1» ، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة. ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقبله منك، بل أبصر كيف بمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك الكلّ منه فضلا لكنه ينسبه إليك فعلا «2» ، ثم يونى عليك عطاءه ويسمى العطاء جزاء، يوسعك بتوفيقه برّا، ثم يملأ العالم منك شكرا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يعد الشيطان الفقر لفقره، والله يعد المغفرة لكرمه.   (1) وردت هكذا (فلقمته لقمته) ويحتمل أن تكون كما أثبتنا، أو أن تكون فالقيمة لقيمته بدليل ما بعدها. [ ..... ] (2) تأمل كيف يرى القشيري قيمة العمل الإنسانى: إنه على الحقيقة فضل من الله ولكن من الناحية النسبية فعل للانسان ... وهذه مسألة هامة تتفرع عنها قضايا كلامية كثيرة يختلف فيها عن المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الشيطان يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم- بطاعته- بالحرص ولا فقر فوقه. يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم. يعدكم الفقر بنسيان ما تعوّدتموه من فضله- سبحانه «1» . ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك. ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه. ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته. «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» أي الرغبة فى الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوى الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شىء سواه ببالك. ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرّخص والتأويلات بعد وضوح الحق. ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله. «وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» : الفضل الموعود- فى العاجل- القناعة، وفى الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و ( .... ) «2» والغفران. ويقال فى العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان، ونشر بساط القرب، والتلقي لمكاشفات الأنس. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 269] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) .   (1) أضفنا (سبحانه) ليمتنع اللبس وهى غير موجودة فى (ص) . (2) هنا لفظة مشتبهة أقرب ما تكون إلى (العفو) ولكننا آثرنا عدم إثباتها فى النص لعدم التأكد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الحكمة: يحكم عليكم خاطر الحقّ لا داعى النفس، وتحكم عليكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان. ويقال الحكمة صواب الأمور. ويقال هى ألا تحكم عليك رعونات البشرية. (ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره) «1» . ويقال الحكمة موافقة أمر الله تعالى، والسّفه مخالفة أمره. ويقال الحكمة شهود الحق والسّفه شهود الغير قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) قوم توعّدهم بعقوبته، وآخرون توعدهم بمثوبته.. وآخرون توعدهم بعلمه فهؤلاء العوام «2» وهؤلاء الخواص. قال تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» فلا شىء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه، فليحذر المريد من إزلال «3» نفسه فى ذلك غاية الحذر. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) .   (1) ربما وقع الناسخ فى خطأ حين وضع هذه الجملة فى هذا المكان، والأقرب أن تكون بعد كلمة (زواجر الشيطان) فنحن نعرف من مذهب القشيري أنه يرى أن الشيطان لا يملك أن يغرى الخلق (لأنه لو كان قادرا على ذلك لكان يمسك على الهداية نفسه، ومن عجز أن يحافظ على نفسه كان في إغراء غيره أشد عجزا) قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» . (2) العوام هنا تنصرف إلى الموعودين بالمثوبة والمتوعدين بالعقوبة. (3) (إزلال) بالزاي معناها الإيقاع فى الزلة والتسبب فى ارتكابها، أوضحناها حتى لا تلتبس (بإذلال) ومع ذلك فيمكن قبول (إذلال) بالذال إذا فهمنا أن سقوط العبد من عين الله هو (ذلة) لنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 إن أظهرت صحبتك معنا وأعلنت فلقد جوّدت وأحسنت، وإن حفظت سرّنا عن دخول الوسائط بيننا صنت شروط الوداد، وشيّدت من بناء الوصلة العماد. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لك المقام المحمود، واللواء المعقود، والرتب الشريفة، والمنازل العلية، والسنن المرضية. وأنت سيد الأولين والآخرين، ولا يدانيك أحد- فضلا عن أن يساميك، ولكن ليس عليك هداهم فالهداية من خصائص حقنا، وليس للأغيار منه شظية. يا محمد: أنت تدعوهم ولكن نحن نهديهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) أخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق، فلا لهم فى الشرق مذهب، ولا لهم فى الغرب مضرب. كيفما نظروا رأوا سرادقات التوحيد محدقة بهم: كأنّ فجاج الأرض ضاقت برحبها ... عليهم فما تزداد طولا ولا عرضا   (1) من هذه الفقرة يتضح موقف التصوف الإسلامى الحق في نظرته إلى الرسول صلوات الله عليه وليس في الأمر- كما ترى- جموح أو شطط (قارن ذلك بنظرة ابن عربى وتلاميذه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ولا يسلم لهم نفس مع الخلق، وأنّى بذلك ولا خلق!! وإذا لم يكن فإثبات ما ليس شرك (سقها) «1» فى التوحيد. والفقير الصادق واقف مع الله بالله، لا إشراف للأجانب عليه، ولا سبيل لمخلوق إليه تنظره عين الأغيار فى لبسة سوى ما هو به قال تعالى: «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» ، فأما من كان ذا بصيرة فلا إشكال عليه في شىء من أحوالهم. تعرفهم يا محمد- أنت- بسيماهم، فليست تلك السيماء مما يلوح للبصر ولكنها سيماء تدركها البصيرة. لا إشراف عليهم إلا بنور الأحدية. ويقال «تعرفهم بسيماهم» : استبشار قلوبهم عند انكسار نفوسهم، وصياح أسرارهم إلى العرش (نشاطا عنه) عند ذبول ظاهرهم عن الانتعاش «2» . ويقال تكسر الظاهر عند تكسر الباطن وبالعكس من هذه لا يسألون الناس إلحافا، فإن جرى منهم من الخلق بدون الإلحاف سؤال- لما يشير إليه دليل الخطاب- فذلك صيانة لهم ولسر قصتهم، لئلا يلاحظهم الخلق بعين السؤال، وليس على سرّهم ذرة من الإثبات للأغيار «3» . ويقال: «أحصروا فى سبيل الله» : وقفوا على حكم الله، وأحصروا نفوسهم على طاعته وقلوبهم على معرفته، وأرواحهم على محبته، وأسرارهم على رؤيته. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) ما دام لهم مال لا يفترون ساعة عن إنفاقه ليلا ونهارا، فإذا تفد المال لا يفترون عن شهوده لحظة ليلا ونهارا.   (1) مشتبهة وقد أثرنا أن ننقلها كما هى وربما كانت (سقما) أي علة فى التوحيد. (2) العبارة فيها شىء من غموض نتيجة اشتباه ما بين القوسين ولكن المراد- والله أعلم- أنه بينما تبدوا ظواهرهم ذابلة بحكم التواضع والانكسار فإن أسرارهم جادة فى التسبيح من حول العرش. (3) هنا يبدو القشيري متأثرا بتعاليم أهل الملامة النيسابورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) من أعرض عن الأمر، ورخّص لنفسه بما يسوّله له خاطره من التأويل فلا استقلال لهم فى الحال ولا انتعاش فى المآل خسروا فى عاجلهم ولم يربحوا فى آجلهم. ومن انتبه بزواجر الوعظ، وكبح لجام الهوى، ولم يطلق عنان الإصرار فله الإمهال فى الحال، فإن عاد إلى مذموم تلك الأحوال فلينتظروا أوشك الاستئصال وفجاءة النّكال. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 276] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ما كان بإذن منه- سبحانه- من التصرّفات فمقرون بالخيرات، ومصحوب بالبركات. وما كان بمتابعة الهوى يسلّط عليه المحق، وكانت عاقبة أمره الخسران قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 277] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) إن الذين كانوا لنا يكفيهم ما يجدون منّا، لا نضيع أجر من أحسن عملا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 278] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الاكتفاء بموعود الربّ خير للمسلم من تعليق قلبه بمقصود نفسه. ومقصودك من تسويلات النفس، وموعودك مما ضمنه الحق. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) إن صاحب الإصرار ليس له عندنا وزن ولا مقدار، ولا قدر ولا أخطار. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) إذا تقرر عند القاضي إفلاس المحبوس فلا تحل له استدامة حبسه، وإن ظهرت لذى الحق حجة المفلس فذلك مرتهن بحق خصمه، ولكنه فى إمهال وإنظار. والرب لا يحكم بهذا علينا فمع علمه بإعسارنا وعجزنا، وصدق افتقارنا إليه وانقطاعنا له- يرحمنا. قوله «إلى ميسرة» : ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شىء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين، فأمّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد.. وأنّى للمفلس به؟! وأمّا الربح فى التجارة من تقليب رأس المال والتصرّف فيه.. فأنّى للمفلس به؟! ما بقي للمفلس إلا قول من قال من الفقهاء ( .......... ) «1» وإن كان ضعيفا، فذلك لمن بقيت له منة الحراك أما المفلس عن قوته- كما هو مفلس عن ماله- ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه. قوله جل ذكره: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.   (1) هنا عبارة مطموسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الرجوع على ضربين: بالأبشار والنفوس غدا عند التوفى، وبالأسرار والقلوب فى كل نفس محاسبة نقد ووعد، فنقد مطالبته أحقّ مما سيكون فى القيامة من وعده. وقال للعوام: «واتقوا يوما» وقال للخواص: «وإياى فاتقون» قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أمر الله سبحانه الخلق بالقيام بالصدق، وعلّمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يجرى- بعضهم على بعض- حيفا، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم، وموجب رفقه بهم كيلا يتخاصموا. فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة. ومن شرع اليوم ما يقطع الخصومة بينهم فبالحرى أن يجرى ما يرفع فى الآخرة آثار الخصومة «1» بينهم، وفى الخبر المنقول: تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالى عليكم، فإن الكريم إذا قدر غفر. وفيما شرع من الدين «2» رفق بأرباب الحاجات، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال، ويضيق به الصدر عن الاحتمال، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال، فأذن له فى الاستدانة ليجبر أمره فى الحال، وينتظر فضل الله فى المآل، وقد وعد على الإدانة الثواب الكثير، وذلك من لطفه تعالى. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)   (1) وردت (الحكومة) ونظن أنها خطأ فى النسخ وأن الأصل (الخصومة) . (2) ضبطناها هكذا وذلك هو الملائم للسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 من المعاني والدعاوى، ويقال من القصود والرغائب، وفنون الحوائج والمطالب. ويقال ما «تبديه» : العبادة، «وما تخفيه» الإرادة. ويقال ما «تخفيه» : الخطرات و «ما تبديه» : «العبارات» . ويقال ما «تخفيه» : السكنات والحركات «1» ويقال الإشارة فيه إلى استدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة، فلا تغفل «2» خطرة ولا تحمل وقتك نفسا «3» . قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) هذه شهادة الحق- سبحانه- لنبيّه- صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- بالإيمان، وذلك أتمّ له من إخباره عن نفسه بشهادته. ويقال آمن الخلق كلّهم من حيث البرهان وآمن الرسول- عليه السّلام- من حيث العيان. ويقال آمن الخلق بالوسائط وآمن محمد- صلّى الله عليه وسلّم- بغير واسطة.   (1) ربما كانت فى الأصل «تخفيه» السكنات «وتبديه» الحركات وسقطت تبديه من الناسخ. [ ..... ] (2) وردت (تعقل وربما صحت على أساس أن تعقل (بمعنى تحبس) أو بمعنى استخدام العقل، وهو فى هذه الحالة آفة تعترض الفناء الكامل. (3) ضبطناها هكذا لأن الانتباه إلى (النّفس) أمارة عدم اكتمال الفناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القدر فقال «آمن الرسول» ، ولم يقل آمنت، كما تقول لعظيم الشأن من الناس: قال الشيخ، وأنت تريد قلت. ويقال آمن الرسول والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكن شتان بين إيمان وإيمان، الكلّ آمنوا استدلالا، وأنت يا محمد آمنت وصالا. قوله جل ذكره: [سورة البقرة (2) : آية 286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير، كل ذلك رفق منه وفضل. لَها ما كَسَبَتْ من الخيرات. وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ما تكسبه من التوبة التي تنجّى من كسب «1» . قوله جل ذكره: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ كان إذا وقعت حاجة كلّموه بلسان الواسطة. قالوا «يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ» وهذه الأمة قال لهم: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» . وكانت الأمم (السالفة) «2» إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضى مدة لقبول التوبة، وفى هذه الأمة قال صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» . وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم، وخصائصهم أكثر من أن يأتى عليه الشرح.   (1) قد يبدو للوهلة الأولى ان القشيري فى استخراج إشارته من (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) يتجه اتجاها مخالفا للتفسير التقليدى، ولكن الواقع ان إشارة القشيري مرتبطة بمذهبه فى أن الله خالق كل شىء حتى أفعال العباد، فهو خالق التوبة وحين يتقبلها تعود (على) العبد، انظر مثلا تفسيره (ويتوب عليكم) من سورة النساء.. من هذا الكتاب) . (2) (السالفة) موجودة فى الهوامش فأثبتناها فى موضعها من المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قوله جل ذكره: وَاعْفُ عَنَّا فى الحال وَاغْفِرْ لَنا فى المآل وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فى جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك. ولما قالوا «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» خسف الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة. والحمد الله رب العالمين. السورة التي يذكر فيها آل عمران «بسم الله الرحمن الرحيم» اختلف أهل التحقيق فى اسم «الله» هل هو مشتق من معنى أم لا؟ فكثير منهم قالوا إنه ليس بمشتق من مغني، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص «1» ، يجرى فى وضعه مجرى أسماء الأعلام فى صفة غيره، فاذا قرع بهذا اللفظ أسماء أهل المعرفة لم تذهب فهومهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وحقه. وحقّ هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب فاذا قال بلسانه «الله» أو سمع بآذانه شهد بقلبه «الله» . وكما لا تدل هذه الكلمة على معنى سوى «الله» لا يكون مشهود قائلها إلا «الله» فيقول بلسانه «الله» ، ويعلم بفؤاده «الله» ، ويعرف بقلبه «الله» ، ويحب بروحه «الله» ،   (1) وردت (الاقتصاص) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ويشهد بسره «الله» ، ويتملق «1» بظاهره بين يدى الله، ويتحقق بسرّه الله، ويخلو بأحواله لله وفى الله فلا يكون فيه نصيب لغير الله، وإذا أشرف على أن يصير محوا فى الله لله بالله تداركه الحق سبحانه برحمته فيكاشفه بقوله «2» الرحمن الرحيم استبقاء لمهجتهم أن تتلف، وإرادة فى قلوبهم أن تنقى فالتلطف سنّة منه سبحانه لئلا يفنى أولياؤه بالكلية. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) أشار بقوله ألف إلى قيامه بكفايتك على عموم أحوالك، فأنت فى أسر الغفلة لا تهتدى إلى صلاحك ورشدك، وهو مجر ما يجبرك، وكاف بما ينصرك، فبغير سؤالك- بل بغير علمك بحالك- يكفيك من حيث لا تشعر، ويعطيك من غير أن تطلب. والإشارة من اللام إلى لطفه بك فى خفىّ السّر حتى أنه لا يظهر عليك محل المنة فيما يثبتك فيه. والإشارة من الميم لموافقة جريان التقدير بمتعلقات الطّلبة من الأولياء، فلا يتحرك فى العالم شىء، ولا تظهر ذرة إلا وهو بمحل الرضا منهم حتى أن قائلا لو قال فى قوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» إن ذلك الشأن تحقيق مراد الأولياء- لم يكن ذلك ببعيد. ويقال تفرّق عن القلوب- باستماع هذه الحروف المقطعة التي هى خلاف عادة الناس فى التخاطب- كلّ معلوم ومرسوم، ومعتاد وموهوم، من ضرورة أو حسّ أو اجتهاد، حتى إذا خلت القلوب عن الموهومات والمعلومات، وصفىّ الأسرار عن المعتادات والمعهودات يرد هذا الاسم وهو قوله: «الله» على قلب مقدّس من كل غير، وسرّ مصفىّ عن كل كيف فقال «الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» . فهو الذي لا يلهو فيشتغل عنك، ولا يسهو فتبقى عنه، فهو على عموم أحوالك رقيب سرّك إن خلوت فهو رقيبك، وإن توسطت الخلق فهو رقيبك «3» ، وفى الجملة- كيفما دارت بك الأحوال- فهو حبيبك.   (1) استخدم القشيري هذا الفعل فى موضع مماثل عند قوله (تذكير ما سلف من الإنعام فتح لباب التملق فى اقتضاء أمثاله فى المستقبل) وفى موضع آخر (فيحمله صدق الإرادة على التملق والتضرع ص 248 من هذا الجزء. (2) وردت (بقو) . (3) وردت فهو (قريبك) والمعنى يحتملها ولكن الانسجام فى الأسلوب يتطلب (رقيبك) مكررة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 3 الى 4] نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) وما كنت يا محمد تدرى ما الكتاب، ولا قصة الأحباب، ولكنما صادفك اختيار أزلىّ فألقاك فى أمر عجيب شانه، جلىّ برهانه، عزيز محلّه ومكانه. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. أي محققا لموعوده لك فى الكتاب على ألسنة الرسل عليهم السلام. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. أي إنا وإن أنزلنا قبلك كتبنا على المرسلين فما أخلينا كتابا من ذكرك، قال قائلهم: وعندى لأحبابنا الغائبين ... صحائف ذكرك عنوانها وكما أتممنا بك أنوار الأنبياء زيّنا بذكرك جميع ما أنزلنا من الأذكار. قوله جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وهو ذلّ الحجاب، ولكنهم لا يشعرون. «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» على أوليائه «ذُو انْتِقامٍ» من أعدائه، عزيز يطلبه كل أحد، ولكن لا يجده- كثيرا- أحد. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 5] إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) لا يتنفس عبد نفسا إلا والله سبحانه وتعالى محصيه «1» ، ولا تحصل فى السماء والأرض ذرة لا وهو سبحانه محدثه ومبديه، ولا يكون أحد بوصف ولا نعت إلا هو متوليه. هذا على العموم، فأمّا على الخصوص: فلا رفع أحد إليه حاجة إلا وهو قاضيها، ولا رجع أحد إليه فى نازلة إلا وهو كافيها.   (1) وردت (محيصة) وهى خطا من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 6] هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة، وهو الذي قدّر أحوالكم فى الأزل كيف شاء، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فلا يعقّب حكمه بالنقض، أو يعارض تقديره بالإهمال والرفض. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) جنّس عليهم الخطاب فمن ظاهر واضح تنزيله، ومن غامض مشكل تأويله. القسم الأول لبسط الشرع واهتداء أهل الظاهر، والقسم الثاني لصيانة الأسرار عن اطلاع الأجانب عليها، فسبيل العلماء الرسوخ فى طلب معناه على ما يوافق الأصول، فما حصل عليه الموقوف فمقابل بالقبول، وما امتنع من التأثر فيه بمعلول الفكر سلّموه إلى عالم الغيب. وسبيل أهل الإشارة والفهم إلقاء السمع بحضور القلب، فما سنح لفهومهم من لائح التعريفات بنوا (عليه) «1» إشارات الكشف.   (1) فى ص (بنوا على) والأصوب (بنوا عليه) حتى تتماسك العبارة لأن الإشارة تنبنى على التعريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 إن (طولبوا) «1» باستدامة الستر وطىّ السّر تخارسوا عن النطق، وإن أمروا بالإظهار والنشر أطلقوا بيان الحق، ونطقوا عن تعريفات الغيبة، فأمّا الذين أيّدوا بأنوار البصائر فمستضيئون بشعاع شموس الفهم، وأمّا الذين ألبسوا غطاء الريب، وحرموا لطائف التحقيق، فتنقسم بهم الأحوال وتترجّم بهم الظنون، ويطيحون فى أودية الرّيب والتلبيس، فلا يزدادون إلا جهلا على جهل، ونفورا على شك. قوله جل ذكره: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ومن وجد علمه من الله فيكون إيمانهم بلا احتمال جولان خواطر التجويز بل عن صريحات الظهور، وصافيات اليقين. وأمّا أصحاب العقول الصاحية ففى صحبة التذكر، لظهور البراهين و ( .... ) «2» أحكام التحصيل. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 8] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) ما ازدادوا قربا إلا ازدادوا أدبا، واللياذ إلى التباعد أقوى أسباب رعاية الأدب «3» . ويقال حين صدقوا فى حسن الاستغاثة أمدّوا بأنوار الكفاية. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 9] رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب، وغدا جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب،   (1) فى ص (طالبوا) والأوفق أن تبنى للمجهول مثل (أمروا) التي بعدها، لأن فاعليتهم حينئذ مفقودة. (2) مشتبهة. (3) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة أنهم أبدا طامعون فى الهداية محتاجون- لا لأعمالهم- بل لفضل الله، ومهما أسبغ عليهم يشعرون بأنهم ما زالوا بعيدين عن التمام، وعلى هذا التفسير تنسجم هذه العبارة مع سابقتها «ما ازدادوا قربا إلا ازدادوا أدبا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال، وغدا جمع الأبشار لشهود الأحوال، ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) فلا فداء ينفعهم، ولا غناء يدفعهم، ولا مال يقبل منهم، ولا حجاب يرفع عنهم، ولا مقال يسمع فيهم، بهم يسعّر الجحيم، ولهم الطرد الأليم، والبعد والحميم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 11] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) أصرّوا فى العتوّ على سننهم، وأدمنا لهم فى الانتقام سنننا، فلا عن الإصرار أقلعوا، ولا فى المبارّ طمعوا، ولعمرى إنهم هم الذين ندموا وتحسّروا على ما قدّموا- ولكن حينما وجدوا الباب مسدودا، والندم عليهم مردودا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 12] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) أخبرهم أنهم يفوتهم حديث الحق فى الآجل «1» ، ولا تكون لهم لذة عيش فى العاجل، والذي يلقونه فى الآخرة من شدة العقوبة بالحرقة فوق ما يصيبهم فى الدنيا من الغيبة عن الله والفرقة «2» ، ولكن سقمت البصائر فلم يحسوا بأليم العقاب.   (1) يشير القشيري بهذا إلى الآية الكريمة «لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» . [ ..... ] (2) أما الخواص فيرون رؤية الله منتهى آمالهم، وصدّه عنهم أشد عليهم من عذاب السعير، يقول البسطامي: «لله خواص من عباده لو حجبهم فى الجنة عن رؤيته ساعة لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 13] قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) إذا أراد الله إمضاء أمر قلّل الكثير فى أعين قوم، وكثّر القليل فى أعين قوم، وإذا لبّس على بصيرة قوم لم ينفعهم نفاذ أبصارهم، وإذا فتح أسرار آخرين فلا يضرهم انسداد بصائرهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) يذكر بعض الشهوات على ما سواها مما هو فى معناها، وفى الجملة ما يحجبك عن الشهود فهو من جملتها. وأصعب العوائق فى هذه الطريق الشهوة الخفية. وأداء الطاعات على وجه الاستحلاء معدود عندهم فى جملة الشهوة الخفية. ومن المقاطع المشكلة السكون إلى ما يلقاك به من فنون تقريبك، وكأنه فى حال ما يناجيك يناغيك، فإنه بكل لطيفة يصفك (فيطريك) «2» وتحتها خدع خافية. ومن أدركته السعادة كاشفه بشهود جلاله وجماله (لا) «3» بإثباته فى لطيف أحواله وما يخصه به من أفضاله وإقباله.   (1) من هذا نفهم أن ترتيب ملكات الاطلاع عند القشيري هو على هذا النحو: البصر ثم البصيرة ثم السر (2) مستدركة فى الهامش فأثبتناها فى موضعها. (3) نظن أن (لا) زائدة لأن السعادة التي تدرك العبد لا تتم إلا (بإثباته فى ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) بيّن فضيلة أهل التقوى على أرباب الدنيا، فقال: هؤلاء لهم متابعة المنى وموافقة الهوى وأولئك لهم الدرجات العلى، والله بصير بالعباد أنزل كل قوم منزله، وأوصله إلى ما له أهلّه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 16] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) أي ينقطعون إلينا بالكلية، ويتضرعون بين أيدينا بذكر المحن والرزية، أولئك ينالون منا القربة والخصوصية، والدرجات العليّة، والقسم المرضيّة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 17] الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) الصبر حبس النّفس، وذلك على ثلاث مراتب: صبر على ما أمر به العبد، وصبر عما نهى عنه وصبر هو الوقوف تحت جريان حكمه على ما يريد إمّا فى فوات محبوبك أو هجوم ما لا تستطيعه «1» . فإذا ترقيت عن هذه الصفة- بألا تصيبك مشقة أو تنال راحة- فذلك رضا لا صبر «2» . ويقال الصابرين على أمر الله، والصادقين، فيما عاهدوا الله. و «القانتين» ، بنفوسهم بالاستقامة فى محبة الله.   (1) فوات المحبوب صدّه عنك وهجره لك، والهجوم الذي لا تستطيعه هو الذي (يرد على القلب بقوة الوقت من غير تصنع منك، ومنهم من تصرفه الهواجم ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالا وقوة، أولئك سادات الوقت) الرسالة ص 44. (2) لاحظ الفرق بين الرضا والصبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 و «المستغفرين» عن جميع ما فعلوه لرؤية تقصيرهم فى الله «1» ويقال: «الصابرين» بقلوبهم و «الصادقين» بأرواحهم و «القانتين» بنفوسهم، و «المستغفرين» بألسنتهم. ويقال «الصابرين» على صدق القصود و «الصادقين» فى العهود و «القانتين» بحفظ الحدود و «المستغفرين» عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد. ويقال «الصابرين» الذين صبروا على الطلب ولم يتعللوا بالهرب ولم يحتشموا من التعب، وهجروا كل راحة وطلب. وصبروا على البلوى، ورفضوا الشكوى، حتى وصلوا إلى المولى، ولم يقطعهم «2» شىء من الدنيا والعقبى. و «الصادقين» الذين صدقوا فى الطلب فقصدوا، ثم صدقوا حتى وردوا، ثم صدقوا حتى شهدوا، ثم صدقوا حتى وجدوا، ثم صدقوا حتى فقدوا ... فترتيبهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود «3» . و «القانتين» الذين لازموا الباب، وداوموا على تجرّع الاكتئاب، وتركوا المحاب، ورفضوا الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب. و «المنفقين» الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، (ثم جادوا بميسورهم من الأموال) «4» ، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال، ثم جادوا بترك كل حظ لهم فى العاجل الآجل، استهلاكا عند القرب والوصال بما لقوا من الاصطلام والاستئصال «5» . و «المستغفرين» عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الاسحار يعنى ظهور الإسفار، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر فى الأقطار.   (1) قارن ذلك بما يحكيه المناوى في (طبقاته) وابن الجوزي فى (صفة الصفوة) عن رابعة أنها كانت تردد: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار لعدم الصدق فيه) . (2) قواطع الدنيا معروفة أما قواطع العقبى فهى تعليق العمل المبذول بالأجر، إما الطمع فى المثوبة أو الخوف من العقوبة. (3) هذا تلخيص دقيق للمعراج الروحي ينبغى أن نتمهل عنده لحسن فهمه واستيعابه. (4) مستدركة فيما بين السطور فأثبتناها فى موضعها. (5) الاستئصال هو الذي عبر عنه القشيري فى رسالته بقوله: (كأس تصطمهم منهم وتفنيهم وتختطفهم ولا تبقهم، كأس لا تبقى ولا تذر، تمحوهم بالكلية، ولا تبقى شظية من آثار البشرية) الرسالة ص 43 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 18] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) أي علم الله وأخبر الله وحكم الله بأنه لا إله إلا هو، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق، وأوّل من شهد بأنه الله- الله، فشهد فى آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلى، وأخبر عن وجوده الأحدى، وكونه الصمدى، وعونه القيومى، وذاته الدعومى، وجلاله السرمدي، وجماله الأبدى. فقال: «شَهِدَ اللَّهُ» ثم فى آباده، «شَهِدَ اللَّهُ» أي بيّن الله بما نصب من البراهين، وأثبت من دلائل اليقين، وأوضح من الآيات، وأبدى من البينات. فكلّ جزء من جميع ما خلق وفطر، ومن كتم العدم أظهر، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل، من أعيان مستقلة، وآثار فى (ثانى) «1» وجودها مضمحلة، وذوات للملاقاة قابلة، وصفات فى المحالّ متعاقبة- فهو لوجوده مفصح، ولربوبيته موضّح، وعلى قدمه شاهد، وللعقول مخبر بأنه واحد، عزيز ماجد، شهد سبحانه بجلال قدره، وكمال عزه، حين لا جحد ولا جهود «2» ولا عرفان لمخلوق ولا عقل، ولا وفاق، ولا كفر، ولا حدثان، ولا غير، ولا إلحاد، ولا شرك، ولا فهم ولا فكر، ولا سماء ولا فضاء، ولا ظلام ولا ضياء، ولا وصول للمزدوجات «3» ، ولا فضول باختلاف الآفات. قوله جل ذكره: وَالْمَلائِكَةُ لم يؤيّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيّدهم، حين وفّقهم بشهادته وسدّدهم، وإلى معرفة وجدانيته أرشدهم. قوله جل ذكره: وَأُولُوا الْعِلْمِ وهم أولياء بنى آدم إذ علموا جلال قدرته، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم، فشهدوا عن شهود وتعيين، لا عن ظن وتخمين، إن لم يدركوه- اليوم-   (1) ربما كانت فى الأصل فى (شان) وجودها ... بتخفيف الهمز. (2) ربما كانت فى الأصل (جحود) ، ويحتمل أنها (جهود) فيكون المقصود الجهود الإنسانية الكسبية. (3) ربما قصد منها كل شىء وضده، وربما كانت (للدرجات) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ضرورة وحسّا، لم يعتقدوه ظنّا وحدسا تعرّف إليهم فعرفوه، وأشهدهم فلذلك شهدوا، ولو لم يقل لهم إنه من هو لما عرفوا من هو. ولكنّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم، والموحّدون يشهدون بعد خمودهم فهم كما قيل: مستهلكون بقهر الحق قد همدوا ... واستنطقوا بعد افتنائهم بتوحيد فالمجرى عليهم ما يبدو منهم- سواهم، والقائم عنهم بما هم عليه وبه- غيرهم، ولقد كانوا لكنهم بانوا، قال قائلهم: كتابى إليكم بعد موتى بليلة ... ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب وأولو العلم على مراتب: فمن عالم نعته وفاق ورهبانية، ومن عالم وصفه فناء وربّانية، وعالم يعرف أحكام حلاله وحرامه، وعالم يعلم أخباره وسننه وآثاره، وعالم يعلم كتابه ويعرف تفسيره وتأويله، ومحكمه وتنزيله، وعالم يعلم صفاته ونعوته ويستقوى حججه وتوحيده بحديث يخرجه ( .... ) «1» ، وعالم لاطفه حتى أحضره ثم كاشفه فقهره، فالاسم باق، والعين محو، والحكم طارق والعبد محق، قال قائلهم. بنو حق غدوا بالحق صرفا ... فنعت الخلق فيهمو مستور وليست الإشارة من هذا إلا إلى فنائهم عن إحساسهم، وعند علمهم بأنفسهم، فأما أعمالهم «2» أعيانهم فمخلوقة، وما يفهم بذواتهم من أحوالهم فمسبوقة، وذات الحق لا توصف بقبول حدثان، وصفات ذاته لا تقبل اتصالا بالغير ولا انفصالا عن الذات، تقدّس الحق عن كل ضدّ وندّ، ووصل وفصل، وجمع وفرق، وعين وخلق، وملك وفلك، ورسم وأثر، وعبد وبشر، وشمس وقمر، وشخص وغبر. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) .   (1) مشتبهة. (2) نرجح أنه فى الأصل (وأعيانهم) وأن الواو سقطت من الناسخ أي أنهم وما يصنعون- من خلق الله، وذلك الأصل من الأصول الكلامية عند القشيري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الدّين الذي يرتضيه، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه، وبالفضل يلقّيه- هو الإسلام. والإسلام هو الإخلاص والاستسلام، وما سواه فمردود، وطريق النجاة على صاحبه مسدود. قوله جل ذكره: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. جاءهم العلم الذي عليهم حجة، لا المعرفة التي لها بيان ومحجة، فأصروا على الجحود، لأنهم حجبوا عن محل الشهود. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) طالعهم بعين التصريف كيلا يفترق بك الحال فى شهود اختلافهم وتباين أطوارهم فإنّ من طالع الكائنات بعين القدرة علم أن المثبت للكلّ- على ما اختص به كل واحد من الكل- واحد. فادعهم جهرا بجهر، واشهد تصريفنا إياهم سرّا بسر، واشغل لسانك بنصحهم، وفرّغ قلبك عن حديثهم، وأفرد سرّك عن شهودهم، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ، والمجرى للأمور والمبدى- نحن. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 21] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 إن الذين ربطناهم بالخذلان ووسمناهم بوصف الحرمان- أخبرهم بأن إعراضنا عنهم مؤبد، وأن حكمنا سبق بنقلهم عن دار الجنان إلى دار الهوان، من الخذلان والحرمان إلى العقوبة والنيران. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 22] أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أولئك الذين ليس لهم- اليوم- توفيق بأعمالهم، ولا غدا تحقيق لآمالهم، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا فى الدارين نصرتنا، ولم يشهدوا عزّنا وقدرتنا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 23] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) امتحناك بدعوة من سبق علمنا بأنهم لا يستجيبون، فاصبر على ما أمرت فيهم، واعلم سوء أحوالهم، فإنهم أهل التولّى عن الإجابة، لأنهم فقدوا منا حسن التجلي بسابق الإرادة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 24] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) عاقبناهم فى الدنيا بالاستدراج حتى حكموا لأنفسهم بالنجاة وتخفيف العقاب، وسوف يعلمون تضاعف البلاء عليهم، ويحسبون أنهم على شىء ألا إنهم هم الكاذبون. ظن المخطئون حكما ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 [سورة آل عمران (3) : آية 25] فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) هذه كلمة تعجب لما أخبر به عن تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن عند بهتة عقولهم ودهشة أسرارهم، وانقطاع دواعيهم، وانخلاع قلوبهم من مكامنها، وتراقيها إلى تراقيهم، ثم ما يلقونه من الحساب والعتاب، والعذاب والعقاب، وعدم الإكرام والإيجاب، وما فى هذا الباب. وقيامة الكفار يوم الحشر، وقيامة الأحباب فى الوقت، ولشرح هذا تفسير طويل «1» قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 26] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) «اللَّهُمَّ» معناها يا الله والميم فى آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا. فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق، أي صفنى بما أستحقّه من جلال القدر فقل: يا مالك الملك لا شريك لك ولا معين، ولا ظهير ولا قرين، ولا مقاسم لك فى الذات، ولا مساهم فى الملك، ولا معارض فى الإبداع. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. حتى نعلم أن الملك لك، والملك من المخلوقين من تذلّل له، ومنزوع الملك ممن تكبّر عليه فتجمّل الخلق فى تذللهم للحق، وعزّهم فى محوهم فيه، وبقاؤهم فى فنائهم به وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بعز ذاتك. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ. بخذلانك. وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك. وتعزّ   (1) من كلام القشيري فى هذا الخصوص فى موضع آخر من هذا الكتاب: (والقيامة عند هؤلاء تقوم كل يوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق، وليس لها كاشف غيره سبحانه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 من تشاء بيمن إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك. وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه. وتعز من تشاء بطوالع أنسه وتذل من تشاء بطوارق «1» نفسه. وتعز من تشاء ببسطه بك، وتذل من تشاء بقبضه عنك. وتؤتى الملك من تشاء بشد نطاق خدمتك، وتنزع الملك ممن تشاء بنفيه عن بساط عبادتك «2» . تؤتى الملك من تشاء بإفراد سرّه لك وتنزع الملك ممن تشاء بأن تربط قلبه بمخلوق، وتعز من تشاء بإقامته بالإرادة، وتذل من تشاء بردّه إلى ما عليه أهل العادة. بِيَدِكَ الْخَيْرُ. ولم يذكر الشر حفظا لآداب الخطاب، وتفاؤلا بذكر الجميل، وتطيرا من ذكر السوء. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. من الحجب والجذب، (والنصرة) «3» والخذلان، والأخذ والرد، والفرق والجمع، والقبض والبسط. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 27] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) .   (1) الطوارق فى اللغة ما يطرق بالليل، وروى عن النبي (ص) أنه كان يدعو: «وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير» . وعن بعض المشايخ: يطرق سمعى علم من علوم أهل الحقائق فلا أدعه أن يدخل قلبى إلا بعد أن أعرضه على الكتاب والسّنة. (اللمع للطوسى ص 422) . (2) وردت (عبادك) والأصوب أن يقال (عبادتك) لأن العبودية لا تنتفى عن مخلوق، أما العبادة فهى حالة مخصوصة يعان عليها العبد أو لا يعان، فالعبد إما فى العبادة أو فى العادة: (3) أضفنا هذه الكلمة من عندنا حتى يتم الانسجام الداخلى للأسلوب ويكون المعنى أوضح، ونحن فى هذه الإضافة- كدأبنا دائما- متمثلين النهج الذي يسلكه القشيري فى مثل هذا المواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 تولج الليل فى النهار حتى يغلب سلطان ضياء التوحيد فلا يبقى من آثار النفس وظلماتها شىء، وتولج النهار فى الليل حتى كأن شموس القلوب كسفت، أو كأن الليل دام، وكأن الصبح فقد. وتخرج الحي من الميت حتى كأن الفترة لم تكن، وعهد الوصال رجع فتيّا، وعود القلوب صار غضا طريّا. وتخرج الميت من الحي حتى كأن شجرة البرم أو رقت شوكا وأزهرت شوكا، وكأن اليائس لم يجد خيرا، ولم يشم ريحا، وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. حتى لا (كدر) «1» ولا جهد ولا عرق جبين. ولا تعب يمين. ليله روح وراحة، ونهاره طرب وبهجة، وساعاته كرامات، ولحظاته قربات، وأجناس أفعاله على التفصيل لا يحصرها لسان، ولا يأتى على استقصاء كنهها عبارة ولا بيان. وفيما لوّحنا من ذلك تنبيه على طريق كيفية الإفصاح عنه. ويقال لما قال: «وتنزع الملك ممن تشاء انكسر خمار كلّ ظانّ أنه ملك لأنه شاهد ملكه يعرض للزوال فعلم أن التذلل إليه فى استبقاء ملكه أولى به من الإعجاب والإدلال. ويقال الملك فى الحقيقة- من لا يشغله شىء بالالتفات إليه عن شهود من هو الملك على الحقيقة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 28] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) من حقائق الإيمان الموالاة فى الله والمعاداة فى الله. وأولى من تسومه الهجران والإعراض عن الكفار- نفسك فإنها مجبولة على   (1) نرجح أنها (كدّ) بدون راء، ومع ذلك فالمعنى يتقبل كليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 المجوسية حيث تقول: لى ومنى وبي «1» ، وقال الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» «2» . وإن الإيمان فى هذه الطريقة عزيز، ومن لا إيمان له بهذه الطريقة من العوام- وإن كانوا قد بلغوا من الزهد والجهد مبلغا عظيما- فليسوا بأهل لموالاتك، والشكل بالشكل أليق. قوله جل ذكره: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ صحبة الحق سبحانه وقربته لا تكون مقرونة بصحبة الأضداد وقربتهم- البتة. «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» : هذا خطاب للخواص من أهل المعرفة، فأمّا الذين نزلت رتبتهم عن هذا فقال لهم: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي ... » وقال: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ ... » إلى غير ذلك من الآيات. ويقال: «يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» أن يكون عندكم أنكم وصلتم فإن خفايا المكر تعترى الأكابر، قال قائلهم: وأمنته فأتاح لى من مأمنى ... مكرا، كذا من يأمن الأحبابا ويقال: «يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» لأن يجرى فى وهم أحد أنه يصل إليه مخلوق، أو يطأ بساط العزّ قدم همة بشر، جلّت الأحدية وعزّت! وإنّ من ظن أنه أقربهم إليه ففى الحقيقة أنه أبعدهم عنه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 29] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)   (1) وإلى هذا يشيرون حين يقولون (التوحيد إسقاط الياءات) الرسالة ص 149. لأن التوحيد الحق لا يقتضى شعورك بما سوى الموحّد، ولكن النفس مجبولة على الدعوى. وهذا شرك خفى. (2) سورة التوبة آية 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لا يعزب معلوم عن علمه، فلا تحتشم من نازلة بك تسوءك، فعن قريب سيأتيك الغوث والإجابة، وعن قريب سيزول البلاء والمحنة، ويعجّل المدد والكفاية. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 30] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) ودّ أهل الطاعات أن لو استكثروا منها، وودّ أهل المخالفات أن لو كبحوا لجامهم عن الركض فى ميادينهم، قال قائلهم: ولو اننى أعطيت من دهرى المني ... وما كلّ من يعطى المنى بمسدّد لقلت لأيام مضين: ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين ألا ابعدي قوله جل ذكره: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. الإشارة من قوله: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» للعارفين، ومن قوله «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» للمستأنفين، فهؤلاء أصحاب العنف والعنوة، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة. ويقال لمّا قال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» اقتضى أسماع هذا الخطاب تحويلهم «1» فقال مقرونا به «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» لتحقيق تأميلهم، وكذلك سنّته يطمعهم «2» فى عين ما يروعهم. ويقال أفناهم بقوله «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» ثم أحياهم وأبقاهم بقوله «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ»   (1) ربما يقصد القشيري تحويلهم من الخوف إلى الرجاء، فبعد أن خوفهم نفسه أطمعهم فى رافته. (2) وردت (يطعمهم) وواضح أنها خطا فى النسخ فأصلحناه بما يلائم السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 31] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) «تُحِبُّونَ اللَّهَ» فرق، و «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» جمع. «تُحِبُّونَ اللَّهَ» مشوب بالعلة، و «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» بلا علّة، بل هو حقيقة الوصلة. ومحبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية، وتقتضى منه تلك الحالة إيثاره- سبحانه- على كل شىء وعلى كل أحد. وشرط المحبة ألا يكون فيها حظّ بحال، فمن لم يفن عن حظوظه بالكلّية فليس له من المحبة شظيّة. ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانه إليه ولطفه به، وهى إرادة فضل مخصوص، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه، فعلى هذا تكون من صفات فعله. ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك فى محبوبك، قال قائلهم. وما الحب حتى تنزف العين بالبكا ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا وهذا فرق «1» بين الحبيب والخليل قال الخليل: «فمن تبعني فإنه منى» . وقال الحبيب: «فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» . فإن كان متّبع الخليل «منه» إفضالا فإن متابع الحبيب محبوب الحقّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالا. ويقال قطع أطماع الكافة أن يسلم لأحد نفس إلا ومقتداهم وإمامهم سيد الأولين والآخرين محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويقال فى هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة وليست باجتلاب طاعة، أو التجرد   (1) وردت (فراق) وهى خطأ من الناسخ، إذ المراد التفرقة بين موقف المصطفى (ص) وإبراهيم عليه السّلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 عن آفة لأنه قال يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، بيّن أنه يجوز أن يكون عبد له فنون كثيرة ثم يحبّ الله ويحبّه الله. ويقال قال أولا: «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» ثم قال: «وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» والواو تقتضى الترتيب ليعلم أنّ المحبة سابقة على الغفران أولا يحبهم ويحبونه (وبعده) يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجب الغفران لأن العفو يوجب المحبة. والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال ومنه حبب الأسنان «1» وهو صفاؤها. والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب فى السر. ويقال أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح بالضرب. والحبّ حرفان حاء وباء، والإشارة من الحاء إلى الروح ومن الباء إلى البدن، فالمحبّ لا يدّخر عن محبوبه لا قلبه ولا بدنه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 32] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) أمرهم بالطاعة ثم قال: «فَإِنْ تَوَلَّوْا» أي قصّروا فى الطاعة بأن خالفوا، ثم قال: «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» لم يقل العاصين بل قال الكافرين، ودليل الخطاب أنه يحب المؤمنين وإن كانوا عصاة «2» قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) اتفق آدم وذريته فى الطينة، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قبله، لا بالنّسب ولا بالسبب.   (1) وردت (الإنسان) وهى خطأ من الناسخ (أنظر الرسالة ص 158) . (2) فالمؤمن العاصي منزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر- فى نظر القشيري المتكلم. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 36] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) المحرّر الذي ليس فى رقّ شىء من المخلوقات، حرّره الحق سبحانه فى سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجوه والأحوال. فلمّا نذرت أمّ مريم ذلك، ووضعتها أنثى خجلت، فلمّا رأتها قالت «رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» وهى لا تصلح أن تكون محررا فقال تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» ولعمرى ليس الذكر كالأنثى في الظاهر، ولكن إذا تقبّلها الحقّ- سبحانه وتعالى- طلع عنها كل أعجوبة. ولما قالت «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» قالت «فَتَقَبَّلْ مِنِّي» فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عالم وهلك بسببها عالم، ووقعت الفتنة لأجلهما فى عالم. قالت: «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» استجارت بالله من أن يكون للشيطان فى حديثها شىء بما هو الأسهل، لتمام ما هم به من أحكام القلوب. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) حيث بلّغّها فوق ما تمنّت أمها، ويقال تقبّلها بقبول حس حتى أفردها لطاعته، وتولّاها بما تولّى به أولياءه، حتى أفضى جميع من فى عصرها العجب من حسن توليه أمرها، وإن كانت بنتا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ويقال القبول الحسن حسن تربيته لها مع علمه- سبحانه- بأنه يقال فيه بسببها ما يقال، فلم يبال بقبح مقال الأعداء. أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمنى اللّوم وكما قيل: ليقل من شاء ما ... شاء فإنى لا أبالى ويقال القبول الحسن أن ربّاها على نعت العصمة حتى كانت تقول: «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» . «وأنبتها نباتا حسنا» حتى استقامت على الطاعة، وآثرت رضاه- سبحانه- فى جميع الأوقات، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السّلام، وهذا هو النبات الحسن، وكفلها زكريا. ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل كافلها والقيّم بأمرها وحفظها نبيا من الأنبياء مثل زكريا عليه السّلام، وقد أوحى الله إلى داود عليه السّلام: إن رأيت لى طالبا فكن له خادما. قوله جل ذكره: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قالَ: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. من أمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا فى المحراب، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبّد فيه وهناك يوجد المحراب- فذلك عبد عزيز. ويقال من القبول الحسن أنه لم يطرح أمرها كلّه وشغلها على زكريا عليه السّلام فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وجد عندها رزقا ليعلم العاملون أن الله- سبحانه- لا يلقى شغل أوليائه على غير «1» ، ومن خدم وليا من أوليائه كان هو فى رفق الولي لا إنه   (1) وردت على (عين) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تكون عليه مشقة لأجل الأولياء. وفى هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه فى رفق الفقراء. ثم كان زكريا عليه السّلام يقول: أنّى لك هذا؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شغلها، فكان يسأل ويقول: أنّى لك هذا؟ ومن أتاك به؟ وكانت مريم تقول: هو من عند الله لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان: إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به. قوله «كلما دخل عليها زكريا المحراب» فلفظة كلّما للتكرار «1» وفى هذا إشارة: وهو أن زكريا عليه السّلام لم يذر تعهّدها- وإن وجد عندها رزقا- بل كل يوم وكل وقت كان يتفقد حالها لأن كرامات الأولياء ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعا فيجوز أن يظهر الله ذلك عليهم دائما، ويجوز ألا يظهر، فما كان زكريا عليه السّلام يعتمد على ذلك فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدّد السؤال عنها بقوله: «يا مريم أنّى لك هذا؟» لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على الله سبحانه «2» وقوله: «إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» إيضاح عن عين التوحيد، وأن رزقه للعباد، وإحسانه إليهم بمقتضى مشيئته، دون أن يكون معلّلا بطاعاتهم ووسيلة عباداتهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 38] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) أي لما رأى كرامة الله سبحانه معها ازداد يقينا على يقين، ورجاء على رجاء فسأل الولد على كبر سنّه، وإجابته إلى ذلك كانت نقضا للعادة.   (1) أي لتكرار زيارة زكريا لها مرة بعد مرة. (2) هنا إشارة دقيقة تتصل بمذهب القشيري- الذي يخالف المعتزلة- أنه لا وجوب على الله فى إثابة المطيع، لأن طاعة المطيع ليست زيّنا لله، ومعصيته ليست شيئا لله، وإنما المعول عليه فضل الله وهذا لا علة له، ولا وجوب على الله فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ويقال إن زكريا عليه السّلام سأل الولد ليكون عونا له على الطاعة، ووارثا من نسله فى النبوة، ليكون قائما بحقّ الله، فلذلك استحق الإجابة فإن السؤال إذا كان لحقّ الحقّ- لا لحظّ النّفس- لا يكون له الرد «1» . وكان زكريا عليه السّلام يرى الفاكهة الصيفية عند مريم فى الشتاء، وفاكهة الشتاء عندها فى الصيف، فسأل الولد فى حال الكبر ليكون آية ومعجزة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 39] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) لما سأل السؤال، ولازم الباب أتته الإجابة. وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة. ويقال حكم الله- سبحانه- أنه إنما يقبل بالإجابة على من هو معانق لخدمته، فأمّا من أعرض عن الطاعة ألقاه فى ذلّ الوحشة. قوله جل ذكره: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قيل سمّاه يحيى لحياة قلبه بالله، ولسان التفسير أنه حيى به عقر أمه. ويقال إنه سبب حياة من آمن به بقلبه. قوله: مصدقا بكلمة من الله: أن تصديقه بكلمة «الله» فيما تعبده به أو هو مكوّن بكلمة الله. وقوله «وَسَيِّداً» : السيّد من ليس فى رق مخلوق، تحرّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال السيد من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السّلام.   (1) الرد هنا معناها الرفض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ويقال سيد لأنه لم يطلب لنفسه مقاما، ولا شاهد لنفسه قدرا. ولما أخلص فى تواضعه لله بكل وجه رقّاه على الجملة، وجعله سيدا للجميع. وقوله «وَحَصُوراً» أي معتقا من الشهوات، مكفيا أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر. ويقال متوقيا عن المطالبات، مانعا نفسه عن ذلك تعززا وتقربا، وقيل منعته استئصالات بواده الحقائق عليه فلم يبق فيه فضل لحظّ. «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» أي مستحقا لبلوغ رتبتهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 40] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قيل كان بين سؤاله وبين الإجابة مدة طويلة ولذلك قال: أنّى يكون لى غلام؟ ويحتمل أنه قال: بأى استحقاق منى تكون لى هذه الإجابة لولا فضلك؟ ويحتمل أنه قال أنّى يكون هذا: أعلى وجه التبني أم على وجه التناسل؟ ويحتمل أنه يكون من امرأة أخرى سوى هذه التي طعنت فى السن أو من جهة التّسرّى بمملوكة؟ أم من هذه؟ فقيل له: لا بل من هذه فإنكما قاسيتما وحشة الانفراد معا، فكذلك تكون بشارة الولد لكما جميعا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 41] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) طلب الآية ليعلم الوقت الذي هو وقت الإجابة على التعيين لا لشك له فى أصل الإجابة. وجعل آية ولايته «1» فى إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح، أي لا تمتنع عن خطابى فإنى لا أمنع أوليائى من مناجاتى.   (1) وردت (دلالته) وقد تكون مقبولة فى المعنى أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قوله جل ذكره: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً. بقلبك ولسانك فى جميع أوقاتك. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ. فى الصلاة الدائبة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 42] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يجوز أن يكون هذا ابتداء خطاب من الملائكة على مريم من قبلهم رفعا بشأنها، ويجوز أن تكون قد سمعت كلامهم وشاهدتهم، ويجوز أنها لم تشاهدهم وأنهم هتفوا بها: إن الله اصطفاك بتفضيلك، وإفرادك من أشكالك وأندادك، وطهّرك من الفحشاء والمعاصي بجميل العصمة، وعن مباشرة الخلق «1» ، واصطفاك على نساء العالمين فى وقتك. وفائدة تكرار «2» ذكر الاصطفاء: الأول اصطفاك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة والثاني اصطفاك بأن حملت بعيسى عليه السّلام من غير أب، ولم تشبهك امرأة- ولن تشبهك- إلى يوم القيامة، ولذلك قال «عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 43] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) لازمى بساط العبادة، وداومى على الطاعة، ولا تقصّرى فى استدامة الخدمة، فكما أفردك الحقّ بمقامك، كونى فى عبادته أو حد زمانك. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 44] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)   (1) ربما يقصد القشيري من ذلك أنه أبعدها عن أن يباشرها الزوج شأن نساء العالمين. (2) لاحظ كيف يلتمس القشيري معنى متجددا لكلمة تتكرر بلفظها- لأنه لا يرى أن فى القرآن تكرارا إلا لداع متجدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أي هذه القصص نحن عرفنا كهاو (خا) طبناك بمعانيها، وإن قصصنا نحن عليك هذا- فعزيز خطابنا، وأعزّ وأتم من أن لو كنت مشاهدا لها. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 46] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) لم يبشرها بنصيب لها فى الدنيا ولا فى الآخرة من حيث الحظوظ، ولكن بشّرها بما أثبت فى ذلك من عظيم الآية، وكونه نبيا لله مؤيّدا بالمعجزة. ويقال عرّفها أن من وقع فى تغليب القدرة، وانتهى عند حكمه يلقى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدة بجميل الصيت، والاشتهار بالعفة، فشوّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام، ولكن- فى التحقيق- ليس كما ظنّه الأغبياء «1» الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير. وقيل إنه ( ........ ) «2» عرّفها ذلك بالتدريج والتفصيل، فأخبرها أن ذلك الولد يعيش حتى يكلّم الناس صبيّا وكهلا، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه. وقيل كهلا بعد نزوله من السماء. ويقال ربط على قلبها بما عرّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة ساحتها ينطق الله عيسى عليه السّلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها.   (1) وردت (الأغنياء) والمعنى والسياق يرفضاتها. (2) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 47] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة فى رزقنا فكذلك ننقض العادة فى خلق ولد من غير مسيس بشر. قوله جل ذكره: إِذا قَضى أَمْراً. أي أراد إمضاء حكم. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء. ولما بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه السّلام وهو ابن يوم حتى قال: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 48 الى 49] وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وتلك آياته الظاهرة، ودلالاته القاهرة الباهرة من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عمّا عملوه مسرّين به، إلى غير ذلك من معجزاته. وأخبر أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 مصدّق لما تقدمه من الشرائع، ومختص بشريعة تنسخ بعض ما تقدمه، وأقرهم على البعض- على ما نطق به تفصيل القرآن. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 53] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) الآية. حين بلّغهم الرسالة واختلفوا- فمنهم من صدّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون- علم أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء، فقطع عنهم قلبه، وصدق إلى الله قصده، وقال لقومه: من أنصارى إلى الله ليساعدونى على التجرد لحقّه والخلوص فى قصده؟ فقال من انبسطت عليهم آثار العناية، واستخلصوا بآثار التخصيص: نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد علينا بالصدق، وليس يشكل عليك «1» شىء مما نحن فيه. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وأما الباقون فجدّوا فى الشقاق، وبالغوا فى العداوة، ودسّوا له المكائد، ومكروا ولكن أذاقهم الله وبال مكرهم، فتوهموا أنهم صلبوا عيسى عليه السّلام وقتلوه، وذلك جهل منهم، ولبس عليهم. فالله- سبحانه- رفع عيسى عليه السّلام نبيّه ووليّه، وحقّ الطرد واللّعن على أعدائه، وهذا مكره بهم: [سورة آل عمران (3) : آية 55] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) قوله جل ذكره: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ. الإشارة «2» فيه إنى متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك من نعوت البشرية، ومطهرك من إرادتك بالكلية، حتى تكون مصرّفا بنا لنا، ولا يكون عليك من   (1) نرجح أنها فى الأصل: «يشكل (علينا) شىء مما نحن فيه» ، لأن هذا الترجيح يقوى المعنى، إذ يفصح عن مدى صحة إيمانهم، أما إذا كانت (عليك) فيكون المعنى أن أنصاره طمأنوه عن أنفسهم، وطلبوا إليه ألا يستشكل (عليه) أمر من أمورهم، بدليل ما أفصحوا عنه فى الآية التالية. (2) تخدم هذه الإشارة فى إبراز وتدعيم واحدة من أخطر قضايا الفكر الديني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اختيارك شىء، ويكون إسبال التولي عليك قائما عليك. وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة- جلّت. ويقال طهّر قلبه عن مطالعة الأغيار، ومشاهدة الأمثال والآثار، فى جميع الأحوال والأطوار. وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. بالنصرة والقهر والحجة. ومتبعوه من لم يبدّل دينه ومن هو على عقيدته فى التوحيد- وهم المؤمنون، فهم على الحقّ، إلى يوم القيامة لهم النصرة، ثم إن الله سبحانه يحكم- يوم القيامة- بينه وبين أعدائه. فأمّا الكفار ففى الجحيم وأمّا المؤمنون ففى النعيم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 58] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) ذلك نتلوه عليك يا محمد، نعرفك معانيه بما نوحى إليك، لا بتكلفك ما تصل إلى علمه، أو بتعلّمك من الأمثال، أو استنباطك ما تنزع من الاستدلال. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 59] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الآية خصّهما «1» بتطهير الروح عن التناسخ فى الأصلاب وأفرد آدم بصفة البدء وعيسى عليه السّلام بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز، وهما وإن كانا كبيرى الشأن فنقص الحدثان والمخلوقية لازم لهما: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 60] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) الآية   (1) وردت (خصها) والصحيح خصهما لعودة الفعل على آدم وعيسى عليهما السّلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الحق من ربك يا محمد، فلا تشكّنّ فى أنه- سبحانه- لا يماثله فى الإيجاد أحد، ولا على إثبات بينه لمخلوق قدرة. والموجودات التي ( ..... ) «1» وجودها عن كتم العدم- من الله مبدؤها وإليه عودها. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 61] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) الآية يعنى بعد ما ظهرت على صدق ما يقال لك، وتحقّقت بقلبك معرفة ما خاطبناك، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة، وثق بأن لك القهر والنصرة، وأنّا توليناك، وفى كنف قربنا آويناك، ولو أنهم رغبوا فى هذه المباهلة لأحرقت الأودية عليهم نيرانا مؤججة، ولكن أخّر الله- سبحانه- ذلك عنهم لعلمه بمن فى أصلابهم من المؤمنين «2» . والإشارة فى هذه الآية لمن نزلت حالته عن أحوال الصديقين، فإنه إذا ظهرت أنوارهم انخنست آثار هؤلاء فلا إقرار، ولا عنهم آثار. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 63] إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) لا يتسلط على شواهد التوحيد غبار شبهة، ولا يدرك سر حكمه وهم «3» مخلوق، ولا يدانيه معلوم يحصره الوجود، أو موهوم يصوره التقدير «4» . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ فإن تولوا- يا محمد- فإنه لا ثبات عند شعاع أنوارك لشبهة مبطل. «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» إمّا يجتاحهم «5» ، أو يحلم «6» حتى إذا استمكنت ظنونهم يأخذهم بغتة وهم لا ينصرون.   (1) مشتبهة. (2) هذا تعليل ممتع لإمهال المخالفين. [ ..... ] (3) وردت (وهو) وهى خطأ من الناسخ، ونظن أن الأصل (وهم) وهى مناسبة للسياق. (4) للقشيرى عبارة فى نفس الموضوع وردت فى مستهل رسالته: «وكل ما تصوره الأوهام فالله بخلاف ذلك» . (5) وردت (يحتاجهم) وهى خطأ من الناسخ. (6) وردت (ويحكم) والملائم للمعنى (أو يحلم) من الحلم، ويكون المعنى على هذا الأساس أنه إما أن يعجل بانتقامه فيجتاحهم أو يمهلهم بحلمه ثم يبغتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) الآية هى كلمة التوحيد وإفراد الحق سبحانه فى إنشاء الأشياء بالشهود. وقوله: «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ» : لا تطالع بسرّك مخلوقا. وكما لا يكون غيره معبودك فينبغى ألا يكون غيره مقصودك ولا مشهودك، وهذا هو اتّقاء الشرك، وأنت أول الأغيار الذين يجب ألا تشهدهم. «وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً» ويظهر صدق هذا بترك المدح والذم لهم. ونفى الشكوى والشك عنهم، وتنظيف السر عن حسبان ذرة من المحو والإثبات منهم قال صلّى الله عليه وسلّم «أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد» . ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل «1» فإنّ الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأمّا أهل البداية فالأمر مضيّق عليهم فى الوظائف والأوراد، فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب، لفراغهم بقلوبهم من المعاني «2» ، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط. والإشارة من هذه الآية أيضا فى قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 65] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ... الآية. ضرب على خليله- صلوات الله- نقاب الضنّة وحجاب الغيرة، فقطع سببه عن جميعهم بعد ادّعاء الكل فيه، وحكم بتعارض شبهاتهم، وكيف يكون إبراهيم- عليه السّلام- على دين من أتى بعده؟! إن هذا تناقض من الظن. ثم قال: [سورة آل عمران (3) : آية 66] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)   (1) رواه الشيخان عن أبى هريرة. (2) المقصود من (المعاني) هنا كل ما تميل إليه النفس، والنفس محل المعلولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يعنى ما كان فى كتابكم له بيان، ويصح أن يكون لكم عليه برهان، فخصّهم فى ذلك إمّا بحق وإما بباطل، فالذى ليس لكم البتة عليه دليل ولا لكم إلى معرفته سبيل فكيف تصديتم للحكم فيه، وادّعاء الإحاطة به؟! قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 67] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) الحنيف المستقيم على الحق، والأحنف هو المستقيم فى حلقة الرّجل، ويسمى مائل القدم بذلك على التفاؤل «1» . وإبراهيم عليه السّلام كان حنيفا لا مائلا عن الحق، ولا زائغا عن الشرع، ولا معرّجا على شىء فيه نصيب للنفس، فقد سلّم ماله ونفسه وولده، وما كان له به جملة- إلى حكم الله وانتظار أمره. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 68] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر، بقي أهل الحقّ فى كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى، فكانوا حزبا واحدا، فبعضهم أولى ببعض. وإبراهيم صاحب الحق، ومن دان بدينه- كمثل رسولنا صلّى الله عليه وسلّم وأمته- على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السّلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى. «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» لأنهم تولّوا دينه، ووافقوا توحيده، وولاية الله إنما تكون بالعون والنصرة والتخصيص والقربة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 69] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) من حلّت به فتنة، وأصابته محنة، واستهوته غواية- رضى لجميع الناس ما حلّ به،   (1) فكلمة حنيف من الأضداد مستقيم ومائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فأهل الكتاب يريدون بالمؤمنين أن يزيغوا عن الحق، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يعود إليهم وبال فعلهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 70] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) قبل «1» بعثه- صلّى الله عليه وسلّم- على صحة نبوته «2» ، فما الذي يحملكم على غيكم حتى جحدتم ما علمتم؟ قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 71] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) تكتمون الحق فى شأن محمد عليه السّلام وأنتم تعلمون أنه النبي الصادق، وهل هذا إلا حكم الخذلان وقضية الحرمان، ثم أخبر أنّ منهم من ينافق فى حالته، فيريد أن يدفع عنه أذى المسلمين، ولا يخالف إخوانه من الكافرين، فتواصوا فيما بينهم بموافقة الرسول عليه السّلام والمسلمين جهرا، والخلوص فى عقائدهم الفاسدة بعضهم مع بعض سرّا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 73] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) فبين الله سبحانه أن نفاقهم كشف للمسلمين، وأن ذلك لا ينفعهم أمّا فى الدنيا فلإطلاع الله نبيّه عليه السّلام والمؤمنين- عليه، وأمّا فى الآخرة فلفقد إخلاصهم فيه. قوله جل ذكره: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ الآية.   (1) فى ص (قيل) وهى خطأ في النسخ، ويكون المعنى أنتم- يا أهل الكتاب- تشهدون قبل بعثه على صحة نبوته ... (2) فى ص (نبوية) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يحتمل أن يكون هذا ابتداء أمر من الله سبحانه للمسلمين، والإشارة فيه ألا تعاشروا الأضداد، ولا تفشوا أسراركم للأجانب. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ. فهو الذي يختص من يشاء بأنوار التعريف، ويختص من يشاء بالخذلان والحرمان. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 74] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) يختص من يشاء بفنون إنعامه، فالرحمة على هذا سبب لتخصيص النعمة لمن أراده. ولا بدّ من إضمار فيحتمل أن يختص بالرحمة من يشاء فلا تجرى الرحمة مجرى السبب فالرحمة على هذا التأويل تكون بمعنى النبوة وتكون بمعنى الولاية. وبمعنى العصمة وجميع أقسام الخيرات التي يختصّ- بشىء منها- عبدا من عباده، فيدخل تحت قوله: يختص برحمته، أي بنعمته. فقوم اختصهم بنعمة الأخلاق وقوم اختصهم بنعمة الأرزاق، وقوم اختصهم بنعمة العبادة وآخرين بنعمة الإرادة، وآخرين بتوفيق الظواهر وآخرين بعطاء الأبشار، وآخرين بلقاء الأسرار، قال تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» . ويقال لمّا سمعوا قوله: «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» ، علموا أن الوسائل ليست بهادية «1» ، وإنما الأمر بالابتداء والمشيئة. ويقال يختص برحمته من يشاء بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ويلقيه إليه من فنون التعريفات. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 75] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ... الآية   (1) وصدق الرسول الكريم حين قال: «إنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدنى الله برحمته» رواه الشيخان عن عائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أخبر أنهم- مع ضلالتهم وكفرهم- متفاوتون فى أخلاقهم، فكلّهم خونة فى أمانة الدّين، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك فى إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب إذ الكفار مطالبون بتفصيل الشرائع، فإذا كانوا فى كفرهم أقلّ ذنبا كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلّ عذابا، وإن كانت عقوبتهم أيضا مؤبّدة. ثم بيّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا: قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. فلا تجرى عليهم هذه الحالة، أو تنفعهم هذه القالة، بل الحكم لله تعالى. قوله جلّ ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) الذين آثروا هواهم على عقباهم، وقدّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم فى الآخرة فللاستماع بما اختاروا من العاجل خسروا فى الدارين. بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظّ، جمع عليهم فنون المحن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم: لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يخلّدهم فى العقوبة الأبدية. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الإشارة من هذه الآية إلى المبطلين فى الدعاوى فى هذه الطريقة. يزيّنون العبارات، ويطلقون ألسنتهم بما لا خبر فى قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق، تلبيسا على الأغبياء والعوام وأهل البداية يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم. قال تعالى فى صفة هؤلاء «لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ» ، كذلك أرباب التلبيس والتدليس، يروّجون قالتهم على المستضعفين، فأمّا أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة. قال الله تعالى «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ، أي يعلمون أنهم كاذبون، كذلك أهل الباطل والتلبيس فى هذه الطريقة يتكلمون عن قلوب خربة، وأسرار محجوبة، نعوذ بالله من استحقاق المقت! قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 79] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) أي ليس من صفة من اخترناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه، أو يقول بإثبات نفسه وحظّه، لأن اختياره- سبحانه- إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عمّا لا يجوز، فتجويز ذلك فى وصفهم مناف لحالهم، وإنما دعاء الرسل والأولياء- للخلق- إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله تعالى: «وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين، والرّبانى منسوب إلى الرب كما يقال فلان دقيانى ولحيانى ... وبابه. وهم العلماء بالله الحلماء فى الله القائمون بفنائهم عن غير الله، المستهلكة حظوظهم، المستغرقون فى حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم، ينطقون بالله ويسمعون بالله، وينظرون بالله، فهم بالله محو عمّا سوى الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ويقال الرباني من ارتفع عنه ظلّ نفسه، وعاش فى كنف ظلّه- سبحانه. ويقال الربّاني الذي لا يثبت غير ربّه موحّدا، ولا يشهد ذرة من المحو والإثبات لغيره أو من غيره. ويقال الربّاني من هو محق فى وجوده- سبحانه- ومحو عن شهوده، فالقائم عنه غيره، والمجرى لما عليه سواه. ويقال الرّبانى الذي لا تؤثّر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها. ويقال الربّاني الذي لا تغيّره محنة ولا تضرّه نعمة- فهو على حالة واحدة فى اختلاف الطوارق. ويقال الرّبانى الذي لا يتأثر بورود وارد عليه، فمن استنطقته رقة قلب، أو استماله هجوم أمر، أو تفاوتت عنده أخطار حادث- فليس بربانى. ويقال إنّ الربّاني هو الذي لا يبالى بشىء من الحوادث بقلبه وسرّه، ومن كان لا يقصر فى شىء من الشرع بفعله. «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» من توالى إحسانى إليكم، وتضاعف نعمتى لديكم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 80] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) أي لا تنسبون إليهم ذرة من الإثبات فى الخير والشر. ويقال يعرفكم حدّ البشرية وحقّ الربوبية. ويقال يأمركم بتوقيرهم من حيث الأمر والشريعة، وتحقير قدر الخلق- بالإضافة «1» إلى الربوبية. «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» أيأمركم بإثبات الخلق بعد شهود الحق؟   (1) وتحقير قدر الخلق (بالإضافة إلى الربوبية) معناها (بالنسبة إلى) جلال الربوبية وعظمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ويقال «أيأمركم بمطالعة الأشكال، ونسبة الحدثان إلى الأمثال، بعد أن لاحت فى أسراركم أنوار التوحيد، وطلعت فى قلوبكم شموس التفريد. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) الآية أخذ الله ميثاق محمد صلّى الله عليه وسلّم على جميع الأنبياء عليهم السّلام، كما أخذ ميثاقهم فى الإقرار بربوبيته- سبحانه، وهذا غاية التشريف للرسول عليه السّلام، فقد قرن اسمه باسم نفسه، وأثبت قدوه كما أثبت قدر نفسه، فهو أوحد الكافة فى الرتبة، ثم سهّل سبيل الكافة فى معرفة جلاله بما أظهر عليه من المعجزات. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الإشارة فيه: فمن حاد عن سنّته، أو زاغ عن اتباع طريقته بعد ظهور دليله، ووضوح معجزته فأولئك هم الذين خبثت درجتهم، ووجب المقت عليهم لجحدهم، وسقوطهم عن تعلّق العناية بهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 83] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) من لاحظه على غير الحقيقة، أو طالع سواه فى توهم الأهلية «1» كراء السراب ظنّه ماء فلمّا أتاه وجده هباء. ومغاليط الحسبانات مقطّعة مشكلة فمن حلّ بها نزل بواد قفر. «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 84] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)   (1) الأهلية معناها الاستحقاق، استحقاق كل تقديس، ولا نستبعد أنها فى الأصل الألوهية لأن السياق يسير متحدثا عن البشر الذين يقولون للناس كونوا عبادا لنا، وعن الملائكة والنبيين ووجوب عدم اتخاذهم أربابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 آمنا بالله لا بنفوسنا أو حولنا أو قوتنا. وآمنا بما أنزل علينا بالله، وأنّا لا نفرّق بين أحد منهم- بالله سبحانه- لا بحولنا واختيارنا، وجهدنا «1» واكتسابنا، ولولا أنه عرّفنا أنه من هو ما عرفنا وإلا فمتى علمنا ذلك؟! «2» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 85] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) من سلك غير الخمود تحت جريان حكمه سبيلا زلّت قدمه فى وهدة «3» من المغاليط لا مدى لقعرها. ويقال من توسّل إليه بشىء دون الاعتصام به فخسرانه أكثر من ربحه. ويقال من لم يفن عن شهود الكل لم يصل إلى من به الكل. ويقال من لم يمش تحت راية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم المعظّم فى قدره، المعلّى فى وصفه، لم يقبل منه شىء ولا ذرة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 86] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)   (1) وردت (وجحدتا) وهى خطأ من الناسخ. (2) قارن ذلك بعبارة ذى النون المصري: عرفت ربى بربي ولولا ربى ما عرفت ربى. (الرسالة ص 156) . [ ..... ] (3) أخطأ الناسخ حين كتبها (وحدة) بالحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 من أبعده عن استحقاق الوصلة فى سابق حكمه فمتى يقربه من بساط الخدمة بفعله فى وقته؟ ويقال: الذي أقصاه «1» حكم (الأول) «2» متى أدناه صدق العمل؟ والله غالب على أمره. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 87 الى 89] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) أولئك قصارى حالهم ما سبق لهم من حكمه فى ابتداء أمرهم، ابتداؤهم ردّ القسمة، ووسائطهم الصدّ عن الخدمة، ونهايتهم المصير إلى الطرد والمذلة. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ خالدين فى تلك المذلة لا يفتر عنهم العذاب لحظة، ولا يخفف دونهم الفراق ساعة. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أولئك هم الذين تداركتهم الرحمة، ولم يكونوا فى شق السبق من تلك الجملة، وإن كانوا فى توهم الخلق من تلك الزمرة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) الإشارة منه: أن الذين رجعوا إلى أحوال أهل العادة بعد سلوكهم طريق الإرادة،   (1) وردت (أقضاه) ونحن نرجح أن تكون (أقصاه) بالصاد حتى تتلاءم مع (أدناه) التي جاءت بعدها- فذلك أقرب إلى طبيعة أسلوب القشيري فى هذا السياق. (2) هكذا كتبها الناسخ، ونحن نميل إلى أنها فى الأصل (الأزل) . فالقشيرى يعتقد أن الأقسام سبقت فى الأزل وأن قيمة الإنسان مرتهنة بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وآثروا الدنيا ومطاوعة الهوى على طلب الحق سبحانه وتعالى، ثم أنكروا على أهل الطريقة، وازدادوا فى وحشة ظلماتهم- لن تقبل توبتهم، «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» عن طريق الحق فإنه لا يقبل الأمانة بعد ظهور الخيانة. وعقوبتهم أنهم على ممر الأيام لا يزدادون إلا نفرة قلب عن الطريقة، ولا يتحسرون على ما فاتهم من صفاء الحالة. ولو أنهم رجعوا عن إصرارهم لها لقبلت توبتهم، ولكن الحق سبحانه أجرى سنته مع أصحاب الفترة فى هذه الطريقة إذا رجعوا إلى أصول العادة ألا يتأسّفوا على ما مضى من أوقاتهم. قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» وإن المرتدّ عن الإسلام لأشدّ عداوة للمسلمين من الكافر الأصلى، فكذلك الراجع عن هذه الطريقة لأشد إنكارا لها وأكثر إعراضا عن أهلها من الأجنبىّ عنها. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) الإشارة منه: لمن مات بعد فترته- وإن كانت له بداية حسنة- فلا يحشر فى الآخرة مع أهل هذه القصة، ولو تشفع له ألف عارف، بل من كمال المكر به أنه يلقى شبهه فى الآخرة على غيره حتى يتوهم معارفه من أهل المعرفة أنه هو- فلا يخطر ببال أحد أنه ينبغى أن يشفع له. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) لمّا كان وجود البرّ مطلوبا ذكر فيه «من» التي للتبعيض فقال: «مِمَّا تُحِبُّونَ» فمن أراد البر فلينفق مما يحبه أي البعض، ومن أراد البارّ فلينفق جميع ما يحبه. ومن أنفق محبوبه من الدنيا وجد مطلوبه من الحق تعالى، ومن كان مربوطا بحظوظ نفسه لم يحظ بقرب ربّه. ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك. «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والعوض، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحزن، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه، قال قائلهم: ويهتز للمعروف فى طلب العلى ... لتذكر يوما- عند سلمى- شمائله قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 94] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) الأصل فى الأشياء ألا يشرع فيها بالتحليل والتحريم، فما لا يوجد فيه حدّ فذلك من الحق- سبحانه- توسعة ورفقة إلى أن يحصل فيه أمر وشرع فإنّ الله- سبحانه- وسّع أحكام التكليف على أهل النهاية «1» ، فسبيلهم الأخذ بما هو الأسهل لتمام ما هم به من أحكام القلوب، فإن الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأما أهل البداية فالأمر مضيّق عليهم فى الوظائف والأوراد فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب لفراغهم بقلوبهم من المعاني، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط. والإشارة من هذه الآية أيضا فى قوله: «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله- سبحانه- هواجسها، والله برئ عنها. وعزيز عبد يفرّق بين الخواطر والهواجس. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 95] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) ملّة إبراهيم الخروج إلى الله بالكلية، والتسليم لحكمه من غير أن تبقى بقية فإثبات ذرة فى الحسبان من الحدثان شرك- فى التحقيق. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 96] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)   (1) أهل النهاية هم العوام، وأهل البداية هم الخواص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 البيت حجرة والعبد مدرة، فربط المدرة بالحجرة، فالمدر مع الحجر. وتعزّز وتقدّس من لم يزل. ويقال البيت مطاف النفوس، والحق سبحانه مقصود القلوب! البيت أطلال وآثار وإنما هى رسوم وأحجار ولكن: تلك آثارنا تدلّ علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار ويقال البيت حجر، ولكن ليس كل حجر كالذى يجانسه من الحجر. حجر ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج «1» ، لا بل لقلوب قوم مثلج مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج. وهم على أصناف: بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم. بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسر خراب، ومن لاحظه بعين الإضافة حظى بكل تقريب وإيجاب، كما قيل: إن الديار- وإن صمتت- فإنّ لها ... عهدا بأحبابنا إذ عندها نزلوا بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته.   (1) نفج الأرب أثاره والنافجة الربح الشديدة، فيكون معنى منفج شديد الإثارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ويقال قال سبحانه: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» وأضافه إلى نفسه، وقال هاهنا: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» وفى هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع «1» . وسميت (بكة) لازدحام الناس، فالكلّ يتناجزون على البدار إليه، ويزدحمون فى الطواف حواليه، ويبذلون المهج فى الطريق ليصلوا إليه. والبيت لم يخاطب أحدا منذ بنى بمنية، ولم يستقبل أحدا بحظوة، ولا راسل أحدا بسطر فى رسالة، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر- هذا وصفه فى التعزز «2» فما ظنّك بمن البيت له. قال صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه سبحانه: «الكبرياء ردائى والعظمة إزارى» . ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربّ البيت بالهوينى دون تحمّل المشقات ومفارقة الراحات؟! ويقال لا تعلّق قلبك بأول بيت وضع لك ولكن أفرد سرّك لأول حبيب آثرك. ويقال شتّان بين عبد اعتكف عند أول بيت وضع له وبين عبد لازم حضرة أول عزيز كان له. ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بقدمهم، فالأغنياء يزورون البيت، ويطوفون بقدمهم، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم. ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه فى الحجر، والقلب بيت الحق سبحانه فى السّر، قال قائلهم: لست من جملة المحبين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما وطوافى إجالة السّر فيه ... وهو ركنى إذا أردت استلاما فاللطائف تطوف بقلوب العارفين، والحقائق تعتكف فى قلوب الموحّدين، والكعبة مقصود العبد بالحج، والقلب مقصود الحق بإفراده إياه بالتوحيد والوجد.   (1) ربما كان فى الأصل ( ...... الإشارة إلى عين الجمع، «وأول بيت وضع للناس» إشارة إلى الفرق) في الأول نسب البيت إلى نفسه، وفى الثاني أشار إلى وضعه للناس. وسقطت هذه العبارة الأخيرة من الناسخ. (2) وردت (التعذر) والسياق يتطلب (التعزز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قوله جل ذكره: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. بركاته اتصال الألطاف والكشوفات، فمن قصده بهمته، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رشده. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 97] فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) ولكن لا تدرك تلك الآيات بأبصار الرءوس ولكن ببصائر القلوب، ومقام إبراهيم- فى الظاهر- ما تأثر بقدمه، وفى الإشارة: ما وقف الخليل عليه السّلام بهممه. ويقال إن شرف مقام إبراهيم لأنه أثر الخليل، ولأثر الخليل خطر عظيم. قوله جل ذكره: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً. يقال من دخل مقام إبراهيم كان آمنا، ومقام إبراهيم التسليم، ومن كان مسلما أموره إلى الله لم يبق له اختيار، وكان آمنا فالأمن ضده الخوف، والخوف إنما يكون على ألا يحصل مرادك على ما تريد، فإذا لم تكن للعبد إرادة واختيار فأىّ مساغ للخوف فى وصفه؟ ويقال إن الكناية «1» بقوله (دخله) راجعة إلى البيت، فمن دخل بيته- على الحقيقة- كان آمنا، وذلك بأن يكون دخوله على وصف الأدب، ولا محالة أدب دخول البيت تسليم الأمور إلى رب البيت، فإنّ من لم يكن صاحب تسليم فهو معارض للتقدير. ودخول البيت إنما الأدب فيه أن يكون دخولا على التسليم دون المعارضة والنزاع فيؤول إلى المعنى المتقدم. وإن جعلت الإشارة من البيت إلى القلب فمن دخل قلبه سلطان الحقيقة أمن من نوازع البشرية وهواجس غاغة النفس، فإنّ من التجأ إلى ظل الملك لم يمتط إليه محذورا. ويقال لا يكون دخول البيت- على الحقيقة- إلا بخروجك عنك، فإذا خرجت عنك صحّ دخولك فى البيت، وإذا خرجت عنك أمنت. ويقال دخول بيته لا يصحّ مع تعريجك فى أوطانك ومعاهدك، فإن الشخص الواحد   (1) يقصد بها ضمير الغائب فى (دخله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لا يكون فى حالة واحدة فى مكانين فمن دخل بيت ربّه فبالحرىّ أن يخرج عن معاهد «1» نفسه. قوله جل ذكره: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. شرط الغنىّ ألا يدّخر عن البيت شيئا من ماله، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نفسا من روحه. ويقال الاستطاعة فنون فمستطيع بنفسه وماله وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره وهو الزّمن المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا. ويقال حج البيت فرض على أصحاب الأموال، وربّ البيت فرض على الفقراء فرض حتم فقد ينسدّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدّ الطريق إلى رب البيت، ولا يمنع الفقير عن ربّ البيت. ويقال الحج هو القصد إلى من تعظّمه: فقاصد بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فرضهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند «2» شهود ربهم، فأمّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام. قوله جل ذكره: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء فى كدّ التأويل، ثم قال: «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» وهذا زيادة تهديد تدل على زيادة تخصيص. ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن   (1) أي مألوفات نفسه. (2) وردت (عن) والصحيح (عند) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يفسخ كلّ عقد يصدّه عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طهّر تطهّر عن كل دنس من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوس له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبّي بلسانه وجب ألا تبقى شعرة من بدنه إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسرّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض لتخصيص فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقّه على نفسه، ويتعرّف إلى الله تعالى بتبرّيه عن منّته «1» وحوله، والحقّ سبحانه يتعرّف إليه بمنّته وطوله، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه، ولا يصحّ ذكره لربّه مع ذكره لنفسه، فإذا بلغ منّي نفى عن قلبه كل طلب ومنى، وكلّ شهوة وهوى. وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة فى الدنيا والعقبى. وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتقرّب به إلى الحق سبحانه، فإذا دخل الحرم عزم على التباعد عن كل محرّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة. وإذا وقع طرفه على البيت شهد بقلبه ربّ البيت، فإذا طاف بالبيت أخذ سرّه بالجولان فى الملكوت. فإذا سعى بين الصفا والمروة صفّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية. فإذا حلق قطع كلّ علاقة بقيت له. وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربّه استأنف إحراما جديدا بقلبه، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى. فمن أكمل نسكه فإنما عمل لنفسه، ومن تكاسل فإنّ الله غنى عن العالمين وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحاج أشعث أغبر» ، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر.   (1) ضبطناها هكذا لأن القشيري يميز بين (المنّة) للحق و (المنّة) للعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 98] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) الخطاب بهذه الآية لتأكيد الحجة عليهم، ومن حيث الحقيقة والقهر يسدّ الحجة عليهم، فهم مدعوون- شرعا وأمرا، مطرودون- حكما وقهرا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) كيف يصد غيره من هو مصدود فى نفسه؟ إنّ فى هذا لسرّا للربوبية. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) الوحشة ليست بلازمة لأصحابها، بل هى متعدية إلى كل من يحوّم حول أهلها، فمن أطاع عدوّ الله إلى شؤم صحبة (الأعداء) «1» ألقاه فى وهدته. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 101] وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) لا ينبغى لمن أشرقت فى قلبه شموس العرفان أن يوقع الكفر عليه ظلّه، فإنه إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا. وقوله: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ ... » الآية إنما يعتصم بالله من وجد العصمة من الله، فأمّا   (1) مكتوبة (إلا) وسقطت بقية الكلمة فأكملناها (الأعداء) وربما (الأجانب) أو ما فى معناهما طبقا لما نعرفه عن اتجاه القشيري فى مواضع مماثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 من لم يهده الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهداية منه فى البداية توجب اعتصامك فى النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية. وحقيقة الاعتصام صدق اللّجوء إليه، ودوام الفرار إليه، واستصحاب الاستغاثة إليه. ومن كشف عن سرّه غطاء التفرقة تحقق بأنه لا لغير الله ذرة أو منه سينة، فهذا الإنسان يعتصم به ممن يعتصم به قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله: «أعوذ بك منك» . ومن اعتصم بنفسه دون أن يكون محوا عن حوله وقوته فى اعتصامه- فالشرك وطنه وليس يشعر. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) حقّ التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قبل نفسه ولا ينقص. هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه، وأمره على وجهين: على وجه الحتم وعلى وجه الندب وكذلك القول فى النهى على قسمين: تحريم وتنزيه، فيدخل فى جملة هذا أن يكون حق تقاته أولا اجتناب الزلة ثم اجتناب الغفلة ثم التوقي عن كل خلة ثم التنقى من كل علّة، فإذا تقيت عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتّقيت حقّ تقواك. وحق التقوى رفض العصيان ونفى النسيان، وصون العهود، وحفظ الحدود، وشهود الإلهية، والانسلاخ عن أحكام البشرية، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جرم وظلم، واستشعار الآنفة عن التوسل إليه بشىء من طاعتك دون صرف كرمه، والتحقق بأنه لا يقبل أحدا بعلّة ولا يردّ أحدا بعلة. قوله جل ذكره: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. لا تصادفنّكم الوفاة إلا وأنتم بشرط الوفاء. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 103] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الاعتصام بحبله- سبحانه- التمسك بآثار الواسطة- العزيز صلوات الله عليه- وذلك بالتحقق والتعلّق بالكتاب والسّنّة. ويصح أن يقال: الخواص يقال لهم «اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» ، وخاص الخاص قيل لهم «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» ، ولمن رجع عند سوانحه إلى اختياره واحتياله، أو فكرته واستدلاله، أو معارفه وأشكاله، والتجأ إلى ظل تدبيره، واستضاء بنور عقله وتفكيره «1» - فمرفوع عنه ظل العناية، وموكول إلى سوء حاله. وقوله: «وَلا تَفَرَّقُوا» : التفرقة أشد العقوبات وهى قرينة الشرك. وقوله: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً» . وكانوا أعداء حين كانوا قائمين بحظوظهم، معرّجين على ضيق البشرية، متزاحمين بمقتضى شحّ النفوس. «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» : بالخلاص من أسر المكونات، ودفع الأخطار عن أسرارهم، فصار مقصودهم جميعا واحدا فلو ألّف ألف شخص فى طلب واحد- فهم فى الحقيقة واحد. «فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» نعمته التي هى عصمته إياكم، إخوانا متّفقى القصد والهمة، متفانين عن حظوظ النّفس وخفايا البخل والشحّ. «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» : بكونكم تحت أسر مناكم، ورباط حظوظكم وهواكم.   (1) واضح أن القشيري يرى أن الالتجاء إلى العقل والفكر كوسيلة للوصول يعد قاطعا من القواطع، لأن للعقل آفات- ذكرها القشيري فى مواضع مختلفة- تجعله غير جدير بأن يعتمد عليه العبد فى معرفة الحقائق العليا إن مهمة العقل عند هذا الباحث لا تتجاوز منطقة البداية- عند تصحيح الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 «فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» : بنور الرضاء، والخمود عند جريان القضاء، وتلك حقا هى المكانة العظمى والدرجة الكبرى، ويدخل فى هذه الجملة ترك السكون إلى ما منك من المناقب والتّقى، ولعقل والحجا، والتحصيل والنّهى، والفرار إلى الله- عزّ وجلّ- عن كل غير وسوى. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 104] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) هذه إشارة إلى أقوام قاموا بالله لله، لا تأخذهم لومة لائم، ولا تقطعهم عن الله استنامة إلى علة، وقفوا جملتهم على دلالات أمره، وقصروا أنفاسهم واستغرقوا أعمارهم على تحصيل رضاه، عملوا لله، ونصحوا الدين لله، ودعوا خلق الله إلى الله، فربحت تجارتهم، وما خسرت صفقتهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 105] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) هؤلاء أقوام أظهر عليهم فى الابتداء رقوم الطلب، ثم وسمهم «1» فى الانتهاء بكىّ الفرقة، فباتوا فى شق الأحباب، وأصبحوا فى زمرة الأجانب «2» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 107] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) .   (1) الرقم نعت يجرى فى الابتداء والوسم نعت يجرى فى الأبد بما جرى فى الأزل. [ ..... ] (2) تأمل الدقة فى استعمال (باتوا) وكيف تعبر عن البداية ثم (أصبحوا) لتعبر عن النهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أرباب الدّعاوى تسودّ وجوههم، وأصحاب المعاني تبيض وجوههم، وأهل الكشوفات غدا تبيضّ بالإشراق وجوههم، وأصحاب الحجاب تسودّ بالحجبة وجوههم، فتعلوها غبرة، وترهقها قترة. ويقال من ابيض- اليوم- قلبه ابيضّ- غدا- وجهه، ومن كان بالضد فحاله العكس. ويقال من أعرض عن الخلق- عند سوانحه- ابيضّ وجهه بروح التفويض، ومن علّق بالأغيار قلبه عند الحوائج اسودّ محيّاه بغبار الطمع فأمّا الذين ابيضت وجوههم ففى أنس وروح، وأمّا الذين اسودّت وجوههم ففى محن ونوح. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) نديم مخاطبتنا معك على دوام الأوقات فى كل قليل وكثير، عمارة لسبيل الوداد: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ وأنّى يجوز الظلم فى وصفه تقديرا ووجودا- والخلق كلّهم خلقه- والحكم عليهم حكمه؟ ولله ما فى السموات وما فى الأرض ملكا، وإلى الله ترجع الأمور حكما. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 110] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لمّا كان المصطفى صلوات الله عليه أشرف الأنبياء كانت أمّته- عليه السّلام- خير الأمم. ولمّا كانوا خير الأمم كانوا أشرف الأمم، ولمّا كانوا أشرف الأمم كانوا أشوق الأمم، فلمّا كانوا أشوق الأمم كانت أعمارهم أقصر الأعمار، وخلقهم آخر الخلائق لئلا يطول مكثهم تحت الأرض. وما حصلت خيريتهم بكثرة صلواتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وعباداتهم، ولكن بزيادة إقبالهم، وتخصيصه إياهم. ولقد طال وقوف المتقدمين بالباب ولكن لما خرج الإذن بالدخول تقدّم المتأخرون. وكم باسطين إلى وصلنا ... أكفّهم لم ينالوا نصيبا قوله جل ذكره: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المعروف خدمه الحق، والمنكر صحبة النفس. المعروف إيثار حقّ الحق، والمنكر اختيار حظ النفس. المعروف ما يزلفك إليه، والمنكر ما يحجبك عنه. وشرط الآمر بالمعروف أن يكون متصفا بالمعروف، وحقّ النّاهى عن المنكر أن يكون منصرفا عن المنكر. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لو دخل الكافة تحت أمرنا لوصلوا إلى حقيقة العزّ فى الدنيا والعقبى، ولكن بعدوا عن القبول فى سابق الاختيار فصار أكثرهم موسوما بالشّرك. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 111] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) إن الحق سبحانه وتعالى لا يسلط على أوليائه إلا بمقدار ما يصدق إلى الله فرارهم، فإذا حق فرارهم أكرم لديه قرارهم، وإن استطالوا على الأولياء بموجب حسبانهم انعكس الحال عليهم بالصغار والهوان. قال جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 112] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 علم الهجران لا ينكتم، وسمة البعد لا تخفى، ودليل القطيعة لا يستتر فهم فى صغار الطرد، وذلّ الرد، يعتبر بهم أولوا الأبصار، ويغترّ بهم أضرابهم من الكفار الفجّار. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 114] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) كما غاير بين النور والظلام مغايرة تضاد فكذلك أثبت منافاة بين أحوال الأولياء وأحوال الأعداء، ومتى يستوى الضياء والظلمة، واليقين والتّهمة، والوصلة والفرقة، والبعاد والألفة، والمعتكف على البساط والمنصرف عن الباب، والمتصف بالولاء والمنحرف عن الوفاء؟ هيهات يلتقيان! فكيف يتفقان أو يستويان؟! قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 115] وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) لن يخيب عن بابه قاصد، ولم يخسر عليه (تاجر) «1» ، ولم يستوحش معه مصاحب، ولم يذلّ له طالب.   (1) هكذا فى ص، وربما استوحاها القشيري من الآية (اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فيكون المعنى- والله أعلم- من آثر الله على كل شىء فقد ربحت تجارته وما خسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 116] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) لا فى الحال لهم بدل ولا فى المآل عنهم خلف. فى عاجلهم خسروا، وفى آجلهم فى قطع وهجر، وبلاء وخسر، وعذاب ونكر: تبدّلت وتبدلنا وا حسرة ... لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 117] مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) ما وجدوا ميراث ما بذلوا لغير الله إلا حسرات متتابعة، وما حصلوا من حسباناتهم إلا على محن مترادفة، وذلك جزاء من أعرض وتولّى قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 118] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) الركون إلى الضد- بعد تبين المشاق- إعانة على الحال بما لا يبلغه كيد العدو، فأشار الحقّ- سبحانه- على المسلمين بالتحرز عن الاعتراض، وإظهار البراءة عن كل غير، ودوام الخلوص للحق- سبحانه- بالقلب والسر. وأخبر أن مضادات القوم للرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 صلّى الله عليه وسلّم أصلية غير طارئة عليهم، وكيف لا؟ وهو صلوات الله عليه محلّ الإقبال وهم محل الإعراض. ومتى يجتمع الليل والنهار؟! قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 119] ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) أنتم بقضية كرمكم تصفو- عن الكدورات- قلوبكم فتغلبكم الشفقة عليهم، وهم- لعتوّهم وخلفهم- يكيدون لكم ما استطاعوا، ولفرط وحشتهم لا تترشح منهم إلا قطرات غيظهم. ففرّغ- يا محمد- قلبك منهم. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ دعهم يتفردوا بمقاساة ما نداخلهم من الغيظ، واستريحوا بقلوبكم عمّا يحلّ بهم، فإنّ الله أولى بعباده يوصل إلى من يشاء ما يشاء. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) الإشارة من هذه الآية إلى المنصرفين عن طريق الإرادة، الراجعين إلى أحوال أهل العادة لا يعجبهم «1» أن يكون لمريد نفاذ، وإذا رأوا فترة لقاصد استراحوا إلى ذلك. وإنّ الله- بفضله ومنّته- يتمّ نوره على أهل عنايته، ويذر الظالمين الزائغين «2» عن سبيله فى عقوبة بعادهم، لا يبالى بما يستقبلهم.   (1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (لا يعجبكم) والسياق والمعنى يرفضانها. (2) وردت (الذائقين) بالقاف وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 121] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) أقامه- صلّى الله عليه وسلّم- بتبوئه الأماكن للقتال، فانتدب لذلك بأمره ثم أظهر فى ذلك الباب مكنونات سرّه، فالمدار على قضائه وقدره، والاعتبار بإجرائه واختياره. قوله جلّت قدرته: [سورة آل عمران (3) : آية 122] إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) يبرز الجميع فى صدار الاختيار كأنّ الأمر إليهم فى نفيهم وإثباتهم، وفعلهم وتركهم، وفى الحقيقة لا يتقلبون إلا بتصريف القبضة، وتقليب القدرة «1» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 123] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) تذكير ما سلف من الإنعام فتح لباب التملق فى اقتضاء أمثاله فى المستأنف «2» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 124 الى 125] إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) كان تسكين الحقّ سبحانه لقلب المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- بلا واسطة من الله   (1) خلاصة معنى هذه العبارة التي قد تبدو غامضة- أن التعبير القرآنى ظاهره نسبة الأفعال للانسان- وهذا من وجهة نظر الصوفي تعبير بالفرق، والحقيقة أن كل شىء مرجعه إلى الله حيث يكون التعبير عنه بالجمع، وقد تقدم معنى الجمع والفرق فى هامش آخر. (2) المستأنف- المستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 - سبحانه، والربط على قلوب المؤمنين بواسطة الرسول صلّى الله عليه وسلّم- فلولا بقية بقيت عليهم ما ردّهم فى حديث النصرة إلى إنزال الملك، وأنّى بحديث الملك- والأمر كلّه بيد الملك؟!. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 126] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) أجرى الله- سبحانه- سنّته مع أوليائه أنه إذا ضعفت نيّاتهم، أو تناقصت «1» إرادتهم أو أشرفت «2» قلوبهم على بعض فترة- أراهم من الألطاف، وفنون الكرامات ما يقوّى به أسباب عرفانهم، وتتأكد به حقائق يقينهم. فعلى هذه السّنّة أنزل هذا الخطاب. ثم قطع قلوبهم وأسرارهم عن الأغيار بالكلية فقال: «وما النصر إلا من عند الله» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 127 الى 129] لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) إنّ الله لا يشمت بأوليائه عدوا فالمؤمن وإن أصابته نكبة، فعدوّه لا محالة يكبّه «3» الله فى الفتنة والعقوبة. قوله جل ذكره: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.   (1) وردت (تناقضت) ولا يمنع أن تكون بالصاد حتى ينسجم النقص مع الضعف. (2) وردت بالقاف وهى خطأ فى النسخ. (3) هكذا فى (ص) وهى صحيحة ولكننا لا نستبعد أن تكون فى الأصل (يكبته) حيث جاء هذا الفعل فى الآية الكريمة التي نحن بصددها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الإله من له الأمر والنهى، فلمّا لم يكن له فى الإلهية نظير لم يكن له- (صلّى الله عليه وسلّم) «1» - من الأمر والنهى شىء. ويقال جرّده- بما عرّفه وخاطبه- عن كلّ غير ونصيب ودعوى، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شىء، فإذا لم يجز أن يكون لسيّد الأولين والآخرين شىء من الأمر فمن نزلت رتبته عن منزلته فمتى يكون له شىء من الأمر؟ ويقال استأثر (بستر عباده فى حكمه «2» ) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادى وأعذّب من أشاء، والعواقب عليك مستورة، وإنك- يا محمد- لا تدرى سرى فيهم. ويقال أقامه فى وقت مقاما فقال: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه، وقال له فى وقت آخر: «ليس لك من الأمر شىء» ثم زاد فى البيان فقال: «ولله ما فى السموات وما فى الأرض» . فإذا كان الملك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه- فمن شاء عذّبه، ومن شاء قرّبه، ومن شاء هداه، ومن شاء أغواه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 131] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) حرّم الربا على العباد ومنه إقراض الواحد باثنين تستردهما، وسأل منك القرض الواحد بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، والإشارة فيه أن الكرم لا يليق بالخلق وإنما هو صفة الحق سبحانه. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ: دليل الخطاب أنّ المؤمن لا يعذّب بها، وإن عذّب بها مدّة فلا يخلّد فيها. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 132] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)   (1) أضفناها لتوضيح المعنى. (2) ربما كانت فى الأصل هكذا (بسر حكمه فى عباده) لأنه بعد قليل يقول (لا تدرى سرى فيهم) أي أن المستأثر به هو السر، وكذلك كلمة (ستر عباده) مرفوضة فالأولى أنه يستر الحكم، أو العواقب كما جاء بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قرن طاعة الرسول صلوات الله عليه بطاعة نفسه تشريفا لقدره، وتخفيفا على الأمة حيث ردّهم إلى صحبة شخص من أنفسهم، فإنّ الجنس إلى الجنس أسكن. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 133] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) معناه سارعوا إلى عمل يوجب لكم المغفرة، فتقسمت القلوب وتوهمت أن ذلك أمر شديد فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» وإنما توجب المغفرة التوبة لأن العاصي هو الذي يحتاج إلى الغفران. والناس فى المسارعة على أقسام: فالعابدون يسارعون بقدمهم فى الطاعات، والعارفون يسارعون بهممهم فى القربات، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرّع الحسرات. فمن سارع بقدمه وجد مثوبته، ومن سارع بهممه وجد قربته، ومن سارع بندمه وجد رحمته. ولمّا ذكر الجنة وصفها بسعة العرض، وفيه تنبيه على طولها لأن الطول فى مقابلة العرض، وحين ذكر المغفرة لم يذكر الطول والعرض، فقوم قالوا: المغفرة من صفات الذات وهى بمعنى الرحمة فعلى هذا فمغفرته حكمه بالتجاوز عن العبد وهو كلامه، وصفة الذات تتقدس عن الطول والعرض. ومن قال: مغفرته من صفات فعله قال لكثرة الذنوب لم يصف الغفران بالنهاية، إشارة إلى استغراقه جميع الذنوب. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 134] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) لا يدّخرون عن الله شيئا، ويؤثرونه على جميع الأشياء، ينفقون أبدانهم على الطاعات وفنون الأوراد والاجتهاد، وأموالهم فى إفشاء الخيرات وابتغاء القربات بوجوه الصدقات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقلوبهم فى الطلب ثم دوام المراعاة، وأرواحهم على صفاء المحبّات والوفاء على عموم الحالات، وينفقون أسرارهم على المشاهدات فى جميع الأوقات «1» ينتظرون إشارات المطالبات، متشمرين للبدار إلى دقيق المطالعات «2» قوله: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» : يتجاوزون عن الخلق لملاحظاتهم إياهم بعين النسبة، وأقوام يحملون على الخلق علما بأن ذلك بسبب جرمهم فيشهدونهم بعين التسلط، وآخرون يكظمون الغيظ تحققا بأن الحق سبحانه يعلم ما يقاسون فيهون عليهم التحمل، وآخرون فنوا عن أحكام البشرية فوجدوا صافى الدرجات فى الذّلّ لأن نفوسهم ساقطة فانية، وآخرون لم يشهدوا ذرة من الأغيار فى الإنشاء والإجراء فعلموا أنّ المنشئ الله فزالت خصوماتهم ومنازعاتهم مع غير الله لأنهم لمّا أفردوه بالإبداع انقادوا لحكمه فلم يروا معه وجها غير التسليم لحكمه، فأكرمهم الحق سبحانه ببرد الرضاء، فقاموا له بشرط الموافقة. قوله «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» فرضا «3» رأوه على أنفسهم لا فضلا منهم على الناس، قال قائلهم: ربّ رام لى بأحجار الأذى ... لم أجد بدّا من العطف عليه «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.. هذا فى معاملة الحق، وأما فى معاملة الخلق فالإحسان أن تدع جميع حقّك بالكلية كم كان على من كان، وتقبل ( .... ) «4» منه ولا تقلده فى ذلك منّة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)   (1) سقطت الواو فأثبتناها. (2) أخطأ الناسخ إذ كتبها (المطالبات) أيضا، ونظرا لأن المطالعة مرتبطة بالكشف والكشف مرحلة متأخرة. فقد تركنا الأولى (المطالبات) وصوبنا الثانية (المطالعات) . (3) وردت (قرضا) والصواب بالفاء فهكذا يرشدنا السياق، والشاهد الشعرى بعده. [ ..... ] (4) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السّلام «قل للظّلمة حتى لا يذكرونى فإنى أوجبت أن أذكر من ذكرنى، وذكرى للظّلمة باللعنة» . وقال لظلمة هذه الأمة: «أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ» ثم قال فى آخر الآية: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» . ويقال فاحشة كلّ أحد على حسب حاله ومقامه، وكذلك ظلمهم. وإن خطور المخالفات ببال الأكابر كفعلها من الأغيار، قال قائلهم: أنت عينى وليس من حق عينى ... غضّ أجفانها على الأقذاء «1» فليس الجرم على البساط كالذّنب على الباب. ويقال فعلوا فاحشة بركونهم إلى أفعالهم، أو ظلموا أنفسهم بملاحظة أحوالهم، فاستغفروا لذنوبهم بالتبري عن حركاتهم وسكناتهم علما منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به، فخلصهم من ظلمات نفوسهم. وإن رؤية الأحوال والأفعال لظلمات عند ظهور الحقائق، ومن طهّره الله بنور العناية صانه عن التورط فى المغاليط البشرية «2» . أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ بردّهم إلى شهود الربوبية، وما سبق لهم من الحسنى فى سابق القسمة. «وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» مؤجلا من الفراديس، ومعجّلا فى روح المباحات وتمام الأنس. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)   (1) البيت لابن الرومي يعاتب صديقه أبا القاسم التوزى الشطرنجى. (2) القشيري فى هذه الفقرة متأثر بتعاليم أهل الملامة النيسابورية الذين يعلنون حربا لا هوادة فيها على كل دعوى للنفس حتى ليحاولون ستر حياتهم الباطنية بفعل ما يوجب ملامة الناس، وكل ذلك فى سبيل كسر النفس وعدم استشعار العبد لأى فضل منه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يعنى اعتبروا بمن سلف، وانظروا كيف فعلنا بمن والى وكيف انتقمنا ممن عادى، وقوله تعالى هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ: بيان لقوم من حيث أدلة العقول، ولآخرين من حيث مكاشفات القلوب، ولآخرين من حيث تجلى الحق فى الأسرار. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 139] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) يعنى إذا قلتم بالله (ووصلتم «1» ) بالله فلا ينبغى أن تخافوا من غير الله، ولا تهنوا ولا تضعفوا فإن النصرة من عند الله، والغالب الله، وما سوى الله فليس منهم ذرة لا منهم سينة. قوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي ينبغى للمؤمن ألا تظله مهابة من غير الله. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 140] إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) إن نالكم فينا مشقة فالذين تقدموكم لقوا مثل ما لقيتم، ومنوا بمثل ما به منيتم، فمن صبر منهم ظفر، ومن ضجر من حمل ما لقى خسر، والأيام نوب والحالات دول، ولا يخفى على الحق شىء. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 141] وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) .   (1) لا نستبعد أنها (وصلتم) من صال يصول، ويدعم ذلك حرف الجر بعده، وكذلك السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 اختبارات الغيب سبك «1» للعبد فباختلاف الأطوار يخلصه من المشائب فيصير كالذهب الخالص لا خبث فيه، كذلك يصفو عن العلل فيتخلص لله. «وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» فى أودية التفرقة. (وأما الزبد فيذهب جفاء) «2» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 142] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) من ظنّ أنه يصل إلى محل عظيم من دون مقاساة الشدائد ألقته أمانيه فى مهواة الهلاك، وإنّ من عرف قدر مطلوبه سهل عليه بذل مجهوده: ( ...... ) وهو بلذاته على من يظن يخلع العذار) «3» وقال قائلهم: إذا شام الفتى برق المعاني ... فأهون فائت طيب الرقاد قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 143] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) طوارق التمني بعد الصبر على احتمال المشاق ولكن: إذا انسكبت دموع فى خدود ... تبيّن من بكى «4» ممن تباكى قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)   (1) وردت (شبك) ونرجح أنها (سبك) فالسياق يدعم ذلك. (2) ترجح أن هذه الآية موضوعة هنا خطا وأن مكانها عقب (لا خبث فيه) ليتماسك المعنى. (3) هكذا فى (ص) والصحيح أنه: وما جاد دهر بلذاته ... على من يضنّ بخلع العذار وهو لأبى نواس فى ملاحاة له مع مسلم بن الوليد. (4) جاءت فى الشطر (تبين من بقي) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 إن الرسل موقوفون حيثما وقفوا، ومخبرون عمّا عرّفوا بمقدار ما عرفوا فإذا أيّدوا بأنوار البصائر اطّلعوا على مكنونات السرائر بلطائف التلويح بمقدار ما أعطوا من الإشراق بوظائف البلوغ. «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» لما توفّى المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- سقمت البصائر إلا بصيرة الصديق رضى الله عنه فأمدّه الله بقوة السكينة، وأفرغ عليه قوة التولي فقال. «من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات» فصار الكلّ مقهورين تحت سلطان قالته لما انبسط عليهم من نور حالته، كالشمس بطلوعها تندرج فى شعاعها أنوار الكواكب فيستتر فيها مقادير مطارح شعاع كل نجم. وإنما قال: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ» لأنه صلّى الله عليه وسلّم مات. وقيل أيضا لأنه قال: «ما زالت أكلة خيبر تعاودنى فهذا أوان قطعت أبهرى» «1» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 145] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) «2» الأنفاس محصورة لا زيادة فيها، ولا نقصان منها. «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها» : للصالحين العاقبة وللآخرين الغفلة. «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» : وثواب الآخرة أو له الغفران ثم الجنان ثم الرضوان.   (1) وفى البخاري بلفظ «ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أيهرى من ذلك السم» قال المقريزى: «وهذا قاله فى مرض موته» . (2) أخطأ الناسخ إذ أضاف (وسيجزى الله) وقد التبس عليها ختام الآية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» : وجزاء الشكر الشكر. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) إنّ الذين درجوا على الوفاء، وقاموا بحق الصفاء، ولم يرجعوا عن الطريق، وطالبوا نفوسهم بالتحقيق، وأخذوا عليها بالتضييق والتدقيق- وجدوا محبة الحقّ سبحانه ميراث صبرهم، وكان الخلف عنهم الحقّ عند نهاية أمرهم، فما «1» زاغوا عن شرط الجهد، ولا زاغوا فى حفظ العهد، وسلّموا تسليما، وخرجوا عن الدنيا وكان كلّ منهم للعهد مقيما مستديما، وعلى شرط الخدمة والوداد مستقيما. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 147] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) تحققوا بحقائق المعنى فخرسوا «2» عن إظهار الدعوى، ثم نطقوا بلسان الاستغفار، ووقفوا فى موقف الاستحياء، كما قيل: يتجنّب الآثام ثم يخافها ... فكأنّما حسناته آثام قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 148] فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) وأقل ذلك القناعة ثم الرضا ثم العيش معه ثم الأنس فى الجلوس بين يديه ثم كمال الفرح بلقائه، ثم استقلال السرّ بوجوده.   (1) أخطا الناسخ إذ نقلها (فلما زاغوا) وهذا يخالف المعنى المراد، والصحيح (فما) (2) وردت بالحاء والصواب أن تكون بالخاء، فالمعنى يتطلب ذلك ويقوى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. يعنى دخولهم الجنة وهم محررون عنها، غير داخلين فى أسرها. ويقال ثواب الدنيا والآخرة الغيبة عن الدارين برؤية خالفهما «1» . ولمّا قال «ثواب الدنيا» قال فى الآخرة «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» فوجب أن يكون لثواب الآخرة مزية على ثواب الدنيا حيث خصّه بوصف الحسن، وتلك المزية دوامها وتمامها وثمارها، وأنها لا يشوبها ما ينافيها، ويوقع آفة فيها. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 150] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) يعنى إن طاوعتم الأضداد جرّوكم إلى أحوالهم «2» ، فألقوكم فى ظلماتهم، بل الله مولاكم: ناصركم ومعينكم وسيدكم ومصلح أموركم، «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» : لأنه يعينكم على أنفسكم ليكفيكم شرّها، ومن سواه يزيد فى بلائكم إذا ناصروكم لأنهم يعينون أنفسكم عليكم. «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» لأن من سواه يمن عليك بنصرته إياك، وهو يجازيك على استنصارك به. ويقال كل من استنصرت به احتجت إلى أن تعطيه شيئا من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك، فإذا استنصرته- سبحانه- يعطيك كلّ لطيفة، ولا يرضى بألا ينصرك. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)   (1) الغيبة فى المصطلح الصوفي من مقوماتها ألا يحس العبد بوارد من تذكر ثواب أو تفكر فى عقاب، وعلى حسب الغيبة عن الخلق يكون (حضور) العبد بالحق. (2) وردت (أحوالكم) وهذا خطأ فى النسخ. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 إنّ الله سبحانه خصّ نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- بإلقاء الرعب منه فى قلوب أعدائه، قال عليه السّلام: «نصرت بالرعب» . فكذلك أجرى هذه السّنّة مع أوليائه يطرح الهيبة منهم فى القلوب، فلا يكاد يكون محق إلا ومنه- على المبطلين وأصحاب الدعوى والتمويه- هيبة فى القلوب وقهر. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 152] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) (إنه سبحانه يجازيك على استنصارك به، ويقال كل من استنصرت به احتجت إلى أن يعطيه شيئا من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك، فاذا استنصرته- سبحانه- يعطيك كل لطيفة، ولا يرضى بألا ينصرك) . «1» الإشارة من هذه الآية إلى أن الحق سبحانه أقام أولياءه بحق حقه، وأقعدهم عن تحصيل حظوظهم، وقام سبحانه بكفايتهم بكل وجه، فمن لازم طريق الاستقامة، ولم يزغ عن حدّه ولم يزغ فى عهده، فإنه سبحانه يصدق وعده له بجميل الكفاية ودوامها، ومن ضلّ عن الاستقامة- ولو خطوة- عثر فى مشيته، واضطربت عليه- بمقدار جرمه- حاله وكفايته، فمن زاد زيد له، ومن نقص نقص له. قوله جل ذكره: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ   (1) ما بين القوسين سبق وروده عند تفسير «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» فى ختام الآية قبل السابقة ولا ندرى هل أعادها القشيري هنا لتفسير «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» أم أن الناسخ قد وقع فى التكرار سهوا أثناء الكتابة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قيمة كل أحد إرادته فمن كانت همته الدنيا فقيمته خسيسة حقيرة كالدنيا، ومن كانت همته الآخرة فشريف خطره، ومن كانت هممه ربانية فهو سيد وقته. ويقال من صفا عن إرادته وصل إليه، ومن وصل إليه أقبل- بلطفه- عليه، وأزلفه بمحل الخصوصية لديه. قوله: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» : الإشارة منه أنه صرف قوما عنه فشغلهم بغيره عنه، وآخرون صرفهم عن كل غير فأفردهم له فالزاهدون صرفهم عن الدنيا، والعابدون صرفهم عن اتباع الهوى، والمريدون صرفهم عن المنى، والموحّدون صرفهم عما هو غير وسوى. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قوله: «إِذْ تُصْعِدُونَ» الإشارة من هذه الآية لأقوام تقع لهم فترة، ودواعى الحق سبحانه- من أنفسهم، ومن جميع الأقطار حتى كأنّ الأحجار من الشوارع واللّبن من الجدران- تناديه: لا تفعل يا عبد الله! وهو مصرّ فى ليّه، مقيم على غيّه، جاحد لما يعلم أنه هو الأحقّ والأولى من حاله، فإذا قضى وطره واستوفى بهمته، فلا محالة يمسك من إرسال عنانه، ويقف عن ركضه فى ميدانه، فلا يحصل إلا على أنفاس متصاعدة، وحسرات متواترة فأورثه الحقّ- سبحانه- وحشة على وحشة. حتى إذا طال فى التحسّر مقامه تداركه الحق- سبحانه- بجميل لطفه، وأقبل عليه بحسن عطفه، وأنقذه من ضيق أسره، ونقله إلى سعة عفوه وفضله، وكثير من هؤلاء يصلون إلى محل الأكابر ثم يقفون بالله لله ( ...... ) «1» ويقومون بالله لله بلا انتظار تقريب ولا ملاحظة ترحيب. قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ فأهل التحقيق والتوحيد يصلون بعد فتراتهم «2» إلى القول بترك أنفسهم، وغسل أيديهم منهم، ورفع قلوبهم عنهم فيعيشون بالله لله، بلا ملاحظة طمع وطلبة، بل على عقيدة اليأس عن كل شىء. عليه أكّدوا العهد، وبدّلوا اللحظ «3» ، وتركوا كل نصيب وحظ، وهذه صفة من أنزل عليه الأمنة. فأمّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم- فبقوا فى وحشة نفوسهم، ومن عاجل عقوبتهم سوء   (1) مشتبهة. (2) وردت (فطراتهم) بالطاء والأصوب أن تكون بالتاء لأن الفترة وقت مقاساة ومعاناة فهى تتلاءم مع (وتجرع حسراتهم) . (3) اللحظ هنا معناها الملاحظة، ملاحظة النفس أو ملاحظة العوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عقيدتهم فى الطريقة بعد إيمانهم بها قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . والإشارة فى قوله تعالى: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» لهؤلاء أنهم يتحيّرون فى أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة، ولا إعراض بالكلية، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم، ويضيفون صفوة- لو كانت لقلوبهم- إلى اجتهادهم، وينسون ربّهم فى الحالين، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه. قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» : فمن عرف أن المنشئ الله انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشّعر عن العجين، وسلّم أموره إلى الله بالكلية. وأمارة من تحقق بذلك أن يستريح من كدّ تدبيره، ويعيش فى سعة شهود تقديره. وقوله: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» : لم يخلصوا فى عقائدهم، وأضمروا خلاف ما أظهروا، وأعلنوا غير ما ستروا، وأحالوا الكائنات على أسباب توهموها. قال تعالى: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» : أخبر أن التقدير لا يزاحم «1» ، والقدر لا يكابر، وأن الكائنات محتومة، وأن الله غالب على أمره. وقوله: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ» : فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفة وحجبة، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة، فتصبح قلوبهم خالصة من الشوائب، صافية عن العلائق، منفردة للحق، مجرّدة عن الخلق، محرّرة عن الحظّ والنّفس، ظاهرة عليها آثار الإقبال، غالبا عليها حسن التّولّى، بادية فيها أنوار التجلي. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) .   (1) وردت بالهاء والصواب أن تكون بالحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الإشارة من هذه الآية إلى أحوال من سقمت إرادتهم، وضعفت نيّاتهم، وقادهم الهوى، وملكتهم الفترة. قابلهم نصح الناصحين، ودعوة المنى، ووساوس الشياطين فركنوا إلى الغيبة، وآثروا الهوى على التّقى فبقوا عنه، ولم يتهنّوا بما آثروه عليه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 156] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) من تعوّد أن يتلهف على ماضيه وسالفه، أو يتدبر فى مستقبله وآنفه، فأقلّ عقوبة له ضيق قلبه فى تفرقة الهموم، وامتحاء نعت الحياة «1» عن قلبه لغفلته وقالته ليت كذا ولعلّ كذا، وثمرة الفكرة فى ليت ولعلّ- الوحشة والحسرة وضيق القلب والتفرقة. قوله جلّ ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 158] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) بذل الروح فى الله خير من الحياة بغير الله، والرجوع إلى الله خير لمن عرف الله من البقاء مع غير الله، وما يؤثره العبد على الله فغير مبارك، إن شئت: والدنيا، وإن شئت: والعقبى. قوله وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ: إذا كان المصير إلى الله طاب المسير   (1) حياة القلب عمارته بالله وقد وردت فى مطلع الإشارة التالية، ولا يستبعد أنها (الحياء) فهى مقبولة أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إلى الله: وإنّ سفرة إليه بعدها نحطّ رحالنا لمقاساتها أحلى من العسل! قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) جرّده عن أوصاف البشرية، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي، لا من آثار الوفاق والتبري، ولولا أنه استخلصه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟! ويقال إن من خصائص رحمته- سبحانه- عليه أن قوّاه حتى صحبهم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم، وعلى ما كان يقاسيه من اختلافهم- مع سلطان ما كان مستغرقا له ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه، فلولا قوة إلهية استأثره الحق بها وإلا متى أطاق صحبتهم؟! ألا ترى إلى موسى عليه السّلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه كيف لم يصبر على مخاطبة أخيه فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه؟ ويقال لولا أنه صلّى الله عليه وسلّم شاهدهم محوا فيما كان يجرى عليهم من أحكام التصريف، وتحقّق أن منشئها الله- لما أطاق صحبتهم. قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» : لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظّ لتفرقوا عنك، هائمين على وجوههم، غير مطيقين للوقوف لحظة، «فَاعْفُ عَنْهُمْ» فيما يكون تقصيرا منهم فى حقك وتوقيرك، وما عثرت عليه من تفريطهم فى خدمتنا وطاعتنا- فانتصب لهم شفيعا إلينا. ويقال «فَاعْفُ عَنْهُمْ» فاعف- أنت- عنهم فإن حكمك حكمنا، فأنت لا تعفو إلا وقد عفونا. ثم ردّه عن هذه الصفة بما أثبته فى مقام العبودية، ونقله إلى وصف التفرقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 فقال: ثم قف فى محل التذلل مبتهلا إلينا فى استغفارهم. وكذا سنّته- سبحانه- مع أنبيائه عليهم السّلام وأوليائه، يردّهم من جمع إلى فرق ومن فرق إلى جمع، فقوله: «فَاعْفُ عَنْهُمْ» جمع، وقوله: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» فرق. ويقال «فَاعْفُ عَنْهُمْ» وتجاوز عنهم فى حقوقك، ولا تكتف بذلك ما لم تستغفر لهم إكمالا للكرم ولهذا كان يقول: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» . ويقال ما يقصّرون فى حقّك تعلّق به حقّان: حقك وحقى، فاذا عفوت أنت فلا يكفى هذا القدر بل إن لم أتجاوز عنهم فى حقى كانوا مستوجبين للعقوبة فمن أرضى خصمه لا ينجبر حاله ما لم يغفر الله له فيما ترك من أمره. وقوله «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» أي أثبت لهم محلا فإنّ المعفو عنه فى صدار الخجلة لا يرى لنفسه مقام الكرامة، فإذا شاورتهم أزلت عنهم انكسارهم، وطيّبت لهم قلوبهم. ويقال تجنّسوا فى أحوالهم: فمن مقصّر فى حقه أمر بالعفو عنه، ومن مرتكب لذنوبه أمر بالاستغفار له، ومن مطيع غير مقصر أمر بمشاورته. ثم قال: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي لا «1» تتكل على رأى مخلوق وكل الأمور إلىّ، فإنا لا نخليك عن تصريف القبضة بحال. وحقيقة التوكل شهود التقدير، واستراحة القلوب عن كد التدبير. «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» يذيقهم برد الكفاية ليزول عنهم كل لغب «2» ونصب، وإنه يعامل كلا بما يستوجبه فقوم يغنيهم- عند توكلهم- بعطائه، وآخرون يكفيهم- عند توكلهم- بلقائه، وقوم يرضيهم فى عموم أحوالهم حتى يكتفون ببقائه، ويقفون معه به له- على تلوينات «3» قدره وقضائه.   (1) سقطت (لا) من الناسخ. (2) وردت (لقب) بالقاف والصواب أن تكون (لغب) بالغين، وربما كانت فى الأصل (تعب) (3) اللفظة رديئة الخط، ويحتمل أنها (تقلبات) ، وتلوين الأحوال مصحوب- حسب الاصطلاح الصوفي- يتقلب الأحوال، ولهذا فالمعنى يتقبل كلا اللفظين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) المؤمنون نصرته لهم بالتوفيق للأشباح ثم بالتحقيق للأرواح. ويقال ينصركم الله بتأييد الظواهر وتسديد «1» السرائر. ويقال للنصرة إنما تكون على العدو، وأعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك. والنصرة على النّفس بأن تهزم دواعى منّتها بعواصم رحمته حتى تنفضّ جنود الشهوات بهجوم وفود المنازلات فتبقى الولاية لله خالصة من شبهات الدواعي التي هى أوصاف البشرية، وشهوات النفوس وأمانيها، التي هى آثار الحجبة وموانع القربة. «إِنْ يَخْذُلْكُمْ» الخذلان التخلية مع المعاصي، فمن نصره قبض على يديه عن تعاطى المكروه، ومن خذله ألقى حبله على غاربه، ووكله إلى سوء اختياره، فيفترق عليه الحال فى أودية الشهوات، فمرة يشرّق غير محتشم، وتارة يغرّب غير محترم، ألا ومن سيّبه الحق فلا آخذ بيده، ومن أسلمه «2» فلا مجير له. «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» : فى وجدان الأمان عند صدق الابتهال، وإسبال ثوب «3» العفو على هناة الجرم عند خلوص الالتجاء، بالتبري من المنّة والحول. ويقال لما كان حديث النصرة قال: «فَلا غالِبَ لَكُمْ» ، ولما كان حديث الخذلان لم يقل «فلا ناصر لكم» بل قال بالتلويح والرمز: «فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» : وفى هذا لطيفة فى مراعاة دقائق أحكام الخطاب.   (1) من السداد. (2) أي أسلمه إلى نفسه: (3) وردت (ثواب) ، والملائم للاسبال: (ثوب) ولذلك آثرناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) نزّه «1» أحوال الأنبياء عن الدّنس بالخيانات، فمن حمّلناه من الرسالة إلى عبادنا يوصلها إلى مستحقيها واجبا، ولا يعتنى بشأن حميم له من دون أمرنا، ولا يمنع نصيب أحد أمرناه بإيصاله إليه، بحقد ينطوى عليه. ألا ترى كيف قال: «اذهب فواره» لأبى طالب لمّا قال له أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه: مات عمّك «2» الضال. وكيف قبل الوحشىّ قاتل حمزة لمّا أسلم؟ ويقال ما كان لنبى من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يضع أسرارنا فى غير أهلها، بل ينزلون كل أحد عند ما يستوجبه، وفى الأثر «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 162 الى 163] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لا يستوى من رضى عنه فى آزاله ومن سخط عليه فخذله فى أحواله، وجعله متكلا على أعماله، ناسيا لشهود أفضاله، واتباع الرضوان بمفارقة ما زجر عنه، ومعانقة ما أمر به، فمن تجرّد عن المزجور، وتجلّد فى اعتناق المأمور فقد اتبع الرضوان، واستوجب الجنان.   (1) أخطأ الناسخ فكتبها (نزح) بالحاء. (2) «اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه» هكذا أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن على رضى الله عنه: وفى السيرة الحلبية: إن هذا الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن الجارود وابن خزيمة عن على قال: لما مات أبو طالب أخبرت النبي (ص) بموته فبكى وقال: «اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه» . وانظر أيضا «أسنى المطالب فى نجاة أبى طالب» لزينى دحلان ط طهران سنة 1382 (ص 44) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ: أي هم أصحاب درجات فى حكم الله، فمن سعيد مقرّب، ومن شقىّ مبعد. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أجزل لديهم العارفة، وأحسن إليهم النعم حيث أرسل إليهم مثل المصطفى سيد الورى صلوات الله عليه وعلى آله، وعرّفهم دينهم، وأوضح لهم براهينهم، وكان لهم بكل وجه فلا نعمه شكروا، ولا حقّه وقّروا، ولا بما أرشدهم استبصروا، ولا عن ضلالتهم أقصروا.. هذا وصف أعدائه الذين جحدوا واستكبروا. وأمّا المؤمنون فتقلدوا المنّة فى الاختيار، وقابلوا الأمر بالسمع والطاعة عن كنه الاقتدار، فسعدوا فى الدنيا والعقبي، واستوجبوا من الله الكرامة والزّلفى. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 165] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) عادة الخلق نسيان ما منهم من الخطأ والعصيان، والرجوع إلى الله بالتهمة فيما يتصل بهم من المحن والخسران، وفنون المكاره والافتتان، وإنّ من تعاطى ( ... ) «1» الإجرام فحقيق بألا ينسى حلول الانتقام. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 هوّن على المؤمنين وأصحاب البصائر ما لقوا من عظيم الفتنة يوم أحد، بأن قال إن ذلك أجمع كان بإذن الله، وإنّ بلاء يصيب بإذن الله لمن العسل أحلى، ومن كل نعيم أشهى. ثم أخبر أن الذين لم يكن لهم فى الصحبة خلوص كيف تعللوا وكيف تكاسلوا: وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا قوله تعالى: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» فلا جرم (سقوا العسل ودسّوا له فيه الحنظل) «1» ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 168] الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الذين ركنوا إلى ما سوّلت لهم نفوسهم من إيثار الهوى، ثم اعترضوا على من يصرف أحكام القضاء وقالوا لو تحرّزا عن البروز للقتال لم يسقطوا عن درجة السلامة.. لمذمومة تلك الظنون، ولذاهبة عن شهود التحقيق تلك القلوب.   (1) هكذا يمكن أن تقرأ هذه العبارة لو بنى الفعلان فيها للمعلوم، أما لو بنيا للمجهول فإن الجزء الثاني منها يكون (ودس لهم فيه الحنظل) . فالفاعل فى الحالة الأولى يكون ضميرا يعود على المنافقين، ونائب الفاعل فى الحالة الثانية يكون المولى عز وجل وما جاء فى النسخة (ص) يرجح الثانية، وإن كنا نميل للأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قل لهم- يا محمد- استديموا لأنفسكم الحياة، وادفعوا عنها هجوم الوفاة! ومتى تقدرون على ذلك؟! هيهات هيهات! قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 170] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) الحياة بذكر الحق بعد ما تتلف النفوس فى رضاء الحق أتمّ من البقاء بنعمة الخلق مع الحجبة عن الحق. ويقال إن الذي وارثه الحي الذي لم يزل فليس بميت- وإن قتل: وإن كانت العبدان للموت أنشئت ... فقتل امرئ فى الله- لا شكّ- أفضل قوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: من علم أن أحباءه ينتظرونه وهم فى الرّفة والنعمة لا يهنأ بعيش دون التأهب والإلمام بهم والنزول عليهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 171] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) علّة استبشارهم وموجبه فضل من الله ونعمة منه، أي لولا فضله ونعمته بهم وإلا متى استبشروا؟ فليس استبشارهم بالنعمة إنما استبشارهم بأنهم عباده وأنه مولاهم «1» ، ولولا فضله ونعمته عليهم لما كانت لهم هذه الحالة.   (1) يقول الدقاق- شيخ القشيري وصهره- ليس أشرف من العبودية، ولا اسم أتم للمؤمن من الاسم له بالعبودية، وقد وصف بها الرسول (ص) فى أشرف أوقاته فى الدنيا، قال تعالى «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» لا تدعنى إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائى (الرسالة ص 100) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 172] الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) للاستجابة مزية وفضيلة على الإجابة من حيث الإشارة لا من مقتضى العربية «1» وهو أنه يستجيب طوعا لا كرها، فهم استجابوا لله من غير انطواء على تحمل مشقة بل بإشارة القلب ومحبة الفؤاد واختيار الروح واستحلاء «2» تحمّل الحكم. فالاستجابة للحق بوجوده، والاستجابة للرسول- عليه السّلام- بالتخلّق بما شرع من حدوده. استجابة الحق بالتحقق بالصفاء فى حق الربوبية، واستجابة الرسول عليه السّلام بالوفاء فى إقامة العبودية. «مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» : فى ابتداء معاملاتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم، وابتسام الحقائق فى أسرارهم. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ» : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ... - وهو المشاهدة والتقوى- ... فإن لم تكن تراه فإنه يراك «3» - وهو المراقبة فى حال المجاهدة. «أَجْرٌ عَظِيمٌ» لأهل البداية مؤجّلا، ولأهل النهاية معجّلا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 173] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) لم يلتبس على ظواهرهم شىء من أحوال الدنيا إلا انفتحت لهم- فى أسرارهم- طوالع من الكشوفات، فازدادوا يقينا على يقين.   (1) أي على مقتضى صيغ الاشتقاق فى اللغة. (2) فى ص (استجلاء) والصواب أن تكون بالحاء. (3) «أعبد الله كأنك تراه ... » رواه الطبراني عن أبى الدرداء، وحسّن السيوطي سنده، وضعفه المنذرى. قال الحافظ العراقي: رجاله ثقات وفيه انقطاع «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واحسب نفسك فى الموتى، واتق دعوة المظلوم» وفى الحلية عن زيد بن أرقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ومن أمارات اليقين استقلال القلوب بالله عند انقطاع المني من الخلق فى توهم الإنجاد والإعانة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 174] فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) كذا سنّة الحق- سبحانه- مع من صدق فى التجائه إليه أن يمهد مقيله فى ظل كفايته فلا البلاء يمسه، ولا العناء يصيبه، ولا النّصب «1» يظلّه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 175] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) «2» الإشارة فى تسليط دواعى الشيطان على قلوب الأولياء صدق فرارهم إلى الله كالصبىّ الذي يخوّف بشىء يفزع الصبيان، فإذا خاف لم يهتد إلى غير أمه، فإذا أتى إليها آوته إلى نفسها، وضمّته إلى نحرها، وألصقت بخدّه خدّها. كذلك العبد إذا صدق فى ابتهاله إلى الله، ورجوعه إليه عن مخالفته، آواه إلى كنف قربته، وتداركه بحسن لطفه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 176] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) زاد فى قوة قلبه بما جدّد له من تأكيد العهد، بأنه لا يشمت به عدوّا، ولا ى وصّل إليه من قبلهم سوءا.   (1) فى ص (النصيب) والصواب (النصب) فالمعنى يتطلب ذلك. (2) هنا أضاف الناسخ- سهوا- لفظة (الله) فحذفناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 177] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) إن أضرّوا فما أضروا إلا بأنفسهم، وإن أصرّوا فما أصرّوا إلا على خسرانهم: فما نحن عذّبنا ببعد ديارهم ... ولا نحن ساقتنا إليهم نوازع قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 178] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) من تمام المكر بهم، والمبالغة فى عقوبتهم أنّا نعذّبهم وهم لا يشعرون، نستدرجهم من حيث لا يعلمون نملى لهم فيظنون ذلك إنعاما، ولا يحسبونه انتقاما، فإذا برزت لهم كوامن التقدير عند مغاراتها علموا أنهم لفى خسران، وقد اتّضح لكلّ ذى بصيرة أن ما يكون سبب العصيان وموجب النسيان غير معدود من جملة الإنعام. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) جمعهم اليوم من حيث الأشخاص والمبانى، ولكنه فرّقهم فى الحقائق والمعاني فمن طيّبة سجيته، ومن خبيئة طينته. وهم وإن كانوا مشائب «1» ففى بصيرة الخواص هم ممتازون «2» .   (1) مشائب أخلاط. (2) ممتازون هنا مرتبطة بالفعل (يميز) الذي فى الآية الكريمة أي إنهم معلومون عندنا نميز طيبهم مهما كانوا أخلاطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» : فإنّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلّ وقلّ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره: قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) من آثر شيئا على الله لم يبارك له فيه فلا يدوم له- فى الدنيا- بذلك استمتاع، ولا للعقوبة عليه- فى الآخرة- عنه دفاع. والبخل- على لسان العلماء- منع الواجب، وعلى مقتضى الإشارة إبقاء شىء ولو ذرة من المال أو نفسا من الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) هذا الخطاب لو كان بين المخلوقين لكان شكوى. والشكوى إلى الأولياء من الأعداء سنّة الأحباب. ويقال علم أن فى المؤمنين من يغتاب الناس، وذلك قبيح من قالتهم، فأظهر قبحا فوق ذلك ليتصاغر قبح قول المؤمنين بالإضافة إلى قبح قول الكفار، فكأنه قال: لئن قبحت قالتهم فى الاغتياب فأقبح من قولهم قول الكفار حيث قالوا فى وصفنا ما لا يليق بنعمتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وفيه أيضا إشارة إلى الدعاء إلى الخلق، والتجاوز عن الخصم، فإن الله- سبحانه- لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير فى حقوقه. قوله: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» : هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة يعنى أنهم وإن نسوا أحوالهم وأقوالهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم: صحائف عندى للعتاب طويتها ... ستنشر يوما والعتاب يطول سأصبر حتى يجمع الله بيننا ... فإن نلتق يوما فسوف أقول قوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ هذا لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر مما عمله به، فكأنه- سبحانه- يقول: «عبدى: هذا الذي تلقاه- اليوم- من العقوبة لأن الذنب لك، ولو لم تفعله لما عذّبنك» . قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 183] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) تقوّلوا على الله- سبحانه- فيما تعللوا به من ترك الإيمان، فقالوا: لقد أمرنا ألا نصدّق أحدا إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء، وتنزل نار من السماء، فتأخذ القربان عيانا ببصر، فقال تعالى: قل لهم إن من تقدّمنى من الأنبياء عليهم السّلام أتوكم بما اقترحتم على من القربان، ثم لم تؤمنوا، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضا فإن من أقصته السوابق- فلو خاطبته الشمس بلسان فصيح، أو سجدت له الجبال فرآها بلحظ صحيح- لم يلج العرفان فى قلبه، وما ازداد إلا شكا على شك. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 184] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أي عادة الكفار تكذيب الرسل: وعلى هذا النحو درج سلفهم، ويهديهم اقتدى خلفهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) أي كأس الموت توضع على كفّ كلّ حىّ فمن تحلّاها طيّبة نفسه أورثته سكر الوجد، ومن تجرّعها على وجه التعبس، وقع فى وهدة الرّدّ، ووسم بكىّ الصّدّ، ثم يوم القيامة: فمن أجير من النار وصل إلى الراحة الكبرى، ومن صلّى بالسعير وقع فى المحنة الكبرى. «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» : لأن ما هو آت فقريب. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) كفاهم أكثر أسباب الضر بما أخبرهم عن حلولها بهم قبل الهجوم، وعرّفهم أن خير الأمرين لهم إيثار الصبر واختيار السكون تحت مجارى الأقدار. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أخبر أنهم أبرموا عهودهم أن لا يزولوا «1» عن وفائه، ولكنهم نقضوا أسباب الذّمام بما صاروا إليه من الكفران، ثم تبيّن أنّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يبارك لهم فيه. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 188] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) إن من باشر رؤية الخلق قلبه، ولاحظهم بسرّه فلا تظننّ أنّ عقوبتهم مؤخرة إلى يوم القيامة، بل ليسوا من العذاب- فى الحال- بمفازة، وأىّ عذاب أشدّ من الردّ إلى الخلق والحجاب عن الحق؟ قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 189] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) الإشارة من هذه الآية هاهنا إلى غناه- سبحانه- عمّا فى الكون، وكيف يحتاج إليهم؟! ولكنهم لا يجدون عنه خلفا، ولا عليه بدلا. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 191] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) الآيات التي تعرّف الحق سبحانه وتعالى بها إلى العوام هى التي فى الأقطار من العبر والآثار، والآيات التي تعرّف بها إلى الخواص فالتى فى أنفسهم. قال سبحانه:   (1) وردت (ان لا يزالوا) ونرجح انها فى الأصل (ان لا يزولوا) لأن هذه مناسبة للمراد من الآية، ومن سياق المعنى، ولو كان حرف الجر (على) بعدها لقبلنا (لا يزالوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» فالآيات الظاهرة توجب علم اليقين، والآيات الباطنة توجب عين اليقين. والإشارة من اختلاف الليل والنهار إلى اختلاف ليالى العباد فليالى أهل الوصلة قصيرة، وليالى أهل الفراق طويلة فهذا يقول: شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار ويقول: صباحك سكر والمساء خمار ... فنمت وأيام السرور قصار والثاني يقول: ليالى أقر الظاعنين ( .... ) ... شكوت وليل العاشقين طويل وثالث ليس له خبر عن طول الليل ولا عن قصره فهو لما غلب عليه يقول: لست أدرى أطال ليلى أم لا؟ ... كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟! لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ورعيت النجوم كنت محلّا قوله تعالى: «لِأُولِي الْأَلْبابِ» : أولو الألباب هم الذين صحت عقولهم عن سكر الغفلة. وأمارة من كان كذلك أن يكون نظره بالحق فإذا نظر من الحقّ إلى الحقّ استقام نظره، وإذا نظر من الخلق إلى الحق انتكست نعمته، وانقلبت أفكاره مورّثة للشبهة. قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً ... الآية: استغرق الذكر جميع أوقاتهم فإن قاموا فبذكره، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة فى حقائق الذكر، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها «1» . ويذكرون الله قياما على بساط الخدمة ثم يقعدون على بساط القربة. ومن لم يسلم فى بداية قيامه عن التقصير لم يسلم له قعود فى نهايته بوصف الحضور.   (1) القشيري هنا مستفيد من رآى استاذه الإمام ابن فورك فى «قِياماً وَقُعُوداً» فى الآية الكريمة (الرسالة ص 111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والذكر طريق الحق- سبحانه- فما سلك المريدون طريقا أصحّ وأوضح من طريق الذكر، وإن لم يكن فيه سوى قوله: «أنا جليس من ذكرنى» لكان ذلك كافيا. والذاكرون على أقسام، وذلك لتباين أحوالهم: فذكر يوجب قبض الذاكر لما يذكره من نقص سلف له، أو قبح حصل منه، فيمنعه خجله عن ذكره، فذلك ذكر قبض. وذكر يوجب بسط الذاكر لما يجد من لذائذ الذكر ثم من تقريب الحقّ إيّاه بجميل إقباله عليه. وذاكر هو محو فى شهود مذكوره فالذكر يجرى على لسانه عادة، وقلبه مصطلم فيما بدا له. وذاكر هو محل الإجلال يأنف من ذكره ويستقذر وصفه «1» ، فكأنه لتصاغره عنه لا يريد أن يكون له فى الدنيا والآخرة (ثناء) «2» ولا بقاء، ولا كون ولا بهاء، قال قائلهم: ما إن ذكرتك إلا همّ يلعننى ... قلبى وروحى وسرى عند ذاكراكا حتى كأنّ رقيبا منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياكا والذكر عنوان الولاية، وبيان الوصلة، وتحقيق الإرادة، وعلامة صحة البداية، ودلالة صفاء النهاية، فليس وراء الذكر شىء، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر، ومنشأة عن الذكر. قوله جل ذكره: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. التفكر نعمة كل طالب، وثمرته الوصال بشرط العلم، فإذا سلم الذكر عن الشوائب   (1) هذا النوع من الذكر يلتقى بتعاليم أهل الملامة النيسابورية الذين لا ينظرون لأى عمل إلا من حيث رؤية التقصير فيه. (2) ربما كانت (فناء) وإن كان المعنى يتقبل كليهما. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ورد صاحبه على مناهل التحقيق، وإذا حصل الشهود والحضور سما صاحبه عن الفكر إلى حدود الذكر، فالذكر سرمد «1» . ثم فكر الزاهدين فى فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابّها فيزدادون بالفكرة زهدا فيها. وفكر العابدين فى جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه. وفكر العارفين فى الآلاء والنعم فيزدادون محبة للحق سبحانه. قوله جل ذكره: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ. التسبيح يشير إلى سبح الأسرار فى بحار التعظيم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 192] رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) من ابتليته فى الآجل بالحرقة فقد أخزيته، ومن ابتليته بالفرقة فى العاجل فقد أشقيته، ومن أوليته بيمن الوصلة فقد آويته وأدنيته. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 193] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) يعنى أجبنا الداعي ولكن أنت الهادي، فلا تكلنا إلينا، ولا ترفع ظلّ عنايتك عنّا. والإيمان الدخول فى موجبات الأمان، وإنما يؤمن بالحق من أمّنه الحق، فأمان الحق للعبد- الذي هو إجارته- يوجب إيمان العبد بالحق الذي هو تصديقه ومعرفته.   (1) [سأل أبو عبد الرحمن السلمى الشيخ الدقاق. آلذكر أتم أم الفكر؟ فقال الدقاق: ما الذي يقع لك منه؟ فأجاب السلمى: عندى الذكر أتم من الفكر لأن الحق سبحانه يوصف بالذكر ولا يوصف بالفكر وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق فاستحسنه الدقاق] الرسالة ص 111. وقد ذكرنا هذه الرواية هنا: اولا لتوضح الفرق بين الذكر والفكر وثانيا لتبرز قول القشيري: (الذكر سرمد) أي مستدام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 «وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» : وهم المختصون بحقائق التوحيد، القائمون لله بشرائط التفريد، الواقفون مع الله بخصائص التجريد. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 194] رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) حقّق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط «1» من إكمال النّعمى ( ..... ) «2» وغفران كل ما سبق منا من متابعات الهوى. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) كيف لا يستجيب لهم وهو الذي لقّنهم الدعاء، وهو الذي ضمن لهم الإجابة، ووعده جميل الثواب على الدعاء زائد على ما يدعون لأجل الحوائج. «فَالَّذِينَ هاجَرُوا» : يعنى الديار والمزار، وجميع المخالفين والموافقين من الأغيار. «وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» : إلى مفارقة معاهدهم من مألوفاتهم. «وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي» : عيّروا بالفقر والملام، وفتنوا بفنون المحن والآلام.   (1) يقصد الرسل عليهم السّلام. (2) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 «وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا» : ذاقوا من اختلاف الأطوار الحلو والمر. «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» : يعنى لنعطينّهم فوق آمالهم وأكثر، مما استوجبوه بأعمالهم وأحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لا تتداخلنك تهمة بأنّ لهم عندنا قدرا وقيمة إنما هى أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 198] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) الذين وسمناهم بذلّ الفرقة بئست حالتهم، والذين رفعوا قدما لأجلنا فنعمت الحالة والزلفة وصلوا إلى الثواب المقيم، وبقوا فى الوصلة والنعيم، وما عند الله مما ادّخرنا لهم خير مما أمّلوه باختيارهم. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يريد من ساعدتهم القسمة بالحسنى فهم مع أولياء الله نعمة كما كانوا معهم قسمة. قوله جل ذكره: [سورة آل عمران (3) : آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الصبر فيما تفرد به العبد، والمصابرة مع العدو. والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص. ويقال أول الصبر التصبر، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية «1» . ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات، وتصابروا فى ترك الهوى والشهوات، وقطع المنى والعلاقات، ورابطوا بالاستقامة فى الصحبة فى عموم الأوقات والحالات. ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم، ورابطوا بأسراركم. ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب، وصابروا على ابتغاء القربة، ورابطوا فى محل الدنوّ والزلفة- على شهود الجمال والعزّة. والصبر مرّ مذاقه إذا كان العبد يتحسّاه على الغيبة، وهو لذيذ طعمه إذا شربه على الشهود والرؤية. «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» : الفلاح الظّفر بالبغية، وهمّتهم اليوم الظفر بنفوسهم، فعند ذلك يتم خلاصهم، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة، وصلبوها على عيدان المكابدة، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاؤهم بالله.   (1) يمكن أن يجد القارئ فى صنيع القشيري حول مادة (ص ب ر) انه- وهذا شأنه دائما- يحاول أن يؤسس المصطلح الصوفي على دعائم لغوية تعتمد على الفروق الدقيقة بين صيغ الاشتقاق المختلفة من المادة الواحدة فصيغة المفاعلة فيها المشاركة، وصيغة التفعل فيها تكلف يلائم البداية ... وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 السورة التي يذكر فيها النساء بسم الله الرحمن الرحيم اختلفوا فى الاسم عن ماذا اشتقّ فمنهم من قال إنه مشتق من السموّ وهو العلوّ. ومنهم من قال إنه مشتق من السّمة وهى الكيّة. وكلاهما فى الإشارة: فمن قال إنه مشتق من السمو فهو اسم من ذكره سمت رتبته، ومن عرفه سمت حالته، ومن صحبه سمت همّته فسمو الرتبة يوجب وفور المثوبات والمبارّ، وسمو الحالة يوجب ظهور الأنوار فى الأسرار، وسمو الهمة يوجب التحرز عن رقّ الأغبار. ومن قال أصله من السّمة فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة «1» ، ومن صحبه وسم بسمة الإرادة، ومن أحبّه وسم بسمة الخواص، ومن عرفه وسم بسمة الاختصاص. فسمة العبادة توجب هيبة النار أن ترمى صاحبها بشررها، وسمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع فى استرقاق صاحبها- مع شرف خطرها، وسمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة «2» ، وسمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة. ويقال اسم من واصله سما عنده (عن) الأوهام قدره (سبحانه) «3» . ومن فاصله وسم بكىّ الفرقة قلبه.   (1) هنا حدث اضطراب من الناسخ فاخطأ فى النقل وقد رتبنا الكلام فى النصف الأول من الفقرة حسب الترتيب الوارد فى النصف الثاني منها والذي يبدأ «قسمة العبادة توجب .... إلخ» . ذلك الترتيب الذي يتمشى مع المذهب العام للقشيرى فى كل مصنفاته. (2) يقصد تشريف الإنسان على جملة المخلوقات، فالانسان وحده- دون سائر الكائنات- هو الذي خوطب بتبادل الذكر والمحبة مع الحق جل شأنه. (3) وضعنا (عن) و (سبحانه) ليمتنع اللبس، وهما غير موجودين فى النص (يقول القشيري فى رسالته: ما يصوره وهمك فالله بخلاف ذلك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وعلى هذه الجملة يدل اسمه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) الناس اسم جنس، والاشتقاق فيه غير قوى. وقيل سمى الإنس إنسا لظهوره «1» فعلى هذه الإشارة: يا من ظهرتم عن كتم العدم بحكم تكليفى، ثم خصصت من شئت منكم بتشريفى، وحرمت من شئت منكم هدايتى وتعريفى. ونقلتكم إلى ما شئت بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفى. ويقال لم أظهر من العدم أمثالكم، ولم أظهر على أحد ما أظهرت عليكم من أحوالكم. ويقال سمّيت إنسانا لنسيانك، فإن نسيتنى فلا شىء أخسّ «2» منك، وإن نسيت ذكرى فلا أحد أحطّ «3» منك. ويقال من نسى الحق فلا غاية لمحنته، ومن نسى الخلق فلا نهاية لعلوّ حالته. ويقال يقول للمذنبين: يا من أنسيت عهدى، ورفضت ودى، وتجاوزت حدّى حان لك أن ترجع إلى بابى، لتستحقّ لطفى وإيجابى. ويقول للعارفين، يا من نسيت فينا حظّك، وصت عن غيرنا لحظك ولفظك- لقد عظم علينا حقّك، ووجب لدينا نصرك «4» ، وجلّ عندنا قدرك..   (1) حتى يقابل (الجن) لاختفائه. ربما كان قصد القشيري إلى ذلك. (2) وردت (أخص) بالصاد، وربما نقبلها على أساس أن الله يعاتب عبده: إن نسيتنى فأنت رغم ذلك (أخص الكائنات بمحبتى) . (3) وردت (أحض) بالضاد وربما كانت أحصن. (4) وجب واستوجب والإيجاب عند القشيري ترد بمعنى الاستحقاق، وعلينا أن نتأمل الدقة فى استعمال (لدينا) ولم يقل (علينا) فلا وجوب على الله- بخلاف المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ويقال يا من أنست «1» بنسيم قربى، واستروحت إلى شهود وجهى، واعتززت بجلال قدرى- فأنت أجلّ عبادى عندى. قوله: «اتَّقُوا رَبَّكُمُ» : التقوى جماع الطاعات، وأوله ترك الشّرك وآخره اتقاء كل غير، وأول الأغيار لك نفسك، ومن اتّقى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال، و (وقف) لله ... لا لشهود حظّ فى الدنيا والعقبى. قوله: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» : وهو آدم عليه السّلام، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضا كذلك، لمّا ظهرت مزية آدم عليه السّلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفنا، قال تعالى: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» . ولفظ «النفس» للعموم والعموم يوجب الاستغراق. قوله: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» : حكم الحقّ- سبحانه- بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل، ولردّ المثل إلى المثل فربط الشكل بالشكل. قوله: «وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» : تعرّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة حيث خلق جميع هذا الخلق من نسل شخص واحد، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكل وجه فى الصورة والخلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حدّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته. ثم قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» تكرير الأمر بالتقوى يدلّ على تأكيد حكمه. وقوله: «تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» : أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فمن قطع الرحم قطع، ومن وصلها وصل. «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» : مطلعا شهيدا، يعد عليك أنفاسك، ويرى حواسك، وهو متوّل خطراتك، ومنشىء حركاتك وسكناتك. ومن علم أنه رقيب عليه فبالحرى أن يستحيى منه.   (1) لاحظ كيف يربط القشيري بين الناس (والأنس) بعد أن ربطها (بالإنس) فمدار الكلام كله على لفظة (الناس) التي وردت فى الآية الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) من أقيم بمحلّ الرعاية فجاء على رعيّته فخصمه ربّه فإنه- سبحانه- ينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه. فولىّ اليتيم إن أنصف وأحسن فحقّه على الله، وإن أساء وتعدّى فخصمه الله. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع فى حالة واحدة، وأوجب العدل بينهن، فيجب على العبد أن يراعى الواجب فإن علم أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المباح، وإن علم أنه يقصّر فى الواجب فلا يتعرّض لهذا المباح، فإنّ الواجب مسئول عنه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) دلّ هذا على أن طعام الفتيان «1» والأسخياء مرىء لأنهم لا يطعمون إلا عن طيب نفس، وطعام البخلاء ردىء «2» لأنهم يرون أنفسهم، وإنما يطعمون عن تكلّف لا عن طيب نفس. قال صلّى الله عليه وسلّم: «طعام السخىّ دواء وطعام البخيل داء» .   (1) الفتيان جمع فتى. والفتوة أصل من أصول الصوفية عماده الإيثار والبذل والصفح والعفو، والأنفة عما فى الكونين إلى غير ذلك من محاسن السلوك التي ينبغى للنفس أن ترتاضها، وأن تتحلى بها حتى يتهيأ العبد لما هو أجل وأعظم، وأن يكون إيثاره لله وبذله لله وروحه لله، لأن من يؤمر بالتزام ذلك بالنسية للمخلوق لا يضن بأضعافه بالنسبة إلى الحق. (2) مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (ردىء) وقد وضعناها مع التحفظ، والمعنى بتقبلها. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) السّفيه من يمنعك عن الحقّ، ويشغلك عن الربّ. والسّفيه من العيال والأولاد من تؤثر حظوظهم على حقوق الله تعالى. قوله: «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» : حفظ التجمل فى الحال أجدى عليكم من التعرض للتبذل والسؤال، والكدية والاحتيال. وإنما يكون البذل خيرا من الإمساك عند تحرّر القلب والثقة بالصبر. فأمّا على نية الكدية وأن تجعل نفسك وعيالك كلّا على الناس فحفظك ما جعله الله كفاية لنفسك أولى، ثم الجود بفاضل كفايتك. قوله: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» : إذا كان ذات يدك يتسع لكفاية يومهم ويفضل «1» فلا تدّخره عمّا تدعو إليه حاجتهم معلومك خشية فقر فى الغد، فإن ضاقت يدك عن الإنفاق فلا يتّسعنّ «2» لسانك بالقبيح من المقال. ويقال إذا دعتك نفسك إلى الإنفاق فى الباطل فأنت أسفه السفهاء فلا تطع نفسك. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) .   (1) يفضل وفاضل هنا بمعنى يزيد وزيادة. (2) لاحظ المقابلة الجميلة فى تعبير القشيري بين (ضاقت يدك) و (يتسع لسانك) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 إيناس الرشد العفة والديانة، والسخاء والصيانة، وصحبة الشيوخ، والحرص على مشاهدة الخير، وأداء العبادات على قضية الأمر. ويقال الرشيد من اهتدى إلى ربّه، وعند ما تسنح له (حاجة) من حوائجه لا يتّكل على حوله وقوّته، وتدبيره واختياره. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب فلو مات رجل وخلف ابنين تساويا فى الاستحقاق وإن كان أحدهما برا تقيا والآخر فاجرا عصيّا، فلا للتقى زيادة لتقواه، ولا للفاجر بخس لفجوره، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّة من قبل الله، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطية للمسلمين: قال الله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» ، ثم قال: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ ... » الآية. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان «1» والمستحقون، وحضر من لا نصيب لهم فى الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحق مولّى عليه، فعدوهم وعدا جميلا وقولوا: «إذا بلغ الصبى قلنا له حتى يعطيك شيئا» وهذا معنى قوله: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» . وفى هذا إشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غدا، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران   (1) السهمان ج سهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 إن شاء الله بعد ما كانوا من أهل الإيمان، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضرا، ولا لك استحقاق سابق فبفضله ما أهّلك لمعرفته مع علمه بما يحصل منك فى مستأنف أحوالك من زلتك. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 9] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) بيّن فى هذه الآية أن الذي ينبغى للمسلم أن يدخره لعياله «1» التقوى والصلاح لا المال لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» فانه يتولى الصالحين. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) إنما تولّى الحق سبحانه خصمية اليتيم، لأنه لا أحد لليتيم غيره، وكلّ من وكل أمره إليه فتبرّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه «2» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) .   (1) وردت (العبارة) وهى خطأ فى النسخ. (2) هذه إشارة موجهة إلى الأولياء، فهم لا سند لهم من جاء أو سلطان أو مخلوق فإذا تعرضوا للأذى تولى الله عنهم خصومة المؤذى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الوصية هاهنا بمعنى الأمر، فانه سبحانه جعل الميراث بين الورثة مستحقا بوجهين: 1- الفرض 2- التعصيب، والتعصيب أقوى من الفرض لأن العصبة قد تستغرق جميع المال أما أكثر الفروض فلا يزيد على الثلثين، ثم إن القسمة تبدأ بأصحاب الفروض وهم أضعف استحقاقا، ثم العصبة وهم أقوى استحقاقا. قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر» «1» كذلك أبدا سنته، كما فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أعطاهم الكتاب بلفظ الميراث ثم قدّم الظالم على السابق، وهو أضعف استحقاقا إظهارا للكرم مع الظالم لأنه منكسر القلب ولا يحتمل وقته طول المدافعة. وقوله «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» . لو كان الأمر بالقياس لكانت الأنثى بالتفضيل أولى لضعفها، ولعجزها عن الحراك، ولكنّ حكمه- سبحانه- غير معلّل «2» . قوله جل ذكره: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. الأبناء ينفعونكم بالخدمة، والآباء بالرحمة الآباء فى حال ضعفك فى بداية عمرك، والأبناء فى حال ضعفك فى نهاية عمرك. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)   (1) صحيح البخاري ج 8 ص 269 «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (2) تحتاج هذه العبارة إلى بعض توضيح. وربما كان أفضل تحديد لها ما يذكره ذو النون المصري: «علة كل شىء صنعه، ولا علة لصنعه» ثم ما يوضحه أبو نصر السراج فى اللمع حيث يقول: «معنى هذا القول- والله أعلم- أن وجود النقصان فى كل شىء مصنوع كائن، لأنه لم يكن فكان، وليس فى صنع الصانع لمصنوعاته علة، وقال بعضهم: يا شقامى من السّقا ... م وإن كنت علّتى (اللمع ص 440) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الإشارة فى ثبوت الميراث للأقربين من الورثة بالنّسب والسبب أنّ الميت إذا مات تحمّل القريب أحزانه فعوّض الله الوارث على ما يقاسيه ويخامر قلبه من التوجّع مال الموروث.. وكذا سنّته- سبحانه- التعويض على مقاساة الأذى- جودا منه لا وجوبا عليه «1» - كما توهّم قوم. وكلّ من كان أقرب نسبا أو أقوى سببا من الميت كان أكثر استحقاقا لميراثه، وفى معناه أنشدوا: وما بات مطويا على أريحية ( .... ... ... ) عقب النوى موت الفتى ظل مغرما «2» قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 13] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)   (1) يلح القشيري دائما فى نفى كل وجوب على الله، كما لاحظنا ذلك فى مواضع شتى بينما لا يمنع المعتزلة من وجوب المثوبة للمطيع- عليه، ووجوب العقوبة للعاصى- عليه. (2) توجد فى البيت كلمات فارسية (آنگه شاد شود در عطاء ادن) أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء. ومعنى البيت غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حدوده: أوامره ونواهيه، وما تعبّد به عباده. وأصل العبودية حفظ الحدود، وصون العهود، ومن حفظ حدّه لم يصبه مكروه ولا آفة، وأصل كلّ بلاء مجاوزة الحدود. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 14] وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وإنما هما عقوبتان: معجلة ومؤجلة، ويقترن بهما جميعا الذّلّ فلو اجتهد الخلائق على إذلال المعاصي بمثل الذل الذي يلحقهم بارتكاب المعصية لم يقدموا «1» عليها: لذلك قال قائلهم: من بات «2» مسلما «3» بذنب أصبح وعليه مذلته، فقلت ومن أصبح مبرّا ببر ظلّ وعليه مهابته. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 15] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) إنما اعتبر فى ثبوت الفاحشة- التي هى الزنا- زيادة الشهود إسبالا لستر الكرم   (1) وردت (لم يقدروا) والملائم للمعنى أن تكون (لم يقدموا) مما يرجح أن الناسخ قد أخطا. (2) وردت (من مات) والسياق يقتضى (بات) ، (وأصبح) ، وظلّ.. (3) وردت (مسلما) وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 على إجرام العباد، فإنّ إقامة الشهود- على الوجه الذي فى الشرع لإثبات تلك الحالة- كالمتعذّر «1» . وفى قوله- صلّى الله عليه وسلّم- لما عز لما قال له: يا رسول الله- صلوات الله عليك- إنّى زنيت فطهّرنى. فقال: لعلّك قبّلت.. ثم قال فى بعض المرات: «استنكهوه» «2» . ففى هذا أقوى دليل لما ذكرت من إسباله الستر على الأعمال القبيحة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 16] وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) الأمر بفنون العقوبات لهم على فعل ذلك أبلغ «3» شىء فى الردع والمنع منه بالرفع، لعلّ العبد يحذر ذلك فلا يستحق التعذيب الأعظم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 17] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) . «4» لا استغفار مع الإصرار «5» فإن التوبة مع غير إقلاع سمه الكذّابين. وقوله: «السُّوءَ بِجَهالَةٍ» : يعنى عمل عمل الجهّال.   (1) يدل هذا الرأى- فى نظرنا- أولا على فهم صائب لما وراء الحدود الشرعية من مرام بعيدة، ويدل ثانيا على سعة صدر الصوفية فى الصفح عن أرباب الخطايا، وستر معايب الخلائق، ولقد أحسن الحسن البصري حين قال: النصيحة على الملأ فضيحة. (2) وفى صحيح البخاري ج 8 ص 298 عن ابن عباس: لما أنى ماعز بن مالك النبي (ص) قال له لعلك قبلت او غمزت أو نظرت ... إلخ قال نعم فعند ذلك أمر يرجمه (ومعنى استنكهوه: أي ابحثوا فى فمه عن نكهة الخمر فربما يكون ثملا) . [ ..... ] (3) وردت (بلغ) وهى خطأ فى النسخ. (4) أخطأ الناسخ فى كتابة الآية فجاءت (من قريبة) ، (السوء بحجالة) . (5) أخطأ الناسخ فكتبها (الاسرار) بالسين والمعني يرفضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وذنب كل أحد يليق بحاله، فالخواص ذنوبهم حسبانهم أنهم بطاعاتهم يستوجبون محلا وكرامة، وهذا وهن فى المكانة إذ لا وسيلة إليه إلا به. قوله «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» : على لسان أهل العلم: قبل الموت، وعلى لسان المعاملة: قبل أن تتعود النفس ذلك فيصير لها عادة، قال قائلهم: قلت للنّفس إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 18] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يعنى إذا كشف الغطاء وصارت المعارف ضروريه «1» أغلق باب التوبة فإن من شرط التكليف أن يكون الإيمان غيبيا. ثم إن فى هذه الطريقة إذا عرف بالخيانة لا يشم بعده حقيقة الصدق. قال داوود- عليه السّلام- فى آخر بكائه لما قال الله تعالى لم تبكى يا داوود، وقد غفرت لك وأرضيت خصمك «2» وقبلت توبتك؟ فقال: إلهى، الوقت الذي كان بي ردّه إلىّ فقال: هيهات يا داوود، ذاك ودّ قد مصى!! وفى معناه أنشدوا: فخلّ سبيل العين بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوع قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)   (1) المعرفة الضرورية- عند القشيري- هى التي تنال فى الانتهاء أما فى الابتداء فهى معرفة كسبية والأولى تشبه الشمس والثانية تشبه السراج، فإذا طلعت الشمس انبسط شعاعها على السراج (الرسالة ص 149) . (2) وردت (حضك) ولكن الإرضاء حسبما نعلم من قصة داود كان لخصمه، لذلك رجحنا أن تكون (خصمك) فإرضاء الخصم ملائم لقبول التوبة والغفران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 التلبيس على المستضعفين، والتدليس على أهل السلامة والوداعة من المسلمين- غير محمودين عند الله. فمن تعاط ذلك انتقم الله منه، ولم يبارك له فيما يختزل من أموال الناس بالباطل والاحتيال. ومن استصغر خصمه فى الله فأهون ما يعاقبه الله به أن يحرمه الوصول إلى ما يأمل من محبوبه. وقوله: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» : أي بتعاليم الدين والتأدب بأخلاق المسلمين وحسن الصحبة على كراهة النفس، وأن تحتمل أذاهن ولا تحملهن كلف خدمتك، وتتعامى عن مواضع خجلتهن. قوله: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ... » كل ما كان على نفسك أشقّ كانت عاقبته أهنأ وأمرأ. واعلم أن الحقّ سبحانه لم يطلع أحدا على غيبه، فأكثر ما يعافه الإنسان قد تكون الخيرة فيه أتم. وقد حكم الله- سبحانه- بأن مخالفة النفس توصل صاحبها إلى أعلى المنازل، وبعكس ذلك موافقتها، كما أن مخالفة القلوب توجب عمى البصيرة، وبعكس ذلك موافقتها. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 يعلمهم حسن العهد ونعت الكرم فى العشرة، فيقول لا تجمع الفرقة واسترداد المال عليها، فإن ذلك ترك الكرم فإن خوّلت واحدة مالا كثيرا ثم جفوتها بالفراق فما آتيتها يسير فى جنب ما أذقتها من الفراق. قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ... : يعنى أن للصحبة السالفة حرمة أكيدة، فقفوا عند مراعاة الذمام، وأوفوا بموجب الميثاق. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) تشير الآية إلى حفظ الذمام، والوقوف على حد الاحترام، فإن السّجيّة تتداخلها الأنفة من أن ينكح فراشه غيره، فنهى الأبناء عن تخطى حقوق الآباء فى استفراش منكوحة الأب. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 تكلّف انتزاع المعاني التي لأجلها حصل هذا التحريم محال من الأمر لأن الشرع غير معلّل «1» ، بل الحق تعالى حرّم ما شاء على من شاء، وكذلك الإباحة، ولا علّة للشرائع بحال، ولو كانت المحرّمات من هؤلاء محلّلات [محرمات] «2» لكان ذلك سائغا. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) إذا حافظت الحدود، وراعيت العهود، وحصل التراضي بين النساء بحكم الشرع فما لا يكون فيه للخلق خصيمة، ولا من الحق سبحانه منه تبعة، فذلك مباح طلق. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)   (1) نظن أن هذه النظرة التي يأخذ بها القشيري أمور التشريع قابلة للمناقشة. (2) هذه كلمة زائدة ولم ينبه الناسخ إلى زيادتها، وربما كانت فى الأصل: «والمحللات محرمات» وحدث سقوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الرخص جعلت للمستضعفين، فأما الأقوياء فأمرهم الجدّ، والأخذ بالاحتياط والتضييق إذ لا شغل لهم سوى القيام بحق الحق، فإن كان أمر الظاهر يشغلهم عن مراعاة القلوب فالآخذ فى الأمور الظاهرة بالسهولة والأخف أولى من الاستقصاء فيما يمنع من مراعاة السر، لأنه ترك بعض الأمور لما هو الأهم والأجلّ، فمن نزلت درجته عن الأخذ بالأوثق والأحوط فمباح له الانحدار إلى وصف الترخص «1» . ثم قال فى آخر الآية: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» : يعنى على مقاساة ما فيه الشدة، وفى هذا نوع استمالة للعبيد حيث لم يقل اصبروا بل قال: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 26] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) لما عرّف النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأمّته أخبار من مضى من الأمم، وما عملوا، وما عاملهم به انتظروا ما الذي يفعل بهم فإن فيهم أيضا من ارتكب ما لا يجوز، فقالوا: ليت شعرنا بأيّ نوع يعاملنا ... أبا لخسف أو بالمسخ أو بالعذاب أو بماذا؟ فقال تعالى: «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» نعرّفكم ما الذي عملنا بهم.   (1) القاعدة «أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه» ولكن القشيري يرى بالنسبة لأرباب الأحوال أن (الرخصة فى الشريعة للمستضعفين واصحاب الحوائج والأشغال، وهؤلاء الطائفة (الصوفية) ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه، ولهذا قيل إذا انحطّ الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله تعالى، ونقض عهده فيما بينه وبينه سبحانه) الرسالة ص 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» أمّا أنتم فأتوب عليكم، أمّا من تقدّم فلقد دمّرت عليهم. ويقال «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» : أي يكاشفكم بأسراره فيظهر لكم ما خفى على غيركم. ويقال يريد الله ليبيّن لكم انفراده- سبحانه- بالإيجاد والإبداع، وأنه ليس لأحد شىء. «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» طريقة الأنبياء والأولياء وهو التفويض والرضاء، والاستسلام للحكم والقضاء. وقيل «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» أي يتقبّل توبتكم بعد ما خلق توبتكم، ثم يثيبكم على ما خلق لكم من توبتكم «1» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 27 الى 28] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) عزل بهذا الحديث حديث الأولين والآخرين. ومن أراد الله توبته فلا يشمت به عدوّا، ولا يناله فى الدارين سوء. «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ... » : إرادتهم منكوسة، وهى عند إرادة الحق- سبحانه- ضائعة مردودة. ويُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ: يعنى ثقل الأوزار بمواترة الأوراد إلى قلوبكم، ويقال يريد الله أن يخفف عنكم مقاساة المجاهدات بما يلج لقلوبكم من أنوار المشاهدات. ويقال يريد الله أن يخفف عنكم أتعاب الخدمة بحلاوة الطاعات. ويقال يخفف عنكم كلف الأمانة بحملها عنكم.   (1) واضح من هذا الكلام أن الفضل كله لله هو الذي يخلق توبة العبد وهو الذي يثيبه على توبته، وقد ربطنا بين هذا وبين ما ذكره القشيري عند (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) التي جاء ذكرها فيما سبق (من هذا الكتاب ص 216) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ويقال يخفف عنكم أتعاب الطلب بروح الوصول. «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» : وصف بهذا فقرهم وضرّهم، و ( ... ) «1» بها عذرهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) كل نفقة كانت لغير الله فهى أكل مال بالباطل. ويقال القبض إذا كان على غفلة، والبذل إذا لم يكن بمشهد الحقيقة «2» ، فكل ذلك باطل، «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» : يعنى بارتكاب الذنوب، ويقال تعريضها لمساخطته سبحانه. ويقال بنظركم إليها وملاحظتكم إياها. ويقال باستحسانكم شيئا منها بإيثارها دون رضاء الحق. ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فإنّا لا نخليه من عقوبة شديدة، وهو أن نكلها إلى صاحبها، ونلقى حبلها على غاربها. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) الكبائر- على لسان العلم- هاهنا الشّرك بالله، وعلى بيان الإشارة أيضا الشّرك   (1) مشتبهة. (2) والبذل إذا لم يكن بمشهد الحقيقة، أي لو كان ما تبذله وأنت تشهد نفسك دون أن تشهد الحق، فهو عمل ضائع، لأنك حينئذ ستحسب قدرا لنفسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الخفىّ. ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق، واستحلاء قبولهم، والتودد إليهم، والإغماض على حق الله بسببهم «1» . ويقال إذا سلم العهد فما حصل من مجاوزة «2» الحد فهو بعيد عن التكفير. ويقال أكبر الكبائر إثباتك نفسك فإذا شاهدت نفيها «3» تخلّصت «4» من أسر المحن. «وَنُدْخِلْكُمْ» فى أموركم «مُدْخَلًا كَرِيماً» إدخالا حسنا لا ترون منكم دخولكم ولا خروجكم وإنما ترون المصرّف لكم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) لسان المعاملة أن الأمر بالتعنى لا بالتمني، ولسان التوحيد أن الأمر بالحكم والقضاء لا بالإرادة والمنى. ويقال اسلكوا سبيل من تقدّمكم فى قيامكم بحق الله، ولا تتعرضوا لنيل ما خصّوا به من فضل الله. قوموا بحقّ مولاكم ولا تقوموا بمتابعة هواكم واختيار مناكم. ويقال لا تتمنوا «5» مقام السادة دون أن تسلكوا سبلهم، وتلازموا سيرهم، وتعملوا عملهم.. فإن ذلك جور من الظن. ويقال كن طالب حقوقه لا طالب نصيبك على أي وجه شئت: دنيا وآخرة (وإلّا) «6» أشركت فى توحيدك من حيث لم تشعر.   (1) ربما يشترك كثير من الباحثين فى هذا الرأي مع القشيري ولكنه عند أهل الملامة عنصر أساسى وخطير فى تعاليمهم، حيث يزيد إلى درجة استجلاب سخط الناس ولو مهم للعبد. (2) وردت (بالراء) وهى خطأ فى النسخ، ويكون المعنى إن الله يغفر مجاوزة الحد على شرط سلامة العهد وعدم الشرك. (3) وردت (ففيها) وهى خطأ فى النسخ. [ ..... ] (4) وردت بالتاء المربوطة لا المفتوحة وهى خطأ فى النسخ. (5) وردت بالهاء لا بالميم والصحيح أنها بالميم ويتأيد ذلك بقوله بعد قليل (لا تتمنّ مقامات الرجال) . (6) إضافة منا ليستقيم المعنى، إذ واضح أنها سقطت من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ويقال لا تتمنّ مقامات الرجال فإنّ لكل مقام أهلا عند الله، وهم معدودون فما لم يمت واحد منهم لا يورث مكانه غيره، قال تعالى: «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» والخليفة من يخلف من تقدّمه، فإذا تمنّيت مقام ولىّ من الأولياء فكأنّك استعجلت وفاته على الجملة تمنيت أو على التفصيل، وذلك غير مسلّم. ويقال خمودك تحت جريان حكمه- على ما سبق به اختياره- أحظى لك من تعرضك لوجود مناك، إذ قد يكون حتفك فى منيتك. ويقال من لم يؤدّب ظاهره بفنون المعاملات، ولم يهذّب باطنه بوجوه «1» المنازلات فلا ينبغى أن يتصدّى لنيل المواصلات، وهيهات هيهات متى يكون ذلك! «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» : الفرق «2» بين التمني وبين السؤال من فضله من وجوه: يكون التمني للشىء مع غفلتك عن ربك فتتمنى بقلبك وجود ذلك الشيء من غير توقعه من الله، فإذا سألت الله فلا محالة تذكره، والآخر أن السائل لا يرى استحقاق نفسه فيحمله صدق الإرادة على التملّق والتضرع، والمتمنى يخلو عن هذه الجملة. والآخر أن الله نهى عن تمنى ما فضل الله به غيرك إذ معناه أن يسلب صاحبك ما أعطاه ويعطيك إياه، وأباح السؤال من فضله بأن يعطيك مثل ما أعطى صاحبك. ويقال لا تتمنّ العطاء وسل الله أن يعطيك من فضله الرضا بفقد العطاء وذلك أتمّ من العطاء، فإنّ التّحرّر من رقّ الأشياء أتمّ من تملّكها. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) جعل المعاقدة فى ابتداء الإسلام نظيرة النّسب فى ثبوت الميراث بها فنسخ حكم الميراث   (1) وردت (بوجوده) والصواب أن الدال زائدة ليتلاءم المعنى مع (فنون) كذلك فإن (بوجوده المنازلات) غير مستقيمة. (2) لاحظ كيف تثرى بحوث القشيري التي من هذا القبيل علوم اللغة والبلاغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وبقي حكم الاحترام، فإذا كانت المعاقدة بين الناس بهذه المثابة فما ظنّك بالمعاهدة مع الله؟. قال الله تعالى: «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» وأنشدوا: إنّ الألى ماتوا على دين الهوى ... وجدوا المنيّة منهلا معسولا قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) خصّ «1» الرجال بالقوة فزيد بالحمل عليهم فالحمل على حسب القوة. والعبرة بالقلوب والهمم لا بالنفوس والجثث. قوله: «وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» : أي ارتقوا فى تهذيبهن بالتدريج والرفق، وإن صلح الأمر بالوعظ فلا تستعمل العصا بالضرب، فالآية تتضمن آداب العشرة. ثم قال: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» : يعنى إن وقفت فى الحال عن سوء العشرة ( ........ ) «2» ورجعت إلى الطاعة فلا تنتقم منها عمّا سلف، ولا تمتنع من قبول عذرها والتأبّى عليها. يقال: «فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» بمجاوزتك عن مقدار ما تستوجب «3» من نقمتك.   (1) جاءت (حضّ) أي أخطأ الناسخ فنقل نقطة الخاء إلى الضاد. (2) هنا ثلاث كلمات زائدة وضع الناسخ علامة مميزة للتنبيه على ضرورة حذفها لتكرارها بدون داع. (3) أي تستحق المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) يقال لك عليها الطاعة بالبدن، فأمّا المحبة والميل إليك بالقلب فذلك إلى الله، فلا تكلّفها مالا يرزقك الله منها فإن القلوب بقدرة الله، يحبّب إليها من يشاء، ويبغّض إليها من يشاء. ويقال «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» أي لا تنس وفاءها فى الماضي بنادر «1» جفاء يبدو فى الحال فربما يعود الأمر إلى الجميل. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) قوله [سورة النساء (4) : آية 37] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) : العبودية معانقة الأمر ومفارقة الزجر «2» . «وَلا تُشْرِكُوا» الشّرك مجليّه اعتقاد معبود سواه، وخفيّه: ملاحظة موجود سواه،   (1) لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (ببادر) والمعنى يتقبل (نادر) و (بادر) فكلاهما يدل على قدر من الحفاء لا يستحق الاهتمام ويستوجب العفو. (2) أي طاعة ما أمرك به وترك ما نهاك عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 والتوحيد أن تعرف أنّ الحادثات كلّها حاصلة بالله، قائمة به فهو مجريها ومنشيها ومبقيها، وليس لأحد ذرة ولا شظية ولا سينة ولا شمة من الإيجاد والإبداع. ودقائق الرياء وخفايا المصانعات وكوامن الإعجاب والعمل على رؤية الخلق، واستحلاء مدحهم والذبول تحت ردّهم وذمّهم- كلّ ذلك من الشّرك الخفىّ. قوله: «وَبِالْوالِدَيْنِ» الإحسان إلى الوالدين على وجه التدريج إلى صحبة فإنك أمرت أولا بحقوقهما لأنهما من جنسك ومنهما تربيتك، ومنهما تصل إلى استحقاق زيادتك وتتحقق بمعرفتك. وإذا صلحت للصحبة والعشرة مع ذوى القربى والفقراء والمساكين واليتامى ومن فى طبقتهم- رقّيت عن ذلك إلى استيجاب صحبته- سبحانه. قوله: «وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ... » الآية من جيرانك ( .... ) «1» فلا تؤذهما بعصيانك، وراع حقهما بما تولى عليهما من إحسانك. فإذا كان جار دارك مستوجبا للإحسان إليه ومراعاة حقه فجار نفسك- وهو قلبك- أولى بألا تضيّعه ولا تغفل عنه، ولا تمكّن حلول الخواطر الرديئة به. وإذا كان جار نفسك هذا حكمه فجار قلبك- وهو روحك- أولى أن تحامى على حقّها، ولا تمكّن لما يخالفها من مساكنتها ومجاورتها. وجار روحك- وهو سرّك- أولى أن ترعى حقّه، فلا تمكنه من الغيبة عن أوطان الشهود على دوام الساعات. قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الإشارة منه غير ملتبسة على قلوب ذوى التحقيق. قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ... الآية: البخل على لسان العلم منع الواجب، وعلى بيان الإشارة ترك الإيثار فى زمان الاضطرار. وأمر الناس بالبخل معناه منعهم عن مطالبات الحقائق فى معرض الشفقة عليهم بموجب الشرع، وبيان هذا أن يقع بلسانك الانسلاخ عن العلائق وحذف فضولات الحالة فمن نصحه بأن يقول: «ربما لا تقوى على هذا، ولأن تكون مع معلومك الحلال أولى بأن تصير مكديا، وربما تخرج إلى سؤال الناس وأن تكون كلّا على   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 المسلمين- ويروى له فى هذا الباب الأخبار والآثار أمثال هذا .... » فلولا بخله «1» المستكن فى قلبه لأعانه بهمته فيما يسنح لقلبه «2» بدل أن يمنع عنه ما (يجب ان) يقول فى معرض النصح. ومن كانت هذه صفته أدركه عاجل المقت حيث أطفأ شرر إرادة ذلك المستضعف بما هو عند نفسه أنه نصيحة وشفقة فى الشرع. وقوله: «وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» : إن كان الله أغناهم عن طلب الفضيلة بما خوّلهم وآتاهم كتموا ذلك طمعا فى الزيادة على غير وجه الإذن. ويقال يكتمون ما آتاهم الله من فضله إذا سألهم مريد شيئا عندهم فيه نجاته، وضنوا عليه بإرشاده. ويقال بخل الأغنياء بمنع النعمة، وبخل الفقراء بمنع الهمة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 38] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) أدخل هؤلاء أيضا تحت قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» فعقوبتهم فى العاجل أنهم ليسوا من جملة محبّيه، وكفى بذلك محنة. والمختال الذي ينظر إلى نفسه والمرائى الذي ينظر إلى أبناء جنسه، وكلاهما مسوّمان بالشرك الخفىّ والله لا يحب المشركين. والفخور من الإبل كالمصراة من الغنم وهو الذي سدّت أخلافه ليجتمع فيها الدّرّ «3» فيتوهم المشترى أن جميع ذلك معتاد لها وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا ورتبة وهو فى ذلك مدع وهو الفخور، والله لا يحبه، وكذلك المرائى الذي ينفق ماله رئاء الناس.   (1) حاول بعضهم أن يصححها فى الهامش فطن أن صوابها (تجعله) والصحيح أنها (بخله) . (2) يستعمل القشيري الفعل (يسنح) للدلالة على ما يرد القلب من خواطر قد تصبح هواجس فنشده نحو العلائق والخلائق، وقد تكون إلهاما من قبل الحق سبحانه فتهديه السبيل. (3) الدّر- اللبن الغزير. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 39] وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) ليس فى إيمانهم بالله عليهم مشقة، بل لو آمنوا لوصلوا إلى عزّ الدنيا والآخرة، ولا يحملهم على الإعراض عنه إلا قلة الوفاء والحرمة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 40] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) لا ينقص من ثوابهم شيئا بل يبتدئهم- من غير استحقاقهم- بفضله، ويضاعف أجورهم على أعمالهم فأمّا الظلم فمحال تقديره فى وصفه لأن الخلق خلقه، والملك ملكه. والظالم من يعتدى حدا رسم له- وهو فى وصفه محال لعزّه فى جلال قدره. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) إذا كان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- الشهيد على أمته، وهو الشفيع لهم، فإنما يشهد بما يبقى للشفاعة موضعها. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: يحصلون على ندم ثم لا ينفعهم، ويعضون على أناملهم ثم لا يسكن عنهم جزعهم، فيتقنعون بخمار الذّل، وينقلبون إلى أوطان المحن «1» والضر.   (1) وردت (المحسن) والسين زيادة من الناسخ والصواب (المحن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) النّهى عن موجب السكر من الشراب لا من الصلاة، أي لا تصادفنكم الصلاة وأنتم بصفة السّكر، أي امتنعوا عن شرب ما يسكر فإنكم إن شربتم سكرتم، ثم إذا صادفكم الصلاة على تلك الحالة لا تقبل منكم صلاتكم. والسّكر ذهاب العقل والاستشعار، ولا تصحّ معه المناجاة مع الحق. المصلّى يناجى ربّه فكلّ ما أوجب للقلب الذهول عن الله فهو ملحق بهذا من حيث الإشارة ولأجل هذه الجملة حصل، والسكر على أقسام: فسكر من الخمر وسكر من الغفلة لاستيلاء حب الدنيا. وأصعب السكر سكرك من نفسك فهو الذي يلقيك فى الفرقة عنه، فإنّ من سكر من الخمر فقصاراه الحرقة- إن لم يغفر له. ومن سكر من نفسه فحاله الفرقة- فى الوقت- عن الحقيقة. فأمّا السكر الذي يشير إليه القوم «1» فصاحبه محفوظ عليه وقته حتى يصلى والأمر مخفف عليه: (فإذا خرج عن الصلاة هجم عليه غالبه فاختطفه عنه ومن لم يكن محفوظا) «2» عليه أحكام الشرع (فمشوب بحظّ) «3» .   (1) أي السكر عند الصوفية. (2) هذا الذي بين قوسين مستدرك فى هامش الصفحة وضعناه فى موضعه من النص. (3) (فمشوب بحظ) وضعنا هاتين اللفظتين هنا مستفيدين من أقوال القشيري فى مواضع مناظرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقوله تعالى: «وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ... » الآية: أذن للمضطر أن يترخّص فى عبور المسجد وهو على وصف الجنابة، فإذا عرج زائدا على قدر الضرورة فمعاتب غير معذور، وكذلك فيما يحصل من معاذير الوقت فى القيام بشرائط الوقت فمرفوعة عن صاحبه المطالبة به. ثم إنه- سبحانه- بفضله جعل التيمم بدلا من الطهارة بالماء عند عوز الماء كذلك النزول إلى ساحات الفرق عن ارتقاء ذرة «1» الجمع- بقدر ما يحصل من الضعف- بدل لأهل الحقائق. ثم إن التيمم- الذي هو بدل الماء- أعمّ وجودا من الماء، وأقلّ استعمالا من الأصل، فإن كل من كان أقرب كانت المطالبات عليه أصعب. ثم فى الظاهر أمرنا باستعمال التراب وفى الباطن باستشعار الخضوع واستدامة الذبول «2» . وردّ التيمم إلى التقليل، وراعى فيه صيانة لرأسك عن التّراب ولقدمك فإنّ العزّ بالمؤمن- ومولاه باستحقاق الجلال- أولى من الذل لما هو مفلس فيه من الحال، ولئن كان إفلاسه عن أعماله يوجب له التذلّل فعرفانه بجلال سيّده يوجب كل تعزّز وتجمّل. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)   فى مصنفاته الأخرى، وذلك نظرا لانبهام الكلمتين هنا لرداءة خط الناسخ (انظر حديث القشيري عن السكر فى الرسالة ص 41) . (1) نرجح أنها في الأصل (ذروة الجمع) وأن الواو قد سقطت من الناسخ. (2) لأن فيه تذكيرا للانسان بأصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ومكروا مكرا ولم يشعروا وجهة مكرهم أن أعطوا الكتاب ثم حرموا بركات الفهم حتى حرّفوا وأصرّوا. قوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... الآية: تركوا حشمة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ورفضوا حرمته، فعوقبوا بالشك فى أمره، ولذلك لم يترك أحد حشمته (محتشم) «1» إلا حيل بينه وبين نيل بركات صحبته وزوائد خدمته. ولو أنهم عاجلوا فى نفى ما داخلهم من الحسد وقابلوا حاله بالتبجيل والإعظام لوجدوا بركات متابعته، فأسعدوا به فى الدارين، وكيف لم يكونوا كذلك وقد أقصتهم السوابق فأقعدتهم القسمة عن بساط الخدمة؟ وإنّ من قعدت به الأقدار لم ينهض به الاحتيال. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) صرف القلوب عن الإرادة إلى أحوال أهل العادة حتى كانت دواعيه يتوفر فى رفض الدنيا فعاد لا يصبر عن جمعها «2» ومنعها. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)   (1) نرجح أن هذه الكلمة زائدة من الناسخ، أو ربما كان الأصل (حشمة محتشم) . (2) وردت (جميعها) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 العوام طولبوا بترك الشرك الجلىّ، والخواص طولبوا بترك الشرك الخفىّ، فمن توسّل إليه بعمله ويظنه منه، أو توهّم أن أحكامه- سبحانه- معلولة بحركاته وسكناته، أو راعى خلقا أو لاحظ نفسا فوطنه الشرك عند أهل الحقائق «1» . والله لا يغفر أن يشرك به وكذلك من توّهم أن مخالفته حصلت من غير تقديره فهو ملتحق بهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) من ركن إلى تزكية الناس له، واستحلى قبول الخواص له- فضلا عن العوام- فهو من زكّى نفسه، ورؤية النّفس أعظم حجاب، ومن توّهم أنه بتكلّفه يزكّى نفسه: بأوراده أو اجتهاده، بحركاته أو سكناته- فهو فى غطاء جهله. قوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ ... الآية: الإشارة إلى من أطلق لسان الدعوى من غير تحقيق، والمفترى- فى قالته فى هذا الأمر- لا ينطق بشىء إلا أجبّته الآذان وانزجرت له القلوب، فإذا سكت عاد إلى قلب خراب. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)   (1) يقول زكريا الأنصاري شارح الرسالة: (من كانت أفعاله لله تعالى وشاهدها طاعة له تعالى فهو فى التفرقة ومن شاهدها جارية عليه فضلا من الله فقد شاهدها بالله فهو فى الجمع (هامش 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 طاغوت كلّ أحد نفسه وهواه وجبته و ( ..... ) «1» مقصوده من الأغيار، فمن لاحظ شخصا أو طالع سببا أو عرّج على علّة أو أطاع هوى، فذلك جبته وطاغوته. وأصحاب الجبت والطاغوت يستوجبون اللعن وهو الطرد عن بساط العبودية، والحجاب عن شهود الربوبية. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 54] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) من جبل على الشّحّ لا يزداد بسعة يده إلا تأسفا على راحة ينالها الخلق، كأنّ من شرب قطرة ماء قد تحسّى بل رشف من ماء حياته! قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ... : بل ينكرون تخصيص الحق سبحانه لأوليائه بما يشاء حسدا من عند أنفسهم فلا يقابلونهم بالإجلال، وسنّة الله سبحانه مع أوليائه مضت بالتعزيز والتوقير لهم. ودأب الكافرين جرى بالارتياب فى القدرة فمنهم من آمن بهم، ومنهم من ردّ ذلك وجحد، وكفى بعقوبة الله منتقما عنهم. قوله: «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» : الملك العظيم معرفة الملك، ويقال هو الملك على النّفس.   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ويقال الإشراف على أسرار المملكة حتى لا يخفى عليه شىء. ويقال الاطلاع على أسرار الخلق. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) الإشارة منه إلى الجاحدين لآيات الأولياء يقيمهم بوصف الصغار ويبقيهم فى وحشة الإنكار «1» كلّما لاح لقلوبهم شىء من هذه القصة «2» جرّهم إنكارهم إلى ترك الإيمان بها والإزراء بأهلها على وجه الاستبعاد، فهم مؤبدة عقوبتهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 57] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) هم اليوم فى ظل الرعاية، وغدا فى ظل الحماية والكفاية، بل هم فى الدنيا والعقبى فى ظل العناية. والناس فى هذه الدنيا متفاوتون: فمنهم من هو فى ظل رحمته، ومنهم من هو فى ظل رعايته، ومنهم من هو فى ظل كرامته، ومنهم من هو فى ظل عنايته، ومنهم من هو فى ظل قربته.   (1) وردت (الأفكار) بالفاء والصواب- حسب المعنى والسياق- وكما جاء بعد قليل فى (وجرهم إنكارهم) أن تكون (الإنكار) . (2) يقصد من (القصة) : التصوف وأهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال «1» الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم. ويقال لله- سبحانه وتعالى- أمانات وضعها عندك فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله- سبحانه- سالمة من خيانتك فيها فالخيانة فى أمانة القلب ادعاؤك فيها، والخيانة فى أمانة السّرّ ملاحظتك إياها. والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب والبعيد فى العطاء والبذل، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) قرن طاعته بطاعة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- تفخيما لشأنه ورفعا لقدره. وأمّا أولوا الأمر- فعلى لسان العلم- السلطان، وعلى بيان المعرفة العارف ذو الأمر على المستأنف، والشيخ أولو الأمر على المريد، وإمام كل طائفة ذو الأمر عليهم.   (1) وردت (أحوال) والصواب أنها (أموال) لأن الأحوال لا تكون ودائع للناس عندك بل أموالهم [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ويقال الولي أولى بالمريد (من المريد) «1» للمريد. قوله: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ» على لسان العلم- إلى الكتاب والسّنّة، وعلى بيان التوحيد فوّض ذلك ووكل علمه إلى الله سبحانه، وإذا اختلف الخاطران فى قلب المؤمن فإن كان له اجتهاد العلماء تأمل ما يسنح لخاطره بإشارة فهمه، ومن كان صاحب قلب وكل ذلك إلى الحق- سبحانه- وراعى ما خوطب به فى سرائره، وألقى- بلا واسطة «2» - فى قلبه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) أظهروا الإخلاص، ونافقوا فى السّر، ففضحهم- سبحانه- على لسان جبريل عليه السّلام بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» أي يرفضوه. فمن حاد عن طريقه ورجع إلى غير أستاذه استوجب الحرمان والذم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 61] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) كل شىء سوى كلمة الحق فهو خفيف على المنافقين، فأمّا التوحيد فلا يسمع كلمته إلا مخلص، وأهل الفترة فى الله وأصحاب النفرة لا يسمعون ما هو الحق لأن خلاف الهوى يشقّ على غير الصديقين. وكما أن ناظر الخلق «3» لا يقوى على مقابلة الشمس فكذلك   (1) هذا استدراك موجود فى هامش الصفحة أثبتناه فى موضعه من النص. (2) تأمل جيدا (بلا واسطة) فهذا وصف هام للمعرفة عند الصوفية، يميزها ويكشف جوهرها. (3) أي العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المنافقون لم يطيقوا الثبات له- صلّى الله عليه وسلّم- فلذلك كان صدودهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 62] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) تضرّع غير المخلص عند هجوم الضّر «1» لا أصل له، فلا ينبغى أن يكون به اعتبار لأن بقاءه إلى زوال المحنة، والمصيبة العظمى ترك المبالاة (بما يحصل من التقصير) «2» . ويقال من المصيبة أن يمحقك وقتك فيما لا يجدى عليك «3» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 63] أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) أبسط لهم لسان الوعظ بمقتضى الشفقة عليهم، ولكن انقبض بقلبك عن المبالاة بهم والسكون إليهم، واعلم «4» أن من لا نكون نحن له لا يغنى عنه أن تعينه «5» شيئا. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) ما أمرنا الرسل إلّا بدعوة الخلق إلينا.   (1) وردت (الضرورة) والصواب (الضر) فالمعنى يقتضى ذلك ويؤيد أن الخطأ في النسخ. (2) ما بين قوسين تكملة وجدناها ضرورية لتوضيح المعنى فاستفدنا مما جاء فى موقف مشابه فى الرسالة ص 34 حيث يقول (وترك المبالاة بما يحصل منك من التقصير خروج عن الدين) . (3) من أقوالهم فى الوقت: الوقت مبرد يستحقك ولا يمحقك، والوقت سيف فكما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب. (4) وردت (ما علم) وهى خطأ فى النسخ، وربما كانت (فاعلم) فى الأصل واشتبهت على الناسخ. (5) (أن تعينه) المصدر المؤول من ان والفعل (أي عونك له) يقع فاعلا للفعل (يغنى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وقوله: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ» . لو جعلوك ذريعتهم لوصلوا إلينا، ويقال لو لازموا التذلل والافتقار وركبوا مطية الاستغفار لأناخوا بعقوة المبار. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 65] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) سدّ الطريق- إلى نفسه- على الكافة إلا بعد الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لم يمش تحت رايته فليس له من الله نفس. ثم جعل من شرط الإيمان زوال المعارضات بالكلية بقلبك. قوله: «ثُمَّ لا يَجِدُوا ... » : فلا بدّ لك من ( ... ) «1» تلك المهالك بوجه ضاحك، كما قال بعضهم: وحبيب إن لم يكن منصفا كنت منصفا ... أتحسّى له الأمرّ وأسقيه ماصفا إن يقل لى انشقّ ... اخترت رضا لا تكلّفا قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) أخبر عن سقم إخلاصهم وقوة إفلاسهم، ثم أخبر الله بعلمه بتقصيرهم. خلاهم عن كثير من الامتحانات ثم قال ولو أنهم جنحوا إلى الخدمة، وشدّوا نطاق الطاعة   (1) هنا كلمة ناقصة ربما كانت (مواجهة) أو (مقابلة) تلك المهالك بوجه ضاحك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لكان ذلك خيرا لهم من إصرارهم على كفرهم واستكبارهم. ولو أنهم فعلوا ذلك لآتيناهم من عندنا ثوابا عظيما، ولأرشدناهم صراطا مستقيما ولأوليناهم عطاء مقيما. والأمر- على بيان الإشارة- يرجع إلى مخالفة الهوى وذبح النفوس بمنعها عن المألوفات، والخروج من ديار (تقبّل النّفس) «1» ، ومفارقة أوطان (إرادة) «2» الدنيا. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) جعل طاعة المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- مفتاح الوصول إلى مقامات النبيين والصديقين والشهداء على الوجه الذي يصحّ للأمة وكفى له عليه السّلام بذلك شرفا. ثم قال: «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ» : جرّد عليهم محلّهم عن كل علة واستحقاق وسبب فإن ما لاح لهم وأصابهم صرف فضله وابتداء كرمه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) .   (1) وضع الناسخ (تقبل النفس) فى مكان خاطئ يبهم المعنى إذ وضعها قبل (على بيان الإشارة) والصواب أن تكون في مكانها الذي اخترناه حتى يستقيم السياق. (2) وردت (أراد) بدون همز للألف وبدون تاء مربوطة فاخترنا (إرادة) لملاءمتها للسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الفرار إلى الله من صفات القاصدين، والفرار مع الله من صفات الواصلين فلا يجد القرار مع الله إلا من صدق فى الفرار إلى الله. والفرار من كل غير شأن كل موحّد. قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ... الآية: أي لم تستقر عقائدهم على وصف واحد، فكانوا مرتبطين بالحظوظ فإذا رأوا مكروها يظلّ المسلمين شكروا وقالوا: الحمد الله الذي حفظنا من متابعتهم فكان يصيبنا ما أصابهم، وإن كانت لكم نعمة وخير سكنوا إليكم، وتمنوا أن لو كانوا معكم، خسروا فى الدنيا والآخرة: فهم لا كافر قبيح ولا مؤمن مخلص. قوله: «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» : يعنى طرحوا حشمة الحياة فلم يراعوا حرمتكم. قوله جلّ ذكره: [سورة النساء (4) : آية 74] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) من لم يقتل نفسه فى نفسه لا يصحّ جهاده بنفسه فأولا (إخراج خطر الروح) «1» من القلب ثم تسليم النفس للقتل. وقوله «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» يعنى بقاؤنا بعده خير له من حياته بنفسه لنفسه، قال قائلهم: ألست لى عوضا منى؟ كفى شرفا ... فما وراءك لى قصد ومطلوب قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 75] وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) .   (1) هكذا فى النسخة (ص) وربما كان المقصود أنك لا تستطيع أن تبذل نفسك إلا إذا قويت على قهرها والتهوين من خطرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أي شىء يمنعكم عن القتال فى سبيل الله؟ وما الذي لا يرغّبكم فى بذل المهجة «1» لله؟ وماذا عليكم لو بذلتم أرواحكم فى الله ولله؟ أتخافون أن تخسروا على الله؟ أم لا تعلمون أنكم تحشرون إلى الله؟ فلم لا تكتفون ببقائه بعد فنائكم فى الله؟ قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 76] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) المخلصون لله لا يؤثرون شيئا على الله، ولا يضنون بشىء عن الله، فهم أبدا على نفوسهم لأجل الله، والذين كفروا على العكس من أحوال المؤمنين. ثم قوّاهم وشجّعهم بقوله: «فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» أي لا تضمروا لهم مخافة، فإنى متوليكم وكافيكم على أعدائكم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أخرجوا أيديكم عن أموركم، وكلوها إلى معبودكم. ويقال اقصروها عن أخذ الحرام والتصرف فيه. ويقال امتنعوا عن الشهوات. ويقال «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» إلا عن رفعها إلى الله فى السؤال بوصف الابتهال.   (1) وردت (المحجة) بالحاء وهذا خطا فى النسخ وصوابها (المهجة) لملاءمتها للسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فلمّا كتب عليهم القتال استثقلوا أمره، واستعجلوا لطفه. والعبودية فى ترك الاستثقال، ونفى الاستعجال، والتباعد عن التبرم والاستثقال. قوله جل ذكره: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. مكنّك من الدنيا ثم قال: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ» ، فلم يعدّها شيئا لك ثم لو تصدّقت منها بشقّ تمرة لتخلّصت من النار، وحظيت بالجنة، وهذا غاية الكرم. واستقلال الكثير من نفسك- لأجل حبيبك- أقوى أمارات صحبتك. ويقال لما زهّدهم فى الدنيا قلّلها فى أعينهم ليهون (عليها «1» ) تركها. ويقال قل متاع الدنيا بجملتها قليل، والذي هو نصيبك منها أقلّ من القليل، فمتى يناقشك لأجلها (بالتخليل) «2» ، لو سلم عهدك من التبديل؟ وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخسّ من الخسيس من رضى بالخسيس بدلا عن النفيس. وقد اختلع المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولا: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ» (فأحفظهم) «3» عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 78] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) .   (1) الضمير فى (عليها) يعود على أعينهم، وربما كانت فى الأصل (عليهم) فيعود الضمير على الزهاد. [ ..... ] (2) نرجح أنها فى الأصل (التحليل) إشارة إلى قوله (ص) حلالها حساب وحرامها عقاب. (3) نرجح أنها فى الأصل (فاختطفهم) عن الدنيا بالعقبى ثم سلبهم ... فهذا أقرب إلى مراحل تدرج الفناء الصوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الموت فرح للمؤمن، فالخبر عن قربه بشارة له، لأنه سبب يوصله إلى الحق، ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه. ويقال إذا كان الموت لا بد منه فالاستسلام لحكمه طوعا خير من أن يحمل كرها. ثم أخبر أنهم- لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم- إذا أصابتهم حسنة فرحوا بها، وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئة لم يهتدوا إلى الله فجرى فيهم العرق المجوسىّ «1» فأضافوه «2» إلى المخلوق، فردّ عليهم وقال: قل لهم يا محمد كلّ من عند الله خلقا وإبداعا، وإنشاء واختراعا، وتقديرا وتيسيرا. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 79] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) ما أصابك من حسنة فمن الله فضلا، وما أصابك من سيئة فمن نفسك كسبا وكلاهما من الله سبحانه خلقا «3» قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 80] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) هذه الآية تشير إلى الجمع لحال الرسول- صلّى الله عليه وسلّم، فقال سبحانه طاعته طاعتنا، فمن تقرّب منه تقرّب منا، ومقبوله مقبولنا، ومردوده مردودنا. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 81] وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)   (1) لعل القشيري يقصد بذلك إلى أنهم بنسبتهم شيئا لغير الله يشركون، وينأون عن التوحيد. (2) أخطأ الناسخ فنقلها (فاذاقوه) فصوبناها بما يلائم السياق. (3) هذا تلخيص دقيق لرأى القشيري فيما يصيب العباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 يعنى إذا حضروك «1» استسلموا فى مشاهدتك، فإذا خرجوا انقطع عنهم نور إقبالك، فعادوا إلى ظلمات، كما قالوا: إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسة قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) تدبر إشارة المعاني بغوص الأفكار، واستخراج جواهر المعاني بدقائق الاستنباط. قوله: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ ... : لمّا كانوا غافلين عن الحق لم يكن لهم من ينقل إليه أسرارهم فأظهروا السرّ بعضهم لبعض. فأمّا المؤمنون فعالم أسرارهم مولاهم، وما يسنح لهم خاطبوه فيه فلم يحتاجوا إلى إذاعة السّر لمخلوق فسامع نجواهم الله، وعالم خطابهم الله. قوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ... » أي لو بثّوا «2»   (1) أخطأ الناسخ فنقلها (حقروك) فصوبناها بما يلائم السياق. (2) كتبها الناسخ (ثبوا) فصوبناها بما يلائم السياق: (بثوا أسرارهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أسرارهم عند من هو ( .... ) «1» ومن هو من أهل القصد لأزالوا عنهم الإشكال، وأمدوهم بنور الهداية والإرشاد «2» . «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ» مع أوليائه لهاموا فى كل واد من التفرقة كأشكالهم فى الوقت. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) استقم معنا بتسليم الكلّ منك إلى أمرنا فإنّك- كما لا يقارنك أحد فى رتبتك لعلوّك على الكل- فنحن لا نكلّف غيرك بمثل ما تكلفت، ولا نحمّل غيرك ما تحملت لانفرادك عن أشكالك فى القدوة «3» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) الشفيع يخلّص للمشفوع له حاله. ويستوجب الشفيع- من الله سبحانه على شفاعته- عظيم الرتبة، ومن سعى فى أمرنا بالفساد تحمّل الوزر واحتقب الإثم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 86] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)   (1) مشتبهة، وما بعدها قد يكفى عنها. (2) فى هذا الخصوص بحث القشيري فى إحدى وصاياه على ألا يقضى المريد بذات نفسه إلا لأوباب الطريقة من الشيوخ إذ يقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب غير هذه الطريقة. فحجج أهلها- فى مسائلهم- أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب، والذي للناس غيب فهو لهم ظهور فهم من أهل الوصال، والناس أهل استدلال الرسالة ص 197، 198. (3) لا نستبعد أيضا أنها فى الأصل (القدرة) لتلائم التكليف والتحمل والمعنى يتقبل (القدوة) و (القدرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة. وإن من حمّلك فضلا صار ذلك- فى ذمتك- له قرضا، فإمّا زدت على فعله وإلّا فلا تنقص عن مثله. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 87] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) هذا الخطاب يتضمن نفيا وإثباتا فالنفى يعود إلى الأغيار ويستحيل لغيره ما نفاه، والإثبات له بالإلهية ويستحيل له النفي فيما أثبته. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) ( .... ) «1» العهد فيهم أنهم أعدائى، لا ينالون منّى فى الدنيا والعقبى رضائى، وإنكم لا تنقذون بهممكم من أقمته بقسمتي «2» فإن المدار على القسم دون ( .... ) «3» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 90] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)   (1) مشتبهة. (2) أي ما قسمته له فى سابق الآزال لا قدرة لمخلوق على تغييره. (3) سقطت كلمة من الناسخ ربما كانت (الاحتيال) وربما كانت (الهمم) فكلاهما يفيد أنه لا منجاة لإنسان بعمله وحده بل المدار على القسمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الإشارة إلى أرباب التخليط والأحوال السقيمة يتمنون أن يكون الصديقون منهم، وهيهات أن يكون لمناهم تحقيق! ومادام المخالفون لكم غير موافقين فبائنوهم وخالفوهم ولا تطابقوهم بحال، ولا تعاشروهم، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا وموافق لك فى قصدك خير لك من مخالف على الكره تعاشره. قوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ... الإشارة من هذه الآية أن عند الاعذار أذن فى معاشرة فى الظاهر «1» رفقا بالمستضعفين. «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ... » الإشارة منه أنه إذا عاشركم من ليس من أهل القصة معرجين فى أوطان نصيبهم فلا تدعوهم إلى طريقتكم وسلّموا لهم أحوالهم. فإن أمكنكم أن تلاحظوهم بعين الرحمة بحيث تؤثر فيهم همتكم «2» وإلا فسلّموا لهم أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)   (1) أي أن الصحبة والمعاشرة ينبغى ألا يصل أمرهما الى حد المساكنة، لأن صحبة الحق أولى من كل غير ... وهذا مبدأ نادى به القشيري وطبقه على نفسه إبان محنته الأليمة. [ ..... ] (2) وردت (همتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن المعنى يتطلب (همتكم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 إن من رام الجمع بين الضدين خاب سعيه، ولم يرتفع عزمه، فكما لا يكون شخص واحد منافقا ومسلما لا يكون شخص واحد مريدا للحق ومقيما على أحكام أهل العادة. فإن الإرادة والعادة ضدان «1» ، والواجب مباينة الأضداد، ومجانبة الأجانب. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) خفف أمر الخطأ على فاعله حتى حمّل موجب قتل الخطأ على العاقلة فالخواص عاقلة المستضعفين من الأمة، وأهل المعرفة عاقلة المريدين، والشيوخ عاقلة الفقراء فسبيلهم أن يحملوا أثقال المستضعفين فيما ينوبهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) كما يحرّم قتل غيرك عليك يحرّم قتل نفسك عليك، ومن اتّبع هواه سعى فى دم نفسه، ومن لم ينصح مريدا بحسن وعظه ولم يعنه بهمته فقد سعى فى دمه، وهو مأخوذ بحاله   (1) الناس- عند القشيري- إما أهل العادة أو أهل الإرادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وخليق «1» بأن تكون له عقوبة الأذية بألا يتمتع بما ضنّ به على المريدين من أحواله: ولقد قال- سبحانه-: يا داود إذا رأيت لى طالبا فكن له (خادما) «2» قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) «3» عاشروا الناس على ما يظهرون من أحوالهم، ولا تتفرّسوا فيهم بالبطلان فإنّ متولّى الأسرار الله «4» . هذا إذا كان غرض فاسد يحملكم عليه من أحكام النّفس، فأمّا من كان نظره بالله ولم ينستر عليه شىء فليحفظ سرّ الله فيما كوشف به، ولا يظهر لصاحبه ما أراد الله فيه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)   (1) وردت (وحقيقة بأن) وصوابها وحقيق بان ولكننا آثرنا (وخليق بأن) حتى يمتنع اللبس. (2) مشتبهة هنا ولكنها واضحة فى موضع سبق (انظر تفسير آية وأنبتها نباتا حسنا ص 237 (3) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها. (4) تدل هذه النظرة على سماحة الصوفية واتساع صدورهم، فالأصل عندهم أن كل الناس طيبون، ويجب أن تحسن الظن بهم جميعا، ونتقبل ظواهرهم تاركين أسرارهم للمولى سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الحقّ سبحانه جمع جميع أوليائه فى أفضاله لكنه غابر بينهم فى الدرجات، فمن غنيّ ومن عبد هو أغنى منه «1» ، ومن كبير ومن هو أكبر منه، هذه الكواكب درّية ولكن القمر فوقها، وإذا طلعت الشمس بهرت الجميع بنورها! قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 97] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) الإشارة منه إلى من أدركه الأجل وهو فى أسر نفسه وفى رقّ شهواته- ليس له عذر حيث لم يهاجر إلى ظلّ قربته ليتخلّص من هوى نفسه «2» إذ لا حجاب بينك وبين هذا الحديث إلا هواك. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 98 الى 99] إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) الإشارة منه إلى الذين ملكتهم المعاني فأفنتهم عنهم، فبقوا مصرّفين له، لا لهم حول ولا قوة، يبدو عليهم ما يجريه- سبحانه- عليهم، فهم بعد عود نفوسهم بحق الحقّ محو عنهم، فلا يهتدون إلى غيره سبيلا، ولا يتنفّسون لغيره نفسا.   (1) واضح أن القشيري يقصد الغنى فى الأحوال لا الغنى فى الأموال فليس لهذه كبير قيمة. (2) وردت هكذا (هوى نفسه) فصوبناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ويقال على موجب ظاهر الآية إن الذين أقعدتهم الأعذار عن الاختيار فعسى أن يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بالعفو. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) من هاجر فى الله عما سوى الله، وصحح قصده إلى الله وجد فسحة فى عفوة الكرم، ومقيلا فى ذرى القبول، وحياة وسعة فى كنف القرب. والمهاجر- فى الحقيقة- من هجر نفسه وهواه، ولا يصحّ ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته، ومن قصده ثم أدركه الأجل قبل وصوله فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محطّ روحه إلا أوطان قربه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) القصر فى الصلاة سنّة فى السفر، وكان فى ابتداء الشرع عند الخوف «1» ، فأقرّ ذلك مع زوال الخوف رفقا بالعباد، فلما دخل الفرض القصر لأجل السفر عوضوا بإباحة النّفل فى السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي ليعلم أنّ الإذن   (1) لأن فى مبدا الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو فى سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ... ويرى ابن عمر أن هناك فرقا بين صلاة السفر وصلاة الخوف، وهو يحتج على قصر الصلاة فى السفر ويراه فى صلاة الخوف. (تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 546) لابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فى المناجاة مستديم فى كل وقت فإن أردت الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصا فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سنّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) تدل هذه الآية على أن الصلاة لا ترتفع عن العبد مادام فيه نفس من الاختيار لا فى الخوف ولا فى الأمن، ولا عند غلبات أحكام الشرع إذا كنت بوصف التفرقة، ولا عند استيلاء سلطان الحقيقة إذا كنت بعين الجمع: قوله جلّ ذكره: [سورة النساء (4) : آية 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) الوظائف الظاهرة موقته «1» ، وحضور القلب بالذكر مسرمد غير منقطع أمّا بالرسوم   (1) أي حسب ميقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فوقتا دون وقت، وأمّا بالقلوب فإياكم والغيبة عن الحقيقة لحظة كيفما اختلفت بكم الأحوال.. الذكر كيفما كنتم وكما كنتم، وأما الصلاة فإذا اطمأننتم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) : قوموا بالله وليكن «1» استنادكم فى جهادكم إلى الله. «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ» : القوم شاركوكم فى إحساس الألم، ولكن خالفوكم فى شهود القلب، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون، فلا ينبغى أن تستأخروا عنهم فى الجد والجهد. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) «2» لم يأمرك «3» بالحكم بينهم على عمّى ولكن بما أراك الله «4» أي كاشفك به من أنوار البصيرة حتى وقفت عليه بتعريفنا إياك وتسديدنا لك، وكذلك من يحكم بالحق من أمتك. قوله: «وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» : أي لا تناضل عن أرباب الحظوظ ولكن مع   (1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (ولا يكن) . (2) أخطأ الناسخ إذ كتبها واستغفروا. (3) وردت (لم يأمركم) والصواب (لم يأمرك) لأن الخطاب كله موجه إلى الرسول (ص) . (4) يحتج من ذهب من علماء الأصول بهذه الآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له أن يحكم بالاجتهاد، وفيما رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد عن رجلين من الأنصار اختصما إلى الرسول (ص) فى مواريث بينهما قد درست وليس عندهما بينة.. ينتهى الحديث على النحو التالي. «إنى إنما أقضى بينكما يرأى فيما لم ينزل علىّ فيه» . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أبناء الحقوق، ومن جنح إلى الهوى خان فيما أودع نفسه من التقوى، ومن ركن إلى أنواع نوزاع المنى خان فيما طولب به من الحياء لاطلاع المولى «1» . وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لأمتك فإنا قد كفيناك حديثك بقولنا: ليغفر لك الله نما تقدم من ذنبك. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 108] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هم المؤثرون حظوظهم على حقوقه، والراضون بالتعريج فى أوطان هواهم دون النقلة إلى منازل الرضا، إن الله لا يحب أهل الخيانة فيذلهم- لا جرم- ولا يكرمهم. قوله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ الغالب على قلوبهم رؤية الخلق ولا يشعرون أنّ الحق مطّلع على قلوبهم أولئك الذين وسم الله قلوبهم بوسم الفرقة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 109] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) أي ندفع عنهم- بحرمتك- لأنك فيهم، فكيف حالهم يوم القيامة إذ زالت عنهم بركاتكم أيها المؤمنون؟!   (1) (يقال إن سبب نزول هذه الآية أن رجلا شكا أن طعمة بن أبيرق سرق درعه، فلما رأى السارق ذلك ألقى الدرع فى بيت رجل برىء، وقال لنفر من عشيرته إنى غيبت الدرع فى بيت فلان، فانطلقوا إلى النبي (ص) ليلا فقالوا: يا نبىّ الله إن صاحبنا برىء. وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله (ص) فبراه وعذره على رءوس الناس، فأنزل الله هذه الآية) وقد حرصنا على إثبات سبب نزولها لأن ما بعدها من الآي مرتبط بهذه الواقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 110] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) «ثُمَّ» : حرف يدل على التراخي أي يزجون «1» عمرهم فى البطالات والمخالفات ثم فى آخر أعمارهم يستغفرون الله. وقوله «يَجِدِ اللَّهَ» : الوجود غاية الحديث «2» ، والعاصي لا يطلب غير الغفران، ولكن الله- سبحانه يوصله إلى النهاية بفضله- إذا شاء، فسنّته تحقيق ما فوق المأمول لمن رجاه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 111] وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) الحقّ غنيّ عن طاعة المطيعين، وزلة «3» العاصين، فمن أطاع فحظّه حصّل، ومن عصى فحظه أخذ. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 112] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) من نسب إلى برىء ما هو صفته من المخازي عكس الله عليه الحال، وألبس ذلك البريء ثواب محاسن راميه، وسحب ذيل العفو على مساويه، وقلب الحال على المتعدّى بما يفضحه بين أشكاله، فى عامة أحواله. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 113] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)   (1) وردت (يرجون) بالراء والصواب بالزاي. (2) (التواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة، وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: التواجد يوجد استيعاب العبد، والوجد يوجب استغراق العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد فهو كمن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق فى البحر) الرسالة ص 37. (3) وردت (ذلة) بالذال والصواب أن تكون بالزاي لأن المناسب للسياق لفظ ضد الطاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الفضل إحسان غير مستحق «1» ، والإشارة هاهنا- من الفضل- إلى عصمته إياه، فالحقّ- سبحانه- عصمه تخصيصا له بتلك العصمة، وكما عصمه عن ترك حقه- سبحانه- عصمه بأن كفّ عنه كيد خلقه فقال: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ..» الآية. كلّا، لن يكون لأحد سبيل إلى إضلالك فأنت فى قبضة العزة، وما يضلّون إلا أنفسهم، وما يضرونك بشىء، إذ المحفوظ منا محروس عن كل غير، وإنّ الله سبحانه قد اختصك بإنزال الكتاب، واستخلصك بوجوه الاختصاص والإيجاب، وعلّمك ما لم تكن تعلم، ولم يمن عليك بشىء بمثل ما منّ به على من خصّه به من العلم. ويحتمل أنه أراد به علمه- صلّى الله عليه- بالله بجلاله، وعلمه بعبودية نفسه، ومقدار حاله فى استحقاق عزّه وجماله. ويقال علّمك ما لم تكن تعلم من آداب الخدمة إذ لم تكن ملتبسا عليك معرفة الحقيقة. ويقال أغناك عن تعليم الأغيار حتى لا يكون لأحد نور إلا مقتبسا من نورك، ومن لم يمش تحت رايتك لا يصل إلى جميع برّنا، ولا يحظى بقربنا ووصلنا. «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» : فى الآباد أنّك كنت- لنا بشرف العز وكرم الربوبية فى الآزال- معلوما. ويقال وعلّمك ما لم تكن تعلم من علوّ رتبتك على الكافة. ويقال «عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» أنّ أحدا لا يقدّر قدرنا إلا بمقدار موافقته لأمرنا قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 114] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)   (1) لأن الفضل معناه الزيادة، فربما يرمى القشيري إلى أنه غير مستحق بسبب ذلك لأنه يفوق المستحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبه إلى غيره ففضيلة الصدقة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه، والفتوة أن يكون سعيك لغيرك، ففى الخبر: «شرّ الناس من أكل وحده» وكلّ أصناف الإحسان ينطبق عليها لفظ الصدقة. قال صلّى الله عليه وسلّم فى قصر الصلاة فى السفر: «هذه صدقة تصدّقها الله عليكم فاقبلوا صدقته» «1» والصدقة على أقسام: صدقتك على نفسك، وصدقتك على غيرك فأمّا صدقتك (على نفسك فحملها على أداء حقوقه تعالى، ومنعها عن مخالفة أمره، وقصر يدها عن أذية الخلق، وصون خواطرها وعقائدها عن السوء. وأمّا صدقتك) «2» على الغير فصدقة بالمال وصدقة بالقلب وصدقة بالبدن. فصدقة بالمال بإنفاق النعمة، وصدقة بالبدن بالقيام بالخدمة، وصدقة بالقلب بحسن النية وتوكيد الهمة. والصدقة على الفقراء ظاهرة لا إشكال فيها، أمّا الصدقة على الأغنياء فتكون بأن تجود عليهم بهم، فتقطع رجاءك عنهم فلا تطمع فيهم. وأمّا المعروف: فكلّ حسن فى الشرع فهو معروف، ومن ذلك إنجاد المسلمين وإسعادهم فيما لهم فيه قربة إلى الله، وزلفى عنده، وإعلاء النواصي بالطاعة.   (1) هكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى عمار. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال على بن المديني هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر بن الخطاب، ولا يحفظ الا من هذا الوجه ورجاله معروفون. (2) ما بين القوسين استدراك فى الهامش وضعناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ومن تصدّق بنفسه على طاعة ربه، وتصدّق بقلبه على الرضا بحكمه، ولم يخرج بالانتقام لنفسه، وحثّ الناس على ما فيه نجاتهم بالهداية إلى ربه، وأصلح بين الناس بصدقه فى حاله- فإنّ لسان فعله أبلغ فى الوعظ من لسان نطقه، فهو الصّديق فى وقته. ومن لم يؤدّب نفسه لم يتأدب به غيره، وكذلك من لم يهذّب حاله لم يتهذّب به غيره. «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» غير سائل به مالا أو حائز لنفسه به حالا فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة فى طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود فى هذه الآية «1» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 115] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) خواطر الحق سفراؤه تعالى إلى العبد، فمن خالف إشارات ما طولب به من طريق الباطن استوجب عقوبات القلوب، ومنها أن يعمى عن إبصار رشده. وكما أن مخالف الإجماع عن الدين خارج فمخالف ما عرف من الحقيقة بعد ما تبين له الطريق- ساقط. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 116] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)   (1) نلاحظ فى هذه الفقرة أن القشيري يوجه- بطريق غير مباشر- لومه إلى بعض الوعاظ المحترقين الذين ظهروا فى عصره وقبل عصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قوله [سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 120] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) : إثبات الغير فى توهم ذرة من الإبداع عين الشرك، فلا للعفو فيه مساغ. وما دون الشرك فللعفو فيه مساغ، ومن توسّل إليه سبحانه بما توهّم من نفسه فقد أشرك من حيث لم يعلم. كلّا، بل هو الله الواحد. قوله: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ: أوقعوا على الجمادات تسميات «1» ، وانخرطوا فى سلك التوهم، وركنوا إلى مغاليط الحسبان، فضلّوا عن الحقيقة. «وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ» ، أي ما يدعون إلا إبليس الذي أبعده الحقّ عن رحمته، وأسحقه «2» ببعده، وما إبليس إلا مقلّب فى القبضة على ما يريده المنشئ، ولو كان به ذرة من الإثبات لكان به شريكا فى الإلهية. كلّا، إنما يجرى الحقّ- سبحانه- على الخلق أحوالا، ويخلق «3» عقيب وساوسه للخلق ضلالا، فهو الهادي والمضل، وهو- سبحانه- المصرّف للكل، فيخلق ( .... ) «4» فى قلوبهم عقيب وساوسه إليهم طول الآمال، ويحسّن فى أعينهم قبيح الأعمال، ثم لا يجعل لأمانيّهم تحقيقا، ولا يعقب لما أمّلوه تصديقا، فهو تعالى موجد تلك الآثار جملة، ويضيفها إلى الشيطان مرة، وإلى الكافر مرة، وهذا معنى قوله: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ» ... الآية ومعنى قوله تعالى «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 121] أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) .   (1) واضح من كلام القشيري أنه يفهم الإناث على أنها الأوثان، وهكذا عن عائشة. وروى عن بعض الصحابة أنها الملائكة إشارة إلى قوله تعالى فى موضع آخر (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) . وعن الحسن: الإناث كل شىء ميت ليس فيه روح. (2) فى النسخة ص (استحقه) وهى خطأ فى النسخ. (3) يؤكد القشيري نسبة خلق كل شىء لله، وتجريد الشيطان من كل سلطان. (4) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الذين قسم لهم الضلالة فى الحال حكم عليهم بالعقوبة فى المآل «1» ، ولولا أنه أظهر ما أظهر بقدرته وإلا متى كانت شظية من الضلالة والهداية لأربابها؟! والوقوف على صدق التوحيد عزيز، وأرباب التوحيد قليل. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 122] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) الذين أسعدناهم حكما وقولا، أنجدناهم حين أوجدناهم كرما وطولا، ثم إنّا نحقّق لهم الموعود من الثواب، بما نكرمهم به من حسن المآب. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 124] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) من زرع الحنظل لم يجتن الورد والعبهر «2» ، ومن شرب السّمّ الزّعاف لم يجد طعم العسل، كذلك من ضيّع حقّ الخدمة لم يستمكن على بساط القربة، ومن وسم بالشّقوة لم يرزق الصفوة، ومن نفته القضية «3» فلا ناصر له من البريّة. قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ .... الآية. من تعنّي فى خدمتنا لم يبق عن نيل   (1) وردت (المال) وصوابها (المآل) . (2) العبهر- الياسمين وقيل النرجس (لسان العرب ج 20 ص 536) ط بيروت. [ ..... ] (3) القضية مقصود بها القضاء، قضاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 نعمتنا، بل من أغنيناه «1» فى طلبنا أكرمناه بوجودنا، بل من جرّعناه كأس اشتياقنا أنلناه أنس لقائنا. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 125] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله يعنى أفرد قصده إلى الله، وأخلص عقده لله عما سوى الله، ثم استسلم فى عموم أحواله لله بالله، ولم يدّخر شيئا عن الله لا من ماله ولا من جسده، ولا من روحه ولا من جلده، ولا من أهله ولا من ولده، وكذلك كان حال إبراهيم عليه السّلام. وقوله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» : الإحسان- بشهادة الشرع- أن تعبد الله كأنّك تراه، ولا بد للعبد من بقية «2» من عين الفرق حتى يصحّ قيامه بحقوقه- سبحانه- لأنه إذا حصل (مستوفى) «3» بالحقيقة لم يصح إسلامه ولا إحسانه، وهذا اتّباع إبراهيم عليه السّلام الحنيف الذي لم يبق منه شىء على وصف الدوام. وقوله «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» : جرّد الحديث عن كل سعى وكد وطلب وجهد حيث قال: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» فعلم أنّ الخلّة لبسة يلبسها الحقّ لا صفة يكتسبها العبد.   (1) ربما كانت (عنيناه) بالعين أي من احتمل العناء فى سبيلنا لتلائم (جرعناه كأس) أما (أغنيناه) بالغين فيكون معناها أوجدنا فيه الغناء عما سوانا. (2) أي لا بد أن يرد إلى القرق الثاني حتى يستطيع أن يقوم بالفرائض الواجبة عليه فى أوقاتها. (3) هكذا جاءت فى النسخة ص وربما كانت فى الأصل (مساس) بالحقيقة، فنحن نعرف عن مذهب القشيري فى هذا الخصوص أن العبد ينبغى أن يحافظ على الشريعة مهما كانت الظروف، وأي مساس بالشريعة بدعوى الاصطلام أو الفناء- فمردود، وهو آية تقص فى صدق صاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ويقال الخليل المحتاج «1» بالكلية إلى الحق فى كل نفس ليس له شىء منه بل هو بالله لله فى جميع أنفاسه وأحواله، اشتقاقا من الخلّة (التي هى الخصاصة وهى الحاجة) «2» . ويقال إنه من الخلة التي هى المحبة، والخلة أن تباشر المحبة جميع أجزائه، وتتخلل سرّه حتى لا يكون فيه مساغ للغير. فلمّا صفّاه الله- سبحانه- (عليه السّلام) عنه، وأخلاه منه نصبه للقيام بحقه بعد امتحائه «3» عن كل شىء ليس الله سبحانه. ثم قال: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا .... » «4» : لا يلبى الحاج إلا لله، وهذه إشارة إلى جمع الجمع «5» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) نهاهم عن الطمع الذي يحملهم على الحيف والظلم على المستضعفين من النّسوان واليتامى، وبيّن أنّ المنتقم به لهم الله، فمن راقب الله فيهم لم يخسر على الله بل يجد جميل الجزاء، ومن تجاسر عليهم قاسى لذلك أليم البلاء.   (1) يشير القشيري بذلك إلى محاولة فريق من المعتزلة صرف الخلة عن كل ما يتطرق إليها من دلالة حسبة، والتماسهم ذلك فى الشعر القديم وقد نبهنا إلى ذلك فى هامش سبق. (2) هذه العبارة مكررة خطأ من الناسخ. (3) وردت (بعد امتحانه) بالنون وقد صوبناها إلى (امتحائه) أي بعد وصوله إلى المحو. (4) آية 27 سورة الحج (5) وردت (جميع الجمع) والصواب (جمع الجمع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 128] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) صحبة الخلق بعضهم مع بعض إن تجردت عن حديث الحق فإنها تتعرض للوحشة والملامة، وممازجة النفرة والسآمة. فمن أعرض عن الله بقلبه أعرض الخلق عن مراعاة حقه، وخرج الكافة عليه باستصغار أمره واستحقار قدره. ومن رجع إلى الله بقلبه، استوى له- فى الجملة والتفصيل- أمره، واتسع «1» لاحتمال ما يستقبل من سوء خلق الخلق صدره فهو يسحب «2» ذيل العفو على هنات جميعهم، ويؤثر الصلح بترك نصيبه وتسليم نصيبهم قال الله تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» . واتضاعك فى نفسك عن منافرة من يخاصمك أجدى عليك، وأخرى لك من تطاولك على خصمك باغيا الانتقام، وشهود مالك فى مزية المقام. وأكثر المنافقين فى أسر هذه المحنة. قوله تعالى: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ... » : وشحّ النفس قيام العبد بحظّه. فلا محالة من حجب عن شهود الحق ردّ إلى شهود النّفس. قوله تعالى: «وَإِنْ تُحْسِنُوا» : يعنى يكن ذلك خيرا لكم. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. «وَتَتَّقُوا» : يعنى عن رؤيتكم مقام أنفسكم، وشهود قدركم، يعنى وأن تروا ربّكم، وتفنوا برؤيته عن رؤية قدركم.   (1) وردت (والتسع) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (ويستحب) وهى خطأ النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» : يعنى إذا فنيتم عنكم وعن عملكم، فكفى بالله عليما بعد فنائكم، وكفى به موجدا عقب امتحائكم «1» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 129] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) «2» يعنى أنّكم إذا ( .... ) «3» فى أموركم انعكس الحال عليكم، وانعكس صلاح ذات بينكم فسادا لكم، فإذا قمتم بالله فى أموركم استوى العيش لكم، وصفا عن الكدر وقتكم. ويقال من حكم الله بنقصان عقله فى حاله «4» فلا تقتدرون أن تجبروا نقصانهم بكفايتكم. قوله تعالى «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» : يعنى لا تزيغوا عن نهج الأمر. قفوا حيثما وقفتم، وأنفذوا فيما أمرتم. وقوله: «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» يعنى أنكم إذا منعتموهن عن صحبة أغياركم ثم قطعتم عنهن ما هو حظوظهن منكم أضررتم بهن من الوجهين لا منكم نصيب، ولا إلى غيركم سبيل، وإن هذا الحيف عظيم. والإشارة «5» من هذا أنه إذا انسد عليك طريق حظوظك فتح- سبحانه- عليك شهود حقه، ووجود لطفه فإنّ من كان فى الله تلفه فالحق- سبحانه- خلفه، وإن تصلحوا ما بينكم وبين الخلق، وتثقوا فيما بينكم وبين الحق فإن الله غفور لعيوبكم، رحيم بالعفو عن ذنوبكم.   (1) وردت (امتحانكم) وهى خطأ فى النسخ فالامتحاء يرادف الفناء. (2) وردت (وان) وهى خطأ في النسخ. (3) مشتبهة، ونرجح أنها كلمة تساوى فى المعنى (قمتم بأنفسكم) لتقابل ما جاء بعد (فإذا قمتم بالله) . [ ..... ] (4) يشير القشيري بذلك الى النساء. (5) أسلوب القشيري في هذه الإشارة فى حاجة منا الى وعى وتيقظ، فالحظوظ للعبد، والحقوق للحق، والشهود للحق والوجود يكون للطف. والمغفرة- بمعنى التغطية- تكون للعيب، والعفو- الإزالة- يكون للذنب والعيب قد يبقى مغطى ولكن الذنب يزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 130] وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) الصحبة التي لا بدّ منها صحبة القلب مع دوام افتقار إلى الله إذ الحقّ لا بدّ منه. فأمّا الأغيار فلا حاجة لبعضهم إلى بعض إلا من حيث الظاهر، وذلك فى ظنون أصحاب التفرقة، فأمّا أهل التحقيق فلا تجرية لهم أن حاجة الخلق بجملتها إلى الله سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 131] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) كلّف الكافة بالرجوع إليه، ومجانبة من سواه، والوقوف على أمره، ولكن فريقا وفّق وفريقا خذل. ثم عرّف أهل التحقيق أنه غنىّ عن طاعة كلّ ولىّ، وبرىء عن «1» زلة «2» كل غوىّ. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 132] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) قطع الأسرار عن التّعلّق بالأغيار بأن عرّفهم انفراده بملك ما فى السموات والأرض، ثم أطمعهم فى حسن تولّيه، وقيامه بما يحتاجون إليه بجميل اللطف وحسن الكفاية بقوله: «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» يصلح يملك حالك ولا يختزل مالك. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 133] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) .   (1) قبل (عن) واو زائدة فحذفناها (2) وردت (ذلة) بالذال والصواب أن تكون هنا بالزاي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 من استغنى عنه فى آزاله فلا حاجة له إليه فى آباده. ويقال لا يحتاج إلى أحد والعبد لا يستغنى عنه فى نفس. ويقال لا نهاية للمقدورات فإن لم يكن عمرو فزيد، وإن لم يكن عبد فعبيد، والذي لا بدل عنه ولا خلف فهو الواحد الأحد. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 134] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) لمّا علّقوا قلوبهم بالعاجل من الدنيا ذكّرهم حديث الآخرة، فقال «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» تعريفا لهم أنّ فوق هممهم من هذه الخسيسة «1» ما هو أعلى منها من نعيم الآخرة، فلمّا سمت إلى الآخرة قصودهم قطعهم عن كل مرسوم «2» ومخلوق بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» «3» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) .   (1) يقصد الدنيا بهذا الوصف. (2) الرسم- كما يقول أبو نصر السراج فى لمعه- هو ما رسم به ظاهر الخلق برسم العلم ورسم الخلق فيمتحى بإظهار سلطان الحق عليه. سئل الجنيد عن رجل غاب اسمه وذهب وصفه وامتحى رسمه فقال: نعم عند مشاهدته قيام الحق له بنفسه لنفسه فى ملكه، فيكون ذلك معنى قوله امتحى رسومه يعنى علمه وفعله المضاف إليه بنظره إلى قيام الله له فى قيامه (اللمع ص 427) . (3) آية 73 سورة طه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 القسط العدل، والقيام بالله العدل بإيفاء حقوقه من نفسك، واستيفاء حقوقه من كلّ من هو لك عليه أمر، وإلى تحصيل ذلك الحق سبيل إمّا أمر بمعروف أو زجر عن مكروه أو وعظ بنصح أو إرشاد إلى شرع أو هداية إلى حق. ومن بقي لله عليه حق لم يباشر خلاصة التحقيق سره لله. وأصل الدّين «1» إيثار حق الحق على حق الخلق، فمن آثر على الله- سبحانه أحدا إمّا والدا أو أمّا أو ولدا أو قريبا أو نسيبا، أو ادّخر عنه نصيبا فهو بمعزل عن القيام بالقسط. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) يا أيها الذين آمنوا من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث الكشف والعيان. ويقال يا أيها الذين آمنوا تصديقا آمنوا تحقيقا بأن نجاتكم بفضله لا بإيمانكم. ويقال يا أيها الذين آمنوا فى الحال آمنوا باستدامة الإيمان إلى المآل «2» ويقال يا أيها الذين آمنوا آمنوا وراء كل وصل وفصل «3» ووجد وفقد.   (1) بهذا نستطيع أن نجد صلة رحم بين لفظتى (الدّين) و (الدّين) إذ يكون لكل منهما ارتباط- على نحو ما- بالحق وصاحب الحق. (2) وردت (المال) وهى خطأ فى النسخ، فالمقصود بالحال: الدنيا، والمآل: العقبى (3) الوصل معناه لحوق الغائب. وقال يحيى بن معاذ: «من لم يعمّ عينيه عن النظر إلى ما تحت العرش لم يصل إلى ما فوق العرش» . يعنى لم يلحق ما فاته من مراقبة الذي خلق العرش. وقال الشبلي: من زعم أنه واصل فليس له حاصل. والفصل فوت الشيء المرجو من المحبوب. قال بعضهم فرح الاتصال ممزوج بترح الانفصال (اللمع ص 433) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ويقال يا أيها الذين آمنوا باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا أنختم بعقوة الوصول، واستمكنت منكم حيره البديهة «1» وغلبات الذهول «2» ثم أفقتم عن تلك الغيبة فآمنوا أن الذي كان غالبا عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات «3» فإن الصمدية منزهة متقدسة عن كل قرب وبعد، ووصل وفصل. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 138] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الذين تبدّلت بهم الأحوال فقاموا وسقطوا ثم انتعشوا ثم ختم بالسوء أحوالهم، أولئك الذين قصمتهم «4» سطوة العزة حكما، وأدركتهم شقاوة القسمة خاتمة وحالا- فالحقّ سبحانه لا يهديهم لقصد، ولا يدلهم على رشد، فبشّرهم بالفرقة الأبدية، وأخبرهم بالعقوبة السرمدية. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 139 الى 140] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)   (1) الحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم تحجبهم عن التأمل والفكرة، وقال الواسطي: حيرة البديهة أجل من سكون التولي عن الحيرة (اللمع ص 421) . (2) الغلبات عند قوة الرغبة والانفلات من دواعى الهوى والنفوس، عند قوة رغبة الطالب إذا لاح له أعلام المزيد فى حال طلبه المطلوب، فلو ظن أن مطلوبه وراء بحر سبحه أو فى تيه سلكه بالهجوم عند غلبات الإرادة وقوة سلطان المطالبة عليه (اللمع ص 417) . (3) هذا تنبيه هام وخطير يدحض به المضللين والأدعياء، أولئك الذين شن عليهم القشيري هجومه العنيف فى مستهل «رسالته» والذين أساءوا إلى التصوف وأهله. (4) القصم: الكسر. حكى عن الزقاق أنه قال: لو أن المعاصي كانت شيئا اخترته لنفسى ما أجزتنى ذلك لأن ذلك يشيهنى، وإنما قصم ظهرى حين سبق لى منه ذلك. (اللمع ص 434) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 من اعتصم بمخلوق فقد التجأ إلى غير مجير، واستند إلى غير كهف، وسقط فى مهواة من الغلط بعيد قعرها، شديد مكرها. أيبتغون العزّ عند الذي أصابه ذل التكوين؟! متى يكون له عزّ على التحقيق؟ ومن لا عزّ له يلزمه فكيف يكون له عز يتعدّى إلى غيره؟ ويقال لا ندرى أي حالتهم أقبح: طلب العز وهم فى ذل القهر وأسر القبضة أم حسبان ذلك وتوهمه من غير الله؟ ويقال من طلب الشيء من غير وجهه فالإخفاق «1» غاية جهده، ومن رام الغنى «2» فى مواطن الفاقة فالإملاق قصارى كدّه. ويقال لو هدوا بوجدان العزّ لما صرفت قصودهم إلى من ليس بيده شىء من الأمر. قوله: «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» العزّ على قسمين: عزّ قديم فهو لله وصفا، وعزّ حادث يختص به سبحانه من يشاء فهو له- تعالى- ملكا ومنه لطفا «3» . قوله وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ .... الآية: لا تجاوروا أرباب الوحشة فإن ظلمات أنفسهم تتعدى إلى قلوبكم عند استنشاقكم ما يردّون من أنفاسهم، فمن كان بوصف ما متحققا شاركه حاضروه فيه فجليس من هو فى أنس مستأنس «4» ، وجليس من هو فى ظلمة مستوحش. ويقال هجران أعداء الحقّ فرض، ومخالفة الأضداد ومفارقتهم دين، والركون إلى أصحاب الغفلة قرع باب الفرقة.   (1) وردت (الأحقاف) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود الخيبة والإخفاق. (2) أخطأ الناسخ فكتبها بالألف هكذا: (الغنا) . (3) يتساءل القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» تحت اسم «العزيز» : فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» وقوله تعالى «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» ثم يجيب: لا تنافى بينهما فان العز الذي للرسول وللمؤمنين هو لله تعالى ملكا وخلقا، وعزه- سبحانه وتعالى- له وصفا، فاذا العز كله لله تعالى. (4) أخطأ الناسخ إذ كتبها (مستأنف) ولا معنى لها هنا والصواب (مستأنس) لتقابل (مستوحش) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 قوله: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» : أوضح برهان على سريرة ( .... ) «1» صحبة من يقارنه «2» وعشرة من يخادنه فالشكل مقيد بشكله، والفرع منتشر عن أصله. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 141] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) لمّا عدموا الإخلاص فى الحقيقة، وما ذقوا فيما استشعروا من العقيدة، امتازوا «3» عن المسلمين فى الحكم، وباينوا الكافرين فى الاسم، وواجب على أهل الحقّ التحرّز عنهم والتحفّظ منهم، ثم ضمن لهم- سبحانه- جميل الكفاية بقوله: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «4» وهذا على العموم فإن وبال كيدهم إليهم مصروف، وجزاء مكرهم عليهم موقوف، والحقّ- من قبل الحقّ سبحانه- منصور أهله، والباطل- بنصر الحقّ سبحانه- مجتث أصله. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)   (1) مشتبهة ولا بد أنها كلمة بمعنى (المرء) أو (الشخص) ... ونحوهما. (2) يقارنه هنا معناها أن يكون له قرين. (3) امتازوا هنا معناها افترقوا بعلامات مخصوصة. (4) قال على رضى الله عنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يوم القيامة حين يحكم الله بينهم، فلا يكون للكافرين سبيل إلى حجة. ويرى غيره أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا فى الدنيا فلن يستطيعوا عليهم نصرا بالكلية، ولكن قد يحصل لهم ظفر فى بعض الأحيان على بعض الناس ولكن العاقبة للمتقين فى الدنيا والآخرة. (ابن كثير ص 567) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 خداع المنافقين: إظهار الوفاق فى الطريقة واستشعار الشرك فى العقيدة. وخداع الحق إياهم: ما توهموه من الخلاص، وحكموا به لأنفسهم من استحقاق الاختصاص، فإذا كشف الغطاء أيقنوا أن الذي ظنّوه شرابا كان سرابا، قال تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «1» وقوله: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا .... » الآية: علامة النفاق وجود النشاط عند شهود الخلق، وفتور العزم عند فوات رؤية الخلق. وقوله: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ... » الآية: أخسّ الخلق من يدع «2» صدار العبودية، ولم يجد سبيلا إلى حقيقة الحرية «3» ، فلا له من العز شظية، ولا فى الغفلة عيشة هنية. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 144] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) .   (1) آية: 47 سورة الزمر. (2) وردت (تدع) والصواب (يدع) لأن الكلام ليس خطابا، ومعناها ترك. (3) حقيقة الحرية إشارة إلى نهاية التحقق بالعبودية لله تعالى، وهو ألا يملكك شىء من المكونات وغيرها، فتكون حرا إذا كنت لله عبدا، كما قال بشر الحافى لسرى السقطي رحمهما الله فيما حكى عنه أنه قال: إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك، لا تراء أهلك فى الحضر، ولا وفقتك فى السفر، اعمل لله، ودع الناس عنك. وقال الجنيد: آخر مقام العارف الحرية. وقال بعضهم: لا يكون العبد عبدا حقا ويكون لما سوى الله مسترقا (اللمع ص 450) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 كرّر «1» عليهم الوعظ، وأكّد بمباينة الأعداء عليهم الأمر، إبلاغا فى الإنذار، وتغليظا فى الزجر، وإلزاما للحجة ( .... ) «2» موضع العذر. قوله: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً» : توعّدهم على موالاتهم للكفار بما لم يتوعّد على غيره من المخالفات، لما فيه من إيثار الغير على المعبود وإيثار الغير على المحبوب من أعظم الكبائر فى أحكام الوداد. فإذا شغل من قلبه محلا- كان للمؤمنين- بالأغيار استوجب ذلك العقوبة فكيف إذا شغل محلا من قلبه- هو للحق- بالغير؟! والعقوبة التي توعّدهم بها أن يكلهم وما اختاروه من موالاة الكفار، وبئس البدل! كذلك من بقي (عن) «3» الحق تركه مع الخلق فيتضاعف عليه البلاء للبقاء عن الحق والبقاء مع الخلق، وكلاهما شديد من العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 145] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) دلّت الآية على أنّ المنافق ليس بمستأمن لأنّ الإيمان ما يوجب الأمان، فالمؤمن يتخلّص بإيمانه من النار، فما يكون سبب وقوعه فى الدرك الأسفل من النار لا يكون إيمانا، ويقال هذا تحقيق قوله: «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» أي مكره فوق كل مكر. لمّا أظهر المنافق ما هو مكر مع المؤمنين كانت عقوبتهم أشد من عقوبة من جاهر «4» بكفره. ويقال نقلهم «5» فى آجلهم «6» إلى أشد ما هم عليه فى عاجلهم، لما فى الخبر: «من كان   (1) نعرف من مذهب القشيري أنه لا يميل إلى القول بالتكرار في القرآن الكريم، ولعل أبسط نتائج هذا المذهب أنه لا يرى فى البسملة التي تأنى فى مستهل كل سورة بلفظها- أي شىء من التكرار، بل هى عنده متجددة بما يتلاءم والسورة، لأجل هذا تستوقفنا هنا كلمة: «كرر» ونتدبر الأسباب القوية التي أرجع إليها التكرار. (2) مشتبهة. (3) وردت (من) ولكن المعنى يرفضها قطعا ويؤيد (عن) خصوصا وقد جاءت (عن) فى العبارة التالية التي هى بمثابة نتيجه للجزء الأول من الكلام. [ ..... ] (4) وردت (جاهد) بالدال والصواب ان تكون (جاهر) بالراء فالمعنى يقتضى ذلك. (5) وردت هكذا (نقلهم) بنقطة محذوفة فوق الحرف الأول ثم ثلاث نقط فوق القاف وربما أراد الناسخ أن يحذف النقطة الثالثة فأخطا وحذف النقطة التي فوق النون. (6) وردت (أجلهم) والصواب (آجلهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 بحالة لقى الله بها» فالمنافق- اليوم- فى الدرك الأسفل من الحجر «1» فكذلك ينقلون إلى الدرك الأسفل من النار. والدرك الأسفل من الحجر- اليوم- لهم ما عليهم من اسم الإيمان وليس لهم من الله شظية وهذا هو البلاء الأكبر. ويقال استوجبوا الدرك الأسفل من النار لأنهم صحبوا اليوم اسم الله الأعظم لا على طريقة الحرمة. ويقال استوجبوا ذلك لأنهم أساءوا الأدب فى حال حضورهم بألسنتهم، وسوء الأدب يوجب الطرد. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 146] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) لم يشترط كل هذه الشرائط فى رجوع أحد عن جرمه ما اشترط فى رجوع المنافقين عن نفاقهم لصعوبة حالهم فى كفرهم. وبعد تحصيلهم هذه الشروط قال لهم: «فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» ولم يقل من المؤمنين، وفى هذا إشارة أيضا إلى نقصان رتبتهم وإن تداركوا بإخلاصهم ما سبق من آفتهم، وفى معناه أنشدوا: والعذر مبسوط ولكنما ... شتان بين العذر والشكر ويقال إن حرف (مع) للمصاحبة، فإذا كانوا مع المؤمنين استوجبوا ما يستوجب جماعة المؤمنين، فالتوبة هاهنا أي رجعوا عن نفاقهم، وأصلحوا- بصدقهم فى إيمانهم، واعتصموا بالله بالتبرؤ من حولهم وقوتهم، وشاهدوا المنّة لله عليهم حيث هداهم، وعن نفاقهم نجّاهم. قوله: «وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ» : ونجاتهم بفضل ربهم لا بإيمانهم فى الحال، ورجوعهم عن نفاقهم فيما مضى عليهم من الأحوال. ويقال أخلصوا دينهم لله وهو دوام الاستعانة بالله فى أن يثبتهم على الإيمان، ويعصمهم عن الرجوع إلى ما كانوا عليه من النفاق.   (1) نرجح أنها (الهجر) بالهاء ويتأيد ذلك بقوله فيما بعد (ليس لهم من الله شظية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ويقال تابوا عن النفاق، وأصلحوا بالإخلاص فى الاعتقاد، واعتصموا بالله باستدعاء التوفيق وأخلصوا دينهم لله فى أن نجاتهم بفضل الله ولطفه لا بإتيانهم بهذه الأشياء- فى التحقيق. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 147] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) هذه الآية من الآيات التي توجب حسن الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين: الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوّن السبيل على العبد حين «1» رضى منه بقالته وحالته. والشكر لا يصح إلا من المؤمنين فأمّا الكافر فلا يصح منه الشكر لأن الشكر طاعة والطاعة لا تصح من غير المؤمن. وقوله: «وَآمَنْتُمْ» يعنى فى المآل فكأنه بيّن أن النجاة إنما تكون لمن كانت عاقبته على الإيمان، فمعنى الآية لا يعذبكم الله عذاب التخليد «2» إن شكرتم فى الحال وآمنتم فى المآل. ويقال إن شكرتم وآمنتم صدقتم بأن نجاتكم بالله لا بشكركم وبإيمانكم. ويقال الشكر شهود النعمة من الله والإيمان رؤية الله فى النعمة، فكأنه قال: إن شاهدتم النعمة من الله فلا يقطعنّكم شهودها عن شهود المنعم. وقوله: «وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» أي والله شاكر عليم، ومعنى كونه شاكرا أنه مادح للعبد ومشهد عليه فيما يفعله لأن حقيقة الشكر وحدّه الثناء على المحسن بذكر إحسانه فالعبد بشكر الله أي يثنى عليه بذكر إحسانه إليه الذي هو نعمته عليه، والربّ يشكر للعبد أن يثنى عليه بذكر إحسانه الذي هو طاعته له، فإن الله يثنى عليه بما يفعله من الطاعة مع علمه بأن له ذنوبا كثيرة. ويقال يشكره- وإن علم أنه سيرجع فى المستأنف إلى قبيح أعماله.   (1) وردت (من) ونرجح أنها فى الأصل (حين) . (2) وردت (التخليل) ونرجح أنها (التخليد) فهو وصف عذاب جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ويقال يشكره لأنه يعلم ضعفه، ويقال يشكره لأنه يعلم أنه لا يعصى وقصده مخالفة ربّه ولكنه يذنب لاستيلاء أحوال البشرية عليه من شهوات غالبة. ويقال يشكره لأن العبد يعلم فى حالة ذنوبه أن له ربّا يغفر له. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 148] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) قول المظلوم فى ظالمه- على وجه الإذن له- ليس بسوء فى الحقيقة، لكنه يصح وقوع لفظة السوء عليه كقوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «1» والجزاء ليس بسيئة. ويقال من علم أن مولاه يسمع استحيا من النطق بكثير مما تدعو نفسه إليه. ويقال الجهر بالسوء هو ما تسمعه نفسك منك فيما تحدّث فى نفسك من مساءة الخلق فإن الخواص يحاسبون على ما يتحدثون فى أنفسهم «2» بما (يعد) «3» لا يطالب به كثير من العوام فيما يسمع منهم الناس. قوله: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» : قيل ولا من ظلم. وقيل معناه ولكن من ظلم فله أن يذكر ظالمه بالسوء «4» . ويقال من لم يؤثر مدح الحقّ على القنح فى الخلق فهو المغبون فى الحال. ويقال من طالع الخلق بعين الإضافة إلى الحق بأنهم عبيد الله لم ينبسط فيهم لسان اللوم   (1) الآية 40 سورة الشورى. (2) من ذلك ما يحكيه القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» عن الشبلي حيث يقول: «قال بعضهم كنت مع الشبلي- رحمه الله- ففتح له بمنديل حسن فمر بكلب ميت فقال لى: كفن هذا الكلب بهذا المنديل. وعدت إليه فقال لى فعلت ما أمرتك به؟ فقلت: لا. فلم يقل لى شيئا فقلت له: ما سبب ذلك الذي أمرتنى به؟ فقال: عند ما مررت به استقذرته واستقبحته، فنوديت في سرى: ألسنا نحن خلقناه؟ فأمرتك بذلك كفارة لما خطر لى» . (3) ربما كانت هذه اللفظة (يعد) زائدة، أو سقطت (لا) قبلها فيكون معنى (لا يعد) لا يحسب ولا يعتبر. (4) عن ابن عباس: إن الله لا يحب أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له. وعن الحسن البصري يكفى أن يقول المظلوم «اللهم أعنى عليه واستخرج حقى منه» وفى رواية عنه أنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 يقول الرجل لصاحبه: «أنا أحتمل من ( .... ) «1» خدمتك حرمة لك ما لا أحتمله من ولدي» ، فإذا كان مثل هذا معهودا بين الخلق فالعبد بمراعاة هذا الأدب- بينه وبين مولاه- أولى. ويقال لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من العوام، ولا يحب ذلك بخطوره «2» من الخواص. ويقال الجهر بالسوء من القول من العوام أن يقول فى صفة الله ما لم يرد به الإذن والتوفيق. والجهر بالسوء من القول فى صفة الخلق أن تقول ما ورد الشرع بالمنع منه، وتقول فى صفة الحق ما لا يتصف به فإنك تكون فيه كاذبا، وفى صفة الخلق عن الخواص ما اتصفوا به من النقصان- وإن كنت فيه صادقا. قوله «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» : سميعا لأقوالكم، عليما بعيوبكم، يعنى لا تقولوا للأغيار ما تعلمون أنكم بمثابتهم. ويقال سميعا لأقوالكم عليما ببراءة ساحة من تقوّلتم عليه، فيكون فيه تهديد للقائل- لبرىء الساحة- بما يتقوّل عليه. ويقال سميعا: أيها الظالم، عليما: أيها المظلوم تهديد لهؤلاء وتبشير لهؤلاء. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 149] إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً» تخلقا بآداب الشريعة، وتخفوه تحققا بأحكام الحقيقة. «أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» أخذا من الله ما ندبكم إليه من محاسن الخلق. «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» لعيوبكم «قَدِيراً» على تحصيل محبوبكم وتحقيق مطلوبكم. ويقال إن تبدوا خيرا لتكونوا للناس قدوة فيما تسنّون وما تعينون غيركم على ما يهدون به من سلوك سنّتكم، وإن تخفوه اكتفاء بعلمه، وصيانة لنفوسكم عن آفات التصنّع، وثقة   (1) مشتبهة. (2) أي (بأن يخطر عليهم خاطر) فعقوبة العوام على النطق والقول وعقوبة الخواص على (الخاطر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 بأن «1» من تعملون «2» له يرى ذلك ويعلمه منكم، وإن تعفوا عن سوء أي تتركوا ما تدعوكم إليه نفوسكم «3» فالله يجازيكم بعفوه على ما تفعلون، وهو قادر على أن يبتليكم بما ابتلى به الظالم، فيكون تحذيرا لهم من أن يغفلوا عن شهود المنّة، وتنبيها على أن يستعيذوا أن يسلبوا العصمة، وأن يخذلوا حتى يقعوا فى الفتنة والمحنة. ويقال إن تبدوا خيرا فتحسنوا إلى الناس، أو تخفوه بأن تدعوا لهم فى السرّ، أو تعفوا عن سوء إن ظلمتم. ويقال من أحسن إليك فأبد معه خيرا جهرا، ومن كفاك شرّه فأخلص بالولاء والدعاء له سرّا، ومن أساء إليك فاعف عنه كرما وفضلا تجد من الله عفوه عنك عما ارتكبت، فإن ذنوبك أكثر، وهو قادر على أن يعطيك من الفضل والإنعام ما لا تصل إليه بالانتصاف من خصمك، وما تجده بالانتقام «4» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) أخبر عنهم أنهم أضافوا إلى قبيح كفرهم ما عدّ من ذميم فعلهم، ثم بيّن أنه   (1) أخطا الناسخ فكتبها (باب) . (2) مستدركة في الهامش (تعلمون) لأنها فى المتن (تعلمون) والصواب ما جاء فى الهامش. [ ..... ] (3) إشارة القشيري هنا فى حاجة منا إلى تدبر، فهو يبدأ أولا بالنفس، ثم ينتقل إلى الناس، ذلك لأنه حسب ما نعرف عنه يعتبر صراعك مع نفسك هو الميدان الأول الذي ينبغى أن تحارب فيه أهواءك وأطماعك ودعواك هى أعدى أعدائك، ثم تأتى من بعد ذلك علاقاتك خارج نفسك أي مع الناس. (4) واضح من هذا مقدار ما يتمتع به الصوفية من رحابة الصدر ولين الجانب وسماحة الطبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ضاعف «1» من عذابهم ما كان جزاء جرمهم، لتعلم أنه لأهل الفساد بالمرصاد. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 152] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) لما آمنوا بجميع الرسل، وصدقوا فى جميع ما أمروا به استوجبوا القبول وحسن الجزاء. وتقاصر الإيمان عن بعض الأعيان كتقاصره عن بعض الأزمان، فكما أنه لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع ( .... ) «2» إلى آخر ما له- كذلك لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (من) «3» أمر بالإيمان به إذ جعل ذلك شرط تحقيقه وكماله. فالإشارة فى هذا أن من لم يخرج عن عهدة الإلزام بالكلية فليس له من حقيقة الوصل شظية، قال صلّى الله عليه وسلّم: «الحجّ عرفة» «4» فمن قطع المسافة- وإن كان من فج عميق- ثم بقي عن عرفات بأدنى بقية لم يدرك الحج. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» «5» قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 153] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)   (1) وردت (أضعف) وهى خطأ من الناسخ، ولا بد أن تكون (ضاعف) العذاب لأن جزاء الكافرين عذاب مهين وهو الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروى. (2) مشتبهة. (3) نرجح أنها في الأصل (ما) أمر بالإيمان به منعا للبس، ويمكن أن تقبل (من) على أنها مرتبطة بالرسل. (4) «الحج عرفه من جاء قبل طلوع الفجر من ليلة فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه (الامام أحمد فى مسنده وأبو عدى فى الكامل والحاكم فى مستدركه والبيهقي فى السنن) 358/ 2 منتخب كنز العمال. (5) «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شىء» . مفتاح كنوز السنة (مادة العتق) للدكتور ا. فنسنك ط لجنة ترجمة دائرة المعارف الاسلامية، ومراجعه سنن أبى داود كتاب 28 باب 1 وسنن ابن ماجه كتاب 19 باب 3 وموطأ مالك كتاب 39 ومسند أحمد ج 2 ص 178، 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 اشتملت الآية على جنسين من قبيح ما فعلوه: أحدهما سؤالهم الرؤية والثاني عبادة العجل بعد ما ظهرت لهم الآيات الباهرة. فأمّا سؤالهم الرؤية فذمّوا عليه لأنهم اقترحوا عليه ذلك بعد ما قطع عذرهم بإقامة المعجزات، ثم طلبوا الرؤية لا على وجه التعليم، أو على موجب التصديق به، أو على ما تحملهم عليه شدة الاشتياق، وكل ذلك سوء أدب. الإشارة فيه أيضا أن من يكتفى بأن يكون العجل معبوده- متى- يسلم له أن يكون الحقّ مشهوده؟ ويقال القوم لم يباشر العرفان أسرارهم فلذلك عكفوا بعقولهم «1» على ما يليق بهم من محدود جوّزوا أن يكون معبودهم. قوله جل ذكره: وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. حجة ظاهرة، بل تفردا صانه من التمثيل والتعطيل. والسلطان المبين التحصيل والتنزيه المانع من التعطيل والتشبيه. ويقال السلطان المبين القوة بسماع الخطاب من غير واسطة.   (1) هذا كلام له أهمية قصوى فى تحديد مدى تقدير القشيري لقيمة العقل. فنحن نعرف من مذهبه فى المعرفة أن العقل يعول عليه فقط فى البداية، يقول في رسالته ص 197 (تجب البداءة بتصحيح اعتقاد بين العبد وبين الله تعالى صاف عن الظنون والشبه خال من الضلال والبدع صادر عن البراهين والحجج) ولكن العقل بعدئذ غير جدير بمواصلة الصعود إلى ما هو أعلى من ذلك لأنه يصاب بآفات (التجويز والتحير والتوهم والتحدد) ويناط بغير العقل من الملكات الأخرى وهى القلب والروح والسر وعين السر أو سر السر أن تواصل القصود نحو الذرى العليا. فما أشبه الذين يريدون تطبيق الوسائل العقلية على الربوبية بمن عبدوا العجل! وعكفوا بعقولهم على المحدود! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ويقال السلطان المبين لهذه الأمة غدا، وهو بقاؤهم فى حال لقائهم- قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تضامون فى رؤيته» «1» - فى خبر الرؤية. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 154] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) ما زادهم فى الظاهر آية إلا زادوا فى قلوبهم جحدا ونكرا، فلم تنفعهم زيادة نصيب الإعلام لمّا لم تنفتح لشهودها بصائر قلوبهم، قال تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» «2» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 155] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) معناه لارتكابهم هذه المناهي، ولا تصافهم بهذه المخازي، أحللناهم منازل الهوان، وأنزلنا بهم من العقوبة فنون الألوان. ويقال لحقهم شؤم المخالفات حالة بعد حالة، لأن من عقوبات المعاصي الخذلان لغيرها من ارتكاب المناهي فبنقضهم الميثاق، ثم لم يتوبوا، جرّهم إلى كفرهم بالآيات، ثم لشؤم كفرهم خذلوا حتى قتلوا أنبياءهم- عليهم السّلام- بغير حق، ثم لشؤم ذلك تجاسروا حتى ادّعوا شدة التفهّم، وقالوا: قلوبنا أوعية العلوم، فردّ الله عليهم وقال: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» فحجبهم عن محلّ العرفان، فعمهوا فى ضلالتهم.   (1) « ... إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر» البخاري كتاب 9 باب 15 و 26 وكتاب 65 سورة 4 مفتاح كنوز السنة ص 57. (2) آية 101 سورة يونس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 156 الى 158] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) مجاوزة الحدّ ضلال، كما أن النقصان والتقاصر عن الحقّ ضلال، فقوم «1» تقوّلوا على مريم ورموها بالزنا، وآخرون جاوزوا الحدّ فى تعظيمها فقالوا: ابنها ابن الله، وكلا الطائفتين وقعوا فى الضلال. ويقال مريم- رضى الله عنها- كانت وليّة الله، فشقى بها فرقتان: أهل الإفراط وأهل التفريط. وكذلك كان أولياؤه- سبحانه- فمنكرهم يشقى بترك احترامهم، والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبونه يشقون بالزيادة فى إعظامهم، وعلى هذه الجملة درج الأكثرون من الأكابر. قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ ... يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ. قوله تعالى: «وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ .... عَزِيزاً حَكِيماً» قيل أوقع الله شبهه «2» على الساعي به فقتل وصلب مكانه، وقد قيل: من حفر بئرا لأخيه وقع فيها «3»   (1) أخطأ الناسخ فكتبها (فقوموا) . (2) وردت (شبهة) بالتاء المربوطة والصواب (شبهه) . (3) اختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقى على جميع أصحابه، وكانوا اثنى عشر رجلا (ذكر أسماءهم) ومنهم ليودس زكريا يوطا. ويقول ابن اسحق (نقلا عن رواية نصرانية) أن ليودس مقابل ثلاثين درهما هو الذي دل الأعداء على عيسى بأن قبّله ساعة دخولهم فأخذوه فصلبوه. انتهت الرواية. تعليق: هذه الرواية التي اعتمد عليها ابن اسحق تتفق مع ما جاء فى الأناجيل الأربعة وليودس هذا هو يهوذا الاسخريوطى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقيل إن عيسى عليه السّلام قال: من رضى بأن يلقى عليه شبهى فيقتل دونى فله الجنة، فرضى به بعض أصحابه «1» ، فيقال لمّا صبر على مقاساة التلف لم يعدم من الله الخلف «2» ، قال الله تعالى: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» «3» . ويقال لمّا صحّت صحبة الرجل مع عيسى- عليه السّلام- بنفسه صحبه بروحه، فلمّا رفع عيسى- عليه السّلام- إلى محل الزلفة، رفع روح هذا الذي فداه بنفسه إلى محل القربة «4» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) لما حكم بأن لا أمان لهم فى وقت اليأس لم ينفعهم الإيمان فى تلك الحالة، فعلم أنّ العبرة بأمان الحقّ لا بإيمان العبد. قال جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) .   (1) عن ابن اسحق عن رجل كان نصرانيا وأسلم أنه ذكر له أن عيسى حين جاءه من الله إنى رافعك قال يا معشر الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقى في الجنة حتى يشبه للقوم فى صورتى فيقتلوه فى مكانى فقال أحدهم واسمه سرجس: أنا يا روح الله. قال: فاجلس فى مجلسى فجلس فيه، ورفع عيسى (عم) فدخلوا على سرجس وصلبوه. وفى رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس اتفاق كبير مع ذلك دون ذكر اسم (سرجس) . [ ..... ] (2) أخطأ الناسخ إذ نقلها (الخلق) بالقاف. (3) آية 30 سورة الكهف. (4) فى تعبير القشيري ذكاء، ففى حالة عيسى قال (رفع) دون أن يحدد كيفية الرفع، أبا الجسد أم بالروح أم بهما معا، وفى حالة الثاني قال (رفع روحه) ، ونفهم- من حيث المصطلح- أن الزلفة أقوى من القربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 يقال ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات. فمن ركب محظورا بظاهره حرم «1» ما كان يجده من الأحوال المباحة، والألطاف الحاصلة فى سرائره. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) الراسخ فى العلم هو ألا يكون فى الدليل مقلّدا، كما لا يكون فى الحكم مقلدا، بل يضع النظر موضعه إلى أن ينتهى إلى حد لا يكون للشكّ فى عقله مساغ. ويقال الراسخ فى العلم من يرتقى عن حد تأمل البرهان «2» ويصل إلى حقائق البيان. ويقال الراسخ فى العلم أن يكون بعلمه عاملا حتى يفيد عمله علم ما خفى على غيره، ففى الخبر: «من عمل بما علمه ورّثه الله علم ما لم يعلم» «3» . وخصّ «الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» فى الإعراب فنصب اللفظ بإضمار أعنى على المدح لما للصلاة من التخصيص من بين العبادات لأنها تالية الإيمان فى أكثر المواضع فى القرآن، ولأن الله   (1) أخطأ الناسخ حين كتبها (جرم) بالجيم والصواب أن تكون بالحاء لارتباطها بتحريم المباحات فيما سبق. (2) أي ينبغى ألا يعكف الإنسان على العقل وحده بل عليه أن يرتقى عن هذا الحد. (راجع الهامش الذي يتناول هذه القضية من هذا الكتاب) (3) أورده أبو نعيم فى حلية الأولياء عن أنس بن مالك. ويرى أبو نصر السراج أن هذا العلم الموروث هو علم الاشارة، فيكشف الله سبحانه لقلوب أصفيائه المعاني المذخورة، واللطائف والأسرار المخزونة وغرائب العلوم وطرائف الحكم فى معانى القرآن ... اللمع ص 147 (كتاب المستنبطات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 - سبحانه- أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم (بها) «1» ليلة المعراج بغير واسطة جبريل عليه السّلام ... وغير هذا من الوجوه. قوله تعالى «أَجْراً عَظِيماً» : الأجر العظيم هو الذي يزيد على قدر الاستحقاق بالعمل. قال جلّ ذكره: [سورة النساء (4) : آية 163] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) إفراد النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء بالإيمان لإفرادهم بالتخصيص والفضيلة فأفرد نوحا على ما استحقه من المقام وأفرد رسولنا عليه السّلام على ما استحقه هو، فاشتركا فى الإفراد لكنهما تباينا فى الفضيلة على حسب المقام، فتفرّد واحد من بين أشكاله بغير فضائل، وتفرّد آخر من بين أضرابه «2» بألف فضيلة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 164] وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) سنّة الله فى أوليائه ستر قوم، وشهر قوم، وبذلك جرت سنّته أيضا فى الأنبياء- عليهم السّلام- أظهر أسماء قوم وأجمل تفصيل آخرين. والإيمان واجب بجميع الأنبياء جملة وتفصيلا، كما أن الاحترام واجب لجميع الأولياء جملة وتفصيلا، وكذلك أحوال العباد ستر عليهم بعضا وأظهر لهم بعضها، فما أظهرها لهم- طالبهم بالإخلاص فيها، وما سترها   (1) إضافة وضعناها ليتماسك المعنى. (2) وردت (أخرابه) بالخاء وهى خطأ فى النسخ والصواب (أضرابه) أي (أشكاله) التي سبقت، والفقرة كلها غير واضحة، وقد أثبتناها كما هى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 عليهم- فلأنه غار «1» على قلوبهم من ملاحظة أحوالهم تأهيلا لهم للاختصاص بحقائق أفردهم بمعانيها. «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» : إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 165] رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) وقف الخلق عند مقاديرهم وبيّن أنه أرسل إليهم الرسل فتفردوا عليهم إلى اجتباء ثوابهم، واجتناب ما فيه استحقاق عذابهم، وأنه ليس للخلق سبيل إلى راحة يطلبونها ولا إلى آفة يجتنبونها إما فى الحال أو فى المآل. قوله جل ذكره: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. أنّى يكون لمن له إلى الله حاجة على الله حجّة؟! ولكنّ الله خاطبهم على حسب عقولهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 166] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) سلّاه الله عن تكذيب الخلق إياه بما ذكره من علم الله بصدقه، ولذلك قال: «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) .   (1) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص) : إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي العبد المؤمن ما حرّم الله تعالى عليه، الرسالة ص 126 وقال القشيري: إذا وصف الحق سبحانه بالغيرة فمعناه أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده. (الرسالة نفس الصفحة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 جعل صدّهم المؤمنين (من) «1» اتباع الحقّ نظير كفرهم بالله، والله تعالى عظّم حقوق أوليائه كتعظيم حقّ نفسه، ثم قال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا» جعل ظلمهم سبيل كفرهم، فعلّق استحقاق العقوبة المؤبّدة عليها جميعا. والظلم- وإن لم يكن كالكفر فى استحقاق وعيد الأبد- فلشؤم الظلم لا يبعد أن يخذله الله حتى يوافى ربّه على الكفر. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) «يا أَهْلَ الْكِتابِ» : أخبر أنه سبحانه غنى عنهم، فإن آمنوا فحظوظ أنفسهم اكتسبوها وإن كفروا «2» فبلاياهم لأنفسهم اجتلبوها. والحقّ- تعالى- منزّه الوصف عن (الجهل) «3» لوفاق أحد، والنقص لخلاف أحد. قوله: «وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يعنى إن خرجوا عن استعمال العبودية- فعلا، لم يخرجوا عن حقيقة كونهم عبيده- خلقا، قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «4» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)   (1) ربما كانت (عن) فهكذا فى الآية الكريمة. (2) فى النسخة (وإن لم تكفروا) ولكنها مصححة باستدراك فى الهامش (وإن كفروا) وهو الأصوب. (3) نظن أن الناسخ قد أخطأ فى نقل هذه الكلمة فان من عادة القشيري فى مثل هذا السياق أن يذكر أن طاعة المطيع ليست زينا للحق ومعصية العاصي ليست شينا له، لأجل هذا نرجح أن العبارة هنا تستقيم لو كانت (والحق تعالى منزه الوصف عن الكمال لوفاق أحد وعن النقص لخلاف أحد) . (4) آية 93 سورة مريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 غلوّهم فى دينهم جريهم على مقتضى حسبانهم حيث وصفوا- بمشابهة الخلق- معبودهم، ثم مناقضتهم حيث قالوا الواحد ثلاثة والثلاثة واحد «1» ، والتمادي فى الباطل لا يزيد غير الباطل. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 172] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) كيف يستنكف عن عبوديته وبالعبودية شرفه، وكيف يستكبر عن التذلّل وفى استكباره تلفه، ولهذا الشأن نطق المسيح أول ما نطق بقوله: إنى عبد الله، وتجمّل العبيد فى التذلل للسّادة، هذا معلوم لا تدخله ريبة» . وقوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» لا يدل على أنهم أفضل من المسيح، لأنه إنما خاطبهم على حسب عقائدهم، والقوم اعتقدوا تفضيل الملائكة على بنى آدم.   (1) الثلاثة إما أن يكون مقصودا منها: الله والمسيح ومريم، وإما- كما ورد فى الأناجيل- الأب والابن والروح القدس، وسواء انصرفت إلى هؤلاء أم إلى أولئك فانه شرك محض تولى القرآن الكريم تفنيده فى مواضع شتى. [ ..... ] (2) وردت (رتبة) ولا نحسب أن لها معنى هنا، ونرجح أنها فى الأصل (ريبة) أي هذا معلوم لا شك فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 173] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) العذاب الأليم ألا يصلوا إليه «1» أبدا بعد ما عرفوا جلاله، فإذا صارت معارفهم ضرورية «2» فإنهم يعرفون أنهم عنه بقوا «3» ، فحسراتهم حينئذ على ما فاتهم أشدّ عقوبة لهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) البرهان مالاح فى سرائرهم من شواهد الحق. قوله جل ذكره: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. وهو خطابه الذي فى تأملهم معانيه حصول استبصارهم. قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) «4» «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» : والسين للاستقبال أي يحفظ عليهم إيمانهم فى المآل «5» عند التوفى، كما أكرمهم بالعرفان والإيمان فى الحال. قوله جل ذكره: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً.   (1) أي يقطع بينهم وبين رؤيته سبحانه، وفى هذا يقول ذو النون (خوف النار إذا قيس إلى خوف القطع عن المحبوب كقطرة الماء تقذف فى أعظم المحيطات. ويقول بعضهم: إلهى إذا شئت أن تعذبنى فألق بي إلى النار ولا تعذبنى بذل الحجاب. (2) قلنا من قبل فى هامش سابق- نقلا عن مذهب القشيري: إن المعرفة فى البداية كسبية وفى الانتهاء ضرورية، ومعنى الكلام هنا أنهم يحرمون من أعظم الأشياء متعة بعد ما لاحت لهم بعض المعارف ... وذلك غاية فى التعذيب. (3) (عنه بقوا) البقاء عن الله سبحانه أشد أنواع العقاب. (4) سقطت (بالله) من الناسخ فأثبتناها فى موضعها. (5) وردت (المال) ويلزم وضع المد على الألف لتكون (المآل) وقد تكرر هذا فى مواضع كثيرة فيما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 هذه الهداية هى إكرامهم بأن عرفوا أن هذه الهداية من الله لهم فضل لا لأنهم استوجبوها بطلبهم وجهدهم، ولا بتعبهم وكدّهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) قطع الخصومة بينهم فى قسمة «2» الميراث فيما أظهر لهم من النصّ على الحكم، فإن المال محبّب إلى الإنسان، وجبلت النفوس على الشحّ فلو لم ينص على مقادير الاستحقاق (لقابلة الأشباه) «3» فى الاجتهاد، فكان يؤدى ذلك إلى التجاذب والتواثب فحسم تلك الجملة بما نصّ على المقادير فى الميراث قطعا للخصام. ولتوريثه للنسوان- وإن لم يوجد منهن الذبّ عن العشيرة- دلالة على النظر لضعفهن. وفى تفضيل الذكور عليهن لما عليهم من حمل «4» المؤن وكذا السعى فى تحصيل المال، والقيام عليهن.   (1) يهدف القشيري دائما إلى أن يعود بكل شىء إلى فضل الله، وأن يشعر العبد دائما بأن عمله ليس وحده كافيا للنجاة، فاذا طالع العبد نفسه فى شىء ما ففى ذلك وبال عليه. (2) وردت (بالصاد) والصواب أن تكون بالسين، وربما كانت (قضية) فى الأصل. (3) هكذا فى النسخة (ص) ونرجح أنها فى الأصل (لقابله الاشتباه) فى الاجتهاد اى ان النص على المواريث أزال كل اشتباه ينجم عن الاجتهاد. (4) وردت (يحمل) ونرجح أنها فى الأصل: (حمل) فقبلها جار. (حاشية) لم يتعرض القشيري لمعنى (الكلالة) ولقد كنا نود لو أوضح الرأى فيها، خصوصا وأن موضوعها منبهم، وتسمى هذه الآية الأخيرة من سورة النساء بآية الصيف، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك يعنى ابن مغول يقول سمعت الفضل بن عمرو عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكلالة فقال: «يكفيك آية الصيف» فقال لأن أكون سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها أحب إلى من ان يكون لى حمر النعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 السورة التي تذكر فيها المائدة بسم الله الرحمن الرحيم سماع اسم الله يوجب الهيبة، (والهيبة) «1» تتضمن الفناء والغيبة، وسماع الرحمن الرحيم يوجب الحضور والأوبة، والحضور يتضمن البقاء والقربة. فمن أسمعه «بِسْمِ اللَّهِ» أدهشه فى كشف جلاله، ومن أسمعه «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» عيّشه بلطف أفضاله. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) «يا» حرف نداء، و «أي» اسم منادى، «ها» تنبيه، و «الَّذِينَ آمَنُوا» صلة المنادى. ناداهم قبل أن بداهم، وسمّاهم قبل أن براهم، وأهّلهم فى آزاله لما أوصلهم إليه فى آباده. شرّفهم بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» ، وكلّفهم بقوله «أَوْفُوا» ، ولما علم أن التكليف يوجب المشقة قدّم التشريف بالثناء على التكليف الموجب للعناء. ويقال الإيمان صنفان: أحدهما يشير إلى عين الجود، والثاني إلى بذل المجهود. فبذل المجهود خدمتك، وعين الجود قسمته فبخدمتك عناء الأشباح، وبقسمته ضياء الأرواح. وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب. ويقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» : يا من دخلوا فى إيمانى، ما وصلتم إلى أمانى إلا بسابق إحسانى. ويقال يا من فتحت بصيرتهم لشهود حقى حتى لا يكونوا كمن أعرضت عنهم من خلقى.   - وذكر الإمام أحمد بإسناد آخر أكثر صحة مما سبق. ومن الأقوال التي ذكرت عن الكلالة انها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها اكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد، ومن الناس من يقول الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه الآية (إن امرؤ هلك ليس له ولد) . (1) أضفناها لأن السياق يستدعيها، إذ نرجح أنها سقطت فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 قوله جل ذكره: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. كلّ مكلّف مطالب بالوفاء بعقده، والعقد ما ألزمك بسابق إيجابه، ثم وفّقك- بعد ما أظهرك عند خطابه- بجوابه «1» ، فانبرم العقد بحصول الخطاب، والقبول بالجواب. ويدخل فى ذلك- بل يلتحق به- ما عقد القلب معه سرّا بسرّ من خلوص له أضمره، أو شىء تبيّنه، أو معنى كوشف به أو طولب به فقبله. ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد، ولا يكون ذلك إلا بالتبرّى من المنّة، والتحقق بتولي الحق- سبحانه- بلطائف المنّة «2» . قوله جل ذكره: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جرم سبق منها، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها- دليل على ألّا علّة لصنعه. وحرّم الصيد على المحرم خصوصا لأن المحرم متجرّد عن نصيب نفسه بقصده إليه، فالأليق بصفاته كفّ الأذى عن كل حيوان. قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ. لا حجر عليه فى أفعاله، فيخصّ من يشاء بالنّعماء، ويفرد من يشاء باليلوى فهو يمضى الأمور فى آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى فى آزاله. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) الشعائر معالم الدّين وتعظيم ذلك وإجلاله خلاصة الدين، ولا يكون ذلك إلا بالاستسلام عند هجوم التقدير، والتزام الأمر بجميل الاعتناق، وإخلال الشعائر (يكون) بالإخلال بالأوامر. قوله جل ذكره: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ.   (1) يشير القشيري إلى قوله تعالى يوم الذر: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى» . (2) يفرّق القشيري بين المنة للعبد والمنة للحق. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 تعظيم المكان الذي عظّمه الله، وإكرام الزمان الذي أكرمه الله. وتشريف الإعلام على ما أمر به الله- هو المطلوب من العبيد أمرا، والمحبوب منه حالا. قوله جل ذكره: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً. وبالحرىّ لمن يقصد البيت ألا يخالف ربّ البيت. والابتغاء للفضل والرضوان بتوقّى موجبات السخط، ومجانبة العصيان. قوله جل ذكره: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وإذا خرجتم عن أمر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم، فأمّا ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم، وإنكم لنا. قوله «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ... » أي لا يحملكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تجاوزوا حدّ الإذن فى الانتقام، أي كونوا قائمين بنا، متجردين عن كل نصيب وحظّ لكم. قوله جل ذكره: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى. البرّ فعل ما أمرت به، والتقوى ترك ما زجرت عنه. ويقال البرّ إيثار حقه- سبحانه، والتقوى ترك حظّك. ويقال البرّ موافقة الشرع، والتقوى مخالفة النّفس. ويقال المعاونة على البرّ بحسن النصيحة وجميل الإشارة للمؤمنين، والمعاونة على التقوى بالقبض على أيدى الخطائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ، وبليغ الزجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم. والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئا مما يقتدى بك لا يرضاه الدّين، فيكون قولك الذي تفعله ويقتدى بك (فيه) سنّة تظهرها و (عليك) نبوّ وزرها. وكذلك المعاونة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 على البر والتقوى أي الاتصاف بجميل الخصال على الوجه الذي يقتدى بك فيه. قوله جل ذكره: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. العقوبة ما تعقب الجرم بما يسوء صاحبه. وأشد العقوبة حجاب المعاقب عن شهود المعاقب فإنّ تجرّع كاسات البلاء بشهود المبلى أحلى من العسل والشهد. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) وأكل الميتة أن تتناول من عرض أخيك على وجه الغيبة «1» ، وليس ذلك مما فيه رخصة بحال لا بالاضطرار ولا بالاختيار، وغير هذا من الميتة مباح فى حال الضرورة. ويقال كما أنّ فى الحيوان ما يكون المزكى منه مباحا والميتة منه حراما فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطهّر نفسه- مباح قربه، حلال صحبته. ومن ماتت نفسه فى ظلمة غفلته حتى لا إحساس له بالأمور الدينية فخبيثة نفسه، محظور قربه، حرام معاشرته، غير مباركة صحبته. وإنّ السلف سموا الدنيا خنزيرة، ورأوا أنّ ما يلهى قربه، وينسى المعبود ركونه، ويحمل على العصيان جنوحه- فهو محرّم على القلوب ففى طريقة القوم حبّ الدنيا حرام على القلوب، وإن كان إمساك بعضها حلالا على الأبدان والنفوس. قوله جل ذكره: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ. كما أنّ المذبوح على غير اسمه ليس بطيّب فمن بذل روحه فيه وجد روحه منه، ومن تهارشته كلاب الدنيا، وقلته مخالب الأطماع، وأسرته مطالب الأغراض والأعراض- فحرام ماله على أهل الحقائق فى مذهب التعزز، فللشريعة الظرف والتقدير. وأمّا المنخنقة فالإشارة منه إلى الذي ارتبك فى حبال المنى والرغائب، وأخذه خناق   (1) يشير القشيري بذلك إلى قوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الطمع، وخنقته سلاسل (الحرص) «1» فحرام على السالكين سلوك خطتهم، ومحظور على المريدين متابعة مذهبهم. وأمّا الموقوذة فالإشارة منها إلى نفوس جبلت على طلب الخسائس حتى استملكتها كلها فهى التي ذهبت بلا عوض حصل منها، وأمثال ذلك حرام على أهل هذه القصة. والإشارة من المتردية إلى من هلك فى أودية التفرقة، وعمى عن استبصار رشد الحقيقة فهو يهيم فى مفاوز الظنون، وينهك فى متاهات المنى. والإشارة من النطيحة إلى من صارع الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من: قوله جلّ ذكره: وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ. وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأكلة الجيف الكلاب ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله لأن زاد المؤمن من الدنيا: ما كان لله فهو محمود، وما كان للنّفس فهو مذموم. قوله جل ذكره: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ. فهو ما أرصد لغير الله، ومقصود كلّ حريص- بموجب شرعه- معبوده من حيث هواه قال الله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» يعنى اتخذ هواه إلهه. «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» ، الإشارة منه إلى كل معاملة ومصاحبة بنيت على استجلاب الحظوظ الدنيوية- لا على وجه الإذن- إذ القمار ذلك معناه. وقلّت المعاملات المجرّدة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت. قوله جل ذكره: ذلِكُمْ فِسْقٌ. أي إيثار هذه الأشياء انسلاخ عن الدّين.   (1) وردت (الحرس) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 قوله جل ذكره: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. أي بعد ما أزحتم عن قلوبكم آثار الحسبان، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن، فلا تلاحظوا سواى، ولا يظلّلن قلوبكم إشفاق من غيرى. ويقال إذا كانت البصائر متحققة بأن النّفع والضر، والخير والشر لا تحصل شظية منها إلا بقدرة الحق- سبحانه، فمن المحال أن تنطوى- من مخلوق- على رغب أو رهب. قوله جل ذكره: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. إكماله الدين- وقد أضافه إلى نفسه- صونه العقيدة عن النقصان وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أمّلها بأنوار تأييده وتسديده، حتى وضعوا النظر موضعه من غير تقصير، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور. ويقال إكمال الدّين تحقيق القبول فى المآل، كما أن ابتداء الدّين توفيق الحصول فى الحال فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول، ولولا تحقيقه لم يكن للدين قبول. ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شىء يعلمه الحق- سبحانه- من أوصافه وقد علّمك. ويقال إكمال الدين أن ما تقاصر عنه عقلك من تعيين صفاته- على التفصيل- أكرمك بأن عرّفك ذلك من جهة الإخبار. وإنما أراد بذكر «الْيَوْمَ» وقت نزول الآية. وتقييد الوقت فى الخطاب بقوله «الْيَوْمَ» لا يعود إلى عين إكمال الدّين، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت. والدّين موهوب ومطلوب فالمطلوب ما أمكن تحصيله، والموهوب ما سبق منه حصوله. قوله جل ذكره: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. النعمة- على الحقيقة- ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه، والنعمة المذكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 هاهنا نعمة الدّين، وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين، ولا شك فى مغفرة جميع المؤمنين، وإنما الشك يعترى فى الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان؟ قوله جل ذكره: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. وذلك لما قسم للخلق أديانهم فخصّ قوما باليهودية، وقوما بالنصرانية، إلى غير ذلك من النّحل والملل، وأفرد المسلمين بالتوحيد والغفران. وقدّم قوم الإكمال على الإتمام، فقالوا: الإتمام يقبل الزيادة، فلذلك وصف به النعمة لقبول النّعم للزيادة، ولا رتبة بعد الكمال فلذلك وصف به الدين. ويقال لا فرق بين الدّين والنعمة المذكورة هاهنا، وإنما ذكر بلفظين على جهة التأكيد، ثم أضافه إلى نفسه فقال: «نِعْمَتِي» وإلى العبد فقال: «دِينِكُمْ» . فوجه إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخلق. فالدين من الله عطاء، ومن العبد عناء «1» ، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاع فى السّرّ. قوله جل ذكره: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالك فترة، أو لمريد فى السلوك وقفة، ثم تنبّه لعظيم واقعه فبادر إلى جميع الرّجعة باستشعار التحسّر على ما جرى تداركته الرحمة، ونظر الله- سبحانه- إليه بقبول الرجعة. والإشارة من قوله «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير معرّج على الفترة، ولا مستديم لعقدة الإصرار، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رخص العلم لضعف وجده فى الحال فربما تجرى معه مساهلة إذا لم يفسخ عقد الإرادة.   (1) هذه العبارة تساوى فى المعنى ما سبق ذكره ان «الدين موهوب ومطلوب» والمقصود بالعناء أن الدين معاناة وممارسة من جانب العبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) لما علموا أن الحسن من أفعالهم ما ورد به الأمر وحصل فيه الإذن تعرّفوا ذلك من تفصيل الشرع، فقال: «يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ» ثم قال: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» وهو الحلال الذي تحصل من تناوله طيبة القلوب فإنّ أكل الحرام يوجب قسوة القلب، والوحشة مقرونة بقسوة القلب، وضياء القلوب وطيب الأوقات متصل بصون الخلق عن تناول الحرام والشبهات. وقوله: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ» : ولمّا كان الكلب المعلّم ترك حظّه، وأمسك ما اصطاده على صاحبه حلت فريسته، وجاز اقتناؤه، واستغرق فى ذلك حكم خساسته فكذلك من كانت أعماله وأحواله لله- سبحانه- مختصة، ولا يشوبها حظّ تجلّ رتبته وتعلو حالته. ويقال حسن الأدب يلحق الأخسّة برتبة الأكابر، وسوء الأدب يردّ الأعزّة إلى حالة الأصاغر. ثم قال: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» : بيّن أنّ الأكل- على الغفلة- غير مرضىّ عنه (فى القيمة) «1» «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» بحيث لا يشغله شأن عن شأن، وسريع الحساب- اليوم- مع الأحباب والأولياء، فهم لا يسامحون فى (الخطوة) «2» ولا فى اللحظة، معجّل حسابهم، مضاعف- فى الوقت- ثوابهم وعقابهم.   (1) وضعت (فى القيمة خطأ) بعد سريع الحساب وقد أثبتناها فى موضعها الصحيح. (2) ربما كانت فى الأصل (الخطرة) بالراء فالأكابر يحاسبون على أدق خاطر يخطر على قلوبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) ليس الطّيّب ما تستطيبه النفوس، ولكن الطيب ما يوجد فيه رضاء الحق- سبحانه- فتوجد عند ذلك راحة القلوب. «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» : القدر الذي بيننا وبينهم من الوفاق فى إثبات الربوبية لم يعر من أثر فى القربة فقال الله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى» «1» وكذلك الأمر فى المحصنات من نسائهم. وأحل الطعام والذبيحة بيننا وبينهم من الوجهين فيحلّ لنا أكل ذبائحهم، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يعلى. ثم قال «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» يعنى إنهم وإن كانوا كفارا فلا تجب صحبتهن بغير نكاح تعظيما «2» لأمر السّفاح، وتنبيها على وجوب مراعاة الأمر من الحق. وكذلك «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» لأنه إذا لم يجز تعلق قلبك بالمؤمنين على وجه المخادنة فمتى يسلم ذلك مع الكفار الذين هم الأعداء؟ قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)   (1) آية 82 سورة المائدة. (2) تعظيما هنا معناها تهويلا واستبشاعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 كما أنّ فى الشريعة لا تصحّ الصلاة بغير الطهور فلا تصحّ- فى الحقيقة- بغير طهور. وكما أن للظاهر طهارة فللسرائر أيضا طهارة، وطهارة الأبدان بماء السماء أي المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل. وكما يجب غسل الوجه عند القيام إلى الصلاة يجب- فى بيان الإشارة- صيانة الوجه عن التبذّل للأشكال عن طلب خسائس الأعراض. وكما يجب غسل اليدين فى اليدين فى الطهارة يجب قصرهما عن الحرام والشبهة. وكما يجب مسح الرأس يجب صونه عن التواضع والخفض لكل أحد. وكما يجب غسل الرجلين فى الطهارة يجب صونهما فى الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز قوله جل ذكره: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ. كما يقتضى غسل جميع البدن فى الطهارة، كذلك فى الطهارة الباطنة ما يوجب الاستقصاء وذلك عند ما تقع للمريد فترة فيقوم بتجديد عقد، وتأكيد عهد، والتزام عزامة، وتسليم وقت، واستدامة ندامة، واستشعار خجل. وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التّيمم فكذلك إذا لم يجد المريد من يفيض عليه صوب همته، ويغسله ببركات إشارته، ويعينه بما يئوب به من زيادة حالته- اشتغل بما تيسّر له من اقتفاء آثارهم، والاستراحة إلى ما يجد من سالف سيرهم، وما ورد من حكاياتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وكما أن فرض التيمم على الشطر والنقصان فكذلك المطالبات على إصفاء هذه الحالة تكون أخف لأنه وقت الفترة وزمان الضعف. قوله جل ذكره: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. وتلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فليحطط رجله بساحات العبادة، فإذا عدم اللطائف فى سرائره فليستدم الوظائف على ظاهره، وإذا لم يتحقّق بأحكام الحقيقة فليتخلق بآداب الشريعة، وإن لم يتحرج عن تركه الفضيلة فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة. قوله جل ذكره: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ. أي يطهر ظواهركم عن الزلة بعصمته، ويطهر قلوبكم عن الغفلة برحمته. ويقال يطهر سرائركم عن ملاحظة الأشكال، ويطهر ظواهركم عن الوقوع فى شباك الأشغال. ويقال يطهر عقائدكم عن أن تتوهموا تدنّس المقادير بالأعلال. قوله جل ذكره: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إتمام النعمة على قوم بنجاة نفوسهم، وعلى آخرين بنجاتهم عن نفوسهم، وشتّان بين قوم وقوم!. ويقال إتمام النعمة فى وفاء العاقبة فإذا خرج من الدنيا على وصف العرفان والإيمان فقد تمّت سعادته، وصفت نعمته. ويقال إتمام النعمة فى شهود المنعم فإنّ وجود النعمة لكل أحد ولكنّ إتمامها فى شهود المنعم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 7] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) الإشارة منه إلى التعريف السابق الذي لولاه ما علمت أنه من هو. ويقال أمرهم بتذكّر ما سبق لهم من القسم وهم فى كتم العدم، فلا للأغيار عنهم خبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ولا لهم عين ولا أثر، ولا وقع عليهم بصيرة، وقد (سماهم) «1» بالإيمان، وحكم لهم بالغفران قبل حصول العصيان، ثم لما أظهرهم وأحياهم عرّفهم التوحيد قبل أن كلّفهم الحدود، وعرض عليهم بعد ذلك الأمانة وحذّرهم الخيانة، فقابلوا قوله بالتصديق، ووعدوا من أنفسهم الوفاء بشرط التحقيق، فأمدّهم بحسن التوفيق، وثبّتهم على الطريق، ثم شكرهم حيث أخبر عنهم بقوله جل ذكره: «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» . ثم قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» : يعنى فى نقض ما أبرمتم من العقود، والرجوع عمّا قدمتم من العهود، «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» لا يخفى عليه من خطرات قلوبكم ونيات صدوركم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) لا يعوّقنّكم حصول نصيب لكم فى شىء عن الوفاء لنا، والقيام بما يتوجّب عليكم من حقنا. ويقال من لم يقسط عند مواعد رغائبه، ولم يمح عنه نواجم شهواته ومطالبه لم يقم لله بحق ولم يف لواجباته بشرط. قوله جل ذكره: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. أي لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف فإنّ مرتع الظلم وبيء، ومواضع الزيغ مهلكة. ثم صرّح بالأمر بالعدل فقال: «اعْدِلُوا» ولا تكون حقيقة العدل إلا (بالعدول) «2» عن كل حظ ونصيب.   (1) نرجح أنها فى الأصل (وسمهم) فالوسم فى الاصطلاح تتعلق بالأزل وهذا يتفق مع السياق. (2) وردت (بالعدوان) والصواب أن تكون (بالعدول) كما هو واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 والعدل أقرب إلى التقوى، والجور أقرب من الرّدى، ويوقع عن قريب فى عظيم البلوى. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 9] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) والمغفرة لا تكون إلا للذنب، فوصفهم بالأعمال الصالحات، ثم وعدهم المغفرة ليعلم أن العبد تكون له أعمال صالحة وإن كانت له ذنوب تحتاج إلى غفرانها، بخلاف ما توهّم من قال إن المعاصي تحبط الطاعات. ويقال بيّن أن العبد وإن كانت له أعمال صالحة فإنه يحتاج إلى عفوه وغفرانه، ولولا ذلك لهلك، خلافا لمن قال إنه لا يجوز أن يعذّب البريء ويجب أن يثيب المحسنين «1» . ويقال لو كان ثواب المحسنين واجبا، وعقوبة البريء غير حسنة لكان التجاوز عنه واجبا عليه، ولم يكن حينئذ فضل يمن به عليهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 10] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) لهم عقوبتان: معجلة وهى الفراق، ومؤجلة وهى الاحتراق. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) يذكّرهم ما سلف لهم من نعم الدفع «2» وهو ما قصر عنهم أيدى الأعداء، وذلك من أمارات   (1) يشير القشيري بذلك إلى أقوال المعتزلة بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي- على الله، فلا وجوب- فى نظره- على الله، وإنما كل شىء منه فضل، ولا قيمة لعمل العبد بجانب هذا الفضل. (2) يميز القشيري بين نعمتين: نعمة دفع ونعمة نفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 العناية. ولقد بالغ فى الإحسان إليك من كان يظهر لك الغيب من غير التماس أو سبق شفاعة فيك، أو رجاء نفع من المستأنف «1» منك، أو حصول ربح فى الحال عليك، أو وجود حق فى المستأنف لك. ثم قال: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» يعنى كما أحسنت إليكم فى السالف من غير استحقاق فانتظروا جميل إحسانى فى (الغابر) «2» من غير (استيجاب) «3» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) يذكرهم حسن أفضاله معهم، وقبح (فعلهم) «4» فى مقابلة إحسانه بنقضهم عهدهم. وعرف المؤمنين- تحذيرا لهم- ألا ينزلوا منزلتهم فيستوجبوا مثل ما استوجبوه من عقوبتهم. قوله جل ذكره: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. أي لئن قمتم بحقي لأوصلن إليكم حظوظكم، ولئن أجللتم أمرى فى العاجل لأجلّن قدركم فى الآجل. وإقامة الصلاة أن تشهد من تعبده، ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اعبد الله كأنّك تراه» . ويقال إقامة الصلاة شرطها أن تقبل على من تناجيه بأن تستقبل القطر الذي الكعبة فيه. وأمّا إيتاء الزكاة فحقّه أن تكسب المال من وجهه، وتصرفه فى حقه، ولا تمنع الحق   (1) أي ما يمكن أن نقدمه من طاعات فى المستقبل، فالله غنى عنه. (2) نرجح أنها (الحاضر) حتى ينسجم السياق فإن (الغابر) و (السالف) بمعنى (الماضي) . (3) يعنى استحقاق. [ ..... ] (4) وردت (فعلهم) بميم زائدة من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الواجب فيه عن أهله، ولا تؤخر الإيتاء عن وقته، ولا تحوج الفقير إلى طلبه فإنّ الواجب عليك أن توصل ذلك إلى مستحقه. وتعزير «1» الرسل الإيمان بهم على وجه الإجلال، واعتناق أمرهم بتمام الجد والاستقلال، وإيثارهم عليك فى جميع الأحوال. قوله جل ذكره: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. الأغنياء ينفقون أموالهم فى سبيل الله، والفقراء يبدلون مهجتهم وأرواحهم فى طلب الله، (فأولئك) «2» عن مائتى درهم يخرجون خمسة، وهؤلاء لا يدخرون عن أمره نفسا ولا ذرّة. قوله جل ذكره: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. التكفير هو الستر والتغطية، وإنه يستر الذنوب حتى عن (العاصي) «3» فيمحو من ديوانه، وينسى الحفظة سوالف عصيانه. وينفى عن قلبه تذكر ما أسلفه، ولا يوقفه فى العرصة على ما قدّم من ذنبه، ثم بعد ذلك يدخله الجنة بفضله كما قال: «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ، كما قيل: ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة ... حتى أنالوا كفّه وازدادوا قوله جل ذكره: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فمن جحد هذه الأيادى بعد اتضاحها فقد عدل عن نهج أهل الوفاء، وحاد عن سنن أصحاب الولاء. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) جعل جزاء العصيان الخذلان للزيادة فى العصيان.   (1) وردت (وتعزم) والصحيح (وتعزير) والعزر في اللغة الرد ومعناها هنا رددتم عنهم أعداءهم ونصرتموهم. (2) وردت (فهؤلاء) وقد جعلناها أولئك إشارة إلى البعيد ليتميز كل فريق. (3) وردت (المعاصي) بالميم والصواب بدونها فهكذا يتطلب السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 قوله جل ذكره: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. وتحريفهم الكلم عن مواضعه نوع عصيان منهم، وإنما حرّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم من قبل الله تعالى على ما نقضوه من العهود، ونقض العهد أعظم وزر يلم به العبد، والعقوبة عليه أشد عقوبة يعاقب بها العبد، وقسوة القلب عدم التوجع مما يمتحن به من الصدّ، وعن قريب يمتحن بمحنة الرد بعد الصدّ «1» ، وذلك غاية الفراق، ونهاية البعد. ويقال قسوة القلب أولها فقد الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة، فإن لم يتفق إقلاع عن هذه الجملة فهو تمام الشقوة. ومن تحريف الكلم- على بيان الإشارة- حمل الكلم على وجوه من التأويل مما تسوّل لصاحبه نفسه، ولا تشهد له دلائل العلم ولا أصله «2» . قوله جل ذكره: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. أوّل آفاتهم نسيانهم، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا، فالنسيان أول العصيان، والنسيان حاصل من الخذلان. قوله جل ذكره: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. الخيانة أمرها شديد وهى من الكبار أبعد، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوّد اتباع الشهوات، وأشرب فى قلبه حبّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخلق إلى آخر عمره، اللهم إلا أن يجود الحقّ- سبحانه- عليه بجميل اللطف. قوله جل ذكره: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحد أهلا للعقاب. وللصفح   (1) من هذا نفهم أن (الرد) عند القشيري أقرب وأشد وقعا من (الصد) . (2) هذا أصل من أصول التأويل المقبول فى نظر القشيري، وهو في الوقت نفسه يوضح صفة في التفسير الإشارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 على العفو مزية وهى أن فى العفو رفع الجناح، وفى الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب، فمن تجاوز عن الجاني، ولم يلاحظه- بعد التجاوز- بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح. والإحسان تعميم- للجمهور- بإسداء الفضل. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) الإشارة فى هذه الآية أن النصارى أثبت لهم الاسم بدعواهم فقال: «قالُوا إِنَّا نَصارى» . وسموا نصارى لتناصرهم، وبدعواهم حرّفوا وبدّلوا، وأما المسلمون فقال: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» «1» . كما قال: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «2» فلا جرم ألا يسموا بالتناصر. ولمّا سمّاهم الحقّ بالإسلام ورضى لهم به صانهم عن التبديل فعصموا. ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم، وفساد ذات البين فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض، قال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون كنفس واحدة» «3» ، وقال تعالى فى صفة أهل الجنة: «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» «4» .   (1) آية 78 سورة الحج. (2) آية 2 سورة المائدة. (3) فى رواية الإمام مسلم عن النعمان بن بشير. المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله ... » صحيح مسلم ج 4 ص 271. (4) آية 44 سورة الصافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) وصف الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بإظهار بعض ما أخفوه، وذلك علامة على صدقه إذ لولا صدقه لما عرف ذلك. ووصفه بالعفو عن كثير من أفعالهم، وذلك من أمارات خلقه إذ لولا خلقه لما فعل ذلك فإظهار ما أبداه دليل علمه، والعفو عما أخفى برهان حلمه. قوله جل ذكره: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغنى عند فقد البصيرة، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سرّه شواهد الأغيار، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) من اشتملت عليه أرحام الطوامث متى يفارقه نقص الخلقة؟ ومن لاحت عليه شواهد التغيّر أنّى يليق به نعت الربوبية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد فأى نقص يعود إلى الصمد؟ قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) البنوة «1» تقتضى المجانسة، والحقّ عنها منزّه، والمحبة بين المتجانسين تقتضى الاحتظاظ والمؤانسة، والحق سبحانه عن ذلك مقدّس. فردّ الله- سبحانه- عليهم فقال تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» . والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضا للقديم فالقديم لا بعض له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز- على الوجه الذي اعتقدوه- بينهم وبينه محبة. ويقال فى الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال: «قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» . ويقال بيّن فى هذه الآية أن قصارى الخلق إمّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شىء وراء ذلك. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 19] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) .   (1) وردت (النبوة) وهى خطا فى النسخ لأن الإشارة عائدة إلى ما جاء فى الآية: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 يقال فى: كل زمان تقع فترة فى سبيل الله ثم تتجدد الحال، ويعمّ الطريق بإبداء السالكين من كتم العدم، ولقد كان زمان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- أكثر الأزمنة بركة، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل، وبذلك منّ عليهم، وذكّرهم عظيم نعمته فيهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 20] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) كان الأمر لبنى إسرائيل- على لسان نبيّهم- بأن يتذكروا نعمة الله عليهم، وكان الأمر لهذه الأمة «1» - بخطاب الله لا على لسان مخلوق- بأن يذكروه فقال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «2» وشتان بين من أمره بذكره- سبحانه- وبين من أمره بذكر نعمته! ثم جعل جزاءهم ثوابه الذي هو فضله، وجعل جزاء هذه الأمة خطابه الذي هو قوله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» . قوله جل ذكره: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. الملك من المخلوقين من عبد الملك الحقيقي. ويقال الملك من ملك هواه، والعبد من هو فى رقّ شهواته. ويقال «جَعَلَكُمْ مُلُوكاً» : لم يخرجكم إلى أمثالكم، ولم يحجبكم عن نفسه بأشغالكم، وسهّل إليه سبيلكم فى عموم أحوالكم. قوله جل ذكره: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. لئن آتى بنى إسرائيل بمقتضى جوده فقد أغنى عن الإيتاء هذه الأمة فاستقلوا بوجوده، والاستقلال بوجوده أتمّ من الاستغناء بمقتضى جوده.   (1) يقصد أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. (2) آية 152 سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 21] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) من الفرق بين هذه الأمة وبين بنى إسرائيل أنه أباح لهم دخول الأرض المقدسة على الخصوص فقال: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة، وبعد جهد وشدة، وقال فى شأن هذه الأمة «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «1» فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابة تكليف ثم قصروا، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا. وقال: «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ..... » وقال لهذه الأمة: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» «2» فهؤلاء ذلّل لهم وسهّل عليهم، وأولئك صعّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم. قوله جل ذكره: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. الارتداد على قسمين: عن الشريعة وإقامة العبودية وذلك يوجب عقوبة النفوس بالقتل، وعن الإرادة وذلك يوجب الشّقوة- التي هى الفراق- على القلوب. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 22] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) لاحظوا الأغيار بعين الحسبان فتوهموا أن شيئا من الحدثان، وداخلتهم هواجم الرعب فأصروا على ترك الأمر. ومن طالع الأغيار بأنوار البصائر شاهدهم فى أسر التقدير قوالب متعرية عن إمكان الإيجاد، ولم يقع على قلبه ظلّ التّوهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 23] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)   (1) آية 105 سورة الأنبياء. [ ..... ] (2) آية 15 سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أنعم الله (عليهما) «1» بأنوار العرفان فلم يحتشما من المخلوقين، وعلما أن من رجع إليه بنعت الاستكفاء تداركته عواجل الكفاية ثم قال: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا، وينبغى للمؤمن أن يتوكل. ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادّ له، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومن الله ولله، فإنّ من فقد ذلك انتفى عنه اسم الإيمان. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 24] قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) من أقصته سوابق التقدير لم يزده تواتر (العظة) «2» إلا نفورا وجحودا. قوله جل ذكره: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. تركوا آداب الخطاب فصرّحوا ببيان الجحد ولم يحتشموا من مجاهرة الرد. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 25] قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) لما ادّعى أنّه يملك نفسه عرف عجزه عن ملكه لنفسه حيث أخذ برأس أخيه يجرّه إليه. ويقال لا أملك إلا نفسى أي لا أدخرها عن البذل فى أمرك. لا أملك إلا أخى فإنه لا يؤثر نفسه عن الذي أكلفه من قبلك.   (1) (عليهما) زيادة أضفناها ليتضح المعنى. (2) وردت (العظمة) والمعنى يرفضها ويتطلب (العظة) التي وردت فى الآيات السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 26] قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) مجاهرة الرد تعجّل العقوبة فإن من ماكر الحقيقة أبدت الحقيقة له من مكامن التقدير ما يلجئه إلى التطوّح فى أوطان الذّلّ. ويقال حيّرهم فى مفاوزهم حتى عموا عن القصد فصاروا يبيتون حيث يصبحون، بعد طول التعب وإدامة السير، وكذلك من حيّره الله فى مفاوز القلب يتقلب ليلا ونهارا فى مطارح الظنون ثم لا يحصل إلا على مناهل الحيرة، فيحطون بحيث يرحلون عنها، فلا وجه للرأى الصائب يلوح لهم، ولا خلاص من بعده للتجويز يساعدهم، والذي التجأ إلى شهود الصمدية استراح عن نقلة فكره، ووقع فى روح الاستبصار بعد أتعاب التوهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) كانت الدنيا بحذافيرها فى أيديهما فحسد أحدهما صاحبه، فلم يصبر حتى أسرع فى شىء بإتلافه، وحين لم يقبل قربانه اشتد حسده على صاحبه، ورأى ذلك منه فهدّده بالقتل. فأجابه بنطق التوحيد. قوله جل ذكره: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. يعنى إنما يتقبّل القربان ممّن «1» طالع فى القربان مساعدة القدرة، وألقى توهّم كونه باستحقاقه واستيجابه. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 28] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) .   (1) وردت (من) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 لئن بدأتنى بالإثارة «1» لم أقابلك كأوصاف أهل الجهل بل أكل أمرى إلى من بيده مقاليد الأمور. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 29] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) تحقّق بأنّ العقوبة لاحقة به على ما يسلفه من الذّنب فرضى بانتقام الله دون انتقامه لنفسه. وقوله: «أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» الذي تستوجبه بسبب قتلك إياى، فأضافه إلى نفسه، وإذا رأى المظلوم ما يحلّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 30] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) لا تستولى هواجس النفوس على صاحبها إلا بعد استتار مواعظ الحق، فإذا توالت العزائم الرديئة، واستحكمت القصود الفاسدة من العبد صارت دواعى الحق خفية مغمورة. والنّفس لا تدعو إلا (إلى) «2» اتباع الشهوات ومتابعة المعصية «3» ، وهى مجبولة على الأخلاق المجوسية. فمن تابع الشهوات لا يلبث أن ينزل بساحات الندم ثم لا ينفعه ذلك. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 31] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) .   (1) وردت (الإشارة) والملائم أن تكون (الإثارة) . (2) سقطت (إلى) من الناسخ والمعنى يستلزمها. (3) وردت (العصيبه) ولا معنى لها هنا وإنما الملائم (المعصية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 إرادة الحق- سبحانه- وصول الخلق إلى لطف الاحتياط فى أسباب التعيش، فإذا أشكل عليهم وجه من لطائف الحيلة سبّب الله شيئا يعرّفهم ذلك به. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) هذا قريب مما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة «1» » . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 33] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) السعى فى الفساد على ضربين: بالظاهر وعقوبته معلومة فى مسائل الفقه بلسان العلم، وفى الباطن وعقوبته واردة على الأسرار، وذلك بقطع ما كان متصلا من واردات الحق، وكسوف شمس العرفان، والستر بعد الكشف، والحجاب بعد البسط. والحجاب استشعار   (1) فى رواية مسلم عن جرير بن عبد الله: (.. من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا) ج 4 ص 2059 ط ع الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الوحشة بعد الأنس، وتبديل توالى التوفيق بصنوف الخذلان، والنفي على بساط العبادة «1» . والإخراج إلى متابعة النفوس، وذلك- والله- خزى عظيم وعذاب أليم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 34] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) من أقلع عن معاصيه، وارتدع عن ارتكاب مساويه، قبل أن يهتك عنه ستر السداد لا تقام عليه- في الظاهر- حدود الشريعة لاشتباهها على الإمام، ولا يؤاخذه الحق سبحانه بقضايا إجرامه أخذا بظاهر ما يثبت من حاله ماله فى استيجاب السداد، فإذا بدا للإمام «2» جرمه أقيم عليه الحدّ وإن تقنّع بنقاب التقوى. وكذلك إذا سقط العبد عن عين الله لم يصل بعده إلى ما كان عليه من معاودة تقريب الحق- سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) ابتغاء الوسيلة التبري عن الحول والقوة، والتحقق بشهود الطول والمنّة. ويقال ابتغاء الوسيلة هو التقريب إليه بما سبق لك من إحسانه. ويقال الوسيلة ما سبق لك من العناية القديمة. ويقال الوسيلة اختياره لك بالجميل. ويقال الوسيلة خلوص (العقد) «3» عن الشك. ويقال ابتغاء الوسيلة استدامة الصدق فى الولاء إلى آخر العمر. ويقال ابتغاء الوسيلة تجريد الأعمال عن الرياء، وتجريد الأحوال عن الإعجاب، وتخليص النّفس عن الحظوظ.   (1) أي الإخراج من نطاق الارادة إلى نطاق العبادة. (2) وردت (للايمان) وهى خطأ فى النسخ إذ الامام هو الذي يقيم الحد. (3) وردت (العقد) وربما كانت (العقل) فهو الذي يصاب بآفة الشك، وكلاهما مقبول فى المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 36] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) اليوم- يقبل من الأحباب مثقال ذرة، وغدا- لا يقبل من الأعداء ملء الأرض ذهبا، كذا يكون الأمر. ويقال إفراط العدو فى التقرب موجب للمقت، وتستر الولي «1» فى التودد إحكام لأسباب الحب. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 37] يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) كما أن الأعداء لا محيص لهم من النار كذلك المبعدون عن التوفيق كلما أرادوا إقلاعا عن التهتك أدركهم- من فجأة الخذلان- ما يركسهم فى وهدة العناء. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 38] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) لو أنّ وليا من الأولياء سرق نصابا من جرد، ووجد فيه استحقاق القطع، أقيم عليه الحدّ كما يقام على المتهتك، ولا يسقط الحدّ لصلاحه. والإشارة فيه أن أمر الملك مقابل بالتعظيم، بل كل من كان أعلى رتبة فخطره أتمّ وأخفى، والمطالبة عليه أشدّ «2» . فلا يستخفنّ أحد الإلمام بزلة «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 39] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)   (1) وردت (المولى والصواب أن تكون (الولي) ضد (العدو) حسبما نعرف من أسلوب القشيري (2) لأن أصحاب الرتبة الكبيرة بهم اقتداء فعليهم وزرهم ووزر من تبعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 من استوفى أحكام التوبة فتدارك ما ضيّعه، وندم على ما صنعه، وأصلح من أمره ما أفسده- أقبل الله عليه بفضله فغفره «1» ، وعاد إليه باللطف فجبره. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 40] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) بيّن أنه لا يعذّب من يعذّب بعلّة، ولا يرحم من يرحم بعلة، وإنما يتصرف فى عبده بحق ملكه، وأنّ الحكم حكمه، والأمر أمره. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 41] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) من أقصاه الحقّ عن محلّ التقريب، وأرخى له عنان الإمهال وكله إلى مكره، ولبّس عليه حاله وسرّه، فهو ينهمك فى أودية حسبانه، وإنما يسعى فى أمر نفسه فيعمل بما يعود إليه وباله، فأمر نبيّه- صلّى الله عليه وسلّم- بترك المبالاة بأمثالهم، وقلة الاهتمام بأحوالهم، وعرّفه أنهم بمعزل عن رحمته وإنّ من ردّته القسمة الأزلية لا تنفعه الأعلال   (1) غفره أي غطاه وستر خطاياه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فى الاستقبال، فقال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يعنى إن أهّله الله للحرمان، وقيّده بشباك الخذلان فشفاعة الأغيار فيه غير مقبولة، ولطائف القبول إليه غير موصولة. قوله جل ذكره: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. أولئك الذين لم تعجن طينتهم بماء السعادة فجبلوا على نجاسة الشرك فإن عدم الطهارة الأصلية لا يتنقّى بفنون المعاملات. ويقال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» : من أرسل عليه غاغة الهوى، وسلّط عليه نوازع المنى، وأذلّه ( ... ) «1» القضاء، فليس يلقى عليه غير الشقاء. قوله جل ذكره: لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. وردوا من الهوان إلى الهوان، ووعدوا بالفراق، وردّوا إلى الاحتراق، فلا تدرى أي حاليهم أقرب من استيجاب الذل؟ بدايتهم فى الرد أم نهايتهم فى الشرك والجحد؟ قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) يعنى إنهم طرحوا حشمة الدّين، وقنعوا بالحظوظ الخسيسة واكتفوا (بالأعواض) «2» (النذرة) «3» ، فإذا تحاكموا إليك فأحللهم من حلمك على ما يستحق أمثالهم من (الآزال) «4» ،   (1) مشتبهة. (2) الأعواض جمع عوض وربما كانت في الأصل (الأعراض) جمع عرض، وكلاهما مقبول. (3) (النذرة) أي القليلة الهينة ولا نستبعد أنها (العذلة) أي الخسيسة وعند ذلك تكون الكلمة التالية رقم (4) الأنذال جمع نذل، وليس بمستبعد أن تكون الانزال أي الاحلال فيكون السياق (فأحللهم من حلمك على ما يستحق أمثالهم من الاحلال الانزال. من قولهم خللت بالمكان أي نزلت به) . وربما كان المقصود بالآزال ما سبق لهم من القسمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وأنت مخير فيما تريد فسواء أقبلت عليهم فحكمت أو أعرضت فرددت فالاختيار لك. قوله: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» : الإقساط الوقوف على حدّ الأمر من غير (حنف) «1» إلى الحظ. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 43] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) يعنى أنهم قارفوا الجحد، وأصرّوا على الغى، وتعودوا الإعراض عن الإيمان، فمتى تؤثّر فيهم دعوتك، وقد سدّت مسامعهم عن القبول، وطبع على قلوبهم سابق الحكم؟ قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) يخبر أنه استحفظ بنى إسرائيل التوراة فحرّفوها، فلما وكل إليهم حفظها ضيّعوها. وأمّا هذه الأمة فخصّهم بالقرآن، وتولّى- سبحانه- حفظه عليهم فقال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «2» فلا جرم لو غيّر واحد حركة أو سكونا من القرآن لنادى الصبيان بتخطيئه. قوله جل ذكره: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ. إنّ الخلق تجرى عليهم أحكام القدرة وأقسام التصريف فالخشية منهم فرع من المحال، فإنّ من ليس له شظية من الإيجاد فأنّى تصحّ منه الخشية؟!   (1) حنف- ميل وليس بمستبعد أن تكون فى الأصل (حيف) إلى الحظ وكلاهما مقبول. (2) آية 9 سورة الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 قوله جل ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. لا تأخذوا على جحد «1» أوليائى والركون إلى ما فيه رضاء أعدائى عوضا يسيرا فتبقوا بذلك عنّى، ولا يبارك لكم فيما تأخذون من العوض. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ... » فمن اتخذ بغيره حكما، ولم يجد- تحت جريان حكمه- رضى واستسلاما» ففى شرك خامر قلبه، وكفر قارن سرّه. وهيهات أن يكون على سواء! قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) بيّن أن اعتبار العدالة كان حتما فى شرعهم، ولمّا جنحوا إلى التضييع استوجبوا الملام. «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» ، يعنى فمن آثر ترك ماله باعتناق العفو لم يخسر علينا باستيجاب الشكر، ومن أبى إلا تماديا فى إجابة دواعى الهوى فهم الذين وضعوا الشيء فى غير موضعه أي استبدلوا بلزوم الحقائق متابعة الحظوظ، وبإيثار الفتوة موافقة البشرية «3» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 46] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)   (1) وردت (جهد) بالهاء والملائم أن تكون (جحد) فهكذا تشير الآية الكريمة، وكذلك السياق إن رضاء الأعداء يقابله جحد الأولياء. (2) وردت (واستلاما) والصواب (استسلاما) أي أي انقيادا وطاعة. (3) لأن من عناصر الفتوة- عند الصوفية- البذل والإيثار والتضحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 يعنى أتبعناهم بعيسى ابن مريم، وخصصناه بالإنجيل، وفى الإنجيل تصديق لما تقدّمه، وتحقيق لما أوجب الله وألزمه، فلا الدّين قضوا حقه، ولا الإنجيل عرفوا فرضه، ولا الرسول حفظوا أمره ففسقوا وضلوا، وظلموا وزلّوا. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 47] وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) قال الله تعالى فى هذه السورة «1» : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» . وقال فى موضع آخر « ... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» وقال فى هذه الآية « ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أمّا فى الأول فقال: «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ... فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر. وفى الثاني قال: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» لأن من جاوز حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظلم بعضهم على بعض. وأمّا هاهنا فقال: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أراد به معصية دون الكفر والجحد «2» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) .   (1) وردت فى هذه (الآية) والصواب أن تكون (السورة) لأن القشيري ألقى نظرة شاملة على آية واحدة ذات نهايات شتى فى السورة كلها. (2) وهذه هى المنزلة بين الكفر والإيمان- كما يسميها بعض علماء الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قدّم تعريفه- صلّى الله عليه وسلّم- قصص الأولين على تكليفه باتباع ما أنزل الله عليه لئلا يسلك سبيل من تقدّمه فيستوجب ما استوجبوه. قوله جل ذكره: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ. لا تتملكك مودة قريب أو حميم، واعتنق ملازمة أمر الله- تبارك وتعالى- بترك كل نصيب لك. ثم قال: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» يعنى طريقة وسنّة أي أفردنا كلّ واحد منكم- معاشر الأنبياء- بطريقة، (وأمّا «1» ) أنت فلا يدانيك فى طريقتك أحد، وأنت المقدّم على الكافة، والمفضّل على الجملة، ولو شاء الله لسوّى مراتبكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفضّل بعضكم على بعض امتحانا. قوله جل ذكره: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. مسارعة كل أحد على ما يليق بوقته فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد «2» . ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقطع الهوى، واستباق العارفين بنفي المنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعقبى.   (1) وردت (ولما) وهى خطأ فى النسخ. (2) وقع الناسخ فى تكرار عبارة (والعارفون..) فحذفناها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) قم بالله فيما تحكم بينهم، وأقم حقوقه فيما تؤخر وتقدم، ولا تلاحظ الأغيار فيما (تؤثر) «1» أو تذر، فإن الكلّ محو فى التحقيق. قوله جل ذكره: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. يعنى (عظهم) «2» بلسان العلم فإن أبوا قبولا فشاهدهم بعين الحكم. ويقال: أشدد عليهم باعتناق لوازم التكليف، فإن أعرضوا فعاينهم بعين التصريف فانّ الحقّ- سبحانه- بشرط التكليف يلزمهم وبحكم التصريف يؤخرهم ويقدمهم، فالتكليف فيما أوجب، والتصريف فيما أوجد، والعبرة بالإيجاد والإيجاب. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 50] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) أيعودون فى ظلمة الحجاب ووحشة الالتباس بعد ما سطع فجر العرفان، وطلعت شموس التحقيق، وانهتكت أستار الريب؟ ويقال أيطلبون منك أن تحيد عن المحبة المثلى، وقد اتضحت لك البراهين وتجلّى اليقين؟ ويقال أيطمعون فى استتار الحقائق فى السرائر وقد تجلت شموس اليقين؟   (1) وردت (تؤشر) بالشين وهى خطأ فى النسخ. [ ..... ] (2) وردت (عظمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ويقال أتحسبون أن ( .... ) «1» ظلمة الشك لها سلطان، وقد متتع نهار الحقائق «2» ... كلّا، فإن ذلك محال. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 51] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) لا تجنحوا إلى الموالاة مع أعدائه- سبحانه- إيثارا للسكون إلى الحظ، أو احتشاما من القيام للحق، أو ركونا إلى قرابة نسب، أو استحقاقا لمودة حميم، أو تهيبا من استيحاش صديق. بل صمموا عقودكم على التبرّى منهم بكل وجه فهم بعضهم أولياء بعض، والضدية بينكم وبينهم قائمة إلى الدين «3» . «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» التحق بهم، وانخرط فى سلكهم، وعدّ فى جملتهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 52 الى 53] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) .   (1) مشتبهة (2) متوع النهار اصطلاح صوفى تحدث القشيري عنه فى مواضع أخرى من هذا الكتاب ضمن اللوائح واللوامع والطوالع. (3) قائمة إلى الدين اى راجعة إلى اختلاف دينهم عنكم، وربما سقطت من الناسخ كلمة يوم قبل (الدين) فيكون المعنى: إن العداوة بينكم وبينهم قائمة دائمة إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يعنى إن الذين سقمت ضمائرهم، وضعفت فى التحقيق بصائرهم تسبق إلى قلوبهم مداراة «1» الأعداء خوفا من معاداتهم، وطمعا فى المأمول من صحبتهم، ولو استيقنوا أنهم فى أسر العجز وذل الإعراض ونفى الطرد لأمّلوا الموعود من كفاية الحق، والمعهود من جميل رعايته، ولكنهم حجبوا عن محل التوحيد فتفرّقوا فى أودية الحسبان والظنون، وعن قريب يأتيكم الفرج- أيها المؤمنون، وترزقون الفتح بحسن الإقبال، والظفر بالمسئول لسابق الاختيار، فيشعرون الندم، ويقاسون الألم، وأنتم (تعلون) «2» رءوسكم بعد الإطراق، وتصفو لكم مشارب الإكرام، وتضىء بزواهر القرب مشارق القلوب. حينئذ يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم يعاينون بأبصارهم ما تحققوه بالغيب فى أسرارهم، ويصلون من موعودهم إلى ما يوفى ويربو على مقصودهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) جعل صفة من لا يرتدّ عن الدين أن الله يحبه ويحبّ الله، وفى ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يعلم أن من كان غير مرتد فإنّ الله يحبه. وفيه إشارة دقيقة فإن من كان مؤمنا يجب أن يكون لله محبا، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه. وفى الآية دليل على جواز محبة العبد لله وجواز محبة الله للعبد. ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه: إمّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه. أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله. وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعام مخصوص، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبة أخصّ من الرحمة،   (1) وردت (هرارة) ، وبالرجوع إلى كتب التفسير ساعدتنا على اختيار (مداراة) (انظر تفسير وجدي) . (2) وردت (تعلمون) والملائم أن تكون (تعلون) رءوسكم بعد الإطراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 واللفظان يعودان إلى معنى واحد فإن إرادة الله تعالى واحدة وبها يريد سائر مراداته، وتختلف أسماء الإرادة باختلاف أوصاف المتعلق. وأمّا محبة العبد لله- سبحانه- فهى حالة لطيفة يجدها فى قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثار «1» موافقة أمره، وترك حظوظ نفسه، وإيثار حقوقه- سبحانه- بكل وجه. وتحصل العبارة عن تلك الحالة على قدر ما تكون صفة العبد فى الوقت الذي يعبّر عنه فيقال المحبة ارتياح القلب لوجود المحبوب، ويقال المحبة ذهاب المحبّ بالكلية فى ذكر المحبوب، ويقال المحبة خلوص المحب لمحبوبه بكل وجه، والمحبة بلاء كل كريم، والمحبة نتيجة الهمة فمن كانت همته أعلى فمحبته أصفى بل أوفى بل أعلى. ويقال المحبة سكر لا صحو فيه ودهش فى لقاء المحبوب يوجب التعطّل عن التمييز، ويقال المحبة بلاء لا يرجى شفاؤه، وسقام لا يعرف دواؤه. ويقال المحبة غريم يلازمك لا يبرح، ورقيب من المحبوب يستوفى له منك دقائق الحقوق فى دوام الأحوال، ويقال المحبة قضية توجب المحبة فمحبة الحق أوجبت محبة العبد «2» . قوله جل ذكره: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. لولا أنه يحبهم لما أحبوه، ولولا أنه أخبر عن المحبة فأنّى تكون للطينة ذكر المحبة؟ ثم بيّن الله تعالى صفة المحبين فقال «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» . يبذلون المهج فى المحبوب من غير كراهة، ويبذلون الأرواح فى الذبّ عن المحبوب من غير ادخار شظية من الميسور.   (1) وردت خطأ (إيسار) بالسين (2) كلام القشيري فى المحبة هنا لا يكاد يختلف كثيرا عن كلامه عنها فى (الرسالة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ثم قال تعالى فى صفتهم: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعة، ويجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات، ويجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات، ويجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود فى دوام الأوقات. ثم قال: «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» أي لا يلاحظون نصح حميم، ولا يركنون إلى استقلال حكم، ولا يجنحون إلى حظ ونصيب، ولا يزيغون عن سنن الوفاء بحال. ثم بيّن- سبحانه- أن جميع ذلك إليه لا منهم فقال: و «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» متفضّل عليم بمن يخصّ بذلك من عبيده. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 55] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) الولي أي الناصر، ولا موالاة بين المؤمنين وبين أعداء الحق- سبحانه- فأعداء الحقّ هم أعداء الدّين. و «إِنَّما» حرف يقتضى أن ما عداه بخلافه، وأعدى عدوّك نفسك- كما فى الخبر- ومن عادى نفسه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلق وبالمعارضة فيها مع الحق «1» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 56] وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) الفائزون على حظوظهم الذين هم خصم للحقّ على أنفسهم لا خصم لأنفسهم على مولاهم، والغلبة بالحجّة والبرهان دون اليد. ويقال من قام لله بصدق انخنس دونه كلّ مبطل. ويقال إذا طلعت أنوار الحق أدبر ليل أهل الباطل.   (1) أي إن من خاصم نفسه لم تقم بينه وبين الناس ولا بينه وبين الحق خصومة من أجل نفسه فقد، انتفت حظوظها بالكلية وأسلمها لربه بلا معارضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 57] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) نبّههم على وجوب التحيز عنهم والتميز منهم، فإن المخالف فى العقيدة لا يكون موافقا فى الحقيقة. ويقال أمرهم بأن يلاحظوهم بعين الاستصغار كما لاحظوا دين المسلمين بعين الاستحقار. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 58] وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) الأذان دعاء إلى محلّ النجوى، فمن تحقّق بعلوّ المحلّ فسماع الأذان يوجب له روح القلب واسترواح الروح، ومن كان محجوبا عن حقيقة الحال لاحظ ذلك بعين اللعب وأدركه بسمع الاستهزاء، وذلك حكم الله: غاير بين عباده على ما يشاء. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 59] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) ما لنا عندكم عيب إلا أننا تحققنا أننا محو فى الله، (وأنّ الكائنات حاصلة بالله ولا نتقفى أثرا سوى لله فى الله) «1» ، وهذا- والله- عيب زائل، ونقص ليس له- فى التحقيق- حاصل. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)   (1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 يعنى أخسّ من المذكورين قدرا، وأقل منهم خطرا من سقط عن عين الله فأذلّه، وأبعده عن نعت التخصيص فأضلّه، ومنعه عن وصف التقريب وأبعده، وحجبه عن شهود الحقيقة وطرده. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 61] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) أظهروا الصدق، وفى التحقيق نافقوا، وافتضحوا من حيث أوهموا ولبّسوا فلا حالهم بقيت مستورة، ولا أسرارهم كانت عند الله مكبوتة «1» ، وهذا نعت كل مبطل. وعند أرباب الحقائق أحوالهم ظاهرة فى أنوار فراستهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 62] وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) تملكتهم الأطماع فاستهوتهم فى متاهات العناء، وذلك نعت كل (طالع) «2» فى غير مطمع ذلّ حاضر، وصغار مستول. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 63] لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) .   (1) وردت (مكتوبة) والصواب أن تكون مكبوتة لتلائم مستورة التي سبقت. (2) ربما كانت (طامع) فى غير مطمع وربما كانت (ضالع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الربّانىّ من كان لله وبالله لم تبق منه بقية لغير الله. ويقال الرّبانىّ الذي ارتقى عن الحدود. والربانىّ من توقّى الآفات ثم ترقّى إلى الساحات، ثم تلقّى ما كوشف به من زوائد القربات، فخلا عن نفسه، وصفا عن وصفه، وقام لربّه وبربّه. وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدّين، فهم خلفاء ينهون الخلق بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم، فإنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يؤمئون إليه، وتحقق ما علقوا هممهم به. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) صغّر سوء قالة الموحّدين- فى اغتياب بعضهم لبعض بعد ما كانوا بالتوحيد قائلين وبالشهادة ناطقين- بالإضافة إلى ما قاله الكفار من سوء القول فى الله يعنى أنهم وإن أساءوا قولا فلقد كان أسوأ قولا منهم من نسبنا إلى ما نحن عنه منزّه، وأطلق فى وصفنا ما نحن عنه مقدّس. ثم إن الحق- سبحانه قال: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا» فلا ريح الصدق يشمون، ولا نفسا من الحقّ يجدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ثم أثنى على نفسه فقال: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» «1» أي بل قدرته بالغة ومشيئته نافذة، ونعمته سابغة وإرادته ماضية. ويقال «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» أي يرفع ويضع، وينفع ويدفع، ولا يخلو أحد عن نعم النفع وإن خلا عن نعم الدفع. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 65] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) إنما وعدهم الغفران بشرط التقوى ودليل الخطاب يقتضى أنه لا يغفر لمن لم يتق منهم. وقال لظالمى هذه الأمة: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» «2» ثم قال فى آخر الآية: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» أي أهل التقوى لأنه هو أهل المغفرة، فإن تركتم التقوى فهو أهل لأن يغفر ويقال لو أنهم راعوا أمرنا أصلحنا لهم أمرهم، ولكنهم وقفوا فوقفوا. قوله جلّ ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 66] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) أي لو سلكوا سبيل الطاعة لوسّعنا عليهم أسباب المعيشة وسهّلنا لهم الحال حتى إن ضربوا بيمين ما لقوا غير اليمن، وإن ذهبوا يسرة ما وجدوا إلا اليسر. قوله جل ذكره: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ. المقتصد الواقف على حدّ الأمر لا يقصّر فينقص، ولا يجاوز فيزيد.   (1) لاحظ كيف يؤول القشيري (اليد) ليبعد عنها كل دلالة حسية ويجعلها من الأوصاف الالهية. (2) آية 32 سورة فاطر. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ويقال المقتصد الذي تساوى فى همّته الفقد والوجود فى الحادثات. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) لا تكتم شيئا مما أوحينا إليك ملاحظة لغير، إذ لا غير- فى التحقيق- إلا رسوم موضعة، وأحكام القدرة عليها جارية. ويقال بيّن للكافة أنك سيّد ولد آدم، وأنّ آدم دون لوائك. ويقال بلّغ ما أنزل إليك أنّى أغفر للعصاة ولا أبالى، وأردّ من المطيعين من شئت ولا أبالى. «1» قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. يحفظ ظاهرك من أن يمسّك أذاهم، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوّ، أو يصون سرّك عنهم حتى لا يقع عليه احتشام منهم. ويقال يعصمك من الناس حتى لا تغرق فى بحر التوهم بل تشاهدهم كما هم وجودا بين طرفى العدم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) .   (1) يتضح من هذه الإشارة شيئان: أولهما مدى اتساع صدور الصوفية للتسامح وفطرتهم المتفائلة إلى سعة الرحمة الإلهية مما يطمئن العصاة ويحمس على التوبة، وثانيهما مدى مخالفة القشيري للمعتزلة فى مسألة وجوب المثوبة أو العقوبة على الله سبحانه، فلا وجوب- عنده- على الله بخلافهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أي ليس انتعاشكم ولا نظام معاشكم، ولا قدركم فى الدنيا والعقبى، ولا مقداركم ولا منزلكم فى حال من حالاتكم إلا بمراعاة الأمر والنهى، والمحافظة على أحكام الشرع. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) بيّن أنهم- وإن نجنّست أحوالهم- فبعدما تجمعهم أصول التوحيد فلهم الأمان من الوعيد، والفوز بالمزيد. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) داروا مع الهوى فوقعوا فى البلاء. ومن أمارات الشقاء الإصرار على متابعة الهوى، وحسبوا ألا تكون فتنة، فعموا وصموا. واغتروا بطول الإمهال فأصروا على قبيح الأعمال، فلما أخذتهم فجاءة الانتقام لم ينفعهم الندم، وبرّح بهم الألم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 سقمت بصائرهم والتبست عليهم أمارات الحدوث، فخلطوا فى عقائدهم استحقاق أوصاف القدم بنعوت الحدوث! قوله جلّ ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 74] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) بلغ الخذلان بهم حدا أن كابروا الضرورة فحكموا للواحد بأنه ثلاثة، ولا يخفى فساد هذا على مجنون.. فكيف على عاقل؟! قوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لم يغلق باب التوبة عليهم- مع قبيح أقوالهم، وفساد عقائدهم- تضعيفا «1» لآمال المؤمنين بخصائص رحمته. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 75] مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) من اشتملت عليه الأرحام، وتناوبته الآثار المتعاقبة أنّى يليق بوصف الإلهية؟ ثم من مسّته الحاجة حتى اتصف بالأكل وأصابته الضرورة إلى أن يخلص من بقايا الطعام فأنّى يليق به استيجاب العبادة والتسمية بالإلهية؟ انظر- يا محمد- كيف نزيد فى إيضاح الحجة وكيف تلبّس عليهم سلوك المحجة؟   (1) تضعيفا أي جعلها مضاعفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 76] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) تعليق القلوب- بدون الرب- فى استدفاع الشر واستجلاب الخير بمحيق للوقت فيما لا يجدى، وإذهاب للعمر فيما لا يغنى إذ المتفرد بالإيجاد برىء عن الأنداد. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 77] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) التعمق فى الباطل قطع لآمال الرجوع فكلما كان بعد المسافة من الحقّ أتمّ كان اليأس من الرجعة أوجب، ومتّبع الضلالة شرّ من مبتدعها لأن المبتدع يبنى والمتّبع يتمّ البناء، ومن به كمال الشرّ شرّ ممن منه ابتداء الشر. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 78] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) أمر الأنبياء- عليهم السلام- حتى ذكروا الكفار بالسوء، وأمّا الأولياء فخصّهم بذكر نفسه فقال: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ» «1» فلعنة الكفار بلسان الأنبياء، وذكر المؤمنين بالجميل بلسان الحقّ- سبحانه، ولو كان ذلك ذكرا بالسوء لكان فيه استحقاق فضيلة، فكيف وهو ذكر بالجميل!؟ ولقد قال قائلهم: لئن ساءنى أن تلقني بمساءة ... فقد سرّنى أني خطرت ببالكا قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 79] كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)   (1) آية 43 سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 «1» الرضاء بمخالفة أمر الحبيب موافقة للمخالف، ولا أنفة بعد تميز الخلاف. والسكوت عن جفاء تعامل به كرم، والإغضاء عما يقال فى محبوبك دناءة. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 80] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) شرّ خصال اللئام مطابقة من يضاد الصديق، فإذا كان سخط الله فى موالاة أعدائه، فرحمته- سبحانه فى معاداة أعدائه. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 81] وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) صرّح بأنّ موافق من ناوءك «2» آثر التباعد عنك إذ لو كانت بينكما شهرة غير منقطعة لأخلصت «3» فى موالاته، وأخلص فى مصافاتك. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 82] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) بيّن أنّ صفة العداوة وإن كانت تجمعهم فمعاداة بعضهم تزيد على بعض، وبقدر   (1) سقطت (فعلوه) من الناسخ فاثبتناها. (2) وردت (ناولك) وربما كانت فى الأصل (ناواك) والتبست على الناسخ فظنها لاما. (3) أخطأ الناسخ فكتبها (لأخصلت) . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ما للنصارى من التّرهّب أثر فيهم (بالمقاربة) «1» من أهل الحق فإنهم وإن لم ينتفعوا بهم من حيث الخلاص فقد ذكرهم الله سبحانه- بمقاربة أهل الاختصاص. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 83] وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول، فإذا قرعت سمعهم دعوة الحقّ ابتسمت البصيرة فى قلوبهم، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 84] وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) وأي عذر لنا فى التعريج فى أوطان الارتياب، وقد تجلّت لقلوبنا الحجج؟ ثم ما نؤمله من حسن العاقبة. متى بدونه يمكن أن نطلبه؟ قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 85] فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) لمّا صدقت آمالهم قابلها بالتحقيق، سنّة منه- سبحانه- ألا يخيب راجيه، ولا يرد مؤمليه «2» ، وإنما علّق الثواب على قول القلب الذي هو شهادة عن شهوده، فأمّا النظر المنفرد عن البصيرة فلا ثواب عليه ولا إيجاب «3» .   (1) وردت (بالمقارنة) والصواب أن تكون (المقاربة) فقد وردت كذلك فيما بعد إشارة إلى ما فى الآية (أقربهم مودة ... ) . وربما قبلنا (المقارنة) على أساس مقارنة النصارى باليهود. (2) وردت (مؤلميه) وهى خطأ فى النسخ. (3) لاحظ هنا قيمة الإيمان النظري بالقياس إلى الإيمان القلبي ومغزى ذلك فى التسامح الديني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 86] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) (هذا) أثر الإعراض عن الأعداء فى مقابلة أثر الإقبال على الأولياء معجّلا ومؤجلا. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 87] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) من أمارات السعادة الوقوف على حد الأمر إن أباح الحقّ شيئا قبله، وقابله بالخشوع، وإن حظر شيئا وقف ولم يتعرض للجحود. ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب فى أوطان الخلوة، وتحريم ذلك: إن استبدل تلك الحالة بالخلطة دون العزلة والعشرة دون الخلوة، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 88] وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) الحلال الصّافى بأن يأكل العبد ما يأكل على شهوده- سبحانه- فإن نزلت الحالة عن هذا فعلى ذكره- سبحانه- فإنّ الأكل على الغفلة حرام فى شريعة الإرادة. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الإشارة منه إلى وقت يغلب على قلبك التعطش إلى شىء من إقباله أو وصاله، فتقسم عليه بجماله أو جلاله أن يرزقك شظية من إقباله، فكذلك فى شريعة الرضا نوع من اليمين، فيعفو عنك رحمة عليك لضعف حالك. والأولى الذوبان والخمود بحسن الرضا تحت ما يجرى عليك من أحكامه فى الردّ والصد، وأن تؤثر استقامتك فى أداء حقوقه على إكرامك بحسن تقريبه وإقباله، كما قال قائلهم: أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد ومن اللغو فى اليمين- عندهم- ما يجرى على لسانهم فى حال غلبات الوجد من تجريد العهد وتأكيد العقد، فيقول: وحقّك ما نظرت إلى سواكا، ولا قلت بغيرك.. ولا حلت عن عهدك، وأمثال هذا ... وكلّه فى حكم التوحيد لغو، وعن شهود عهد الأحدية سهو ... ومن أنت فى الرّفعة حتى تعدم نفسك؟ وأين فى الدار ديّار حتى تقول بتركه أو تتحقق بوصله أو هجره؟ كلا ... بل هو الله الواحد القهار «1» . وكما أن الكفّارة الشرعية إمّا عتق أو إطعام وإما كسوة فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام: فكفّارتهم- على موجب الإشارة- إمّا بذل الروح بحكم الوجد، أو بذل القلب بصحة القصد، أو بذل النفس بدوام الجهد، فإن عجزت فإمساك وصيام عن المناهي والزواجر. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 90] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)   (1) وشبيه بذلك قول الشبلي حين سئل عن التوحيد (من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوى، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ... وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم فى أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم» الرسالة ص 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الخمر ما خامر العقول، والخمر حرام. والإشارة فيه أنه يزيد نفاد العقل بما يوجب عليه من الالتباس. ومن شرب من خمر الغفلة فسكره أصعب فشراب الغفلة يوجب البعد عن الحقيقة. وكما أن من سكر من خمر الدنيا ممنوع عن الصلاة فمن سكر من خمر الغفلة فهو محجوب عن المواصلات. وكما أنّ من شرب من خمر الدنيا وجب عليه الحدّ فكذلك من شرب شراب الغفلة فعليه الحدّ إذ يضرب بسياط الخوف. وكما أنّ السكران لا يقام عليه الحدّ ما لم يفق فالغافل لا ينجح فيه الوعظ ما لم ينته. وكما أن مفتاح الكبائر شرب الخمر (فالغفلة) «1» أصل كلّ زلّة، وسبب كلّ ذلّة وبدء كل بعد وحجبة عن الله تعالى. ويقال لم يحرم عليه الشراب فى الدنيا إلا وأباح له شراب القلوب فشراب الكبائر محظور (وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب) » ، وحيثما كان الشراب كان السكر، وفى معناه أنشدوا: فما ملّ ساقيها وما ملّ شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللّبّا فصحوك من لفظى هو الوصل كله ... وسكرك من لحظى يبيح لك الشربا وحرّم الميسر فى الشرع، وفى شريعة الحب القوم مقهورون فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة فى شوارع التقدير، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر، عليها خرجت القرعة من ( ... ) «3» الحكم، قال تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «4» .   (1) أضفنا (الغفلة) وليست موجودة فى النص ليتضح المعنى. (2) ما بين القوسين مثبت فى الهامش نقلناه إلى موضعه حسب العلامات. (3) مشتبهة. (4) آية 141 سورة الصافات. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 91] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) طال بعدهم عن الحقيقة فقاسوا الهوان فى مطارح الغربة، وصاروا سخرة للشيطان فبقوا الصلاة التي هى محل النجوى وكمال الراحة، وفسدت ذات بينهم بما تولد من الشحناء والبغضاء. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 92] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) كلما كان العبد أعرف بربه كان أخوف من ربه، وإنما ينتفى الحذر عن العبد عند تحقيق الموعد بقوله: «أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ» «1» وذلك عند دخول الجنة. وحقيقة الحذر نهوض القلب بدوام الاستغاثة مع مجارى الأنفاس. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) من حافظ على الأمر والنهى فليس للقمة يتناولها من الخطر ما يضايق فيها، وإنما المقصود من العبد التأدب بصحبة طريقه سبحانه، فإذا اتّقى الشرك تعرّف، ثم اتقى الحرام فما تصرّف، ثم اتقى الشحّ فآثر وما أسرف.   (1) آية 82 سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقوله «ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا ... » يعنى اتقوا المنع «1» وأحسنوا للخلق- وهذا للعموم. ثم اتقوا شهود الخلق فأحسن الشهود الحقّ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه- وهذا للخواص. والله يحب المحسنين أعمالا والمحسنين (آمالا) «2» والمحسنين أحوالا. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 95] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أباح الصيد لمن كان حلّالا «3» ، وحرّم الصيد على المحرم الذي قصده زيارة البيت. والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغى أن يكون الصيد منه فى الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال، لذا قالوا: البرّ من لا يؤذى الذر ولا يضمر الشر. ويقال الإشارة فى هذا أن من قصدنا فعليه نبذ الأطماع جملة، ولا ينبغى أن تكون له مطالبة بحال من الأحوال.   (1) أي منع الإحسان. (2) نرجح أنها فى الأصل (أموالا) . (3) الحلال- الخارج من الإحرام (المنجد: مادة حل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وكما أنّ الصيد على المحرم حرام إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار- على الواجد- حرام ما دام محرما بقلبه. ويقال العارف صيد الحق، ولا يكون للصيد صيد. وإذا قتل المحرم الصيد فعليه الكفّارة، وإذا لاحظ العارف الأغيار، أو طمع أو رغب فى شىء أو اختار لزمته الكفّارة، ولكن لا يكتفى منه بجزاء المثل، ولا بأضعاف أمثال ما تصرّف فيه أو طمع، ولكن كفّارته تجرده- على الحقيقة- عن كل غير، قليل أو كثير، صغير أو كبير. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) حكم البحر خلاف حكم البر. وإذا غرق العبد فى بحار الحقائق سقط حكمه، فصيد البحر مباح له لأنه إذا غرق صار محوا، فما إليه ليس به ولا منه إذ هو محو، والله غالب على أمره. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) حكم الله سبحانه- بأن يكون بيته- اليوم ملجأ يلوذ به كل مؤمّل، ويستقيم ببركات زيارته كلّ مائل عن نهج الاستقامة، ويستنجح بابتهاله هنا لك كلّ ذى أرب. والبيت حجر والعبد مدر، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليعلم أنه الذي لم يزل لا سبيل إليه للحدثان والغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 98] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) شديد العقاب للأعداء، غفور رحيم للأولياء. ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إن زاغوا عن الشهود لحظة، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 99 الى 100] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) المتفرّد بالإلهية الله. والرسول- وإن جلّ قدره- فليس عليه إلا البلاغ وهو أيضا (بتسييره) «1» . قوله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: الخبيث ما اكتسبه الغافل عن الله تعالى فى حالة اكتسابه، والطيب ما اكتسبه على شهود الحق. ويقال الخبيث ما لم يخرج منه حقّ الله تعالى، والطيب ما أخرج منه حقه- سبحانه. ويقال الخبيث ما ادخرته لنفسك، والطيب ما قدّمته لأمره. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) .   (1) لا نستبعد ايضا انها ربما كانت فى الأصل (بتيسيره) ، وكلاهما مقبول فى السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 إذا أسبل عليكم ستر اللطف فلا تتعرضوا لعلم أخفى عنكم، فيتنغص (بالتج ... ) «1» - عليكم- عيشكم. ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر- حيث لا تستوجبون ذلك- فيسوءكم تقاصر رتبتكم. ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجها من (التفال) «2» ولا تطلبوا أسرار الباري، واركنوا إلى روح المنى فى استدفاع ما (ظلكم) «3» ولا تبحثوا عن سر ذلك، وراعوا الأمر مجملا. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 102] قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) يعنى توهّم قوم أنهم محررون عن التأثر فيما يصادفهم من فجاءة التقدير، وذلك منهم ظنّ، كما يقول بعضهم: تبيّن يوم البين أنّ اعتزامه ... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 103] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) هذه أحكام ابتدعوها، فردّهم الحقّ- سبحانه- عن الابتداع، وأمرهم بحسن الاتّباع، وأخبر أنّ ما صدر من عاداتهم لا يعدّ من جملة عباداتهم. قوله جل ذكره [سورة المائدة (5) : آية 104] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) :   (1) بقية الكلمة مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (التجسس) وهى مقبولة هكذا فى السياق أي لا تجعلوا التجسس ومحاولة معرفة الأسرار ينغص عليكم عيشكم. (2) هكذا فى النسخ ونرجح أنها فى الأصل (التأويل) وإن كانت بعيدة فى الرسم. (3) أي ما غشيكم من سحب الإعراض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 إذا هتفت بهم دواعى الحقّ بالجنوح إلى وصف الصدق صدّهم عن الإجابة ما مرنوا عليه من سهولة (التقليد) «1» ، وإن أسلافهم الذين وافقوهم لم يكونوا إلّا فى ضلال. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يكفى للفقير أن يمشى وقد جبر بعض (كسره) «2» ، فأمّا إذا ادّعى التقدم أو الطمع فى إنجاد من سواه فمحال من (الحدث) «3» والظن. ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرّغ إلى غيره. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)   (1) وردت (التقليل) والصواب (تقليد) ابائهم وأسلافهم كما فى الآية. (2) وردت (كثره) بالثاء والصواب: جبر (كسره) بالسين. (3) ربما كانت فى الأصل (الحدس) لتتمشى مع الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع ونسخ، وفى بيان التفسير تفصيله. والنسخ هو الإزالة، وذلك جائز فى العبادات. ومعنى النسخ يوجد فى سلوك المريدين فهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظواهر من حيث المجاهدات. فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر، فهو كالنسخ من حيث الصورة. قال تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» «1» . واتصافهم بمراعاة الثلوب أتمّ بتأديبهم بأحكام المعاملات «2» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) يكاشفهم بنعت الجلال فتنخنس فهومهم وعلومهم حتى ينطقوا بالبراءة عن التحقيق   (1) آية 106 سورة البقرة. (2) أي أن مراعاة الحقيقة تتم بمراعاة الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ويقولون: «لا عِلْمَ لَنا» ، وهكذا تكون الحالة غدا: من قال لشىء، أو مال لشىء مما يكون نعتا بمخلوق فعند ظهور وابل التعزّز تتلاشى الجملة، فالملائكة يقولون: «ما عبدناك حق عبادتك» والأنبياء يقولون: «لا عِلْمَ لَنا» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 110] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) التذكير بوجوه النعم يستخرج خلاصة الحب والهيمان فى المذكور «1» ، وكلّ وقت للأحباب يمضى يصير لهم حديثا يتلى من بعدهم: إما عليهم وإمّا عنهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 111] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) .   (1) أعلى درجات الذكر أن يفنى الذاكر فى المذكور وفيها ينتقل العبد من مرتبة ذكر النعم إلى ذكر المنعم. فكأن القشيري يقصد بإشارته إلى ان تذكير عيسى وامه بالنعم التي وردت فى الآية حث لهما على الارتقاء من مرحلة النظر إلى النعم إلى مرحلة النظر إلى صاحبها سبحانه وتعالى، وحبه والهيمان فيه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وإنما خصّهم بالوحى إليهم إلهاما وإكراما لانبساط ضياء عيسى عليهم «1» ، وفى الأثر: «هم القوم لا يشقى بهم جليس» . قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 113] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) طلبوا المائدة لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة، فعذروا وأجيبوا إليها إذ كان مرادهم حصول اليقين وزيادة البصيرة. ويقال كل يطلب سؤله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه فى مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه فى (فائدة) «2» من الموارد يردها، وعزيز منهم من يجد الفناء «3» عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 114] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) شتّان بين أمة طلب لهم نبيّهم سكونا بإنزال المائدة عليهم، وبين إمة بدأهم- سبحانه-   (1) وهذا يطابق فكرة القشيري فى الولاية وكيف انها ملحقة بالمعجزة، فما يظهر على الولي من كرامة هو بركة النبي الذي الولي من أمته وعصره. (2) ربما كانت (مائدة) ليتم التقابل بين المائدتين الحسية والمعنوية. (3) ربما كانت (الغناء) اى يجد الاستغناء عن كل برهان ودليل، وتصح (الفناء) بالفاء على معنى أن فناءه فى الله لا يحوجه إلى برهان أو دليل.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» «1» وقال فى صفتهم «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» «2» وفرق بين من زيادة إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تباح لهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 115] قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) أجابه إلى سؤاله لهم، ولكن توعدهم «3» بأليم العقاب لو خالفوا بعده ليعلم السالكون أنّ المراد إذا حصل، وأن الكرامة إذا تحققت- فالخطر أشدّ والحال من الآفة أقرب، وكلما كانت الرتبة أعلى كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلّت جلّت. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 116] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف.   (1) آية 4 سورة الفتح. (2) آية 2 سورة الأنفال. (3) وردت (يوعدهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ثم إن عيسى- عليه السّلام- حفظ أدب الخطاب فلم يزكّ نفسه، بل بدأ بالثناء على الحق- سبحانه- فقال: تنزيها لك! إننى أنزهك عما لا يليق بوصفك. ثم قال: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أي إنى إن كنت مخصوصا من قبلك بالرسالة- وشرط النبوة العصمة- فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لى؟. ثم إنى «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» . كان واثقا بأن الحقّ- سبحانه- عليم بنزاهته من تلك القالة. «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي» : أي علمك محيط بكل معلوم. «وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تعرّفني بإعلامك. «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 117] ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) ما دعوتهم إلا لعبادتك، وما أمرتهم إلا بتوحيدك وتقديسك، وما دمت حيا فيهم كنت ( .... ) «1» على هذه الجملة، فلما فارقتهم كان تصرفهم فى قبضتك على مقتضى مشيئتك، فأنت أعلم بما كانوا عليه من وصفي وفاقهم وخلافهم، ونعمتى اقتصادهم «2» وإسرافهم. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 118] إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) .   (1) مشتبهة. (2) الاقتصاد هنا معناها الاعتدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 بيّن أن حكم المولى فى عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المعز لهم بمغفرتك لهم. ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضرك كفرهم. ويقال «الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو (عند) «1» القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ. ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن (تتجمل) «2» بطاعة مطيع أو تنتقص «3» بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة. قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 119] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) من تعجّل ميراث صدقه فى دنياه من قبول حصل له من الناس، أو رياسة عقدت له، أو نفع وصل إليه من جاه «4» أو مال. فلا شىء له فى آجله من صواب صدقه، لأن الحقّ- سبحانه- نصّ بأنّ يوم القيامة ينفع فيه الصادقين صدقهم. قوله جل ذكره: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ورضاء الحق- سبحانه- إثبات محلّ لهم، وثناؤه عليهم ومدحه لهم، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله. ورضاؤهم عن الحق- سبحانه- فى الآخرة وصولهم إلى مناهم فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى.   (1) وردت (عن) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (تتحمل) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت (تنتقض) بالضاد وهى خطأ فى النسخ. (4) وردت (جاره) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قوله جل ذكره: [سورة المائدة (5) : آية 120] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) تمدّح الحقّ- سبحانه- بقدرته القديمة الشاملة لجميع المقدورات، الصالحة لإيجاد المصنوعات، ولم يتجمل بإضافة غير إلى نفسه من اسم أو أثر، أو عين أو طلل. قوله جل ذكره: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. من الإبعاد والإسعاد، والصد والرد، والدفع والنفع، والقمع والمنع. السورة التي تذكر فيها الأنعام «بسم الله الرحمن الرحيم» باسمه استنارت القلوب واستقلّت، وباسمه زالت الكروب واضمحلت، وبرحمته عرفت الأرواح وارتاحت، وبا ( ... ) «1» انخنست العقول فطاحت. ويقال باسم الله نال كلّ مؤمّل مأموله، وبرحمة الله وجد كل واجد وصوله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) بدأ الله- سبحانه- بالثناء على نفسه، فحمد نفسه بثنائه الأزلىّ وأخبر عن سنائه الصمدى، وعلائه الأحدى فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» . وقوله عز وجل: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» : ف «الَّذِي» إشارة و «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» عبارة. استقلت الأسرار بسماع «الَّذِي» لتحققها بوجوده، ودوامها لشهوده، واحتاجت القلوب عند سماع «الَّذِي» إلى سماع الصلة لأن «الَّذِي» من الأسماء الموصولة بكون القلوب تحت ستر الغيب فقال: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» .   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 قوله جل ذكره وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. خلق ظلمة الليل وضياء النهار، ووحشة الكفر والشرك، ونور العرفان والاستبصار. ويقال جعل الظلمات نصيب قوم لا لجرم سلف، والنور نصيب قوم لا لاستحقاق سبق، ولكنه حكم به جرى قضاؤه. ويقال جعل ظلمات العصيان محنة قوم، ونور العرفان نزهة قوم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) أثبت الأصل من الطين وأودعها عجائب (السير) «1» ، وأظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق، فالعبرة بالوصل لا بالأصل فالوصل قربة والأصل تربة، الأصل من حيث النّطفة والقطرة، والوصل من حيث القربة والنّصرة. قوله «ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» : جعل للامتحان أجلا، ثم جعل للامتنان أجلا، فأجل الامتحان فى الدنيا، وأجل الامتنان فى العقبى. ويقال ضرب للطلب أجلا وهو وقت المهلة، ثم عقبه بأجل بعده وهو وقت الوصلة فالمهلة لها مدى ومنتهى، والوصلة بلا مدى ولا منتهى فوقت الوجود له ابتداء وهو حين تطلع شموس التوحيد ثم يتسرمد «2» فلا غروب لها بعد الطلوع. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 3] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) .   (1) إما ان تكون (السير) جمع سيرة او تكون (السير) مصدر سار يسير، ولا نستبعد. انها فى الأصل (السر) فالسر- كما يقول صاحب اللمع- هو خفاء بين العدم والوجود (اللمع ص 430) [ ..... ] (2) وفى ذلك يقول الشبلي: تسرمد وقتى فيك وهو مسرمد ... وأفنيتني عنى فصرت مجردا (اللمع ص 442) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وهو الذي هو معبود من فى السماء، مقصود من فى الأرض، وهو الموجود قبل كل سماء وفضاء، وظلام وضياء، وشمس وقمر، وعين وأثر، وغير وغبر. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 4] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) أي لا يزيدهم كشفا ولطفا إلا قابلوه جحدا وكفرا، ولا يوليهم إقبالا إلا قابلوه بإعراض، ولا يلقاهم بسطا إلّا ( .... ) «1» بانقباض. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 5] فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) إنهم أصرّوا على الخلاف مستكبرين، وعن قريب يقاسون وبال أمرهم، ويذوقون غبّ جحدهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) يعنى من تقدّمهم كانوا أشدّ تمكنا فى إمهالنا، وأكثر نصيبا- فى الظاهر- من أقوالنا سهّلنا لهم أسباب المعاش، ووسّعنا عليهم أبواب الانتعاش، فحين وطّنوا على كواذب المنى قلوبهم، وأدركوا من الدنيا محبوبهم ومطلوبهم فتحنا عليهم من مكامن التقدير، وأبرزنا لهم من غوامض الأمور ما فزعوا عليه من النّدم، وذاقوا دونه طعم الألم. ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، وأورثناهم مساكنهم، وأسكناهم أماكنهم، فلمّا انخرطوا- في الغىّ- عن   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 سلكهم، ألحقناهم فى الإهلاك بهم، سنّة منا فى الانتقام قضيناها على أعدائنا، وعادة فى الإكرام أجريناها لأوليائنا. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 7] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) يخبر عن كمال قدرته فى إبداء ما يريده بعد ما قضى لهم الضلال، فلو أشهدهم كلّ دليل، وأوضح لهم كل سبيل ما ازدادوا إلا تماديا فى الضلال والنفرة، وانهماكا فى الجهل والغىّ. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 8] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) بيّن أنّ العبرة بالقسمة دون الاعتبار بالحجة، وما يغنى السراج عند من فقد البصر؟ كذلك ما تغنى الحجج عند من عدم عناية الأزل؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 9] وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) من لم يقدّس سرّه لبّس عليه أمره. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 10] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) أي سبقك- يا محمد- من كذّب به كما كذّبت، فحقّ لهم نصرنا، فانتقمنا ممن ناوءهم، فعاد إليهم وبال كيدهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 11] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 قل دوخوا فى الأرض، وسيحوا فى سيركم فيها من الطول والعرض، ثم انظروا هل أفلت من حكمنا أحد، وهل وجد من دون أمرنا ملتحدا «1» ؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 12] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) سلهم هل فى الدار ديار؟ وهل للكون- فى التحقيق- عند الحق مقدار؟ فإن بقوا عن جواب يشفى، فقل: الله فى الربوبية يكفى. قوله: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» : أخبر وحكم وأراد على حسب ما علم، فمن تعلّق بنجاته علمه سبق بدرجاته حكمه، ومن علمه فى آزاله أنه يشقى فبقدر شقائه فى البلاء يبقى. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 13] وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) الحادثات لله ملكا، وبالله ظهورا، ومن الله بدءا، وإلى الله رجوعا. وهو «السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين الواجدين. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 14] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) أبعد ما أكرمنى بجميل ولايته أتولى غيره؟ وبعد ما وقع علىّ ضيا عنايته أنظر فى الدارين إلى أحد؟ إنّ هذا محال فى الظنّ والتقدير. قوله جل ذكره: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ. له نعت الكرم فلذلك يطعم، وله حقّ القدم فلذلك لا يطعم.   (1) الملتحد- الملجأ لأن اللاجئ يلجأ إليه (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 15] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) أي إنّى بعجزي متحقق، ومن عذاب ربى مشفق، وبمتابعة أمره متخلّق. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 16] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) من أدركه سابق عنايته صرف عنه لاحق عقوبته. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 17] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) إنّه من ينجيك من البلاء، ومن يلقيك فى العناء. وإذ المتفرّد بالإبلاغ واحد فالأغيار كلّهم أفعاله وإن الإيجاد لا يصلح من الأفعال. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 18] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) علت رتبة الأحدية صفة البشرية، فهذا لم يزل وهذا لم يكن فحصل «1» . ومتى يكون بقاء للحدثان مع وضوح سلطان التوحيد؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) .   (1) وبتعبير آخر هذا واجب الوجود وهذا ممكن الوجود- كما يقول أهل الفلسفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 غلبت شهادة الحقّ- سبحانه- كلّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائق الشيء علومهم، والحقّ- سبحانه- هو الذي لا يخفى عليه شىء، ثم أخبره- صلّى الله عليه وسلّم أنه مبعوث إلى الكافة ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) أحاط علمهم بصدق المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- فى نبوّته، ولكن أدركتهم الشقاوة الأزلية فعقدت ألسنتهم عن الإقرار به فجحدوه جهرا، وعلموا صدقه سرّا. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 21] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) شؤم الخذلان بلغ بالنكاية فيهم ما جرّهم إلى الإصرار على الكذب على الله تعالى، ثم لم يستحيوا من اطلاعه، ولم يخشوا من عذابه. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 22] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) يجمعهم ليوم الحشر والنشر، لكنه يفرقهم فى الحكم والأمر، فالبعث يجمعهم ولكن الحكم يفرقهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 23] ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) «1» هذا الذي أخبر عنهم غاية التمرد حيث جحدوا ما كذبوا فيه وأقسموا عليه، ولو كان لهم بالله علم لتحققوا بأنه يعلم سرّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شىء من أولاهم وعقباهم، لكن الجهل الغالب عليهم استنطقهم بما فيه فضائحهم.   (1) أخطأ الناسخ فكتبها (مشرقين) بالقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 24] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) هذه كلمة تعجب يعنى إنّ قصتهم منها ما هو محلّ التعجب لأمثالكم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 25] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) بيّن أن السمع- فى الحقيقة- سمع القبول، وذلك عن عين اليقين يصدر، فأما سمع الظاهر فلا عبرة به. ويقال من ابتلاه الحقّ بقلب مطبق، ووضع فوق بصيرته غطاء التلبيس لم يزده ذلك إلا نفرة على نفرة. قوله جل ذكره: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. يعنى من أقصته القسمة الأزلية لم تنعشه الحيلة الأبدية «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 26] وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) «2» فى هذه الآية إشارة صعبة (لمن) «3» يدعو إلى الحق جهرا ثم لا يأتى بذلك سرا. ويقال خالفت أحوالهم قضايا أقوالهم، وجرى إجرامهم مجرى من ألقوا حبالهم على غاربهم، وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعله.   (1) تساوى هذه العبارة فى المعنى ما يأتى بعد قليل (وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعله) . (2) سقطت الواو من الناسخ فأثبتناها. (3) وردت (لم) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 27] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) يعنى حين ينجز للعبد ما وعده له من القربة يشغل من شاء بنوع من العلة حتى لا يطلع أحد على محل الأسرار. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 28] بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) غدا يوم تنهتك الأستار، وتظهر الأسرار- فكم من مجلّل بثوب تقواه، ويحكم له معارفه بانه زاهد فى دنياه، راغب فى عقباه، محب لمولاه، مفارق لهواه، فيكشف الأمر عن خلاف ما فهموه، ويفتضح عندهم بغير ما ظنوه. وكم من متهتك ستر بما أظهر عليه! ظنّ الكلّ أنه خليع العذار هيّن الأعلال، مشوش الأسرار، فظهر لذوى البصائر جوهره، وبدت عن خفايا الستر حقيقته «1» . ثم قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أخبر عما علم أنه لا يكون أنه لو كان كيف كان يكون فقال لو ردّ أهل العقوبة إلى دنياهم لعادوا إلى جحدهم وإنكارهم، وكذلك لو ردّ أهل الصفاء والوفاء إلى دنياهم لعادوا إلى أحسن أعمالهم: قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 30] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)   (1) لاحظ كيف ان القشيري متاثر إلى حد كبير بتعاليم الملامتية، فأهل الملامة يقومون بأعمال تستوجب ملامة الناس سترا لأسرارهم وصونا لأحوالهم قصدا إلى محاربة دعوى النفس، والاكتفاء بعلم الحق بأحوالهم وحقائقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 يا حسرة عليهم من موقف الخجل، ومحل مقاساة الوجل، وتذكر تقصير العمل! فهم واقفون على أقدام الحسرة، يقرعون أسنان الندم حين لا ندم ينفعهم، ولا شكوى تسمع منهم، ولا رحمة تنزل عليهم. وحين يقول لهم: أليس هذا بالحق؟ يقرّون كارهين، ويصرخون بالتبري عن كل غير قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 31 الى 33] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) خسران وأي خسران! لم يخسروا مالا، ولا مقاما ولا حالا، ولكن كما قيل: لعمرى لئن أنزفت دمعى فإنه ... لفرقة من أفنيت فى ذكره عمرى المصيبة لهم والحسرة على غيرهم، ومن لم يعرف جلال قدره متى تأسّف على ما يفوته من حديثه وأمره؟! وقوله: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» : ما كان للنفس فيه حظ ونصيب اليوم فهو من الدنيا، وما كان من الدنيا فإنه- لا محالة- يلهيك عن مولاك، وما يشغلك عن الحق ركونه فغير مبارك قربه. قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ: هذه تعزية للرسول- صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وتسلية. أي قد نعلم ما قالوا فيك وهم إنما قالوا ذلك بسببنا ولأجلنا. ولقد كنت عظيم الجاه فيهم قبل أن أوقعنا عليك هذا الرقم وكانوا يسمونك محمدا الأمين، فإن أصابك ما يصيبك فلأجل حديثنا، وغير ضائع لك هذا عندنا، وحالك فينا كما قيل: أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 34] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) يعنى إنّ من سلك سبيلنا صبر على ما أصابه من حديثنا، فلا خسرت فينا صفقته، ولا خفيت علينا حالته، وما قابل حكمنا من عرفنا إلا بالمهج، وما حملوا مالقوا فينا إلا على الحدق: إنّ الألى ماتوا على دين الهوى ... وجدوا المنية منهلا معسولا قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) لفرط شفقته- صلّى الله عليه وسلّم- استقصى فى التماس الرحمة من الله لهم، وحمل على قلبه العزيز بسبب ما علم من سوء أحوالهم ما أثّر فيه من فنون الأحزان. فعرّفه أنهم مبعدون عن التقريب، منكوبون بسالف القسمة. ولو أراد الحقّ- سبحانه- لخفّف عنهم، ولو شاء أن يهديهم لكان لهم مقيل فى الصدور، ومثوى على النشاط، ولكن من كبسته العزّة لم تنعشه الحيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 36] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) من فقد الاستماع فى سرائره عدم توفيق الاتّباع بظاهره، والاختيار السابق فى معلومه- سبحانه- غالب. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 37] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) استزادوا من المعجزات وقد حصل من ذلك ما يذبح العذر، ولم يعلموا أن الله المانع لهم فلولا ما ( ... ) «1» من بصائرهم لما تواهموا من عدم دلائلهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 38] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) يعنى تساوت المخلوقات، وتماثلت المصنوعات فى الحاجة إلى المنشئ: فى حال الإبداع ثم فى حال البقاء، وكذلك جميع الصفات النفسية والنعوت الذاتية توقفت عن الإيجاد والاختيار، فما من شىء من عين وأثر، ورسم وطلل.. إلا وهو على وحدانيته شاهد، وعلى كون أنه مخلوق.. دليل ظاهر. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 39] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) الذين فاتتهم العناية الأزلية سدّ الحرمان أسماعهم، وغشّى الخذلان أبصارهم.   (1) مشتبهة وربما كانت (سد) فهى فى الخط إلى ذلك أقرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 والإرادة لا تعارض، والمشيئة لا تزاحم «1» ، والحقّ- سبحانه- فى جميع الأحوال غالب. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) إذا مسّكم الضرّ، ونابكم أمر فممّن ترومون كشفه؟ ومن الذي تؤملون لطفه؟ أمخلوقا شرقيا أم شخصا غربيا؟ أم ملكا سماويا أم عبدا أرضيا؟ ثم قال: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» : أي إنكم- إن تذللتم بنفوسكم أو فكرتم طويلا بقلوبكم- لن تجدوا من دونه أحدا، ولا عن حكمه ملتحدا، فتعودون إليه فى استكشاف الضر، واستلطاف الخير والبرّ، كما قيل: ويرجعنى إليك- وإن تناءت ... ديارى عنك- معرفة الرجال وقد تركناك للذى تريد ... فعسى إن خبرته أن تعودا فإذا جرّبت الكل، وذقت الحلو والمرّ، أفضى بك الضرّ إلى بابه، فإذا رجعت بنعت الانكسار، وشواهد الذل والاضطرار، فإنه يفعل ما يريد: إن شاء أتاح اليسر وأزال العسر، وإن شاء ضاعف الضر وعوّض الأجر، وإن شاء ترك الحال على ما (قبل) «2» السؤال والابتهال. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 42] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) .   (1) وردت (تزاهم) بالهاء وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (قيل) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 يخبر عن سالف سنته فى أبداء الأمم وما أوجب لمن أطاعه منهم من النعم والكرم، وما أحلّ بمن خالفه من الألم وفنون النّقم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 43 الى 44] فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) يعنى أنهم لما أظلّهم البلاء، فلو رجعوا بجميل التضرع وحسن الابتهال والتملق لكشفنا عنهم المحن، ولأتحنا لهم المنن، ولكن صدّهم الخذلان عن العقبى فأصروا على تمردهم، فقست قلوبهم وتضاعفت أسباب شقوتهم. قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يخبر عن خفىّ مكره بهم، وكيف أنه استدرجهم، ثم أذاقهم وبال أمرهم فقال: لما طالت عن الحضرة غيبتهم، ولم تنجح مواعظنا فيهم سهّلنا لهم أسباب العوافي وصببنا عليهم عزالى «1» النّعم، وفتحنا لهم أبواب الرفاهية، فلما استمكن الرجاء من قلوبهم أخذناهم بغتة وعذبناهم فجأة، وأذقناهم حسرة فإذا هم من الرحمة قانطون، ولما خامر قلوبهم- من أسباب الوحشة عن الاستراحة بدوام المناجاة- آيسون. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 45] فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى لم يبق منهم عين ولا أثر، ولم يرد حديث منهم أو خبر،   (1) العزالي: يقال أنزلت السماء عزاليها إشارة إلى شدة وقع المطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 والله- سبحانه وتعالى- بنعت العزّ واستحقاق الجلال لا عن فقدهم له استيحاش، ولا بوجودهم استرواح أو استبشار «1» قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 46] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) عرّفهم محلّ عجزهم، وحقيقة حاجتهم إلى القدرة القديمة لدوام فقرهم. وحذّرهم فقال: إن لم يدم عليهم نعمة أسماعهم وأبصارهم، ولم يوجب لهم ما ألبسهم من العوافي- بكل وجه فى كل لحظة- فمن الذي يهب ما سلبه، أو يضع ما منعه، أو يعيد ما نفاه، أو يردّ ما أبداه؟ كلا ... بل هو الله تعالى. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 47 الى 49] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) «2» يقول إن عجّل موعوده لكم من العقاب أفترون أن غير المستوجب يبتلى؟ أو أن المستحقّ له يجد من دونه مهربا ومنجى؟ إنّ هذا محال من الظن. قوله جل ذكره: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.   (1) فالحق- سبحانه- لا يلحقه زين بطاعة المطيع ولا شين بمعصية العاصي. [ ..... ] (2) أخطأ الناسخ فكتبها (الظالمين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 يعنى ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه تجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة فى الآجل ما يحصل من خلافهم. فمن آمن وصدّق أنجزنا له الوعد، ومن كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضّر. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 50] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) يعنى قل لهم إنى لا أتخطى خطى، ولا أتعدّى حدّى، ولا أثبت من ذات نفسى شيئا، وإنما يقال لى أبلّغت؟ وأقول: أجل، أوصلت. ثم قال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» : هل يتشاكل الضوء والظلام؟ وهل يتماثل الجحد والتوحيد؟ كلا ... لا يكون ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 51] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) الإنذار إعلام بمواضع الخوف، وإنما خص الخائفين بالإنذار كما خصّ المتقين بإضافة الهدى إليهم حيث قال: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» لأن الانتفاع والاتّباع بالتقوى، والإنذار اختص بهم. ويقال: الخوف هاهنا العلم، وإنما يخاف من علم، فأمّا القلوب التي هى تحت غطاء الجهل فلا تباشرها طوارق الخوف. قوله: «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» يعنى كما أنه لا ناصر لهم من الأغيار فلا معتمد لهم من أفعالهم، ولا مستند من أحوالهم، ولا (يؤمنون) «1» شيئا سوى صرف العناية وخصائص الرحمة.   (1) الصواب أن تكون (يأمنون) لأن ما بعدها منصوب، ولو كانت يؤمنون لكان ما بعدها مجرورا، والسياق يقوى اختيار (يأمنون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 52] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) هذه وصية له- صلّى الله عليه وسلّم- فى باب الفقراء والمستضعفين، وذلك لما قصروا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدى الله أراد أن يبيّن له أثر حسن الابتهال فتولّى- سبحانه- خصيمتهم. وقال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : لا تنظر يا محمد إلى خرقتهم على ظاهرهم وانظر إلى حرقتهم فى سرائرهم «1» ويقال كانوا مستورين بحالتهم فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه- سبحانه- قال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول إن شخصا مخلوقا يريد الحق سبحانه؟ ويقال إذا كانت الإرادة لا تتعلق- فى التحقيق- إلا بالحدوث، وحقيقة الصمدية متقدسة عن الاتصاف بالحدثان، فمن المعلوم أن هذه الإرادة ليست بمعنى المشيئة، ولا كاشتقاق أهل اللغة لها «2» . فيقال تكلم الناس فى الإرادة: وأكثر تحقيقها أنها احتياج يحصل فى القلوب يسلب   (1) واضح من كلام القشيري اتصاف هذا النفر بصفات كثيرة تدنو بهم من أهل التصوف، وهكذا نجد أن السهروردي فى مقدمة «عوارفه» يوضح أن سبب نزول هذه الآية فى أهل الصّفة الذين كانوا يلازمون صفة مسجد المدينة وليس لهم شغل سوى العبادة وتلاوة القرآن وكان أحدهم إذا ركع قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته لتمزق ثوبه ... إلخ (عوارف المعارف ص 47) . (2) يقول القشيري فى هذا المعنى فى «رسالته» : المريد- على موجب الاشتقاق- من له إرادة كالعالم من له علم، لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد- في عرف هذه الطائفة من لا إرادة له، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا (الرسالة ص 101) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 القرار من العبد حتى يصل إلى الله فصاحب الإرادة لا يهدأ «1» ليلا ولا نهارا، ولا يجد من دون وصوله إليه- سبحانه- سكونا ولا قرارا، كما قال قائلهم: ثم قطعت الليل فى مهمه ... لا أسدا أخشى ولا ذيبا يغلبنى شوقى فأطوى السّرى ... ولم يزل ذو الشوق مغلوبا ويقال تقيّدت دعوتهم بالغداة والعشىّ لأنها من الأعمال الظاهرة، والأعمال الظاهرة مؤقتة، ودامت إرادتهم فاستغرقت جميع أوقاتهم لأنها من الأحوال الباطنة، والأحوال الباطنة مسرمدة غير مؤقتة، فقال: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» ثم قال: «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» أي مريدين وجهه فهى فى موضع الحال «2» . ويقال أصبحوا ولا سؤال لهم من دنياهم، ولا مطالبة من عقباهم، ولا همّ سوى حديث مولاهم، فلما تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم، فتولّى حديثهم وقال: ولا تطردهم- يا محمد- ثم قال: ما عليك من حسابهم من شىء فالفقير خفيف الظهر لا يكون منه على أحد كثير مئونة قال تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» . لا تطالب بحسابهم ولا يطالبون بحسابك، بل كلّ يتولى الحقّ- سبحانه- حسابه فإن كان أمره خيرا فهو ملاقيه، وإن كان شرا فهو مقاسيه. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 53] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) أمّا الفاضل فليشكر، وأمّا المفضول فليصبر. ويقال سبيل المفضول على لسان المحبة الشكر، ولا يتقاصر شكره عن شكر الفاضل، قال قائلهم فى معناه: أتانى منك سبّك لى فسبّي ... أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبي   (1) وردت (ولا يهدى) والصواب أن تكتب (ولا يهدأ) منعا للبس. (2) أي إن الجملة الفعلية (يريدون وجهه) تعرب حالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقال آخر: وإنّ فؤادا بعته- لك شاكر ... وإنّ دما أجريته- لك حامد قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 54] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) أحلّه محل الأكابر والسّادة، فإن السلام من شأن الجائى إلا فى صفة الأكابر فإن الجائى أو الآتي يسكت لهيبة المأتى حتى يبتدئ ذلك المقصود بالسؤال فعند ذلك يجيب الآتي. ويقال إذا قاسوا تعب المجيء فأزل عنهم المشقة بأن قل: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» . ويقال السلام هو السلامة أي فقل لهم سلام عليكم سلمتم فى الحال عن الفرقة وفى المآل عن الحرقة «1» . قوله جل ذكره: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. إن وكل بك من كتب عليك الزلة فقد تولّى بنفسه لك كتابة الرحمة. ويقال كتب بمعنى حكم، وإنه ما حكم إلا بما علم. ويقال كتابته لك أزلية، وكتابته عليك وقتية، والوقتية لا تبطل الأزلية. قوله جل ذكره: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يعنى من تعاطى شيئا من أعمال الجهّال ثم سوّف فى الرجوع والأوبة قابلناه، يعنى من تعاطى شيئا بحسن الإمهال وجميل الأفضال، فإذا عاد بتوبة وحسرة أقبلنا عليه بكلّ لطف وقبول. قوله جلّ ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 55] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) .   (1) اى سلمتم فى الدنيا من عذاب نأبه وهجره، وسلمتم فى الآخرة من عذاب جهنم ذات الحريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 نزيل الإشكال، ونفصح «1» طريق الاستدلال، ونطلع شموس التوحيد، ونمد أهله بحسن التأييد، ونسم قلوب الأعداء بوسم الخذلان، ونذيقهم شؤم الحرمان لئلا يبقى لأحد عذر، ولا فى الطريق إشكال. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 56] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) يعنى صرّح بالاعتراف بجميل ما خصصناك به من وجوه العصمة والنعمة، وأخبرهم أنك فى كنف الإيواء متقلّب، وفى قبضة (الصون) مصرّف فلا للهوى عليك سلطان، ولا لك من محل التحقيق تباعد أو عن الحضور غيبة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 57] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قل إنّ الله- سبحانه- لم يغادرنى فى قطر الطلب والتباس التحيّر، وأغنانى عن (كدّ) «2» الاستدلال، وروّحنى بشموس الحقيقة. ولئن بقيتم فى ظلمة الالتباس فليس لى قدرة على إزالة ما مننيتم به من التحير، ونفى ما امتحنتم به من الجهالة والتردد. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 58 الى 59] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)   (1) من الإفصاح وهو الإبانة والإيضاح. (2) وردت (قد) والقصود عناء الاستدلال وكده- حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى مثل هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 لو قدرت على إبداء ما طلبتم من إقامة البراهين لأجبتكم إلى كل ما اقترحتم علىّ- شفقة عليكم، لكن المتفرّد بالحكم لا يعارض فيما يريد. وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ: المفتاح ما به يرتفع الغلق، والذي يحصل مقصود كلّ أحد، وهو قدرة الحق- سبحانه فإنّ التأثير لها فى الإيجاد، والموصوف بقدرة الإيجاد هو الله: ويقال أراد بهذا شمول علمه، أي هو المتفرّد بالإحاطة بكل معلوم، وقطعا لا يسأل عن شىء، ولا يخفى عليه شىء. ويقال عندك مفاتح «1» الغيب وعنده مفاتح الغيب فان آمنت بغيبه مدّ الشمس على غيبك. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 60] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) إنه يتوفّى الأنفس فى حال النوم وفى حال الوفاة، وكما أنه لا يعاقبك بالليل فإنه لا يعذبك- إذا توفّاك- على ما جرحت بالنهار مع علمه بأفعالك، فبالحرىّ ألا يعذّبك غدا- إذا توفّاك- على ما علمه من قبيح أحوالك. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 61] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)   (1) نسبة المفاتح إلى الإنسان- إن صحّ أن القشيري قالها- يمكن تأويلها على انها جمع مفتح مصدر ميمى بمعنى الفتح والفتوح وهما من فضل الله، ولكنهما بالنسبة إلى المفاتح الالهية كنسبة ضوء المصباح إلى ضوء الشمس، إذا ظهر شعاع الشمس غمر ضوء المصباح ... هكذا نفهم من السياق- والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فوق عباده بالقهر والرفعة، وفوقهم بالقدرة على أن يعذّبهم من فوقهم بإنزال العقوبة عليهم والسخطة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 62] ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) ردّهم إلى نفسه. وما غابوا عن القبضة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 63] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) تذكير النعمة يوجب الزيادة فى المحبة، فإنه إذا عرف جميلا أسداه تمكّن من قلبه الحبّ. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 64] قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) المتفرّد بالقدرة على إيجادكم الله، والذي هو (الخلف) «1» عما يفوتكم الله، والذي حكم بنجاتكم الله، والذي يأخذ بأيديكم كلما عثرتم الله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) إذا أراد الله هلاك قوم أمر البلاء حتى يحيط بهم سرادقه كما يحيط بالكفار غدا إذا   (1) وردت (الخلق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 أدركتهم العقوبة، وخرج بعضهم على بعض حتى يتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع. قوله جل ذكره: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ. لا طعم أردأ للإنسان من طعم الإنسان: إن شئت من الولاية والمحبة، وإن شئت فى العداوة والبغضة فمن مني بالبغضة مع أشكاله تنغّص عليه عيشه فى الدنيا، ومن منى بمحبة أمثاله تكدّر عليه حاله مع المولى، ومن صانه عن الخلق فهو المحفوظ (المعاني) «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) يعنى قل لهم إنما على تبليغ الرسالة، فأمّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فمن خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) لا توافقهم فى الحالة، ولا ترد عليهم ببسط القالة. ذرهم ووحشتهم بحسن الإعراض عنهم، والبعد عن الإصغاء إلى تهاويشهم بحسن الانقباض. قوله جل ذكره: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.   (1) المحفوظ (المعاني) اى محفوظة معانيه، وربما كانت فى الأصل (المعاني) بالفاء المفتوحة أي المصون عن كل أذى وعلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 أي إن بدر منك تغافل فتداركته بحسن التذكر وجميل التّنبّه، فاجتهد ألا (تزل «1» ) فى تلك الغلطة قدمك ثانية لئلا تقاسى أليم العقوبة منّا. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 69] وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) أي من كان نقىّ (الثوب) «2» عن ارتكاب الإجرام يعزل يوم نشره عن ملاقاة تلك الآلام. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 70] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) أي كلهم وما اختاروه فإنّا أعتدنا لهم (من خفىّ المكر ما إذا أحللناه بهم كسرنا عليهم) «3» خمار الوهم والغلظة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 71] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)   (1) وردت (تذل) بالذال والصواب أن تكون بالزاي (تزل) اى تقع فهذا هو الملائم للسياق. (2) وردت (الثواب) والصواب أن تكون (الثوب) فهو الذي يوصف بالنقاء. [ ..... ] (3) ما بين القوسين موجود فى هامش الورقة أثبتناه فى موضعه حسب العلامة المميزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أي كان الكفار يدعون المسلمين إلى الرجوع عن الدين والعود إلى الشرك، فقال لهم الله: قل لهم- يا محمد-: أنؤثر الضلال على الهدى بعد طلوع شمس البرهان؟ وندع الطريقة المثلى بعد ظهور البيان؟ ونترك عقوة الجنّة وقد نزلناها؟ ونطلب الجحيم مثوى بعد ما كفيناها؟ إنّ هذا بعيد من المعقول، محال من الظنون. وكيف يساعد أتباع الشيطان من وجد الخلاص من صحبتهم، وأبصر الغىّ من صفتهم؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 72] وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) أي أمرنا بملازمة محل المناجاة لأن اللسان إن تعوّد نجوى السلطان متى ينطق (بمكالمة) «1» الأخسّ؟! قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 73] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) يعنى أنه لا يعترض على قدرته- سبحانه- حدوث مقصود، ولا يتقاصر حكمه عن تصريف موجود.   (1) وردت (مكاملة) والأوفق بالنسبة للسان أن تكون (مكالمة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 74] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) الأصل متّهم فى الجحود، والنّسل متصّف بالتوحيد، والحقّ- سبحانه- يفعل ما يريد. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 75] وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) لاطفه بسابق العناية، ثم كاشفه بلاحق الهداية فأراه من دلالات توحيده ما لم يبق فى (قضاء) «1» سرّه شظية من غبار العيب، فلمّا صحا من غيم التجوز «2» سما سرّه فقال بنفي الأغيار جملة، وتبرأ عن الجميع ولم يغادر منها تهمة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 78] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) .   (1) ربما كانت (فضاء) بالفاء فالغبار والغيم يعلقان بالفضاء. (2) المقصود من ذلك ما أصاب إبراهيم من اضطراب، وهنا لفتة ذكية من القشيري حيث أراد وصم العقل بالتجويز لانحصار دائرته فى نطاق الحسّ، وعدم استطاعته تجاوز هذا النطاق لأنه معتمد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 يعنى أحاطت به (سجوف) «1» الطلب، ولم يتجل له بعد صباح الوجود، فطلع نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان، فقال: هذا ربى ثم يزيد فى ضيائه فطلع له قمر العلم فطالعه بشرط البيان، «قالَ هذا رَبِّي» . ثم (أسفر) «2» الصبح ومتع النهار فطلعت شموس (العرفان) «3» من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان، ولا للتجويز حكم، ولا للتهمة قرار فقال: «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» إذ ليس بعد العيان ريب، ولا عقب الظهور ستر. ويقال قوله- عند شهود الكواكب والشمس والقمر- «هذا رَبِّي» إنه كان يلاحظ الآثار والأغيار بالله، ثم كان يرى الأشياء لله ومن الله، ثم طالع الأغيار محوا فى الله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 79] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) أفردت قصدى لله، (وطهّرت) «4» عقدى عن غير الله، وحفظت عهدى فى الله لله، وخلصت وجدي بالله، فإنى لله بالله، بل (محو) «5» فى الله والله الله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 80] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) يعنى قال لهم أترومون ستر الشموس بإسبال أكمامكم عليها أو تريدون أن تجروا ذيولكم وأن تسدلوا سجوفكم على ضياء النهار وقد تعالى سلطانه وتوالى بيانه؟   (1) سجوف جمع سجف وسجف وهو الستر، وأرخى الليل سجوفه أي ظلمته. (2) وردت (أصفر) والصواب أن تكون (أسفر) الصبح. (3) لاحظ كيف طبق القشيري نظريته فى المعرفة على ندرج ابراهيم (عم) فى الوصول إلى حقيقة الألوهية من عقلية ونورها البرهان إلى قلبية ونورها البيان إلى كشفية ونورها العرفان، (4) وردت (ظهرت) بالظاء والصواب أن تكون بالطاء (5) وردت (مهو) بالهاء والصواب أن تكون بالحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 81] وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) «1» يعنى وأي خوف يقع على قلبى ظله ولم ألم بشرك ولم أجنح قطّ إلى جحد؟ وأنتم ما شممتم رائحة التوحيد فى طول عمركم، ولا ذقتم طعم الإيمان فى سالف دهركم! ثم بسوء ظنّكم تجاسرتم وما ارعويتم، وخسرتم وما باليتم. فأيّنا أولى أن يعلن بسرّه ما هو بصدده من سوء مكره وعاقبة أمره؟ قوله جلت قدرته: [سورة الأنعام (6) : آية 82] الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) أي الذين أشاروا إلى الله ثم لم يرجعوا إلى غير الله فإن من قال «الله» ثم رجع بالتفضيل- عند حاجاته أو مطالباته أو شىء من حالاته إلى غير الله فخصمه- فى الدنيا والعقبى- الله. والظلم- فى التحقيق- وضع الشيء في غير موضعه، وأصعبه حسبان أن من الحدثان ما لم يكن وكان فإنّ المنشئ الله، والمجرى الله، ولا إله إلا الله، وسقط ما سوى الله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 83] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) أشار إلى ترقّيه من شهود آياته إلى إثبات ذاته، وذلك ترتيب أهل السلوك فى وصولهم إلى الله، فالتحقق بالآيات التي هى أفعاله ومراعاة ذلك وهى الأولى ثم إثبات صفاته وهى الثانية، ثم التحقق بوجوده وذاته وهو غاية الوصول، فبرسومه يعرف العبد نعوته، وبنعوته يعرف ثبوته «2» .   (1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (فكيف) (2) للقشيرى كتابان (ترتيب السلوك) و (المقامات الثلاث) لم تصل بعد أيدينا إليها، أولهما توجد منه مخطوطة بالفاتيكان والثاني استعاره بعضهم من مكتبة جامعة القاهرة ولم يرده، فهل يمكن أن نحدس أن هذه الفقرة خلاصة مقتضية لوجهة نظره فى ترتيب مقامات السلوك وعددها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 88] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) ذكر عظيم المنّة على كافّتهم- صلوات الله عليهم، وبيّن أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق. ثم قال: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ ....... يَعْمَلُونَ» يعنى لولا حظوا غيرا، أو شاهدوا- من دوننا- شيئا، أو نسبوا شظية من الحدثان- إلى غير قدرتنا- فى الظهور لتلاشى ما أسلفوه من عرفانهم وإحسانهم، فإن الله- سبحانه- لا يغفر الشرك بحال، وإن كان (يغفر) «1» ما دونه لمن أراد. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 89] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) .   (1) وردت (يفقر) والصواب (يغفر) طبقا للآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به ... إلخ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 يعنى إن أعرض قومك- يا محمد- فليس كلّ من ( ..... ) «1» على الجحود أظهرناهم، بل كثير من عبادنا نزّهنا- عن الجحود- قلوبهم، وعجنّا بماء السعادة طينتهم وهم لا يحيدون عن التوحيد لحظة، ولا يزيغون عن التحصيل شمّة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 90] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) أولئك الذين طهّر الله عن الجحد أسرارهم، ورفع على الكافة أقدارهم، فاقتف- يا محمد- هداهم، فإنّ من سلك الجادّة أمن من العناء. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 91] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) من توهّم أن العلوم «2» تحيط بجلاله فالإحاطة غير سائغة فى نعته، كما أنّ الإدراك غير جائز فى وصفه، وكما أن الإشراف محال على ذاته. ثم قال: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً» أي سلهم عن الأحوال، وخاطبهم فى معانى أحكام الرسوم والأطلال، فإن بقوا فى ظلمة (الحيرة) «3» فقل: الله تعالى، ثم ذرهم. يعنى صرّح بالإخبار عن التوحيد، ولا يهولنّك نماديهم فى الباطل، فإنّ تمويهات الباطل لا تأثير لها فى الحقائق.   (1) مشتبهة. (2) يقصد بها علوم العقل. [ ..... ] (3) وردت (الجبرة) والخطأ فى النقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 92] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) كتاب الأحباب عزيز الخطر جليل الأثر، فيه سلوة «1» عند غلبات الوجد، ومن بقي عن الوصول تذلّل للرسول، وقيل: وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم كأنى ملحوظ من الجنّ نظرة ... ومن حوالىّ الرّقى والتمائم قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 93] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) يعنى إن الذين ينزلون منزلة المحدّثين، ولم تلق إلى أسرارهم خصائص الخطاب- فالحقّ- سبحانه عنهم برىء. والمتّبع بما لم ينل كلابس ثوبى زور، وفى معناه أنشدوا. إذا اشتبكت دموع فى خدود ... تبيّن من بكى ممن تباكى   (1) وردت (صلوة) بالصاد وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) دخلت الدنيا بخرقة، وخرجت منها بخرقة، ألا وتلك الخرقة أيضا ( ..... ) «1» ، وما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجت إلا بحكم التفرد. ثم الأثقال والأوزار، والأحمال والأوضار لا يأتى عليها حصر ولا مقدار فلا مالكم أغنى عنكم ولا حالكم يرفع منكم، ولا لكم شفيع يخاطبنا فيكم فقد تقطّع بينكم، وتفرّق وصلكم، وتبدّد شملكم، وتلاشى ظنكم، وخانكم- فى التحقيق- وسعكم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 95] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) موجد ما فى العالم من الأعيان والآثار والرسوم والأطلال يسلّط العدم على ما يريد من مصنوعاته، ويحكم بالبقاء لما يريد من مخلوقاته، فلا لحكمه ردّ، ولا لحقّه جحد. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 96] فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وكما فلق صبح الكون فأشرقت الأنوار كذلك فلق صبح القلوب فاستنارت به الأسرار، وكما جعل الليل سكنا لتسكن فيه النفوس من كدّ التصرف عن أسباب المعاش   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 كذلك جعل الليل سكنا للأحباب يسكنون فيه إلى روح المناجاة إذا هدأت العيون من الأغيار. وجعل الشمس والقمر يجريان بحسبان «1» معلوم على حد معلوم، فالشمس بوصفها مذ خلقت لم تنقص ولم تزد، والقمر لا يبقى ليلة واحدة على حالة واحدة فأبدا فى الزيادة والنقصان، ولا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم يتناقص حتى لا يرى، ثم يأخذ فى الظهور، وكذلك دأبه دائما إلى أن تنقض عليه العادة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 97] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) كما أن نجوم السماء يهتدى بها فى الفلوات فكذلك نجوم القلوب يهتدى بها فى معرفة ربّ الأرضين والسموات. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 98] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) ذكّرهم وصفهم حين خلقهم من آدم عليه السّلام. وكما أن للنفوس والأبشار مستقرا ومستودعا فللأسرار والضمائر مستقر ومستودع، فمن عبد مستقرّ قلبه أوطان الشهوات والمنى، ومن عبد مستقره موقع الزهد والتّقى، ومن عبد مستقره- حيث لا مسكن ولا مأوى- وراء الورى «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)   (1) وردت (بحسمان) بالميم والصواب أن تكون (بحسبان) (2) أي فى حال الفناء يتلاشى فى الوجود الذي لا تحده حدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 تجانست أجزاء الأرض وتوافقت أقطار الكون، وتباين النبات فى اللون والطّعم واختلفت الأشياء، ودلّ كلّ مخلوق بلسان فصيح، وبيان صريح أنه بنفسه غير مستقل. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 100] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) «1» سدّت بصائرهم فاكتفوا بكل منقوص أن يعبدوه، وتلك عقوبة لأرباب الغفلة عن الله تعالى عجّلت. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 101] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) البديع الذي لا مثل له، أو هو المنشئ لا على مثال، وكلاهما فى وصفه مستحق. والواحد يستحيل له الولد لاقتضائه البعضية، والتوحيد ينافيه. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 102] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)   (1) خرق الإفك اختلقه، أو من خرق الثوب إذا شقه فيكون المعنى: (اشتقوا له) وإشارة القشيري تعتمد على المعنيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 تعرّف إليهم بآياته، ثم تعرّف إليهم بصفاته، ثم كاشفهم بحقائق ذاته. فقوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» تعريف للسادات والأكابر، وقوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» تعريف للعوام والأصاغر. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 103] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قدّس الصمدية عن كل لحوق ودرك، فأنّى بالإدراك ولا حدّ له ولا طرف؟! «وَهُوَ اللَّطِيفُ» الذي لا يخفى عليه شىء، «الْخَبِيرُ» الذي أحاط علمه بكل معلوم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 104] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) أوضح البيان وألاح الدليل، وأزاح العلل وأنار السبيل، ولكن قيل: وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 105] وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) أوقع الفتنة فى قلوبهم فخنست عليهم الأحوال: فمن شبهة داخلتهم ومن حيرة ملكتهم. ومن تحقيق أدركه قوم، وتعريف توقف على آخرين. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 107] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) العجب ممن أقرّ بقصور حاله عن استحقاق المدح ببقائه عن مراده، وكيف يصف معبوده بجواز ألا يرتفع فى ملكه مراده؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 108] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) يعنى خاطبهم بلسان الحجة والتزام الدلائل ونفى الشبهة، ولا تكلّمهم على موجب نوازع النّفس والعادة، فيحملهم ذلك على ترك الإجلال لذكر الله. ويقال لا تطابقهم على قبيح ما يفعلون فيزدادوا جرأة فى غيّهم، فسيكون فعلك سببا وعلّة لزيادة كفرهم وفسقهم. قوله جل ذكره: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لبّسنا عليهم حقائق الأشياء حتى ظنوا القبيح جميلا، ولم يروا لسوء حالتهم تبديلا، فركنوا إلى الهوى، ولم يميزوا بين العوافي والبلا. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 109] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يغنى وضوح الأدلة لمن لا تساعده سوابق الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 110] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) العجب ممن تبقى على قلبه شبهة فى مسألة القدر «1» ، والحقّ- سبحانه- يقول:   (1) يشير القشيري بذلك إلى القدرية الذين يقولون بخلق الأفعال، فسموا قدرية من قبيل تسمية الشيء بضده، بينما سمى خصومهم بالجبرية. ويوصف القدرية بانهم مجوس هذه الأمة، لأنه كما أن أتباع زرادشت يعارضون خالق الخير بمبدإ ثان هو علة الشر كذلك هم- أي القدرية- يخرجون أعمال الإنسان السيئة من دائرة خلق الله، فالله ليس هو الذي يخلق المعصية بل إرادة الإنسان المستقلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ» ، لا بل من حقائق التقليب بقاء إشكال هذا الأمر- مع وضوحه- على قلوب من هو من جملة العقلاء، فسبحان من يخفى هذا الأمر مع وضوحه! هذا هو قهر القادر وحكم الواحد. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) لأن الآيات وإن توالت، وشموس البرهان وإن تعالت فمن قصمته العزّة وكبسته القسمة لم يزده ذلك إلا حيرة وضلالا، ولم يستنجز إلا للشقوة حالا. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 112] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) كلّما كان المحلّ أعلى كانت البلايا أوفى، والمطالبات أقوى، فلمّا كانت رتب الأنبياء- عليهم السلام- أشرف كانت العداوة معهم أشد وأصعب. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 113] وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) وكلت أسماع الكفار باللغو وقلوبهم بالسوء فرضوا لأنفسهم أخسّ الأنصباء «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 114] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)   (1) الأنصباء جمع نصيب وهو الحصة من الشيء (المنجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 قل لهم أترون أنى- بعد ظهور البيان ووضوح البرهان- أذر اليقين، وأوتر التخمين وأفارق الحقّ، وأقارن «1» الحظ؟ إن هذا محال من الظن. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 115] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) تقدّست عن التغيير ذاته، وتنزهت عن التبديل صفاته. والتمام ينفى النقصان. وكلّ نقصان فمن الحدث أصله، وأنّى بالنقص- والقدم وصفه؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 116] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) أهل الله قليلون عددا وإن كانوا كثيرين وزنا وخطرا، وأمّا الأعداء ففيهم كثرة. فإن لاحظتهم- يا محمد- فتنوك، وإن صاحبتهم منعوك عن الحق وقلبوك. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 117] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) تقاصرت علوم الخلق عن إدراك غيبه إلا بقدر ما عرّفهم من أمره، والذي لا يخفى عليه شىء فهو الواحد- سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 118] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) هذا فى حكم التفسير مختص بالذبيحة، وفى معنى الإشارة منع الأكل على الغفلة، فإن من   (1) ربما كانت فى الأصل (أقارف) بالفاء، وكلاهما صحيح فى السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 أكل على الغفلة فما دامت تلك القوة باقية فيه فخواطره إما هواجس النّفس أو وساوس الشيطان. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 119] وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) يعنى أي شىء عليكم لو تركتم الغفلة؟ وما الذي يضركم لو استدمتم الذكر؟ وقد تبيّن لكم الفرق بين أنس الذكر ووحشة الغفلة فى الحال والوقت، (ألا) «1» تعرفوا حكم الثواب والعقاب فى المآل. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 120] وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) ظاهر الإثم ما للأغيار عليه اطلاع، وباطن الإثم هو سر بينك وبين الله، لا وقوف لمخلوق عليه. ويقال باطن الإثم خفىّ العقائد و ( .... ) «2» الألحاظ. ويقال باطن الإثم ما تمليه عليك نفسك بنوع تأويل. ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المعرفة- الإغماض عمّا لك فيه حظ، ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المحبة- دوام التغاضي عن مطالبات الحب وإنّ بناء مطالبات الحب على التجني والقهر «3» ، قال قائلهم:   (1) وردت (إلى) وهى خطأ فى النسخ. (2) مشتبهة. (3) وفى هذا المعنى أنشدوا بنى الحب على القهر فلو ... عدل المحبوب يوما لسمج ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق بطلب تأليف الحجج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 إذا قلت: ما أذنبت؟ قالت مجيبة: حياتك ذنب لا يقاس به ذنب ويقال أسبغت عليكم النّعم ظاهرا وباطنا، فذروا الإثم ظاهرا وباطنا، فإنّ من شرط الشكر ترك استعمال النعمة فيما يكون إثما ومخالفة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 121] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) ما كانت ( .... ) «1» من الأحوال عاصيا ولربّه ناسيا فتوقّيه شرط عند أصحاب ( ... ) «2» . ثم قال: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» فهذا يدل على أنّ من توقّى ذلك اتحدت لله خواطره، وانقطعت عنه خواطر الشيطان. وأصل كل قسوة متابعة الشهوات، ومن تعوّد متابعتها فليودّع صفوة القلب. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) الإيمان عند هؤلاء القوم حياة القلب بالله. وأهل الغفلة إذ لهم الذكر فقد صاروا أحياء بعد ما كانوا أمواتا، وأرباب الذكر لو اعتراهم نسيان فقد ماتوا بعد الحياة. والذي هو فى أنوار القرب وتحت شعاع العرفان وفى روح الاستبصار لا يدانيه من هو فى (أسر) «3» الظلمات، ولا يساويه من هو رهين الآفات.   (1) مشتبهة. (2) مشتبهة. [ ..... ] (3) وردت (أصر) بالصاد وقد آثرنا (أسر) لتلائم (رهين) الآفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 123] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) لبّسنا عليهم حقائق التوحيد، وسوّلت لهم ظنونهم أن بهم شظية من المحو والإثبات فانهمكوا ظانين أنهم يمكرون، وهم فى التحقيق مخادعون، وسيعلمون حين لا ينفعهم علم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 124] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) بعد إزاحة العلة، وبيان الحجة، وزوال الشبهة (فالتعلّل) «1» باستزادة البصيرة (إعلام) «2» عن سوء الأدب، وذلك منهم من التعدي لمساواة من جاء بالاستحقاق بمن جاء بنوع من تسويلات النّفس يوجب مقاساة الهوان. وملازمة الحدود، وترك التعدي على الحقّ قضية التوفيق. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) المسلم لا يتحرك فى باطنه عرق للمنازعة مع التقدير، فإن الإسلام يقتضى تسليم الكل بلا استئثار، ومن استثقل شيئا من التكليف أو بقي منه نفس لكراهية شىء فيعدّ غير مستسلم لحكمه. ويقال نور فى البداية هو نور العقل، ونور فى الوسائط هو نور العلم ونور فى النهاية هو   (1) وردت (فالتعليل) والسياق يتطلب (التعلل) فيها يقوى ويتضح. (2) وردت (إقلام) ولا معنى لها، ونرجح أنها فى الأصل (إعلام) أي علامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 نور العرفان فصاحب العقل مع البرهان، وصاحب العلم مع البيان، وصاحب المعرفة فى حكم العيان. ويقال من وجد أنوار الغيب ظهرت له خفايا الأمور فلا يشكل عليه شىء من ذوات الصدور عند ظهور النور، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» . ويقال أول أثر لأنوار الغيب فى العبد ينبّهه إلى نقائص قدره ومساوئ غيّه، ثم يشغله عن شهود نفسه مما يلوح لقلبه من شهود ربه، ثم غلبات الأنوار على سرّه حتى لا يشهد السرّ بعد ما كان يشهد كالنّاظر فى قرص الشمس تستهلك أنوار بصره فى شعاع الشمس كذلك تستهلك أنوار البصيرة فى حقائق الشهود، فيكون العبد صاحب الوجود دون الشهود ثم بعده خمود العبد بالكلية، وبقاء الأحدية بنعت السرمدية. قوله جل ذكره: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. وذلك حتى لا يسعى فى غير مراد الحق سبحانه «1» ، وحدّ البشرية ضيق القلب، وصاحبه فى أسر الحدثان والأعلال، ولا عقوبة أشدّ من عقوبة الغفلة عن الحق. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 126] وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) الصراط المستقيم إقامة العبودية عند تحقق الربوبية فهو فرق مؤيّد بجمع، وجمع مقيد بشرع، وإثبات للعرفان بغاية الوسع، ونبو عن المخالفات بغاية الجهد، والتحقق بأنّ المجرى   (1) تبدو فى هذه العبارة رائحة الحبرية ... نعم، ولكنها جبرية الحب، فالإرادة والمريد والمراد كلها تدور فى فلك الحب، وهذا فرق بين النزعتين الكلامية البحتة والصوفية، عند تصديهما لهذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 واحد لا شريك له، ثم ترك الاعتماد ونفى الاستناد، لا على (حركاته) «1» يعتمد، ولا إلى سكناته يستند، (بل) «2» ينتظر ما يفتح به التقدير، فإن زاغ صاحب الاستقامة لحظة، والتفت يمنة أو يسرة سقط سقوطا لا ينتعش. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 127] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) دار السلام أي دار السلامة، ومن كان في رقّ شىء من (الأغراض) «3» والمخلوقات لم يجد السلامة، وإنما يجد السلامة من تحرر عن رقّ المكوّنات، والآية تشير إلى أنّ القوم فى الجنة لكنهم ليسوا فى أسر الجنة، بل تحرروا من رقّ كل مكوّن. ويقال من لم يسلّم- اليوم- على نفسه وروحه وكلّ ماله من كل كريمة وعظيمة تسليم وداع لا يجد- غدا- ذلك الفضل، فمن أراد أن يسلّم عليه ربّه- غدا- فليسلّم على (الكون) «4» بجملته، وأولا على نفسه وروحه. ويقال دار السلام غدا لمن سلم- اليوم- لسانه عن الغيبة، وجنانه عن الغيبة، وأبشاره وظواهره من الزّلّة، وأسراره وضمائره من الغفلة، وعقله من البدعة، ومعاملته من الحرام والشبهة، وأعماله من الرياء والمصانعة، وأحواله من الإعجاب. ويقال شرف قدر تلك الدار لكونها فى محل الكرامة، واختصاصها بعندية الزّلفة، وإلا فالأقطار كلها ديار، ولكن قيمة الدار بالجار، قال قائلهم: إنّى لأحسد دارا فى جواركم ... طوبى لمن أضحى لدارك جارا يا ليت جارك يعطينى من داره شبرا ... إذا لأعطيه بشبر دارا» ويقال: وإن كانت الدار منزهة عن قبول الجار، وليس القرب منه بتدانى الأقطار، فإطلاق هذا اللفظ لقلوب الأحباب مؤنس بل لو جاز القرب فى وصفه من حيث المسافة لم يكن لهذا   (1) وردت (حرقاته) والصواب أن تكون (حركاته) لتتلاءم مع (سكتاته) . (2) أضفنا (بل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى النص. (3) (الأغراض) جمع غرض، وليس بمستبعدان تكون (الأعراض) بالعين جمع عرض، وكلاهما مقول. (4) وردت (السكون) وهى خطأ من الناسخ. (5) البيت الثاني مكسور ولكننا حرصنا على إثباته كما جاء فى النسخة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 كبير أثر، وإنما حياة القلوب بهذا، لأن حقيقته مقدسة عن هذه الصفات فهو لأجل قلوب الأحباب يطلق هذا ويقع العلماء فى كد التأويل، وهذا هو أمارة الحب، قال قائلهم: أنا من أجلك حمّلت الأ ... ذى الذي لا أستطيع قوله جل ذكره: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» . هذا شرف قدر تلك المنازل حيث قال: «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» لأنه إذا كان- سبحانه- هو وليّهم فإنّ المنازل بأسرها طابت كيفما كانت، قال قائلهم: أهوى هواها لمن قد كان ساكنها ... وليس فى الدار لى همّ ولا وطر هو وليّهم فى دنياهم، ووليّهم فى عقباهم، هو وليهم فى أولاهم وفى أخراهم وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم، فلم يدع فيها لغيره نصيبا ولا سوى وليهم الذي هو أولى بهم منهم وليّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه فى جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم، وليهم الذي لم (يكلهم) «2» إلى هواهم، ولا إلى دنياهم، ولا إلى عقباهم. وليهم الذي بأفضاله يلاطفهم، وبجماله وجلاله يكاشفهم. وليّهم الذي اختطفهم عن كل حظ ونصيب، وحال بينهم وبين كل حميم وقريب، فحرّرهم عن كل موصوف ومطلوب ومحبوب، وليّهم الذي هو مؤنس أسرارهم. مشاهده معتكف أبصارهم، وحضرته مرتع أرواحهم. وليّهم الذي ليس لهم سواه، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه، ولا يجدون إلا إياه، لا فى بدايتهم يقصدون غيره، ولا فى نهايتهم يجدون غيره، ولا فى وسائلهم يشهدون غيره «3» قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 128] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)   (1) وقع الناسخ فى ثلاثة أخطاء كتابية ونقلية فى هذه الآية إذ كتبها (فهو وليهم اليوم بما كانوا يكسبون) إذ التبست عليه مع آية اخرى. (2) وردت (يكلمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ. (3) لاحظ هنا هذا الترتيب: قصود تم شهود تم وجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلّ منه قبل منهم، لكن سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 129] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يعنى نجمع بين الأشكال، فالأولياء مجموعون يستمتع بعضهم ببعض، والأعداء مجموعون يفرّ بعضهم من بعض. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 130] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) عرّفهم أنه أزاح لهم العلل من حيث التزام الحجة، لكنه حكم لهم بالشقوة فى الأزل، (فلبّس) «1» عليهم المحجة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 131] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) متى يصحّ فى وصفه توهم الظلم والملك ملكه والخلق خلقه؟ ومتى يقبح منه تصرّف فى شخص بما أراد، والعبد عبده والحكم حكمه؟   (1) وردت (فليس) وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 132] وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) المحسن فى روح الثواب متنعّم، والمذنب فى نوح العذاب متألم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 133] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) «الْغَنِيُّ» يشير إلى كشفه، و «ذُو الرَّحْمَةِ» يشير إلى لطفه. أخبرهم بقوله «الْغَنِيُّ» عن جلاله، وبقوله: «ذُو الرَّحْمَةِ» عن أفضاله فبجلاله يكاشفهم فيفتيهم، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم. ويقال سماع غناه يوجب محوهم، وسماع رحمته يوجب صحوهم، فهم فى سماع هذه الآية مترددون بين بقاء وبين فناء، وبين إكرام وبين اصطلام، وبين تقريب وبين تذويب، وبين اجتياح وبين ارتياح. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 134] إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) الإشارة من هذه الآية إلى قصر الأمل، ومن قصر أمله حسن عمله، وكل ما هو آت فقريب أجله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 135] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) هذا غاية الزجر لأنه تهديد وإن كان فى صيغة الأمر. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 136] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 لما بنوا قاعدة أمرهم على موجب الهوى صارت فروعهم لائقة بأصولهم فهو كما قيل. إذا كان القضاء إلى ابن آوى ... فتعويل الشهود إلى القرود قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 137] وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وسوست إليهم شياطينهم بالباطل فقبلت نفوسهم ذلك إذ الأشكال يتناصرون، فالنّفس لا تدعو إلا إلى الأجنبية، لأنها مدّعية تتوهم أن منها شيئا، وأصل كلّ شرك الدعوى، والشيطان لا يوسوس إلا بالباطل والكفر، فهم أعوان يتناصرون. ثم قال: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» صرّح بأن المراد على المشيئة، والاعتبار (بسابق) «1» القضية. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 138 الى 139] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) .   (1) وردت (بسائق) وهى خطأ من الناسخ إذ المقصود بما سبق من القضاء. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أخبر عن أشياء ابتدعوها على ما أرادوا، وأمور شرعوها على الوجه الذي اعتادوا، ثم أضافوا ذلك إلى الحق بغير دليل، وشرعوها بلا حجة من إذن رسول، والاشارة فيه أن من (نحانحوهم) «1» فى زيادة شىء فى الدين، أو نقصان شىء من شرع المسلمين فمضاه لهم فى البطلان، ينخرط فى سلكهم فى الطغيان. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) فسدت عليهم طريقة الثقة بالله فحملتهم خشية الفقر على قتل الأولاد، ولذلك قال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) يعنى كما أنشأ فى الظاهر جنات وبساتين كذلك أنشأ فى السّر جنات وبساتين، ونزهة القلوب أثم من جنات الظاهر فأزهار القلوب مونقة، وشموس الأسرار مشرقة، وأنهار المعارف زاخرة. ويقال كما تتشابه الثمار كذلك تتماثل الأحوال، وكما تختلف طعومها وروائحها مع تشاكلها من وجه، فكذلك الأحوال مختلفة القضايا، وإن اشتركت فى كونها أحوالا. قوله جل ذكره: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ.   (1) وردت (تجاتجوهم) وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 حقّ الواجب يوم الحصاد إقامة الشكر، فأمّا إخراج البعض فبيانه على لسان العلم «1» ، وشهود المنعم فى عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة. قوله جل ذكره: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. الإسراف- على لسان العلم- مجاوزة الحد. وعلى بيان الإشارة فالإسراف كلّ ما أنفقته فى حظّ نفسك- ولو كانت سمسمة، وما أنفقته فى سبيله- سبحانه- فليس بإسراف، ولو أربى على الآلاف. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) يعنى تسخير الحيوانات للإنسان آية مزية فى الفضيلة على المخلوقات. وكما سخّر الأعيان للإنسان كذلك سخّر الأزمان فى تصريف الحدثان لخواصّ الإنسان «2» . قوله جل ذكره: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...... إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الرزق لا يتخصص بالمأكولات بل هو شائع فى جميع ما يحصل به الانتفاع. وينقسم الرزق إلى رزق الظواهر ورزق السرائر، ذلك وجود النعم وهذا شهود الكرم بل الخمود فى وجود القدم. وللقلب رزق وهو التحقيق من حيث العرفان، وللروح رزق وهو المحبة بصدق التحرر عن الأكوان، وللسّر رزق وهو الشهود الذي يكون للعبد وهو قرين العيان.   (1) أي إخراج مقدر على حسب المعروف فى الزكاة. (2) يشير بذلك إلى ما يحدث على أيدى الأولياء من كرامات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 قوله ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الإشارة من ذكر الضأن أن يتأدّب العبد باستدامة السكون والتزام حسن الخلق، فإنّ الضانية مستسلمة لمن يلى عليها، فلا بصياحها تؤذى «1» ولا (ب ... وها) «2» ، يعنى كذلك سبيل من وطئ هذا البساط. وكذلك «فى الإبل آيات» منها انقيادها لمن جرّ زمامها، واستناختها حيثما تناخ بلا نزاع ولا اختيار. ومنها ركوبها عند الحمل، ومنها صبرها على مقاساة العطش، وذوبانها فى السير. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 145] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) بيّن أنّ الشارع الله، والمانع عن الخلق هو الله، وما كان من غير الله فضائع باطل عند الله. بيّن أنه إذا جاء الاضطرار زال حكم الاختيار. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) .   (1) فى هذه الإشارة الدقيقة نلمح أن القشيري يدعو إلى إيثار الكتمان وعدم البوح بالأسرار، وعلى ذلك كبار الشيوخ. يقول الشبلي. على أثر محنة الحلاج «كنت وابن منصور شيئا واحدا ولكنه أظهر وأنا كتمت» . (2) مشتبهة، وربما كانت (بعدوّها) ، وعندئذ قد تكون العبارة فلا بصاحبها تؤذى ولا بعدوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 بيّن أن ما حرّم عليهم ضيّعوه إذ لما لم يعاقبهم عليه لم يشهدوا مكره العظيم فيما ابتدعوه من قبل نفوسهم- فأهملوه ولم يحافظوا عليه، فاستوجبوا عظيم الوزر وأليم الهجر. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 147] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) الإشارة منه بيان تخصيص الأولياء بالرحمة، وتخصيص الأعداء بالطرد واللعنة. والصورة الإنسانية جامعة (لهم) «1» ولكن القسمة الأزلية فاصلة بينهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) كذبت قالتهم لأنها لم تصدر عن تصديق، فذمّوا على جهالتهم وإن كانت ( .... ) «2» فى التحقيق. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 149] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) صرّح بأن إرادته- سبحانه- لا تتقاصر عن مراد، وليس عليه اعتراض. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 150] قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)   (1) وردت (له) والصواب أن تكون (لهم) لتشمل الأولياء والأعداء. (2) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 أشار إلى أنّ من تجرّد عن برهان يصرّحه وبيان (يوضّحه) «1» فغير مقبول من فاعله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) .   (1) وردت (يوضعه) والصواب أن تكون بالحاء ليقوى المعنى والموسيقى اللفظية ونرجح أن الناسخ اشتبه عليه شكل الحاء فظنها عينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشرك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شىء من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شرك جلىّ وشرك خفىّ فالجلىّ عبادة الأصنام، والخفىّ ملاحظة الأنام، بعين استحقاق الإعظام. والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق. وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق. ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل فى ذلك جميع أقسام الآثام. ثم قتل النّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق. ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم. ثم بذل الإنصاف فى المعاملات والتوقي من جميع التبعات «1» ثم الصدق فى القول والعدل فى الفعل. ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل. فمن قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد فى داريه وحظى بعظائم منزلته. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 154] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) يهوّن عليهم مشقة مقاساة التكليف بما ذكر من التعريف بأنّ الذين كانوا قبلنا كانوا فى الضعف والعجز مثلنا، ثم صبروا فظفروا، وأخلصوا فخلصوا.   (1) أي الاحتراز عما فيه تبعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 155] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) إنزال الكتاب عليهم تحقيق للإيجاب، وإذا بقي العبد عن سماع الخطاب تسلى بقراءة الكتاب، ومن لم يجد فى قراءة القرآن كمال العيش والأنس فلأنّه يقرأ ترسما لا تحققا «1» قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 156 الى 157] أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) أزاح كلّ علّة، وأبدى كل وصلة، فلم يبق لك تعللا، ولا فى آثار الالتجاء إلى العذر موضعا. قوله جل ذكره: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ. عقوبة كلّ جرم مؤجلة، وعقوبة التكذيب معجلة، وهى ما يوجب بقاءهم فى أسر الشك حتى لا يستقر قلبهم على شىء. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)   (1) يمكن ان يصلح هذا الرأى لتحديد موقف القشيري من قضية «السماع» ومدى تأثير القرآن والشعر فى الوجدان الصوفي. أنظر قصة يوسف بن الحسين الرازي (الرسالة ص 171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أخبر أنه بعد ما (أزاح) «1» لهم العلل اقترحوا ما ليس لهم، و (اغتروا) «2» بطول السلامة لهم، ثم بيّن أنه إذا أمضى عقوبة عبد حكما فلا معارض لتقديره، ولا مناقض لتدبيره. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم، (فكانوا) «3» مجتمعين جهرا بجهر متفرقين- فى التحقيق- سرّا بسرّ. قوله: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» . لا نجمعك وإياهم، يعنى شقّك شقّ الحقائق، وشقّهم شقّ الباطل، و (لا اجتماع) «4» للضدين. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) هذه الحسنات للظاهر وأمّا حسنات القلوب فللواحد مائة إلى أضعاف مضاعفة. ويقال الحسنة من فضله تعالى تصدر، وبلطفه تحصل، فهو يجرى، ثم يقبل ويثنى، ثم يجازى ويعطى. ويقال إحسانه- الذي هو التوفيق- يوجب إحسانك الذي هو الوفاق، وإحسانه- الذي هو خلق الطاعة- يوجب لك نعت الإحسان الذي هو الطاعة فالعناء منك فعله والجزاء لك فضله «5» .   (1) وردت (ذبح) وذبج العلة وإزاحتها كلاهما مقبول ولكننا آثرنا أزاح لأنه استعملها فى هذا السياق قبل قليل. (2) وردت (اعتروا) بالعين والصواب (اغتروا) بالغين. (3) وردت (فكا ... ) فأكملناها. (4) وردت و (الاجتماع) والمعنى يرفضها ويقبل و (لا اجتماع) . [ ..... ] (5) تعبر هذه الفقرة عن موقف القشيري بالنسبة لقضية وجوب المثوبة والعقوبة على الله بالنسبة للمطيع والعاصي، فبينما يقول المعتزلة بهذا الوجوب، يرفض القشيري كل وجوب على الله، ويعود بالأمر كله إلى الفضل الإلهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ويقال إحسان النفوس توفية الخدمة، وإحسان القلوب حفظ الحرمة، وإحسان الأرواح مراعاة آداب الحشمة. ويقال إحسان الظاهر يوجب إحسانه فى السرائر، فالذى منك مجاهدتك، والذي إليك مشاهدتك. ويقال إحسان الزاهدين ترك الدنيا، وإحسان المريدين رفض الهوى، وإحسان العارفين قطع المنى، وإحسان الموحدين التخلّي عن الدنيا والعقبى، والاكتفاء بوجود المولى. ويقال إحسان المبتدئين الصدق فى الطلب، وإحسان أصحاب النهاية حفظ الأدب، فشرط الطلب ألا يبقى ميسور إلّا بذلته، وشرط الأدب ألا تسمو لك همّة إلى شىء إلا قطعته وتركته. ويقال للزهاد والعبّاد، وأصحاب الأوراد وأرباب الاجتهاد جزاء محصور معدود، ولأهل المواجيد لقاء غير مقطوع ولا ممنوع. قوله جل ذكره: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. يعنى (يكال) «1» عليه بالكيل الذي يكيل، ويوقف حيث يرضى لنفسه بأن يكون له موقفا. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 161] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) أرشده إلى الطريق الصحيح. ولا يكون الإرشاد إليه إلا بانسداد الطرق أجمع إلى ما سواه. ومن وجد سبيلا إلى مخلوق عرج في أوطان الحسبان لأن الأغيار ليس لها من الإبداع شظية، ومن سلك إلى مخلوق سبيلا وأبرم فيهم تأميلا أو قدّم عليهم تعويلا، فقد استشعر تسويلا، وجرّع تضليلا.   (1) وردت (يقال) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 و «الصراط المستقيم» ألّا ترى من دونه مثبتا لذرة ولا سنة. و «الدين القيم» ما لا تمثيل فيه ولا تعطيل، ولا نفى للفرق الذي يشير إلى العبودية، ولا رد للجمع الذي هو شهود الربوبية «1» . والحنيف المائل إلى الحق، الزائغ عن الباطل، الحائل عن ضد الحقيقة. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) من كوشف بحقائق التوحيد شهد أن القائم عليه والمجرى عليه والممسك له والمنقّل إياه من وصف إلى وصف، و ( .... ) «2» عليه فنون الحدثان- واحد لا يشاركه قسيم، وماجد لا يضارعه نديم. ويقال من علم أنه بالله علم أنه لله، فإذا علم أنه لله لم يبق فيه نصيب لغير الله فهو مستسلم لحكم الله، لا معترض على تقدير الله، ولا معارض لاختيار الله، ولا معرض عن اعتناق أمر الله. قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 164] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) .   (1) من اقوال القشيري التي توضح مقصوده هنا: ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع، فمن أشهده الحق- سبحانه- أفعاله من طاعاته ومخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة، ومن أشهده الحق- سبحانه- ما يوليه من أفعال نفسه- سبحانه- فهو عبد يشاهد الجمع فإثبات الخلق من باب التفرقة، واثبات الحق من نعت الجمع، ولا بد للعبد من الجمع والفرق، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له (الرسالة ص 38) . (2) مشتبهة وهى قريبة من (المجرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 كيف أوثر عليه بدلا وإنى لا أجد عن حكمه حولا، وكيف أقول بغير أو ضد أو شريك؟ أو أقول يدونه معبود أو مقصود؟ وإن لاحظت يمنة ما شاهدت إلا ملكه، وإن طالعت يسرة ما عاينت إلا ملكه! بل إنى إن نظرت يمنة شهدت يمنه، وإن نظرت يسرة وجدت نحوى يسره «1» ! قوله جل ذكره: [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) صير التوبة إليكم، وقصر حكم عصركم عليكم، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافا، وخلقكم أخيافا «2» فمن مسخّر له، مرفّه، مروّح، يتعب لأجله كثير. ومن معنّي، وذى مشقة أدير عليه رأسه. وجاء البلاء ليختبركم فيما آتاكم، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنّ حسابه لكم لاحق، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم. السورة التي يذكر فيها الأعراف «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الباء مكسورة فى نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهى صغيرة القامة فى الخط، ونقطها الذي تتميز به عن غيرها واحد وهو نهاية القلّة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهى تشير إلى التواضع والخضوع بكل وجه. والسين «من بسم الله» حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- فى الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن منّ القبول بفضله   (1) وردت (يمنه ويسره) بتاء مربوطة والصواب أن تكونا (اليمن واليسر) مضافتين لله- سبحانه. (2) يقال هم إخوة أخياف: أي أنّ أمهم واحدة والآباء شتى فهم مختلفون (المنجد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 فذلك المأمول، وإن ردّ بحكم فله الحكم، فتوافق تقديره بالموافقة فى الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمنّ. ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود. والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما ( .... ) «1» فيه من وجوه المراعاة! وصنوف لطائف المناجاة، فهم فى جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم. والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هى الموجبة لمحابّهم، إذ عنها صدر كلّ حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه. ويقال نزهة أسرار الموحدين فى الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حلّ تلك الساحة رتع فى حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس. ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات. ويقال قالة «بِسْمِ اللَّهِ» ربيع الأحباب أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) هذه الحروف من المتشابه فى القرآن على طريقة قوم من السلف، والحق- سبحانه- مستأثر بعلمها دون خلقه. وعلى طريقة قوم فلها معان تعرف، وفيها إشارات إلى أشياء توصف: فالألف تشير إلى ألفة الأرواح العطرة أصابت الشكلية مع بعض الأرواح العطرة، فهى- فى التحقيق- فى ذلك المعنى كالمتحدة فمنه تقع الألفة بين المتشاكلين، ولأجل اتحاد المقصود يتفق القاصدون. ويقال ألف القلب حديثه فلم يحتشم من بذل روحه.   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 ويقال الألف تجرّد من قصده عن كل غير فلم يتصل بشىء، وحين استغنى عن كل شىء اتصل به كل شىء على جهة الاحتياج إليه. ويقال صورة اللام كصورة الألف ولكن لما اتصلت بالحروف تعاقبتها الحركات كسائر الحروف فمرة أصبحت مفتوحة، ومرة (مسكونة) «1» ، ومرة مرفوعة، وأمّا الألف التي هى بعيدة عن الاتصال بالعلاقات (فباقية على وصف التجرد عن تعاقب الحركات عليها فهى على سكونها الأصلى) «2» . وأمّا الصاد فتشير إلى صدق أحوال المشتاقين فى القصد، وصدق أحوال العارفين فى الوجد، وتشير إلى صدق قلوب المريدين وأرباب الطلب، إذ العطش نعت كلّ قاصد، كما أن الدهشة وصف كل واجد. ويقال الصاد تبدى محبة للصدور وهو بلاء الأحباب. ويقال الصاد تطالبك بالصدق فى الود، وأمارة الصدق فى الود بلوغ النهاية والكمال، حتى لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالمنع. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 2] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) كتاب الأحباب تحفة الوقت، وشفاء لمقاساة ألم البعد، وهو لداء الضنى مزيل، ولشفاء الشكّ مقيل، وقال تعالى: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ولم يقل: فى قلبك فإن قلبه- عليه السّلام- فى محل الشهود، ولذلك قال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» «3» وكذلك قال موسى عليه السّلام: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» «4» . وقال للمصطفى صلوات الله   (1) وردت (مسكوه) بسقوط النون وهى خطأ فى النسخ. (2) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن حسب العلامة المميزة. (3) آية 97 سورة الحجر. (4) آية 25 سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 عليه: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» «1» . فإن القلب فى محل الشهود، وهو أبدا بدوام أنس القرب، قال صلّى الله عليه وسلّم: «تنام عينى ولا ينام قلبى» » وقال: «أسألك لذة النظر» «3» وصاحب اللذة لا يكون له حرج. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 3] اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) استسلموا لمطالبات التقدير، قفوا حيثما وقفتم، وتحققوا بما عرفتم، وطالعوا بما كوشفتم، ولا تلاحظوا غيرا، ولا تركنوا إلى علّة، ولا تظنوا أن لكم من دونه وسيلة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) يعنى كم من قرية ركنوا إلى الغفلة، واغتروا بطول المهلة باتوا فى (خفض) «4» الدعة وأصبحوا وقد صادفتهم البلايا بغتة، وأدركتهم القضية فجأة، فلا بلاء كشف عنهم، ولا دعاء سمع لهم، ولا فرار نفعهم، ولا صريخ أنقذهم. فما زالوا يفزعون إلى الابتهال، ويصيحون: الويل! ويدعون إلى كشف الضر، ويبكون من مسّ السوء؟! بادوا وكأنه لا عين ولا أثر، ولا لأحد منهم (خبر) «5» . تلك سنّة الله فى الذين خلوا من الكافرين، وعادته فى الماضين من الماردين.   (1) آية 1 سورة الشرح. (2) فى رواية سعيد بن منصور فى سننه عن ابن سعد بن الحسن مرسلا: (تنام عيناى ولا ينام قلبى) ص 120 الجامع الصغير. (3) وردت ضمن وعاء طويل رواه النسائي فى سننه والحاكم فى مستدركه عن عمار بن ياسر- هكذا ( ... وأسألك لذة النظر الى وجهك) . [ ..... ] (4) وردت (حفض) بالحاء والصواب أن تكون (خفض العيش) بالخاء. (5) وردت (خير) بالياء والصواب أن تكون (خبر) بالباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 6] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» : سؤال تعنيف وتعذيب. «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» : سؤال تشريف وتقريب. «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» عن القبول فيتقنّعون بذل الخجل. «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» عن البلاغ فيتكلمون ببيان الهيبة، فالكلّ بسمة العبودية والتوقير، والحقّ بنعت الكبرياء والتقدير. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 7] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) فلنخبرنهم يوم الفصل ما هم عليه اليوم، ونوقفهم على ما أسلفوه، ونقيمنهم فى مقام الصّغار ومحل الخزي، وسيعلمون أنه لم يغب عن علمنا صغير ولا كبير. ويقال أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته بتخويف العباد بعلمه مرة كما خوّفهم بعقوبته تارة فقال تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً» «1» يعنى العذاب الواقع فى ذلك اليوم، وقال فى موضع آخر: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» «2» وهذا أبلغ فى التخويف، وقال «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» «3» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) يزن أعمالهم بميزان الإخلاص، وأحوالهم بميزان الصدق. فمن كانت أعمالهم بالرياء   (1) آية 48 سورة البقرة. (2) آية 28 سورة آل عمران. (3) آية 14 سورة العلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 مصحوبة لم يقبل أعمالهم، ومن كانت أحوالهم بالاعجاب مشوبة لم يرفع أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) سهّلنا عليكم أسباب المعيشة، ويسّرنا لكم أحوال التصرف، ثم أراد منكم أن تتخذوا إليه سبيلا، ولم يعتص عليه مراد. «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» لاستعمالكم- فى الخلاف- أبدانكم، ولإنفاقكم- بالإسراف- أحوالكم، ولاستغراقكم- فى الحظوظ- أوقاتكم. فلا نعمة الفراغ شكرتم، ولا من مسّ العقوبة شكوتم ... خسرتم وما شعرتم! قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 11] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) ثبّتناكم على النعت الذي أردناكم، وأقمناكم فى الشواهد التي اخترنا لكم فمن قبيح صورته خلقا ومن مليح، ومن سقيم حالته خلقا «1» ، ومن صحيح. ثم إنا نعرفكم سابق أيادينا إلى أبيكم، ثم لاحق خلافه بما بقي عرق منه فيكم، ثم ما علمنا به (من مكان يحسدكم) «2» ويعاديكم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 12] قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) أي لولا قهر الربوبية جرى عليك وإلا فما موجب امتناعك عن السجود لآدم لو كنت تعظّم أمرى؟ فيتحقق الموحّدون أن موجب امتناعه عن السجود الخذلان الحاصل، ولو ساعده التوفيق لم يبرح بعد من السجود.   (1) ضبطنا خلقا وخلقا حسبما يتطلبه السياق (2) هكذا فى ص ونرجح أن الناسخ قد اخطأ فى النقل فما بين قوسين لا معنى له، وربما كانت فى الأصل (ثم ما علمنا بمن كان يحسدكم ويعاديكم) والمقصود إبليس كما فى الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» ادّعى الخيرية، وكان الواجب عليه- لولا الشقوة- أن يؤثر التذلّل على التكبّر، لا سيما والخطاب الوارد عليه من الحقّ. ثم إنه وإن سلك طريق القياس فلا وجه له مع النّفس لأنه بحظ، فلم يزده قياسه إلا فى استحقاق نفيه إذ ادّعى الخيرية بجوهره «1» ، ولم يعلم أن الخيرية بحكمه- سبحانه- وقسمته. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 13] قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) فارق بساط القربة فإنّ التكبّر والترفّع على البساط ترك للأدب، وترك الأدب يوجب الطرد. ويقال من رأى لنفسه محلا أو قيمة فهو متكبّر، والمتكبّر بعيد عن الحق سبحانه، ورؤية المقام قدح فى الربوبية إذ لا قدر لغيره تعالى، فمن ادّعى لنفسه محلا فقد نازع الربوبية. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 15] قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) أجاب دعاءه فى الحال ولكن كان ذلك مكرا به لأنه مكّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يزده بذلك التمكين إلا شقوة. ليعلم الكافة أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمة ولطفا بل قد تكون بلاء ومكرا. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 16] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) جاهر الحقيقة بالخلاف بعد ما أظهر من نفسه غاية الخلوص فى العبودية، فعلم أن جميع ما كان منه فى (سالف) «2» حاله لم يصدر عن الإخلاص والصدق.   (1) حيث اعتبر النار خيرا من الطين. (2) وردت (سالك) والصواب أن تكون (سالف) اى سابق عهده قبل عصيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 17] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) أخبر أنه يأخذ عليهم جوانبهم، ويتسلط عليهم من جميع جهاتهم، ولم يعلم أن الحقّ سبحانه قادر على حفظهم عنه، فإنّ ما يكيد بهم من القدرة حصل، وبالمشيئة يوجد، ولو كان الأمر به أو إليه لكان أولى الخلق بأن يؤثّر فيه كدحه نفسه، وحيث لم ينفعه جهده فى سالف أحواله لم يضرهم كيده بما توعدهم به من سوء أفعاله. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 18] قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) أخرجه من درجته، ومن حالته ورتبته، ونقله إلى ما استوجبه من طرده ولعنته، ثم تخليده أبدا فى عقوبته، ولا يذيقه ذرة من برد رحمته، فأصبح وهو مقدّم على الجملة، وأمسى وهو أبعد الزّمرة، وهذه آثار قهر العزّة. فأىّ كبد يسمع هذه القصة ثم لا يتفتت؟!. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 19] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) لما أسكن آدم الجنة خلق معه سبب الفتنة، وهو ما أكرمه به من الزوجة. وأي نقص يكون فى الجنة لو لم يخلق فيها تلك الشجرة التي هى شجرة المحنة لولا ما أخفى من سرّ القسمة؟. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 20] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) نسبته ما حصل منهما إلى الشيطان من أمارات العناية، كانت الخطيئة منهما لكنّه تعالى قال: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ويقال التقى آدم بإبليس بعد ذلك فقال له: يا شقىّ! وسوست إلىّ وفعلت!، فقال إبليس لآدم. يا آدم! هب أنّى كنت إبليسك فمن كان إبليسى!؟. قوله جل ذكره: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما. وفى ذلك دلالة على عناية زائدة حيث قال: «لِيُبْدِيَ لَهُما» فلم يطلع على سوأتهما غيرهما. قوله جل ذكره: وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. تاقت أنفسهما إلى أن يكونا ملكين- لا لأن رتبة الملائكة كانت أعلى من رتبة آدم عليه السّلام- ولكن لانقطاع الشهوات والمنى عنهما. ويقال لمّا طمعا فى الخلود وقعا فى الخمود، ووقعا فى البلاء والخوف وأصل كلّ محنة الطمع. ويقال إذا كان الطمع فى الجنة- وهى دار الخلود- أوجب كلّ تلك المحن فالطمع فى الدنيا- التي هى دار الفناء- متى يسلم صاحبه من ذلك؟ ويقال إن يكونا إنما ركنا إلى الخلود فلا لنصيب أنفسهما، ولكن لأجل البقاء مع الله تعالى، وهذا أولى لأنه يوجب تنزيه محلّ النبوة. وقيل ساعات الوصال قصيرة وأيام الفراق طويلة، فما لبثا فى دار الوصلة إلّا بعضا من النهار دخلا ضحوة النهار وخرجا نصف النهار! ويقال إن الفراق عين تصيب أهل الوصلة، وفى معناه قال قائلهم: إن تكن عين أصابتك فما ... إلا لأنّ العين تصيب الحسنا ويقال حين تمّت لهما أسباب الوصلة، ووطّنا نفوسهما على دوام القربة بدا الفراق من مكامنه فأباد من شملهما (ما) «1» انتظم، كما قيل:   (1) وردت (فانتظم) والصواب (ما انتظم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 حين تمّ الهوى وقلنا سررنا ... وحسبنا من الفراق أمنّا بعث البين رسله فى خفاء ... فأبادوا من شملنا ما جمعنا قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 21 الى 22] وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) (حسن ظنّ آدم- عليه السّلام- حمله على سكون قلبه إلى يمين العدو لأنه لم يخطر بباله أن يكذب فى يمينه بالله، ثم لمّا بان له أنه دلّاهما بغرور تاب إلى الله بصدق الندم، واعترف بأنه أساء وأجرم، فعلم- سبحانه- صدقه فيما ندم، فتداركه بجميل العفو والكرم) «1» قوله جل ذكره: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما. لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشير العقاب، وتنغّص الحال، وكذا صفة من آثر على الحق- سبحانه- شيئا يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك من ادّخر عن الله- سبحانه- نفسه أو ماله أو شيئا بوجه من الوجوه- لا يبارك الله فيه، قال تعالى فى صفة الأعداء: «خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ» . ويقال لمّا بدت سوأتهما احتالا فى السّتر، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فبعدما كانت كسوتهما حلل الجنة ظلّا يستتران بورق الجنة، كما قيل: لله درّهم من فتية بكروا ... مثل الملوك، وراحوا كالمساكين وأنشدوا: لا تعجبوا لمذلتى فأنا الذي ... عبث الزمان بمهجتي فأذلّها ثم إن آدم عليه السّلام لم يساعده الإمكان فى الاستتار بالورق إذ كانت الأشجار أجمع كلّها تتطاول وتأبى أن يأخذ آدم- عليه السّلام- شيئا من أوراقها. وقبل ذلك كان لا يلاحظ الجنة فكان يتيه على الكون بأسره ولكنه صار كما يقال: وكانت- على الأيام- نفسى عزيزة ... فلمّا رأت صبرى على الذلّ ذلّت   (1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 ولمّا أخرج آدم من الجنة وأسكن الأرض كلّف العمل والسعى والزرع والغرس، وكان لا يتجدد له حال إلا تجدّد بكاؤه، وجبريل- عليه السّلام- يأتيه ويقول: «أهذا الذي قيل لك: «إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى» ؟ فلم تعرف قدره. «فذق جزايا خلافك» فكان يسكن عن الجزع. ويقال بل الحكم بالخنوع كما قيل: وجاشت إلىّ النفس أوّل مرة ... وزيدت على مكروهها فاستقرت قوله جلّ ذكره: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. كانت لا تصل يده إلى الأوراق حين أراد قطافها ليخصفها على نفسه، فلو لم تصل يده إلى تلك الشجرة- التي هى شجرة المحنة- لكان ذلك عناية بشأنه، ولكن وصلت يده إلى شجرة المحنة، تتمة للبلاء والفتنة، ولو لم تصل يده إلى شجرة الستر- إبلاغا فى القهر- لما خالف الأمر، ولما حصل ما حصل. «وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» : فكان ما داخلهما من الخجل أشدّ من كل عقوبة لأنهما لو كانا فى الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حلّ بهما من الخجل ما حلّ، وفى معناه أنشدوا: واخجلتا من وقوفي وسط دارهم ... إذ قال لى مغضبا: من أنت يا رجل؟. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 23] قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) اعترفا بالظلم جهرا، وعرفا الحكم فى ذلك سرّا فقولهما: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» اعتراف بالظلم من حيث الشريعة، وعرفان بأن المدار على الحكم من حيث الحقيقة، فمن لم يعترف بظلم الخلق طوى الشريعة «1» ، ومن لم يعرف جريان حكم الحق فقد جحد الحقيقة،   (1) حتى يكون الشر منسوبا للإنسان كسبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 فلمّا أقرّا بالظلم قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» نطقا على عين التوحيد حيث لم يقولا بظلمنا خسرنا، بل قالا: فعلنا فإن لم تغفر لنا خسرنا، فبترك غفرانك تخسر لارتكاب ظلمنا. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 24] قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) أهبطهم، ولكنه أهبط إبليس عن رتبته فوقع فى اللعنة، وأهبط آدم عن بقعته فتداركته الرحمة. ويقال لم يخرج آدم عليه السّلام من رتبة الفضيلة وإن أخرج عن دار الكرامة، فلذلك قال الله تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ» وأما إبليس- لعنة الله عليه- فإنه أخرج من الحالة والرتبة فلم ينتعش قط عن تلك السّقطة. قوله جل ذكره: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» هذا عام «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» : أراد به إبليس على الخصوص. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 25] قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) أخبر أنه يستقبلهم اختلاف الأحوال فى الدنيا، ويتعاقب عليهم تفاوت الأطوار، فمن عسر ومن يسر، ومن خير ومن شر، ومن حياة ومن موت، ومن ظفر ومن فوت ... إلى غير ذلك من الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 26] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) سترناكم عن الأسباب الظاهرة، ويسّرنا لكم ما تدفعون به صنوف المضار عنكم بما مكّنّا لكم من وجوه المنافع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ثم قال: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» فإن اللباس الظاهر بقي آفات الدنيا، ولباس التقوى يصون عن الآفات التي توجب سخط المولى، ولباس التقوى بجميع أجزاء العبد وأعضائه. وللنّفس لباس من التقوى وهو بذل الجهد والروح والقلب، لباس من التقوى وهو صدق القصد بنفي الطمع. وللروح لباس من التقوى وهو ترك العلائق وحذف العوائق. وللسرّ لباس من التقوى وهو نفى المساكنات والتصاون من الملاحظات. ويقال تقوى العبّاد ترك الحرام، وتقوى العارفين نفى مساكنة الأنام. ويقال للعوام التقوى، وللخواص لباس التقوى عن شهود التقوى. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 27] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) من أصغى إلى وساوس نفسه بأسماع الهوى وجد الشكّ بين وسواس الشيطان وهاجس النّفس، ويتناصر الوسواس والهاجس وتصير خواطر القلب وزواجر العلم مغمورة مقهورة- فعن قريب تشمل تلك الهواجس والوساوس صاحبها، وينخرط فى سلك موافقة الهوى فيسقط فى مهواة الزلة، فإذا لم يحصل تدارك بوشيك التوبة صارت الحالة قسوة فى القلب، وإذا قسا القلب فارقته الحياة وتمّ له البلاء. قوله جل ذكره: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. لا يحصل للعبد احتراس من رؤية الشيطان إياه وهو عنه غائب إلا برؤية العبد للحق- سبحانه- بقلبه، فيستغيث إليه من كيده، فيدخله- سبحانه- فى كنف عنايته فيجد الخلاص من مكر الشيطان. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 28] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 استروحوا فى التعلل إلى سلوكهم نهج أسلافهم، فاستمسكوا بحبل واه فزلّت بهم أقدام الغرور، وقعوا فى وهدة المحنة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) القسط العدل، ويقع ذلك فى حق الله تعالى، وفى حق الخلق، وفى حق نفسك فالعدل فى حقّ الله الوقوف على حدّ الأمر من غير تقصير فى المأمور به أو إقدام على المنهىّ عنه، ثم ألا تدخر عنه شيئا مما خوّلك، ثم لا تؤثر عليه شيئا فيما أحلّ لك. وأمّا العدل مع الخلق- فعلى لسان العلم- بذل الإنصاف، وعلى موجب الفتوة ترك الانتصاف. وأمّا العدل فى حق نفسك فإدخال العتق عليها، وسدّ أبواب الراحة بكل وجه عليها، والنهوض بخلافها على عموم الأحوال فى كل نفس. قوله جل ذكره: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. الإشارة منه إلى استدامة (شهوده فى كل حالة، وألا تنساه لحظة فى كلّ ما تأتيه وتذره وتقدمه) «1» وتؤخره. قوله جل ذكره: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. من كانت قسمته- سبحانه- له بالسعادة كانت فطرته على السعادة، وكانت حالته بنعت السعادة، ومن كانت حالته بنعت السعادة كانت عاقبته إلى السعادة، ومن كانت القسمة له بالعكس فالحالة بالضد، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان بحالة لقى الله بها» .   (1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وجملة العلم بالقضاء والقدر أن يتحقق أنه علم ما يكون أنه كيف يكون، وأراد أن يكون كما علم. وما علم ألا يكون- مما جاز أن يكون أراده ألا يكون- أخبر أنه لا يكون. وهو على وجه الذي أخبر، وقضى على العبد وقدّر أجرى عليه ما سبق به الحكم، وعلى ما قضى عليه حصل العبد على ذلك الوصف.. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 31] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) على لسان العلم: يجب ستر العورة فى الصلاة، وعلى موجب الإشارة: زينة العبد بحضور الحضرة، ولزوم السّدّة، واستدامة شهود الحقيقة. ويقال زينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية، والعارف على البساط بحكم الحرية. وشتّان بين عبد وعبد! قوله جل ذكره: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. الإسراف ما تناولته لك ولو بقدر سمسمة. ويقال الإسراف هو التعدي عن حدّ الاضطرار فيما يتضمن نصيبا لك أو حظّا بأى وجه كان. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 32] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الإشارة منها إلى زينة السرائر فزينة العابدين آثار التوفيق، وزينة الواجدين أنوار التحقيق، وزينة القاصدين ترك العادة، وزينة العابدين حسن العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 ويقال زينة النفوس صدار الخدمة، وزينة القلوب حفظ الحرمة، وزينة الأرواح الإطراق بالحضرة باستدامة الهيبة والحشمة. ويقال زينة اللسان الذكر وزينة القلب الشكر. ويقال زينة الظاهر السجود وزينة الباطن الشهود. ويقال زينة النفوس حسن المعاملة من حيث المجاهدات، وزينة القلوب دوام المواصلة من حيث المشاهدات. ومعنى قوله: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي .... » يعنى إن الله لم يمنع هذه الزينة عمن تعرض لوجدانها، فمن تصدى لطلبها فهى مباحة له من غير تأخير قصود. قوله جل ذكره: وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. أرزاق النفوس بحكم أفضاله سبحانه، وأرزاق القلوب بموجب إقباله تعالى. ويقال أرزاق المريدين إلهام ذكر الله، وأرزاق العارفين الإكرام بنسيان ما سوى الله. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) ما ظهر منها الزّلّة، وما بطن منها الغفلة. ويقال ما ظهر منها كان بنسيان الشريعة، وما بطن بإشارة الحقيقة. ويقال لقوم ترك الرخص يكون علة، والأولى بهم والأفضل لهم الأخذ به. وقوم لو ركنوا إلى الرّخص لقامت عليهم القيامة. ويقال فاحشة الخواص تتبع ما لأنفسهم فيه نصيب ولو بذرة أو سنّة. ويقال فاحشة الأحباب الصبر على المحبوب «1»   (1) لأنهم عندئذ يستطيعون الصبر بعيدا عن رضا محبوبهم عزّ وجلّ. (الرسالة ص 162) [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 ويقال فاحشة الأحباب أن تبقى حيّا وقد منيت بالفراق، قال قائلهم: لا عيش بعد فراقهم ... هدا هو الخطب الأجلّ ويقال فاحشة قوم أن يلاحظوا غيرا بعين الاستحقاق، قال قائلهم: يا قرّة العين سل عينى هل اكتحلت ... بمنظر حسن مذغبت عن عينى؟ ويقال فاحشة قوم أن تبقى لهم قطرة من الدمع ولم يسكبوها للفرقة، أو يبقى لهم نفس لم يتنفّسوا به فى حسرة، وفى معناه أنشدوا: لئن بقيت فى العين منّى دمعة ... فإنى إذا فى العاشقين دخيل قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) لكلّ قوم مدة مضروبة، فإذا تناهت تلك المدة زالت تلك الحالة فلنعمة المترفين مدّة، فإذا زالت فليس بعدها إلا الشدّة، ولمحنة المستضعفين مدة فإذا انقضت تلك المدة زالت تلك الشدة. ويقال إذا سقط قرص الشمس زال سلطان النهار فلا يزداد بعده إلا تراكم الظلمة، فإذا ارتحلت عساكر الظلام بطلوع الفجر فبعد ذلك لا تبقى فيه للنهار تهمة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 35] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) إذا أتاكم الرّسل فلا تركنوا إلى مجوزات الظنون، واحملوا الأمر على الجدّ فإنّا- مع استغنائنا عن الأغيار، وتقدّسنا عن المنافع والمضار- نطالب بالقليل والكثير، ونحاسب على النقير والقطمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 36] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) من قابل ربوبيتنا بالجحد، وحكمنا بالرد، لقى الهوان، وقاسى الآلام والأحزان، ثم العجز يلجئه إلى الخنوع، ولكن بعد ألا ينفع ولا يسمع «1» قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) يصيبهم من الكتاب ما سبق لهم به الحكم، فمن جرى بسعادته الحكم وقع عليه رقم السعادة، ومن سبق بشقاوته الحكم حقّ عليه علم الشقاوة. ويقال من سبقت له قسمة السعادة فلو وقع فى قعر اللّظى تداركته العناية وأخرجته الرحمة، ومن سبقت له قسمة الشقاوة.. فلو نزل الفراديس تداركته السخطة وأخرجته اللعنة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)   (1) توضح هذه العبارة فى ضوء ما سيرد بعد قليل هكذا: (ولكن بعد الا ينفعهم بكاء ولا يسمع لهم دعاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 آثار إعراض الحق عنهم أورثت لهم وحشة الوقت تبرّم بعضهم ببعض، وضاق كلّ واحد منهم عن كل شىء حتى عن نفسه، فدعا بعضهم على بعض، وتبرّأ بعضهم من بعض، وكذلك صفة المطرودين. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 40] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) فلا دعاؤهم يسمع، ولا بكاؤهم ينفع، ولا بلاؤهم يكشف، ولا عناؤهم يرفع. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 41] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) كما أحاطت العقوبات بهم فى الدنيا فتدنّس بالغفلة باطنهم، وتلوّث بالزّلة ظاهرهم «1» ، فكذلك أحاطت العقوبات بجوانبهم فمن فوقهم عذاب ومن تحتهم عذاب، وكذلك من جوانبهم فى القلب من ضيق العيش واستيلاء الوحشة ما يفى ويزيد على الكل.   (1) نذكّر أن القشيري منذ قليل أوضح أن (ما ظهر من الفواحش هى الزلة وما بطن منها هى الغفلة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 42] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) رفعنا عن ظاهرهم وباطنهم كلفة العمل فيسّرنا عليهم الطاعات بحسن التوفيق، وخفّفنا عنهم العبادات بتقليل التكليف. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 43] وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) طهرنا قلوبهم من كل غش، واستخلصنا أسرارهم عن كل آفة. وطهّر قلوب العارفين من كل حظ وعلاقة، كما طهّر قلوب الزاهدين عن كل رغبة ومنية، وطهّر قلوب العابدين عن كل تهمة وشهوة، وطهّر قلوب المحبين عن محبة كل مخلوق وعن غل الصدر- كل واحد على قدر رتبته. ويقال لمّا خلق الجنة وكل ترتيبها إلى رضوان، والعرش ولى حفظه إلى الجملة «1» ، والكعبة سلّم مفتاحها إلى بنى شيبة، وأمّا تطهير صدور المؤمنين فتولّاه بنفسه. وقال: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» . ويقال إذا كان نزع الغل من الصدور من قبله فلا محلّ للغرم الذي لزمهم بسبب الخصوم حيث كان منه سبحانه وجه أدائه. قوله جل ذكره: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. فى قولهم اعتراف منهم وإقرار بأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من جزيل تلك العطيات،   (1) هل المقصود بها جملة الملائكة إشارة إلى قوله تعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وعظيم تلك الرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم، وإنما ذلك أجمع ابتداء فضل منه ولطف. قوله جل ذكره: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. تسكين لقلوبهم، وتطييب لهم، وإلا فإذا رأوا تلك الدرجات علموا أن أعمالهم المشوبة بالتقصير لم توجب لهم كل تلك الدرجات. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) اعترف أهل النار بحقيقة الدّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرار بحال من الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 46] وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) ذلك الحجاب الذي بينهما حصل من الحجاب السابق لمّا حجبوا فى الابتداء «1» فى سابق القسمة عما خصّ به المؤمنون من القربة والزلفة حجبوا فى الانتهاء عما خصّ به السعداء من المغفرة والرحمة. ويقال حجاب وأي حجاب! لا يرفع بحيلة ولا تنفع معه وسيلة. حجاب سبق به الحكم قبل الطاعة والجرم.   (1) وردت فى (الابتداع) والصواب أن سابق القسمة فى (الابتداء) قبل الطاعة والجرم- كما سيأتى بعد قليل، وكما نعرف من مذهب القشيري فى هذا الخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 قوله جل ذكره: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ. هؤلاء الأشراف خصوا بأنوار البصائر اليوم فأشرفوا على مقادير الخلق بأسرارهم، ويشرفون غدا على مقامات الكل وطبقات الجميع بأبصارهم. ويقال يعرفونهم غدا بسيماهم التي وجدوهم عليها فى دنياهم فأقوام موسومون بأنوار القرب، وآخرون موسومون «1» بأنوار الرد والحجب. قوله جل ذكره: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. سلموا اليوم عن النكرة والجحود، وأكرموا بالعرفان والتوحيد. وسلموا غدا من فنون الوعيد، وسعدوا بلطائف المزيد. وتحققوا أنهم بلغوا من الرتب ما لم يسم إليه طرف تأميلهم، ولم يحط بتفصيله كنه عقولهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 47] وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) إنما يصرف أبصارهم اليوم تقديرا عليهم عظيم المنّة التي بها نجاتهم، فيزيدون فى الاستغاثة وصدق الابتهال، فتكمل بهم العارفة «2» بإدامة ما لاطفهم به من الإيواء والحفظ. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) .   (1) قال أحمد بن عطاء: (الوسم يظهر على المقبولين والمطرودين) اللمع ص 427. (2) العارفة هى الفضل والمعروف والمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ذلك ما يرون عليهم من غبار الرد وأمارات البعد، وهى مما لا يخفى على ذى عينين، فيقولون لهم: هل يغني عنكم ما ركنتم إليه من أباطيلكم، وسكنتم إليه من فاسد ظنونكم، وباطل تأويلكم؟ فشاهدوا- اليوم- تخصيص الحق لمن ظننتم أنهم ضعفاؤكم، وانظروا هل يغنى عنكم الذين زعمتم أنهم أولياؤكم وشركاؤكم؟ قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 50] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) دلّت الآية على أن من أواخر ما يبقى على الإنسان الأكل والشرب فإنهم فى تلك العقوبات الشديدة يقع عليهم الجوع والعطش حتى يتضرعون كلّ ذلك التضرع فيطلبون شربة ماء أو لقمة طعام وهم فى غاية الآلام، والعادة- اليوم- أن من كان فى ألم شديد لا يأكل ولا يشرب، وهذا شديد. ثم أبصر كيف لا يسقيهم قطرة- مع استغنائه عن تعذيبهم، وقدرته على أن يعطيهم ما يريدون! ولكنه قهر الربوبية وعزّ الأحدية، وأنه فعّال لما يريد. فكما لم يرزقهم- اليوم- من عرفانه ذرة، لا يسقيهم غدا فى تلك الأحوال قطرة، وفى معناه أنشدوا: وأقسمن لا يسقيننا- الدهر- قطرة ... ولو فجّرت من أرضهن بحور ويقال إنما يطلبون الماء ليبكوا به بعد ما نفدت دموعهم، وفى هذا المعنى قيل: يا نازحا نزفت دمعى قطيعته ... هب لى من الدمع ما أبكى عليك به. وفى هذا المعنى أنشدوا. جرف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 من ذا يعيرك عينه تبكى بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار؟ قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 51] الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) كما تركوا أمره وضيّعوه تركهم فى العقوبة، ولا ( ... ) «1» فيما يشكون، فتأتى عليهم الأحقاب، فلا كشف عذاب، ولا برد شراب، ولا حسن جواب، ولا إكرام بخطاب ذلك جزاء لمن لم يعرف قدر الوصلة فى أوقات المهلة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 52] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) أنزلنا عليهم من الكتاب وأوحينا إليهم من الخطاب ما لو قابلوه بالتصديق وصاحبوه بالتحقيق لوجدوا الشفاء من محنة البعاد، ونالوا الضياء بقرب الوداد، ووصلوا فى الدنيا والعقبى إلى جميل المراد، ولكنه- سبحانه- أبى القسمة فى نصيبهم إلا الشّقوة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 53] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إذا كشف جلال الغيب، وانتفت عن قلوبهم أغطية الرّيب، فلا بكاء لهم ينفع، ولا دعاء منهم يسمع، ولا شكوى عنهم ترفع، ولا بلوى من دونهم تقطع   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) تعرّف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهى أفعاله، وتعرّف إلى الخواص منهم باياته الدالة على نصرته التي هى أفضاله وإقباله، وظهر لأسرار خواص الخواص بنعوته الذاتية «1» التي هى جماله وجلاله، فشتان بين قوم وقوم! ثم كما يدخل فى الظاهر الليل على النهار والنهار على الليل فكذلك يدخل القبض على البسط والبسط على القبض. ومنه الإشارة إلى ليل القلوب ونهار القلوب: فمن عبد أحواله أجمع قبض، ومن عبد أحواله أجمع بسط، ومن عبيد يكون مرة بعين القبض ومرة بعين البسط كما أن بعض أقطار العالم فيها نهار بلا ليل، وفى بعضها ليل بلا نهار، وفى بعضها ليل يدخل على نهار ونهار يدخل على ليل. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» : فمنه الخير والشر، والنفع والضر، فإن له الخلق والأمر. «تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قدمه ودوام ثبوته من حيث يقال برك الطير على الماء. وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العزّ لأنه قد تبارك أي تعظّم. وأشارت إلى إسداد النّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البركة هى الزيادة فهى مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 55] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)   (1) لاحظ حرص القشيري الشديد حين يقرر أن أقصى حالات المشاهدة لا تكون مشاهدة الذات- فقد جلت الصمدية أن يستشرف من شهود ذاتها عبد، إنما هى مشاهدة نعوت الذات: الجمال والجلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الأمر بالدعاء إذن- فى التسلّى- لأرباب المحنة، فإنهم إلى أن يصلوا إلى كشف المحنة ووجود المأمول استروحوا إلى روح المناجاة فى حال الدعاء والدعاء نزهة لأرباب الحوائج، وراحة. لأصحاب المطالبات، ومعجل من الأنس بما ( .... ) «1» إلى القلب عاجل التقريب. وما أخلص عبد فى دعائه إلا روّح- سبحانه- فى الوقت قلبه. ويقال علّمهم آداب الدعاء حيث قال: «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» وهذا أدب الدعاء أن يدعوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار. ومن غاية ما تقرر لديك نعت كرمه بك أنه جعل إمساكك عن دعائه- الذي لا بد منه- اعتداء منك. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 56] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) من الإفساد بعد الإصلاح إحمال النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعد ما كبحت لجامها مدة عن العدو فى ميدان الخلاف، ومن ذلك إرسال القلب فى أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة، ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، ومن ذلك استشعار محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه، ومن ذلك الجنوح إلى تتبع الرّخص فى طريق الطلب بعد حمل النّفس على ملازمة الأولى والأشق، ومن ذلك الانحطاط بحظّ إلى طلب مقام منه أو إكرام، بعد القيام معه بترك كل نصيب وفى الجملة: الرجوع من الأعلى إلى الأدنى إفساد فى الأرض بعد الإصلاح. قوله جل ذكره: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. يقال المحسنين عملا والمحسنين أملا، فالأول العابدون والثاني العاصون «2» ويقال المحسن من كان حاضرا بقلبه غير لاه عن ربّه ولا ناسيا لحقّه. ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.   (1) مشتبهة. (2) تأمل كيف يفسح الصوفية صدورهم ويفتحون أبواب الأمل أمام العصاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ويقال المحسن الذي لم يخرج ( .... ) «1» عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 57] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) تباشير القرب تتقدم فيتأدى نسيمه إلى مشام الأسزار، وكذلك آثار الإعراض تتقدم فتوجد ظلمة القبض فى الباطن، فظلّ الوحشة يتقدمها، ونسيم الوصلة بعدها، وفى قريب منه قال قائلهم: ولقد تشمّمت القضاء لحاجتى ... فإذا له من راحتيك نسيم قوله جل ذكره: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. الإشارة منه أنه يحصل بالمهجور ما يتأذى به الصدر ويبرّح به الوجد وينحل به الجسم، بل يبطل كلّه البعد، فيأتيه القرب فيعود عود وصاله بعد الذبول طريا، ويصير دارس حاله عقيب السقوط نديا، كما قال بعضهم: كنّا كمن ألبس أكفانه ... وقرّب النعش من اللّحد فجالت الروح فى جسمه ... وردّه الوصل إلى المولد قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 58] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) إذا زكا الأصل نما الفرع، وإن خبث الجوهر لم يطب ما تحلّل منه، وإن طاب العنصر   (1) مشتبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فالجزء يحاكى أصله، والأسرّة تدل على السريرة، فمن صفا باطن قلبه زكا ظاهر فعله، ومن كان بالعكس فحاله بالضد. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 59] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) بلّغ الرسالة فلم ينجع فيهم ما أظهر من الآلاء، لأنّ محزوم القسمة لا ينفعه مجهود الحيلة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 60 الى 61] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) قوله لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ: نسبوا نوحا- عليه السّلام- إلى الضلالة، فتولّى إجابتهم بنفسه فقال «يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ» ، ونبينا- صلّى الله عليه وسلّم- نسب إليه فتولّى الحق- سبحانه- الردّ عنه فقال: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» «1» فشتّان بين من دافع عن نفسه، وبين من دافع عنه ونفى عنه ربّه «2» ! قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 62] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) إنى أعلم أنّى وإن بالغت فى تبليغ الرسالة فمن سبقت له القسمة بالشقاوة لا ينفعه نصحى، ولا يؤثّر فيه قولى، فمن أسقطته القسمة لم تنعشه النصيحة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 63] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)   (1) آية 2 سورة النجم. (2) من عادة القشيري أن يلتمس نوعا من المقارنة بين المصطفى صلوات الله عليه وبين سائر الأنبياء عليهم السّلام ليظهر علو مقامه ورفعة مرتبته بينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 عجبوا من كون شخص رسول الله، ولم يتعجبوا من كون الصنم شريكا لله، هذا فرط الجهالة وغاية الغباء! قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 64] فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) تسر بلوا غبّ التكذيب لمّا ذاقوا طعم العقوبة، فلم يسعدوا بما حملوه ولم يصلوا إلى ما أمّلوه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 69] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا فى وهدتهم، ومنوا بمثل حالتهم. فلا خير فيمن آثر هواه على رضاء الله، ولا ربح من قدّم هواه على حقّ الله. قوله جل ذكره: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 جعل الله الخلق بعضهم خلفا عن بعض، فلا يفنى فوجا منهم من جنس إلا أقام فوجا منهم من ذلك الجنس. فأهل الغفلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوم، وأهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم، ولا ينبغى للعبد أن يسمو طرف «1» تأميله إلى محل الأكابر فإن ذلك المقام مشغول بأهله، فما لم تنته نوبة أولئك لا تنتهى النوبة إلى هؤلاء. قوله جل ذكره: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً. كما زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق، وكما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المبانى أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني. قوله جل ذكره: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. النّعماء عام، والآلاء خاص، فتلك تتضمن ترويح الظواهر، وهذه تتضمن التلويح فى السرائر، تلك بالترويح بوجود المبار، وهذه بالتلويح بشهود الأسرار. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 70] قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) طاحوا فى أودية التفرقة فلم يجدوا قرارا فى ساحات التوحيد، فشقّ عليهم الإعراض عن الأغيار، وفى معناه قال قائلهم: أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يبصرون على طعام ويقال شخص لا يخرجه من غش التفرقة، وشخص لا يحيد لحظة عن سنن التوحيد [فهو لا يعبد إلا واحدا، وكما لا يعبد إلا واحدا لا يشهد إلا واحدا، قال قائلهم: لا يهتدى قلبى إلى غيركم ... لأنه سدّ عليه الطريق قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 71] قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)   (1) وردت (طرق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 إذا أراد الله هوان عبد طرحه فى مفازات التفرقة وإنّ من علامات غضبه وإعراضه ردّ العبد إلى شهود الأغيار، وتغريقه إياه فى بحار الظنون، إذ لا تحصيل للأغيار فى معنى الإثبات. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 72] فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) لا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة. وأخبر- سبحانه- أنه نجّى هودا برحمته، وكذلك نجّى الذين آمنوا معه برحمته، ليعلم أنّ النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون بابتداء فضل من الله ورحمته فما نجا من نجا إلا بفضل الحق سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 73] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) غاير الحقّ- سبحانه- بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم فى التوحيد فالشرائع «1» ] التي هى العبادات مختلفة، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد.   (1) كل هذه المساحة فيما بين القوسين موجودة فى الهامش بخط دقيق جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ثم أخبر عن إمضاء سنّته تعالى بإرسال الرسل عليهم السّلام، وإمهال أممهم ريثما ينظرون فى معجزات الرسل. ثم أخبر عما درجوا عليه فى مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسلية للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- فيما كان يقاسى من بلاء قومه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 74] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) أزاح علتهم فى بسط الدلالة، ووسع عليهم حالتهم بتمكينهم من العطايا على ما دعت إليه حالتهم ... فلا الدليل تأمّلوه، ولا السبيل لازموه، ولا النعمة عرفوا قدرها، ولا المنّة قدّموا شكرها، فصادفهم من البلاء ما أدرك أشكالهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 75 الى 79] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 أجرى الله- سبحانه- سنّته ألا يخص بأفضاله، وجميل صنعه وإقباله- فى الغالب من عباده- إلّا من يسمو إليه طرفه بالإجلال، وألّا يوضح له قدره بين الأضراب والأشكال فأنصار كلّ نبى إنما هم ضعفاء وقته، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام، ولا كما يعتقد فيهم الأنام، بل الجواهر مستورة فى معادتها، وقيمة المحالّ بساكنيها، قال قائلهم: وما ضرّ نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان عضبا حيث وجهته وترا وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه» «1» قوله تعالى: «وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» الحيلة تدعو إلى وفاق الهوى فتستثقل النّفس قول الناصحين، فيخرجون عليهم وكأن الناصحين هم العائبون، قال قائلهم: وكم سقت فى آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصح قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) .   (1) فى رواية الترمذي (كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء ابن مالك) . الجامع الصغير ص 237 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 أباح الحقّ- سبحانه- فى الشرع ما أزاح به العذر، فمن تخطّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب- باختياره- صغره. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) خسّت همم قوم شعيب فقنعوا بالتطفيف فى المكيال والميزان عند معاملاتهم، ثم إن الحق- سبحانه- لم يساهلهم فى ذلك ليعلم أنّ الأقدار ليست من حيث الأخطار. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87] وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) من المعاصي ما لا يكون لازما لصاحبه وحده بل يكون متعدّيا عنه إلى غيره. ثم بقدر الأثر فى التعدّى يحصل الضر للمبتدىء «1» قوله جل ذكره: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا   (1) مثلما يحدث فى حالة البدعة، فصاحب البدعة يحمل وزر ابتداعه ووزر من اقتدى به (انظر رأى القشيرى فى كتاب التحبير تحت «البديع» ) وهنا قد تكون (المبتدى) أى البادى بالابتداع وقد تكون (المقتدى) ويقصد بها من اقتدى به، فكلاهما يناله الضر هذا جزاء اتباعه وذاك لابتداعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. منّ عليهم بتكثير العدد لأن بالتناصر والتعاون تمشى الأمور ويحصل المراد. ويقال كما أن كل أمر بالأعوان والأنصار (خيرا أو شرا، فلا نعمة فوق اتفاق الأنصار فى الخير، ولا محنة فوق اتفاق الأعوان) «1» فى الشر. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 88] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) كما أن (أهل) «2» الخير لا يميلون إلا إلى أشكالهم فأهل الشر لا ينصرون إلا من رأوا بأنه يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم، والأوحد فى بابه من باين نهج أضرابه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 89] قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) نطقوا عن صحة عزائمهم حيث قالوا: «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» ، ثم أقروا بالشكر حيث قالوا: «بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» ، ثم تبرأوا عن حولهم وقوتهم حيث قالوا: «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» يعنى إن يلبسنا لباس الخذلان نردّ إلى الصغر والهوان. ثم اشتاقوا إلى جميل التوكل فقالوا: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» أي به وثقنا، ومنه الخير أمّلنا.   (1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن. (2) وضعنا (أهل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 ثم فوضوا أمورهم إلى الله فقالوا: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» فتداركهم الحقّ- سبحانه- عند ذلك بجميل العصمة وحسن الكفاية «1» قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 92] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيّهم، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته، وكانوا مخطئين فى حكمهم، مبطلين فى ظنهم، فعلم أنّ كل نصيحة لا يجب قبولها، وكل إشارة «2» لا يحسن اتباعها. قوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا كانت لهم غلبتهم فى وقتهم، ولكن لما اندرست أيامهم سقط صيتهم، و (خمد) «3» ذكرهم، وانقشع سحاب من توهّم أنّ منهم شيئا. قوله جل ذكره: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ. الحقّ غالب فى كل أمر، والباطل زاهق بكل وصف، وإذا كانت العزّة نعت من هو أزلىّ الوجود، وكان الجلال حقّ من هو الملك فأى أثر للكثرة مع القدرة؟ وأي خطر للعلل مع الأزل؟ ولقد أنشدوا فى قريب من هذا: استقبلني وسيفه مسلول ... وقال لى واحدنا معذول قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 93] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)   (1) لاحظ من هذه الفقرة ترتيب السلوك: صحة العزم ثم الشكر ثم التبري عن الحول والقوة ثم التوكل ثم التفويض. (2) إشارة هنا معناها مشورة أي نصيحة. (3) وردت (خمر) بالراء، وقد صوبناها (خمد) ذكرهم وليس بمستبعد أن تكون (خمل) ذكرهم فحمود الذكر وخموله بمعنى متقارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 «1» بيّن أنه راعى حدّ الأمر فإذا خرج عن عهدة التكليف فى التبليغ فما عليه من إقرارهم أو إنكارهم، من توحيدهم أو جحودهم إن أحسنوا فالميراث الجميل لهم، وإن أساءوا فالضرر بالتألم عائد عليهم، ومالك الأعيان أولى بها من الأغيار، فالخلق خلقه والملك ملكه إن شاء هداهم، وإن شاء أغواهم، فلا تأسّف على نفى وفقد، ولا أثر من كون ووجود «2» قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) حرّكهم بالبلاء الأهون تحذيرا من البلاء الأصعب، فإذا تمادوا فى غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم مدّ عليهم ظلال الاستدراج، ووسّع عليهم أسباب التفرقة مكرا بهم فى الحال، فإذا وطّنوا- على مساعدة الدنيا- قلوبهم، وركنوا إلى ما سوّلت لهم من امتدادها، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نغّص عليهم طيب الحياة، واندق بغتة عنق السرور، وشرفوا بما كانوا ينهلون من كاسات المنى، فتبدّل ضياء نهارهم بسدفة الوحشة، وتكدّر صافى مشربهم بيد النوائب، كما سبقت به القسمة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 97] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97)   (1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (عسى) بالعين. (2) ربما كان (ووجد) فالوجد يقابل الفقد، ولكن حيث هو هنا لا يتحدث عن طائفة الصوفية، وإنما يتحدث عموما، فالوجود مرادف للكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 لو آمنوا بالله، واتّقوا الشرك لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض بأسباب العطاء- ولكن «1» سبق بخلافه القضاء- وأبواب الرضاء، والرضاء أتمّ من العطاء. ويقال ليست العبرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة فى النعمة، ولذا لم يقل أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال: باركنا لهم فيما خوّلنا. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 98] أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أكثر ما ينزل البلاء ينزل فجأة على غفلة من أهله، ويقال من حذر البيات لم يجد روح الرّقاد. ويقال ربّ ليلة مفتتحة بالفرح مختتمة (بالترح) «2» . ويقال ربّ يوم تطلع شمسه من أوج السعادة قامت ظهيرته على قيام الفتنة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 99] أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) يقال من عرف علوّ قدره- سبحانه- خشى خفىّ مكره، ومن أمن خفىّ مكره نسى عظيم قدره. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 100] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)   (1) وردت (وإن سبق ... ) وعند ذلك يضطرب السياق فوجدنا ان الأوفق ان تكون (ولكن سبق ... ) لأنهم فى الآية كذبوا ... ، ثم وضعنا الجملة المبدوءة بلكن بين علامتى جملة اعتراضية، فانتظم السياق، ونرجح ان ما صنعناه قريب من الأصل او هو الأصل. (2) وردت (بالطرح) بالطاء، وهى خطأ من الناسخ فالترح ضد الفرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 أو لا يعلم المغترون بطول سترنا أن لو أردنا لعجّلنا لهم الانتقام، أو بلغنا فيهم الاصطلام، ثم لا ينفعهم ندم، ولا يشكى عنهم ألم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 101] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) سلكوا طريقا واحدا فى التمرد، واجتمعوا فى خط واحد فى الجحد والتّبلّد فلا للإيمان جنحوا، ولا عن العدوان رجعوا، وكذلك صفة من سبقت بالشقاء قسمته، وحقت بالعذاب عليه كلمته. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 102] وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) نجم فى الغدر طارقهم، وأفل من سماء الوفاء شارقهم، فعدم أكثرهم رعاية العهد، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد. ويقال: شكا من أكثرهم إلى أقلّهم، فالأكثرون من ردّتهم القسمة، والأقلون من قبلتهم الوصلة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 103] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) لما انقرضت أيامهم، وتقاصر عن بساط الإجابة إقدامهم «1» بعث موسى نبيّه، وضمّ   (1) ويجوز أن تكون (أقدامهم) فالقشيرى يستعمل وطء القدم للبساط كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 إليه هارون صفيّه، فقوبلا بالتكذيب والجحود، فسلك بهم مسلك إخوانهم فى التعذيب والتبعيد. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 104 الى 106] وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) الرجوع إلى دعاء فرعون إلى الله بعد سماع كلام الله بلا واسطة صعب شديد، ولكنه لمّا ورد الأمر قابله بحسن القبول، فلما ترك اختيار نفسه أيّده الحق- سبحانه- بنور التأييد حتى شاهد فرعون محوا فى التقدير فقال: «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» . فإذا لم يصح له أن يقول على الخلق فالخلق محو فيما هو الوجود الأزلى فأىّ سلطان لآثار التفرقة فى حقائق الجمع؟ قوله: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ: من المعلوم أن مجرّد الدعوى لا حجة فيه، ولكن إذا ظهر برهان لم يبق غير الانقياد لما هو الحق، فمن استسلم ( ... ) «1» ، ومن جحد الحقائق بعد لوح البيان سقط سقوطا لا ينتعش. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 107] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) إنما أظهر له المعجزة من عصاه لطول (مقارنته) «2» إياها، فالإنسان إلى ما ألفه أسكن بقلبه. فلمّا رأى ما ظهر فى العصا من الانقلاب أخذ موسى عليه السّلام فى الفرار لتحققه بأن ذلك من قهر الحقائق، وفى هذا إشارة إلى أنّ السكون إلى شىء غرّة وغفلة (ايش) «3»   (1) لا بد ان كلمة هنا سقطت من الناسخ مثل (سلم) او (نجا) او نحوهما. [ ..... ] (2) (مقارنته) هنا معناها مصاحبته لها بدليل قوله فيما بعد (إلى ما ألفه) . (3) (إيش) هذه كلمة دارجة استعملها القشيري كثيرا فى رسالته ومعناها (اى شىء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 ما كان، فإنّ تقلب العبد فى قبض القدرة، وهو فى أسر التقلّب، وليس للطمع فى الكون مساغ بحال. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 108] وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) العصا- وإن كانت معه من زمن- فيده أخص به لأنها عضو له، فكاشفه أولا «1» برسم من رسمه ثم أشهده من ذاته فى ذاته ما عرف أنه أولى به منه، فلما رأى انقلاب وصف فى يده علم أنه ليس بشىء من أمره بيده. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 110] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) إذا أراد الله هوان عبد لا يزيد الحقّ حجّة إلا ويزيد لذلك المبطل فيه شبهة فكلّما زاد موسى- عليه السّلام- فى إظهار المعجزات ازدادوا حيرة فى التأويلات. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 111 الى 112] قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) توهّم الناس أنهم بالتأخير، وتقديم التدبير، وبذل الجهد والتشمير يغيّرون شيئا من التقدير بالتقديم أو بالتأخير، ولم يعلموا أن القضاء غالب، وأنّ الحكم سابق، وعند حلول الحكم فلا سلطان للعلم والفهم، والتسرع «2» والحلم.. كلا، بل هو الله الواحد القهار العلّام.   (1) فى هذه الإشارة نلحظ تأثر القشيري بالمكاشفة، فالحق سبحانه يتجلى للعبد اولا بنعت من نعوت صفاته ثم يتجلى له بنعت من نعوت ذاته. (2) وردت (التشرع) حيث التبست علامة التضعيف التي على السين على الناسخ، والتسرع مقبول فى السياق لأنه يقابل الحلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 116] وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) ظنوا أنهم يغلبون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زوّروه فى أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكيد لهم، فهو كما قيل: ورمانى بأسهم صائبات ... وتعمدته بسهم فطاشا فبيناهم فى توهّم أنّ الغلبة لهم فتح عليهم- من مكامن القدرة- جيش، فوجدوا أنفسهم- فى فتح القدرة- مقهورين بسيف المشيئة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) موّهوا بسحرهم أنهم غلبوا، فأدخل الله- سبحانه- على تمويهاتهم قهر الحق وطاشت تلك الحيل، وخاب منهم الأمل، وجذب الحقّ- سبحانه- أسرارهم على الوهله فأصبحوا فى صدر العداوة، وكانوا- فى التحقيق- من أهل الود. فسبحان من يبرز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 العدوّ فى نعت الولي ثم يقلب الكتاب ويظهر الولىّ فى نعت العدو، ثم يأبى الحال إلا حصول المقضىّ. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 124] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) «1» خاطبهم معتقدا أنهم هم الذين كانوا «2» ، وهم يعلمون أن تلك الأسرار قد خرجت عن رقّ الأشكال، وأن قلوبهم طهرت عن تو التفرقة، وأن شمس العرفان طلعت فى سماء أسرارهم، فأشهدوا الحقّ بنظر صحيح، ولم يبق لتخويفات النفس فيهم سلطان، ولا لشىء من العلل بينهم مساغ. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 125] قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) لمّا كان مصيرهم إلى الله سهل عليهم ما لقوا فى مسيرهم إلى الله. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 126] وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) لما عملوا لله، وأوذوا فى الله، صدقوا القصد إلى الله، وطلبوا المعونة من قبل الله، كذا سنّة من كان لله أن يكون كلّه على الله. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 127] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)   (1) اخطأ الناسخ إذ كتبهما (أيديهم وأرجلهم) . (2) نعرف من عبارات القشيري: «كانوا لكنهم بانوا» و «العارف كائن بائن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 لما استزادوا من فرعون فى التمكين من موسى وقومه استنكف أن يقر بعجزه، ويعترف بقصور قدرته، فتوعد موسى وقومه بما عكس الله عليه تدبيره، وغلب عليه تقديره. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 128] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) أحالهم على الله فإن رجوعه إليه، فقال لهم: إن رجوعى- عند تحيري فى أمورى- إلى ربى، فليكن رجوعكم إليه، وتوكّلكم عليه، وتعرّضوا لنفحات يسره، فإنه حكم لأهل الصبر بجميل العقبى. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 129] قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) خفى عليهم شهود الحقيقة، وغشى على أبصارهم حتى قالوا توالت علينا البلايا ففى حالك بلاء، وقبلك شقاء ... فما الفضل؟ فأجابهم موسى- عليه السّلام- بما علق رجاءهم بكشف البلاء فقال: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» فوقفهم على الانتظار. ومن شهد ببصر الأسرار شهد تصاريف الأقدار. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 130] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) شدّد عليهم وطأة القدرة بعد ما ضاعف لديهم أسباب النعمة، فلا الوطأة أصلحتهم شدّتها ولا النعمة نبهتهم كثرتها، لا بل إن مسّهم يسر لاحظوه بعين الاستحقاق، وإن مسّهم عسر حملوه على التّطيّر بموسى- عليه السّلام- بمقتضى الاغترار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 131] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) الكفور لا يرى فضل المنعم فيلاحظ الإحسان بعين الاستحقاق، ثم إذا اتصل به شىء مما يكرهه تجنّي وحمل الأمر على ما يتمنّي: وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا إن الكريم إذا حباك بودّه ... ستر القبيح وأظهر الإحسانا قوله جل ذكره: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. المتفرد بالإيجاد هو الواحد ولكن بصائرهم مسدودة، وعقولهم عن شهود الحقيقة مصدودة، وأفهامهم عن إدراك المعاني مردودة قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 132] وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) «1» جعلوا الإصرار على الاستكبار شعارهم، وهتكوا بألسنتهم- فى العتوّ- أستارهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 133] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) جنّس عليهم العقوبات لمّا نوّعوا وجنّسوا فنون المخالفات، فلا إلى التكفير عادوا، ولا إلى التطهير تصدوا، وعوقبوا بصرف قلوبهم عن شهود الحقائق   (1) سقطت (من) فى النسخ فأثبتناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وذلك أبلغ مما اتصل بظواهرهم من فنون البلايا .... ونعوذ بالله من السقوط عن عين الله. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 134] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) لم يقولوا ادع لنا ربّنا، بل قالوا يا موسى ادع لنا ربك، فهم ما ازدادوا بزيادة تلك المحن إلا بعدا وأجنبية. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 135 الى 136] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) أبرموا العهد ثم نقضوه، وقدموا العهد ثم رفضوه، وكما قيل: إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى فى ثرى رمسه قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) من صبر على مقاساة الذّلّ فى الله وضع الله على رأسه قلنسوة العرفان، فهو العزيز سبحانه، لا يشمت بأوليائه أعداءهم، ولا يضيع من جميل عهده جزاءهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 139] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 لم تخلص فى قلوبهم حقائق التوحيد فتاقت نفوسهم إلى عبادة غير الله، حتى قالو لنبيّهم موسى- عليه السّلام-: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وكذا صفة من لم يتحرر قلبه من إثبات الأشغال والأعلال، ومن المساكنة إلى الأشكال والأمثال. ويقال من ابتغى بالصنم أن يكون معبوده متى يتوهّم فى وصفه أن يخلص إلى الله قصوده؟ قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 140] قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) ذكّرهم انفراده- سبحانه- بإنشائهم وإبداعهم، وأنه هو الإله المتفرد بالإيجاد، ونبّههم أيضا على عظيم نعمته عليهم، وأنه ليس حقّ إتمام النعمة عليهم مقابلتهم إياها بالتولّى لغيره والعبادة لمن سواه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 141] وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) ما ازداد موسى- عليه السّلام- فى تعديد إنعام الله عليهم، وتنبيهم على عظيم آلائه إلا ازدادوا جحدا على جحد، وبعدا بالقلوب- عن محل العرفان- على بعد، وهذه أمارة من بلاه- سبحانه- فى السابق بالقطع والرد. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 142] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 عدة الأحباب عزيزة، فإذا حصلت المواعدة بين الأحباب، فهى عذبة حلوة كيفما كانت، وفى هذا المعنى أنشدوا: أمطلينا وسوّفى ... وعدينا ولا تفى ويقال علّل الحقّ- سبحانه- موسى بالوعد الذي وعده بأن يسمعه مرة أخرى كلامه، وذلك أنه فى المرة الأولى ابتلاه بالإسماع من غير وعد، فلا انتظار ولا توقع ولا أمل، فأخذ سماع الخطاب بمجامع قلب موسى- عليه السّلام- فعلّق قلبه بالميقات المعلوم ليكون تأميله تعليلا له، ثم إن وعد الحقّ لا يكون إلا صدقا، فاطمأن قلب موسى- عليه السّلام- للميعاد، ثم لمّا مضت ثلاثون ليلة أتى كما سلف الوعد فزاد له عشرا فى الموعد. والمطل فى الإنجاز غير محبوب إلا فى سنّة الأحباب، فإن المطل عندهم أشهى من الإنجاز، وفى قريب من هذا المعنى أنشدوا: أقيمى لعمرك لا تهجرينا ... ومنّينا المنى، ثم امطلينا عدينا موعدا ما شئت إنّا ... نحبّ وإن مطلت تواعدينا فإما تنجزى وعدك أو فإنا ... نعيش نؤمل فيك حينا قوله جل ذكره: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. كان هارون- عليه السّلام- حمولا بحسن الخلق لمّا كان المرور إلى فرعون استصحب موسى- عليه السّلام- هارون، فقال الله- سبحانه-: «أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» بعد ما قال: «أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» . ولمّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه، فقال: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» وهذا غاية لحمل من هارون ونهاية التصبر والرضاء، فلم يقل: لا أقيم فى قومك. ولم يقل: هلّا تحملني مع نفسك كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 استصحبتنى حال المرور إلى فرعون؟ بل صبر ورضى بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفى قريب منه أنشدوا: قال لى من أحب والبين قد ... حلّ وفاقا لزفرتى وشهيقى ما ترى فى الطريق تصنع بعدي ... قلت: أبكى عليك طول الطريق ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون- عليه السّلام- فى الخطاب، فقال: «يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى» . ويقال لو قال هارون- عليه السّلام: إن لم تعوضنى عما فاننى من الصحبة فلا تعاتبنى فيما لم أذنب فيه بحال ذرة ولا حبّة ... لكان موضع هذه القالة. ويقال الذنب كان من بنى إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلّ من عصى وجنى استوجب العتاب، فالعتاب ممنوع عن الأجانب. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 143] وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) جاء موسى مجىء المشتاقين مجىء المهيّمين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يبق من موسى شىء لموسى. آلاف الرجال قطعوا مسافات طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطوات فإلى القيامة يقرأ الصبيان: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى» . ويقال لما جاء موسى لميقات بأسطر الحقّ- سبحانه- سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ، فإن غلبات الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام ويقال صار موسى- عليه السّلام- عند سماع الخطاب بعين السّكر فنطق ما نطق، والسكران لا يؤخذ بقوله، ألا ترى أنه ليس فى نص الكتاب معه عتاب بحرف؟ ويقال أخذته عزّة السّماع فخرج لسانه «1» عن طاعته جريا على مقتضى ما صحبه من الأريحيّة وبسط الوصلة. ويقال جمع موسى- عليه السّلام- كلمات كثيرة يتكلم بها فى تلك الحالة فإن فى القصص أنه كان يتحمل فى أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه: ألكم حاجة إلى الله؟ ألكم كلام معه؟ فإنى أريد أن أمضى إلى مناجاته. ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر- مما دبّره فى نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه فى قلبه- شيئا ولا حرفا، بل نطق بما صار فى الوقت غالبا على قلبه، فقال: ربّ: أرنى أنظر إليك، وفى معناه أنشدوا: فيا ليل كم من حاجة لى مهمة ... إذا جئتكم ليلى فلم أدر ماهيا ويقال أشدّ الخلق شوقا إلى الحبيب أقربهم من الحبيب هذا موسى عليه السّلام، وكان عريق الوصلة، واقفا فى محل المناجاة، محدقة به سجوف التولي، غالبة عليه بواده الوجود، ثم فى عين ذلك كان يقول: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» كأنه غائب عن الحقيقة. ولكن ما ازداد القوم شربا إلا ازدادوا عطشا، ولا ازدادوا تيما إلا ازدادوا شوقا، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقّ- سبحانه- يصون أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال «2» . ويقال نطق موسى عليه السّلام بلسان الافتقار فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ولا أقلّ   (1) تعليل القشيري لموقف الإفصاح الذي وقفه موسى يوضح كيف يلتمس هذا الباحث مبروا لشطحات الصوفية- بطريق غير مباشر، ويعزو ذلك تارة للسكر الروحي وتارة لوقوع العبد تحت تأثير العزة الإلهية، فيخرج اللسان عن طاعته. (2) وفى ذلك أنشدوا: فما مل ساقينا وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسلب اللبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 من نظرة- والعبد قتيل هذه القصة- فقوبل بالرّد، وقيل له: «لَنْ تَرانِي» وكذا قهر الأحباب ولذا قال قائلهم: جور الهوى أحسن من عدله ... وبخله أظرف من بذله ويقال لمّا صرّح بسؤال الرؤية، وجهر صريحا ردّ صريحا فقيل له: «لَنْ تَرانِي» ، ولما قال نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- بسرّه فى هذا الباب، وأشار إلى السماء منتظرا الرد والجواب من حيث الرمز نزل قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» «1» فردّه إلى شهود الجهات والأطلال إشارة إلى أنه أعزّ من أن يطمح إلى شهوده- اليوم- طرف، بل الألحاظ مصروفة موقوفة- اليوم- على الأغيار «2» . ويقال لما سمت همّته إلى أسنى المطالب- وهى الرؤية- قوبل «بلن، ولمّا رجع إلى الخلق وقال للخضر «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» ، قال الخضر: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» «3» فقابله بلن، فصار الردّ موقوفا على موسى- عليه السّلام من الحق ومن الخلق، ليكون موسى بلا موسى، ويكون موسى صافيا عن كل نصيب لموسى من موسى، وفى قريب منه أنشدوا: ( ....... ) «4» نحن أهل منازل ... أبدا غراب البين فينا ينعق ويقال طلب موسى الرؤية وهو بوصف التفرقة فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فأجيب بلن لأن عين الجمع أتم من عين الفرق. فزع موسى حتى خرّ صعقا، والجبل صار دكّا. ثم الروح بعد وقوع الصعقة على القالب مكاشفته بما هو حقائق الأحدية، ويكون الحقّ- بعد امتحاء معالم موسى- خيرا لموسى من بقاء موسى لموسى، فعلى الحقيقة: شهود الحقائق بالحقّ أتم من بقاء الخلق بالخلق، كذا قال قائلهم:   (1) آية 144 سورة البقرة. (2) من هذا- ومما أوضحه فى رسالته- نعرف أن القشيري لا يرى بجواز رؤية الله بالبصر فى هذه الدنيا. (3) آية 67 سورة الكهف. (4) هنا لفظتان مطموستان ونعرف أنهما «أبنى أبينا ... » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ولوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل ويقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله: «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» أتمّ وأعظم منه قوله: «لَنْ تَرانِي» لأن ذلك صريح فى الرد، وفى اليأس راحة. لكنّه لما قال فسوف أطمعه فيما منعه فلما اشتد موقفه جعل الجبل دكا، وكان قادرا على إمساك الجبل، لكنه قهر الأحباب الذي به جرت سنّتهم. ويقال فى قوله: «انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» بلاء شديد لموسى لأنه نفي عن رؤية مقصوده ومني برؤية الجبل، ولو أذن له أن يغمض جفنه فلا ينظر إلى شىء بعد ما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمر أسهل عليه، ولكنه قال له: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» . ثم أشدّ من ذلك أنه أعطى الجبل التّجلى فالجبل رآه وموسى لم يره، ثم أمر موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه فى هذا السؤال، وهذا- والله- لصعب شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرك لا أنظر إلى غيرك بل قال: لا أرفع بصرى عما أمرتنى بأن أنظر إليه، وفى معناه أنشدوا: أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد ويقال بل الحق سبحانه أراد بقوله: «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» تداركه قلب موسى- عليه السّلام- حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل: فذرينى أفنى قليلا قليلا ويقال لما ردّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: «تُبْتُ إِلَيْكَ» . يعنى إن لم تكن الرؤية هى غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فقبله- تعالى- لسمو همته إلى الرتبة العلية. قوله جل ذكره: تُبْتُ إِلَيْكَ. هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرح محلّ الخدمة وإن حيل بينك وبين وجود القربة لأن القربة حظّ نفسك، والخدمة حقّ ربك، وهى تتم بألا تكون بحظ نفسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 144] قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) هذا الخطاب لتدارك قلب موسى- عليه السّلام- بكل هذا الرّفق، كأنه قال: يا موسى، إنى منعتك عن شىء واحد وهو الرؤية، ولكنى خصصتك بكثير من الفضائل اصطفيتك بالرسالة، وأكرمتك بشرف الحالة، فاشكر هذه الجملة، واعرف هذه النعمة، وكن من الشاكرين، ولا تتعرض لمقام الشكوى، وفى معناه أنشدوا: إن أعرضوا فهم الذين تعطّفوا ... وإن جنوا فاصبر لهم إن أخلفوا وفى قوله سبحانه: «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» إشارة لطيفة كأنه قال: لا تكن من الشاكين، أي إن منعتك عن سؤلك، ولم أعطك مطلوبك فلا تشكى إذا انصرفت. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 145] وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) وفى الأثر: أن موسى عليه السّلام كان يسمع صرير القلم، وفى هذا نوع لطف لأنه إن منع منه النظر أو منعه من النظر فقد علله بالأثر «1» . قوله جل ذكره: فَخُذْها بِقُوَّةٍ. فيه إشارة إلى أن الأخذ يشير إلى غاية القرب، والمراد هاهنا صفاء الحال، لأن قرب المكان لا يصحّ على الله سبحانه. قوله جل ذكره: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. فرق بين ما أمر به موسى من الأخذ وبين ما أمره أن يأمر به قومه من الأخذ، أخذ موسى عليه السّلام من الحق على وجه من تحقيق الزلفة وتأكيد الوصلة، وأخذهم أخذ قبول من حيث التزام الطاعة، وشتان ما هما!.   (1) نلاحظ أن القشيري كان ممتعا أشد ما يكون الإمتاع حين استغل موقف شهود موسى استغلالا جميلا أوشك أن يحيط بكل جوانب هذه اللحظات الحاسمة فى الحياة الروحية، فاجتمعت إشاراته لتكون درسا في غاية الدقة والإفادة. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 قوله: «بِأَحْسَنِها» بمعنى بحسنها، ويحتمل أن تكون الهمزة للمبالغة يعنى: بأحسنها ألا تعرّج على تأويل وارجع إلى الأولى «1» . قوله جل ذكره: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ. يعنى عليها غبرة العقوبة، خاوية على عروشها، ساقطة على سقوفها، منهدّ بنيانها، عليها قترة العقاب. والإشارة من دار الفاسقين إلى النّفوس المتابعة للشهوات، والقلوب التي هى معادن المنى وفاسد الخطرات، فإنّ الفسق يوجب خراب المحل الذي يجرى فيه فمن جرى على نفسه فسق خربت نفسه. وآية خراب النفوس انتفاء ما كان عليها وفيها من سكان الطاعات، فكما تتعطل المنازل عن قطانها إذا تداعت للخراب فكذلك إذا خربت النفوس بعمل المعاصي فتنتفى عنها لوازم الطاعات ومعتادها، فبعد ما كان العبد يتيسر عليه فعل الطاعات لو ارتكب شيئا من المحظورات يشق عليه فعل العبادة، حتى لو خيّر بين ركعتى صلاة وبين مقاساة كثير من المشاق آثر تحمل المشاقّ على الطاعة.. وعلى هذا النحو ظلم القلوب وفسادها فى إيجاب خراب محالها. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) سأحرم المتكبرين بركات الاتباع حتى لا يقابلوا الآيات التي يكاشفون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يخاطبون به بسمع الإيمان. والتكبّر جحد الحق- على لسان العلم، فمن جحد حقائق الحقّ فجحوده تكبّره واعتراضه على التقدير مما يتحقق جحوده فى القلب.   (1) يوجه القشيري هذه الإشارة نحو موضوع الرخص، فمن المعلوم أنه يرى ان من الأفضل الا يلجا المريد للرخصة، وفعل الأولى عنده هو ترك الرخصة لأنها للمستضعفين وأرباب الحوائج والأشغال من الكافة، والمريد لا حاجة له ولا شغل إلا لربه وبربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 ويقال التكبّر توهم استحقاق الحقّ لك. ويقال من رأى لنفسه قيمة فى الدنيا والآخرة فهو متكبّر. ويقال من ظنّ أنّ شيئا منه أو له أو إليه- من النفي والإثبات- إلا على وجه الاكتساب فهو متكبّر. قوله جل ذكره: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ. تبيّن بهذا أنه لا يكفى شهود الحقّ حقا وشهود الباطل باطلا بل لا بدّ من شهود الحق من وجود التوفيق للحق، ومنع شهود الباطل من وجود العصمة من اتباع الباطل. ويقال إنّ الجاحد للحقّ- مع تحققه به- أقبح حالة من الجاهل به المقصّر فى تعريفه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 148] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) لم يطهّر قلوبهم- فى ابتداء أحوالهم- عن توهم الظنون، ولم يتحققوا بخصائص القدم وشروط الحدوث، فعثرت أقدام فكرهم فى وهاد المغاليط لما سلكوا المسير. ويقال إن أقواما رضوا بالعجل أن يكون معبودهم متى تشم أسرارهم نسيم «1» التوحيد؟ هيهات لا! لا ولا من لاحظ جبريل وميكائيل والعرش أو الثّرى، أو الجنّ أو الورى. وإنّ من لحقه ذلك أو وجد من قبيل ما يقبل نعوت الحدثان، أو صحّ فى التجويز أن ترتقى إليه صواعد التقدير وشرائط الكيفية فغير صالح لاستحقاق الإلهية.   (1) وردت (تشيم) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ويقال شتّان بين أمة وأمة! أمة خرج نبيهم عليه السّلام من بينهم أربعين يوما فعبدوا العجل، وأمة خرج نبيّهم- عليه السّلام- من بينهم وأتى نيف وأربعمائة سنة فمن ذكر بين أيديهم أن الشموس والأقمار أو شيئا من الرسوم والأطلال تستحق الإلهية أحرقوه بهممهم ويقال لا فصل بين الجسم والجسد، فكما لا يصلح أن يكون المعبود جسما لا يصلح أن يكون متصفا بما فى معناه، ولا أن يكون له صوت فإن حقيقة الأصوات مصاكّة الأجرام الصلبة، والتوحيد الأزلى ينافى هذه الجملة. ويقال أجهل بقوم آمنوا بأن يكون مصنوعهم معبودهم! ولولا قهر الربوبية وأنه تعالى يفعل ما يشاء- فأىّ عقل يقرّ مثل هذا التلبيس؟! قوله جل ذكره: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. جعل من استحقاقه «1» نعوت الإلهية صحة الخطاب وأن تكون منه الهداية، وهذا يدل على استحقاق الحق بالنعوت «2» بأنه متكلّم فى حقائق آزاله، وأنه متفرّد بهداية العبد لا هادى سواه. وفيه إشارة إلى مخاطبة الحق- سبحانه- وتكليمه مع العبد، وإنّ الملوك إذا جلّت رتبتهم استنكفوا أن يخاطبوا أحدا بلسانهم حتى قال قائلهم: وما عجب تناسى ذكر عبد ... على المولى إذا كثر العبيد وبخلاف هذا أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته مع عباده المؤمنين، أما الأعداء فيقول لهم: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» «3» وأمّا المؤمنون فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم إلا يكلمه ربّه ليس بينه وبينه ترجمان» «4» ، وأنشدوا فى معناه. وما تزدهينا الكبرياء عليهم ... إذا كلّمونا أن نكلمهم مردّا   (1) وردت (استحقاقهم) وهى خطأ فى النسخ. (2) يشير القشيري بذلك إلى معارضة المعتزلة الذين ينفون الصفات الإلهية منعا للتعدد، واقتضاء حامل ومحمول. (3) آية 108 سورة المؤمنون. (4) في رواية مسلم عن عدى بن حاتم قال رسول الله (ص) : «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان) ص 703 ح 2 ط الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 قال تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 149] وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) حين تحققوا بقبح صنيعهم تجرّعوا كاسات الأسف ندما، واعترفوا بأنهم خسروا إن لم يتداركهم من الله جميل لطفه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) لو وجد موسى قومه بألف ألف وفاق لكان متنغّص العيش لما منى به من حرمان سماع الخطاب والرد إلى شهود الأغيار.. فكيف وقد وجد قومه قد ضلوا وعبدوا العجل؟! ولا يدرى أىّ المحن كانت أشدّ على موسى: أفقدان سماع الخطاب؟ أو بقاؤه عن سؤال الرؤية؟ أو ما شاهد من افتنان بنى إسرائيل، واستيلاء الشهوة على قلوبهم فى عبادة العجل؟ سبحان الله! ما أشدّ بلاءه على أوليائه! قوله جل ذكره: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.   (1) آية 109 سورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 إن موسى عليه السّلام وإن كان سمع من الله فتن قومه فإنه لما شاهدهم أثّرت فيه المشاهدة بما لم يؤثر فيه السماع، وإن علم قطعا أنه تأثر بالسماع إلا أن للمعاينة تأثيرا آخر. ثم إن موسى لما أخذ برأس أخيه يجره إليه استلطفه هارون فى الخطاب. فقال: يا «ابْنَ أُمَّ» فذكر الأمّ هنا للاسترفاق والاسترحام. وكذلك قوله: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي» يريد بهذا أنه قد توالت المحن علىّ فذرنى وما أنا فيه، ولا تزد فى بلائي، خلفتنى فيهم فلم يستنصحونى. وتلك علىّ شديدة. ولقيت فى عتابى وجر رأسى وقصدت ضربى، وكنت أود منك تسليتى وتعزيتى. فرفقا بي ولا تشمت بي الأعداء، ولا تضاعف علىّ البلاء. وعند ذلك رقّ له موسى- عليه السّلام، ورجع إلى الابتهال إلى الله والسؤال بنشر الافتقار فقال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» وفى هذا إشارة إلى وجوب الاستغفار على العبد فى عموم الأحوال، والتحقق بأنّ له- سبحانه- تعذيب البريء إذ الخلق كلّهم ملكه، وتصرّف المالك فى ملكه نافذ. ويقال: ارتكاب الذّنب كان من بنى إسرائيل، والاعتذار كان من موسى وهارون عليهما السّلام، وكذا الشرط فى باب خلوص العبودية. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 152] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) يعنى إن الذين اتخذوا العجل معبودا سينالهم فى مستقبل أحوالهم جزاء أعمالهم. والسين فى قوله «سَيَنالُهُمْ» للاستقبال، ومن لا يضره عصيان العاصين لا يبالى بتأخير العقوبة عن الحال، وفرق بين الإمهال والإهمال، والحق- سبحانه- يمهل ولكنه لا يهمل، ولا ينبغى لمن يذنب ثم لا يؤاخذ فى الحال أن يغترّ بالإمهال. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 153] وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وصفهم بالتوبة بعد عمل السيئات ثم بالإيمان بعدها، ثم قال: «مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . والإيمان الذي هو بعد التوبة يحتمل آمنوا بأنه يقبل التوبة، أو آمنوا بأن الحق سبحانه لم يضرّه عصيان، أو آمنوا بأنهم لا ينجون بتوبتهم من دون فضل الله، أو آمنوا أي عدّوا ما سبق منهم من نقض العهد شركا. ويقال استداموا للإيمان فكان موافاتهم على الإيمان. أو آمنوا بأنهم لو عادوا إلى ترك العهد وتضييع الأمر سقطوا من عين الله، إذ ليس كل مرة تسلم الجرة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) تشير إلى حسن إمهاله- سبحانه- للعبد إذا تغيّر عن حدّ التمييز، وغلب عليه ما لا يطيق ردّه من بواده الغيب. وإذا كانت حالة الأنبياء- عليهم السّلام- أنه يغلبهم ما يعطلهم عن الاختيار فكيف الظن بمن دونهم «1» ؟ قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 155] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) .   (1) يستشفع القشيري للواله إذا خرج عن حد التمييز إن كان صادقا وله عذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 شتّان بين أمة وأمة أمة يختارهم نبيّهم- عليه السّلام، وبين أمة اختارها الحقّ- سبحانه، فقال: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «1» . الذين اختارهم موسى قالوا: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ» والذين اختارهم الحق- سبحانه- قال الله تعالى فيهم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «2» . ويقال إن موسى- عليه السّلام- جاهر الحقّ- سبحانه- بنعت التحقيق وفارق الحشمة وقال صريحا: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» ثم وكل «3» الحكم إليه فقال: «تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» ثم عقّبها ببيان التضرع فقال: «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا» ، ولقد قدّم الثناء على هذا الدعاء فقال: «أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 156] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) نطق بلسان التضرع والابتهال حيث صفّى إليه الحاجة، وأخلص له فى السؤال فقال: «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ» أي اهدنا إليك. وفى هذه إشارة إلى تخصيص نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- فى التبري من الحول والقوة والرجوع إلى الحقّ لأن موسى- عليه السّلام قال: «وَاكْتُبْ لَنا فِي .... » ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» ولا أقلّ من ذلك، وقال: «واكفلنى كفالة الوليد» ثم زاد فى ذلك حيث قال: «لا أحصى ثناء عليك» «4» .   (1) آية 32 سورة الدخان والمقصود أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. (2) آية 22 سورة القيامة (3) وردت (وقل) والصواب أن تكون (وكل) إليه الحكم. (4) قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفلنى كفالة الوليد، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وجهت وجهى إليك، وألجأت ظهرى إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» . اللهم اكفلنى كفالة الوليد ... علمها النبي (ص) لبعض أصحابه، للشيخين من حديث البراء. اللهم أمتعني بسمعى وبصرى: الترمذي، والحاكم عن أبى هريرة «ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» الحاكم من حديث أنس قال: صحيح على شرط الشيخين، وعلّمه صلّى الله عليه وسلّم لابنته الزهراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 قوله جل ذكره: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي ملنا إلى دينك، وصرنا لك بالكلية، من غير أن نترك لأنفسنا بقية. قوله جل ذكره: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وفى هذا لطيفة حيث لم يقل: عذابى لا أخلى منه أحدا، بل علّقه على المشيئة. وفيه أيضا إشارة أن أفعاله- سبحانه- غير معلّلة بأكساب الخلق لأنه لم يقل: عذابى أصيب به العصاة بل قال: «مَنْ أَشاءُ» وفى ذلك إشارة إلى جواز الغفران لمن أراد لأنه قال: «أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» فإذا شاء ألا يصيب به أحدا كان له ذلك، وإلا لم يكن حينئذ مختارا. ثم لمّا انتهى إلى الرحمة قال: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» لم يعلّقها بالمشيئة لأنها نفس المشيئة ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم. فلمّا كان العذاب من صفات الفعل علّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات. ويقال فى قوله تعالى: «وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» مجال لآمال العصاة لأنهم وإن لم يكونوا من جملة المطيعين والعابدين والعارفين فهم «شَيْءٍ» «1» . قوله جل ذكره: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. أي سأوجبها لهم، فيجب الثواب للمؤمنين من الله ولا يجب لأحد شىء على الله إذ لا يجب عليه شىء لعزّة فى ذاته «2» . قوله هاهنا: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» أي يجتنبون أن يروا الرحمة باستحقاقهم، فإذا اتقوا هذه الظنون، وتيقنوا أن أحكامه ليست معللة بأكسابهم- استوجبوا الرحمة، ويحكم بها لهم.   (1) اى ضمن (شىء) التي فى الآية «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» . (2) أي بخلاف المعتزلة الذين يقولون بالوجوب (على) الله، وشتان بين الوجوب (من) الله والوجوب (عليه) فالوجوب من الله فضل، والوجوب على الله إلزام. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» أي بما يكاشفهم به فى الأنظار مما يقفون عليه بوجوه الاستدلال، وبما يلاطفهم به فى الأسرار مما يجدونه فى أنفسهم من فنون الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 157] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) أظهر شرف المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» أي أنه لم يكن شىء من فضائله وكمال علمه وتهيؤه إلى تفصيل شرعه من قبل نفسه، أو من تعلّمه وتكلّفه، أو من اجتهاده وتصرّفه.. بل ظهر عليه كلّ ما ظهر من قبله- سبحانه- فقد كان هو أمّيا غير قارئ للكتب، ولا متتبّع للسّير. ثم قال: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» : والمعروف هو القيام بحق الله، والمنكر هو البقاء بوصف الحظوظ وأحكام الهوى، والتعريج فى أوطان المني، وما تصوّره للعبد تزويرات الدعوى «1» . والفاصل بين الجسمين، والمميّز بين القسمين- الشريعة، فالحسن من أفعال العباد ما كان بنعت الإذن من مالك الأعيان فلهم ذلك، والقبيح ما كان موافقا للنّهى «2» والزجر فليس لهم فعل ذلك. قوله جل ذكره: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. الإصر الثّقل، ولا شىء أثقل من كدّ التدبير، فمن ترك كد التدبير إلى روح شهود التقدير، فقد وضع عنه كلّ إصر، وكفى كلّ وزر وأمر. والأغلال التي كانت عليهم هى ما ابتدعوه من قبل أنفسهم باختيارهم فى التزام طاعات   (1) يقصد بها دعوى النفس أنها على شىء وذلك زور وباطل. (2) وردت (الهنى) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 الله ما لم يفترض عليهم، فوكلوا إلى حولهم ومنّتهم فيها فأهملوها، ونقضوا عهودهم. ومن لقى- بخصائص الرضا- ما تجرى به المقادير، وشهد الحقّ فى أجناس الأحداث- فقد خصّ بكل نعمة وفضل. قوله جل ذكره: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. اعترف لهم «1» بنصرة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وإلا فالنبى صلّى الله عليه وسلّم كان الله حسيبه، ومن كان استقلاله بالحق لم يقف انتعاشه على نصرة الخلق. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 158] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) صرّح بما رقّيناك إليه من المقام، وأفصح عما لقيناك به من الإكرام، قل إنى إلى جماعتكم مرسل، وعلى كافتكم مفضّل، ودينى- لمن نظر واعتبر، وفكّر وسبر- مفصّل. فإلهى الذي لا شريك له ينازعه، ولا شبيه يضارعه له حقّ التصرف فى ملكه بما يريد من حكمه. ومن جملة ما حكم وقضى، ونفذ به التقدير وأمضى- إرسالى إليكم لتطيعوه فيما يأمركم، وتحذروا من ارتكاب ما يزجركم. وإنّ مما أمركم به أنه قال لكم: آمنوا بالنبيّ الأمّى، واتبعوه لتفلحوا فى الدنيا والعقبى، وتستوجبوا الزّلفى والحسنى، وتتخلصوا من البلوى والهوى.   (1) (اعترف لهم) أي عرف لهم هذا العمل وأشاد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 159] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) هم الذين سبقت لهم العناية، وصدقت فيهم الولاية فبقوا على الحق من غير تحريف ولا تحويل، وأدركتهم الرحمة السابقة، فلم تتطرق إليهم مفاجأة تغيير، ولا خفىّ تبديل. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 160] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) فرّقهم أصنافا، وجعلهم فى التحزب أخيافا، ثم كفاهم ما أهمّهم، وأعطاهم ما لم يكن لهم بدّ منه فيما نابهم فظللنا عليهم ما وقاهم أذى الحرّ والبرد، وأنزلنا عليهم المنّ والسّلوى مما نفى عنهم تعب الجوع والجهد والسعى والكد، وفجّرنا لهم العيون عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عيانا، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين، ولكن ليست العبرة بأفعال الخلق ولا بأعمالهم إنما المدار على مشيئة الحق، سبحانه وتعالى فيما يمضى عليهم من فنون أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 161] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 يخبر عما ألزمهم من مراعاة الحدود، وما حصل منهم من نقض العهود. وعما ألزمهم من التكليف، ولقّاهم به من صنوف التعريف، وإكرامه من (شاء) «1» منهم بالتوفيق والتصديق، وإذلاله من شاء منهم بالخذلان وحرمان التحقيق، ثم ما عاقبهم به من فنون البلاء فما لقوا تعريفا، وأذاقهم من سوء الجزاء، حكما- من الله- حتما، وقضاء جزما. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 162] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) «2» جاء فى التفسير أنهم زادوا حرفا فى الكلمة التي قيلت لهم فقالوا: حنطة بدل «حطّة» فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة فى الدّين، والابتداع فى الشرع عظيم الخطر، ومجاوزة حدّ الأمر شديد الضرر. ويقال إذا كان تغيير كلمة هى عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب- فما الظنّ بتغيير ما هو خبر عن صفات المعبود؟ ويقال إنّ القول أنقص من العمل بكلّ وجه- فإذا كان التغيير فى القول يوجب كلّ هذا.. فكيف بالتبديل والتغيير فى الفعل؟ قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 163] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) كان دينهم الأخذ بالتأويل، وذلك روغان- فى التحقيق «3» ، وإن الحقائق تأبى   (1) سقطت (شاء) وقد أثبتناها قياسا على ما حدث فيما بعد. (2) سقطت (من السماء) من الناسخ. (3) تأمل مفهوم (التأويل) عند القشيري، وكيف يعارضه إذا كان باطلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 إلا الصدق، وإنّ التعريج فى أوطان الحظوظ والجنوح إلى محتملات الرّخص فسخ لأكيد مواثيق الحقيقة، ومن شاب شوّب له، ومن صفّى صفى له. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 164] وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) الحقائق- وإن كانت لازمة- فليست للعبد عند لوازم الشرع عاذرة «1» بل الوجوب يفترض شرعا، وإن كان التقدير غالبا بكل وجه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 165] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) إذا تمادى العبد فى تهتّكه، ولم يبال بطول الإمهال والسّتر لم تهمل يد التقدير عن استئصال العين، ومحو الأثر، وسرعة الحساب، وتعجيل العذاب الأدنى قبل هجوم الأكبر. ثم البريء فى فضاء السلامة، وتحت ظلّ الحفظ، ودوام روح التخصيص وبرد عيش التقريب. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 166] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) إذا انتهت مدة الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبد من عين الله لم ينتعش بعده أبدا، فمن أسقطه حكم الملوك فلا قبول له بعد الردّ، وفى معناه أنشدوا: إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 167] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)   (1) أي لا ينبغى نصرة الحقيقة على حساب الشريعة بحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 إذا الحقّ- سبحانه- أمضى سنته بالإنذار وتقديم التعريف بما يستحقه كلّ أحد على ما يحصل منه من الآثار إبداء للعذر- وإن جلت «1» رتبته عن كل عذر- فإن ينجع فيهم القول وإلا دمّر عليهم بالعذاب. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 168] وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) «2» أجراهم على ما علم أنهم يكونون عليه من صلاح وسداد، ومعاص وفساد. ثم ابتلاهم بفنون الأفعال من محن أزاحها، ومن منن أتاحها، وطالبهم بالشكر على ما أسدى، والصبر على ما أبلى، ليظهر للملائكة والخلائق أجمعين جواهرهم فى الخلاف والوفاق، والإخلاص والنفاق فأمّا الحسنات فهى ما يشهدهم المجرى، ولا يلهيهم عن المبدى، وأمّا السيئات فالتردد بين الإنجاز والتأخير، والإباحة والتقصير. ويقال الحسنة أن ينسيك نفسك، والسيئة أن يشهدك نفسك. ويقال الحسنات بتيسير وقت عن الغفلات خال، وتسهيل يوم عن الآفات بائن. والسيئات التي ابتلاهم بها خذلان حاصل وحرمان متواصل. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 169] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) استوجبوا الذم بقوله- سبحانه: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» لأنهم آثروا العرض «3»   (1) وردت (حلت) بالحاء وهى خطأ فى النسخ. (2) أخطأ الناسخ إذ كتبها (لعلهم يرحمون) (3) وردت (الأرض) وهى خطأ فى النسخ فلفظة (عرض) مذكورة فى الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 الأدنى، وركنوا إلى عاجل الدنيا، وجعلوا نصيبهم من الآخرة المنى فقالوا: «سَيُغْفَرُ لَنا» . ويقال من أمارات الاستدراج ارتكاب الزلة، والاغترار بزمان المهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة. قوله جل ذكره: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ. أخبر عن إصرارهم على الاغترار بالمنى، وإيثار متابعة الهوى. قوله جل ذكره: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ. استفهام فى معنى التقرير «1» ، أي أمروا ألا يصفوا الحقّ إلا بنعت الجلال، واستحقاق صفات الكمال، وألا يتحاكموا عليه بما لم يأت منه خبر، ولم يشهد بصحته برهان ولا نظر. قوله جل ذكره: وَدَرَسُوا ما فِيهِ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ. يعنى تحققوا بمضمون الكتاب ثم جحدوا بعد لوح البيان وظهور البرهان. يعنى التعرض لنفحات فصله- سبحانه- خير لمن أمّل جوده من مقاساة التعب ممن بذل- فى تحصيل هواه- مجهوده. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 170] وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) يمسكون بالكتاب إيمانا، وأقاموا الصلاة إحسانا، فبالإيمان وجدوا الأمان، وبالإحسان وجدوا الرضوان فالأمان معجّل والرضوان مؤجل. ويقال «يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة فى المآل والمناجاة فى الحال. ويقال أفرد الصلاة هاهنا بالذكر عن جملة الطاعات ليعلم أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات.   (1) وردت (التقدير) بالدال وهى خطأ فى النسخ لأن المعنى يرفضها، والاستفهام التقريرى مصطلح بلاغي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 قوله جل ذكره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ. من أمّل سبب إنعامنا لم تخسر له صفقة، ولم تخفق «1» له فى الرجاء رفقة، ويقال من نقل ( .... ) «2» إلى بابه قدمه لم يعدم فى الآجل نعمه، ومن رفع إلى ساحات جوده هممه نال فى الحال كرمه. ويقال من توصّل إليه بجوده نال فى الدارين شرفه. ومن اكتفى بجوده «3» كان الله عنه خلفه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 171] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) ليس من يأتى طوعا كمن يأتى جبرا، فإن الذي يأتى قهرا لا يعرف للحق- سبحانه- قدرا، وفى معناه أنشدوا: إذا كان لا يرضيك إلا شفاعة ... فلا خير فى ود يكون لشافع وأنشدوا: إذا أنا عاتبت الملول فإنّما ... أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا وهبه ارعوى بعد العتاب ... ألم يكن تودده طبعا، فصار تكلّفا؟ ويقال قصارى من أتى خيرا أن ينكص على عقبيه طوعا، كذلك لمّا قابلوا الكتاب بالإجبار ما لبثوا حتى قابلوه بالتحريف. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 173] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)   (1) وردت (تحقق) وهى خطأ فى النسخ لأن المعنى يرفضها. (2) مشتبهة وربما كانت (فى العاجل) . (3) الأصوب أن تكون هذه (بوجوده) أي من فنى عن نفسه وبقي بالحق كان الحق عنه خلقه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 أخبر بهذه الآية عن سابق عهده، وصادق وعده، وتأكيد عناج «1» ودّه، بتعريف عبده، وفى معناه أنشدوا: سقيا لليلى والليالى التي ... كنّا بليلى نلتقى فيها أفديك بل أيام دهرى كلها ... يفدين أياما عرفتك فيها ويقال فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بصر، أو ظهر فى قلوبهم لمصنوع أثر، أو كان لهم من حميم أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفى معناه أنشدوا: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... وصادف قلبى فارغا فتمكنّا ويقال جمعهم فى الخطاب ولكنه فرّقهم فى الحال. وطائفة خاطبهم بوصف القربة فعرّفهم فى نفس ما خاطبهم، وفرقة أبقاهم فى أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم. ويقال أقوام لاطفهم فى عين ما كاشفهم فأقروا بنعت التوحيد، وآخرون أبعدهم فى نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود. ويقال وسم بالجهل قوما فألزمهم بالإشهاد ببيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد، وآخرين أشهدهم واضح الحجة ( ...... ) «2» .   (1) العناج حبل يشد فى أسفل الدلو العظيمة (المنجد) . (2) لا بد أن هنا عبارة ساقطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ويقال تجلّى لقوم فتولّى تعريفهم فقالوا: «بَلى» عن حاصل يقين، وتعزّز عن آخرين فأثبتهم فى أوطان الجحد فقالوا: «بَلى» عن ظن وتخمين. ويقال جمع المؤمنين فى الأسماء ولكن غاير بينهم فى الرتب فجدب قلوب قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبارّ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار. ويقال فرقة ردّهم إلى الهيبة فهاموا، وفرقة لاطفهم بالقربة فاستقاموا. ويقال عرّف الأولياء أنه من هو فتحققوا بتخليصهم، ولبّس على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم. ويقال أسمعهم وفى نفس ما أسمعهم أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم- بحسن التولي- أحكام التكليف «1» وكان- سبحانه- لهم مكلّفا، وعلى ما أراده مصرّفا، وبما استخلصهم له معرّفا، وبما رقاهم إليه مشرّفا. ويقال كاشف قوما- فى حال الخطاب- بجماله فطوحهم فى هيمان حبه، فاستمكنت محابّهم فى كوامن أسرارهم فإذا سمعوا- اليوم- سماعا تجددت (تلك الأحوال، فالانزعاج الذي يظهر فيهم لتذكّر ما سلف لهم) «2» من العهد المتقدم «3» . ويقال أسمع قوما بشاهد الربوبية فأصحاهم عن عين الاستشهاد فأجابوا عن عين التحقيق، وأسمع آخرين بشاهد الربوبية فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود. ويقال أظهر آثار العناية بدءا حين اختصّ بالأنوار التي رشت عليهم قوما، فمن حرمه تلك الأنوار لم يجعله أهلا للوصلة، ومن أصابته تلك الأنوار أفصح بما خصّ به من غير مقاساة كلفة.   (1) لاحظ مدى إلحاح القشيري على التزام أحكام التكليف ما سنحت له مناسبة. (2) ما بين القوسين مذكور فى الهامش أثبتناه في موضعه من النص حسب العلامات المميزة (3) من هذا ومما ثلاه يتضح كيف ارتبطت الولاية بالفطرة والاجتباء والخصوصية منذ يوم الذر وكذلك الشأن فى العداوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 174] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) إذا سدّت «1» عيون البصائر فما ينفع وضوح الحجّة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 175] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) الحقّ- سبحانه- يظهر الأعداء فى صدار الخلّة ثم يردّهم إلى سابق القسمة، ويبرز الأولياء بنعت الخلاف والزّلّة، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة. ويقال أقامه فى محل القربة، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدّ له من سابق التقدير فأصبح والكلّ دونه رتبة، وأمسى والكلب فوقه- مع خساسته: وفى معناه أنشدوا: فبينا بخير والدّنى مطمئنة ... وأصبح يوما- والزمان تقلّبا ويقال ليست العبرة بما يلوح فى الحال، إنما العبرة بما يئول إليه فى المآل. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 176] وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) لو ساعدته المشيئة بالسعادة الأزلية لم تلحقه الشقاوة الأبدية، ولكن من قصمته السوابق لم تنعشه اللواحق. قوله جل ذكره: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. إذا كانت مساكنة آدم للجنّة وطمعه فى الخلود فيها أوجبا خروجه عنها، فالركون إلى الدنيا- متى يوجب البقاء فيها؟ قوله جل ذكره: وَاتَّبَعَ هَواهُ. موافقة الهوى تنزل صاحبها من سماء العزّ إلى تراب الذّل، وتلقيه فى وهدة الهوان ومن لم يصدّق علما فعن قريب يقاسيه وجودا.   (1) وردت (شدت) والمعنى يرفضها ويبدو أن الناسخ قد حسب ضمة السين ثلاث نقط انظر (ولولا انسداد البصائر ص 589 من هذا المجلد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 قوله جل ذكره: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ. من أخلاق الكلب التعرّض لمن لم يخفه على جهة الابتداء، ثم الرضاء عنه بلقمة.. كذلك الذي ارتدّ عن طريق الإرادة يصير ضيق الصدر، سيىء الخلق، يبدأ بالجفاء كلّ برىء، ثم يهدأ طياشه بنيل كلّ عرض خسيس. قوله جل ذكره: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. المحجوب عن الحقيقة عنده الإساءة والإحسان (سيان) «1» ، فهو فى الحالين: إمّا صاحب ضجر أو صاحب بطر لا يحمل المحنة إلا على زوال الدولة، ولا يقابل «2» النعمة إلا بالنهمة، فهو فى الحالين محجوب عن الحقيقة. ويقال الكلب نجاسته أصلية، وخساسته كلية، كذلك المردود فى الصفة له نقصان القيمة وحرمان القسمة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 177] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) «3» أي صفته أدنى من نعت من بلى بالإعراض الأزلىّ، وأىّ نعت أعلى من وصف من أكرم بالقبول الأيدىّ؟ وأىّ حيلة تنفع مع من يخلق الحيلة؟» وكيف تصحّ الوسيلة إلا لمن منه الوسيلة؟   (1) (سيان) زياد أضفناها ليستقيم بها والمعنى ويقوى. (2) وردت (ولا يقال) وهى خطأ فى النسخ والمعنى يتطلب (ولا يقابل) . (3) أخطأ الناسخ إذ كتبها (مثلان) . (4) نعرف من مذهب القشيري أن (الحيلة) تتصرف إلى الإنسان، وهو هنا يقرر أن الحيلة من خلق الحق، وبهذا يتاكد اتجاهه الكلامى نحو جعل الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 178] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) ليست الهداية من حيث السعاية، إنما الهداية من حيث البداية، وليست الهداية بفكر العبد ونظره، إنما الهداية بفضل الحق وجميل ذكره. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 179] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) من خلقه لجهنم- متى يستوجب الجنّات؟ ومن أهّله للسخطة- أنّى يستحق الرضوان؟ ولولا انسداد البصائر وإلا فأىّ إشكال بقي بعد هذا الإيضاح؟ «1» ويقال هم- اليوم- فى جحيم الجحود، مقرّنين فى أصفاد الخذلان، ملبسين ثياب الحرمان، طعامهم ضريع الوحشة، وشرابهم حميم الفرقة، وغدا هم فى جحيم الحرقة «2» .. كما فصّل فى الكتاب شرع تلك الحالة. قوله جل ذكره: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. أي لا يفقهون معانى الخطاب كما يفهم المحدّثون «3» ، وليس لهم تمييز بين خواطر الحق   (1) يغمز القشيري هنا بمن يقول بحرية الإنسان فى اختطاط مصيره باختياره وإرادته، ويرجع الأمر كله للقسمة. (2) لاحظ مفهوم الجحيم، فى تصور الصوفية، وهو جحيم الفراق- هنا فى هذه الدنيا. وبعده جحيم الاحتراق فى الدار الآخرة. (3) يقول السراج فى شرح «المحدّث» التي وردت فى الحديث الشريف: «قد كان فى الأمم محدثون ومكلمون فان يك في هذه الأمة فعمر» المحدّث أعلى درجة من درجات الصديقين، ودلائل ذلك ظهرت عليه حين صاح في خطبه: يا سارية الجبل، وكان سارية فى نهاوند فسمع صوت عمر وأخذ نحو الجبل وظفر بالعدو (اللمع ص 173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وبين هواجس النفس ووساوس الشيطان، ولهم أعين لا يبصرون بها شواهد التوحيد وعلامات اليقين فلا ينظرون إلا من حيث الغفلة، ولا يسمعون إلا دواعى الفتنة، ولا ينخرطون إلا مع سلك ركوب الشهوة. «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» : لأنّ الأنعام قد رفع عنها التكليف، وإن لم يكن لها وفاق الشرع فليس منها أيضا خلاف الأمر. والأنعام لا يهمّها إلا الاعتلاف، وما تدعو الحيلة من مباشرة الجنس، فكذلك من أقيم بشواهد نفسه وكان من المربوطين بأحكام النّفس، وفى معناه أنشدوا: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والرّدى لك لازم وسعيك فيها سوف تكره غبّه ... كذلك فى الدنيا تعيش البهائم قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) «1» سبحان من تعرّف إلى أوليائه بنعوته وأسمائه فعرّفهم أنه من هو، وبأى وصف هو، وما الواجب فى وصفه، وما الجائز فى نعته، وما الممتنع فى حقّه وحكمه فتجلى لقلوبهم بما يكاشفهم به من أسمائه وصفاته، فإن العقول محجوبة عن الهجوم بذواتها لما يصحّ إطلاقه فى وصفه، وإن كانت واقفة على الواجب والجائز والممتنع فى ذاته، فللعقل العرفان بالجملة، وبالشرع الإطلاق والبيان فى الإخبار، والقول فيما ورد به التوفيق يطلق، وما سكت عنه التوفيق يمنع. ويقال من كان الغالب عليه وصف من صفاته ذكره بما يقتضى هذا الوصف فمن كان مكاشفا بعطائه «2» ، مربوط القلب بأفضاله فالغالب على قالته الثناء عليه بأنه الوهاب والبار والمعطى وما جرى مجراه. ومن كان مجذوبا عن شهود الإنعام، مكاشفا بنعت الرحمة   (1) أخطأ الناسخ إذ زاد واوا قبل (ما كانوا) والصواب بدونها. [ ..... ] (2) وردت (بغطائه) بالغين والصواب ان تكون (بعطائه) بدليل (افضاله) و (الإنعام) فيما بعد فضلا عن الأسماء والصفات الإلهية المختارة (الوهاب والبار والمعطى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 فالذى يغلب على ذكره وصفه بأنه الرحمن والرحيم والكريم وما فى معناه. ومن سمت همّته عن شهود وجوده، واستهلك فى حقائق وجوده فالغالب على لسانه الحق. ولذلك فأكثر أقوال العلماء فى الإخبار عنه: «البارئ» لأنهم فى الترقي فى شهود الفعل إلى شهود الفاعل. وأمّا أهل المعرفة فالغالب على لسانهم «الحق» لأنهم «1» مختطفون عن شهود الآثار، متحققون بحقائق الوجود. ويقال إنّ الله- سبحانه- وقف الخلق بأسمائه فهم يذكرونها قالة، وتعزّز بذاته، والعقول- وإن صفت- لا تهجم على حقائق الإشراف، إذ الإدراك لا يجوز على الحق فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عند التعرض للإحاطة، والمعارف تائهة عند قصد الإشراف على حقيقة الذات، والأبصار حسيرة عند طلب الإدراك فى أحوال الرؤية، والحق سبحانه عزيز، وباستحقاق نعوت التعالي متفرّد «2» . قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» : الإلحاد هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين بالزيادة والنقصان فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا «3» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 181] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته بألا يخلى البسيطة من أهل لها هم الغياث وبهم دوام الحق فى الظهور، وفى معناه قالوا: إذا لم يكن قطب ... فمن ذا يديرها؟ فهدايتهم بالحق أنهم يدعون إلى الحق، ويدلون على الحق، ويتحركون بالحق، ويسكنون   (1) وردت (إليهم) ولا معنى لها فى السياق والصواب أن تكون (لأنهم) ، (2) يلح القشيري على هذا المعنى دائما فيقول فى تحديد العرفان (تنزه عن الدرك والوصول، ليس بين لخلق إلا عرفان الحقائق بنعت التعالي فى شهود أفعاله، فاما الوقوف على حقيقة إنيته فجلت الصمدية عن شراف عرفان عليه) اللطائف (م) ص 398. (3) (لا تمثيل ولا تعطيل) هذا أصل من أصول المذهب الكلامى عند هذا الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 للحق بالحق، وهم قائمون بالحق يصرفهم الحق بالحق أولئك هم غياث الخلق بهم يسقون إذا قحطوا، ويمطرون إذا أجدبوا، ويجابون إذا دعوا «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الاستدراج أن يلقى فى أوهامهم أنهم من أهل الوصلة، وفى الحقيقة: السابق لهم من القسمة حقائق الفرقة. ويقال الاستدراج انتشار الصيت بالخير فى الخلق، والانطواء على الشر- فى السر- مع الحق. ويقال الاستدراج ألا يزداد فى المستقبل صحبة إلا ازداد فى الاستحقاق نقصان رتبة. ويقال الاستدراج الرجوع من توهم صفاء الحال إلى ركوب قبيح الأعمال، ولو كان صادقا فى حاله لكان معصوما فى أعماله. ويقال الاستدراج دعاوى عريضة صدرت عن معان مريضة. ويقال الاستدراج إفاضة البرّ مع ( .... ) «2» الشكر. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 184] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أو لم يتأملوا بأنوار البصائر ليشهدوا أخلاق آثار التقريب بجملة أحواله- عليه السّلام- ليعلموا أن ذلك الشاهد ليس بشاهد متخرص. ويقال إن برود «3» الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- كانت بنسيم القربة   (1) هذه نظرة القشيري الى الولاية والأولياء ومعنى القطب وأهميته. (2) مشتبهة. (3) جمع برد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 معطرة «1» ، ولكن لا يدرك ذلك النّشر إلا بشمّ العرفان، فمن فقد ذلك- فأى خبر «2» له عن حقيقة حاله- صلوات الله عليه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 185] أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) أطلع الله- سبحانه- أقمار الآيات، وأماط عن ضيائها سحاب الشبهات فمن استضاء بها ترقّى إلى شهود القدرة. ويقال ألاح الله تعالى- لقلوب الناظرين بعيون الفكر- حقائق التحصيل فمن لم يعرّج فى أوطان التقصير أنزلته مراكب السّرّ بساحات التحقق. قوله جل ذكره: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ. الناس فى مغاليط آمالهم ناسون لو شيك آجالهم، فكم من ناسج لأكفانه! وكم من بان لأعدائه! وكم من زارع لم يحصد زرعه! هيهات! الكبش يعتلف والقصّاب مستعدّ له! ويقال سرعة الأجل تنغّص لذة الأمل. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 186] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) من حرمه أنوار التحقيق فهو فى ضباب الجهل، فهو يزلّ يمينا ويسقط شمالا. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)   (1) وردت (مطرة) بدون عين، والسياق يتطلب (معطرة) لتناسب النسيم والشم والنشر (2) وردت (خير) والمقصود فاى (خبر) أي فاى علم له عن حقيقة المصطفى (ص) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 السائل عن الساعة رجلان منكر يتعجّب لفرط جهله، وعارف مشتاق يستعجل لفرط شوقه، والمتحقق بوجوده ساكن فى حاله فسيان عنده قيام القيامة ودوام السلامة. ويقال الحق- سبحانه- استأثر بعلم الساعة فلم يطلع على وقتها نبيّا ولا صفيّا، فالإيمان بها غيبى، ويقين أهل التوحيد صادق «1» عن شوائب الرّيب. ثم معجّل قيامتهم يوجب الإيمان بمؤجّلها «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) أمره بتصريح الإقرار بالتبري عن حوله ومنّته، وأن قيامه وأمره ونظامه بطول ربّه ومنّته ولذلك تتجنّس علىّ الأحوال، وتختلف الأطوار فمن عسر «3» يمسّني، ومن يسر «4» يخصنى، ولو كان الأمر بمرادى، ولم يكن بيد غيرى قيادى لتشابهت أحوالى فى اليسر، ولتشاكلت أوقاتى فى البعد من العسر. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 189] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) أخرج النّسمة من نفس واحدة وأخلاقهم مختلفة، وهممهم متباينة، كما أن الشخص من   (1) ربما كانت (صاف) فى الأصل (2) القيامة المعجلة التي يشير إليها هى (التي تقوم فى اليوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) اللطائف (م) 351، فالمقصود من العبارة إذا أن أهل الخصوص يؤمنون إيمان يقين بالقيامة المؤجلة لأنهم يشهدون ويذوقون القيامة المعجلة، وقد صدق القشيري إذ يقول فى رسالته: (فما للناس غيب فلهم ظهور) الرسالة ص 198. (3) وردت (عصر) . (4) وردت (يستر) وقد صوبناهما (عسر ويسر) فى ضوء ما قالاهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاؤه مختلفة. فمن قدر على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها فهو القادر على تنويع أخلاق الخلق الذين أخرجهم من نفس واحدة. قوله جل ذكره: لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. ردّ المثل إلى المثل، وربط الشّكل بالشكل، ليعلم العالمون أن سكون الخلق مع الحقّ لا إلى الحق، وكذلك أنسل الخلق من الخلق لا من الحق، فالحقّ تعالى قدوس منه كل حظ للخلق خلقا، منزه عن رجوع شىء إلى حقيقته حقا. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 190] فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) شرّ الناس من يبتهل إلى الله عند هجوم البلاء بخلوص الدعاء، وشدة التضرع والبكاء، فإذا أزيلت شكاته، ودفعت- بمنّته- آفاته ضيّع الوفاء، ونسى البلاء، وقابل الرّفد «1» بنقض العهد، وأبدل العقد برفض الود، أولئك الذين أبعدهم الله فى سابق الحكم، وخرطهم فى سلك أهل الرد «2» قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 191] أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) كما لا يجوز أن يكون الربّ مخلوقا لا يجوز أن يكون غير الرب خالقا، فمن وصف الحقّ بخصائص وصف الخلق فقد ألحد، ومن نعت الخّلق بما هو من خصائص حق الحق فقد جحد. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 192] وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) من حكم بأنه ليس فى مقدور الحق شىء (لو فعله اسم الجاهل طوعا إلا فعله «3» فقد   (1) (الرفد) هو العطاء. [ ..... ] (2) وردت (الود) وهى خطأ في النسخ. (3) ما بين القوسين جاء فى النسخة المصورة هكذا، وفيه غموض ربما نشأ عن خطا فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وصف بأنه لا يقدر على نصره فمضاه الذي يعبد الجماد، ونعوذ بالله من الضلالة عن الرشاد. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 193] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) المعبود هو القادر على هداية داعيه، وعلم العبد بقدرة معبوده يوجب تبرّيه عن حوله وقوته، وإفراد الحق- سبحانه- بالقدرة على قضاء حاجته، وإزالة ضرورته فتتقاصر عن قصد الخلق خطاه «1» ، وتنقطع آماله عن غير مولاه. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 194] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) إذا قرنت الضرورة بالضرورة تضاعف البلاء، وترادف العناء فالمخلوق إذا استعان بمخلوق مثله ازداد بعد مراده عن النّجح. وكيف تشكو لمن هو ذو شكاية؟! هيهات! إن ذلك خطأ من الظن، وباطل من الحسبان. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 195] أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) بيّن بهذه الآيات أن الأصنام التي عبدوها دونهم فيما اعتقدوا فيه صفة المدح، ثم لم يعبد بعضهم بعضا فكيف استجازوا عبادة ما فاقهم «2» فى النقص؟ قوله جل ذكره: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ.   (1) وردت (خطاؤه) والصواب أن تكون (خطاه) (2) وردت (فوقهم) والأرجح أنها ما (فاقهم) فى النقص لأن الأصنام أقلّ قدرا من الإنسان، حيث لا تملك يدا او عينا أو أذنا، ولا تعى ولا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فإذا كان الإنسان مع ذلك موصوفا بالنقص فالصنم أشد نقصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 صدق التوكل على الله يوجب ترك المبالاة بغير الله، كيف لا ... والمتفرّد بالقدرة- على النفع والضرر، والخير والشر- الله؟ قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 197] إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) من قام بحقّ الله تولّى أموره على وجه الكفاية، فلا يخرجه إلى أمثاله، ولا يدع شيئا من أحواله إلّا أجراه على ما يريده بحسن أفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيا بما يفعل، وروح الرضا على الأسرار أتمّ من راحة العطاء على القلوب. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 198] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) شاهدوه بأبصارهم لكنهم حجبوا عن رؤيته ببصائر أسرارهم وقلوبهم فلم يعتدّ برؤيتهم. ويقال رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب، وذلك على مقادير الاحترام وحصول الإيمان. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) من خصائص سنّة الله فى الكرم أنه أمر نبيّه- صلوات الله عليه وعلى آله- بالأخذ به، إذ الخبر ورد بأنّ المؤمن أخذ من الله خلقا حسنا. وكلما كان الجرم أكبر كان العفو عنه أجلّ وأكمل، وعلى قدر عظم رتبة العبد فى الكرم يتوقف العفو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 عن الأصاغر والخدم، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فى الجراحات «1» التي أصابته فى حرب أحد: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . قوله «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» : أفضل العرف أن يكون أكمل العطاء لأكثر أهل الجفاء، وبذلك عامل الرسول- صلّى الله عليه وعلى آله- الناس. قوله: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» : الإعراض عن الأغيار بالإقبال على من «2» لم يزل ولا يزال، وفى ذلك النجاة من الحجاب، والتحقق بما يتقاصر عن شرحه الخطاب. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 200] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إن سنح فى باطنك من الوساوس أثر فاستعذ بالله يدركك بحسن التوفيق، وإن هجس فى صدرك من الحظوظ خاطر فاستعذ بالله يدركك بإزالة كل نصيب، وإن لحقتك فى بذل الجهد فترة فاستعذ بالله يدركك بإدامة آلائه، وإن اعترتك فى الترقي إلى محل الوصول وقفة فاستعذ بالله يدركك بإدامة التحقيق، وإن تقاصر عنك شىء من خصائص القرب- صيانة لك عن شهود المحل- فاستعذ بالله يثبتك له بدلا من لك بك «3» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 201] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) إنما يمس المتقين طيف الشيطان فى ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا   (1) وردت (الجراهات) بالهاء وهى خطأ في النسخ. (2) وردت (ما لم يزل) وقد آثرنا (من لم يزل) لأن (من) للعاقل (3) تصلح هذه الفقرة وصية المريدين، وتبين عن أسلوب القشيري فى الوصية من الناحيتين الصوفية والأدبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ذكر الله بقلوبهم لما مسّهم طائف الشيطان، فإن الشيطان لا يقرب قلبا فى حال شهوده الله لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارم نبوة، ولكلّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارف حجبة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليغان على قلبى .... » «1» أخبر أنه يعتريه ما يعترى غيره، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحدّة تعترى خيار أمتى» «2» ، فأخبر أنّ خيار الأمة- وإن جلت رتبتهم لا يتخلصون عن حدّة تعتريهم فى بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 202] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) إخوان الشيطان أرباب دوام الغيبة فهم فى كمال الغفلة تدوم بهم الحجبة فمنهم بالزّلّة من لم يلم، أو ألمّ ولكن لم يصرّ فهم خياره «3» ، ومنهم من غفل واغترّ، وعلى دوام الغيبة أصرّ- فهم المحجوبون قطعا، والمبعدون «4» - عن محلّ القرب- صدّا «5» وردّا. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)   (1) «إنه ليغان على قلبى فاستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم مائة مرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وفى رواية لمسلم: «توبوا الى ربكم فو الله إنى لأتوب إلى ربى تبارك وتعالى فى اليوم مائة مرة» ويقول صاحب اللمع: الغين الذي كان يتوب منه الرسول مثله مثل المرآة إذا تنفس فيها الناظر فينقص من ضوئها ثم تعود إلى حالة ضوئها (اللمع ص 451) (2) قال (ص) (انى بشر أغضب كما يغضب البشر) الشيخان عن أبى هريرة وأحمد ومسلم عن جابر (3) من هذا يتضح مدى انفساح الأمل أمام العصاة، وكيف أن باب التوبة يتسع لآمالهم. (4) وردت المعبودون وهى خطأ فى النسخ. (5) وردت (صمد) وهى خطأ فى النسخ وقد تقدم معنى الصد والرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 من شاهد الحقّ من حيث الخلق سقط فى مهواة المغاليط، فهو فى متاهات الشّكّ يجوب منازل الرّيب، ولا يزداد إلا عمىّ على عمى. ومن طالع الخلق بعين تصريف القدرة إياهم تحقق بأنهم لا يظهرون إلا فى معرض اختيار الحق لهم، فهو ينظر بنور البصيرة، ويستديم شهود التصريف بوصف السكينة. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 204] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) استمعوا بسمع الإيمان والتصديق، وأنصتوا (بصون) الخواطر عن معارضات الاعتراض، ومطالبات الاستكشاف. ومن باشر التحقيق سرّه لازم التصديق قلبه. والإنصات- فى الظاهر- من آداب أهل الباب، والإنصات- بالسرائر- من آداب أهل البساط، قال الله تعالى فى نعت تواصى الجنّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول صلّى الله عليه وسلّم «فلما حضروه قالوا أنصتوا» «1» فإذا كان الحضور إلى الواسطة عليه السّلام يوجب هذه الهيبة فلزوم الهيبة وحفظ الأدب عند حضور القلب بشهود الربّ أولى وأحق، قال تعالى: «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 205] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) «3» التضرع إذا كوشف العبد بوصف الجمال فى أوان البسط، والخيفة إذا كوشف بنعت الجلال فى أحوال الهيبة، وهذا للأكابر.   (1) آية 29 سورة الأحقاف. (2) آية 108 سورة طه. [ ..... ] (3) أخطأ الناسخ إذ كتبها (الغافلون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 فأمّا من دونهم فتنوّع أحوالهم من حيث الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. ومن فوق الجميع فأصحاب البقاء والفناء، والصحو والمحو ووراءهم أرباب الحقائق مثبتون فى أوطان التمكين، فلا تلوّن لهم ولا تجنّس لقيامهم بالحق، وامتحائهم عن شواهدهم. قوله جل ذكره: [سورة الأعراف (7) : آية 206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية لئلا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم «1» ، وهذه سنّة الله تعالى مع خواص عباده يلقاهم بخصائص عين الجمع ويحفظ عليهم حقائق عين الفرق لئلا يخلّوا بآداب العبودية فى أوان وجود الحقيقة «2» . السورة التي تذكر فيها الأنفال قال الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله إخبار عن قدرته على الإبداع والاختراع، الرحمن الرحيم إخبار عن تصرفه بالإقناع وحسن الدّفاع فبقدرته أوجد ما أوجد من مراده، وبنصرته وحّد من وحّد قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) الأنفال هاهنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين، وكان سؤالهم عن حكمها، فقال الله تعالى: قل لهم إنها لله ملكا، ولرسوله- عليه السّلام- الحكم فيها بما يقضى به أمرا وشرعا.   (1) وردت فوقهم بالواو والصواب (فرقهم) بالراء، فالكلام عن الجمع والفرق. (2) لاحظ هنا كيف يلح القشيري دائما على عدم الإخلال باى شرط من شروط الشريعة مهما أوغل العبد فى الفناء، بل يعتبر حفظ الله لعبده في هذه المرحلة الحاسمة علامة صدق العبد وآية خصوصيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 قوله جل ذكره: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ. أي أجيبوا لأمر الله، ولا تطيعوا دواعى مناكم والحكم بمقتضى أحوالكم، وابتغوا إيثار رضاء الحقّ على مراد النّفس، وأصلحوا ذات بينكم، وذلك بالانسلاخ عن شحّ النّفس، وإيثار حقّ الغير على ما لكم من النصيب والحظّ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد. قوله جل ذكره: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أي فى الإجابة إلى ما يأتيكم من الإرشاد. قوله جل ذكره: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. أي سبيل المؤمن ألا يخالف هذه الجملة. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 2] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الوجل شدّة الخوف، ومعناه هاهنا أن يخرجهم الوجل عن أوطان الغفلة، ويزعجهم عن مساكن الغيبة. فإذا انفصلوا عن أودية التفرقة وفاءوا إلى مشاهد الذكر نالوا السكون إلى الله- عز وجل فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق، وتحقيقا على تحقيق. فإذا طالعوا جلال قدره، وأيقنوا قصورهم عن إدراكه، توكلوا عليه فى إمدادهم بالرعاية فى نهايتهم، كما استخلصهم بالعناية فى بدايتهم. ويقال سنّة الحقّ- سبحانه- مع أهل العرفان أن يردّدهم بين كشف جلال ولطف جمال، فإذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم، (وإذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم، قال الله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بذكر الله» . ويقال وجلت قلوبهم) «1» بخوف فراقه، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروح وصاله. وذكر الفراق يفنيهم وذكر الوصال يصحيهم ويحييهم.   (1) ما بين القوسين مذكور فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 ويقال الطالبون فى نوح رهبتهم، والواصلون فى روح قربتهم، والموحّدون فى محو غيبتهم استولت عليهم الحقائق فلا لهم تطلع لوقت مستأنف فيستفزهم خوف أو يجرفهم طمع، ولا لهم إحساس فتملكهم لذة إذ لمّا «1» اصطلموا ببواده ما ملكهم فهم عنهم محو، والغالب عليهم سواهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 3 الى 4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) لا يرضون فى أعمالهم بإخلال، ولا يتصفون بجمع مال من غير حلال، ولا يعرّجون فى أوطان التقصير بحال، أولئك الذين صفتهم ألا يكون للشريعة عليهم نكير، ولا لهم عن أحكام الحقيقة مقيل. ف «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي حققوا حقا وصدقوا صدقا. ويقال حق لهم ذلك حقا. قوله: «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» على حسب ما أهّلهم له من الرّتب فبسابق قسمته لهم استوجبوها، ثم بصادق خدمتهم- حين وفّقهم لها- بلغوها. ولهم مغفرة فى المآل، والسّتر فى الحال لأكابرهم فالمغفرة الستر، والحق سبحانه يستر مثالب العاصين ولا يفضحهم لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم، وفرق بين ستر وستر، وشتّان ما هما! وأمّا الرزق الكريم فيحتمل أنه الذي يعطيه من حيث لا يحتسب، ويحتمل أنه الذي لا ينقص بإجرامهم، ويحتمل أنه ما لا يشغلهم بوجوده عن شهود الرزاق، ويحتمل أنه رزق الأسرار بما يكون استقلالها به من المكاشفات. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 5] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) .   (1) وردت (لم) والسياق يقتضى (لما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 بيّن- سبحانه- أن الجدال منهم عادة وسجيّة، ففى كل شىء لهم جدال واختيار فكرهوا خروجه إلى بدر، كما جادلوا فى حديث الغنيمة، قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» . وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقرب إلى الصفح عنه والتجاوز، فأمّا إذا صار ذلك عادة فهو أصعب. ويقال ما لم تباشر خلاصة الإيمان القلب لا يوجد كمال التسليم وترك الاختيار، ومادام يتحرك من العبد عرق فى الاختيار فهو بعيد عن راحة الإيمان. ولقد أجرى الله سنّته مع أوليائه، وكذلك كانت سنّته مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمال النّعمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان، والتجرد عن مساكنة ما فيه «1» حظ ونصيب من كل معهود ويقال إن فى هجرة الأنبياء- عليهم السّلام- عن أوطانهم أمانا لهم من عادية الأعادى، وإحياء لقلوب قوم تقاصرت أقدامهم عن المسير «2» إليهم. وكذلك هجرة الأولياء من خواصه فيها لهم خلاص من البلايا، واستخلاص للكثيرين من البلايا. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 6] يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) جحود الحقّ بعد وضوح برهانه علم «3» لاستكبار صاحبه، وهو- فى الحال- فى وحشة غيّه، معاقب بالصّد وتنغّص العيش، يملّ حياته ويتمنى وفاته «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 7] وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)   (1) وردت (ما لم فيه) وربما كانت (ما لهم فيه) (2) وردت (المصير) والصحيح (مسير) الذين لم تتح لهم فرصة الانتقال إلى أماكن الأنبياء. (3) ضبطنا (علم) هكذا لكى تؤدى معنى (علامة) على الاستكبار، فهكذا يتطلب السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 التعريج فى أوطان الكسل، ومساكنة مألوفات الراحة من خصائص أحكام النّفس. فهى بطبعها تؤثر فى كل حال نصيبها، وتتمجل لذّة حظّها. ولا يصل أحد إلى جلائل النّعم إلا بتجرّع كاسات الشدائد، والانسلاخ عن معهودات النصيب. «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» أي إذا أراد الله- سبحانه- تخصيص عبد بولايته قضى على طوارق نفسه بالأفول، وحكم لبعض شهواته بالذبول، وإلى طوالع الحقائق بإشراقها، ولجوامع الموانع باستحقاقها. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 8] لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) ليحق الحقّ بالتوفيق فيما يحصل ببذل المجهود، والتحقيق لما يظهر من عين الجود. ويقال ليحقّ الحقّ بنشر أعلام الوصل، ويبطل الباطل بقهر أقسام الهزل. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة، والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسير للمسئول وتحقيق للمأمول. فإذا صدقت الاستغاثة بتعجّل الإجابة حصلت الآمال وقضيت الحاجة.. بذلك جرت سنّته الكريمة. ويقال بشّرهم بالإمداد بالملك، ثم رقّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من الملك، ولم يذرهم فى المساكنة إلى الإمداد بالملك فقال: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» ثم قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» فالنجاة من البلاء حاصلة، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة، والدعوات مسموعة، والإجابة غير ممنوعة، وزوائد الإحسان متاحة، ولكن الله عزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 الطالب واجد ولكن بعطائه، والراغب واصل ولكن إلى مبارّه. والسبيل سهل ولكن إلى وجدان لطفه، فأمّا الحقّ فهو عزيز وراء كل وصل وفصل، وقرب وبعد، وما وصل أحد إلا إلى نصيبه، وما بقي أحد إلا عن حظه، وفى معناه أنشدوا: وقلن لنا نحن الأهلّة إنما ... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى فلا بذل إلا ما تزوّد ناظر ... ولا وصل إلا بالجمال الذي يسرى قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 11] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) غشيهم النّعاس تلك الليلة فأزال عن ظواهرهم «1» ونفوسهم كدّ الأغيار والكلال، وأنزل على قلوبهم روح الأمن، وأمطرت السماء فاغتسلوا بعد ما لزمتهم الطهارة الكبرى بسبب الاحتلام، واشتدت الأرض بالمطر فلم ترسب الأقدام فى رملها، وانتفى عن قلوبهم ما كانت الشياطين توسوس به إليهم أنه سيصيبهم العناء بسلوك رملها وبالانتفاء عن الغسل، فلمّا ( .... ) «2» الإحساس، واستمكن منهم النّعاس، وتداركتهم الكفاية والنصرة استيقنوا بأن الإعانة من قبل الله لا بسكونهم وحركتهم، وأشهدهم صرف التأييد وإتمام الكفاية وكما طهّر ظواهرهم بماء السماء طهّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلّ غير وكلّ غير وكلّ علّة، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجرى الحقّ من فنون التصريف. قوله جل ذكره: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.   (1) وردت (زواهرهم) والصواب أن تكون (ظواهرهم) لتتلاءم مع (نفوسهم) (2) مشتبهة وربما كانت (زايلهم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 أقدام الظاهر فى مشاهد القتال، وأقدام السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجارى التقدير. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 13] إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) «1» عرّفنا أنّ الملائكة محتاجون إلى تعريف الحق إياهم قضايا التوحيد وتثبيت الملائكة للمؤمنين: قيل كانوا يظهرون للمسلمين فى صور الرجال يخاطبونهم بالإخبار عن قلة عدد المشركين واستيلاء المسلمين عليهم، وهم لا يعرفون أنهم ملائكة. وقيل تثبيتهم إياهم بأن كانوا يلقون فى قلوبهم ذلك من جهة الخواطر، ثم إن الله يخلق لهم فيها ذلك، فكما يوصّل الحق سبحانه- وساوس الشيطان إلى القلوب يوصل خواطر الملك، وأيّدهم بإلقاء الخوف والرعب فى قلوب الكفار. قوله جل ذكره: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وذلك بأمر الله وتعريفه من جهة الوحى والكتاب، ويكون معناه إباحة ضربهم ونيلهم على أي وجه كان كيفما أصابوا أسافلهم وأعاليهم. ويحتمل فاضربوا فوق الأعناق ضربا يوجب قتلهم لأنه لا حياة بعد ضرب العنق، ولفظ فوق يكون صلة. «وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» أي ضربا يعجزهم عن الضرب ومقاتلة المسلمين لأنه لا مقاتلة تحصل بعد فوات الأطراف. ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بيّن أنهم فى مغاليط حسبانهم وأكاذيب ظنونهم. والمنشئ- بكلّ وجه- الله لانفراده بقدرة الإيجاد   (1) أخطا الناسخ فكتبها (فثبت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 قوله جل ذكره: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. يمهل المجرم «1» أياما ثم لا يهمله، بل يذيقه بأس فعله، ويزيل عنه شبهة ظنّه قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 14] ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) «2» ذلكم العذاب فذوقوه- أيها المشركون- معجّلا، واعلموا أن للكافرين عذابا مؤجّلا، فللعاصين عقوبتان محصّل بنقد ومؤخّر بوعد. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) «3» يقول إذا لقيتم الكفار فى المعركة زحفا مجتمعين فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا فالشجاعة ثبات القلوب، وكما قيل الشجاعة صبر على الطاعة وفى الجهاد مع العدو، فالواجب الثبات عند الصولة- هذا فى الظاهر، وفى الباطن جهاد مع الشيطان، والواجب فيه الوقوف عن دواعيه إلى الزّلة فمن وقف على حدّ الإمساك عن إجابته، بلا إنجاز لما يدعوه بوساوسه فقد وفّى الجهاد حقّه. وكذلك فى مجاهدة النّفس، فإذا وقف العبد عن إجابة النّفس فيما تدعوه بهواجسها،   (1) وردت (المحرم) بالحاء وهى خطأ فى النسخ. (2) أخطأ الناسخ إذ جعلها (عذابا أليما) . (3) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 ولم يطع «1» شهوته فيما تحمله النفس عليه من البلاء إلى ابتغاء حظّه فقد وفّى الجهاد حقّه. والإشارة فى قوله: «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» بإيثار بعض الرّخص ليتقوّى على ما هو أشد كأكله مثلا ما يقيم صلبه ليقوى على السّهر، وكترفقه بنفسه بإيثار بعض الراحة من إزالة عطش، أو نفى مقاساة جوع أو برد أو غيره لئلا يبقى عن مراعاة قلبه، ولاستدامة اتصال قلبه به، فإن ترك بعض أوراد الظاهر لئلا يبقى به عن الاستقامة فى أحكام واردات السرائر أخذ فى حقّ الجهاد بحزم. والإشارة فى قوله: «أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» إلى اعتضاد المريد بصحبة أقرانه فيما يساعدونه فى المجاهدة، ويبقى شهود ما هم فيه من المكابدة من إقامته على مجاهدته. ثم باستمداده من همم الشيوخ فإن المريد ربيب همّة شيخه، فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم يجبرون «2» كسرهم، ويتوبون منهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم. ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه فقد باء من الله بسخط، والله تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 17] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) الذي نفى عنهم من القتل هو إماتة الروح وإثبات الموت، وهو من خصائص قدرته- سبحانه، والذي يوصف به الخلق من القتل هو ما يفعلونه فى أنفسهم، ويحصل ذهاب الروح عقيبه. وفائدة الآية قطع دعاواهم فى قول كل واحد على جهة التفاخر قتلت فلانا، فقال: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ» أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبدئ «3» هو الله عزّ وجل. وصانهم بهذه الآية وصان نبيّه- عليه السّلام- عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم.   (1) وردت (لم يطلع) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (يخبرون) والمناسب للكسر (يجبرون) . (3) وردت (المهدى) بالهاء وقد جعلناها (المبدى) لأن الكلام متجه إلى الإنشاء والإيجاد والإبداع والخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وكذلك قال جل ذكره: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. أي ما رميت بنفسك ولكنك رميت بنا، فكان منه (صلوات الله عليه) «1» قبض التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب، وكسبه موجد من الله بقدرته، وكان التبليغ والإصابة من قبل الله خلقا وإبداعا، وليس الذي أثبت ما نفى ولا نفى ما أثبت إلا هو، والفعل فعل واحد ولكن التغاير فى جهة الفعل لا فى عينه. فقوله: «إِذْ رَمَيْتَ» فرق، وقوله: «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» جمع. والفرق صفة العبودية، والجمع نعت الربوبية، وكلّ فرق لم يكن مضمّنا بجمع وكلّ جمع لم يكن- فى صفة العبد- مؤيّدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة. وإن الحقّ- سبحانه- يكل الأغيار إلى ظنونهم، فيتيهون فى أودية الحسبان، ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم، وذلك منه مكر بهم. قال الله تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «2» وأما أرباب التوحيد فيشهدهم مطالع التقدير، ويعرّفهم جريان الحكم، ويريهم أنفسهم فى أسر التصريف، وقهر الحكم. وأمّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيجرى عليهم ما يجرى و (ما) «3» لهم إحساس بذلك، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير، ويتولّى حفظهم عن مخالفة الشرع. قوله جل ذكره: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. البلاء الاختبار «4» ، فيختبرهم مرة «5» بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم، أو ذكرهم أو نسيانهم.   (1) أضفنا (صلوات الله عليه) ليتضح اتجاه المعنى. (2) آية 104 سورة الكهف. (3) سقطت (ما) من الناسخ والمعنى يتطلبها إذ هم لا إحساس لهم بما يجرى عليهم من حكم وتصريف. (4) وردت (الاختيار) بالياء وهى خطأ فى النسخ. (5) وردت (مر) بدون تاء مربوطة والصواب أن تكون بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 «البلاء الحسن» : توفيق الشكر فى المنحة، وتحقيق الصبر فى المحنة، وكل ما يفعله الحقّ فهو حسن من الحقّ لأنّ له أن يفعله. وهذه حقيقة الحسن: وهو ما للفاعل أن يفعله «1» ويقال حسن البلاء لأنه منه و ( ... ) «2» البلاء لأنه فيه. ويقال البلاء الحسن أن تشهد المبلى فى عين البلاء. ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إن كان نعمة، ولا شكوى إن كان محنة. ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إن كان عسرا، ولا بطر إن كان يسرا. ويقال بلاء كلّ أحد على حسب حاله ومقامه فأصفاهم ولاء أوفاهم بلاء، قال عليه السّلام: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «3» قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. تنفيس لقوم وتهديد لقوم أصحاب الرّفق يقول لهم إن الله «سَمِيعٌ» لأنينكم فيروّح عليهم بهذا وقتهم، ويحمل عنهم ولاءهم «4» ، وأنشدوا: إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليك فتسمعا وقالوا: قل لى بألسنة التّنفس ... كيف أنت وكيف حالك؟ وأمّا الأكابر فلا يؤذن لهم فى التّنفّس، وتكون المطالبة متوجّهة عليهم بالصبر، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهار ولا شكوى، فيقول: لو ترشح منك ما كلّفت بشربه توجّهت عليك الملامة، فإن لم يكن منك بيان فإنّى سميع لقالتك، عليم بحالتك.   (1) لاحظ الفرق بين (وهو ما للفاعل أن يفعله) في مسألة الحسن فقد جعل فعل الحسن حقا لله وبين (عليه أن يفعله) عند المعتزلة إذ جعلوه واجبا عليه. (2) مشتبهة. (3) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، وابن ماجه، والحاكم عن سعد بن أبى وقاص. والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي من حديث عاصم. والطبراني من حديث فاطمة. (4) ربما كانت فى الأصل (بلاءهم) فذلك يناسب التنفيس والترويح والرفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 ويقال فى قوله «عَلِيمٌ» تسلية لأرباب البلاء لأنّ من علم أنّ مقصودة يعلم حاله سهل عليه ما يقاسيه فيه، قال- سبحانه- لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 18] ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) موهن كيدهم: بتقوية قلوب المؤمنين بنور اليقين، والثبات على انتظار الفضل من قبل الله، وموهن كيدهم: بأن يأخذ الكافرين من حيث لا يشعرون، ويظفر جند المسلمين عليهم. قوله جلّ ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 19] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) قال المشركون- يوم بدر- اللهم انصر أحبّ الفئتين إليك، فاستجاب دعاءهم ونصر أحبّ الفئتين إليه. وهم المسلمون، فسألوا بألسنتهم هلاك أنفسهم، وذلك لانجرارهم فى مغاليط ما يعلّقون من ظنونهم، فهم توهّموا استحقاق القربة، وكانوا فى عين الفرقة وحكم الشّقوة، موسومين باستيجاب اللعنة بدعائهم، والوقوع فى شقائهم فباختيارهم منوا ببوارهم. ويقال ظنوا أنهم من أهل الرحمة فزلّوا، فلما كشف الستر خابوا وذلّوا، فعند ذلك علموا أنهم زاغوا فى ظنهم وضلوا. قوله جل ذكره: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» . فيغفر لكم ما قد سلف من خلاف محمد صلّى الله عليه وسلّم. «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» ليس المراد منه المبالغة لأنه يقال هذا خير لك من هذا إذا كان الثاني ليس فيه شر، وترك موافقتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم- بكل وجه- هو شرّ لهم، ولكنه أراد به فى الأحوال الدنيوية، وعلى موجب ظنّهم.   (1) آية 97 سورة الحجر. (2) أخطا الناسخ فى كتابة الآية إذ جاءت هكذا و «إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ» . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 قوله جل ذكره: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ. يعنى إن عدتم إلى الجميل من السيرة عدنا عليكم بجميل المنّة، وإن عاودتم الإقدام على الشّرّ أعدنا عليكم ما أذقناكم من الضّرّ. قوله جل ذكره: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. من غلبته قدرة الأحد لم تغن عنه كثرة العدد. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) الناس فى طاعة الله على أقسام: فمطيع لخوف عقوبته، ومطيع طمعا فى مثوبته، وآخر تحققا بعبوديته، وآخر تشرفا بربوبيته. وكم بين مطيع ومطيع! وأنشدوا: أحبك يا شمس النهار وبدره ... وإن لامنى فيك السّها والفراقد وذاك لأنّ الفضل عندك زاخر ... وذاك لأنّ العيش عندك بارد قال تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ولم يقل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفى ذلك نوع تخصيص، وحزب تفضيل يلطف عن العبارة ويبعد عن الإشارة «1» قوله جل ذكره: وَلا «2» تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. أي تسمعون دعاءه إياكم، وتسمعون ما أنزل عليه من دعائى إياكم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 21] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) لا تكونوا ممن يشهد جهرا، ويجحد سرّا.   (1) هذا من المواضع التي يشعر فيها القارئ أن القشيري يريد أن يقول شيئا ولكنه يتركه لفطنة القارئ يستشف ما وراء السطور. (2) أخطأ الناسخ فكتبها (ولو تولوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 ويقال لا تقرّوا بلسانكم، وتصرّوا على كفرانكم. ويقال من نطق بتلبيسه تشهد الخبرة بتكذيبه. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 22] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) دواعى الحق بحسن البيان ناطقة، وألسنة البرهان فيما ورد به التكليف صادقة، وخواطر الغيب بكشف ظلم الريب مفصحة، وزواجر التحقيق عن متابعة التموية للقلوب ملازمة. فمن صمّ عن إدراك ما خوطب به سرّه، وعمى عن شهود ما كوشف به قلبه، وخرس- عن إجابة ما أرشد إليه من حجة- فهمه وعقله فدون رتبة البهائم قدره، وفوق كل ( .... ) «1» من حكم الله ذلّه وصغره. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 23] وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) من أقصته سوابق القسمة لم تدنه لواحق الخدمة، ومن علمه الله بنعت الشّقوة حرمه ما يوجب عفوه. ويقال لو كانوا فى متناولات الرحمة لألبسهم صدار العصمة، ولكن سبق بالحرمان حكمهم، فختم بالضلالة أمرهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) أجاب واستجاب بمعنىّ مثل أوقد واستوقد، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية «2» بأنها تكون طوعا لا كرها، وفرق بين من يجيب لخوف أو طمع وبين من يستجيب لا بعوض ولا على ملاحظة غرض. وحقّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أن تذر من المستطاع بقية.   (1) مشتبهة. (2) لاحظ كيف يتفق مذهب القشيري فى المصطلح مع القاعدة اللغوية: زيادة المبنى فيها زيادة المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 والمستجيب لربه محو عن كلّه باستيلاء الحقيقة، والمستجيب للرسول- صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- قائم بشريعته من غير إخلال بشىء من أحكامها. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستجابة له- سبحانه، وبالاستجابة للرسول فالعبد المستجيب- على الحقيقة- من قام بالله سرّا، واتصف بالشرع جهرا، فيفرده الحقّ- سبحانه- بحقائق الجمع و ( .... ) «1» فى مشاهدة الفرق، فلا يكون للحدثان فى مشرب حقائقه تكدير، ولا لمطالبات الشرع على أحواله نكير. قوله جل ذكره: لِما يُحْيِيكُمْ. إذ لمّا أفناهم عنهم أحياهم به. ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته، وأما العالمون فأحياهم بدلائل ربوبيته، بعد ما أفناهم عن الجهل وظلمته. وأمّا المؤمنون فأحياهم بنور موافقته بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم. وأمّا الموحّدون فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير، والملاحظة لكل حدثان. قوله جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. يصون القلوب عن تقليب أربابها فيقلّبها كما يشاء هو، من بيان هداية وضلال، وغيبة ووصال، وحجبة وقربة، ويقين ومرية، وأنس ووحشة. ويقال صان قلوب العبّاد عن الجنوح إلى الكسل، فجدّوا فى معاملاتهم، وصان قلوب المريدين عن التعريج فى أوطان الفشل فصدقوا فى منازلاتهم، وصان قلوب العارفين- على حدّ الاستقامة- عن الميل فتحققوا بدوام مواصلاتهم. ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوع إلا إلى الله، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلى الأغيار سبيل، ولا على قلوبهم تعويل. وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدى إلى شىء إلا إلى ربّه! كما قيل:   (1) مشتبهة، ولكن حسبما نعلم فى مواضع سبقت أن المقصود أن الحق (يتولى) العبد أثناء الفرق الثاني. حيث يعود بالعبد المأخوذ ليقوم بفرائض الشرع، حتى لا يكون فى تحققه مقصرا في شىء من مطالبات الشريعة، ولذا نرجح أن الكلمة الناقصة هى: (ولا يتركه) أو ما فى معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 لا يهتدى قلبى إلى غيركم ... لأنه سدّ عليه الطريق ويقال العلماء هم الذين وجدوا قلوبهم، قال تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» . والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 25] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) احذروا أن ترتكبوا زلّة توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمّ شؤمها من تعاطاها ومن لم يتعاطها. وغير المجرم لا يؤخذ بجرم من أذنب، ولكن قد ينفرد أحد بجرم فيحمل أقوام من المختصين بفاعل هذا الجرم، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالما فى الحال بل إنها تصيب أيضا ظالما فى المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه، ورضاه به، وهذا معنى التفسير من حيث الظاهر. فأمّا من جهة الإشارة: فإن العبد إذا باشر رلّة بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة وهى العقوبة المعجلة، وتصيب النّفس منها العقوبة المؤجلة، والقلب إذا حصلت منه فتنة الزلة- عند ما يهم بما لا يجوز- تعدّت فتنته إلى السّر وهى الحجبة. والمقدّم فى شأنه إذا فعل ما لا يجوز انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى متّبعيه وتلامذته، وكان لهم نصيبهم من الفتنة وهم لم يعلموا ذنبا. ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تركهم الأذكار أصابتهم فتنة ما فعلوه فلقد قيل إنّ السفيه «1» إذا لم ينه مأمور. فعلى هذا تصيب فتنة الزّلة مرتكبها ومن ترك النّهى عن المنكر- مثل من ترك الأمر بالمعروف- يؤخذ بجرمه. «2»   (1) وردت (السفينة) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت هذه العبارة حافلة بالكثير من الأخطاء التي سببت فى غموض المعنى فقومناها حسبما يقتضى السياق- دون أن يكون اقتحامنا خطيرا على النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 ويقال إنّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع فى أخذ الزيادة من الدنيا مما فوق الكفاية- وإن كان من وجه حلال- تؤدى فتنته إلى من يخرج به من المبتدئين، فبجملة ما أبدى من الرغبة فى الدنيا، وترك التقلل يؤدى إلى الانهماك فى أودية الغفلة والأشغال الدنيوية. والعابد إذا جنح عن الأشقّ وترك الأولى «1» تعدّى ذلك إلى من كان ينشط فى المجاهدة فيستوطنون الكسل، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل: إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة. والعارف إذا رجع إلى ما فيه حظ له، نظر إليه المريد، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف. وفى الجملة إذا غفل الملك، وتشاغل عن سياسة رعيته تعطّل الجند والرعية، وعظم فيهم الخلل والبليّة، وفى معناه أنشدوا: رعاتك ضيّعوا- بالجهل منهم- ... غنيمات فساستها ذئاب و «اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بتعجيله ذلك، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبدا ليعاقبه لا يمكّنه من تلافى موجب تلك العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يذكرهم ما كانوا فيه من القلّة والذّلة وصنوف ( ... ) «2» ثم ما نقلهم إليه من الإمكان والبسطة، ووجوه الأمان والحيطة، وقرّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القسم،   (1) وردت (الأولاد) وهى خطأ فى النسخ، والجنوح عن الأشق وترك الأولى تعبيران مألوفان عند ما يتحدث القشيري عن إيثار الصوفي للرخص. (2) مشتبهة وربما كانت (الحطّة) أي نقصان المنزلة، فإنها قريبة للسياق، ومنسجمة مع الموسيقى اللفظية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وإدامة الحمد على جميل تلك النّعم، فمهّد لهم فى ظل أبوابه مقيلا، ولم يجعل للعدوّ إليهم- بيمن رعايته- سبيلا. قوله جل ذكره: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. رزق الأشباح والظواهر من طيبات الغذاء، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء. وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق فى شهود المنعم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) الخيانة الاستبطان بخلاف ما يؤمّل منك بحق التعويل، فخيانة الله بتضييع ما ائتمنك عليه، وذلك بمخالفة النّصح فى دينه، وخيانة الرسول بالاتصاف بمخالفة ما تبدى من مشايعته. والخيانة فى الأمانات بترك الإنصاف، والاتصاف بغير الصدق. وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة، فمن اؤتمن فى مال فتصرّف فيه بغير إذن صاحبه- خيانة، ومن اؤتمن على الحرم فملاحظته إياهن- خيانة. فعلى هذا: الخيانة فى الأعمال الدعوى فيها بأنها من قبلك دون التحقيق بأنّ منشئها الله. والخيانة فى الأحوال ملاحظتك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك فى شهود الحق، إن لم يكن استهلاكك فى وجود الحق. وإذا أخللت بسنّة من السّنن أو أدب من آداب الشّرع فتلك خيانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. والخيانة فى الأمانات- بينك وبين الخلق- تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين، بإرادة القلب فضلا عن المعاملة بالفعل. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 28] وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 أموالكم وأولادكم سبب فتنتكم لأن المرء- لأجل جمع ماله ولأجل أولاده- يرتكب ما هو خلاف الأمر، فيورثه فتنة العقوبة. ويقال الفتنة الاختبار فيختبرك بالأموال.. هل تؤثرها على حقّ الله؟ وبالأولاد.. هل تترك لأجلهم ما فيه رضاء الله؟ فإن آثرتم حقّه على حقّكم ظهرت به فضيلتكم، وإن اتصفتم بضدّه عوملتم بما يوجبه العكس من محبوبكم. ويقال المال فتنة إذا كان عن الله يشغلكم، والأولاد فتنة إذا لأجلهم قصّرتم فى حقّ الله أو فرّطتم. ويقال المال- ما للكفاف والعفاف «1» - نعمة، وما للتقاصر والتفاخر فتنة، وفى الجملة ما يشغلك عن الله فهو فتنة. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) «2» الفرقان ما به يفرق بين الحق والباطل من علم وافر وإلهام قاهر، فالعلماء فرقانهم مجلوب برهانهم، والعارفون فرقانهم موهوب «3» عرفانهم فأولئك مع مجهود أنفسهم، وهؤلاء بمقتضى جود ربّهم. العرفان تعريف من الله، والتكفير «4» تخفيف من الله، والغفران تشريف للعبد من الله.   (1) وردت (والعقاب) وهى خطا من الناسخ إذ لا تؤدى المراد، ونظن أن (العفاف) تنسجم مع السياق، ومع التركيب الداخلى للأسلوب. (2) أخطأ الناسخ إذ جعل خاتمة الآية (والله سميع عليم) . (3) وردت (موهوم) وهى خطأ من الناسخ، والصواب أن تكون (موهوب) فهكذا يتطلب السياق. (4) (التكفير) هنا تشير الى ما ورد فى الآية: «وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 30] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) ذكره عظيم منّته عليه حيث خلّصه من أعدائه حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، وهمّوا بقتله، وحاولوا أن يمكروا به فى السّر، فأعلمه الله ذلك. والمكر إظهار الإحسان مع قصد الإساءة فى السّر، والمكر من الله الجزاء على المكر، ويكون المكر بهم أن يلقى فى قلوبهم أنه محسن إليهم ثم- فى التحقيق- يعذّبهم، وإذا شغل قوما بالدنيا صرف همومهم إليها حتى ينسوا أمر الآخرة، وذلك مكر بهم، إذ يوطّنون نفوسهم عليها، فيتيح لهم من مأمنهم سوءا، ويأخذهم بغتة. ومن جملة مكره اغترار قوم بما يرزقهم من الصيت الجميل بين الناس، وإجراء كثير من الطاعات عليهم، فأسرارهم تكون بالأغيار منوطة، وهم عن الله غافلون، وعند الناس أنهم مكرمون، وفى معناه قيل: وقد حسدونى فى قرب دارى منكم ... وكم من قريب الدار وهو بعيد قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 31] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) فرط جهلهم، وشؤم جحدهم ستر على عقولهم قبح دعاويهم فى القدرة على معارضة القرآن فافتضحوا عند الامتحان بعدم البرهان، والعجز عما وصفوا به أنفسهم من الفصاحة والبيان، وقديما قيل: من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضح الامتحان «1» ما يدّعيه   (1) وردت (الامتهان) بالهاء والصواب أن تكون بالحاء. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 ويقال لمّا لاحظوا القرآن بعين الاستصغار حرموا بركات الفهم فعدوه من جملة أساطير الأولين، وكذلك من لا يراعى حرمة الأولياء، يعاقب بأن تستر عليه أحوالهم، فيظنهم مثله فى استحقاق مثالبه، فيطلق فيهم لسان الوقيعة، وهو بذلك أحقّ، كما قيل: «رمتني بدائها وانسلّت» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 32] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) دلّ سؤالهم العذاب على تصميم عقدهم على تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واستيقنوا عند أنفسهم بأنه لا يستجاب فيهم ما يدعونه على أنفسهم. وفى هذا أظهر دليل على أن سكون النّفس إلى الشيء ليس بعلم لأنه كما يوجد مع العلم يوجد مع الجهل. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 33] وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ما كان الله معذبهم وأنت فيهم، وما كان الله ليعذّب أسلافهم وأنت فى أصلابهم، وليس يعذبهم اليوم وأنت فيما بينهم إجلالا لقدرك، وإكراما لمحلّك، وإذا خرجت من بينهم فلا يعذبهم وفيهم خدمك الذين يستغفرون، فالآية تدل على تشريف قدر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم. ويقال للجوار حرمة، فجار الكرام فى ظل إنعامهم فالكفار إن لم ينعموا «1» بقرب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- منهم فقد اندفع العذاب- بمجاورته- عنهم: وأحبها وأحبّ منزلها الذي ... نزلت به وأحبّ أهل المنزل   (1) وردت (يمنعوا) والملائم للمعنى (ينعموا) لترتبط بالإنعام الذي جاء ذكره فى الجملة السابقة، ويؤكد اختيارنا أيضا وجود (الباء) فى (بقرب الرسول) إذ يقال (نعم بكذا) ولا يقال (منع بكذا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 ويقال إذا كان كون الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فى الكفار يمنع العذاب عنهم فكون المعرفة فى القلوب أولى بدفع العذاب عنها. ويقال إن العذاب- وإن تأخّر عنهم مدة مقامهم فى الدنيا مادام هو عليه السّلام فيهم- فلا محالة يصيبهم العذاب فى الآخرة، إذ الاعتبار بالعواقب لا بالأوقات والطوارق. قوله جل ذكره: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. علم أنه- عليه السّلام- لا يتأبّد مكثه فى أمته إذ قال له: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» «1» ، فقال إنى لا أضيع أمّته وإن قضى فيهم مدّته، فما دامت ألسنتهم بالاستغفار متطلّعة فصنوف العذاب عنهم مرتفعة. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 34] وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) نفى العذاب عنهم فى آية، وأثبته فى آية، فالمنفىّ فى الدنيا والمثبت فى الآخرة. ثم بيّن إيصال العذاب إليهم فى الآخرة بقوله تعالى: «وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» دليل الخطاب أن إعانة المسلمين على ما فيه قيام بحق الدين يوجب استحقاق القربة والثواب وفى الآية دليل على أنه لا يعذّب أولياءه بقوله: «وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ» فاذا عذّب من لم يكونوا أولياءه دلّ على أنه لا يعذّب من كان من جملة أوليائه. والمؤمنون كلّهم أولياء الله لأنه قال: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» «2» . والمؤمن- وإن عذّب بمقدار جرمه زمانا فإنه لا يخلّد فى دار العقوبة، فما يقاسون بالإضافة إلى تأبيد الخلاص جلل، وقيل: إذا سلم العهد الذي كان بيننا ... فودّى وإن شطّ المزار سليم قوله جل ذكره: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.   (1) آية 34 سورة الأنبياء. (2) آية 257 سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 وليس أولياؤه إلا المتقون، وهم الذين اتقوا الشّرك. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 35] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) تجردت أعمالهم بظواهرهم عن خلوص عقائدهم، فلم يوجد- سبحانه وتعالى- لها احتسابا فزكاء القالة لا يكون إلا مع صفاء الحالة، وعناء الظاهر لا يقبل إلا مع ضياء السرائر. قوله جل ذكره: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. كان العذاب معجّلا وهو حسبانهم أنهم على شىء، قال الله تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» ، ومؤجّلا وهو كما قال الله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 36] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) يرومون بإنفاقهم صنوف أموالهم صلاحا ونظاما لأحوالهم، ثم لا يحظون إلا بخسران، ولا يحصلون إلا على نقصان. خسروا وهم لا يشعرون، وخابوا وسوف يعلمون: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار؟ قوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» إنّهم وإن ألهتهم أموالهم فإلى الهوان والذلّة مآلهم، لم تغن عنهم أموالهم، ولم تنفعهم أعمالهم، بل ختمت بالشقاوة أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 37] لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) .   (1) آية 34 سورة الرعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 الخبيث ما لا يصلح لله، والطيب ما يصلح لله. الخبيث ما حكم الشرع بقبحه وفساده، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه. ويقال الخبيث الكافر، والطيّب المؤمن. الخبيث ما شغل صاحبه عن الله، والطيّب ما أوصل صاحبه إلى الله. الخبيث ما يأخذه المرء وينفقه لحظّ نفسه، والطيب ما ينفقه بأمر ربه. الخبيث عمل الكافر يصوّر له ويعذّب بإلقائه عليه، والطيّب عمل المؤمن يصور له فى صورة جميلة فيحمل المؤمن عليه. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) إن كبحوا لجام التمرد، وأقلعوا عن الركض فى ميدان العناد والتّجبّر أزلنا عنهم صغار الهوان، وأوجبنا لهم روح الأمان. ويقال إن حلّوا نطاق العناد أطلقنا عنهم عقال البعاد. ويقال إن أبصروا قبح فعالهم جدنا عليهم بإصلاح أحوالهم. ويقال إن جنحوا للاعتذار ألقينا عليهم حالة الاغتفار. ويقال إن عادوا إلى التّنصّل «1» أبحنا لهم حسن التّفضّل: أناس أعرضوا عنّا ... بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنّهم فينا ... فهلّا أحسنوا الظنّا فإن كانوا لنا- كنّا، ... وإن عادوا لنا عدنا وإن كانوا قد استغنوا ... فإنّا عنهم أغنى قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 39] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)   (1) تنصّل من ذنبه أي تبرّأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 أمرهم بمقاتلة الكفار والإبلاغ فيها حتى تستأصل شأفتهم بحيث يأمن المسلمون مضرّتهم، ويكفون بالكلية فتنتهم.. وحيّة الوادي لا تؤمن ما دامت تبقى فيها حركة كذلك العدو إذا قهر فحقّه أن تقتلع جميع عروقه، وتنقّى زباع الإسلام من كل شكيرة «1» تنبت من الشرك. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 40 الى 41] وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) فإن أبوا إلّا عتوّا، وعن الإيمان إلا نبوّأ، فلا على قلوبكم ظلّ مخافة منهم فإن الله- سبحانه- ولىّ نصرتكم، ومتولّى كفايتكم إن لم تكونوا بحيث نعم العبيد فهو نعم المولى لكم ونعم الناصر لكم. ويقال نعم المولى لكم يوم قسمة العرفان، ونعم الناصر لكم يوم نعمة الغفران. ويقال نعم المولى لك حين لم تكن، ونعم الناصر لك حين كنت. ويقال نعم المولى بالتعريف قبل التكليف، ونعم الناصر لكم بالتخفيف والتضعيف يخفّف عنكم السيئات ويضاعف الحسنات: وهواك أول ما عرفت من الهوى ... والقلب لا ينسى الحبيب الأوّلا قوله جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.   (1) شكرت الشجرة أي خرجت منها الشكيرة وهى ما ينبت حولها من أصلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 الغنيمة ما أخذه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند المجاهدة والقتال معهم. فإذا لم يكن قتال- أو ما فى معناه- فهو فىء. والجهاد قسمان: جهاد الظاهر مع الكفار، وجهاد الباطن مع النّفس والشيطان وهو الجهاد الأكبر- كما فى الخبر «1» وكما أن فى الجهاد الأصغر غنيمة عند الظّفر، ففى الجهاد الأكبر غنيمة، وهو أن يملك العبد نفسه التي كانت فى يد العدو: الهوى والشيطان. فبعد ما كانت ظواهره مقرّا للأعمال الذميمة، وباطنه مستقرا للأحوال الدّنيّة يصير محلّ الهوى مسكن الرّضا، ومقرّ الشهوات والمني مسلّما لما يرد عليه من مطالبات المولى وتصير النّفس مستلبة من أسر «2» الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والرّوح منتزعة من أيدى العلاقات، والسّرّ مصونا عن الملاحظات. وتصبح غاغة النّفس منهزمة، ورياسة الحقوق بالاستجابة لله خافقة. وكما أن من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول، وهو الخمس فمما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب، لا من كرائم العقبى، ولا من ثمرات التقريب، ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محرّرا عن رقّ كل نصيب، خالصا لله بالله، يمحو ما سوى الله، كما قيل: من لم يكن بك فانيا عن حظّه ... وعن الهوى والإنس والأحباب فكأنه- بين المراتب- واقف ... لمنال حظّ أو لحسن ثواب قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 42] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)   (1) إشارة إلى ما قاله الرسول بعد إحدى الغزوات: «رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر جهاد النفس» . (2) وردت (أسرار) وهى خطأ في النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 يخبر- سبحانه- أنّ ما جرى يوم بدر من القتال، وما حصل من فنون الأحوال كان بحكم التقدير، لا بما يحصل من الخلق من التدبير، أو بحكم تقتضيه رويّة التفكير. بل لو كان ذلك على اختيار وتواعد، كنتم عن تلك الجملة على استكراه وتباعد، فجرى على ما جرى ليقضى الله أمرا كان مقضيّا، وحصل من الأمور ما سبق به التقدير. قوله جل ذكره: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. أي ليضلّ من زاغ عن الحقّ بعد لزومه الحجبة، ويهتدى من أقام على الحقّ بعد وضوح الحجّة. ويقال الحقّ أوضح السبيل ونصب الدليل، ولكن سدّ بصائر قوم عن شهود الرشد، وفتح بصائر آخرين لإدراك طرق الحق. الهالك من وقع فى أودية التفرقة، والحىّ من حيى بنور التعريف. ويقال الهالك من كان بحظّه مربوطا، والحىّ من كان من أسر كلّ نصيب مستلبا مجذوبا «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)   (1) كلمة (مجذوب) بهذا الاستعمال قد تؤدى المعنى الذي تطلق به فى أوساط الصوفية اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 قيل أراه إياهم فى نومه- صلّى الله عليه وسلّم- بوصف القلّة، وأخبر أصحابه بذلك فازدادوا جسارة عليهم. وقيل أراه فى منامه أي فى محل نومه أي فى عينيه، فمعناه قلّلهم فى عينيه لأنهم لو استكثروهم لفشلوا فى قتالهم، ولانكسرت بذلك قلوب المسلمين. وفى الجملة أراد الله جريان ما حصل بينهم من القتال يوم بدر، وإنّ الله إذا أراد أمرا هيّأ أسبابه فقلّل الكفار فى أعين المسلمين فزادوا جسارة، وقلّل المسلمين فى أعين الكفار فازدادوا- عند نشاطهم إلى القتال- صغرا فى حكم الله وخسارة. والله «عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» : وكيف لا؟ ومنه تصدر المقادير، وإليه ترجع الأمور. ويقال إذا أراد الله نصرة عبد فلو كاد له جميع البشر، وأراده الكافة بكل ضرر، لا ينفع من شاء مضرّته كدّ، ويحصل بينه «1» وبين متاح لطفه به سدّ. وإذا أراد بعبد سوءا فليس له ردّ، ولا ينفعه كدّ، ولا ينعشه بعد ما سقط فى حكمه جهد. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 45] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) أراد إذا لقيتم فئة من المشركين فاثبتوا. والثبات إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها منه، فعند ذلك يستسلم لله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حسن الإعانة، ولهذا أحالهم على الذكر فقال: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» . ويقال إنّ جميع الخيرات فى ثبات القلب، وبه تبين أقدار الرجال، فإذا ورد على الإنسان خاطر يزعجه أو هاجس فى نفسه يهيجه.. فمن كان صاحب بصيرة توقف ريثما   (1) الضمير فى (بينه) يعود على الضرر أو من شاء الضرر، والضمير في (به) يعود على العبد المنصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 تتبيّن له حقيقة الوارد، فيثبت لكونه رابط الجأش، ساكن القلب، صافى اللّب.. وهذا نعت الأكابر. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 46] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) الموافقة بين المسلمين أصل الدّين. وأول الفساد ورأس الزّلل الاختلاف. وكما تجب الموافقة فى الدين والعقيدة تجب الموافقة فى الرأى والعزيمة «1» . قال تعالى فى صفة الكفّار: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» ، وإنما تتحد عزائم المسلمين لأنهم كلّهم يجمعهم التبرّى من حولهم وقوّتّهم، ويتمحضون فى رجوعهم إلى الله، وشهودهم التقدير، فيتحدون فى هذه الحالة الواحدة. وأمّا الذين توهّموا الحادثات من أنفسهم فضلّوا فى ساحات حسبانهم، وأجروا الأمور على ما يسنح لرأيهم، فكلّ يبنى على ما يقع له ويختار، فإذا تنازعوا تشعّبت بهم الآراء، وافترقت بهم الطرق، فيضعفون، وتختلف طرقهم. وكما تجب فى الدين طاعة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تجب طاعة أولى الأمر، ولهذا يجب فى كل وقت نصب إمام للمسلمين، ثم لا تجوز مخالفته، قال النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: «أطيعوه ولو كان عبدا مجدعا» «2» وكان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إذا بعث سريّة أمّر «3» عليهم أميرا وقال: «عليكم بالسواد الأعظم» . وإجماع المسلمين حجة، وصلاة الجماعة سنّة مؤكّدة، والاتّباع محمود والابتداع ضلالة. قوله «وَاصْبِرُوا» الصبر حبس النّفس على الشيء، والمأمور به من الصبر ما يكون على خلاف هواك.   (1) وردت (العظيمة) والملائم للرأى ولما جاء بعد قليل تتحد: (عزائم المسلمين) كلمة (العزيمة) (2) فى رواية مسلم وابن ماجه عن أم الحصين: «إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» ص 146 ح 2 من منتخب كنز العمال. (3) وردت (اثر) والصواب (أمرّ) أميرا، وربما اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فحسبها نقطا لثاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» يتولى بالكفاية إذا حصل منهم الثبات وحسن التفويض. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 47] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) يريد أنّ أهل مكة لما خرجوا من مكة عام بدر لنصرة العير ملكتهم العزّة، واستمكن منهم البطر، وداخلهم رياء الناس، فارتكبوا فى شباك غلطهم، وحصلوا على ما لم يحتسبوه. وأمّا المؤمنون فنصرهم نصرا عزيزا، وأزال عن نبيّه- عليه السّلام- ما أظلّه من الخوف وبصدق تبريه عن حوله ومنّته- حين قال: (لا تكلنى إلى نفسى) «1» - كفاه بحسن التولّى فقال (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 48] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) الشيطان إذا زيّن للانسان بوساوسه أمرا، والنّفس إذا سوّلت له شيئا عميت بصائر أرباب الغفلة عن شهود صواب الرّشد، فيبقى الغافل «2» فى قياد وساوسه، ثم تلحقه هواجم   (1) «لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» الحاكم من حديث أنس قال صحيح على شرط الشيخين، وهو في اليوم والليل، وعلمه صلّى الله عليه وسلّم لابنته الزهراء رضى الله عنها. [ ..... ] (2) وردت (العاقل) وهى خطأ في النسخ فالكلام عن أرباب الغفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 التقدير من كوامن المكر «1» من حيث لا يرتقب، فلا الشيطان يفى «2» بما يعده، ولا النفس شيئا مما تتمنّاه تجده، وكما قال القائل: أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتى به القدر وسالمتك الليالى فاغتررت بها ... وعند صفو الليالى يحدث الكدر قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 49] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) إن أصحاب الغفلة وأرباب الغرّة إذا هبّت رياح صولتهم فى زمان غفلتهم يلاحظون أهل الحقيقة بعين الاستحقار، ويحكمون عليهم بضعف الحال، وينسبونهم إلى الضلال، ويعدونهم من جملة الجهّال، وذلك فى زمان الفترة ومدة مهلة أهل الغيبة. والذين لهم قوة اليقين ونور البصيرة ساكنون تحت جريان الحكم، يرون الغائبات عن الحواس بعيون البصيرة من وراء ستر رقيق فلا الطوارق تهزمهم، ولا هواجم «3» الوقت تستفزهم «4» ، وعن قريب يلوح علم اليسر، وتنجلى سحائب العسر، ويمحق الله كيد الكائدين. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 50] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) يسلّيهم «5» عند ما يقاسون من اختبارات التقدير بما يذكّرهم زوال المحنة، ووشك روح   (1) هكذا فى المتن، وفى الهامش (كوامن المنكر) ولكن الصواب ما جاء بالمتن إذ المقصود ما يهجم على الغافل من (مكر) الله- سبحانه. (2) وردت (يفنى) والملائم لما (يعده) كلمة (يفى) . (3) وردت (هواهم) . (4) وردت (تستقرهم) ويكون معنى الجملة بعد هذين التصويبين هو ما جاء فى الرسالة (ص 44) [الهجوم ما يرد على القلب بقوة الوقت، وسادات الوقت لا تصرفهم الهواجم] (5) وردت (يسلبهم) والمقصود (تسليته) المؤمنين فى أوقات الاختبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 اليسر، وسرعة حصول النصر، وحلول النّقم بمرتكبى الظلم. والمؤمن كثير الظّفر فإذا شاهد بأرباب الجرائم حلول الانتقام رقّ قلبه لهم، فلا ينخرط فى سلك الشماتة إذ يخلو قلبه من شهوة الانتقام، بل يجب أن يكون كل أحد بحسن الصفة، وكما قيل. قوم إذا ظفروا بنا ... جادوا بعتق رقابنا قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 51] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) يعرّفهم أنّ ما أصابهم من شدّة الوطأة جزاء لهم على ما أسلفوه من قبيح الزّلّة، كما قيل: سننت فينا سننا ... قذف البلايا عقبه يصبر على أهوالها ... من برّ يوما ربّه «1» «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي كيفما يعاملهم فى السّرّاء والضرّاء فذلك منه حسن وعدل، إذ الملك ملكه، والخلق خلقه، والحكم حكمه. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 52] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) لمّا سلكوا مسلك أهل فرعون فى الضلال، سلكنا بهم مسلكهم فيما أذقناهم من العذاب وسوء الحال، وسنّة الله ألا تغيير فى الإنعام، وعادته ألا تبديل فى الانتقام، ومن لم يعتبر بما يشهد «2» اعتبر بما يصنعه به. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 53] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) .   (1) فى الشعر اضطراب، ونرجح أن هناك خطأ فى النقل. (2) أي بما يشهده يحدث لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 إذا أنعم الحقّ- سبحانه- على قوم نعمة وأراد إمهالهم أكرمهم بتوفيق الشكر، فإذا شكروا نعمته فبقدر الشكر دامت فيهم. وإذا أراد- سبحانه- إزالة نعمة عن عبد أذلّة بخذلان الكفر، فإذا حال «1» عن طريق الشكر عرّض النّعمة للزوال. فما دام العبد يشكر النعمة مقيما كان الحقّ فى إنعامه عليه مديما، فإذا قابل النعمة بالكفران انتثر سلك نظامه، فبقدر ما يزيد فى إصراره يزول الأمر عن قراره. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) تنوّعت من آل فرعون الذنوب فنوّع لهم العقوبة، وكذلك هؤلاء: عوقبوا بأنواع من العقوبة لمّا ارتكبوا أنواعا من الزّلة. وفائدة تكرار ذكرهم تأكيد فى التعريف أنه لا يهمل المكلّف أصلا، وإن أهمله حينا ودهرا. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 55] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) «عِنْدَ اللَّهِ» : فى سابق علمه وصادق حكمه فإذا كانوا فى علمه شرّ الخلائق فكيف يسعدون باختلاف السعايات وصنوف الطوارق؟ هيهات أن تتبدل الحقائق! وإذا قال: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» - وكلامه صدق وقوله حقّ- فلم يبق للرجاء فيهم مساغ، ولا ينجع فيهم نصح وإبلاغ. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 56] الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) .   (1) (حال) اى تغير مقبولة فى المعنى، ولكن لا نستبعد أنها (حاد) فى الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 أي الذين صار نقض العهد لهم سجية فلم يذروا من استفراغ الوسع فى جهلهم بقية. وإن من الكبائر التي لا غفران لها فى هذه الطريق أن ينقض العبد عهدا، أو يترك عقدا التزمه بقلبه مع الله. أولئك الذين سقطوا عن ( .... ) «1» الله، فرفع عنهم ظلّ العناية والعصمة. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 57] فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) يريد إن صادفت واحدا من هؤلاء الذين دأبهم نقض العهد فاجعلهم عبرة لمن يأتى بعدهم لئلا يسلكوا طريقهم فيستوجبوا عقوبتهم. كذلك من فسخ عقده مع «2» الله بقلبه برجوعه إلى رخص التأويلات، ونزوله إلى السكون مع العادات «3» يجعله الله نكالا لمن بعده، بحرمانه ما كان خوّله، وتنغيصه عليه ما من حظوظه أمّله، فيفوته حق الله، ولا يكون له امتناع عما آثره على حق الله: تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا لمن ... ابتغى عوضا لليلى فلم يجد قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 58] وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) يريد إذا تحقّقت بخيانة قوم منهم فصرّح بأنه لا عهد بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سمت الأمانة، وخيانة كلّ أحد على ما يليق بحاله، ومن ضنّ «4» بميسور له فقد خان فى عهده، وزاغ عن جده، وعقوبته معجّلة، فهو لا يحبّه الله، وتكون عقوبته بإذلاله وإهانته.   (1) مشتبهة. (2) وردت (من) والصواب عقده (مع) الله. (3) وردت (العدالات) والصواب (العادات) . (4) وردت (ظن) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 قوله جلّ ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 59] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) كيف يعارض الحقّ أو ينازعه من فى قبضته تقلّبه، وبقدرته تصرّفه، وبتصريفه إياه عدمه وثبوته. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) أعدوا لقتال الأعداء ما يبلغ وسعكم ذلك من قوة، وأتمّها قوة القلب بالله، والناس فيها مختلفون: فواحد يقوى قلبه بموعود نصره، وآخر يقوى قلبه بأنّ الحقّ عالم بحاله، وآخر يقوى قلبه لتحققه بأن يشهد من ربه، قال تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» «1» ، وآخر يقوى قلبه بإيثار رضاء الله تعالى على مراد نفسه، وآخر يقوى قلبه برضاه بما يفعله مولاه به. ويقال أقوى محبة للعبد فى مجاهدة العبد وتبرّيه عن حوله وقوّته. قوله جل ذكره: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. الإشارة فيه أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها، أو لاشتفاء صدره من قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هى العليا. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 61] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) .   (1) آية 48 سورة الطور. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 بعث الله نبيه- صلّى الله عليه وسلّم- بالرحمة والشفقة على الخلق، وبمسالمة «1» الكفار رجاء أن يؤمنوا فى المستأنف فإن أبوا فليس يخرج أحد عن قبضة العزّة. ويقال العبودية الوقوف حيثما وقفت إن أمرت بالقتال فلا تقصّر، وإن أمرت بالمواعدة فمرحبا بالمسالمة، «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» فى الحالين فإنه يختار لك ما فيه الخيرة، فيوفّقك لما فيه الأولى، ويختار لك ما فيه من قسمى الأمر- فى الحرب وفى الصّلح- ما هو الأعلى. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63] وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) أي إن لبّسوا عليك، وراموا خداعك بطلب الصّلح منك- وهم يستبطنون لك بخلاف ما يظهرونه- فإنّ الله كافيك، فلا تشغل قلبك بغفلتك عن شرّ ما يكيدونك فإنى أعلم ما لا تعلم، وأقدر على ما لا تقدر. هو الذي بنصره أفردك، وبلطفه أيّدك، وعن كل سوء ونصيب طهّرك، وعن رقّ الأشياء جرّدك «2» ، وفى جميع الأحوال كان لك. هو الذي أيّدك بمن آمن بك من المؤمنين، وهو الذي ألّف بين قلوبهم المختلفة فجمعها على الدّين، وإيثار رضاء الحق. ولو كان ذلك بحيل «3» الخلق ما انتظمت هذه الجملة، ولو أبلغت بكلّ ميسور من الأفعال، وبذلت كلّ مستطاع من المال- لما وصلت إليه.   (1) وردت (بمساملة) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (حررك) بالحاء وهى خطأ فى النسخ والصواب أن تكون بالجيم. (3) وردت (يحيل) بياءين وهى خطأ فى النسخ فهى (حيل) جمع حيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 64] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) أحسن التأويلات فى هذه الآية أن تكون «من» فى محل النّصب أي ومن اتبعك من المؤمنين يكفيهم الله. ومن التأويلات فى العربية أن تكون «من» فى محل الرفع أي حسبك من اتبعك من المؤمنين. وقد علم أن استقلال الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- كان بالله لا بمن سوى الله، وكلّ من هو سوى الله فمحتاج إلى نصرة الله، كما أن رسول الله محتاج إلى نصرة الله «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) المؤمن لا يزداد بنفسه ضعفا إلّا ازداد بقلبه قوة، لأن الاستقلال بقوة النّفس نتيجة الغفلة، وقوة القلب بالله- سبحانه- على الحقيقة. قوله جل ذكره: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. هذا لهم، فأمّا النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فهو بتوحيده كان مؤمّلا بأن يثبت لجميع الكفار لكمال قوّته بالله تعالى، قال عليه السّلام: «بك أصول» «2» ، وفى تحريضه للمؤمنين   (1) لاحظ كيف تؤثر النزعة الصوفية فى اختيار الفكرة النحوية. (2) «اللهم بك أصول وبك أجول وبك أسير» . كان هذا من دعائه صلوات الله عليه- إذا أراد سفرا (الإمام أحمد والبزاز عن على كرم الله وجهه، وقال الحافظ البيهقي: رجاله ثقات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 على القتال كانت لهم قوة، وبأمر الله كانت لهم قوة فقوة الصحابة كانت بالنبي- عليه الصلاة والسّلام، وتحريضه إياهم وقوتهم بذلك كانت بالله وبأمره إياه.. وشتّان ما هما! قوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً: والضّعف الذي علم فيهم كان ضعف الأشباح فخفّف عنهم، أما القلوب فلم يتداخلها الضعف فحمل من ممارسة القتال بالعذر المذكور فى الكتاب. والعوام يحملون المشاقّ بنفوسهم وجسومهم، والخواص بقلوبهم وهممهم، وقالوا: «والقلب يحمل ما لا يحمل البدن» وقال آخر. وإن ترونى أعاديها فلا عجب ... على النفوس جنايات من الهمم قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 67] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) أي لا ينبغى لنبى من الأنبياء- عليهم السّلام- أن يأخذ أسارى من أعدائه ثم يرضى بأن يأخذ منهم الفداء، بل الواجب عليه أن يثخن فى الأرض أي يبالغ فى قتل أعدائه- إذ يقال أثخنه المرض إذا اشتدّ عليه. وقد أخذ النبي- صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزا لوجوب القول بعصمته، ولكن لو قاتلتم كان أولى. وأراد ب «عَرَضَ الدُّنْيا» أخذ الفداء، والله جعل الفداء، والله جعل رضاه فى أن يقاتلوهم، وحرمة «1» الشرع خلاف رحمة الطبع فشرط العبودية أن يؤثر العبد الله، وإذا كان الأمر بالغلظة فكما قال تعالى: «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ» «2» .   (1) وردت (ورحمة) الشرع والصواب (وحرمة الشرع) والمعنى إن اتباع الأمر أولى من تحكيم عاطفة الرحمة بهم. (2) آية 2 سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» : بالانتقام من أعدائه، «حَكِيمٌ» : فى جميع ما يصنع من التمليك والإملاك، والتيسير والتدبير. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 68] لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) لولا أن الله حكم فى آزاله بإحلال الغنيمة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته لمسّكم- لأجل ما أخذتم من الفداء منهم يوم بدر- عذاب عظيم، ولكن الله أباح لكم الغنيمة فأزال عنكم العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 69] فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) الحلال ما كان مأذونا فيه، والحلال الطيّب أن تعلم أن ذلك من قبل الله فضلا، وليس لك من قبلك استحقاقا. ويقال الحلال الصافي ما لم ينس صاحبه فيه معبوده. ويقال هو الذي لا يكون صاحبه عن شهود ربّه- عند أخذه- غافلا. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 70] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) الذي يعطونه خير مما أخذ منهم. ويحتمل أن يكون ما فى الآخرة من حسن الثواب، ويحتمل أن يكون ما فى الدنيا من جميل العوض. ويقال هو ما بوصلهم إليه من توفيق الطاعات، وحلاوة الإيمان، وهو خير مما أخذ منهم. ويقال ما أعطاهم من الرضاء بما هم فيه من الفقر، بعد ما كانوا أغنياء فى حال الشّرك. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 71] وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 يريد إن عادوا إلى قتالك بعد ما مننت عليهم بالإطلاق وخانوا عهدك، فالخيانة لهم دأب وطريقة، ثم إنّا نمكّنك منهم ثانيا كما أمكنّاك من أسرهم أولا، وقيل: إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النّعل لها حاضرة قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 72] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) ذكر صفة المهاجرين مع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وصفتهم أنهم آمنوا ثم هاجروا مع الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ثم «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» هؤلاء هم المهاجرون. أما الذين آووا فهم الأنصار آووا الرسول- عليه السّلام- والمؤمنين. فهذان الفريقان بعضهم أولياء بعض فى النصرة والدين. وأما الذين آمنوا ولكن لم يهاجروا فليست لهم هذه الموالاة إلى أن يهاجروا، وإن استعانوا بكم فعليكم نصرهم. «إِلَّا عَلى قَوْمٍ» وهم المعاهدون معكم. وكمال الهجرة مفارقة الأخلاق الذميمة، وهجران النّفس فى ترك إجابتها إلى ما تدعو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 إليه من شهواتها. ومن ذلك هجران إخوان السوء، والتباعد عن الأوطان التي باشر العبد فيها الزّلة، ثم الهجرة من أوطان الحظوظ إلى أوطان رضاء الحق «1» . وأما قوله «وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا» فهم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، عوامّ هؤلاء فى الأمور الدنيوية، وخواصّهم فى الكرائم فى الآخرة، وخاصّ الخاصّ فى كل ما يصحّ به الإثبات من سنّى الأحوال إلى ما لا يدرك الوهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : الآيات 73 الى 74] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) قطع العصمة بينهم وبين المؤمنين، فالمؤمن للأجانب مجانب، وللأقارب مقارب. والكفّار بعضهم لبعضهم، كما قيل: «طير السماء على ألّافها تقع» . قوله جل ذكره: [سورة الأنفال (8) : آية 75] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) يريد من سلك مسلكهم فى الحال، ومن سيلحق بهم فى الاستقبال وآتى الأحوال فالالفة تجمعهم، والولاية تشملهم، فلهم من الله فى العقبى جزيل الثواب، والنجاة من العذاب. ولهم فى الدنيا الولاية والتناصر، والمودة والتقارب، والله أعلم.   (1) القشيري من الشيوخ القائلين بأهمية السفر إذا دعت الضرورة يشرط أن يصحب السفر عن المكان سفر عن النفس (انظر الرسالة ص 200) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 «تنبيه» ذكر السيد المحقق فى الصحيفة 20 موقفه من أخطاء الناسخ بأنه اتخذ منها ثلاثة مواقف (ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكدا» ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ. ولما كانت الطبعة الأولى كثيرة الأخطاء خاصة فى الآيات القرآنية، فقد قمت بتصويبها وتصحيحها قبل هذه الطبعة الثانية (أفست) .. أما ما ورد فى ب. ج، فقد تركته كما هو حسب منهج السيد المحقق وسأقوم بمشيئة الله تعالى بتصويب المجلدين: الثاني، الثالث، على هذا النحو، وأرجوا الله التوفيق والعون. متولى خليل عوض الله الباحث الأول- مركز تحقيق التراث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 فهرس الصفحة مدخل/ 3 صورة لورقة من المخطوطة السوفيتية/ 39 سورة فاتحة الكتاب/ 42 سورة البقرة/ 52 سورة آل عمران/ 217 سورة النساء/ 310 سورة المائدة/ 396 سورة الأنعام/ 459 سورة الأعراف/ 516 سورة الأنفال/ 601 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 تم المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله سورة التوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 [الجزء الثاني] بسم الله الرحمن الرحيم « ... أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها، والحقّ- سبحانه- منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة.. جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية. ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدنيا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجز لنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكافينا غليلا، مهّدنا له فى دار فضلنا مقيلا» عبد الكريم القشيري عند سورة الكهف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر تبرّأنا ممّا منّا من الحول والمنّة، وتحقّقنا بما منك من الطول والمنّة، فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك، وارحمنا بلطفك وإكرامك، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم، وبكىّ فراقك وسمتهم. عبد الكريم القشيري عند سورة اليونس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 السورة التي تذكر فيها التوبة جرّد الله- سبحانه- هذه السورة عن ذكر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء، ليس لصنعه سبب، وليس له فى أفعاله غرض ولا أرب، واتّضح للكافة أن هذه الآية أثبتت فى الكتاب لأنها منزّلة، وبالأمر هنا لك محصّلة. ومن قال: إنه لم يذكر التسمية فى هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- فضعيف، وفى التحقيق كالبعيد لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» «1» وقوله: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «2» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» «3» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» «4» ... هذه كلها مفاتح للّسور ... وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة فى أوائلها- وإن كانت متضمّنة ذكر الكفار. على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت فى ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمّنته تلويحا، وهذه السورة أو لها ذكر البراءة منهم قطعا، فلم تصدّر بذكر الرحمة. ويقال إذا كان تجرّد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرىّ أن يخشى أنّ تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 1] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)   (1) آية 1 سورة البينة. (2) آية 1 سورة الهمزة. (3) آية 1 سورة المسد (4) آية 1 سورة الكافرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 الفراق شديد، وأشدّه ألا يعقبه وصال، وفراق المشركين كذلك لأنه قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» «1» ويقال من منى بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد، ولا شكّ أنهم كانوا قد وطّنوا نفوسهم عليه، فنزل الخبر من الغيب بغتة، وأتاهم الإعلام بالفرقة فجأة، فقال: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، أي هذه براءة من الله ورسوله، كما قيل: فبتّ بخير- والدّنى مطمئنة ... وأصبحت يوما والزمان تقلّبا وما أشدّ الفرقة- لا سيّما إذا كانت بغتة على غير ترقّب- قال تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ» «2» وأنشدوا: وكان سراج الوصل أزهر بيننا ... فهبّت به ريح من البين فانطفا قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 2] فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة، فأمّنهم فى الحال ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل. والإشارة فيه: أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة. ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» والإشارة فيه: إن أصررتم على قبيح آثاركم سعيتم إلى هلاككم بقدمكم. وندمتم فى عاجلكم على سعيكم، وحصلتم فى آجلكم على خسرانكم وما خسرتم إلا فى صفقتكم، وما ضرّ جزمكم سواكم وأنشدوا: تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا ... من ابتغى عوضا لليلى فلم يجد   (1) آية 48 سورة النساء (2) آية 39 سورة مريم [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) أي ليكن إعلام من الله ورسوله للناس بنقض عهدهم، وإعلان عنهم بأنهم ما انقطعوا عن مألوفهم من الإهمال «1» ومعهودهم، وقد برح الخفاء من اليوم بأنهم ليس لهم ولاء، ولم يكن منهم بما عقدوا وفاء، فليعلم الكافة أنهم أعداء، وأنشدوا: أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا قوله جل ذكره: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. من رأى من الأغيار- شظية من الآثار، ولم ير حصولها بتصريف الأقدار فقد أشرك- فى التحقيق- واستوجب هذه البراءة. ومن لاحظ الخلق تصنّعا، أو طالع نفسه إعجابا فقد جعل ما لله لغير الله، وظنّ ما لله لغير الله، فهو على خطر من الشّرك بالله. قوله جل ذكره: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إن عادوا إلى الباب لم يقطع رجاءهم، ومدّ إلى حدّ وضوح العذر إرجاءهم. وبيّن أنهم إن أصرّوا على عتوّهم فإلى مالا يطيقون من العذاب منقلبهم، وفى النار مثواهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 4] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) :   (1) وردت (الإمهال) والصواب أن تكون (الإهمال) لأن الإمهال لا يكون إلا من الحق، ومألوفهم ومعهودهم (الإهمال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 من وفّى الحقّ فى عقده فزده على حفظ عهده إذ لا يستوى من وفّاه ومن جفاه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يريد إذا انسلخ الحرم فاقتلوا من لا عهد له من المشركين، فإنّهم- وإن لم يكن لهم عهد وكانوا حرما- جعل لهم الأمان فى مدة هذه المهلة، ( .... ) «1» فكرتم أن يأمر بترك قتال من أبى كيف يرضى بقطع وصال من أتى؟!. قوله جل ذكره: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. أمرهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء. وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك فسبيل العهد فى مباشرة الجهاد الأكبر مع النّفس بالتضييق عليها بالمبالغة فى جميع أنواع الرياضات، واستفراغ الوسع «2» فى القيام بصدق المعاملات. ومن تلك الجملة ألا ينزل بساحات الرّخص والتأويلات، ويأخذ بالأشقّ فى جميع الحالات قوله جل ذكره: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. حقيقة التوبة الرجوع بالكلية من غير أن تترك بقية. فإذا أسلم الكافر بعد شركه، ولم يقصّر فى واجب عليه من قسمى فعله وتركه، حصل الإذن فى تخلية سبيله وفكّه: إن وجدنا لما ادّعيت شهودا ... لم نجد عندنا لحقّ حدودا وكذلك النّفس إذا انخنست، وآثار البشرية إذا اندرست، فلا حرج- فى التحقيق- فى المعاملات فى أوان مراعاة الخطرات مع الله عند حصول المكاشفات. والجلوس مع الله   (1) مشتبهة (2) وردت (الواسع) والصواب أن تكون الوسع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 أولى من القيام بباب الله تعالى، قال تعالى فيما ورد به الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» «1» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) إذا استجار المشرك- اليوم- فلا يردّ حتى يسمع كلام الله، فإذا استجار المؤمن طول عمره من الفراق- متى يمنع من سماع كلام الله؟ ومتى يكون فى زمرة من يقال لهم: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «2» » . وإذ قال- اليوم- عن أعدائه: «فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» فإن لم يؤمن بعد سماع كلامه نهى عن تعرضه حيث قال: «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» - أترى أنه لا يؤمّن أولياءه- غدا- من فراقه، وقد عاشوا اليوم على إيمانه ووفائه؟! كلا.. إنه يمتحنهم بذلك، قال تعالى: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» «3» . ثم قال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» فإذا كان هذا برّه بمن لا يعلم فكيف برّه بمن يعلم؟ ومتى نضيّع من ينيخ ببابنا ... والمعرضون لهم نعيم وافر؟! قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) .   (1) جاء فى الرسالة ص 111 قال محمد الفراء سمعت الشبلي يقول: (أليس الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرنى؟ ما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟) . (2) آية 108 سورة المؤمنون. (3) آية 103 سورة الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 كيف يكون المفلس من عرفانه كالمخلص فى إيمانه؟ وكيف يكون المحجوب عن شهوده كالمستهلك فى وجوده؟ كيف يكون من يقول «أنا» كمن يقول «أنت» ؟ وأنشدوا: وأحبابنا شتان: واف وناقص ... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض قوله: «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» ، إن تمسّكوا بحبل «1» وفائنا أحللناهم ولاءنا، وإن زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدّنا، ثم لم يربحوا فى بعدنا. «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» : المتّقى الذي يستحق محبة من يتّقى وذلك حين يتقى محبّة نفسه، وذلك بترك حظه والقيام بحقّ ربّه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 8] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) وصفهم بلؤم الطبع فقال: كيف يكونون محافظين على عهودهم مع ما أضمروه لكم من سوء الرضاء؟ فلو ظفروا بكم واستولوا عليكم لم يراعوا لكم حرمة، ولم يحفظوا لكم قرابة أو ذمّة. وفى هذا إشارة إلى أنّ الكريم إذا ظفر غفر، وإذا قدر ما غدر، فيما أسرّ وجهر. قوله «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ» أي لا عجب من طبعهم فإنهم فى حقّنا كذلك يفعلون: يظهرون لباس الإيمان ويضمرون الكفر. وإنهم لذلك يعيشون معكم فى زىّ الوفاق، ويستبطنون عين الشّقاق وسوء النّفاق. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 9] اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)   (1) وردت (لجبل) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 من رضى من الله بغير الله أرخص فى صفقته ثم إنه خسر فى تجارته فلا له- وهو عن الله- أثر استمتاع، ولا له- فى دونه سبحانه- اقتناع بقي عن الله، ولم يستمتع عن الله. وهذا هو الخسران المبين. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 10] لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) كيف يراعى حقّ المؤمنين من لا يراعى حقّ الله فى الله؟ أخلاقهم تشابهت فى ترك الحرمة. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 11] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) معناه: وإن قبلناهم وصلحوا لولائنا فلحمة النّسب فى الدّين بينكم وبينهم وشيجة «1» ، وإلا فليكن الأجانب منا على جانب منكم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 12] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) إذا جنحوا إلى الغدر، ونكثوا ما قدّموه من ضمان الوفاء بالعهد، وبسطوا ألسنتهم فيكم باللوم فاقصدوا من رحى الفتنة عليه تدور، وغصن الشّرّ من أصله يتشعّب، وهم سادة الكفار وقادتهم. وحقّ القتال إعداد القوة جهرا، والتبرّى عن الحول والقوة سرّا. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 13] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)   (1) أي مشتبكة متصلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 حرّضهم على القتال- على ملاحظة أمر الله بذلك- لا على مقتضى الانطواء على الحقد لأحد، فإنّ من غضب لنفسه فمذموم الوصف، ومن غضب لله فإن نصر الله قريب. وقال «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» : فالخشية من الله بشير الوصلة، والخشية من غير الله نذير الفرقة. وحقيقة الخشية نفض السّرّ عن ارتكاب الزّجر ومخالفة الأمر. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) هوّن عليهم كلفة المخاطرة بالمهجة بما وعدهم من الظفر والنصرة، فإنّ شهود خزى العدوّ مما يهوّن عليهم مقاساة السوء. والظّفر بالأرب يذهب تعب الطّلب. وشفاء صدور المؤمنين على حسب مراتبهم فى المقام والدرجات فمنهم من شفاء صدره فى قهر عدوّه، ومنهم من شفاء صدره فى نيل مرجوّه. ومنهم من شفاء صدره فى الظّفر بمطلوبه، ومنهم من شفاء صدره فى لقاء محبوبه. ومنهم من شفاء صدره فى درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره فى البقاء بمعبوده. وكذلك ذهاب غيظ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوّع أبوابه، وفيما ذكرنا تلويح لما تركنا «1» . «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» حتى يكون استقلاله بمحوّل الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)   (1) توضح هذه العبارة ميل القشيري للإقلال خشية الملال- كما ذكر فى مقدمة كتابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 من ظنّ أنه يقنع منه بالدعوى- دون التحقق بالمعنى- فهو على غلط فى حسبانه. والذي طالبهم به من حيث الأمر صدق المجاهدة فى الله، وترك الركون إلى غير الله، والتباعد عن مساكنة أعداء الله.. ثقة بالله، واكتفاء بالله، وتبرّيا من غير الله. وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجة فالمعنى فيه: ألا يفشوا فى الكفار أسرار المؤمنين. وأول من يهجره المسلم- لئلا تطّلع على الأسرار- نفسه التي هى أعدى عدوّه، وفى هذا المعنى قال قائلهم: كتابى إليكم بعد موتى بليلة ... ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب ويقال: إن أبا يزيد «1» - فيما أخبر عنه- أنه قال للحقّ فى بعض أوقات مكاشفاته: كيف أطلبك؟ فقال له: فارق نفسك. ويقال إن ذلك لا يتمّ، بل لا تحصل منه شظيّة إلا بكىّ عروق الأطماع والمطالبات لما فى الدنيا ولما فى العقبى ولما فى رؤية الحال والمقام- ولو بذرّة. والحرية عزيزة «2» .. قال قائلهم: أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاى طلعة حرّ قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 17] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)   (1) هو أبو يزيد البسطامي كان جده (سروشان) مجوسيا وأسلم، وهو أحد إخوة ثلاثة كانوا جميعا زهادا وأصحاب أحوال، مات سنة 261، وقيل سنة 234 (طبقات السلمى) و (رسالة القشيري) . (2) (والحرية عزيزة) هنا معناها نادرة الوجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 «1» عمارة المساجد بإقامة العبادة فيها، والعبادة لا تقبل إلا بالإخلاص، والمشرك فاقد الإخلاص، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر دعواهم حصول بعض الحدثان بتأثير الأسباب، فمن أثبت فى عقده جواز ذرّة فى العالم من غير تقديره- سبحانه- شارك أرباب الشّرك فى المعنى الذي لزمتهم به هذه السّمة. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) لا تكون عمارة المساجد إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يعمّرها بتخريب أوطان شهوته، والزاهد يعمرها بتخريب أوطان منيته، والعارف يعمرها بتخريب أوطان علاقته، والموحّد يعمرها بتخريب أوطان ملاحظته ومساكنته. وكلّ واحد منهم واقف فى صفته فلصاحب كلّ موقف منهم وصف مخصوص. وكذلك رتبتهم فى الإيمان مختلفة فإيمان من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتان ما هم! قال قائلهم: لا تعرضنّ بذكرنا فى ذكرهم ... ليس الصحيح- إذا مشى- كالمقعد قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 19] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)   (1) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية: (هم فيها خالدون) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ليس من قام بمعاملة ظاهره كمن استقام فى مواصلة سرائره، ولا من اقتبس من سراج علومه كمن استبصر بشموس معارفه، ولا من نصب بالباب من حيث الخدمة كمن مكّن من البساط من حيث القربة «1» ، وليس نعت من تكلّف نفاقا كوصف من تحقّق وفاقا، بينهما بون بعيد! قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 20] الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) «آمَنُوا» أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبق فى سماء يقينهم سحاب ريب، ولا فى هواء «2» معارفهم ضباب شك. «وَهاجَرُوا» : فلم يعرّجوا فى أوطان التفرقة فتمحّضت «3» حركاتهم وسكناتهم بالله لله. «وَجاهَدُوا» : لا على ملاحظة عوض أو مطالعة عوض فلم يدّخروا لأنفسهم- من ميسورهم- شيئا إلا آثروا الحقّ عليه فظفروا بالنعمة فى قيامهم بالحقّ بعد فنائهم عن الخلق. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : الآيات 21 الى 22] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)   (1) يتدرج الدخول عليه- حسبما نعرف من أسلوب القشيري- من الباب إلى البساط إلى العقوة أو الساحة ثم السدة. (2) وردت (هؤلاء) وقد صوبناها (هواء) لتلائم (سماء) و (سحاب) و (ضباب) فضلا عن أنها أقرب فى الكتابة إليها. [ ..... ] (3) تمحضت أي صارت خالصة لله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 البشارة من الله تعالى على قسمين: بشارة بواسطة الملك، عند التوفى: «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» «1» . وبشارة بلا واسطة بقول الملك، إذ يبشّرهم ربّهم برحمة منه، وذلك عند الحساب. يبشرهم بلا واسطة بحسن التولّى فعاجل بشارتهم بنعمة الله، وآجل بشارتهم برحمة الله، وشتان ما هما! ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان، فأصحاب الإحسان صلح أمرهم للشهرة فأظهر أمرهم للملك حتى بشّروهم جهرا، وأهل العصيان صلح حالهم للستر فتولّى بشارتهم- من غير واسطة- سرّا. ويقال إن كانت للمطيع بشارة بالاختصاص فإنّ للعاصى بشارة بالخلاص. وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصى بشارة بالنجاة. ويقال إنّ القلوب مجبولة على محبة من يبشّر بالخير فأراد الحقّ- سبحانه- أن تكون محبة العبد له- سبحانه- على الخصوص فتولّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة، فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ» وفى معناه أنشدوا: لولا تمتّع مقلتى بلقائه ... لوهبتها بشرى بقرب إيابه ويقال بشّر العاصي بالرحمة، والمطيع بالرضوان، ثم الكافة بالجنة فقدّم العاصي فى الذكر، وقدّم المطيع بالبرّ، فالذّكر قوله وهو قديم والبرّ طوله وهو عميم. وقوله الذي لم يزل أعزّ من طوله الذي حصل. قدّم العصاة على المطيعين لأنّ ضعف الضعيف أولى بالرّفق من القوى. ويقال (قدّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يوم العرض وحضور الجمع لا يفتضح العاصي) «2» . ويقال «يبشرهم ربّهم برحمته» يعرّفهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات   (1) آية 30 سورة فصلت. (2) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامات المميزة، ولنتأمل مقدار انفساح صدور الصوفية بالنسبة للعصاة، وذلك نتيجة امتلاء قلوبهم بالأمل في المحبوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 بسعيهم وطاعتهم، ولكن برحمته- سبحانه- وصلوا إلى نعمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد ينجّيه عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته» «1» . قوله: «لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» : قوم نعيمهم عطاء ربّهم على وصف التمام، وقوم نعيمهم لقاء ربهم على نعت الدوام فالعابدون لهم تمام عطائه، والعارفون لهم دوام لقائه. ثم قال: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» والكناية فى قوله «فِيها» كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة، سيما وقد ذكر الأجر بعدها فكما لا يقطع عطاءه عنهم فى الجنة لا يمنع عنهم لقاءه متى شاءوا فى الجنة، قال تعالى: «لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» «2» أي لا مقطوعة عنهم نعمته، ولا ممنوعة منهم رؤيته. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) من لم يصلح بطاعته لربه لا تستخلصه لصحبة نفسك. ويقال من آثر على الله شيئا يبارك له فيه فيبقى بذلك عن الله، ثم لا يبقى ذلك معه، فإن استبقاه بجهده- كيف يستبقى حياته إذا أذن الله فى ذهاب أجله؟ وفى معناه أنشدوا: من لم تزل نعمته قبله ... زال مع النعمة بالموت قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 24] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)   (1) الشيخان عن عائشة مرفوعا: سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ... إلخ (2) آية 33 سورة الواقعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ليس هذا تخييرا لهم، ولا إذنا فى إيثار الحظوظ على الحقوق، ولكنه غاية التحذير والزّجر عن إيثار شىء من الحظوظ على الدّين، ومرور الأيام حكم عدل يكشف فى العاقبة عن أسرار التقدير، قال قائلهم: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار؟ ويقال علامة الصدق فى التوحيد قطع العلاقات، ومفارقة العادات، وهجران المعهودات والاكتفاء بالله فى دوام الحالات. ويقال من كسدت سوق دينه كسدت أسواق حظوظه، وما لم تخل منك منازل الحظوظ لا تعمر بك مشاهد الحقوق. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 25] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) النصرة من الله تعالى فى شهود القدرة، والمنصور من عصمه الله عزّ وجلّ عن التوهّم والحسبان، ولم يكله إلى تدبيره فى الأمور، وأثبته الحقّ- سبحانه- فى مقام الافتقار متبريا عن الحول والمنّة، متحقّقا بشهود تصاريف القدرة، يأخذ الحقّ- سبحانه- بيده فيخرجه عن مهواة تدبيره، ويوقفه على وصف التصبّر لقضاء تقديره. قوله جل ذكره: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. يعنى نصركم يوم حنين حين تفرّق أكثر الأصحاب، وافترت أنياب الكرّة عن نقاب القهر فاضطربت القلوب، وخانت القوى أصحابها، ولم تغن عنكم كثرتكم، فاستخلص الله أسراركم- عند صدق الرجوع إليه- بحسن السكينة النازلة عليكم، فقلب الله الأمر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الأعداء، وخفقت رايات النصرة، ووقعت الدائرة على الكفار، وارتدّت الهزيمة عليهم فرجعوا صاغرين. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 26] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) السكينة ثلج القلب عند جريان حكم الربّ بنعت الطمأنينة، وخمود آثار البشرية بالكلية، والرضاء بالبادى من الغيب من غير معارضة اختيار. ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة، وبلا تحرّك عرق لمعارضة حكم. والسكينة «1» المنزلة على «الْمُؤْمِنِينَ» خمودهم تحت جريان ما ورد من الغيب من غير كراهة بنوازع البشرية، واختطاف الحقّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهية من مخلوق فسكنت عنهم كلّ إرادة واختيار. «وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» من وفور اليقين وزوائد الاستبصار. «وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بالتطوح «2» فى متاهات التفرقة، والسقوط فى وهدة «3» ضيق التدبير، ومحنة الغفلة، والغيبة عن شهود التقدير. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 27] ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) ردهم من الجهل إلى حقائق العلم، ثم نقلهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين، ثم رقّاهم عن تلك الجملة بما لقّاهم به من عين الجمع.   (1) وردت (والسكين) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (والتطوع) بالعين وهى خطأ في النسخ. (3) جاءت الواو فوق فاء (فى) واكتملت بعدها خطأ: (هذه) ، والصواب ان تأخذ الواو مكانها بعد (في) وتصبح الكلمة (وهدة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 قوله جل ذكره [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) فقدوا طهارة الأسرار بماء التوحيد فبقوا فى قذورات الظنون والأوهام، فمنعوا قربان المساجد التي هى مشاهد القرب. وأمّا المؤمنون فطهرهم عن التدنّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقّ فردا فيما يبيّنه من الأمر ويمضيه من الحكم. قوله جل ذكره: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ توقّع الأرزاق من الأسباب من قضايا انغلاق باب التوحيد، فمن لم يفرد معبوده بالقسمة بقي فى فقر مسرمد. ويقال من أناخ بعقوة كرم مولاه، واستمطر سحاب جوده أغناه عن كل سبب، وكفاه كلّ تعب، وقضى له كلّ سؤل وأرب، وأعطاه من غير طلب. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) من استوجب الهوان لا ينجيك من شرّه غير ما يستحقه من الإذلال على صغره، ومن داهن عدوّه فبالحرىّ أن يلقى سوءه. ومن أشدّ النّاس لك عداوة، وأبعدهم عن الإيمان- نفسك المجبولة على الشرّ فلا تقلع إلّا بذبحها بمدية المجاهدات. وهى لا تؤمن بالتقدير، ولا يزول شكها قط، وكذلك تخلد إلى التدبير «1» ،   (1) أي تدبير الإنسان المناقض لتقدير الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ولا تسكن إلا بوجود المعلوم «1» ، ولا تقبل منك إلا كاذب المواعيد، ولذلك قالوا وأكذب النّفس إذا حدّثتها فإنّ صدق القول يذرى بالأمل قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) لو كان هذا فى تخاطب المخلوقين لكان عين الشكوى والشكوى إلى الأحباب تشير إلى تحقق الوصلة. شكا إليهم ما حصل من قبيح أعمالهم، وكم بين من تشكو منه وبين من تشكو إليه!! قوله جل ذكره: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ الكفار قبلهم جحدوا الربوبية، وهؤلاء أقروا بالله، ثم لما أثبتوا له الولد نقضوا ما أقروا به من التوحيد، فصاروا كالكفار قبلهم. ويحتمل أن تكون مضاهاة قولهم فى وصف المعبود بأنّ عيسى ابنه وعزيرا ابنه كقول الكفار قبلهم إنّ الملائكة بنات الله. ويقال لمّا وصفوا المعبود بما يتعالى عن قولهم لم ينفعهم صدقهم فى الإقرار بربوبيته مما أضافوا إليه من سوء القالة. وكلّ من أطلق فى وصفه ما يتقدّس- سبحانه- عنه فهو للأعداء مشاكل فى استحقاق الندم والتوبيخ. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 31] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)   (1) ربما كان المقصود بالمعلوم هنا ما يقع فى نطاق الحس وتقدير الحق غيبى لا يقع تحت حس الإنسان وعلم الإنسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 كما لا تجوز مجاوزة الحد فى وضع القدر لا تجوز مجاوزة الحد فى رفع القدر، وفى الخبر: «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» فمن رأى من المخلوقين شظية من الإبداع أنزلهم منزلة الأرباب، وذلك- فى التحقيق- شرك، وما أخلص فى التوحيد من لم ير جميع الحادثات بصفاتها ( .... ) «1» من الله. «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً: فمن رفع فى عقده مخلوقا فوق قدره فقد أشرك بربّه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 32] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) من رام أن يستر شعاع الشمس بدخان يوجهه من نيرانه، أو عالج أن يمنع حكم السماء بحيلته وتدبيره، أو يسقط نجوم الفلك بسهام قوسه- أظهر رعونته ثم لم يحظ بمراده. كذلك من توهّم أن سنّة التوحيد يعلوها وهج الشّبه فقد خاب فى ظنّه، وافتضح فى وهمه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 33] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) أزاح العلل بما ألاح من الحجج، وأزال الشّبه بما أفصح من النهج فشموس الحقّ طالعة، وأدلة الشرع لامعة، كما قالوا: هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)   (1) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 العالم إذا ارتفق بأموال الناس عوضا عما يعلّمهم زالت بركات علمه، ولم يطب فى طريق الزهد مطعمه. والعارف إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشىء من أحواله وأعماله زالت آثار همّته، ولم تجد فى حكم التوحيد حالته. قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. لهم فى الآجل عقوبة. والذين لا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فلهم فى العاجل حجبة. وقليل من عباده من سلم من الحجاب فى محتضره والعقاب فى منتظره «1» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 35] يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) لمّا طلبوا الجاه عند الخلق بمالهم، وبخلوا بإخراج حقّ الله عنه شان وجوههم. ولمّا أسندوا ظهورهم إلى أموالهم. قال تعالى: «فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» . ويقال: لمّا (عبسوا) فى وجوه العفاة «2» وعقدوا حواجبهم وضعت الكيّة على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمّا طووا كشحهم دون الفقراء- إذا جالسوهم- وضع المكواة على جنوبهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)   (1) محتضره أي حاضره وعاجله، ومنتظره أي مستقبله وآجله. (2) العفاة هم طالبو العطاء ومستحقوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 لمّا علم أنهم لا يداومون على ملازمة القرب أفرد بعض الشهور بالتفضيل، ليخصّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمّا الخواص من عباده فجميع الشهور لهم شعبان ورمضان، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة، وجميع البقاع «1» لهم مسجد .... وفى معناه أنشد بعضهم. يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع وكلّ أرض لى ثغر طرسوس قوله جل ذكره: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ قال للعوام: لا تظلموا فى بعض الشهور أنفسكم، يعنى بارتكاب الزّلّة. وأمّا الخواص فمأمورون ألا يظلموا فى جميع الشهور قلوبهم باحتقاب الغفلة «2» . ويقال: الظلم على النّفس أن يجعل العبد زمامه بيد شهواته، فتورده مواطن الهلاك. ويقال: الظلم على النّفس بخدمة المخلوقين بدل طاعة الحقّ. ويقال: من ظلم على قلبه بالمضاجعات امتحن بعدم الصفوة فى مرور الأوقات. «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً» : ولا سلاح أمضى على العدوّ من تبرّيك عن حولك وقوّتك.   (1) وردت (البقاء) وهى خطأ فى النسخ [ ..... ] (2) وردت (العقد) والصواب أن تكون (الغفلة) ، فالغفلة للقلب والزلة للنفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 37] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) «1» الدّين ملاحظة الأمر ومجانبة الوزر وترك التقدم «2» بين يدى الله سبحانه- في جميع أحكام الشرع، فالآجال فى الطاعات مضروبة، والتوفيق فى عرفانه متّبع، والصلاح فى الأمور بالإقامة على نعت العبودية فالشهر ما سمّاه الله شهرا، والعام والحول ما أعلم الخلق أنه قدر ما بينّه شرعا. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 38] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) عاتبهم على ترك البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فرصة الرّخصة. وأمرهم بالجد فى العزم، والقصد فى الفعل فالجنوح إلى التكاسل، والاسترواح إلى التثاقل أمارات ضعف الإيمان إذ الايمان غريم ملازم لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشقّ، وملابسة الأحقّ. قوله «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا» : وهل يجمل بالعابد أن يختار دنياه على عقباه؟ وهل يحسن بالعارف أن يؤثر هواه على رضا مولاه؟ وأنشدوا   (1) النسيء- تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، فقد كانوا إذا هل شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر (2) أي عدم استعجال شىء موقوت بامر الله وشرعه.. هذا ما نفهمه من السياق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 أيجمل بالأحباب ما قد فعلوا ... مضوا وانصرفوا يا ليتهم قفلوا إنّ غيبة يوم للزاهد عن الباب تعدل شهورا، وغيبة لحظة للعارف عن البساط تعدل دهورا، وأنشدوا: الإلف لا يصبر عن إلفه ... أكثر من طرفة عين وقد صبرنا عنكم ساعة ... ما هكذا فعل محبين قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 39] إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) العذاب الأليم إذا أعرض العبد عن الطاعة ألا يبعث وراءه من جنود التوفيق ما يردّه إلى الباب. العذاب الأليم أن يسلبه حلاوة النّجوى إذا آب. العذاب الأليم الصدود يوم الورود، وقيل: واعدونى بالوصال- والوصال عذب- ورمونى بالصّدود والصدّ صعب العذاب الأليم الوعيد بالفراق، فأمّا نفس الفراق فهو تمام التّلف، وأنشدوا: وزعمت أنّ البين منك غدا ... هدّد بذلك من يعيش غدا قوله: «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يصرف ما كان من إقباله عليه إلى غيره من أشكاله، وليس كلّ من حفر بئرا يشرب من معينها، وأنشدوا: تسقى رياحين الحفاظ مدامعى ... وسواى فى روض التواصل يرتع قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 40] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 من عزيز تلك النصرة أنه لم يستأنس بثانيه الذي كان معه بل رد الصّدّيق إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» . ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه فى كشوفاته فى تلك الحالة، ولولا نصرته لتلاشى تحت سطوات كشفه. ويقال كان- عليه السلام- أمان أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «1» ، وجعله- فى الظاهر- فى أمان العنكبوت حين نسج خيطه على باب الغار فخلّصه من كيدهم. ويقال لو دخل هذا الغار لا نشقّ نسيج العنكبوت.. فيا عجبا كيف ستر قصة حبيبه- صلوات الله عليه وعلى آله وسلم؟! ويقال صحيح ما قالوا: للبقاع دول، فما خطر ببال أحد أنّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيّد- صلى الله عليه وسلم! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء كما يختص برحمته من يشاء. ويقال ليست الغيران «2» كلها مأوى الحيّات، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» فهو سبحانه- وإن تقدّس عن كل مكان- ولكن فى هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا: يا طالب الله فى العرش الرفيع به ... لا تطلب العرش إن المجد فى الغار وفى الآية دليل على تحقيق صحبة الصدّيق- رضى الله عنه- حيث سمّاه الله سبحانه صاحبه، وعدّه ثانيه، فى الايمان ثانيه، وفى الغار ثانيه ثم فى القبر ضجيعه، وفى الجنة يكون رفيقه.   (1) آيه 33 سورة الأنفال. (2) الغار يجمع على أغوار وغيران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 قوله جل ذكره: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الكناية فى الهاء من «عَلَيْهِ» تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الصديق رضى الله عنه، فإن حملت على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» «1» . وقال للصدّيق- على التخصيص- فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلّى لأبى بكر خاصة» «2» . وإنما كان حزن الصديق ذلك اليوم لأجل الرسول- صلى الله عليه وسلم- إشفاقا عليه.. لا لأجل نفسه. ثم إنه- عليه السلام- نفى حزنه وسلّاه بأن قال: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ، وحزن لا يذهب إلا لمعيّة الحقّ لا يكون إلّا «لحقّ الحق» «3» . قوله جل ذكره: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنود وفود زوائد اليقين على أسراره بتجلّى الكشوفات. «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» بإظهار حجج دينه، وتمهيد سبل حقّه ويقينه فرايات الحقّ إلى الأبد عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحزب الحقّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.   (1) آية 4 سورة الفتح (2) يتأيد كلام القشيري عن خصوصية أبى بكر بنزول السكينة على قلبه بما يروى عن يوم بدر، فحينما قال النبي عليه السلام «اللهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد فى الأرض من بعد ذلك» قال له أبو بكر: دع عنك مناشدتك ربك فإنه والله منجز لك ما وعدك وهو قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [مسلم والترمذي عن ابن عباس عن عمر] (3) لأنه ليس حزنا مرتبطا بحظ من حظوظ النفس ولكنه لحق الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام فى الغار، وأشرقت على سرّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاع أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفقد قراره- أزال عنه لواعجه بما أخبره من قربه- سبحانه- فاستبدل بالقلق سكونا، وبالشوق أنسا، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة. ويقال كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ثانى اثنين فى الظاهر بشبهه «1» ولكن كان مستهلك الشاهد فى الواحد بسرّه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره فى جميع أحوالهم. «خِفافاً» يعنى فى حال حضور قلوبكم، فلا يمسّكم نصب المجاهدات. «وَثِقالًا» إذا رددتم إليكم فى مقاساة تعب المكابدات. فإنّ البيعة أخذت عليكم فى ( ... ) «2» و ( ... ) «3» . ويقال «خِفافاً» إذا تحررتم من رقّ المطالبات والاختيار، «وَثِقالًا» إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمّلون قضاء الحقّ ماربكم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 42] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)   (1) (بشبهه) هنا معناها بإنسان مثله، أي كان أنسه- فى الظاهر بصاحبه، وعلى الحقيقة كان أنسه بالله. (2) ، (3) لفظتان مشتبهتان، وربما كانتا بمعنى (حضوركم وغيبتكم) أو (قربكم وبعدكم) أو نحو ذلك.. فهكذا نفهم من السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يريد به المتخلفين عنه فى غزوة «تبوك» ، بيّن سبحانه أنه لو كانت المسافة قريبة، والأمر هيّنا لما تخلّفوا عنك لأنّ من كان غير متحقّق فى قصده كان غير بالغ فى جهده، يعيش على حرف، ويتصرّف بحرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه. وقال تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» «1» . فإذا رأيت المريد يتّبع الرّخص ويجنح إلى الكسل، ويتعلّل بالتأويلات.. فاعلم أنه منصرف عن الطريق، متخلّف عن السلوك، وأنشدوا: وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال: كان وكانا ومن جدّ فى الطلب لم يعرّج فى أوطان الفشل، ويواصل السير والسّرى، ولا يحتشم من مقاساة الكدّ والعناء، وأنشدوا: ثم قطعت الليل فى مهمة ... لا أسدا أخشى ولا ذيبا يغلبنى شوقى فأطوى السّرى ... ولم يزل ذو الشوق مغلوبا قوله: «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» : يمين المتعلّل والمتأوّل يمين فاجرة تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلا. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 43] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لم يكن منه صلى الله عليه وسلم خرق حدّ أو تعاطى محظور، وإنما (تذر) «2» منه ترك ما هو الأولى. قدّم الله ذكر العفو على الخطاب الذي هو فى صورة العتاب بقوله: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» . أو من جواز الزّلة على الأنبياء- عليهم السلام- إذ لم يكن ذلك فى تبليغ أمر   (1) آية 21 سورة محمد. (2) هكذا فى (ص) وربما كانت (بدر) فى الأصل أي صدر عنه أما (نذر) فتفيد (قل) منه ترك ما هو الأولى، وكلاهما لا يرفضه السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 أو تمهيد شرع (بقول قائله أنشدوا بالعفو قبل أن وقف للعذر) «1» وكذا سنّة الأحباب مع الأحباب، قال قائلهم: ما حطّك الواشون عن رتبة ... عندى ولا ضرّك مغتاب كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- ... عليك عندى بالذي عابوا ويقال حسنات الأعداء- وإن كانت حسنات- فكالمردودة، وسيئات الأحباب- وإن كانت سيئات- فكالمغفورة: من ذا يؤاخذ من يحبّ بذنبه ... وله شفيع فى الفؤاد مشفّع قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 44] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) المخلص فى عقده غير مؤثر شيئا على أمره، ولا يدّخر مستطاعا فى استفراغ وسعه، وبذل جهده، ومقاساة كدّه، واستعمال جدّه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 45] إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) من رام عن عهدة الإلزام خروجا انتهز للتأخير والتخلّف فرصة لعدم إيمانه وتصديقه، ولاستمكان الريبة من قلبه وسرّه. أولئك الذين يتقلبون فى ريبهم، ويترددون فى شكّهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 46] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) أي لو صدقوا فى الطاعة لاستجابوا ببذل الوسع والطاقة، ولكن سقمت إرادتهم، فحصلت دون الخروج بلادتهم، وكذلك قيل: لو صحّ منك الهوى أرشدت للحيل   (1) ما بين القوسين منبت كما فى (ص) وفيه اضطراب ناشىء عن النسخ، وربما كان شاهدا شعريا معناه: (جاد بالعفو قبل الوقوف على العذر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 قوله جل ذكره: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ ألزمهم الخروج من حيث التكليف، ولكن ثبّتهم فى بيوتهم بالخذلان فبالإلزام دعاهم، وبأمر التكوين أقصاهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 47] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) أخبر عن سابق علمه بهم، وذكر ما علم أنه لا يكون أن لو كان كيف يكون فقال: ولو ساعدوكم فى الخروج لكان ما يلحقكم من سوء سيرتهم فى الفتنة بينكم، والنميمة فيكم، والسعى فيما يسوؤكم أكثر مما نالكم بتخلّفهم من نقصان عددكم. ومن ضرره أكثر من نفعه فعدمه خير من وجوده، ومن لا يحصل منه شىء غير شروره فتخلّفه أنفع من حضوره. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 48] لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) إنّهم وإن أظهروا وفاقكم فقد استبطنوا نفاقكم أعلنوا أنهم يؤازرونكم ولكن راموا بكيدهم تشويش أموركم، حتى كشف الله عوراتهم، وفضحهم، حتى تحذّرتم منهم بما تحققتم من أسرارهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 49] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أبرزوا قبيح فعالهم فى معرض التخرج، وراموا أن يلبّسوا على الرسول- صلى الله وسلم وعلى آله- وعلى المسلمين خبث «1» سيرتهم وسريرتهم، فبيّن الله أنّ الذين ( ... ) » بزعمهم سقطوا فيه بفعلهم، وكذلك المتجلّة بما يهواه متطوح فى وادي بلواه، وسيلقى فى الآخرة من الهوان ما يغني عن الحاجة إلى البرهان. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 50] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) هكذا صفة الحسود، يتصاعد أنين قلبه عند شهود الحسنى، ولا يسرّ قلبه غير حلول البلوى، ولا دواء، لجروح الحسود فإنه لا يرضى بغير زوال النعمة ولذا قالوا: كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد وإن الله تعالى عجّل عقوبة الحاسد، وذلك: حزن قلبه بسلامة محسوده فالنعمة للمحسود نقد والوحشة للحاسد نقد «3» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 51] قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) المؤمن لا تلحقه شماتة عدوّه لأنه ليس يرى إلا مراد وليّه، فهو يتحقق أنّ ما يناله مراد مولاه فيسقط عن قلبه ما يهواه، ويستقبله بروح رضاه فيعذب عنده ما كان يصعب من بلواه، وفى معناه أنشدوا: إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما لجرح- إذا أرضاكم- ألم   (1) وردت (حيث) وهى خطأ فى النسخ. [ ..... ] (2) مشتبهة. (3) أي جزاء معجل فى هذه الدنيا فعند القشيري اصطلاحان: نقد (هنا في الدنيا) ، ووعد (في الآخرة) والسياق يؤدى إلى أن الجزاءين نقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 ويقال شهود جريان التقدير يخفف على العبد تعب كلّ عسير. قوله: «هُوَ مَوْلانا» : تعريف للعبد أن له- سبحانه- أن يفعل ما يريد، لأنه تصرف مالك الأعيان فى ملكه، فهو يبدى ويجرى ما يريد بحقّ حكمه. ثم قال: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» : وأول التوكل الثقة بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيان أمورك بما يغلب على قلبك من أذكاره. ويقال التوكل سكون السّرّ عند حلول الأمر ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوّ والمرّ، والنعمة والمحنة. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) بيّن الله فى هذه الآية الفرق بين المؤمنين وبين الكفار، فقال قل للذين ينتظرون: أيها الكفار (إن كان «1» ) من شأن المؤمنين وقوع الدائرة عليهم فى القتال، أو أنّ القتل ينالهم فأىّ واحد من الأمرين ينالهم فهو لهم من الله نعمة لأنّا إن ظفرنا بكم فنصر وغنيمة، وعزّ للدّين ورفعة، وإن قتلنا فشهادة ورحمة، ورضوان من الله وزلفى. وإن كان الذي يصيبنا فى الدنيا هزيمة ونكبة، فذلك موجب للأجر والمثوبة، فإذا لن يستقبلنا إلا ما هو حسني ونعمة. وأمّا أنتم، فإن ظفرنا بكم فتعجيل لذلّكم ومحنة، وإن قتلتم فعقوبة من الله وسخطة، وإن كانت اليد لكم فى الحال فخذلان من الله، وسبب عذاب وزيادة نقمة. ويقال «هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» إمّا قيام بحقّ الله فى الحال فنكون بوصف الرضاء وهو- فى التحقيق- الجنّة الكبرى، وإمّا وصول إلى الله تعالى فى المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى فى العقبى وهى الكرامة العظمى.   (1) سقطت (إن كان) والمعنى يتطلبهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 53] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) المردود لا يقبل منه توصّل «1» ، ولا يغيّر حكم شقاوته بتكثير التكلّف والتعمل. ويقال تقرّب العدوّ يوجب زيادة المقت له، وتحبّب الحبيب يقتضى زيادة العطف عليه، قال تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «2» قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 54] وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فقدوا الإخلاص فى أموالهم فعدموا الاختصاص فى أحوالهم، وحرموا الخلاص فى عاجلهم وفى مآلهم. قوله: «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» : من أطاع من حيث العادة- من غير أن تحمله عليها لوعة الإرادة- لم يجد لطاعته راحة وزيادة. ويقال من لاحظ الخلق فى الجهر من أعماله، وركن إلى الكسل فى السّرّ من أحواله فقد وسم بالخذلان، وختم بالحرمان، وهذه هى أمارة الفرقة والقطيعة، قال تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «3» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 55] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) .   (1) لا نستبعد أنها تكون (توسل) بدليل ما بعدها، والمراد يحتمل كليهما. (2) آية 70 سورة الفرقان. (3) آية 54 سورة آل عمران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 بيّن أن ما حسبوه نعمة واعتدّوه من الله منّة فهو- فى التحقيق- محنّة، وسبب شقاء وفرقة، وإنما دسّ التقدير لهم سموم الصّاب، فيما استلذوه من الشراب «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 56] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) التّقرّب بالأيمان الفاجرة لا يوجب للقلوب إلا بعدا عن القبول. ويقال إنّ إظهار التلبيس لا ( ... ) «2» الأسرار بردّ السكون، ولا يشفى البصائر بردّ الثقة واليقين.. فما لا يكون فلا يكون بحيلة أبدا، وما هو كائن سيكون. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 57] لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) إن المماذق «3» فى الخلّة ينسلّ عن سلكها بأضعف خلّة، وإن وجد مهربا آوى إليه، ويأمل أن ينال فرصة ما يتعلّل بها عند ذلك. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 58] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) أولئك أصحاب الأطماع يتملقون فى الظاهر ما دامت الأرفاق واصلة إليهم، فإن انقطعت انقلبوا كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة. ويقال من كان رضاؤه يوجدان سبب، وسخطه فى عدم ما يوصّله إلى نصيبه فهو ليس من أهل الولاء، إنما هو قائم بحظّه، غير صالح للصحبة، وأمّا المتحقّق فكما قيل: فسرت إليك فى طلب المعالي ... وسار سواى فى طلب المعاش قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 59] وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)   (1) آية 56 سورة المؤمنون (2) مشتبهة. (3) مذق فلان فى الود أي لم يخلص، والمذاق الكذوب الملول. والمقصود أن من لم يخلص فى مودته يتنصل بأضعف صفة ولأقل شىء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 لو وقفوا مع الله بسرّ الرضا لأتتهم فنون العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله- عند الوجدان «1» - ما لهم من الأدب، من غير معاناة تعب، ولا مقاساة نصب.. ولكنّهم عرّجوا فى أوطان الطمع فوقعوا فى الذّلّ والحرب. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) «2» تكلّم الفقهاء فى صفة الفقير، والفرق بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه فى قسمة الزكاة المفروضة.. فأبو حنيفة رحمة الله عليه- يقول: المسكين الذي لا شىء له. والفقير الذي له بلغة من العيش. ويقول الشافعي رحمة الله عليه: الفقير الذي لا شىء له، والمسكين الذي له بلغة من العيش- أي بالعكس. وأهل المعرفة اختلفوا فيه فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء وذلك لأن كلّ واحد منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه. فمن أهل المعرفة من رأى أنّ أخذ الزكاة المفروضة أولى، قالوا إن الله تعالى جعل ذلك ملكا للفقير، فهو أحلّ له مما يتطّوع به عليه. ومنهم من قال: الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى من أن يزاحموا أرباب السهمان- مع احتياجهم أخذ الزكاة- وقالوا: نحن آثرنا الفقر اختيارا. فلم نأخذ الزكاة المفروضة؟   (1) أي عند وجود النعمة (2) نلفت النظر إلى أهمية موقف القشيري عند استخراج إشارات من هذه الآية الكريمة، فقد كانت فرصة جيدة لكى يقارن بين نظرة الفقهاء ونظرة الصوفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ثم على مقتضى أصولهم فى الجملة- لا فى أخذ الزكاة- للفقر مراتب: أوّلها الحاجة ثم الفقر ثم المسكنة فذو الحاجة من يرضى بدنياه وتسدّ الدنيا فقره، والفقير من يكتفى بعقباه وتجبر الجنة فقره، والمسكين من لا يرضى بغير مولاه لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين» «1» وقال صلى الله عليه وسلم «أعوذ بك من الفقر» لأن عليه بقية «2» فهو ببقيته محجوب عن ربّه. ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شىء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بلغة ليتفرّغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة لأنه إذا لم تكن له بلغة شغله فقره عن أداء حقّه، ولذلك استعاذ منه. وقوم سمت همهم عن هذا الاعتبار- وهذا أولى بأصولهم- فالفقير الصادق عندهم من لاسماء تظله ولا أرض تقلّه ولا معلوم يشغله، فهو عبد بالله لله، يردّه إلى التمييز فى أوان العبودية، وفى غير هذا الوقت فهو مصطلم عن شواهده، واقف بربّه، منشق عن جملته. ويقال الفقير من كسرت فقاره- هذا فى العربية. والفقير- عندهم «3» - من سقط اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست- لاستيلاء من اصطلمه- آثاره، فكأنه لم تبق منه إلا أخباره، وأنشدوا: أمّا الرسوم فخبّرت أنهم رحلوا قريبا ويقال المسكين هو الذي أسكنه حاله بباب مقصوده، لا يبرح عن سدّته، فهو معتكف بقلبه، لا يغفل لحظة عن ربّه.   (1) الترمذي، وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري، والحاكم وقال صحيح الإسناد، ورواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت. (2) التفت السهروردي إلى ذلك حين ميز بين الفقير والصوفي فقال إن الفقير يتطلع إلى الأعواض، أما الصوفي فيترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته، والفقير له إرادة فى اختيار فقره، أما الصوفي فلا إرادة بنفسه ولكن فيما يوقفه الحق (عوارف المعارف ص 42) . (3) أي عند أرباب الأحوال. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وأمّا «العاملون عليها» فعلى لسان العلم: من يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة. وعلى لسان الإشارة: أولى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة من صدق فى أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عوضا، ولا يتطلبون فى مقابلة أحوالهم عرضا، وأنشدوا: وما أنا بالباغى على الحب رشوة ... قبيح هوىّ يرجى عليه ثواب «1» وأمّا المؤلّفة قلوبهم- على لسان العلم- فمن يستمال قلبه بنوع إرفاق معه، ليتوفّر فى الدين نشاطه فلهم من الزكاة سهم استعطافا لهم، وبيان ذلك مشهور فى مسائل الفقه. وحاشا أن يكون فى القوم «2» من يكون حضوره بسبب طمع أو لنيل ثواب أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال.. فذلك فى صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا. من لم يكن بك فانيا عن حظه ... وعن الهوى والإنس والأحباب أو تيمته صبابة جمعت له ... ما كان مفترقا من الأسباب. فلأنّه بين المراتب واقف ... لمنال حظّ أو لحسن مآب «3» قوله جل ذكره: وَفِي الرِّقابِ وهم على لسان العلم: المكاتبون، وشرحه فى مسائل الفقه معلوم. وهؤلاء «4» لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم فى الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزّهم طلب، فمن كان به بقية من هذه الجملة فهو عبد لم يتحرر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأنشد بعضهم: أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاى طلعة حرّ قوله جل ذكره: وَالْغارِمِينَ وهم على لسان العلم: من عليهم دين فى غير معصية.   (1) البيت للمتنبى من بائيته التي أولها: منى كن لى أن البياض خضاب. (2) القوم هنا مقصود بها أرباب الأحوال. (3) الأبيات لأبى على الروذبارى (اللمع ص 435) (4) وهؤلاء هنا مقصود بها أيضا ارباب الأحوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وهؤلاء القوم لا يقضى عنهم ما لزمهم امتلاك الحق «1» ، ولهذا قيل المعرفة غريم لا يقضى دينه. قوله جل ذكره: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وعلى لسان العلم: من سلك سبيل الله وجب له فى الزكاة سهم على ما جاء بيانه فى مسائل الفقه. وفى هذه الطريقة: من سلك سبيل الله تتوجّب عليه المطالبات فيبذل أولا ماله ثم جاهه ثم نفسه ثم روحه.. وهذه أول قدم فى الطريق. قوله جل ذكره: وَابْنِ السَّبِيلِ وهو على لسان العلم: من وقع فى الغربة، وفارق وطنه على أوصاف مخصوصة. وعند القوم: إذا تغرّب العبد عن مألوفات أوطانه فهو فى قرى «2» الحقّ فالجوع طعامه، والخلوة مجلسه، والمحبة شرابه، والأنس شهوده، والحقّ- تعالى- مشهوده. قال تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» «3» : لقوم وعد فى الجنة، ولآخرين نقد فى الوقت اليوم شراب المحابّ وغدا شراب الثواب، وفى معناه أنشدوا: ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا وأخرس لم ينطق ثلاثين حجّة ... أدرنا عليه الكأس يوما فأخبرا قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) عين العداوة بالمساوئ موكّلة، وعين الرضا عن المعايب كليلة. بسطوا اللائمة فى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله،   (1) أي أن دينهم ليس يقضى أبدا إذ أمرهم بيد مالكهم. (2) القرى- الضيافة والإكرام. (3) آية 21 سورة الإنسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فقالوا: إنه بحسن خلقه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام: «المؤمن غرّ كريم والمنافق خبّ لئيم» «1» قوله جل ذكره: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وقيل: من العاقل؟ قالوا: الفطن المتغافل. وفى معناه أنشدوا: وإذا الكريم أتيته بخديعة ... ولقيته فيما تروم يسارع فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا ... إنّ الكريم- بفضله- يتخادع قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أخبر أنّ من تزيّن للخلق، وتقرّب إليهم وأدام رضاهم، واتّبع فى ذلك هواهم، فإن الله سبحانه يسقط به عن الخلق جاههم، ويشينهم فيما توهموا أنه يزينهم، والذي لا يضيع ما كان لله، فأمّا ما كان لغير الله فوبال لمن أصابه، ومحال ما طلبه. ويقال إنّ الخلق لا يصدقونك وإن حلفت لهم، والحقّ يقبلك وإن تخلّفت عنه فالاشتغال بالخلق محنة أنت غير مأجور عليها، والإقبال على الحقّ نعمة أنت مشكور عليها. والمغبون من ترك ما يشكر عليه ويؤثر ما لا يؤجر عليه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 63] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)   (1) فى رواية الترمذي والحاكم عن أبى هريرة «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم» (والخبّ- الخدع) وفى الحديث: «لا يدخل الجنة خب ولا خائن» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 من كفر بالله وأشرك فى توحيده بإثبات موهوم استحق ما هو حقّ لله: تعجّل عقوبته فى الحال بالفرقة، وفى المال بالخلود فى الحرقة. فليس كلّ من مني «1» بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا: غدا يتفرّق أهل الهوى ... ويكثر باك ومسترجع قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) ظنّوا أنّ الحقّ- سبحانه- لا يفضحهم، فدلّوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى «2» الله- سبحانه- عنان إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم ففضحهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بخمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامن الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار! «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «3» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 65] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) من استهان بالدّين، ولم يحتشم من ترك حرمة الإسلام جعله الله فى الحال نكالا، وسامه فى الآخرة صغرا وإذلالا، والحقّ- سبحانه- لا يرضى دون أن يذيق العتاة بأسه، ويسقى كلا- على ما يستوجبه- كأسه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 66] لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ   (1) وردت (مسنى) وهى خطا فى النسخ وربما كانت (مسته) (2) وردت (فأرضى) وهى خطأ فى النسخ. (3) آية 54 سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 «1» جرّد العفو والعذاب من علّة الجرم، وسبب الفعل من حجّة العبد حيث أحال الأمر على المشيئة.. إذ لو كان الموجب لعفوه أو تعذيبه صفة العبد لسوّى بينهم عند تساويهم فى الوصف، فلمّا اشتركوا فى الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذّب بعضهم دلّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصّ من يشاء بما يشاء «2» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 67] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) المؤمن بالمؤمن يتقوّى، والمنافق بالمنافق يتعاضد، وطيور السماء على ألّافها تقع. فالمنافق لصاحبه أسّ «3» به قوامه، وأصل به قيامه بعينه على فساده، ويعمّى عليه طريق رشاده. والمؤمن ينصر المؤمن ويبّصره عيوبه، ويبّغض لديه ويقبّح- فى عينه- ذنوبه، وهو على السداد ينجده، وعن الفساد يبعده. قوله جل ذكره: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ. عن طلب الحوائج من الله تعالى قوله جل ذكره: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ. جازاهم على نسيانهم، فسمّى جزاء النسيان نسيانا.. تركوا طاعته، وآثروا مخالفته، فتركهم وما اختاروه لأنفسهم، قال تعالى: «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» .   (1) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية: (بأنهم كانوا مجرمون) . (2) هذه لفتة هامة تشير إلى المذهب الكلامى عند القشيري فيما يتصل بوجوب الإثابة أو العقوبة على الله وعدم وجوبهما. (3) الأس بفتح الألف وضعها وكسرها: أصل البناء. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 68] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) وعدهم النار فى الآخرة، ولهم العذاب المقيم فى الحاضرة، فمؤجّل عذابهم الحرقة، ومعجّله الفرقة. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 69] كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) يقال: سلكتم طريق من قبلكم من الكفار وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق فى كثرة المدّة وقوة العدّة، والاستمتاع فى الدنيا، والاغترار بالانخراط فى سلك الهوى.. ولكن لم تدم فى الراحة مدّتهم، ولم تغن عنهم يوم الشدّة عدّتهم، وعما قريب يلحق بكم ما لحق بالذين هم قبلكم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 70] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 ألم ينته إليهم خبر القرون الماضية، ونبأ الأمم الخالية كيف دمّرنا عليهم جمعهم، وكيف بدّدنا شملهم؟ قضينا فيهم بالعدل، وحكمنا باستئصال الكلّ، فلم يبق منهم نافخ نار، ولم يحصلوا إلّا على عار وشنار. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 71] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) يعين «1» بعضهم بعضا على الطاعات، ويتواصون بينهم بترك المحظورات فتحابّهم فى الله، وقيامهم بحقّ الله، وصحبتهم لله، وعداوتهم لأجل الله تركوا حظوظهم لحقّ الله، وآثروا على هواهم رضاء الله. أولئك الذين عصمهم الله فى الحال، وسيرحمهم فى المال. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) وعدهم جميعا الجنة، ومساكن طيبة، ولا يطيب المسكن إلا برؤية المحبوب، وكلّ محب يطيب مسكنه برؤية محبوبه، ولكنهم مختلفون فى الهمم فمن مربوط بحظّ مردود إلى الخلق، ومن مجذوب بحقّ موصول بالحق، وفى الجملة الأمر كما يقال:   (1) وردت (يعنى) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتم عنها ونحن حضور! ويقال قوم يطيب مسكنهم بوجود عطائه، وقوم يطيب مسكنهم بشهود لقائه، وأنشدوا: وإنّى لأهوى الدار لا يستقرّ لى ... بها الودّ إلا أنّها من دياركا ثم قال: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» : وأمارة أهل الرضوان وجدان طعمه فهم فى روح الأنس، وروح الأنس لا يتقاصر عن راحة دار القدس بل هو أتمّ وأعظم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) دعا نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كافة الخلق إلى حسن الخلق. قال لموسى عليه السلام: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» «1» . وقال لنبيّنا- صلى الله عليه وسلم-: «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» «2» ويقال إنما قال هذا بعد إظهار الحجج، وبعد ما أزاح عذرهم بأيام المهلة ففى الأول أمره بالرّفق حيث قال: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» «3» ، فلما أصروا واستكبروا أمره بالغلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إن حصل من العدوّ جحد بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إن لم ينجع الكلام ولم ينفع الملام فالقتال والحرب وبذل الوسع فى الجهاد. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 74] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)   (1) آية 44 سورة طه. (2) آية 9 سورة التحريم. (3) آية 46 سورة سبأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 تستّروا بأيمانهم فهتك الله أستارهم وكشف أسرارهم. قوله: «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ» : وهى طعنهم فى نبوّة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم. وكلّ من وصف المعبود بصفات الخلق أو أضاف إلى الخلق ما هو من خصائص نعت الحقّ فقد قال كلمة الكفر. قوله جل ذكره: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أظهروا من شعار الكفر ما دلّ على جحدهم بقلوبهم بعد ما كانوا يظهرون الموافقة والاستسلام وهمّوا بما لم ينالوا من قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوّلت أنفسهم أنه يخرج الأعزّ منها الأذلّ، وغير ذلك. يقال تمنوا زوال دولة الإسلام فأبى الله إلا إعلاء أمرها. ثم قال: «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» : أي ما عابوه إلا بما هو أجلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه. قوله جل ذكره: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وأقوى أركان التوبة حلّ عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقّ الأمر على وجه الاستقصاء. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 76] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 منهم من أكّد العقد مع الله، ثم نقضه، فلحقه شؤم ذلك فبقى خالدا فى نفاقه. ويقال تطلّب إحسان ربّه، وتقرّب إليه بإبرام عهده فلمّا حقّق الله مسئوله واستجاب مأموله، فسخ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البخل، فضنّ بإخراج حقه، فلحقه شؤم نفاقه، بأن بقي إلى الأبد فى أسره. وحدّ البخل- على لسان العلم- منع الواجب. وبخل كلّ أحد على ما يليق بحاله، وكلّ من آثر شيئا من دون رضاء ربّه فقد اتصف ببخله، فمن يبخل بماله تزل عنه البركة حتى يئول إلى وارث أو يزول بحارث. ومن يبخل بنفسه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحة حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحه عنه يعاقب بالخذلان حتى تكون حياته سببا لشقائه. قوله جلّ ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 77] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أعقبهم ببخلهم نفاقا فى قلوبهم، ويصحّ أعقبهم الله نفاقا فى قلوبهم، وفى الجملة: من نقض عهده فى نفسه رفض الودّ من أصله، وكلّ من أظهر فى الجملة خيرا واستبطن شرا فقد نافق بقسطه. والمنافق فى الصف الأخير فى دنياه، وفى الدّرك الأسفل من النار فى عقباه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 78] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) خوّفهم بعلمه كما خوّفهم بفعله فى أكثر من موضع من كتابه. و «سِرَّهُمْ» مالا يطلع عليه غير الله. و «نَجْواهُمْ» ما يتسارّون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكون ما لنفوسهم عليه إشراف من خواطرهم»   (1) يقول القشيري فى رسالته فى معنى «السر» هو محل المشاهدة كما ان الأرواح محل للمحبة والقلوب محل للمعارف. وقالوا السر ما لك عليه إشراف، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 79] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) عابوا الذين قصرت أيديهم عن الإكثار فى الصدقة وجادوا بما وصلت إليه أيديهم، فشكر الله سعى من أخلص فى صدقته بعد ما علم صدقه فيها. وقليل أهل الإخلاص أفضل من كثير أهل النفاق. ولمّا أوجدوا «1» المسلمين بسخريتهم وصف الله- سبحانه وتعالى- نفسه بما يستحيل فى وصفه- على التحقيق- وهو السخرية بأحد.. تطبيبا لقلوب أوليائه، فقد تقدّس عن ذلك لعزّة ربوبيته. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 80] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) ختم القضايا بأنّه لا يغفر لأهل الشرك والنفاق، فلا تنفعهم الوسائل، ولا ينتعش منهم الساقط. ويقال من غلبته شقوتنا لم ينفعه (تضرعه) «2» ودعوته. ويقال صريع القدرة لا ينعشه الجهد والحيلة.   (1) (أوجدوا) أي سببوا لهم حفيظة وألما. (2) وردت (تضر) بعدها عين مغلقة وهاء ساقطة وقد أكملناها (تضرعه) لملاءمتها للسياق، ولانسجامها مع (دعوته) بمعنى دعائه واستغفاره لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) استحوذ عليهم سرورهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورهم فى تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج فى صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحة بما عاقبهم، وسيصلون سعيرا فى الآخرة بما قدّموه من نفاقهم، وسوف يتحسرّون ولات حين تحسّر. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 82] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) بدّل الله مسرّتهم بحسرة، وفرحتهم بترحة، وراحتهم بعبرة، حتى يكثر بكاؤهم فى العقبى كما كثر ضحكهم فى الدنيا، وذلك جزاء من كفر بربه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) يقول: بعد ما ظهرت خيانتهم، وتقرر كذبهم ونفاقهم، لا تنخذع بتملقهم، ولا تثق بقولهم، ولا تمكّنهم من صحبتك فيما يظهرونه من وفاقك «1» . فإذا وهن سلك العهد فلا يحتمل بعده الشّدّ، وإذا اتسع الخرق لا ينفع بعده الرّقع. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 84] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)   (1) سقطت الواو من (وفاقك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 «1» ليس بعد التّبرّى التولي، ولا بعد الفراق الوفاق، ولا بعد الحجبة قربة. مضى لهم من الزمان ما كان لأملهم فيه فسحة، أو لرجائهم مساغ، أو لظنّهم تحقيق، ولكن سبق لهم القضاء بالشقاوة، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 85] وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) يقول لا تحسبنّ تمكين أهل النّفاق من تنفيذ مرادهم، وتكثير أموالهم إسداء معروف منّا إليهم، أو إسباغ إنعام من لدّنا عليهم، إنما ذلك مكر بهم، واستدراج لهم، وإمهال لا إهمال. وسيلقون غبّه «2» عن قريب. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 86] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) إذا توجّه عليهم الأمر بالجهاد، واشتدّ عليهم حكم الإلزام، تعلّلوا إلى السّعة «3» ، وركنوا إلى اختيار الدّعة واحتالوا فى موجبات التّخلّف، أولئك الذين خصّهم «4» بخذلانه، وصرف قلوبهم عن ابتغاء رضوانه.   (1) وقع الناسخ فى خطأ حين نقل الآية إذ كتب بعد (ورسوله) : (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) . وقد صوبنا حسب الآية (84) . (2) وردت (غيه) بالياء وهى خطأ فى النسخ، والصواب (غبه) أي عاقبته. (3) أي إلى نقص وسعهم ومكنتهم. (4) اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فظن الكلمة (خصتهم) بالتاء وهى غير ملائمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 87] رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) بعدوا عن بساط العبادة فاستطابوا الدّعة، ورضوا بالتعريج فى منازل الفرقة، ولو أنهم رجعوا إلى الله تعالى بصدق النّدم لقابلهم بالفضل والكرم، ولكن القضاء غالب، والتكلف ساقط. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 88] لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) ليس من أقبل كمن أعرض وصدّ «1» ، ولا من قبل أمره كمن ردّ، ولا من وحّد كمن جحد، ولا من عبد كمن عند، ولا من أتى كمن أبى ... فلا جرم ربحت تجارتهم، وجلت رتبتهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 89] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) تشير الآية إلى أن راحاتهم موعودة، وإن كانت الأتعاب «2» فى الحال موجودة مشهودة. ويقال صادق يقينهم بالثواب يهوّن عليهم مقاساة ما يلقونه- فى الوقت- من الأتعاب. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)   (1) وردت (سد) بالسين والصواب (صد) لتلائم أعرض. (2) اشتبهت على الناسخ فظنها (الألقاب) والصواب الأتعاب لتقابل (راحلتهم) ، ثم إنها تكررت فيما بعد قليل. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وهم أصحاب الأعذار- فى قول أهل التفسير- طلبوا الإذن فى التأخر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك فسقط عنهم الّلوم. أما الذين تأخروا بغير عذر فقد توجّه عليهم اللوم، وهو لهم فى المستقبل الوعيد. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 91] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) قيمة الفقر تظهر عند سقوط الأمر، ولو لم يكن فى القلة خير إلا هذا لكفى لهذا بهذا فضيلة بقوا فى أوطانهم ولم يتوجّه عليهم بالجهاد أمر، ولا بمفارقة المنزل امتحان. واكتفى منهم بنصيحة القلب، واعتقاد أن لو قدروا لخرجوا. وأصحاب الأموال امتحنوا- اليوم- يجمعها ثم بحفظها، ثم ملكتهم محنتها حتى شقّت عليهم الغيبة عنها، ثم توجّه اللوم عليهم فى ترك إنفاقها، ثم ما يعقبه- غدا- من الحساب والعذاب يربو على الجميع. وإنّما رفع الحرج عن أولئك «1» بشرط وهو قوله: «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فإذا لم يوجد هذا الشرط فالحرج غير مرتفع عنهم. قوله: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» : المحسن الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا فى حقّ الله ولا فى حقّ الخلق «2» .   (1) فى النسخة (هؤلاء) وقد آثرنا أن نضع (أولئك) لينصرف الكلام إلى الطائفة الأولى أي الضعفاء والمرضى وأصحاب العذر. (2) لأنه قد استوفى جميع المطالبات ولم يتبق عليه شىء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ويقال هو الذي يعلم أنّ الحادثات كلّها من الله تعالى. ويقال هو الذي يقوم بحقوق ما نيط به أمره فلو كان طير فى حكمه وقصّر فى علفه- لم يكن محسنا. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 92] وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) منعهم الفقر عن الحراك فالتمسوا من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم معه ويهبىء أسبابهم، ولم يكن فى الحال للرسول عليه السلام سعة ليوافق سؤلهم، وفى حالة ضيق صدره- صلى الله عليه وسلم- حلف إنه لا يحملهم، ثم رآهم صلى الله عليه وسلم يتأهبون للخروج، وقالوا فى ذلك، فقال عليه السلام: إنما يحملكم الله. فلمّا ردّهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الإجابة فى أن يحملهم رجعوا عنه بوصف الخيبة كما قال تعالى: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» كما قال قائلهم: قال لى من أحبّ والبين قد ... حلّ ودمعى مرافق لشهيقى ما ترى فى الطريق تصنع بعدي؟ قلت: أبكى عليك طول الطريق قوله: «حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» شقّ عليهم أن يكون على قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسببهم شغل فتمنّوا أن لو أزيح هذا الشغل، لا ميلا إلى الدنيا ولكن لئلا تعود إلى قلبه- عليه السلام- من قبلهم كراهة، ولهذا قيل: من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج ممجج مملول ثم إنّ الحقّ- سبحانه- لمّا علم ذلك منهم، وتمحضت قلوبهم للتعلّق بالله، وخلت عقائدهم عن مساكنة مخلوق تدارك الله أحوالهم فأمر الله رسوله عليه السلام أن يحملهم.. بذلك جرت سنّته، فقال: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» «1»   (1) آية 28 سورة الشورى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 93] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يريد السبيل بالعقوبة والملامة على الذين يتأخرون عنك فى الخروج إلى الجهاد ولهم الأهبة والمكنة، وتساعدهم على الخروج الاستطاعة والقدرة فإذا استأذنوك للخروج وأظهروا «1» لم يصدقوا، فهم مستوجبون للنكير عليهم، لأنّ من صدق فى الولاء لا يحتشم من مقاساة العناء، والذي هو فى الولاء مماذق وللصدّق مفارق يتعلّل بما لا أصل له، لأنه حرم الخلوص فيما هو أهل له، وكذا قيل: إنّ الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا قوله جل ذكره: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قيل فى التفسير: مع النساء فى البيوت. والإسلام يثنى على الشجاعة، وفى الخبر: إن الله تعالى يحب الشجاعة، ولو على قتل حية، وفى معناه أنشدوا. كتب القتل والقتال «2» علينا وعلى المحصنات جرّ الذّيول ومن استوطن مركب الكسل، واكتسى لباس الفشل، وركن إلى مخاريق الحيل حرم استحقاق القربة. ومن أراد الله- تعالى- هو انه، وأذاقه خذلانه، فليس له عن حكم الله مناص. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 94] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)   (1) ربما سقطت هنا «العذر» فهى مطلوبة للسياق. (2) وردت (القتل والقتل) والصواب (القتل والقتال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 أراد إذا تقوّلوا بما هم فيه كاذبون، وضللوا عما كانوا فى تخلفهم به يتّصفون- فأخبروهم أنّا عرّفنا الله كذبكم فيما تقولون، واتضحت لنا فضائحكم، وتميّز- بما أظهره الله لنا- سيّئكم وصالحكم، فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه شىء من أحوالكم، وستلقون غبّ أعمالكم فى آجلكم «1» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 95] سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يريد أنهم فى حلفهم بالله لكم أن يدفع السوء من قبلكم، وليس قصدهم بذلك خلوصا فى اعتذارهم، ولا ندامة على ما احتقبوه من أوزارهم، إنما ذلك لتعرضوا عنهم ... فأعرضوا عنهم فإنّ ذلك ليس بمنجيهم مما سيلقونه غدا من عقوبة الله لهم، فإنّ الله يمهل العاصي حتى يتوهّم أنه قد تجاوز عنه، وما ذلك إلا مكر عومل به، فإذا أذاقه ما يستوجبه علم أن الأمر بخلاف ما ظنه، وما ينفع ظاهر مغبوط، والحال- فى الحقيقة- يأس من الرحمة وقنوط، وفى معناه قالوا: وقد حسدونى فى قرب دارى منهم ... وكم من قريب الدار وهو بعيد! قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 96] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) من كان مسخوط الحقّ لا ينفعه أن يكون مرضىّ الخلق، وليست العبرة بقول غير الله إنّما المدار على ما سبق من السعادة فى حكم الله. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 97] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)   (1) وردت (غب أعمالكم فى أعمالكم) والصواب (فى آجلكم) لأن الآية تشير لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 جبلت قلوبهم على القسوة فلم تقرعها هواجم الصفوة، وكانوا عن أشكالهم فى الخلقة مستأخرين بما ( ... ) «1» من سوء الخلق فهم من استبانة الحقائق أبعد، ومن استيجاب الهوان أقرب. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 98] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) خبثت عقائدهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المحن بهم، فأبى الله إلا أن يحيق بهم مكرهم، ولهذا قيل فى المثل: إذا حفرت لأخيك فوسّع فربما يكون ذلك مقيلك! ويقال من نظر إلى ورائه يوفّق فى كثير من تدبيره ورأيه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 99] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) تنوّعوا فمنهم من غشّ ولم يربح، ومنهم من نصح فلم ليخسر، فأمّا الذين مذقوا فهم فى مهواة هوانهم، وأما الذين صدقوا ففى روح إحسانهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 100] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)   (1) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 السابقون مختلفون فمن سابق بصدق قدمه، ومن سابق بصدق هممه. ويقال السابق من ساعدته القسمة بالتوفيق، وأسعدته القضية بالتحقيق، فسبقت له من الله رحمته. ويقال سبقهم بعنايته ثم سبقوا بطاعتهم له. ويقال جمع الرّضاء صفّيهم: السابق منهم واللاحق بهم قال تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» . ويقال ليس اللاحق كالسابق، فالسابق فى روح الطلب، واللاحق فى مقاساة التعب، ومعاناة النّصب، وأنشدوا: السّباق السّباق قولا وفعلا ... حذّروا النّفس حسرة المسبوق ويقال رضاهم عن الله قضية رضاء الله عنهم فلولا أنه رضى عنهم فى آزاله ... فمتى وصلوا إلى رضاهم عنه؟! قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) تشاكل المخلص والمنافق فى الصورة فلم يتميّز بالمباني، وإن تنافيا فى الحقائق والمعاني وتقاصر علمهم عن العرفان فهتك الله لنبيّه أستارهم.. فعرفهم، وهم بإشرافه عليهم جاهلون، وعلى الإقامة فى أوطان نفاقهم مصروفون، فلم ينفعهم طول إمهاله لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ» : الأولى فى الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها فى الآخرة عوض ولا أجر ولا مسرّة، والثانية عذاب القبر. وقيل المرة الأولى بقبض أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يمتحنون بالعذاب الأكبر. ويقال المرة الأولى ظنّهم نهم على شىء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 102] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) إن اتصفوا بعيوبهم فلقد اعترفوا بذنوبهم. والإقرار توكيد الحقوق فيما بين الخلق فى مشاهد الحكم، ولكن الإقرار بحق الله- سبحانه- يوجب إسقاط الجرم فى مقتضى سنّة كرم الحقّ- سبحانه، وفى معناه أنشدوا: قيل لى: قد أساء فيك فلان ... وسكوت الفتى على الضيم عار قلت: قد جاءنى فأحسن عذرا ... دية الذّنب عندنا الاعتذار «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً» : ففى قوله «وَآخَرَ سَيِّئاً» بعد قوله «صالِحاً» دليل على أن الزّلّة لا تحبط ثواب الطاعة إذ لو أحبطته لم يكن العمل صالحا. وكذلك قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» : وعسى تفيد أنه لا يجب على الله شىء فقد يتوب وقد لا يتوب. ولأنّ قوله صدق.. فإذا أخبر أنّه يجيب فإنه يفعل، فيجب منه لا يجب عليه «1» . ويقال قوله: «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً» : يحتمل معناه أنهم يتوبون فالتوبة عمل صالح. وقوله: «وَآخَرَ سَيِّئاً» : يحتمل أنه نقضهم التوبة، فتكون الإشارة فى قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» أنهم إن نقضوا توبتهم وعادوا إلى ما تركوه من زلّتهم فواجب منّا أن   (1) واضح حرص القشيري على مقاومة المعتزلة فيما يتصل بنفي اى وجوب على الله فقد جلت الصمدية عن ذلك، وإن كان يرى أنه يجب منه- سبحانه- الفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 نتوب عليهم، ولئن بطلت- بنقضهم- توبتهم.. لما اختلّت- بفضلنا- توبتنا عليهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 103] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) : تطهرهم من طلب الأعواض عليها، وتزكيهم عن ملاحظتهم إياها. تطهرهم بها عن شحّ نفوسهم، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم فيروا عظيم منّة الله عليهم بوجدان التجرّد منها. «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» : إن تعاشرهم بهمّتك معهم أثمن لهم من استقلالهم بأموالهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 104] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) تمدّح- سبحانه- بقبول توبة العاصين إذ بها يظهر كرمه، كما تمدّح بجلال عزّه ونبّههم على أن يعرفوا به جلاله وقدمه. وكما توحّد باستحقاق كبريائه وعظمته تفرّد بقبول توبة العبد عن جرمه وزلّته. فكما لا شبيه له فى جماله وجلاله لا شريك له فى أفضاله وإقباله يأخذ الصدقات- قلّت أو كثرت، فقدر الصّدقة وخطرها بأخذه لها لا بكثرتها وقلّتها قلّت فى الصورة صدقتهم ولكن لمّا أخذها وقبلها جلّت بقبوله لها، كما قيل: يكون أجاجا- دونكم، فإذا انتهى ... إليكم تلقى طيبكم فيطيب قوله تعالى: [سورة التوبة (9) : آية 105] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 خوّفهم برؤيته- سبحانه- لأعمالهم، فلمّا علم أنّ فيهم من تتقاصر حالته عن الاحتشام لأّطلاع الحقّ قال: «وَرَسُولُهُ» ، ثم قال لمن نزلت رتبته: «وَالْمُؤْمِنُونَ» . وقد خسر من لا يمنعه الحياء، ولا يردعه الاحتشام، وسقط من عين الله من هتك جلباب الحياء، كما قيل: إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير فى وجه إذا قلّ ماؤه ومن لم يمنعه الحياء عن تعاطى المكروهات فى العاجل سيلقى غبّ ذلك، وخسرانه عن قريب فى الآجل. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) لم يصرّح بقبول توبتهم، ولم يسمهم باليأس من غفرانه، فوقفوا على قدم الخجل، متميلين بين الرهبة والرغبة، متردّدين بين الخوف والرجاء. أخبر الله- سبحانه- أنّه إن عذّبهم فلا اعتراض يتوجّه عليه، وإن رحمهم فلا سبيل لأحد إليه، قال بعضهم: ويشبعنى من الآمال وعد ... ومن علمى بتقصيري وعيد قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 107] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) من لم يكن مخلصا فى ولائه لم يأنس القلب بكدّه وعنائه، فتودّده فى الظاهر ينادى عليه بالتوائه، وبقوله بالتكلّف شهادة صدق على عدم صفائه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 من لم يكن للوصال أهلا ... فكلّ إحسانه ذنوب قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 108] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) المقام فى أماكن العصيان، والتعزيج فى أوطان أهل الجحود والطغيان- من علامات الممالأة مع أربابها، وسكّانها وقطّانها. والتباعد عن مساكنهم، وهجران من جنح إلى مسالكهم علم لمن أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سرّه عداوتهم. «فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» : يتطهرون عن المعاصي وهذه سمة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأمانى وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين. قوله «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» : أسرارهم «1» عن المساكنة إلى كل مخلوق، أو ملاحظة كل محدث مسبوق. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 109] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) المريد يجب أن يؤسّس بنيانه على يقين صادق فيما يعتقده، ثم على خلوص فى العزيمة ألا ينصرف قبل الوصول عن الطريق الذي يسلكه، ثم على انسلاخه عن جميع مناه وشهواته، وماربه ومطالبه، ثم يبنى أمره على دوام ذكره بحيث لا يعترضه نسيان، ثم على ملازمة حق المسلمين وتقديم مصالحهم ... بالإيثار على نفسه. والذي ضيّع الأصول   (1) أسرارهم مفعول به لاسم الفاعل «الْمُطَّهِّرِينَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 فى ابتدائه حرم الوصول فى انتهائه، والذي لم يحكم الأساس فى بنائه سقط السّقف على جدرانه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 110] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) عروق النّفاق لا تقتلع من عرصات اليقين إلا بمنجل التّحقّق بصحيح البرهان فمن أيّد لإدامة المسير، ووفّق لتأمل البرهان وصل إلى ثلج الصدر وروح العرفان. ومن أقام على معتاد التقليد لم يسترح قلبه من كدّ التردّد، وظلمة التجويز، وجولان الخواطر المشكلة فى القلب. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 111] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) لمّا كان من المؤمنين تسليم أنفسهم وأموالهم لحكم الله، وكان من الله الجزاء والثواب أي هناك عوض ومعوّض، فلما بين ذلك وبين التجارة من مشابهة أطلق لفظ الاشتراء، وقد قال تعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ... » «1» ، وقال: «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» «2» . وفى الحقيقة لا يصحّ فى وصف الحق- سبحانه- الاشتراء لأنه مالك سواه، وهو مالك الأعيان كلّها. كما أنّ من لم يستحدث ملكا لا يقال إنه- فى الحقيقة- باع.   (1) آية 10 سورة الصف. (2) آية 16 سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وللمقال فى هذه الآية مجال ... فيقال: البائع لا يستحقّ الثمن إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبد الجزاء الموعود إلا بعد تسليم النّفس والمال على موجب أوامر الشرع، فمن قعد أو فرّط فغير مستحق للجزاء. ويقال لا يجوز فى الشرع أن يبيع الشخص ويشترى شيئا واحدا فيكون بائعا ومشتريا إلا إذا كان أبا وجدا! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة فالحقّ بإذنه كانت رحمته بالعبد أتمّ، ونظره له أبلغ، وكان للمؤمن فيه من الغبطة ما لا يخفى، فصحّ ذلك وإن كان حكمه لا يقاس على حكم غيره. ويقال إنما قال: «اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» ولم يقل «قلوبهم» لأنّ النّفس محل الآفات فجعل الجنة فى مقابلتها، وجعل ثمن القلب أجلّ من الجنة، وهو ما يخصّ به أولياء فى الجنة من عزيز رؤيته «1» . ويقال النّفس محلّ العيب، والكريم يرغب فى شراء ما يزهد فيه غيره. ويقال من اشترى شيئا لينتفع به اشترى خير ما يجده، ومن اشترى شيئا لينتفع به غيره يشترى ما ردّ على صاحبه لينفعه بثمنه. وفى بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء- عليهم السلام-: يا بنى آدم، ما خلقتكم لأربح عليكم ولكن خلقتكم لتربحوا علىّ. ويقال اشترى منهم نفوسهم فرهبوا على قلوبهم شكرا له حيث اشترى نفوسهم، وأمّا القلب فاستأثره قهرا، والقهر فى سنّة الأحباب أعزّ من الفضل، وفى معناه أنشدوا: بني الحبّ على القهر فلو ... عدل المحبوب يوما لسمج ليس يستحسن فى حكم الهوى ... عاشق يطلب تأليف الحجج وكان الشيخ أو على الدقاق «2» رحمه الله يقول: «لم يقل اشترى قلوبهم لأن القلوب وقف على محبته، والوقف لا يشترى» .   (1) أنظر كيف تحتل الجنة المرتبة الثانية بعد رؤية المحبوب- عند هذا الصوفي. (2) الدقاق هو شيخ القشيري ورائده وأستاذه وصهره. وقد أشرنا إلى شىء من سيرته فى مدخل هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ويقال الطير فى الهواء، والسّمك فى الماء لا يصحّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما، كذلك القلب ... صاحبه لا يمكنه تسليمه، قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» «1» وفى التوراة: «الجنّة جنتى والمال مالى فاشتروا جنتى بمالى فإن ربحتم فلكم وإن خسرتم فعلىّ» ويقال علم سوء خلقك فاشتراك قبل أن أوجدك، وغالى بثمنك لئلا يكون لك حقّ الاعتراض عند بلوغك. ويقال ليس للمؤمن أن يتعصّب لنفسه بحال لأنها ليست له، والذي اشتراها أولى بها من صاحبها الذي هو أجنبي عنها. ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يدّعى العبد فيها فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يعجب بها «2» . قوله: «فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» سيّان «3» عندهم أن يقتلوا أو يقتلوا، قال قائلهم: وإنّ دما أجريته لك شاكر ... وإنّ فؤادا خرته لك حامد ويقال قال: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ» ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن منّا بيع، وإنما أخبر عن نفسه بقوله «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فجعل بيعه بيعنا، وهذا مثلما قال فى صفة نبيه- صلى الله عليه وسلم-: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» وهذا عين الجمع الذي أشار إليه القوم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 112] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مدحهم بعد ما أوقع عليهم سمة الاشتراء بقوله «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... » ومن رضى بما اشتراه فإنّ له حقّ الردّ إذا لم يعلم العيب وقت الشّراء، فأمّا إذا كان عالما به   (1) آية 24 سورة الأنفال. [ ..... ] (2) لاحظ مدى التقاء القشيري- فيما يتصل بالنفس- بتعاليم أهل الملامة النيسابورية. (3) وردت (شتان) وهى- حسب ما هو واضح- خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فليس له حقّ الردّ قال تعالى: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «1» . ويقال من اشترى شيئا فوجد به عيبا ردّه على من منه اشتراه ولكنه- سبحانه- اشترى نفوسنا منه، فإذا أراد الردّ فلا يردّ إلا على نفسه قال تعالى: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» وكما أنّ الردّ إليه فلو ردّنا كان الردّ عليه. قوله تعالى: «التَّائِبُونَ» أي الراجعون إلى الله، فمن راجع يرجع عن زلّته إلى طاعته، ومن راجع يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومن راجع يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومن راجع يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جنسه إلى الاستغراق فى حقائق حقّه. ويقال تائب يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله فيجد غدا فنون أفضاله، وصنوف لطفه ونواله، وتائب يرجع عن كل غير وضد إلى ربّه بربّه لربّه بمحو كلّ أرب، وعدم الإحساس بكلّ طلب. وتائب يرجع لحظّ نفسه من جزيل ثوابه أو حذرا- على نفسه- من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلبا لفرح نفسه حين ينجو من أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لمّا سمع أنه قال: إنّ الله أفرح بتوبة عبده من الأعرابى الذي وجد ضالّته- كما فى الخبر، وشتّان ما هما! وأنشدوا: أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا وأمّا قوله «الْعابِدُونَ» : فهم الخاضعون بكلّ وجه، الذين لا تسترقّهم كرائم الدنيا، ولا تستعبدهم عظائم العقبي. ولا يكون العبد عبد الله- على الحقيقة- إلا بعد تجرّده عن كل شىء حادث. وكلّ أحد فهو له عبد من حيث الخلقة قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «2» . ولكنّ صاحب العبودية خاصّ، وهو عزيز.   (1) آية 32 سورة الدخان. (2) آية 93 سورة مريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قوله جل ذكره: الْحامِدُونَ هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المثنون عليه عند شهود جلاله وجماله. ويقال الحامدون بلا اعتراض على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباض عما يجب من طاعته. ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه. ويقال الحامدون إذا اشتكى من لا فتوّة «1» له المادحون إذا بكى من لا مروءة له. ويقال الشاكرون له إن أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم. قوله جل ذكره: السَّائِحُونَ الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله. ويقال السائحون الذين يسيحون فى الأرض على جهة الاعتبار طلبا للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم فى مشارق الأرض ومغاربها بالتفكّر فى جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيّرها على منشئها، والتحقق بحكمة خالقها بما يرون من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم فى الملكوت فيجدون روح الوصال، ويعيشون بنسيم الانس بالتحقق بشهود الحق. قوله جل ذكره: الرَّاكِعُونَ الخاضعون لله فى جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلّى، وفى الخبر. «إن الله ما تجلّى لشىء إلا خشع له» . وكما يكون- فى الظاهر- راكعا يكون فى الباطن خاشعا، ففى الظاهر بإحسان الحقّ إليه يحسن تولّيه، وفى الباطن كالعيان للعيان للحقّ بأنوار تجلّيه. قوله جل ذكره السَّاجِدُونَ فى الظاهر بنفوسهم على بساط العبودية، وفى الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية.   (1) سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال: ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: وما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا، وإن منعفا شكرنا (الرسالة ص 115) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 والسجود على أقسام: سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجود عند الشهود إذا تجلّى الحقّ لقلبه سجد بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجود فى حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته. قوله جل ذكره: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ هم الذين يدعون الخلق إلى الله، ويحذّرونهم عن غير الله. يتواصون بالإقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسهم بالتزام الطاعات بحملهم إياها على سنن الاستقامة، وينهون أنفسهم عن اتّباع المنى والشهوات بترك التعريج فى أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة. والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم «1» الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حرّكهم ولا يسكنون إلا إذا سكنهم، ويحفطون مع الله أنفاسهم «2» . قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 113] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) أصل الدين التبرّى من الأعداء، والتولّى للأولياء، والولىّ لا قريب له ولا حميم، ولا نسيب له ولا صديق إن والى فبأمر، وإن عادى فلزجر. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 114] وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)   (1) يكون الفعل (وقف) متعديا مثل: وقف فلانا على الأمر أي أطلعه عليه (الوسيط) (2) مراعاة الأنفاس من الأمور التي شغل بها الصوفية دائما، يقول الجنيد: وما تنفست إلا كنت مع نفسى ... تجرى بك الروح منى في مجاريها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 لما أمر المسلمين بالتبرّى عن المشركين والإعراض عنهم والانقباض عن الاستغفار لهم بيّن أنّ هذا سبيل الأولياء، وطريق الأنبياء عليهم السلام، وأنّ ابراهيم- عليه السلام- وإن استغفر لأبيه فإنما كان من قبل تحقّقه بأنه لا يؤمن، فلمّا علم أنه عدوّ لله أظهر البراءة منه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إنّ الله لا يحكم بضلالكم وذهابكم عن طريق الحقّ باستغفاركم للمشركين إلا بعد ما تبيّن لكم أنكم منهيّون عنه، فإذا علمتم أنكم نهيتم عن استغفاركم لهم فإن أقدمتم على ذلك فحينئذ ضللتم عن الحقّ بفعلكم بعد ما نهيتم عنه ... هذا بيان التفسير للآية، والإشارة فيها أنه لا سلب لعطائه إلا بترك أدب منكم. ويقال من أحلّه بساط الوصلة ما منى بعده بعذاب الفرقة، إلا لمن سلف منه ترك حرمة. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 116] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) الحقّ لا يتجمّل بوجود مملوكاته، ولا يلحقه نقص بعدم «1» مخلوقاته، فقبل أن أوجد شيئا من الحادثات كان ملكا- والملك أكثر مبالغة من المالك- وملكه قدرته   (1) سقطت الميم من (بعدم) فأثبتناها إذ بدونها يضطرب السياق فالمراد (وجود المملوكات وعدمها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 على الإبداع والمعدوم مقدوره ومملوكه، فإذا أوجده فهو فى حال حدوثه مقدوره ومملوكه، فإذا أعدمه خرج عن الوجود ولم يخرج عن كونه مقدورا له. «يُحْيِي وَيُمِيتُ» يحيى من يشاء بعرفانه وتوحيده، ويميت من يشاء بكفرانه وجحوده. ويقال يحيى قلوب العارفين بأنوار المواصلات، ويميت نفوس العابدين بآثار المنازلات. ويقال يحيى من أقبل عليه بتفضّله، ويميت من أعرض عنه بتكبّره. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 117] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) قبل توبتهم، وتاب على نبيّه- صلى الله عليه وسلم- فى إذنه للمنافقين فى التخلف عنه فى غزوة تبوك، وأمّا على المهاجرين والأنصار الذين قد خرجوا معه حين همّوا بالانصراف «1» لما أصابهم من العسرة من الجوع والعطش والإعياء «2» فى غزوة تبوك، كما قال: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» : وتوبته عليهم أنه تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذا سنّة الحقّ- سبحانه- مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، وقاربوا من التّلف، واستمكن اليأس فى قلوبهم من النصر، ووطّنوا أنفسهم على أن يذوقوا البأس- يمطر عليهم سحائب الجود، فيعود عود الحياة بعد يبسه طريّا، ويردّ ورد الأنس عقب ذبوله غضا جنيّا، وتصير أحوالهم كما قال بعضهم: كنّا كمن ألبس أكفانه ... وقرّب النّعش من اللّحد فجال ماء الرّوح فى وحشة ... وردّه الوصل إلى الورد   (1) وردت (الإنصاف) وليس لها معنى فصوبناها (الانصراف) فهو المقصود. (2) وردت (الأعياد) وهى خطأ فى النسخ إذ التبست الهمزة على الناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 تبارك الله سبحانه ما ( ... ) «1» هو بالسرمد قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 118] وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) لمّا صدق منهم اللجاء تداركهم بالشّفاء وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقّ يكوّر نهار اليسر على ليالى العسر، ويطلع شموس المحنة على نحوس الفتنة، ويدير فلك السعادة «2» فيمحق تأثير طوارق النكاية سنّة منه- تعالى- لا يبدّلها، وعادة منه فى الكرم يجريها ولا يحوّلها. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 119] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) يا أيها الذين آمنوا برسل الله، يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب ... كونوا مع الصادقين المسلمين، يا أيها الذين آمنوا فى الحال كونوا فى آخر أحوالكم مع الصادقين أي استديموا الإيمان. استديموا فى الدنيا الصدق تكونوا غدا مع الصادقين فى الجنة. ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم وغيرهم. ويقال الصدق نهاية الأحوال، وهو استواء السّرّ والعلانية، وذلك عزيز. وفى الزّبور: «كذب من ادّعى محبتى وإذا حبّه الليل نام عنّي» .   (1) مشتبهة، والشطر الثاني من البيت الأخير مضطرب الوزن (2) ربما كانت (العناية) لتنسجم مع (الشكاية) لأننا نلحظ اهتمام القشيري بالموسيقى الداخلية فى تركيب فقرات هذه الإشارة، وإن كانت «السعادة» مقبولة فى السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 والصدق- كما يكون فى الأقوال يكون فى الأحوال، وهو أتمّ أقسامه. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 120] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) لا يجوز لهم أن يؤثروا على النبىّ- صلى الله عليه وسلم- شيئا من نفس وروح، ومال وولد وأهل، وليسوا يخسرون على الله وأنّى ذلك..؟ وإنهم لا يرفعون لأجله خطوة إلّا قابلهم بألف خطوة، ولا ينقلون إليه قدما إلا لقّاهم لطفا وكرما، ولا يقاسون فيه عطشا إلا سقاهم من شراب محابّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقة إلا لقّاهم لطفا وإيناسا، ولا ينالون من الأعداء أذىّ إلا شكر الله سعيهم بما يوجب لهم سعادة الدارين! قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 لو اشتغل الكلّ بالتّفقّه فى الدّين لتعطّل عليهم المعاش، ولبقى الكافة عن درك ذلك المطلوب، فجعل ذلك فرضا على الكفاية. ويقال جعل المسلمين على مراتب: فعوامّهم كالرعية للملك «1» ، وكتبة الحديث كخزّان الملك، وأهل القرآن كحفّاظ الدفاتر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للملك إذ الفقيه ( ... ) «2» عن الله، وعلماء الأصول كالقوّاد وأمراء الجيوش، والأولياء كأركان الباب، وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه. فيشتغل قوم يحفظ أركان الشرع، وآخرون بإمضاء الأحكام، وآخرون بالرّد على المخالفين، وآخرون بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقوم مفردون بحضور القلب وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شغل، يراعون مع الله أنفاسهم وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزّهم طلب ولا يهزّهم أرب، فهم بالله لله، وهم محو عما سوى الله «3» . وأمّا الذين يتفقهون فى الدّين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله من كان يفهم عن الله. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) اقرب الأعداء إلى المسلم من الكفار، الذي يجب عليه منازعته هو أعدى عدوّه   (1) فى الهامش (فالناس كلهم خدم للملك) . ولا توجد علامة توضح أنها من المتن، فربما كانت منه وسقطت العلامة، وربما كانت توضيحا من أحد القراء. (2) مشتبهة أقرب ما تكون إلى (يرفع) أو (يوقع) ونرجح الثانية فقد وردت كذلك فى سياق مماثل. [ ..... ] (3) من هذا التصور ندرك شيئا هاما عند القشيري وعند الصوفية الخلص بعامة، فهم لا يتصورون التصوف مذهبا يسود المجتمع بعامة فيكون الناس جميعا متصوفة، بل إن دوره العضوى الهام فى كيان المجتمع محصور في طائفة مخصوصة يمتد اثرها إلى خارج نطاقها، والمقصود (بالشغل) و (الفراغ) أن يكونوا خالصين لله، وليس المقصود البطالة من العمل وعدم السعى للرزق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أي نفسه. فيجب أن يبدأ بمقاتلة «1» نفسه ثم بمجاهدة الكفار، قال عليه السلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «2» . قوله: «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» من حابى عدوّه قهره، وكذلك المريد الذي ينزل عن مطالبات الحقيقة إلى ما يتطلبه من التأويلات فيفسخ عهده، وينقض عقده، وذلك كالرّدّة «3» لأهل الظاهر. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) «4» جعل الله- سبحانه- إنزال القرآن لقوم شفاء. ولقوم شقاء فإذا أنزلت سورة جديدة زاد شكّهم وتحيّرهم، فاستعلم بعضهم حال بعض، ثم لم يزدادوا إلا تحسّرا قال تعالى: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» «5» وأمّا المؤمنون فزادتهم السورة إيمانا فارتقوا من حدّ تأمل البرهان إلى روح البيان، ثم من روح البيان إلى العيان، فالتجويز والتردد و ( .... ) «6» والتحيّر منتفى بأجمعه عن قلوبهم، وشموس العرفان طالعة على أسرارهم، وأنوار التحقيق مالكة أسرارهم، فلا لهم تعب الطلب، ولا لهم حاجة إلى التدبير،   (1) وردت (مقابلة) والملائم بالنسبة للسياق (مقاتلة) هذا العدو. (2) رواه الخطيب فى التاريخ عن جابر (ص 325 ح 2 منتخب كنز العمال بهامش مسند الإمام احمد) هكذا: (قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. مجاهدة العبد هواه) . (3) وردت (الرد) والصواب أن تكون (الردة) ، وقد أوضح القشيري ذلك فى موضع آخر من الكتاب إذ يقول وكما ان المرتد أشد على المسلمين عداوة فكذلك من رجع عن الإرادة الى الدنيا والعادة، فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة وابعد عن أهلها) المجلد الأول: ص 75. (4) ينبغى أن نلحق بهذه الآية الآية التي بعدها «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» لم ترد فى المتن مع أن المصنف يشير إليها فى شرحه. (5) آية 44 سورة فصلت. (6) مشتبهة، ومصححة فى الهامش بطريقة مبهمة وهى فى الكتابة هكذا: (النجث) ، ولا نعرف ضمن آفات العقل كلمة للقشيرى قريبة فى الخط منها، وربما كانت (التعب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ولا عليهم سلطان الفكر. وأشعة شموس العرفان مستغرقة لأنوار نجوم العلم، يقول قائلهم: ولما استبان الصبح أدرك ضوءه ... بإسفاره أنوار ضوء الكواكب قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 126] أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) لم يخل الحقّ- سبحانه- أرباب التكليف من دلائل التعريف، التعريف لهم فى كل وقت بنوع من البيان، والتكليف فى كل أوان بضرب من الامتحان فما لم يزد لهم فى إيضاح البرهان لم يتجدد لهم من الله إلا زيادة الخذلان والحجبة عن البيان. وأمّا أصحاب الحقائق فما للأغيار فى كل عام مرة أو مرتين فلهم فى كل نفس مرة، لا يخليهم الحقّ- سبحانه- من زواجر توجب بصائر، وخواطر تتضمن تكليفات وأوامر «2» قال قائلهم: كأنّ رقيبا منك حلّ بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) تقنّعوا بخمار التلبيس ظانّين أنهم يبقون فى سرّ بتكلفهم والحقّ أبى إلا أن فضحهم، وكما وسمهم برقم النّكرة «1» أطلع أسرار الموحّدين على أحوالهم فعرفوهم على ما هم عليه من أوصافهم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 128] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)   (1) النكرة اسم من الإنكار يقال: كان لى أشد نكرة (الوسيط) . (2) ذلك لأنهم بقيامهم بالحق فلما تبدر منهم أشياء تستدعى الزجر أو الأمر لأنهم دائما يختارون الأشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 جاءكم رسول يشاكلكم فى البشرية، فلما أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباس الرحمة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم، قد وكل هممه بشأنكم، وأكبر همّه إيمانكم. قوله جل ذكره: [سورة التوبة (9) : آية 129] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) أمره أن يدعو الخلق إلى التوحيد، ثم قال: فإنّ أعرضوا عن الإجابة فكن بنا بنعت التجريد. ويقال قال له: يا أيها النبي حسبك الله، ثم أمره بأن يقول حسبى الله .... وهذا عين الجمع، وقوله «فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» فرق ... بل هو جمع الجمع أي: قل، ولكنك بنا تقول، ونحن المتولى عنك وأنت مستهلك فى عين التوحيد فأنت بنا، ومحو عن غيرنا. سورة يونس عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم كلمة سماعها يوجب شفاء كلّ عابد، وضياء كلّ قاصد، وعزاء كلّ فاقد، وبلاء كلّ واجد، وهدوّ كلّ خائف، وسلوّ كل عارف. وأمان كل تائب، وبيان كلّ طالب. قلوب العارفين لا تفرح إلا بسماع بسم الله، وكروب الخائفين لا تبرح إلا عند سماع بسم الله. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) الألف مفتاح اسم «الله» ، واللام مفتاح اسم «اللطيف» والراء مفتاح اسم «الرحيم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 أقسم بهذه الأسماء إن هذا الكتاب هو الموعود لكم يوم الميثاق. والإشارة فيه أنا حققنا لكم الميعاد، وأطلنا لكم عنان الوداد ... وانقضى زمان الميعاد، فالعصاة ملقاة، والأيام بالسرور متلقّاة، فبادروا إلى شرب كاسات المحابّ، واستقيموا على نهج الأحباب. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 2] أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) تعجبوا من ثلاثة أشياء: من جواز البعث بعد الموت، ومن إرسال الرسل إلى الخلق، ثم من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة من بين الخلق. ولو عرفوا كمال ملكه لم ينكروا جواز البعث، ولو علموا كمال ملكه لم يجحدوا إرسال الرّسل إلى الخلق، ولو عرفوا أنّ له أن يفعل ما يريد لم يتعجبوا من تخصيص محمد- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة من بين الخلق، ولكن سدّت بصائرهم فتاهوا فى أودية الحيرة، وعثروا- من الضلالة- فى كل وهدة. وكان الأستاذ أبو على الدّقاق- رحمه الله-. يقول: جوّزوا أن يكون المنحوت من الخشب والمعمول من الصخر «1» إلها معبودا، وتعجبوا أن يكون مثل محمد- صلى الله عليه وسلم- فى جلالة قدره رسولا..!! هذا هو الضلال البعيد. قوله جلّ ذكره: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وهو ما قدّموه لأنفسهم من طاعات أخلصوا فيها، وفنون عبادات صدقوا فى القيام بقضائها. ويقال هو ما قدّم الحقّ لهم يوم القيامة من مقتضى العناية بشأنهم، وما حكم لهم من فنون إحسانه بهم، وصنوف ما أفردهم به من امتنانهم. ويقال: «قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» : هو ما رفعوه من أقدامهم فى بدايتهم فى زمان   (1) وردت (الصفر) بالفاء وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 إرادتهم، فإنّ لأقدام المريدين المرفوعة لأجل الله حرمة عند الله، ولأيامهم الخالية فى حال تردّدهم، ولياليهم الماضية فى طلبه وهم فى حرقة تحيّرهم.. مقادير عند الله. وقيل: من ينس دارا قد تخونها ... ريب الزمان فإنى لست أنساكا وقيل: تلك العهود تشدّها لتحلّها ... عندى كما هى عقدها لم يحلل قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 3] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) لا يحتاج فعله إلى مدّة، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فخلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وتلك الأيام أيضا من جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى. «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أي توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت. وملوكنا إذا أرادوا التجلّى والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم فى ألوان مشاهدهم. فأخبر الحقّ- سبحانه- بما يقرب من فهم الخلق ما ألقى إليهم من هذه الجملة: استوى على العرش، ومعناه اتصافه بعز «1» الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية، تقدّس الجبّار عن الأقطار، والمعبود عن الحدود. «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» : أي الحادثات صادرة عن تقديره، وحاصلة بتدبيره، فلا شريك يعضده، وما قضى فلا أحد يردّه. «ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» : هو الذي ينطق من يخاطبه، وهو الذي يخلق ما يشاء على من يشاء إذا التمس يطالبه. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» : تعريف وقوله: «فَاعْبُدُوهُ» : تكليف فحصول التعريف بتحقيقه، والوصول إلى ما ورد به التكليف بتوفيقه.   (1) وردت (بغير) الصمدية وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) الرجوع يقتضى ابتداء الأرواح قبل حصولها فى الأشباح، فإن لها فى مواطن التسبيح والتقديس إقامة، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبّيه وذويه، كما قيل: أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا ويقال المطيع إذا رجع إلى الله فله الزّلفى، والثواب والحسنى. والعاصي إذا رجع إلى ربّه فبنعت الإفلاس وخسران الطريق فيتلقى لباس الغفران، وحلّة الصفح والأمان، فرحمة مولاه خير له من نسكه وتقواه. قوله: «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» : موعود المطيع الفراديس العلى، وموعود العاصي الرحمة والرّضى. والجنّة لطف الحقّ والرّحمة وصف الحق فاللّطف فعل لم يكن ثم حصل، والنّعت لم يزل «1» . قوله: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» : من كان له فى جميع عمره نفس على وصف ما ابتدأ الحقّ سبحانه به ففى الإشارة: تكون لذلك إعادة، وأنشدوا: كلّ نهر فيه ماء قد جرى فإليه الماء يوما سيعود قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 5] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)   (1) يفرق القشيري في كتابه (التحبير فى التذكير) الذي قمنا بتحقيقه بين صفات الفعل وصفات الذات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 أنوار العقول نجوم وهى للشياطين رجوم، وللعلوم «1» أقمار وهى أنوار واستبصار، وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع، كما قيل: إنّ شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب وكما أن فى السماء كوكبين شمسا وقمرا الشمس أبدا بضيائها، والقمر فى الزيادة والنقصان يستر بمحاقه ثم يكمل حتى يصير بدرا بنعت إشراقه، ثم يأخذ فى النقص إلى أن لا يبقى شىء منه لتمام امتحاقه، ثم يعود جديدا، وكل ليلة يجد مزيدا، فإذا صار بدرا تماما، لم يجد أكثر من ليلة لكماله مقاما، ثم يأخذ فى النقصان إلى أن يخفى شخصه ويتمّ نقصه. كذلك من النّاس من هو متردّد بين قبضه وبسطه، وصحوه ومحوه، وذهابه وإيابه لا فناء فيستريح، ولا بقاء له دوام صحيح، وقيل: كلّما قلت قد دنا حلّ قيدى ... كبلّونى فأوثقوا المسمارا قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 6] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) اختصّ النهار بضيائه، وانفرد الليل بظلمائه، من غير استيجاب لذلك، ومن غير استحقاق عقاب لهذا، وفى هذا دليل على أنّ الردّ والقبول، والمنع والوصول، ليست معلولة بسبب، ولا حاصلة بأمر مكتسب كلّا.. إنها إرادة ومشيئة، وحكم وقضية. النهار وقت حضور أهل الغفلة فى أوطان كسبهم، ووقت أرباب القربة والوصلة لانفرادهم بشهود ربّهم، قال قائلهم: هو الشمس، إلا أنّ للشمس غيبة ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيب والليل لأحد شخصين: أمّا للمحبّ قوقت النّجوى، وأمّا للعاصى فبثّ الشكوى.   (1) وردت (العموم) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود نوع من المقابلة بين (العلوم) والمعارف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) أنكروا جواز الرؤية فلم يرجوها، والمؤمنون آمنوا «1» بجواز الرؤية فأمّلوها. ويقال: لا يرجون لقاءه لأنهم لم يشتاقوا إليه، ولم يشتاقوا إليه لأنهم لم يحبّوه لأنهم لم يعرفوه، ولم يعرفوه لأنهم لم يطلبوه ولن يطلبوه لأنه أراد ألّا يطلبوه، قال تعالى: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «2» . ويقال لو أراد أن يطلبوه لطلبوه، ولو طلبوا لعرفوا، ولو عرفوا لأحبّوا، ولو أحبّوا لاشتاقوا، ولو اشتاقوا لرجوا، ولو رجوا لأمّلوا لقاءه، قال تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» «3» قوله تعالى: «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها» : أصحاب الدنيا رضوا بالحياة الدنيا فحرموا الجنة، والزّهّاد والعّباد ركنوا إلى الجنة ورضوا بها فبقوا عن الوصلة، وقد علم كلّ أناس مشربهم، ولكلّ أحد مقام. ويقال إذا كانوا لا يرجون لقاءه فمأواهم العذاب والفرقة، فدليل الخطاب أن الذي يرجو لقاءه رآه، ومآله ومنتهاه الوصلة واللقاء والزّلفة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) كما هداهم اليوم إلى معرفته من غير ذريعة يهديهم غدا إلى جنته ومثوبته من غير نصير من المخلوقين ولا وسيلة.   (1) من هذا لفهم أن القشيري يؤمن بجواز رؤية الله فى الآخرة، أما رؤيته فى الدنيا فإنه يقول فى الرسالة ص 175: (الأقوى أنه لا تجوز رؤية الله بالأبصار في الدنيا- وقد حصل الإجماع فى ذلك) . [ ..... ] (2) آية 42 سورة النجم. (3) آية 13 سورة السجدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 ويقال أمّا المطيعون فنورهم يسعى بين أيديهم وهم على مراكب طاعاتهم، والملائكة تتلقّاهم والحقّ، قال تعالى: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «1» نحشرهم، والعاصون يبقون منفردين متفرقين، لا يقف لهم العابدون، ويتطوحون فى مطاحات «2» القيامة. والحقّ- سبحانه- يقول لهم: عبادى، إنّ أصحاب الجنة- اليوم- فى شغل عنكم، إنهم فى الثواب لا يتفرّغون إليكم، وأصحاب النار من شدة العذاب لا يرقبون لكم معاشر المساكين. كيف أنتم إن كان أشكالكم وأصحابكم سبقوكم؟ وواحد منهم لأيهديكم فأنا أهديكم. لأنى إن عاملتكم بما تستوجبون ... فأين الكرم بحقنا إذا كنا فى الجفاء مثلهم وهجرناكم كما هجروكم؟ قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 10] دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) قالتهم الثناء على الله، وذلك فى حال لقائهم. وَتَحِيَّتُهُمْ فى تلك الحالة من الله: «سَلامٌ» عليكم «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» : والحمد هاهنا بمعنى المدح والثناء، فيثنون عليه ويحمدونه بحمد أبدىّ سرمدىّ، والحقّ- سبحانه- يحييّهم بسلام أزلىّ وكلام أبدى، وهو عزيز صمدى ومجيد أحدى. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 11] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) أي لو أجبناهم إذا دعوا على أنفسهم عند غيظهم وضجرهم لعجّلنا إهلاكهم، ولكن   (1) آية 85 سورة مريم. (2) المطاح والمطاحة: اسما مكان من طاح، وهو المسلك الوعر المهلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 تحمّلنا ألا نجيبهم، وبرحمتنا عليهم لا نسمع منهم دعاءهم. وربما يشكو العبد بأن الربّ لا يجيب دعاءه، ولو علم أنه ترك إجابته لطفا منه وأنّ فى ذلك بلاء لو أجابه، كما قيل: أناس أعرضوا عنّا ... بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنّهم فينا ... فهلّا أحسنوا الظّنا قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 12] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) إذا امتحن العبد وأصابه الضّرّ أزعجته الحال إلى أن يروم التخلّص مما ناله، فيعلم أنّ غير الله لا ينجيه، فتحمله الضرورة على صدق الالتجاء إلى الله، فإذا كشف الله عنه ما يدعو لأجله شغلته راحة الخلاص عن تلك الحالة، وزايله ذلك الالتياع، وصار كأنه لم يكن فى بلاء قط: كأنّ الفتى لم يعر يوما إذ اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلّا ويقال بلاء يلجئك إلى الانتصاب بين يدى معبودك أجدى لك من عطاء ينسيك ويكفيك عنه. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 13] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) أخبر الحقّ سبحانه بإهلاك الظالمين، كما فى الخبر: «لو كان الظلم بيتا فى الجنّة لسلّط الله عليه الخراب» . والظلم وضع الشيء فى غير موضعه، فإذا وضع العبد قصده- عند حوائجه- فى المخلوقين، وتعلّق قلبه بهم فى الاستعانة، وطلب المأمول فقد وضع الشيء فى غير موضعه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وهو ظلم فعقوبة هذا الظلم خراب القلب، وهو انسداد طريق رجوع ذلك القلب إلى الله لأنه لو رجع إلى الله لأعانة وكفاه، ولكنه يصرّ على تعليق قلبه بالمخلوق فيبقى عن الله، ولا ترتفع حاجته من غيره، وكان من فقره وحاجته فى مصرّة. فإن صار إلى مضرة المذلة والحاجة إلى اللئيم فتلك محنة عظيمة. وعلى هذا القياس إذا أحبّ مخلوقا فقد وضع محبته فى غير موضعها، وهذا ظلم وعقوبته خراب روحه لعدم صفاء ودّه ومحبته لله، وذهاب ما كان يجده من الأنس بالله، إذا بقي عن الله يذيقه الحقّ طعم المخلوقين، فلا له مع الخلق سلوة، ولا من الحقّ إلا الجفوة، وعدم الصفوة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 14] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) عرّفناكم بسرّ من قبلكم، وما أصابهم بسبب ذنوبهم، فإذا اعتبرتم بهم نجوتم، ومن لم يعتبر بما سمعه اعتبر به من تبعه. ويقال أحللنا بهم من العقوبة ما يعتريكم، ومن لم يعتبر بمن سبقه اعتبر به من لحقه. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) إذا اقترحوا عليك بأن تأتيهم بما لم نأمرك به، أو تريّهم ما لم نظهر عليك من الآيات.. فأخبرهم أنّك غير مستقل بك، ولا موكول إليك فنحن القائم عليك، المصرّف لك، وأنت المتّبع لما نجريه عليك غير مبتدع لما يحصل منك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 16] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) قد عشت فيكم زمانا، وعرفتم أحوالى فيما تطلبون منى عليه برهانا «1» ، فما ألفيتمونى ( ... ) «2» بل وجدتمونى فى السداد مستقيما، وللرشاد مستديما، فلولا أنّ الله تعالى أرسلنى، ولما حمّلني من تكليفه أهّلني لما كنت بهذا الشرع آتيا ولا لهذا الكتاب تاليا. «أَفَلا تَعْقِلُونَ» ما لكم تعترضون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟ قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) الكذب فى الشرع قبيح، وإذا كان على الله فهو أقبح. ومن المفترين على الله: الذين يظهرون من الأحوال ما ليسوا فيه صادقين، وجزاؤهم أن يحرموا ذلك أبدا، فلا يصلون إلى شىء. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) ذمّهم على عبادة ما ليس منه ضرّ ولا نفع. فدليل الخطاب يقتضى أن يكون المعبود منه الضّرّ والنفع، ومن فرط غباوتهم أنهم   (1) أي لماذا تطلبون الآن منى برهانا على شىء أنتم عرفتموه عنى من قبل وهو صدقى؟ (2) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 انتظروا فى المآل الشفاعة ممن لا يوجد منه الضّرّ والنّفع فى الحال. ثم أخبر أنهم يخبرون عما ليس على الوجه الذي قالوا معلوما، ولو كان كما قالوا لعلموا أنه سبحانه لا يعزب عن علمه «1» معلوم. ومعنى قوله: «لا يَعْلَمُ» : خلافه. ومن تعلّق قلبه بالمخلوقين فى استدفاع المضارّ واستجلاب المسارّ فكالسالك سبيل من عبد الأصنام إذ المنشئ والموجد للشىء من العدم هو الله- سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وذلك من زمان آدم عليه السلام إلى أن تحاربوا، والحق- سبحانه- سبق قضاؤه بتأخير حسابهم إلى الآخرة، ولذلك لا يجيبهم إلى ما يستعجلونه من قيام القيامة. وإنما اختلفوا لأنّ الله خصّ قوما بعنايته وقبوله، وآخرين بإهانته وإبعاده، ولولا ذلك لما كانت بينهم هذه المخالفة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) أخبر أنه- عليه السلام- فى ستر الغيبة وخفاء الأمر عليه فى الجملة لتقاصر علمه عما سيحدث، فهو فى ذلك بمنزلتهم، إلا فى مواطن التخصيص بأنوار التعريف، فكما أنهم فى الانتظار لما يحدث فى المستأنف فهو أيضا فى انتظار ما يوجد- سبحانه- من المقادير. والفرق بينه- عليه السلام- وبينهم أنه يشهد ما يحصل به- سبحانه- ومنه، وهم متطوّحون فى أودية الجهالة يحيلون الأمر مرة على الدّهر، ومرة على النجم «2» ، ومرّة على الطبع.. وكلّ ذلك حيرة وعمى.   (1) وردت (عمله) وهى خطأ فى النسخ. (2) المقصود بالنجم هنا الطالع والحظ من نحس وسعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 21] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) يعنى إذا أصابهم ضرّ ومحنة فرحمناهم وكشفنا عنهم، أحالوا الأمر على غيرنا، وتوهموه مما هو سوانا مثل قولهم: مطرنا بنوء كذا، ومثل قولهم إن هذه سعادة نجم أو مساعدة دولة أو تأثير فلك أو خيرات دهر. فهذا كان مكرهم أما مكر الله- سبحانه- بهم فهو جزاؤهم على مكرهم. والإشارة فى هذا أنه ربما يكون للمريد أو للطالب حجبة أو فترة.. فإذا جاء الحقّ بكشف أو تجلّ أو إقبال فمن حقّهم ألا يلاحظوها فضلا عن أن يساكنوها «1» ، لأنهم إذا لم يرتقوا عن ملاحظة أحوالهم إلى الغيبة بشهود الحقّ مكر الله بهم بأن شتّتهم فى تلك الأحوال من غير ترقّ عنها أو وجود زيادة عليها، وهذا مكره بخواصّهم. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 22] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) يريد أنهم يصبحون فى النّعم يجرّون أذيالهم، ثم يمسون يبكون لياليهم. وقد يبيتون والبهجة ملكتهم ثم يصبحون وخفايا التقدير أهلكتهم، وأنشدوا:   (1) نفهم من هذا أن (الملاحظة) أخف من (المساكنة) وكلتاهما من آفات الطريق، يلح القشيري دائما على التحذير منهما، وقد بالغ أهل الملامة فى توضيح أضرارهما- كما تشهد بذلك النصوص التي رواها عنهم فى (رسالته) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 أقمت زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك فإذا رجعوا إلى الله بإخلاص الدعاء يجود عليهم بكشف البلاء. فلمّا أنجاهم بالإجابة لدعائهم إذا هم إلى غيره «1» يرجعون، وعلى مناهجهم- فى تمردهم يسلكون. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 23] فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» معناه: نمتّعكم أياما قلائل، ثم تلقون «2» غبّ ذلك وتبدأون تقاسون عذابا طويلا. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) شبّه الحياة الدنيا بالماء المنزّل من السماء ينبت به النبات وتخضرّ الأرض وتظهر الثمار، ويوطّن أربابها عليها نفوسهم، فتصيبهم جائحة سماوية بغتة، وتصير كأن لم تكن. كذلك الإنسان بعد كمال سنّه وتمام قوّته واستجماع الخصال المحمودة فيه تخترمه المنيّة، وكذلك أموره المنتظمة تبطل وتختلّ بوفاته، كما قيل:   (1) وردت (غيرهم) والأكثر ملاءمة للسياق أن تكون (غيره) . (2) وردت (يلقون) وهى خطأ فى النسخ لعدم اتفاقها مع أسلوب الخطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فقدناه لمّا تمّ واختمّ بالعلى ... كذاك كسوف البدر عند تمامه ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المنزّل من السماء أن المطر لا ينزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة. ثم إن المطر إن كان لا يجىء إلا بالتقدير فقد يستسقى.. كذلك الرزق- وإن كان بالقسمة- فقد يلتمس من الله ويستعطى. ومنها أن الماء فى موضعه سبب حياة الناس، وفى غير موضعه سبب خراب الموضع، كذلك المال لمستحقه سبب سلامته، وانتفاع المتصلين به، وعند من لا يستحقه سبب طغيانه، وسبب بلاء من هو متصل به، كما قيل: نعم الله لا تعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان، وكما قيل: يا دولة ليس فيها من المعالي شظيّة ... زولى فما أنت إلا على الكرام بليّة ومنها أن الماء إذا كان بمقدار كان سبب الصلاح، وإذا جاوز الحدّ كان سبب الخراب.. كذلك المال إذا كان بقدر الكفاية والكفاف فصاحبه منعّم، وإذا زاد وجاوز الحدّ أوجب الكفران والطغيان. ومنها أن الماء ما دام جاريا كان طيبا، فإذا طال مكثه تغيّر.. كذلك المال إذا أنفقه صاحبه كان محمودا، فإذا ادّخره وأمسكه كان معلولا مذموما. ومنها أن الماء إذا كان طاهرا كان حلالا يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى، وإذا كان غير طاهر فبالعكس.. كذلك المال إذا كان حلالا، وبعكسه لو كان حراما. ويقال كما أن الربيع تنورد أشجاره، وتظهر أنواره، وتخضرّ رباعه، وتتزين بالنبات وهاده وتلاعه، لا يؤمن أن تصيبه آفة من غير ارتقاب، وينقلب الحال بما لم يكن فى الحساب. كذلك من الناس من تكون له أحوال صافية، وأعمال بشرط الخلوص زاكية غصون أنسه متدلّيه، ورياض قربه مونقه.. ثم تصيبه عين فيذبل عود وصاله، وتنسدّ أبواب عوائد إقباله، كما قيل: عين أصابتك إن العين صائبة ... والعين تسرع أحيانا إلى الحسد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 25] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) دعاهم إلى دار السلام، وفى الحقيقة دعاهم إلى ما يوجب لهم الوصول إلى دار السلام وهو اعتناق أوامره والانتهاء عن زواجره. والدعاء من حيث التكليف، وتخصيص الهداية لأهلها من حيث التشريف. ويقال الدعاء تكليف والهداية تعريف فالتكليف على العموم والتعريف على الخصوص. ويقال التكلف بحقّ سلطانه، والتعريف بحكم إحسانه. ويقال الدعاء قوله والهداية طوله دخل الكلّ تحت قوله، وانفرد الأولياء بتخصيص طوله. دار السلام دار السلام لأن السلام اسم من أسمائه. ويكون السلام بمعنى السلامة فهى دار السلامة أي أهلها سالمون فيها سالمون من الحرقة وسالمون من الفرقة سلموا من الحرقة فحصلوا على لذة عطائه، وسلموا من الفرقة فوصلوا إلى عزيز لقائه. ويقال لا يصل إلى دار السلام إلا من سلمت نفسه عن السجود للصنم، وسلم قلبه عن الشّرك والظلم. ويقال تلك الدار درجات والذي سلم قلبه عن محبة الأغيار درجته أعلى من درجة من سلمت نفسه من الذنوب والأوضار. ويقال قوم سلمت صدورهم من الغلّ والحسد والحقد وسلم الخلق منهم فليس بينهم وبين أحد محاسبة، وليس لهم على أحد شىء فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمحسن من سلم الخلق بأجمعهم من قلبه. «الصراط المستقيم» : طريق المسلمين، فهذا للعوام بشرط علم اليقين، ثم طريق المؤمنين وهو طريق الخواص بشرط عين اليقين، ثم طريق المحسنين وهو طريق خاص الخاص بشرط حق اليقين فهؤلاء بنور العقل أصحاب البرهان، وهؤلاء بكشف العلم أصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 البيان، وهؤلاء بضياء المعرفة بالوصف «1» كالعيان، وهم الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» . قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 26] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) «أَحْسَنُوا» : أي عملوا وأحسنوا إذ كانت أفعالهم على مقتضى الإذن. ويقال «أَحْسَنُوا» : لم يقصّروا فى الواجبات، ولم يخلّوا بالمندوبات. ويقال «أَحْسَنُوا» : أي لم يبق عليهم حقّ إلا قاموا به إن كان حقّ الحقّ فمن غير تقصير و، إن كان من حقّ الخلق فاذا من غير تأخير. ويقال «أَحْسَنُوا» : فى المال كما أحسنوا فى الحال فاستداموا بما فيه واستقاموا، والحسنى التي لهم هى الجنة وما فيها من صنوف النّعم. ويقال الحسنى فى الدنيا توفيق بدوام «2» ، وتحقيق بتمام، وفى الآخرة غفران معجّل، وعيان على التأبيد «3» محصّل. قوله: «وَزِيادَةٌ» : فعلى موجب الخبر وإجماع السلف النظر إلى الله. ويحتمل أن تكون «الْحُسْنى» : الرّؤية، «والزيادة» . دوامها. ويحتمل أن تكون «الْحُسْنى» : اللقاء، «والزيادة» : البقاء فى حال اللقاء. ويقال الحسنى عنهم لا مقطوعة ولا ممنوعة، والزيادة لهم لا عنهم محجوبة ولا مسلوبة. قوله جل ذكره: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. لا يقع عليهم غبار الحجاب، وبعكسه حديث الكفار حيث قال: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» .   (1) (المعرفة بالوصف) احتراز هام جدا، حتى لا يظن أن (العيان) يستشرف من (الذات) الصمدية، وإنما يقتصر الأمر على (عرفان الأوصاف) الإلهية كالجلال والجمال والكرم.. إلى آخره. (2) قال صلى الله عليه وسلم: «خير العمل أدومه وإن قل» . (3) (التأبيد) معناه إلى الأبد فهم فى الجنة خالدون أبدا، وستأتى لفظة (التأبيد) فى العقوبة أيضا بعد قليل. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 «والذّلة» التي لا تصيبهم أي لا يردّوا من غير شهود إلى رؤية غيره، فهم فيها خالدون فى فنون أفضالهم، وفى جميع أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 27] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) والذين كسبوا السيئات وعملوا الزّلات لهم جزاء سيئة مثلها، والباء فى «بِمِثْلِها» : صلة أي للواحد واحد. «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» : هو تأبيد العقوبة. «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» أي ما لهم من عذابه من عاصم، سيموا ذلّ الحجاب، ومنوا بتأبيد العذاب، وأصابهم هو ان البعاد. وآثار الحجاب على وجوههم لائحة فإنّ الأسرّة تدلّ على السريرة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 29] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) يجمع بين الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله، فتقول الأصنام: ما أمرناكم بعبادتنا. فيدعون على الشياطين التي أطاعوها، وعلى الأصنام التي أمرتهم أن يعبدوها، وتقول الأصنام: كفى بالله شهيدا، على أنّا لم نأمركم بذلك إذ كنّا جمادا. وذلك لأنّ الله يحييها يوم القيامة وينطقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وفى الجملة ... يتبرّأ بعضهم من بعض، ويذوق كلّ وبال فعله. وفائدة هذا التعريف أنه ما ليس لله فهو وبال عليهم فاشتغالهم- اليوم- بذلك محال «1» ، ولهم فى المآل- من ذلك- وبال. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 30] هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) إنما يقفون على خسرانهم إذا ذاقوا طعم هوانهم فإذا ردّوا إلى الله لم يجدوا إلا البعد عن الله، والطرد من قبل الله، وذلك جزاء من آثر على الله غير الله. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 31] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) كما توحّد الحقّ- سبحانه- بكونه خالقا تفرّد بكونه رازقا، وكما لا خالق سواه فلا رازق سواه. ثم الرزق على أقسام: فللأشباح رزق: وهو لقوم توفيق الطاعات، ولآخرين خذلان الزّلات. وللأرواح رزق: وهو لقوم حقائق الوصلة، ولآخرين- فى الدنيا- الغفلة وفى الآخرة العذاب والمهلة. «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» : فيكمل بعض الأبصار بالتوحيد، وبعضها يعميها عن التحقيق.   (1) المحال هنا معناها ما عدل به عن وجهه (أنظر هذا المعنى فى الوسيط) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» : يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» : ولكن ظنّا ... لا عن بصيرة، ونطقا ... لا عن تصديق سريرة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 32] فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) ما يكون من موضوعات الحق، ومتعلقات الإرادة، ومتناولات المشيئة، ومجنّسات التقدير، ومصرّفات القدرة- فهى أشباح خاوية، وأحكام التقدير عليها جارية. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 33] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) سبق لهم الحكم، وصدق فيهم القول فلا لحكمه تحويل ولا لقوله تبديل، فإنّ العلل «1» لا تغيّر الأزل. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 34] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) كشف قبيح ما انطوت عليه عقائدهم من عبادتهم ما لا يصحّ منه الخلق والإعادة، وأثبت أن المعبود من منه الخلق والإعادة. قوم جعلوا له فى الإيجاد شركاء بدعوى القدر، وقوم منعوا جواز قدرته على الإعادة. وكل هذا جنوح إلى الكفر وذهاب عن الدّين. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 35] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)   (1) أي- حسب مذهب القشيري- أحكام الله السابقة لا تخضع لعلة، غير أننا لا نستبعد أنها (الحيل) جمع حيلة، فليس بتدبير الإنسان يتغير الحكم السابق فى الأزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 الحقّ اسم من أسمائه سبحانه، ومعناه أنه موجود، وأنه ذو الحق، وأنه محق الحقّ. والحقّ من أوصاف الخلق ما حسن فعله وصحّ اعتقاده وجاز النطق به. «والله يهدى للحق» : أي إلى الحق هدايته. وهداه له وهداه إليه بمعني فمن هداه الحقّ للحقّ وقفه على الحقّ، وعزيز من هداه الحقّ إلى الحقّ للحقّ، فماله نصيب وما له حظ. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 36] وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) الظّنّ ينافى اليقين، فإنه ترجيح أحد طرفى الحكم على الآخر من غير قطع. وأرباب الحقائق على بصيرة وقطع فالظنّ فى أوصاف الحقّ معلول، والقطع- فى أوصاف النّفس- لكل أحد معلول. والعبد يجب أن يكون فى الحال خاليا عن الظن إذ لا يعرف أحد غيب نفسه فى مآله. وفى صفة الحقّ يجب أن يكون العبد على قطع وبصيرة فالظنّ فى الله معلول، والظن فيما من الله غير محمود. ولا يجوز بوجه من الوجوه أن يكون أهل المعرفة به سبحانه- فيما يعود إلى صفته- على الظن، كيف وقد قال الله تعالى فيما أمر نبيّه- عليه السلام- أن يقول: «أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» «1» ؟ وكما قلنا «2» : طلع الصباح فلات حين سراج ... وأتى اليقين فلات حين حجاج حصل الذي كنّا نؤمّل نيله ... من عقد ألوية وحلّ رتاج   (1) آية 108 سورة يوسف. (2) الشعر هنا للقشيرى نفسه كما يستفاد من عبارته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 والبعد قوّض بالدّنو خيامه ... والوصل وكّد سجله بعناج «1» قد حان عهد للسرور فحيهلا ... لهواجم الأحزان بالإزعاج قوله جل ذكره. [سورة يونس (10) : آية 37] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) انسدّت بصائرهم فلا يزدادون بكثرة سماع القرآن إلا عمّى على عمى، كما أن أهل الحقيقة ما ازدادوا إلا هدى على هدى، فسبحان من جعل سماع خطابه لقوم سبب تحيّرهم، ولآخرين موجب تبصّرهم قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 38] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) كلّت القرائح، وخمدت نيران الفصاحة، واعترف كلّ خطيب مصقع بالعجز عن معارضة هذا الكتاب، فلم يتعرّض لمعارضته إلا من افتضح فى قالته. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 39] بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) قابلوا الحقّ بالتكذيب لتقاصر علومهم عن التحقيق، فالتحقيق من شرط التصديق، وإنما يؤمن بالغيب من لوّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان، وصرف عنه دواعى الرّيب.   (1) السجل- الدلو العظيمة، والعناج- حبل يشد فى أسفل الدلو العظيمة (المنجد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 40] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) فأمّا الذين آمنوا فهم الذين كحل الحقّ أبصار قلوبهم بنور اليقين، والذين لم يؤمنوا فهم الذين وسم قلوبهم بالعمى فزلّوا- بالضلالة- عن الهدى.. تلك سنّة الله فى الطائفتين، ولن تجد لسنّة الله تحويلا. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 41] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) برح الخفاء، واستبانت الحقائق، وامتاز «1» الطريقان، فلا المحسن بجرم المسيء معاقب، ولا المسيء بجرم المحسن معاتب، كلّ على حدة بما يعمله وعلى ما يفعله محاسب. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 42] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) من استمع بتكلفه ازداد فى تخلّفه بزيادة تصرفه، ومن استمع الحقّ بتفضّله- سبحانه- استغنى فى إدراكه عن تعمّله. والحقّ- سبحانه- يسمع أولياءه ما يناجيهم به فى أسرارهم، فإذا سمعوا دعاء الواسطة «2» قابلوه بالقبول لما سبق لهم من استماع الحقّ. ومن عدم استماع الحقّ إياه من حيث التفهيم لم يزده سماع الخلق إلا جحدا على جحد، ولم يحظ به إلا بعدا على بعد. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 43] وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) من سدّت بصيرته بالغفلة والغيبة لم يزده إدراك البصر إلا حجبة على حجية، ومن   (1) (امتاز) هنا معناها اتضح الفرق بينهما. (2) المقصود بالواسطة النبي عليه الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 لم ينظر إلى الله بالله، ولم يسمع من الله بالله، فقصاراه العمى والصمم، «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» «1» وقال عليه السلام فيما أخبر عن الله: «فى يسمع وبى يبصر» «2» . وأنشد قائلهم: تأمّل بعين الحقّ إن كنت ناظرا ... إلى منظر منه إليه يعود قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 44] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) نفى عن نفسه ما يستحيل تقديره فى نعته، وكيف يوصف بالظلم وكلّ ما يتوّهم أن لو فعله كان له ذلك؟ إذ الحقّ حقّه والملك ملكه. ومن لا يصحّ تقدير قبيح منه- أنّى يوصف بالظلم جوازا أو وجوبا؟! قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) الأيام والشهور، والأعوام والدهور بعد مضيها فى حكم اللحظة لمن تفكّر فيها، ومتى يكون لها أثر بعد تقضيها؟ والآتي من الوقت قريب، وكأنّ قدر الماضي من الدهر لم يعهد. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 46] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) .   (1) آية 46 سورة الحج. (2) «حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها. - حديث قدسى رواه البخاري عن أبى هريرة، وأحمد عن عائشه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 معناه أن خبره صدق، ووعده ووعيده حق و، بعد النّشرح حشر، وفى ذلك الوقت مطالبة وحساب، ثم على الأعمال ثواب وعقاب، وما أسرع ما يكون المعلوم مشاهدا موجودا! قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 47] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرعا من حكم، ولم يخل حكما مما يعقبه من ثواب وعقاب. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 48] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) الاستعجال بهجوم الموعود من أمارات أصحاب التكذيب، فأمّا أهل التحقيق فليس لهم لوارد يرد عليهم اشتغال قبل وجوده، أو استعجال على حين كونه، ولا إذا ورد استقبال لما تضمنه حكمه فهم مطروحون فى أسر الحكم، لا يتحرك منهم- باختيارهم- عرق. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 49] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) المملوك متى يكون له ملك؟! وإذا كان سيّد البرايا- عليه الصلاة والسلام- لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.. فمن نزلت رتبته، وتقاصرت حالته متى يملك ذرة أو تكون باختياره وإيثاره شمة؟ طاح الذي لم يكن «1» - فى التحقيق، وتفرّد الجبار بنعت الملكوت.   (1) (الذي لم يكن) يقصد بها الحادث من إنسان وحيوان وعين وأثر.. إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 50] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) من عرف كمال القدرة لم يأمن فجأة الأخذ بالشدة، ومن خاف البيات لم يستلذ السّبات. ويقال من توسّد الغفلة أيقظته فجاءة العقوبة، ومن استوطن مركب الزّلّه عثر فى وهدة المحنة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 51] أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) بعد انتهاك ستر الغيب لا يقبل تضرع المعاذير. ويقال لا حجّة بعد إزاحة العلة، ولا عذر بعد وضوح الحجة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 52] ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) لا تكلف نفس إلا تجرع ما منه سقت، ولا يحصد زارع غلّة إلا ما منه زرع، وفى معناه قالوا: سننت فينا سننا ... قذف البلايا عقبه يصبر على أهوالها ... من برّ يوما ربّه «1» قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 53] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) صرّح بالإخبار عند استخبارهم، وأعلم بما يزيل الشّبهة عمّا التبس على جهّالهم، وأكّد إخبارك بما تذكره من القسم واليمين، مضافا ذلك إلى ما تسلفه من التّبيين. على أنه لا ينفعهم   (1) الشطر الثاني من هذا البيت مطموس غير واضح، ولكننا أكملناه حسبما ورد النص فى موضع سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 نصحك، ولا يؤثّر فيهم وعظك.. كيف لا؟ وقد جرّعوا شراب الحجبة، ووسموا بكىّ الفرقة فلا بصيرة لهم ولا ( ... ) «1» ولا فهم ولا حصافة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 54] وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) لا يقبل منهم عدل ولا سرف «2» ، ولا يحصل فيما سبق لهم من الوعيد خلف. ولا ندامة تنفعهم وإن صدقوها، ولا كرامة تنالهم وإن طلبوها، ولا ظلم يجرى عليهم ولا حيف، كلا ... بل هو الله العدل فى قضائه، الفرد فى علائه بنعت كبريائه. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 55] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) الحادثات بأسرها لله ملكا، وبه ظهورا، ومنه ابتداء، وإليه انتهاء فقوله حقّ، ووعده صدق، وأمره حتم، وقضاؤه بات. وهو العلىّ، وعلى ما يشاء قوى. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 56] هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يحيى القلوب بأنوار المشاهدة، ويميت النفوس بأنواع المجاهدة، فنفوس العابدين تلفها فنون المجاهدات، وقلوب العارفين شرفها عيون المشاهدات. ويقال يحيى من أقبل عليه، ويميت من أعرض عنه. ويقال يحيى قلوب قوم بجميل الرجاء، ويميت قلوب قوم بوسم القنوط. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 57] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)   (1) مشتبهة. (2) السرف هنا معناها مجاوزة الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الموعظة للكافة.. ولكنها لا تنجع في أقوام، وتنفع فى آخرين فمن أصغى إليها بسمع سرّه اتضح نور التحقيق فى قلبه، ومن استمع إليها بنعت غيبته ما اتصف إلا بدوام حجبته. ويقال الموعظة لأرباب الغيبة ليئوبوا، والشّفاء لأصحاب الحضور ليطيبوا. ويقال «الموعظة» : للعوام، «والشفاء» : للخواص، «والهدى» لخاص الخاص، «والرحمة» لجميعهم، وبرحمته وصلوا إلى ذلك. ويقال شفاء كلّ أحد على حسب دائه، فشفاء المذنبين بوجود الرحمة، وشفاء المطيعين بوجود النعمة «1» ، وشفاء العارفين بوجود القربة، وشفاء الواجدين بشهود الحقيقة. ويقال شفاء العاصين بوجود النجاة، وشفاء المطيعين بوجود الدرجات، وشفاء العارفين بالقرب والمناجاة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 58] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) «الفضل» : الإحسان الذي ليس بواجب على فاعله، «والرحمة» إرادة النعمة وقيل هى النعمة. والإحسان على أقسام وكذلك النعمة، ونعم الله أكثر من أن تحصى. ويقال الفضل ما أتاح لهم من الخيرات، والرحمة ما أزاح عنهم من الآفات. ويقال فضل الله ما أكرمهم من إجراء الطاعات، ورحمته ما عصمهم به من ارتكاب الزّلات. ويقال فضل الله دوام التوفيق ورحمته تمام التحقيق.   (1) نعلم من مذهب القشيري أن (الرحمة) من أوصاف الذات، و (النعمة) من أوصاف الفعل.. فتامل كيف يرتبط مصير (المذنبين) بوصف من أوصاف ذاته، ولاحظ كيف يفتح الصوفية بذلك أبواب الأمل أمام التائبين. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ويقال فضل الله ما يخصّ به أهل الطاعات من صنوف إحسانه، ورحمته ما يخصّ به أهل الزلّات من وجوه غفرانه. ويقال فضل الله الرؤية، ورحمته إبقاؤهم فى حالة الرؤية. ويقال فضل الله المعرفة فى البداية، ورحمته المغفرة فى النهاية. ويقال فضل الله أن أقامك بشهود الطلب، ورحمته أن أشهدك حقّه بحكم البيان إلى أن تراه غدا بكشف العيان. قوله: «فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» أي بما أهّلهم له، لا بما يتكلّفون من حركاتهم وسكناتهم، أو يصلون إليه بنوع من تكلفهم وتعملهم. «هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» : أي ما تتحفون به من الأحوال الزاكية خير ممّا تجمعون من الأموال الوافية. ويقال الذي لك منه- فى سابق القسمة- خير مما تتكلّفه من صنوف الطاعة والخدمة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 59] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) يعنّفهم ويقرّعهم «1» على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم، ويظهر كذبهم فيما تقوّلوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 60] وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) هذا على جهة التهويل والتعظيم لما أسلفوه من الكذب.   (1) قرع فلانا أي أوجعه باللوم والعتاب (المحيط) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ثم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» فى إمهال من أجرم، والعصمة لمن لم يجرم. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) خوّفهم بما عرفهم من اطلاعه عليهم فى جميع أحوالهم، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم. والعلم بأنه يراهم يوجب استحياءهم منه، وهذه حال المراقبة، والعبد إذا علم أن مولاه يراه استحيى منه، وترك متابعة هواه، ولا يحوّم حول ما نهاه، وفى معناه أنشدوا: كأنّ رقيبا منك حال بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا وأنشدوا: أعاتب عنك النّفس فى كلّ خصلة ... تعاتبنى فيها وأنت مقيم «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ» : وكيف يخفى ذلك عليه، أو يتقاصر علمه عنه، وهو منشئه وموجده؟ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة، وإنما قال: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» : ردّهم إلى كتابته ذلك عليهم- لعدم اكتفائهم فى الامتناع عمّا نهوا عنه- برؤيته وعلمه. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 62] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الولىّ على وزن فعيل مبالغة من الفاعل، وهو من توالت طاعاته، من غير أن يتخللها عصيان. ويجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول فيكون الولىّ من يتوالى عليه إحسان الله وأفضاله، ويكون بمعنى كونه محفوظا فى عامة أحواله من المحن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وأشدّ المحن ارتكاب المعاصي فيعصمه الحقّ- سبحانه- على دوام أوقاته من الزّلّات. وكما أن النبيّ لا يكون إلا معصوما فالولىّ لا يكون إلا محفوظا. والفرق بين المحفوظ والمعصوم أن المعصوم لا يلمّ بذنب البتّة، والمحفوظ قد تحصل منه هنات، وقد يكون له- فى الندرة- زلّات، ولكن لا يكون له إصرار: «أولئك الذين يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» «1» . قوله جل ذكره: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. حسن ما قيل إنه «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» : فى الدنيا، «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» : فى العاقبة. ولكن الأولى أن يقال إنّ الخواص منهم لا خوف عليهم فى الحال- لأنّ حقيقة الخوف توقّع محذور فى المستقبل، أو ترقّب محبوب يزول فى المستأنف.. وهم بحكم الوقت ليس لهم تطلّع إلى المستقبل. والحزن هو أن تنالهم حزونة فى الحال، وهم فى روح الرضا بكلّ ما يجرى فلا تكون لهم حزونة الوقت. فالولىّ لا خوف عليه فى الوقت، ولا له حزن بحال، فهو بحكم الوقت. ولا يكون وليّا إلا إذا كان موفّقا لجميع ما يلزمه من الطاعات، معصوما بكل وجه عن جميع الزلات. وكلّ خصلة حميدة يمكن أن يعتبر بها فيقال هى صفة الأولياء. ويقال الولىّ من فيه هذه الخصلة. ويقال الولىّ من لا يقصّر فى حقّ الحق، ولا يؤخرّ القيام بحق الخلق يطيع لا لخوف عقاب، ولا على ملاحظة حسن مآب، أو تطلع لعاجل اقتراب، ويقضى لكلّ أحد حقا يراه واجبا، ولا يقتضى من أحد حقّا له، ولا ينتقم، ولا ينتصف «2» ولا يشمت ولا يحقد، ولا يقلد أحدا منة، ولا يرى لنفسه ولا لما يعمله قدرا ولا قيمة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 63] الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) هذه صفة الأولياء آمنوا فى الحال، واتقوا الشرك فى المآل. ويقال «آمَنُوا» أي قاموا   (1) آية 17 سورة النساء. (2) أي إذا أساء إليه أحد لم يطلب من مخلوق إنصافا، وإنما عفا وتساهل، تاركا الأمر لله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 بقلوبهم من حيث المعارف. «وَكانُوا يَتَّقُونَ» : استقاموا بنفوسهم بأداء الوظائف. ويقال «آمَنُوا» بتلقى التعريف. «واتقوا» : بالتقوى عن المحرمات بالتكليف. قوله جلّ ذكره: [سورة يونس (10) : آية 64] لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) القيام بالأمر يدل على الصحة فإذا قاموا بما أمروا به، واستقاموا بترك ما زجروا عنه بشّرتهم الشريعة بالخروج عن عهدة الإلزام، وبشّرتهم الحقيقة باستيجاب الإكرام، بما كوشفوا به من الإعلام.. وهذه هى البشرى فى عاجلهم. وأما البشرى فى آجلهم: فالحقّ- سبحانه- يتولّى ذلك التعريف، قال تعالى: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ» «1» ويقال البشارة العظمى ما يجدون فى قلوبهم من ظفرهم بنفوسهم بسقوط مآربهم، وأىّ ملك أتمّ من سقوط المآرب، والرضا بالكائن «2» ؟ هذه هى النعمة العظمى، ووجدان هذه الحالة هو البشرى الكبرى. ويقال الفرق بين هذه البشارة التي لهم وبين البشارة التي لخلق أنّ التي للخلق عدّة «3» بالجميل، والذي لهم نقد ومحصول. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 65] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) العبد ما دام متفرقا يضيق صدره ويستوحش قلبه بما يسمع ويشهد من الأغيار والكفار ما تتقدّس عنه صفة الحقّ، فإن صار عارفا زالت عنه تلك الصفة لتحققه بأنّ الحقّ سبحانه وراء كلّ طاعة وزلّة، فلا له- سبحانه- من هذا استيحاش، ولا بذلك استئناس.   (1) آية 21 سورة التوبة. (2) الكائن هنا معناها الواقع، فلا يتطلعون إلى زيادة أو تغيير. (3) عدة- وعد، وتذكر ما قلناه فى هامش سابق عن الوعد والنقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 ثم يتحقق العارف بأنّ المجرى لطاعة أرباب الوفاق- الله، والمنشئ لأحوال أهل الشّقاق- الله. لا يبالى الحقّ بما يجرى ولا يبالى العبد بشهود ما يجرى، كما قيل: بنو حقّ قضوا بالحقّ صرفا ... فنعت الخلق فيهم مستعار قوله جل ذكره [سورة يونس (10) : آية 66] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) لله من فى السماوات ومن فى الأرض ملكا، ويبدى عليهم ما يريد حكما جزما فلا لقبوله علّة، ولا موجب لردّه زلّة، كلا ... إنها أحكام سابقة، لم توجبها أجرام لاحقة، ولا طاعات وعبادت صادقة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 67] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) الليل لأهل الغفلة بعد وغيبة، ولأهل الندم «1» توبة وأوبة، وللمحبين زلفة وقربة فالليل بصورته غير مؤنس، لكنه وقت القربة لأهل الوصلة كما قيل: وكم لظلام الليل عندى من يد «2» تخبّر أن المانوية تكذب قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 69] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69)   (1) وردت (القوم) وهى خطأ فى النسخ إذ لا معني لها هنا والمناسب (الندم) . (2) وردت (مزيد) وهى خطأ في النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الولد بعض الوالد، والصمدية تجلّ عن البعضية، فنزّه الله نفسه عن ذلك بقوله «سُبْحانَهُ» . ثم إنه لم يعجّل لهم العقوبة- مع قبيح قالتهم ومع قدرته على ذلك- تنبيها على طريق الحكمة لعباده. ولا تجوز فى وصفه الولادة لتوحّده، فلا قسيم له، ولا يجوز فى نعته التبنّي أيضا لتفرّده وأنه لا شبيه له. قوله: «هُوَ الْغَنِيُّ» : الغني نفى الحاجة، وشهوة المباشرة حاجة، ويتعالى عنها سبحانه. قوله جل ذكره [سورة يونس (10) : آية 70] مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) ليس لهم بما هم فيه استمتاع، إنما هى أيام قليلة ثم تتبعها آلام طويلة، فلا قدم لهم بعد ذلك ترفع، ولا ندم ينفع. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 71] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) أنزل الله هذه الآية على وجه التسلية لنبيّه- صلى الله عليه وسلم- لما كان يمسّه من مقاساة الشّدّة من قومه، فإنّ أيام نوح- وإن طالت- فما لبثت كثيرا إلا وقد زالت، كما قيل: وأحسن شىء في النوائب أنها ... إذا هى نابت لم تكن خلدا ثم بيّن أنه كان يتوكل على ربّه مهما فعلوا. ولم يحتشم عبد- ما وثق بربّه- من كلّ ما نزل به ثم إن نوحا- عليه السلام- قال: إنى توكلت على الله، وهذا عين التفرقة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ» «1» وهذا عين الجمع فبانت المزية وظهرت الخصوصية. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 72] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) إذا كان عمله لله لم يطلب الأجر عليه من غير الله، وهكذا سنّته فى جميع أولياء الله. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 73] فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) أغرق قومه بأمواج القطرة، وفى الحقيقة أغرقهم بأمواج الأحكام والقدرة، وحفظ نوحا- عليه السلام- وقومه فى السفينة، وفى الحقيقة نجّاهم فى سفينة السلامة. كان نوح فى سابق حكمه من المحروسين، وكان قومه فى قديم قضائه من جملة المغرقين، فجرت الأحوال على ما جرت به القسمة فى الأزل. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 74 الى 75] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)   (1) آية 64 سورة الأنفال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 قصّ عليه- صلوات الله عليه وسلامه- أنباء الأولين، وشرح له جميع أحوال الغابرين، ثم فضّله على كافتهم أجمعين، فكانوا نجوما وهو البدر، وكانوا أنهارا وهو البحر، ثم به انتظم عقدهم، وبنوره أشرق نهارهم، وبظهوره ختم عددهم «1» ، كما قيل: يوم وحسب الدهر من أجله ... حيّا غد والتفت الأمس قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 76] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ما زادهم الحقّ سبحانه بيانا إلا ازدادوا طغيانا، وذلك أنه تعالى أجرى سنّته فى المردودين عن معرفته أنه لا يزيد فى الحجج هدى إلا ويزيد فى قلوبهم عمّى، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» : نظروا من حيث كانوا لم يعرفوا طعما غير ما ذاقوا، وكذا صفة من أقصته السوابق، وردّته المشيئة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 78] قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا، واستحبّوا استدامة ما عليه كانوا ... فلحقهم شؤم العقيدة وسوء الطريقة حتى توهموا أن الأنبياء عليهم السلام إنما دعوهم إلى الله لتكون لهم الكبرياء على عباد الله، ولم يعلموا أنهم إنما دعوهم إلى الله بأمر الله. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 79] وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) لما استعان فى استدفاع ما استقبله بغير الله لم يلبث إلا يسيرا حتى تبرّأ منهم وتوعّدهم   (1) قارن ذلك بما يقوله الحلاج فى طواسينه وبما يقوله أصحاب «نظرية الإنسان الكامل» عن الحقيقة المحمدية لتلحظ مدى اعتدال هذا الامام السنى المتحفظ فى نظرته لشخصية الرسول عليه صلاة الله وسلامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 بقوله: لأفعلنّ ولأصنعنّ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت فى غير الله فإنها تئول إلى العداوة والبغضة، قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 80 الى 81] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) أمرهم أمرا يظهر به بطلانهم ليدخل الحقّ على ما أتوا به من التمويه، فلذلك قال موسى عليه السلام: «إن الله سيبطله» فلمّا التقمت عصا موسى- جميع ما جاءوا به من حبالهم وعصيّهم- حين قلبها الله حيّة.. علموا أنّ الله أبطل تلك الأعيان وأفناها. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 82] وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) من جملة ما أحقّه أن السّحرة كان عندهم أنهم ينصرون فرعون ويجيبونه فكانوا يقسمون بعزّته حيث قالوا «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» وقال الحقّ اغض سبحانه. بعزتي إنكم لمغلوبون، فكان على ما قال تعالى دون ما قالوه، وفى معناه قالوا: كم رمتني بأسهم صائبات ... وتعمّدتها بسهم فطاشا قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 83] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) أهل الحقيقة فى كل وقت قليل عددهم، كبير عند الله خطرهم.   (1) آية 67 سورة الزخرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 84] وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) بيّن أن الإيمان ليس من حيث الأقوال.. بل لا بد فيه من صدق الأحوال قصدا. وحقيقة التوكل توسّل تقديمه متّصل، ثم يعلم أنه بفضله- سبحانه- تحصل نجاته، لا بما يأتى به من التكلّف- هذه هى حقيقة التوكل «1» . قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 85 الى 86] فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) تبرأنا مما منّا من الحول والمنّة، وتحققنا بما منك من الطول والمنّة. فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك فى عقوبتك بانتقامك، وارحمنا بلطفك وإكرامك، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم، وبكىّ فراقك وسمتهم قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 87] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) مهّد إليهم لعبادتنا محالّ وهى نفوسهم، ولمعارفنا منازل وهى قلوبهم، ولمحبتنا مواضع وهى أرواحهم، ولمشاهدتنا معاهد وهى أسرارهم فنفوس العابدين بيوت الخدمة، وقلوب العارفين أوطان الحشمة، وأرواح المهيمين مشاهد المحبة، وأسرار الموحدين منازل الهيبة «2» قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 88] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)   (1) أي يفنى عن التوكل برؤية الوكيل.. كما يقول إبراهيم الخواص (ت 291) (2) هذه الفقرة هامة فى توضيح الملكات الباطنية وترتيبها ووظائفها فى المعراج الروحي- فى مذهب هذا الصوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 لما يئس من إجابتهم حين دعاهم إلى الله دعا عليهم بإنزال السّخطة وإذاقة الفرقة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء- عليهم السلام- من حقهم العصمة، فإذا دعا موسى عليهم بمثل هذه الجملة لم يكن ذلك إلا بإذن من قبل الله تعالى فى الحقيقة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 89] قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) الاستقامة فى الدعاء ترك الاستعجال فى حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا بوجدان السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بحسن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب ويقال ينبغى للعبد أن يسقلّ بالله «1» ما أمكنه، فعند هذا يقلّ دعاؤه. ثم إذا دعاه بإشارة من الغيب- فى جوازه- فالواجب ألا يستعجل، وأن يكون ساكن الجأش. ويقال من شرط الدعاء صدق الافتقار فى الابتداء، ثم حسن الانتظار فى الانتهاء، وكمال هذا الرضاء بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار. ويقال الاستقامة فى الدعاء سقوط التقاضي «2» على الغيب، والخمود عن الاستعجال بحسن الثقة، وجميل الظّن. ويقال فى الآية تنبيه على أنّ للأمور آجالا معلومة، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم فى الوقت المعلوم. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 90] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)   (1) الاستقلال بالله الاكتفاء به وعدم النظر إلى النفس أو الأغيار. [ ..... ] (2) التقاضي على الغيب معناه النظر إلى ما يأتى من الغيب بعين التقليل أو التكثير، البطء أو السرعة.. ففى ذلك إقحام لحظوظ النفس فى حقوق الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 حملت العزّة فرعون على تقحم البحر على إثرهم، فلمّا تحقّق الهلاك حملته ضرورة الحيلة على الاستعاذة، فلم ينفعه ذلك لفوات وقت الاختيار. ويقال لما شهد صولة التقدير أفاق من سكر الغلطة «1» ، لكن: «بعد شهود البأس لا ينفع التخاشع والابتئاس» . قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 91] آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) ... أبعد طول الإمهال، والإصرار على ذميم الأفعال، والرّكض فى ميدان الاغترار، وانقضاء وقت الاعتذار؟! هيهات! لقد استوجبت أن تردّ فى وجهك، فلا لعذرك قبول، ولا لك إلى ما ترومه وصول. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 92] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) لنشهرنّ تعذيبك، ونظهرنّ- لمن استبصر- تأديبك، لتكون لمن خلفك عبرة، وتزداد حين أفقت أسفا وحسرة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 93] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)   (1) تصح أن تكون كذلك، وتصح أن تكون (الغلظة) بالظاء، وهى قسوة القلب من الكفر والعناد، ولا نستبعد أيضا أن تكون: أفاق من سكر (الغفلة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 أذللنا لهم الأيام، وأكثرنا لديهم الإنعام، وأكرمنا لهم المقام، وأتحنا لهم فنون الحسنات، وأدمنا لهم جميع الخيرات ... فلمّا قابلوا النعمة بالكفران، وأصرّوا على البغي والعدوان أذقناهم سوء العذاب، وسددنا عليهم أبواب ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب، وذلك جزاء من حاد عن طريق الوفاق، وجنح إلى جانب الشّقاق. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 94] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) ما شكّ- صلى الله عليه وسلم- فيما عليه أنزل، ولا عن أحد منهم ساءل، وإنما هذا الخطاب على جهة التهويل، والمقصود منه تنبيه القوم على ملازمة نهج السبيل. ويقال صفة أهل الخصوص ملاحظة أنفسهم وأحوالهم بعين الاستصغار. ويقال فإن تنزّلت منزلة أهل الأدب فى ترك الملاحظات فسل عمّن أرسلنا قبلك فهل بلّغنا أحدا منزلتك؟ وهل خصصنا أحدا بمثل تخصيصك؟ قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 95] وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) ما كان منهيا عنه، وكان قبيحا فبالشرع كان قبيحا، فلا بد من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة. وإنما لم يجز فى صفته- صلى الله عليه وسلم- التكذيب بآيات الله لأنه نهى عنه لا لكونه قبيحا بالعقل «1» حتى يقال كيف نهى عنه وكان ذلك بعيدا منه؟   (1) يغمز القشيري هنا بقول المعتزلة: إن القبيح ما رآه العقل قبيحا والحسن ما رآه العقل حسنا، ويرى القشيري التعويل على الشرع فى هذا الخصوص- كما هو واضح من إشارته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فالأعداء حقّت عليهم كلمة بالعقاب، والأولياء حقت عليهم كلمة بالثواب فالكلمة أزليّة، والأحكام سابقة، والأفعال فى المستأنف على ممر الأوقات على موجب القضية لاحقة، فالذين نصيبهم من القسمة الشقوة لا يؤمنون وإن شاهدوا كل دلالة، وعاينوا كل معجزة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 98] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) قوم يونس تداركتهم الرحمة الأزلية فيما أجرى عليهم من توفيق التضرع، فكشف عنهم العذاب، وصرف عنهم ما أظلّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته «1» . قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 99] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) كيف يتعصى عليه سبحانه مراد- والذي يبقى شىء عن مراده ساه أو مغلوب؟ والذي يستحق جلال العزّة لا يفوته مطلوب. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 100] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) .   (1) أي أن عمل الإنسان لا يكفى وحده للوصول إلا إذا ارتبط بتوفيق الله وفضله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 لا يمكن حمل «1» الإذن فى هذه الآية إلا على معنى المشيئة لأنه للكافة بالإيمان، والذي هو مأمور بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه. ولا يجوز حمل هذه الآية على معنى أنه لا يؤمن أحد إلا إذا ألجأه الحقّ إلى الإيمان واضطره- لأنّ موجب ذلك ألا يكون أحد فى العالم مؤمنا بالاختبار، وذلك خطأ، فدلّ على أنه أراد به إلا أن يشاء الله أن يؤمن هو طوعا. ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحد أن يؤمن طوعا ثم لا يؤمن لأنه يبطل فائدة الآية، فصحّ قول أهل السّنّة بأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن «2» . قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 101] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) الأدلة- وإن كانت ظاهرة- فما تغنى إذا كانت البصائر مسدودة، كما أن الشموس- وإن كانت طالعة- فما تغنى إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة، كما قيل: وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم؟ قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 102] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) تمنّي ألطاف أنوار الحقيقة تعنّ فى تسويل، واستناد إلى غير تحصيل، وتماد فى تضليل. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 103] ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض فقوله تعالى: «عَلَيْنا» هاهنا معناها «منا» ،   (1) وردت (حول) وهى خطا فى النسخ. (2) هذا نموذج طيب لموقف القشيري متكلما سنيا- بالنسبة لقضية اختيار الإنسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 فلا شىء يجب على الله لكونه إلها ملكا، فيجب الشيء من الله- لصدقه- ولا يجب عليه- لعزّته «1» . وكما لا يجوز أن يدخل نبى من الأنبياء- عليهم السلام- فى النار لا يجوز أن يخلّد واحد من المؤمنين فى النار لأنه أخبر أنه ينّجى الرسل والمؤمنين جميعا. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 104] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) إن كنتم فى غطاء الرّيب فأنا فى ضياء من الغيب، إن كنتم فى ظلمة الجهل فأنا فى شموس الوصل، إن كنتم فى سدفة الضّلالة فأنا فى خلعة الرسالة وعلى أنوار الدلالة. ويقال قد تميزنا على مفرق الطريق: فأنتم وقعتم فى وهدة العوج، وأنا ثابت على سواء «2» النّهج. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 105] وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) أي أخلص قلبك للدّين، وجرّد قلبك عن إثبات كلّ ما لحقه قهر التكوين، وكن مائلا عن الزيغ والبدع، داخلا فى جملة من أخلص فى الحقيقة. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 106] وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)   (1) تأمل هذا التخريج حتى ينسجم مذهبه الكلامى مع ظاهر النص القرآنى. (2) وردت (سوء) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 لا تعبد ما لا تنفعك عبادته ولا تضرّك عبادته، وتلك صفة كل ما يعبد من دون الله. واستعانة الخلق بالخلق تمحيق للوقت بلا طائل فمن لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا كيف يستعين به من هو فى مثل حاله؟ وإذا انضاف الضعيف إلى الضعيف ازداد الضعف. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 107] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) كما تفرّد بإبداع الضرّ واختراعه فلا شريك يعضّده.. كذلك توحّد بكشف الضرّ وصرفه فلا نصير ينجده. ويقال هوّن على المؤمن الضرّ بقوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» حيث أضافه إلى نفسه، والحنظل يستلذّ من كفّ من تحبه. وفرّق بين الضرّ والخير بإضافة الضرّ إليه فقال: وإن يمسسك الله بضرّ، ولم يقل: وإن يردك بضر- وإن كان ذلك الضرّ صادرا عن إرادته- وفى ذلك من حيث اللفظ دقّة. ويقال: عذب الضرّ حيث كان نفعه فلمّا أوجب مقاساة الضّرّ من الحرب أبدل مكانه السرور والطّرب. قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 108] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) من استبصر ربح رشد نفسه، ومن ضلّ فقد زاغ عن قصده فهذا بلاء اكتسب، وذلك ضياء وشفاء اجتلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قوله جل ذكره: [سورة يونس (10) : آية 109] وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) قف عند جريان أحكامنا، وانسلخ عن مرادك بالكلية، ليجرى عليك ما يريد، والله أعلم بالصواب. السورة التي يذكر فيها هود عليه السلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه كلمة استولت على عقول قوم فبصّرتها، وعلى قلوب آخرين فجّردتها، فالتى بصّرتها فبنور برهانه، والتي جرّدتها فبقهر سلطانه.. فعالم سلك سبيل بحثه واستدلاله فسكن لمّا طلعت نجوم عقله تحت ظلال إقباله، وعارف تعرّض إلى وصاله فطاح لمّا لاحت لمعة ممن تقدّس بالإعلام باستحقاق جلاله. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) الألف إشارة إلى انفراده بالربوبية. واللام إشارة إلى لطفه بأهل التوحيد. والراء إشارة إلى رحمته بكافة البريّة. وهى فى معنى القسم: أي أقسم بانفرادى بالربوبية ولطفى بمن عرفنى بالأحدية، ورحمتى على كافة البرية- إنّ هذا الكتاب أحكمت آياته. ومعنى «أُحْكِمَتْ آياتُهُ» : أي حفظت عن التبديل والتغيير، ثم فصّلت ببيان نعوت الحقّ فيما يتصف به من جلال الصمدية، وتعبّد به الخلق من أحكام العبودية، ثم مالاح لقلوب الموحّدين والمحبين من لطائف القربة، فى عاجلهم البشرى بما وعدهم به من عزيز لقائه فى آجلهم، وخصائصهم التي امتازوا بها عمّن سواهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 2] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) أي فصلت آياته بألا تعبدوا إلا الله. ويقال معناه فى هذا الكتاب ألا تعبدوا إلا الله، إنى لكم منه «نَذِيرٌ» مبين بالفرقة، «وَبَشِيرٌ» بدوام الوصلة، (فالفرقة بل فى عاجله واحدا) «1» . قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 3] وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) استغفروا ربّكم أولا ثم توبوا إليه بعده. والاستغفار طلب المغفرة، يعنى قبل أن تتوبوا اطلبوا منه المغفرة بحسن النّظرة، وحمل الرجاء والثقة بأنه لا يخلّد العاصي فى النار، فلا محالة يخرجه منها.. فابتدئوا باستغفاركم، ثم توبوا بترك أوزاركم، والتنقّى عن إصراركم. ويقال استغفروا فى الحال مما سلف، ثم إن الممتم بزلّة أخرى فتوبوا. ويقال استغفروا فى الحال ثم لا تعودوا إلى ارتكاب الزلة فاستديموا التوبة- إلى مآلكم- مما أسلفتم من قبيح أعمالكم. ويقال «اسْتَغْفِرُوا» : الاستغفار هو التوبة، والتنقى من جميع الذنوب، ثم «تُوبُوا» من توهّم أنكم تجابون بتوبتكم، بل اعلموا أنه يجيبكم بكرمه لا بأعمالكم. ويقال «الاستغفار» : طلب حظوظكم من عفونا.. فإذا فعلتم هذا فتوبوا عن طلب كل حظ ونصيب، وارجعوا إلينا، واكتفوا بنا، راضين بما تحوزونه من التجاوز عنكم أو غير ذلك مما يخرجكم به. قوله جل ذكره: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي نعيّشكم عيشا طيبا حسنا مباركا. ويقال هو إعطاء الكفاية مع زوال الحرص. ويقال هو القناعة بالموجود.   (1) هذه عبارة إما أنها زائدة نتيجة خطأ فى النسخ، أو أن بها اضطرابا فى الكتابة أفقدها المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 ويقال هو ألا يخرجه إلى مخلوق، ولا يجعل لأحد عليه منّة (لا سيما للئيم «1» ) . ويقال هو أن يوفقه (لاصطناع المعروف إلى المستحقين. ويقال هو أن تقضى على يديه) «2» حوائج الناس. ويقال هو ألا يلمّ فى حال شبابه بزلّة، وألا يتصف بأنه عن الله فى غفلة. ويقال هو أن يكون راضيا بما يجرى عليه من نوعى العسر و، اليسر. قوله جل ذكره: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ من زادت حسناته على سيئاته أعطاه جزاء ما فضل له من الطاعات، ومن زادت سيئاته على حسناته كافأه بما يستوجبه من زيادة السيئات ... هذا بيان التفسير. ويقال من فضّله بحسن توفيقه أوصله إلى ما يستوجبه من لطفه ويزيده.. ويقال هو أن يستر عليه فضله حتى لا يلاحظ حاله ومقامه، بل ينظر إلى نفسه، وما منه وما له.. بعين الاستحقار والاستصغار. ويقال هو أن يرقيه عن التعريج فى أوطان البشرية إلى طاعات شهود الأحدية، وينقّيه عن ( .... ) «3» البشرية، والتكدر بما يبدو من مفاجآت التقدير. ويقال هو ألا يوحشه شىء بما يجرى فى الوقت. ويقال هو أن يحقّق له ما تسموا إليه همّته، ويبلغّه فوق ما يستوجبه محلّه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 4] إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)   (1) ما بين القوسين فى أعلى الصفحة ومكتوب بخط ردئ جدا. (2) ما بين القوسين فى هامش الصفحة بخط حسن ومن هذا وذاك يتضح أن النسخة قيض لها أن تراجع بواسطة قارئين مختلفين. (3) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 تنقطع الدعاوى عند الرجوع إلى الله، وتنتفى الظنون، ويحصل اليأس من غير الله بكل وجه، ويبقى العبد بنعت الاضطرار، والحقّ يجرى عليه ما سبقت به القسمة من أنواع الأقدار. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) أي يسترون ما تنطوى عليه عقائدهم، ويضمرون للرسول- عليه السلام- وللمؤمنين خلاف ما يظهرون، والحقّ- سبحانه- مطّلع على قلوبهم، ويعلم خفايا صدورهم، فتلبيسهم لا يغني عنهم من الله شيئا، وكان الله- سبحانه- يطلع رسوله- عليه السلام- على ما أخفوه إمّا بتعريف الوحى، أو بإشهاد لقوّة نور، وكذلك المؤمنون كانوا مخصوصين بالفراسة، فكل مؤمن له بقدر حاله من الله هداية، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله» «1» ولقد قال قائلهم. أبعيني أراك أم بفؤادى؟ ... كلّ ما فى الفؤاد للعين باد قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 6] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) أراح القلوب من حيرة التقسيم، والأفكار من نصب التفكير فى باب الرزق حيث قال: «إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» فسكنت القلوب لمّا تحقّقت أنّ الرزق على الله. ويقال إذا كان الرزق على الله فصاحب الحانوت فى غلط من حسبانه. ثم إن الله سبحانه   (1) رواه الترمذي والطبراني. ورواه القشيري فى رسالته (ص 115) هكذا: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمى قال أخبرنا أحمد ابن على الرازي قال أخبرنا محمد بن أحمد بن السكن قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا محمد بن كثير الكوفي قال حدثنا عمرو بن قيس عن عطية عن أبى سعيد قال قال رسول الله (ص) : «واتقوا ... » الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 بيّن أنّ الرزق الذي «عليه» ما حاله فقال: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» ، وما كان فى السماء لا يوجد فى السوق، ولا فى التّطواف فى الغرب والشرق «1» . ويقال الأرزاق مختلفة فرزق كل حيوان على ما يليق بصفته. ويقال للنفوس رزق هو غذاء طريقه الخلق، وللقلوب رزق وهو ضياء موجده الحق. ويقال لم يقل ما يشتهيه أو مقدار ما يكفيه بل هو موكول إلى مشيئته فمن موسّع عليه ومن مقتّر. قوله جل ذكره: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ قيل أراد به أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، أو الدنيا والآخرة. ويقال مستقرّ المريد بباب شيخه كمستقرّ الصبيّ بباب والديه. ويقال مستقر العابدين المساجد، ومستقر العارفين المشاهد، فالمساجد مستقرّ نفوس العابدين، والمشاهد مستقرّ قلوب العارفين. ويقال مستقرّ المحب رأس سكّة محبوبه لعلّه يشهده عند عبوره. ويقال المساجد للعابدين مستقرّ القدم، والمشاهد للعارفين مستقرّ الهمم، والفقراء مستقرهم سدّة الكرم. ويقال الكلّ له مثوى ومستقر، أما الموحّد فإنه لا مأوى له ولا مستقر ولا مثوى ولا منزل. ويقال النفوس مستودع التوفيق من الله، والقلوب مستودع التحقيق من قبل الله. ويقال القلوب مستودع المعرفة فالمعرفة وديعة فيها. والأرواح مستودع المحبة فالمحاب ودائع فيها. والأسرار مستودع المشاهدات فالمشاهدات ودائع فيها. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 7] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)   (1) قد يبدو للوهلة الأولى أن كلام القشيري لا ينتظم مع قوله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» ولكن الواقع أنه يقصد بذلك رزق السرائر لا رزق الظواهر. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وأحسن الأعمال موافقة الأمر، ولم يقل أكثر عملا. ويقال أحسن الأعمال ما كان صاحبه أشدّ إخلاصا فيه. ويقال أحسنهم عملا أبعدهم عن ملاحظة أعماله. ويقال أحسن الأعمال ما ينظر إليه صاحبه بعين الاستصغار. ويقال أحسن الأعمال ما لا يطلب صاحبه عليه عوضا. ويقال أحسن الأعمال ما غاب عنه صاحبه لاستغراقه فى شهود المعبود. قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ» الابتلاء من قبله تعريف الملائكة حال من يبتليه فى الشكر عند اليسر والصبر عند العسر. قوله جل ذكره: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ استبعدوا النّشر لتقاصر علومهم عن التحقّق بكمال قدرة الحق، ولو عرفوا ذلك لأيقنوا أن البعث ليس بمعتاص فى الإيجاد ولا بمستحيل فى التقدير. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 8] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) يقول: إنّ أمهلنا، وأخّرنا عليهم العذاب لا يرعوون، بل يستعجلون العقوبة. ولئن عجّلنا لهم العقوبة لا يتوبون ولا يستغفرون ... استولى عليهم الجهل فى الحالين، وعميت بصائرهم عن شهود التقدير والإيمان بالغيب فى النوعين. ويوم يأتيهم العذاب فلا مناص ولا منجاة ولا مراح لهم منه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 9] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 تكدّر ما صفا من النّعم، وتغيّر ما أتيح من الإحسان والمنن حال معهودة وخطّة عامة، فلا أحد إلا وله منها خطّة «1» فمن لم يرجع بالتأسّف قلبه، ولم يتضاعف فى كل نفس تلهفه وكربه ففى ديوان النسيان، وأثبت اسمه فى جملة أهل الهجران. ومن استمسك بعروة التضرع، واعتكف بعقوة التذلل، احتسى كاسات الحسرة عللا بعد نهل طاعته للحق بنعت الرحمة، وجدّد له ما اندرس من أحوال القربة، وأطلع عليه شمس الإقبال بعد الأفول والغيبة، كما قيل تقشّع غيم الهجر عن قمر الحبّ ... وأشرق نور الصبح فى ظلمة الغيب وليس للأحوال الدنيوية خطر فى التحقيق، ولا يعدّ زوالها وتكدرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل، لكنّ المحنة الكبرى والرزية العظمى ذبول غصن الوصال وتكدر مشرب القرب، وأفول شوارق الأنس، ورمد بصائر أرباب الشهود ... فعند ذلك تقوم قيامتهم، وهناك تسكب العبرات. ويقال إذا نعق فى ساحات هؤلاء غراب البين ارتفع إلى السماء نواح أسرارهم بالويل، ومن جملة ما يبثون من نحييهم ما قلت. قولا لمن سلب الفؤاد فراقه ... ولقد عهدنا أن يباح عتاقه بعد الفراق ... فبالذى هو بينا ... هلّا رحمتم من دنا إزهاقه؟ عهدى بمن جحد الهوى أزمان ك ... نّا بالصبابة- لا يضيق نطاقه. والآن مذ بخل الزمان بوصلنا ... ضاق البسيطة. حين دام فراقه. هل ترتجى من وصل عزّك رجعة ... تحنو على قمر يذوم محاقه؟ إن كان ذاك كما تروم فأخبروا ... أنّى له أن يعود شروقه «2» ؟ قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 10] وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)   (1) (الخطة) بضم الخاء الأمر والحالة، و (والخطة) بكسر الخاء ما يختطه الإنسان لنفسه من قدر معلوم من الأرض ونحوها. (2) الأبيات فى هذا النص وصلتنا مضطربة الوزن سيئة الخط. مطموسة الكلمات فى كثير من المواضع وقد تدخلنا فيها بقدر يسمح بإظهار المعنى وتناسق السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 إذا كشفنا الضرّ عنهم رحمة منّا عادوا إلى تهتكهم بدلا من أن يتقربوا إلينا، وأساءوا يخلع عذارهم بدل أن يقوموا بشكرنا، وكلما أتحنا لهم من إمهالنا أمنوا لمكرنا، ولم يخافوا أن نأخذهم فجأة بقهرنا. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 11] إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) الإنسان فى الآية السابقة اسم جنس. وإلا للاستثناء منه، وقيل بمعنى «لكن» ، يريد إذا أذقناهم نعمة بعد الشدة بطروا، إلا المؤمنين فإنهم بخلاف ذلك، أي لكنّ الذين آمنوا بخلاف ذلك، فإنهم لصبرهم على على ما به أمروا، وعما عنه زجروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزّلات.. فلهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجر على إحسانهم. والفريقان لا يستويان، قال قائلهم. أحبابنا شتّان واف وناقص ... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 12] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) اقترحوا عليه أن يأتى بكتاب ليس فيه سبّ آلهتهم، وبيّن الله- سبحانه- له ألا يترك تبليغ ما أنزل عليه لأجل كراهتهم، ولا يبدّل ما يوحى إليه. قوله جل ذكره: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. وهذا على وجه الاستبعاد أي لا يكون منك ترك ما أوحى إليك، ولا يضيق صدرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 بما يبدو من الغيب.. ومن شرح الله بالتوحيد صدره، ونوّر بشهود التقدير سرّه- متى يلحقه ضيق صدر أو استكراه أمر؟ ثم قال: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» : أي أنت بالإرسال منصوب، وأحكام التقدير عليك مجراة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 13] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فى الآية بيان أنّ المكلّف مزاح العلّة لما أقيم له من البرهان وأهّل له من التحقيق. وأنّ الإيمان بالواسطة- صلى الله عليه وسلم وآله- واجب لما خصّ به من المعجزات التي أوضحها الكتاب المنزل والقرآن المفصّل الذي عجز الكفار عن معارضته. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 14] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) يعنى فإن لم يستجيبوا لكم يعنى إلى الإتيان بمثله- وهم أهل بلاغة- فتحققوا أنه من قبل الله، وليس على سنة التحقيق ( .... ) «1» إنما العمى فى بصائر من ضلّوا عن الحقّ، وتاهوا فى صدفة الحيرة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 15] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) من قنع منهم بدنيا الدناءة صفتها وسّعنا عليه فى الاستمتاع بأيام فيها، ولكن عقب اكتمالها سيرى زوالها، ويذوق بعد غسلها حنظلها.   (1) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أولئك الذين خابت آمالهم، وظهرت لهم- بخلاف ما احتسبوا- آلامهم، حبطت أعمالهم، وحاق بهم سوء حالهم. قوله جل ذكره [سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) فيه إضمار «1» ومعناه أفمن كان على بينة كمن ليس على بينة.. لا يستويان. والبيّنة لأقوام برهان العلم، ولآخرين بيان الأمر بالقطع والجزم يشهدهم الحقّ مالا يطلع عليه غيرهم، كما قلت: ليلى من وجهك شمس الضحى ... ... فالناس فى الظلمة من ليلهم ونحن من وجهك فى الضوء والشاهد فالذى يتولاه فهو مشاهد، وفى الخبر «أولياء الله الذين إذا أرادوا ذكر الله .... » «2» . قال تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» . قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 18] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)   (1) إضمار هنا مستعملة لما يسمى فى علم البلاغة بإيجاز الحذف. (2) سقطت بقية الخبر من الناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 من ادّعى على الله حالا لم يكن متحققا بها فقد افترى على الله كذبا، واستوجب المقت، وعقوبته ألّا يرزق بركة فى أحواله، ثم إنه يكشف للشهداء عيوبه، فيفضحه بين الخلق، والشهداء قلوب الأولياء، ومن شهدت القلوب عليه بالردّ فهو غير مقبول عند الحقّ قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 19] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) الآية. هذا من جملة صفات المفترين على الله الكذب، ومن صدّهم عن السبيل أن يظهروا من أنفسهم أحوالا تخلّ بأحكام الشريعة، ولا يرون ذلك كبيرة فى الطريقة، ويوهمون المستضعفين من أهل الاعتراض عليهم أنّ لهم فى ذلك رخصة، فيضلّون ويضلّون. ومن جملة صدّهم عن السبيل تغريرهم بالناس، وإيقاعهم فى الغلط، ويرتفقون بشىء مما فى أيديهم من حطام الدنيا، ولا يستحيون من أخذ شىء لا يستوجبونه بأى وجه حقّ، ويداهنون فى دين الله. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 20 الى 21] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) الآية. من هذه صفتهم لا يربحون فى تجارتهم، ولا يلحقون غاية طلبوها فيبقون عن الحق، ولا يبارك لهم فيما اعتاضوا من صحبة الخلق.. خسرت صفقتهم، وبارت بضاعتهم، لقوا الهوان، وذاقوا اليأس والحرمان. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 22] لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) لا محالة أنهم فى الآخرة أشدّ خسرانا، وأوفر- من الخيرات- نقصانا. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 23] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) الإخبات التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار، ومن علامته الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستغاثة بالسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 24] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) الآية مثل الكافر فى كفره كالأعمى والأصم، ومثل المؤمن فى إيمانه كالسميع والبصير- هذا بيان التفسير. والإشارة فيه أن الأعمى من عمى عن الإبصار بسرّه، والأصمّ الذي طرش بسمع قلبه فلا باستدلاله شهد سر تقديره فى أفعاله، ولا بنور فراسة توهم ما وقف عليه من مكاشفات الغيب لقلبه، ولا بسمع القبول استجاب لدواعى الشريعة، ولا بحكم الإنصاف انقاد لما يتوجّب عليه من مطالبات الوقت مما يلوح لسرّه من تلويحات الحقيقة. وأما البصير فهو الذي يشهد من الحق أفعاله بعلم اليقين، ويشهد صفاته بعين اليقين، ويشهد ذاته بحق اليقين، والغائبات له حضور، والمستورات له كشف. فالذى يسمع فصفته ألا يسمع هواجس النّفس ولا وساوس الشيطان فيسمع من دواعى العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرّا «1» فهؤلاء لا يستويان، ولا فى طريق يلتقيان: راحت مشرّقة ورحت مغرّبا ... فمتى التقاء مشرّق ومغرّب؟! قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) كان نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرا وأشدّهم بلاء، وسمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه.. وسبب ذلك أنه مرّ بكلب فقال: ما أقبحه! فأوحى الله إليه أن اخلق أنت أحسن من هذا. فأخذ يبكى وينوح على نفسه كلّ ذلك النّوح. فكيف بحال من لم يذكر يوما مما مضى من عمره فى مدة تكليفه- ولم يحصل منه لله كثير من ولاية!؟   (1) تفيد هذه الإشارة فى بيان أحكام «السماع» عند الصوفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 27] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) أنكروا صحة كونه نبيّا لمشاكلته إياهم فى الصورة، ولم يعلموا أن المباينة بالسريرة لا بالصورة. ثم قال: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» : نظروا إلى أتباعه نظرة استصغار، ونسبوهم إلى قلّة التحصيل.. وما استصغر أحد أحدا من حيث رؤية الفضل عليه إلا سلّط الله عليه، وأذاقه ذلّ صغاره، فبالمعانى يحصل الامتياز لا بالمباني: ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفى أثوابه أسد هصور فإن أك فى شراركم قليلا ... فإنى فى خياركم كثير قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 28] قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) الصّبح لا خلل فى ضيائه لكون الناظرين عميانا، والسيف لا خلل فى مضائه لكون الضاربين صبيانا ... وكيف لبشر من قدرة على هداية من أضلّه الله- ولو كان نبيّا؟ «1» . هيهات لا ينفع مع الجاهل نصح، ولا ينحح فى المصرّ وعظ!   (1) الأفضل أن تكون (ولو كان نبيا) جملة اعتراضية تلى (لبشر) حتى يستقيم التركيب، ولكننا أثبتنا ما جاء في (ص) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 29] وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) سنّة الأنبياء- عليهم السلام- ألا يطلبوا على رسالتهم أجرا، وألّا يؤملوا لأنفسهم عند الخلق قدرا، وعملهم لله لا يطلبون شيئا من غير الله. فمن سلك من العلماء سبيلهم حشر فى زمرتهم، ومن أخذ على صلاحه من أحد عوضا، أو اكتسب بسداده جاها لم ير من الله إلا هوانا وصغارا. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 30] وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) مجالسة الفقراء اليوم- وهم جلساء الحقّ غدا- أجدى من مجالسة قوم من الأغنياء هم من أهل الردّ. ومن طرد من قرّبه الله وأدناه استوجب الخزي فى دنياه، والصّغار فى عقباه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 31] وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) لا أتخطّى خطّى عما أبلغت مما حملت من رسالتى، ولا أتعدّى ما كلّفت به، ولا أزيد عما أمرت، ولن أخرج عن الذي أنبئوني، بل أنتصب بشاهدى فيما أقامونى. قوله جل ذكره: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن أولياء الله سبحانه فى أثوابهم ولا يراهم إلا من قاربهم فى معناهم. الله أعلم بأحوالهم، وفى الجملة: طير السماء على ألّافها تقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 32] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) أوضح لهم من البراهين مالوا أمعنوا النظر فيه لتمّ لهم اليقين، ولكنهم أصروا على الجحود، ولم يقنعوا من الموعود بغير المشهود. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 33] قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) أقرّ بالعبودية، وتبرّأ عن الحول والقوة، وأحال الأمر على المشيئة. ولقد أنصف من لم يجاوز حدّه فى الدعوى. والأنبياء عليهم السلام- وإن كانوا أصحاب التحدي للناس بمعجزاتهم فهم معترفون بأنهم موقوفون عند حدودهم. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 34] وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) من لم يساعده تعريف الحقّ- بما له بحكم العناية- لم ينفعه نصح الخلق فى النهاية. ويقال من لم يوصّله الحقّ للوصال فى آزاله «1» لم ينفعه نصح الخلق فى حاله ويقال من سبق الحكم له بالضلالة أنّى ينفعه النصح وبسط الدلالة؟ ويقال من لم تساعده قسمة السوابق لم ينفعه نصح الخلائق. قوله: «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» : من المحال اجتماع الهداية والغواية فإذا أراد الله بقوم الغواية لم يصح أن يقال إنهم من أهل الهداية. ثم بيّن المعنى فى ذلك بأن قال «هُوَ رَبُّكُمْ» ليعلم العالمون أنّ الربّ تعالى له أن يفعل بعباده ما شاء بحكم الربوبية.   (1) أي بما سبقت به القسمة- حسب تعبير القشيري فى مواضع أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 35] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) ومهما وصفتمونى فإنى أجيب الله.. وكلّ مطالب بفعله دون فعل صاحبه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 36] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) عرّفه الحقّ أنّه غنيّ عن إيمانهم، فكشف له أحكامهم، وأنّ من لم يؤمن منهم قد سبق الحكم بشقائهم، فعند ذلك دعا عليهم نوح- عليه السلام- بالإهلاك. ويقال لم يدع عليهم ما دام للمطمع فى إيمانهم مساغ، فلما حصل العكس نطق بالتماس هلاكهم. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 37] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) أي قم- بشرط العبودية- بصنع السفينة بأمرنا، وتحقق بشهودنا، وأنّك بمرأى منا. ومن علم اطلاعه عليه لم يلاحظ نفسه ولا غيره، لا سيما وقد تحقق بأنّ المجرى هو سبحانه. وقال له: راع حدّ الأدب، فما لم يكن لك إذن منا فى الشفاعة لأحد فلا تخاطبنا فيهم. ويقال سبق لهم الحكم بالغرق- وأمواج بحر التقدير تتلاطم- فكلّ فى بحار القدرة مغرقون إلا من أهّله الحقّ بحكمه فحمله فى سفينة العناية. ويقال كان قوم نوح من الغرقى فى بحار القطرة، ومن قبل كانوا غرقى فى بحار القدرة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 38] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 لما تحقّق بما أمر الله به لم يأبه عند إمضاء ما كلّف به بما سمع من القيل، ونظر إلى الموعود بطرف التصديق فكان كالمشاهد له قبل الوجود. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 39] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) لا طاعة لمخلوق فى مقاساة تقديره- سبحانه- إلا من تحمل عنه بفضله ما يحمله بحكمه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) طال انتظارهم لما كان يتوعّدهم به نوح عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يزدهم تطاول الأيام إلا كفرا، وصمّموا على عقد تكذيبهم. ثم لمّا أتاهم الموعود إياهم بغتة، وظهر من الوضع الذي لم يحبّوه فار الماء من التنور المسجور، وجادت السماء بالمطر المعبور «1» . «قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» : استبقاء للتناسل. ويقال: قد يؤتى الحذر من مأمنه فإن إبليس جاء إلى نوح- عليه السلام-. وقال: احملني فى السفينة فأبى نوح عليه السلام، فقال له إبليس: أما علمت أنى من المنظرين إلى يوم معلوم، ولا مكان لى اليوم إلا فى سفينتك؟ فأوحى الله إلى نوح أن يحمله معه. ويقال لم يكن لابن نوح معه مكان، وأمر بحمل إبليس وهو أصعب الأعداء! وفى هذا إشارة إلى أن أسرار التقدير لا تجرى على قياس الخلق كأنه قيل له: يا نوح.. ابنك لا تحمله، وعدوك فأدخله، فالله سبحانه فعّال لما يريد «2» .   (1) أي الجاري. (2) فى هذه الإشارة تلميح إلى قاعدة فى مذهب القشيري أن أفعال الله لا تخضع لما ألف الناس من مقاييس نسبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 قوله جل ذكره: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» بالشقاوة. وفيه تعريف بأن حكم الأزل لا يردّ، والحقّ- سبحانه- لا ينازع، والجبّار لا يخاصم، وأن من أقصاه ربّه لم يدنه تنبيه ولا برّ ولا وعظ. «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ولكن بارك الحقّ- سبحانه- فى الذين نجّاهم من نسله، ولم يدخل خلل فى الكون بعد هلاك من أهلك من قومه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 41] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) عرف أنّ نجاته من القطرة لمّا تقاطرت ليست بالحيل- وإن تنوّعت وكثرت، فباسم الله سلامته، وبتوكله على الله نجاته وراحته، وبتفضله- سبحانه- صلاحه وعافيته. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 42] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) وكان فى معزل بظاهره، وكان فى سرّ تقديره أيضا بمعزل عما سبق لنوح وقومه من سابق فضله. فحينما نطق بلسان الشفقة وقال: «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» - لم يقل له: ولا تكن من الكافرين لأن حالته كانت ملتبسة على نوح إذ كان ابنه ينافقه- فقيل له: يا نوح إنه مع الكافرين لأنه فى سابق حكمنا من الكافرين. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 43] قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 أخطأ من وجهين: رأى الهلاك من الماء وكان من الله، ورأى النجاة والعصمة من الجبل وهما من الله، فقال له نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله، قيل أراد لا معصوم اليوم من الله. وقيل لا أحد يعصم أحدا من أمر الله، لكن من رحمه ربّه فهو معصوم من ذلك، وله عاصم وهو الله. ولقد كان نوح- عليه السلام- مع ابنه فى هذه المخاطبات فجاءت أمواج الماء وحالت بينهما وصار من المغرقين، فلا وعظه ونصحه نفعاه، ولا قوله وتذكيره نجيّاه وخلّصاه. ويقال احتمل أن لو قيل له يا نوح عرّفنا العالم بدعائك ولا عليك إن عرف. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 44] وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) فلما غرق ابن نوح سكن الموج ونضب «1» الماء وأقلعت السماء، وكأنه كان المقصود من الطوفان أن يغرق ابن نوح- عليه السلام- وقيل: عجبت لسعى الدهر بينى وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 46] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)   (1) وردت (نصب) بالصاد، وهى خطأ فى النسخ، والمراد (نضب) الماء أي غار وانحسر، فهى ملائمة لإقلاع السماء أي إمساكها عن المطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 خاطب الحقّ- سبحانه- فى باب ابنه، واستعطف فى السؤال فقال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» : فقال له: إنّه ليست من أهل الوصلة قسمته- وإن كان من أهلك نسبا ولحمة، وإنّ خطابك فى بابه عمل غير صالح، أو إنه أيضا عمل غير صالح «1» . «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» : أي سترت غيبى فى حال أوليائى وأعدائى، فلا يعلم سرّ تقديرى. قوله: «إِنِّي أَعِظُكَ» : وذلك لحرمة شيخوخته وكبره، ولأنه لم يستجب له فى ولده، فتدارك بحسن الخطاب قلبه. وقيل إن ابن نوح بنى من الزجاج بيتا وقت اشتغال أبيه باتخاذ السفينة، فلما ركب نوح السفينة دخل ابنه فى البيت الذي اتخذه من الزجاج، ثم إن الله تعالى سلّط عليه البول حتى امتلأ بيت الزجاج من بوله فغرق الكلّ فى ماء البحر، وغرق ابن نوح فى بوله! ليعلم أنه لا مفرّ من القدر. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 47] قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) نسى نوح- عليه السلام- حديث ابنه فى حديث نفسه، فاستعاذ بفضله واستجار بلطفه، فوجد السلامة من ربّه فى قوله جل ذكره [سورة هود (11) : آية 48] قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) طهّر وجه الأرض من أعدائه، وحفظ نوحا عليه السلام من بلائه، هو ومن معه من أصدقائه وأقربائه.   (1) وعلى هذا الرأى تكون نجاة قوم نوح بسبب عملهم الصالح لا بسبب قرابتهم له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 والأمم التي أخبر أنه سيمتّعهم ثم يمسّهم العذاب هم الذين ليسوا من أهل السعادة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 49] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) أعلمناك بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمه من شخص، أو من قراءة كتاب فإن قابلك قومك بالتكذيب فاصبر، فعن قريب تنقلب هذه الأمور. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 50] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) كلّف الأنبياء- عليهم السلام- بالذهاب إلى الخلق لا سيما وقد عاينوا- بالحق- من تقدّمهم من فترة الملأ، ولكنهم تحمّلوا ذلك حين أمرهم الحقّ بالتوجّه إليهم فرضوا، وأظهروا الدلالة، وأدّوا الرسالة، ولكن ما زاد الناس إلا نفرة على نفرة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 51 الى 52] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) لم يأت نبىّ من الأنبياء- عليهم السلام- إلّا وأخبر أنه ليس له أن يطلب فى الجملة أجرا إلّا من الله لا من غير الله. قوله جل ذكره: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 استغفروا ربكم ثم توبوا إليه بعد الاستغفار، من توهمكم أن نجاتكم باستغفاركم. بل تحقّقوا بأنكم لا تجدون نجاتكم إلا بفضل ربّكم فبفضله وبتوفيقه توصّلتم إلى استغفاركم لا باستغفاركم، وصلتم إلى نجاتكم، وبرحمته أهلكم إلى استغفاركم، وإلّا لما وصلتم إلى توبتكم ولا إلى استغفاركم. والاستغفار قرع باب الرزق، فإذا رجع العبد إلى الله بحسن تضرعه، فتح عليه أبواب رحمته، ويسّر له أسباب نعمته. ويقال ينزّل على ظواهركم أمطار النّعمة، وعلى ضمائركم وسرائركم ينزّل أنواع المنّة، ويزيدكم قوة على قوة قوة تحصلون بها توسعة أنواع الرزق، وقوة تحصلون بها تحسبن أصناف الخلق. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 53] قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) ما زادهم هود عليه السلام بسطا فى الآية وإيضاحا فى المعجزة إلا زادهم الله تعالى عمى على عمى، ولم يرزقهم بصيرة ولا هدى، ولم يزيدوا فى خطابهم إلا بما دلّوا على فرط جهالتهم، وشدة ضلالتهم بعد إطنابهم وانتهابهم «1» ، وقالوا: [سورة هود (11) : آية 54] إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) وكيف ظنّوا أنّ آلهتهم تمسّ أعداءهم بسوء وهى لا تضرّ أعداءها ولا تنفع أولياءها؟ فهؤلاء الغواية عليهم مستولية. ثم إن هودا عليه السلام أفصح عن فضل ربّه عليه وصرّح بإخلاصه وحسن يقينه فقال: إنى برىء مما تشركون، ثم قال: [سورة هود (11) : آية 55] مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) .   (1) يقال نهب فلانا أي تناوله بلسانه وأغلظ له القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فلم يحتج معهم إلى تضرع واستخذاء، ولا راودهم فى سلم واستمهال، ولم يتّصف فى ذلك بركون إلى حوله وملّته، ولم يستند إلى جده وقوّته بل قال: [سورة هود (11) : آية 56] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) أخبر أنه بموعود الله له بنصرته واثق، وأنه فى خلوص طاعته لربّه وفى صفاء معرفته (غير مفارق) «1» . قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 57] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) أوحينا إليه أن قل لهم: إن تولّوا ولم تؤمنوا بي فقد بلّغت ما حمّلت من رسالتى، وإنى واثق بأنّ الله إذا أهلككم يأت بأقوام آخرين سواكم أطوع له منكم، وإن أفناكم ما اختلّ ملكه إذ الحقّ- سبحانه- بوجود الأغيار لا يلحقه زين- وإن وحدوا، وبفقدهم لا يمّسه شين- وإن جحدوا وألحدوا. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 58] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) ولما جاء أمرنا بإهلاكهم نجيّنا هودا والذين آمنوا برحمتنا، ولم يقل باستحقاقه النجاة بوسيلة نبوته، أو لجسامة طاعته ورسالته بل قال: «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» ليعلم الكافة أنّ   (1) بعد (معرفته) يوجد بياض مما يدل على سقوط خبر أن وقد أكملنا النقص بكلمة ملائمة من عندنا تنفق مع السياق والنسق حسبما نعلم من طريقة القشيري. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الأنبياء- عليهم السلام- ومن دونهم عتيق رحمته، وغريق منته، لا لاستحقاق أحد ولا لواجب على الله فى شىء. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 59] وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) فى إنزال قصصهم تسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم وآله- فيما كان يقاسى من العناء، وللمؤمنين فيما بذلوا من حسن البلاء، والعدة بتبديل- ما كانوا يلقونه من الشدّة- بالرجاء. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 60] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) أخبر أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أمّا فى هذه الدنيا فبالاستئصال بأليم الشدة وما تبعه من اللّعنة، ثم ما يلقونه فى الآخرة من تأبيد العقوبة. وبقاؤهم عن رحمة الله أصعب من صنوف كل تلك المحنة «1» ، وكما قيل: تبدّلت وتبدلنا وا حسرتا ... لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)   (1) وردت (المحبة) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 عقيب ما مضى من قصة عاد ذكر قصة ثمود، وثمودهم قوم صالح، وقد انخرطوا فى الغىّ فى سلك من سبقهم، فلحقت العقوبة بجميعهم. ثم أخبر أنهم قابلوا نبيّهم- عليه السلام- بالتكذيب، ولم يقفوا على ما نبّههم عليه من التوبة والتصديق، وأصرّوا على الإقرار أنهم فى شأنه لفى شك مريب. ثم بيّن أنّ صالحا لم يعرّج- فى التبليغ- على تقصير. وبعد تمرّدهم وامتناعهم عن الإنابة، وإصرارهم على ترك الإجابة حقّ عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ما توعدهم به من عذاب غير مكذوب، ونجّى نبيّهم- عليه السلام-، ونجّى من اتّبعه من كل عقوبة.. سنّة منه- سبحانه- فى إنجاء أوليائه أمضاها، وعادة فى تلطفه ورحمته بالمستحقين أجراها. قوله جل ذكره [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 70] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) أخبر أن الملائكة أتوا إبراهيم- عليه السلام- بالبشارة، وأخبر أن إبراهيم- عليه السلام- أنكرهم، ولم يعرف أنهم ملائكة. فيحتمل أنّه- سبحانه- أراد أن تكون تلك البشارة فجأة من غير تنبيه لتكون أتمّ وأبلغ فى إيجاد السرور، ولا سيما وقد كانت بعد خوف لأنه قال: فأوجس منهم خيفة. ويقال إن إبراهيم- عليه السلام- كان صاحب النبوة والخلّة والرسالة فلا بدّ أن تكون فراسته أعلى من فراسة كلّ أحد، ولكنه فى هذه الحالة لم يعرف الملائكة ليعلم أنّ الحقّ- سبحانه وتعالى- إذا أراد إمضاء حكم يدّ على من أراد عيون الفراسة، وإن كان صاحب الفراسة هو (خليل) «1» الله، كما سدّ الفراسة على نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- فى قصة الإفك إلى الوقت الذي نزل فيه الوحى، وكذلك التبس على لوط- عليه السلام- إلى أن تبيّن له الأمر. وتكلموا في هذه «البشرى» ما كانت فقيل كانت البشارة بإسحاق، وبأنّه سيولد له ولد من نسله وسلالته قال تعالى: «وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» . ويقال بعلامة قومه- حيث كانوا مرسلين بإهلاك قوم لوط- عليه السلام.   (1) سقطت كلمة (خليل) فأثبتناها لحاجة السياق إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 ويقال بشارة بالخلّة وتمام الوصلة. ويقال إن الخلّة والمحبة بناؤهما كتمان السّرّ فيعلم أنهم أرسلوا ببشارة ما ولم يكن للغير اطلاع، قال قائلهم: بين المحبين قول لست أفهمه ويقال إن تلك البشارة هى قولهم: «سَلاماً» وأن ذلك كان من الله، وأىّ بشارة أتمّ من سلام الحبيب؟ وأىّ صباح يكون مفتتحا بسلام الحبيب فصباح مبارك، وكذلك المبيت بسلام الحبيب فهو مبارك. قوله: «فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» : لمّا توهمهم أضيافا قام بحقّ الضيافة، فقدّم خير ما عنده ما شكره الحقّ عليه حيث قال فى موضع آخر: جاء بعجل سمين «1» . والمحبة توجب استكثار القليل من الحبيب واستقلال ما منك للحبيب، وفى هذا إشارة إلى أنه إذا نزل الضيف فالواجب المبادرة إلى تقديم السّفرة «2» ممّا حضر فى الوقت. قوله: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ تمام إحسان الضيف أن تتناول يده ما يقدّم إليه من الطعام، والامتناع عن أكل ما يقدّم إليه معدود فى جملة الجفاء فى مذهب أهل الظّرف «3» . والأكل فى الدعوة واجب على أحد الوجهين. «وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» : أي خاف أنه وقع له خلل فى حاله حيث امتنع الضّيفان عن أكل طعامه فأوجس الخيفة لهم لا منهم. وقيل إن الملائكة فى ذلك الوقت ما كانوا ينزلون جهرا إلا لعقوبة فلمّا امتنعوا عن الأكل، وعلم أنهم ملائكة خلف أن يكونوا قد أرسلوا لعقوبة قومه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 71 الى 73] وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)   (1) آية 26 سورة الذاريات. (2) السفرة- طعام يصنع للمسافر، أو المائدة وما عليها من طعام (الوسيط) . (3) الظرف: (يقال ظرف فلان ظرفا كان كيسا حاذقا، والظرف فى اللسان البلاغة، وفى الوجه الحسن، وفى القلب الذكاء) الوسيط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 كانت امرأته قائمة يخدمة الأضياف، فضحكت تعّجبا من أن يكون لمثلها فى هذه السّنّ ولد. وقيل كان سرورها بالسلامة. ويحتمل أنها ضحكت تعجّبا من امتناع الضّيفان عن الأكل. أو تعجبت من كون الملائكة فى صورة البشر لمّا علمت أنهم ملائكة. ويحتمل أنها ضحكت لاستبشارها بالولد وقد بشّرت باستحقاقه ومن ورائه يعقوب، ثم أفصحت عما ينطوى عليه قلبها من التعجب فقالت: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» ! فأحال الملائكة خلق الولد على التقدير: «قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟» فزال موضع التعجب، وقالوا: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» فبقى الدعاء فى شريعتنا بآخر الآية حيث يقول الداعي: كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. والبركة الزيادة فقد اتصل النّسل من الخليل، وبنو إسرائيل منهم- وهم خلق كثير، والعرب من أولاد إسماعيل- وهم الجمّ الغفير. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 74] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) لما كانت مراجعته مع الله فى أمر قوم لوط بحقّ الله لا لحظّ نفسه سلم له الجدال، وهذا يدلّ على علوّ شأنه حيث تجاوز عنه ذلك. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 75 الى 76] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 والإشارة فيه أنه كان يقابل ما ورد على ماله ونفسه وولده بالاحتمال، ولمّا كان حقّ الحقّ فى حديث قوم لوط أخذ فى الجدال إلى أن أبان له سلامة لوط- عليه السلام- وقال الله سبحانه: - يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ يا إبراهيم أعرض عن هذا فإنّ الحكم بعذابهم قد نزل، ووقت الانتقام منهم قد حصل. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 77] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يجرى عليهم من قومه ما لا يجوز فى دين الله فذلك الحزن كان لحقّ الله لا لنصيب له أو حظّ لنفسه، ولذلك حمد عليه لأنّ مقاساة الحزن لحقّ الله محمودة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 78] وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قوله «هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» : قيل إنه أراد به نساء أمته، فنبىّ كلّ أمة مثل الوالد لأولاده فى الشفقة والنصيحة. ويقال إنه أراد بناته من صلبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 «أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» يرتدى جلبات الحشمة، ويؤثر حقّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله؟ قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 79] قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) أصرّوا على عصيانهم، وزهدوا فى المأذون لهم شرعا، وانجرّوا إلى ما قادهم إليه الهوى طبعا، وهذه صفة البهائم لا يردعها عقل، قال تعالى: «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 80] قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) لو أن لى قوة فأمنعكم عن ارتكاب المعصية فإنّ أهمّ «1» الأشياء على الأولياء ألا يجرى من العصاة ما ليس لله فيه رضاء. ويقال: لو كان لى قدرة لإيصال الرحمة إليكم- مع ارتكابكم المعاصي- لرحمتكم وتجاوزت عنكم. ويقال لو أنّ لى قوة لهديتكم إلى الدّين، ولعصمتكم عن ارتكاب المخالفات. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 81] قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) «2» لّما ضاق به الأمر كشف الله عنه الضرّ فعرّف إليه الملائكة وقالوا: لا عليك فإنهم لا يصلون إليك بسوء، وإنّا رسل ربك جئنا لإهلاكهم، فاخرج أنت وقومك من بينهم، واعلم أنّ من شاركهم فى عملهم بنوع فله من العذاب حصّة. ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على الملك لفعلة الفاحشة، وإن العقوبة لاحقة بها، مدركة لها. والإشارة منه أن الجسارة على الزّلة وخيمة العاقبة- ولو بعد حين، ولا ينفع المرء اتصاله بالأنبياء والأولياء إذا كان فى الحكم والقضاء من جملة الأشقياء.   (1) أفعل التفضيل هنا مأخوذ من الهم، أي (فإن أكثر ما يسبب الهم للأولياء) . (2) مستثنى من (فأسر بأهلك) منصوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 قوله جل ذكره: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. ما هو كائن فقريب، والبعيد ما لا يكون. وإنّ من أقدم على محظور ثم حوسب عليه- ولو بعد دهور خالية وأعوام غير محصورة ماضية- تصور له الحال كأنه وقت مباشرته لتلك الزّلة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 82] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) سنّة الله فى عباده قلب الأحوال عليهم، والانقلاب من سمات الحدوث، أمّا الذي لا يزول، ولا يحول فهو الذي لم يزل ولا يزال بنعوته الصمدية. وإنّ من عاش فى السرور دهرا ثم تبدل يسره عسرا فكمن لم ير قطّ خيرا، والذي قاسى طول عمره ثم أعطى يسرّا فكمن لم ير عسرا. قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» «1» . قوله جل ذكره [سورة هود (11) : آية 83] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم، ثم أخبر أنّ تلك العقوبة لاحقة بمن سلك سبيلهم تحذيرا لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقهم، كما قيل: ومن يرنى ولم يعتبر بعدي ... فإنّ لكلّ معصية عقابا قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)   (1) آية 110 سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 أخبر سبحانه عن قصتهم، وما أصابهم من العذاب الأليم، وما نالهم من البلاء العظيم. وفى الظاهر لهم كانت أجرامهم كاليسيرة، ولعدم الفهم يعدون أمثالها صغيرة، ولا يقولون إنها كبيرة، وإن ذلك تطفيف فى المكيال. وليس قدر الأجرام «1» لأعيانها، ولكن لمخالفة الجبار عظم شأنها، قال تعالى: [سورة هود (11) : آية 86] بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) «2» ولما أن قال لهم شعيب: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» . يعنى القليل من الحلال أجدى من الكثير المعقب للوبال لم يقابلوا نصيحته لهم إلا بالعناد والتمادي فيما هو دائم من الجحد والكنود. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 87] قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) استوطئوا مركب الجهل، واستحلبوا مشرب التقليد، وأعفوا قلوبهم من استعمال الفكر، واستبصار طريق الرّشد.   (1) جمع (جرم) وهو الذنب. (2) آية 15 سورة النور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 88] قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) البيّنة نور تستبصر به ما خفى عليك تحت غطاء الغفلة. والرزق الحسن ما به دوام الاستقلال، وما ذلك إلا مقتضى عنايته الأزلية، وحسن توليه لشأنك- فى جميع ما فيه صلاحك- من إتمام النعمة ودوام العصمة. وقيل الرزق الحسن ما تعنّي صاحبه لطلبه، ولم يصبه نصب بسببه. وقيل الرزق الحسن ما يستوفيه بشهود الرزق ويحفظه عند التنعم بوجود الرّزّاق. ويقال الرزق الحسن ما لا ينسى الرزّاق، ويحمل صاحبه على التوسعة والإنفاق. قوله جل ذكره: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ. يمكن للواعظ أو الناصح أن يساهل المأمور فى كل ما يأمره به، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه فإنّ الإتيان بجميع الطاعات غير ممكن، ولكنّ التجرّد عن جميع المحرّمات واجب. ويقال من لم يكن له حكم على نفسه فى المنع عن الهوى لم يكن له حكم على غيره فيما يرشده إليه من الهدى. قوله جل ذكره: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. مدار الأمر على الأغراض المقضية حسن القصد بالإصلاح فيقرن الله به حسن التيسير، ومن انطوى على قصد بالسوء وكل الحقّ بشأنه التعويق. قوله جل ذكره: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ. حقيقة التوفيق ما ينفق به الشيء، وفى الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة، وهو قدرة الطاعة، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المنهيات يعدّ من جملة التوفيق- على التوسّع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 والتوفيق بالله ومن الله، وهو- سبحانه- بإعطائه متفضّل. قوله جل ذكره: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. التوكل تفويض الأمر إلى الله، وأمارته ترك التدبير بشهود التقدير، والثقة بالموعود عند عدم الموجود. ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب. ويقال التوكل السكون، والثقة بالمضمون. ويقال التوكل سكون القلب بمضمون الرّبّ. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 89] وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) تورثكم مخالفتكم إياى فيما أدعوكم إليه من طاعة الله أن يلحقكم من أليم العقوبة ما أصاب من تقدّمكم من الذين سرتم على منهاجهم، وما عهدكم ببعيد بمن تحققتم كيف حلّت بهم العقوبة، وكيف أنهم ما زادتهم كثرة النصيحة إلّا غلوّا فى ضلالتهم، وعتوّا في جهالتهم، وكما قيل. وكم صغت فى آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصّح قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 90] وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) الاستغفار هو التوبة. ومعنى قوله «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» أي توبوا ثم لا تنقضوا توبتكم فهو أمر باستدامة التوبة فإذا لم يتصل وفاء المآل بصفاء الحال لم يحصل قبول، وكأن لم يكن لما سلف حصول. «إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» : يرحم العصاة ويودّهم. ويقال يرحمهم ولذلك يودونه فالودود يكون بمعنى المودود كحلوب بمعنى محلوب. والرحمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 تكون للعاصى لأنّ المطيع بوصف استحقاقه للثواب على طاعاته، ثم ليس كلّ من يحبّ السلطان فى محلّ الأكابر، فالأصاغر من الجند قد يحبون الملك، وأنشدوا: ألا ربّ من يدنو ويزعم أنه ... يودّك، والنائى أودّ وأقرب قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 91 الى 92] قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) لاحظوا شعيبا بعين الاستصغار فحرموا فهم معانى الخطاب، وأقرّوا على أنفسهم بالجهل، وأحالوا إعفاءهم إياه من الأذى على حشمتهم من رهطه وعشيرته، فعاتبهم عليه: - قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أترون من حقّ رهطى مالا ترون من حقّ ربى وإنّ ربى يكافئكم على أعمالكم بما تستوجبون فى جميع أحوالكم. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 93 الى 95] وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 أرخى لهم ستر الإمهال فلمّا أصرّوا على تماديهم فى الغواية حلّت بهم العقوبة، وصاروا وكأن لم يكن بينهم نافخ نار، ولا فى ديار الظالمين ديّار، قال تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 98] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) كرّر قصة موسى عليه السلام تفخيما لشأنه، وتعظيما لأمره، وتنبيها على علوّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها، ومعجزاته الباهرة، وبراهينه القاهرة.. ويقال أصعب عدوّ قهره أولا نفسه، وقد دله- سبحانه- على ذلك لمّا قال: إلهى! كيف أطلبك؟ فقال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلى. فنبّهه إلى استصغاره لنفسه، وانكساره لله بقلبه، فزادت صولته لما صار معصوما عن شهود فضل لنفسه والسلطان الذي خصّه به استولى على قلوب من رآه، كما قال: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» «1» فما رآه أحد إلا أحبّه، ثم إنه لم يأخذه فى الله ضعف، مثلما لطم وجه فرعون- وهو رضيع- كما فى القصة، ولطم وجه ملك الموت لمّا طالبه بقبض روحه.. كما فى الخبر، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لمّا رجع من سماع الخطاب عند المعاتبة، وأقدم بالجسارة على سؤال الرؤية، وقتل القبطىّ لما استعان به من وافقه فى العقيدة، وقال لله «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» «2» لمّا أخبره الحق بما عمله قومه من عبادة العجل بحكم الضلالة ... ففى جميع هذا تجاوز الله عنه لما أعطاه من السلطان والقوة. قوله جل ذكره: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ   (1) آية 39 سورة طه. (2) آية 155 سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 رضوا بمتابعة فرعون، فاستحقوا ما استحقه. لم يشعروا بخطئهم، وكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإذا ما أوردهم النار فهو إمامهم، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعهم وبكاؤهم ولا ينقطع عذابهم وعناؤهم، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم- وذلك جزاء من كفر بمعبوده، وأسرف فى مجاوزة حدوده. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 99] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) بعدوا فى عاجلهم من الإيمان، وفى آجلهم من الغفران والجنان. والذي لهم فى الحال من الفرقة أعظم- فى التحقيق- من الذي لهم فى المآل من الحرقة، وهذه صفة من امتحنه الله باللعنة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 100] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) لم يكن فى جملة من قصّ عليه من الأنبياء- عليهم السلام- من أكثر منه تبجيلا، ولا فيمن ذكره من الأمم أعظم من أمته تفضيلا، فكما تقدّم على الأنبياء- عليهم السلام تقدّمت أمته على الأمم، قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» «1» قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 101] وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) لا يجوز الظلم فى وصفه فتصرّفه فى ملكه بحقّ إلهيته- مطلق يحكم بحسب إرادته ومشيئته، ولا يتوجه حقّ عليه، فكيف يجوز الظلم فى وصفه؟ ويقال هذا الخطاب لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر، ولكن فى صفته لا يجوز العذر إذ الخلق خلقه، والملك ملكه، والحكم حكمه.   (1) الآية 110 سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 102] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إنّ الحقّ- سبحانه- يمهل ولكن لا يهمل، ويحكم ولكن لا يعجّل، وهو لا يسأل عمّا يفعل. وقيل إذا أخذ النفوس بالتوفيق فلا سبيل للخذلان إليها، وإذا أخذ القلوب بالتحقيق فلا طريق للحرمان عليها. قال تعالى: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 103] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) مشهود يشهده من حشر من جميع الخلائق فى ذلك اليوم. ويقال الأيام ثلاثة: يوم مفقود وهو أمس ليس بيدك منه شىء، ويوم مقصود وهو غد لا تدرى أتدركه أم لا، ويوم مشهود وهو اليوم الذي أنت فيه فالمفقود لا يرجع، والمقصود ربما لا تبلغ، والمشهود وقتك وهو معرّض للزوال ... فاستغله فيما ينفع. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 104] وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) الأجل لا يتقدّم ولا يتأخر لكل ( ... ) «2» ، والآجال على ما علمها الحقّ- سبحانه- وأرادها جارية فلا طلب يقدّم أو يؤخر وقتا إذا جاء أجله، وكذلك للوصول وقت، فلا طلب مع رجاء الوصول، ولا طلب مع خوف الزوال، ولقد قيل: عيب السلامة أنّ صاحبها ... متوقّع لقواصم الظّهر وفضيلة البلوى ترقب أهلها ... عقب البلاء- مسرّة الدهر قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 105] يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)   (1) آية 12 سورة البروج. [ ..... ] (2) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 الشقىّ من قسم له الحرمان فى حاله، والسعيد من رزق الإيمان فى مآله. ويقال الشقاء على قسمين: قوم شقاؤهم غير مؤيد، وقوم شقاؤهم على التأبيد، وكذلك القول فى السعادة. الشقىّ من هو فى أسر التدبير ونسيان جريان التقدير، والسعيد من رجع من ظلمات التدبير، وحصل على وصف شهود التقدير. ويقال الشقىّ من كان فى رق العبودية ظانّا أنّ منه طاعاته، والسعيد من تحرر عن رقّ البشرية وعلم أن الحادثات كلها لله سبحانه. وأمّا الأشقياء- على التأبيد- فهم أهل الخلود فى مقتضى الوعيد، والسعداء- على التأبيد- من قال الله تعالى فى صفتهم: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» . قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 106 الى 107] فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أن يزيد على مدّة السماوات والأرض. «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أن ينقلهم إلى نوع آخر من العذاب غير الزفير والشهيق. «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» ألا تلحقهم تلك العقوبة قبل أن يدخلهم النار فلا استثناء لبعض أوقاتهم من العقوبة لا قبل إدخالهم فيها ولا بعده. «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» من إخراج أهل التوحيد من النار فيكون شقاؤهم غير مؤبّد. قوله جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فيه إشارة إلى أن الذي يحصل لهم يحصل بمشيئته لا باستحقاق عمل. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 108] وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) لهم اليوم جنّات القربة، ولهم غدا جنّات المثوبة. والكفار اليوم فى عقوبة الفرقة، وغدا فى عقوبة الحرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» فلا استثناء لبعض أوقات أهل الجنة من أول أمرهم قبل دخولهم الجنّة أو بعده. أو يحتمل أنه يزيد على مدة السماوات والأرض. وفى قوله «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» - أي عطاء غير مقطوع- دليل على أن تلك النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) لا يريد أنّه عليه السلام فى شك، ولكنه أراد به تحقيق كونهم مضاهين لآبائهم، كما تقول: لا شكّ أنّ هذا نهار. ويقال الخطاب له والمراد به لأمّته. «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ» : نجازيهم على الخير بخير وعلى الشر بضر «1» قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 110] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) اختلفوا فى الكتاب الذي أوتى، وهو التوراة. واختلفوا فى كونه رسولا، فمن مصدّق ومن مكذّب. ثم أخبر أنه- سبحانه- حكم بتأخير العقوبة، ولولا حكمته لعجّل لهم العقوبة. وفائدة الآية من هذا التعريف التخفيف على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان   (1) لم يقل القشيري: وعلى الشر بشر، وإنما استعمل (الضر) تأدبا من نأحية، ولأنه- حسب مذهبه الكلامى- لا ينسب (الشر) لله، من ناحية أخرى، وكما سنرى بعد قليل فى تفسيره للحسنة وللسيئة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 يلقاه من قومه من التكذيب، ففى سماع قصة الأشكال- وبعضهم من بعض- سلوة، ولقد قيل: أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 111] وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) أعاد ذكر الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وكرّر ذلك فى القرآن فى كثير من المواضع إبلاغا فى التحذير، وتنبيها على طريق الاعتبار بحسن التفكير. ثم إن الجزاء على الأعمال معجّل ومؤجّل، وكلّ من أعرض عن الغفلة وجنح إلى وصف التيقظ وجد فى معاملاته- عاجلا- الربح لا الخسران، وآجلا الزيادة لا النقصان، وما يجده المرء فى نفسه أتمّ مما يدركه بعلمه بشواهد برهانه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 112] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) يحتمل أن تكون السين فى الاستقامة سين الطلب أي سل من الله الإقامة لك على الحقّ. ويحتمل أن تكون الإقامة فى الأمر بمعنى أقام عليه. وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقّها من غير إخلال بها، فلا يكون فى سلوك نهج الوفاق انحراف عنه. ويقال المستقيم من لا ينصرف عن طريقه، يواصل سيره بمسراه، وورعه بتقواه، ويتابع فى ترك هواه. ويقال استقامة النفوس فى نفى الزّلّة، واستقامة القلوب فى نفى الغفلة، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة «1» . استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسهم عن العبادة وألا يخلّوا بأدائها، ويقضون عسيرها ويسيرها. واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها. واستقامة التائبين   (1) تهمنا هذه العبارة عند تحديد الآفات التي تصيب الملكات الباطنة حسب مذهب القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ألا يلمّوا بعقوبة زلة فيدعون صغيرها وكبيرها ... وعلى هذا النحو استقامة كلّ أحد. قوله «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» : أي فليستقم أيضا من معك. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 113] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) لا تعملوا أعمالهم، ولا ترضوا بأعمالهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمر بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئا من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم ... كل هذا يحتمله الأمر، ويدخل تحت الخطاب. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 114] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) أي استغرق جميع الأوقات بالعبادات، فإنّ إخلالك لحظة من الزمان بفرض تؤديه، أو نفل تأتيه حسرة عظيمة وخسران مبين. قوله «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» الحسنات ما يجود بها الحق، والسيئات ما يذنبها العبد، فإذا دخلت حسناته على قبائح العبد محتها وأبطلتها. ويقال حسنات القربة تذهب بسيئات الزّلّة. ويقال حسنات الندم تذهب بسيئات الجرم. ويقال (انسكاب) «1» العبرة تذهب العثرة «2» . ويقال حسنات العرفان تذهب سيئات العصيان. ويقال حسنات الاستغفار تذهب سيئات الإصرار. ويقال حسنات العناية تذهب سيئات الجناية. ويقال حسنات العفو عن الإخوان تذهب الحقد عليهم. ويقال حسنات الكرم تذهب سيئات الخدم.   (1) هكذا مصوبة فى الهامش وهى أصوب مما جاء فى المتن (ارتكاب) . (2) وردت (العسرة) بالسين والأصوب (العثرة) لأنها تنسجم مع السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 ويقال حسن الظنّ بالناس يذهب سوأتهم بكم «1» . ويقال حسنات الفضل من الله تذهب سيئات حسبان الطاعة من أنفسكم. ويقال حسنات الصدق تذهب بسيئات الإعجاب. ويقال حسنات الإخلاص تذهب بسيئات الرياء. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 115] وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس. ويقال الصبر حسن الإقبال على معانقة الأمر ومفارقة الزجر. «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» المحسن: العامل الذي يعلم أنّ الأجر على الصبر والطاعة بفضله- سبحانه- لا باستحقاق عمل. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 116] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) معناه لم يكن فيكم من هؤلاء الذين كانوا ينهون عن القبائح إلا قليل. وقيل معناه لم يكن فيمن قبلكم من الأمم من ينهى عن الفساد، ويحفظ الدّين، ويطيعون أنبياءهم- إلا قليل. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 117] وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) أي لم يهلك الله أحدا كان مصلحا وإنما أهلك من كان ظالما.   (1) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة الحث على الصفح عن عثرات الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 ويقال معناه: لو أهلك الله أهل القرى وهم مصلحون لم يكن ذلك ظلما من الله لأن الملك ملكه، والخلق عبيده. ويقال «الْمُصْلِحِ» من قام بحقّ ربّه دون طلب حظّه. ويقال: «الْمُصْلِحِ» من آثر نجاته على هلاكه. ويقال مصلح تصلح نفسه طاعته، ومصلح تصلح قلبه معرفة سيّده، ومصلح تصلح سرّه مشاهدة سيّده. قوله جل ذكره [سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) لو شاء لجعلهم أرباب الوفاق ثم لا يوجبون لملكه زينّا، ولو شاء لجعلهم أرباب الخلاف ثم لا يوجبون لملكه شينا. ثم قال: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» لأنه كذلك أراد بهم. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فى سابق حكمه فعصمهم عن الخلاف فى حاصل أمورهم، وأقامهم به، ونصبهم له، وأثبتهم فى الوفاق والمحبة والتوحيد. قوله جل ذكره وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي لا تبديل لقوله، ولا تحويل لحكمه. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 120] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) سكّن قلبه بما قصّ عليه من أنباء المرسلين، وعرّفه أنه لم يرقّ أحدا إلى المحلّ الذي رقّاه إليه، ولم ينعم على أحد بمثل ما أنعم عليه. ويقال قصّ عليه قصص الجميع، ولم يذكر قصته لأحد تعريفا له وتخصيصا. ويقال لم يكن ثبات قلبه بما قصّ عليه ولكن لاستقلال قلبه بمن كان يقص عليه، وفرق بين من يعقل بما يسمع وبين من يستقل بمن منه يسمع، وأنشدوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وحدّثتنى يا سعد عنها فزدتنى ... حنينا فزدنى من حديثك يا سعد قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : الآيات 121 الى 122] وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) إن الذين يجحدون التوحيد، ويؤثرون على الحقّ غير الحق، ولم يصدّقوا الوعيد، يوشك أن ينصبّ عليهم الانتقام فيغرقون فى بحار العقوبة، ويسقطون فى وهاد الهوان، فلا لويلهم انتهاء، ولا لذلّهم انقضاء. قوله جل ذكره: [سورة هود (11) : آية 123] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) عمّى عن قلوبهم العواقب، وأخفى دونهم السوابق، وألزمهم القيام بما كلّفهم فى الحال، فقال: «فَاعْبُدْهُ» فإن تقسّم القلب وترجّم الظّنّ وخيف سوء العاقبة.. فتوكّل عليه أي استدفع البلاء عنك بحسن الظّنّ، وجميل الأمل، ودوام الرجاء. «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» : أحاط بكل شىء علما، وأمضى فى كل أمر حكما. السورة التي يذكر فيها يوسف عليه السلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم «1» من وسم فمن وسم ظاهره بالعبودية، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همّته إلى المراتب العليّة، وأزلفت رتبته من المنازل السنيّة. أو أن الاسم مشتق من السّمة أو من السموّ   (1) ربما كان القشيري فى شرحه لمعنى (الاسم) متأثرا بالجو العام للسورة، وما حدث لكل من يوسف وإخوته من أحداث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وقدّم الله- سبحانه- اسم الله فى هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية. والإشارة من الباء- التي هى حرف التضمين والإلصاق- إلى أنّ «به» عرف من عرف، وبه وقف من وقف فالواصل إليه محمول بإحسانه، والواقف دونه مربوط بخذلانه. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) التخاطب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سنّة الأحباب فى ستر المحابّ فالقرآن- وإن كان المقصود منه الإيضاح والبيان- ففيه تلويح وتصريح، ومفصّل ومجمل، قال قائلهم: أبكى إلى الشرق إن كانت منازلكم ... مما يلى الغرب خوف القيل والقال ويقال وقفت فهوم الخلق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه- صلى الله عليه وسلم، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة ولكنه أفرد الحبيب بفهمه، فهو سرّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب، يقول قائلهم: بين المحبين سرّ ليس يفشيه ... قول، ولا قلم للخلق يحكيه وفى إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة: وهى أنّ من كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيرا من المعاني، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وصله فأنزل الله هذه الحروف التي لا سبيل إلى الوقوف على معانيها، ليكون للأحباب فرجة حينما لا يقفون على معانيها بعدم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مطالبة بالفهم، وكان ذلك لائقا بأحوالهم إذا كانوا مستغرقين فى عين الجمع، ولذا قيل: استراح من العقل له «1» . وقوله تعالى: «تِلْكَ» يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خبر الوعد الذي وعدناك.   (1) هكذا فى (ص) ونرجح أنها (استراح من لا عقل له) والعقل هنا معناه الوعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وقيل هذا تعريفنا: إليك بالتخصيص، وإفرادنا لك بالتقريب- قد حقّقناه لك فهذه الحروف بيان للإنجاز ولتحقيق الموعود. والإشارة من «الْكِتابِ الْمُبِينِ» هاهنا إلى حكمه السابق له بأنّ يرقّيه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيره، وقد قال تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا..» «1» أي حين كلّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوّ قدرك، ولم تكن حاضرا، وأخبرناه بأننا نبلغّك هذا المقام الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلّ من أوحينا إليه ذكرنا له قصتك، وشرحنا له خلقتك، فالآن وقت تحقيق ما أخبرنا به، وفى معناه أنشدوا: سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبى للصبابة معهدا قال الله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» يعنى بعد التوراة «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «2» يعنى أمة محمد. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) فى إنزال الكتاب عليه، وإرسال الرسول «3» إليه- تحقيق لأحكام المحبة، وتأكيد لأسباب الوصلة فإنّ من عدم حقيقة الوصول استأنس بالرسول، ومن بقي عن شهود الأحباب تسلّى بوجود الكتاب، قال قائلهم: وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... ففيها شفاء للذى أنا كاتم قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لخلوّه عن الأمر والنهى الذي سماعه يوجب اشتغال القلب بما هو يعرّض لوقوع التقصير. «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : ففيه ذكر الأحباب.   (1) آية 46 سورة القصص. (2) آية 105 سورة الأنبياء. (3) (الرسول) هنا مقصود به القرآن الكريم أو جبريل- كما هو واضح من السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لأن فيه عفو يوسف عن جنايات إخوته. «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لما فيه من ذكر ترك يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عند ما راودته عن نفسه. «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس. «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لأنه غير مخلوق «1» . ويقال لمّا أخبره الله- سبحانه- أن هذه القصة أحسن القصص وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه فعلم أن الله تعالى لم يرقّ أحدا إلى مثل مارّقاه. قوله جل ذكره: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي الذاهبين عن فهم هذه القصة. أي ما كنت إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها، أي إنك لم تصلّ إلى معرفتها بكدّك وجهدك، ولا بطلبك وجدّك ... بل هذه مواهب لا مكاسب فبعطائنا وجدّتها لا بعنائك، وبتفضّلنا لا بتعلّمك، وبتلطّفنا لا بتكلّفك، وبنا لا بك. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 4] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) لما ذكر يوسف- عليه السلام- رؤياه لأبيه علم يعقوب- عليه السلام صدّق تعبيرها، ولذلك كان دائم التذكّر ليوسف مدة غيبته، وحين تطاولت كان يذّكره حتى قالوا: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ» فقال: «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» فهو كان على ثقة من صدّق رؤياه فإن قيل: فإذا كان الصبىّ لا حكم لفعله فكيف يكون حكم لرؤياه؟ وما الفرق؟   (1) القرآن غير مخلوق.. هذا أصل من الأصول الكلامية الهامة عند الأشاعرة- ومنهم القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فيقال: إن الفعل بتعمّد يحصل فيكون معرّضا لتقصير فاعله، أمّا الرؤيا فلا تكون بتعمد منه فتنسب إلى نقصان. ويقال إنّ حقّ السّرّ الكتمان ولو كان على من هو قريب منك فإن يوسف لما أظهر سرّ رؤياه على أبيه اتصل به البلاء. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 5] قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) إذا جاء القضاء لا ينفع الوعظ والحذر فإن النصيحة والحذر لا يزيدان على ما نصح يعقوب ليوسف عليهما السلام، ولكن لمّا سبق التقدير فى أمر يوسف- عليه السلام- حصل ما حصل. ويقال إن يوسف خالف وصية أبيه فى إظهار رؤياه إذ لو لم يظهرها لما كادوا له، فلا جرم بسبب مخالفته لأبيه- وإن كان صبيا صغيرا- لم يعر من البلايا. ويقال لما رأى يوسف فى منامه ما كان تأويله سجود الإخوة له رأى ما تعبيره: وسجود أبيه وخالته حيث قال تعالى: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» فدخل الإخوة الحسد «1» أما الأب فلم يدخله إلا بنفسه لفرط شفقة الأبوة. ويقال صدق تعبيره فى الإخوة فسجدوا له حيث قال: «وَ، خَرُّوا لَهُ سُجَّداً» ولم يسجد الأب ولا خالته حيث قال: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ» فإن يوسف صانهما عن ذلك مراعاة لحشمة الأبوة. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 6] وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) أي كما أكرمك بهذه الرؤيا التي أراكها يجتبيك ويحسن إليك بتحقيق هذه الرؤيا، وكما أكرمك بوعد النعمة أكرمك بتحقيقها. ويقال الاجتباء ما ليس للمخلوق فيه أثر، فما يحصل للعبد من الخيرات- لا بتكلفه ولا بتعمده- فهو قضية الاجتباء.   (1) وردت (الحد) والصواب أن تكون الحسد (انظر توضيح ذلك بعد قليل صفحة 170) ودخول الأب كان بنفسه ولم يكن بقلبه، وكان سببه شدة الإشفاق على ولده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ويقال من الاجتباء المذكور أن عصمه عن ارتكاب ما راودته امرأة العزيز عن نفسه. ويقال من قضية الاجتباء إسباله الستر على فعل إخوته حيث قال: «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» ، ولم يذكر خلاصه من البئر. ومن قضية الاجتباء توفيقه لسرعة العفو عن إخوته حيث قال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» قوله جل ذكره: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي لتعرف قدر كلّ أحد، وتقف على مقدار كلّ قائل بما تسمع من حديثه.. لا من قوله بل لحدّة كياستك وفرط فراستك. قوله جل ذكره: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ من إتمام النعمة توفيق الشكر على النعمة، ومن إتمام النعمة صونها عن السّلب والتغيير، ومن إتمام النعمة التّحرز «1» منها حتى تسهل عليك السماحة بها. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 7] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) يعنى لكلّ ذى محنة حتى يعلم كيف يصبر، ولكلّ ذى نعمة حتى يعلم كيف يشكر. ويقال فى قصتهم كيفية العفو عن الزلّة، وكيفية الخجلة لأهل الجفاء عند اللقاء. ويقال فى قصتهم دلالات لطف الله سبحانه بأوليائه بالعصمة، وآيات على أنّ المحبة ( ... ) «2» من المحنة. ويقال فيها آيات على أنّ من صدق فى رجائه يختصّ- يوما- ببلائه.   (1) (التحرز) من النعمة التوقي منها، وإذا افترضنا أنها قد تكون (التحرر) بالراء فمعناها ألا يكون العبد أسيرا للنعمة حتى يسهل عليه أن يجود بها ... وكلاهما صحيح مقبول فى السياق. [ ..... ] (2) متشبهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 8] إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) عرّفوا على ما ستروه من الحسد، ولم يحتالوا فى إخراج ذلك من قلوبهم بالوقيعة فى أبيهم حتى قالوا: «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . ويقال لمّا اعترضوا بقلوبهم على أبيهم فى تقديم يوسف فى المحبة عاقبهم بأن أمهلهم «1» حتى بسطوا فى أبيهم لسان الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال، وإن كان المراد منه الذهاب فى حديث يوسف عليه السلام. ولمّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يرض- سبحانه- حتى أقامهم بين يدى يوسف عليه السلام، وخرّوا له سجّدا ليعلموا أنّ الحسود لا يسود. ويقال أطول الناس حزنا من لاقّى الناس عن مرارة، وأراد تأخير من قدّمه الله أو تقديم من أخّره الله فإخوة يوسف- عليه السلام- أرادوا أن يجعلوه فى أسفل الجبّ فرفعه الله فوق السرير! قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 9] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) أي يخلص لكم إقبال أبيكم عليكم، وقديما قيل: من طلب الكلّ فاته الكلّ فلمّا أرادوا أن يكون إقبال يعقوب- عليه السلام- بالكليّة- عليهم قال تعالى: «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ» . ويقال كان قصّدهم ألا يكون يوسف أمام عينه فقالوا: إمّا القتل وإمّا النّفى، ولا بأس بما يكون بعد ألا يكون يوسف عليه السلام. قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ عجّلوا بالحرام، وعلّقوا التوبة بالتسويف والعزم، فلم يمح ما أجّلوا من التوبة ما عجّلوا من الحوبة.   (1) وردت (أهملهم) وهى خطأ في النسخ لأن الله لا يهمل ولكن يمهل، والسياق يقتضى (الإمهال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ويقال لم تطبّ نفوسهم بأن يذهبوا عن باب الله بالكليّة فدبّروا لحسن الرجوع قبل ارتكاب مادعته إليه نفوسهم، وهذه صفة أهل العرفان بالله «1» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 10] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) إخوة يوسف- وإن قابلوه بالجفاء- منعتهم شفقة النّسب وحرمة القرابة من الإقدام على قتله فقالوا لا تقتلوه وغيّبوا شخصه. ويقال إنما حملهم على إلقائه مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، فلمّا أرادوا حصول مرادهم فى تغييبه لم يبالغوا فى تعذيبه. ويقال لمّا كان المعلوم له- سبحانه- فى أمر يوسف تبليغه إياه تلك القربة ألقى الله فى قلب قائلهم حتى قال: «لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ» . ثم إنه- وإن أبلاه فى الحال- سهّل عليه ذلك فى جنب ما رقّاه إليه فى المآل «2» ، قال قائلهم: كم مرة حفّت بك المكاره ... خار لك الله- وأنت كاره قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 11] قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) كلام الحسود لا يسمع، ووعده لا يقبل- وإنّ كانا فى معرض النّصح فإنّه يطعم الشّهد ويسقى الصّاب. ويقال العجب من قبول يعقوب- عليه السلام- ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه السلام وقد تفرّس فيهم قلبه فقال ليوسف: «فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» ولكن إذا جاء القضاء فالبصبرة تصير مسدودة.   (1) واضح من هنا ومما جاء فى السياق أن القشيري- بتسامحه الصوفي الأصيل- ينظر إلى إخوة يوسف نظرة خالية من التحامل عليهم. (2) كأنما ينصح القشيري أصحاب الإرادة: إن لقيتم اليوم فى الله شدة، فلكم غدا مثوبة. وكأنما يوضح لأهل الجدل: إن مقاييس الشر والخير الإنسانية خاطئة قاصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 ويقال من قبل على محبوبه حديث أعدائه لقى ما لقى يعقوب فى يوسف. عليهما السلام- من بلائه. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 12] أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) يقال أطمعوا يعقوب عليه السلام فى تمكينهم من يوسف بما فيه راحة نفس فى اللعب، فطابت نفس يعقوب لإذهابهم إياه من بين يديه- وإن كان يشقّ عليه فراقه، ولكنّ المحبّ يؤثر راحة محبوبه على محبة نفسه. ويقال لما ركن إلى قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» - أي من قبلهم «1» - حتى قالوا: «وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» فمن أسلم حبيبه إلى أعدائه غصّ بتحسّى بلائه. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 13] قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) يحزننى أن تذهبوا به لأنى لا أصبر عن رؤيته، ولا أطيق على فرقته ... هذا إذا كان الحال سلامته.. فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب؟! ويقال لما خاف عليه من الذئب امتحن بحديث الذئب، ففى الخبر ما معناه: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه. وكان من حقه أن يقول أخاف الله لا الذئب، وإن كانت محالّ الأنبياء عليهم السلام- محروسة من الاعتراض عليها. ويقال لمّا جرى على لسان يعقوب- عليه السلام- من حديث الذئب صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهتدوا إلى الذئب «2» .   (1) يرجع القشيري ما أصاب يعقوب من بلاء إلى ركونه إلى حفظ يوسف من قبل الخلق وأنه اطمأن لدعواهم مع أن الحفظ لا يكون إلا بالله. (2) تفيد هذه النقطة فى إثبات كرامة الأولياء، وما يجرى على ألسنتهم من تنبؤ بما قد يحدث فى المستأنف على وجه الإجمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 14] قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) لحق إخوة يوسف عليه السلام ما وصفوا به أنفسهم من الخسران حيث قالوا: «إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» : لأنّ من باع أخا مثل يوسف بمثل ذلك الثمن حقيق بأن يقال قد خسرت صفقته. ويقال لمّا عدوّا القوة فى أنفسهم حين قالوا: «وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» خذلوا حتى فعلوا «1» . ويقال لمّا ركن يعقوب- عليه السلام- إلى قولهم: «وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» لقى ما لقى. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 15] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) الجواب فيه مقدّر ومعناه فلما ذهبوا بيوسف وعزموا على أن يلقوه فى البئر فعلوا ما عزموا عليه. أو فلمّا ذهبوا به وألقوه فى غيابة الجبّ أوحينا إليه فتكون الواو صلة. والإشارة فيه أنه لمّا حلّت به البلوى عجّلنا له التعريف بما ذكرنا من البشرى ليكون محمولا بالتعريف فما هو متحمّل له من البلاء العنيف. ويقال حين انقطعت على يوسف عليه السلام مراعاة أبيه حصل له الوحى من قبل مولاه، وكذا سنّته تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه بابا من البلاء إلا فتح على قلوبهم أبواب الصفاء، وفنون لطائف الولاء. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) تمكين الكذّاب من البكاء سمة خذلان الله تعالى إياه، وفى الخبر: إذا كمل نفاق المرء ملك عينه حتى يبكى ما شاء. ويقال: لا يبعد أن يقال إنهم وإن جنوا على يوسف عليه السلام فقد ندموا على ما فعلوا، فعلاهم البكاء لندمهم- وإن لم يظهروا لأبيهم- وتقوّلوا على الذّئب. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 18] وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) .   (1) فقد كانت من دعاوى النفس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 لم يؤثّر تزوير قاليهم فى إيجاب تصديق يعقوب- عليه السلام لكذبهم بل أخبره قلبه أنّ الأمر بخلاف ما يقولونه فقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. فعلم على الجملة وإنّ لم يعلم على التفصيل.. وهكذا تقرع قلوب الصديقين عواقب الأمور على وجه الإجمال، إلى أنّ تتّضح لهم تفاصيلها فى المستأنف. ويقال عوقبوا على ما فعلوه بأن أغفلوا عن تمزيق قميصه حتى علم يعقوب تقوّلهم فيما وصفوا. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 19] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) ليس كلّ من طلب شيئا يعطى مراده فقط بل ربما يعطى فوق مأموله كالسيارة كانوا يقنعون بوجود الماء فوجدوا يوسف عليه السلام. ويقال ليس كل من وجد شيئا كان كما وجده السيارة توهموا أنهم وجدوا عبدا مملوكأ وكان يوسف- فى الحقيقة- حرّا «1» . ويقال لمّا أراد الله تعالى خلاص يوسف- عليه السلام- من الجبّ أزعج خواطر السّيارة فى قصد السفر، وأعدمهم الماء حتى احتاجوا إلى الاستقاء ليصل يوسف عليه السلام إلى الخلاص، ولهذا قيل: ألا ربّ تشويش يقع فى العالم والمقصود منه سكون واحد. كما قيل: ربّ ساع له قاعد. قوله جل ذكره [سورة يوسف (12) : آية 20] وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) لم يعرفوا خسرانهم فى الحال ولكنهم وقفوا عليه فى المآل.   (1) أي ربما تكون حقيقة النعمة أعظم من ظاهرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 ويقال قد يباع مثل يوسف عليه السلام بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجة إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغبن. ويقال لم يحتشموا من يوسف- عليه السلام- يوم باعوه بثمن بخس، ولكن لمّا قال لهم: أنا يوسف- وقع عليهم الخجل. ولهذا قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء. ويقال لمّا خرّوا له سجّدا علموا أنّ ذلك جزاء من باع أخاه بثمن بخس. ويقال لمّا وصل الناس إلى رفق يوسف عاشوا فى نعمته، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه فى مقام الذّلّ قائلين «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ، وفى معناه أنشدوا: ستسمع بي وتذكرنى ... وتطلبنى فلا تجد ويقال ليس العجب ممن يبيع مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس إنما العجب ممن ( ... ) «1» مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، لا سيّما «وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» (الخرق لا غاية له، وكذا العجب لا نباته له) «2» . ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، إنّما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزّ من الكبريت الأحمر بعرض حقير من أعراض الدنيا. ويقال إنّ السيارة لم يعرفوا قيمته فزهدوا فى شرائه بدراهم، والذين وقفوا على جماله وشىء من أحواله غالوا- بمصر- فى ثمنه حتى اشتروه بزنته دراهم ودنانير مرات- كما فى القصة «3» ، وفى معناه أنشدوا: إنّ كنت عندك يا مولاى مطّرحا ... فعند غيرك محمول على الحدق «4» قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 21] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)   (1) هنا كلمة فى الكتابة هكذا (بحل) ولا ندرى كيف نصرفها إلى إنجاه يخدم المعنى. (2) ما بين القوسين ورد هكذا فى (ص) وفيه التباس ناشىء عن سوء النسخ. (3) يقال إن العزيز اشتراء بزنته ورقا وحريرا ومسكا. (تفسير النسفي ج 2 ص 216 ط عيسى الحلبي) (4) الحدق جمع حدقة وهى السواد المستدبر وسط للعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 لمّا نودى على يوسف فى مصر بالبيع لم يرض الحقّ- سبحانه- حتى أصابتهم الضرورة ومسّتهم الفاقة حتى باعوا من يوسف- عليه السلام- جميع أملاكهم، ثم باعوا كلّهم منه أنفسهم- كما فى القصة- وفى آخر أمرهم طلبوا الطعام، فصاروا بأجمعهم عبيده، ثم إنه عليه السلام لما ملكهم منّ عليهم فأعتقهم «1» فلئن مرّ عليه بمصر يوم نودى فيه عليه بالبيع فقد أصبح بمصر يوما آخر وقد ملك جميع أملاكهم، وملك رقاب جميعهم فيوم بيوم، قال تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» يومان شتّان بينهما! ثم إنه أعتقهم جميعا ... وكذا الكريم إذا قدر غفر. قوله جل ذكره: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أراد من حسده ألّا تكون له فضيلة على إخوته وذويه، وأراد الله أن يكون له ملك الأرض، وكان ما أراد الله لا ما أراد أعداؤه. قوله جل ذكره: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أرادوا أن يكون يوسف عليه السلام فى الجبّ، وأراد الله- سبحانه- أن يكون يوسف على سرير الملك فكان ما أراد الله، والله غالب على أمره.   (1) فى القصة «وباع من أهل مصر فى سنى القحط الطعام بالدراهم والدنانير فى السنة الأولى حتى لم يبق معهم شىء منها ثم بالحلى والجواهر فى الثانية تم بالدواب فى الثالثة تم بالعبيد والإماء فى الرابعة ثم بالدور والعقار فى الخامسة ثم باولادهم فى السادسة ثم برقابهم فى السابعة حتى استرقهم جميعا ثم أعتق أهل مصر ورد عليهم أملاكهم» النسفي ج 2 ص 228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وأرادوا أن يكون يوسف عبدا لمن ابتاعوه من السيارة، وأراد الله أن يكون عزيز مصر- وكان ما أراد الله. ويقال العبرة لا ترى من الحقّ فى الحال، وإنما الاعتبار بما يظهر فى سرّ تقديره فى المآل. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته، وامتنع عما راودته تلك المرأة عن نفسه ومن لا حكم له على نفسه فلا حكم له على غيره. ويقال إنما قال: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» أي حين استوى شبابه واكتملت قوّته، وكان وقت استيلاء الشهوة، وتوفر دواعى مطالبات البشرية- آتاه الله الحكم الذي حبسه على الحقّ وصرفه عن الباطل، وعلم أنّ ما يعقب اتباع اللذات من هواجم النّدم أشدّ مقاساة من كلفة الصبر فى حال الامتناع عن دواعى الشهوة ... فآثر مشقّة الامتناع على لذّة الاتباع. وذلك الذي أشار إليه الحقّ- سبحانه- من جميل الجزاء الذي أعطاه هو إمداده بالتوفيق حتى استقام فى التقوى والورع على سواء الطريق، قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «1» : أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سبل الصبر على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائق المواصلة. قوله جلّ ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 23] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) لما غلّقت عليه أبواب المسكن فتح الله عليه باب العصمة «2» ، فلم يضرّه ما أغلق بعد إكرامه بما فتح.   (1) آية 69 سورة العنكبوت. [ ..... ] (2) نلفت النظر إلى جمال عبارة القشيري الناتج عن المقابلة بين (الإغلاق) و (الفتح) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وفى التفسير أنه حفظ حرمة الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز. وفى الحقيقة أشار بقوله: «إِنَّهُ رَبِّي» إلى ربّه الحقّ تعالى: هو مولاى الحق تعالى، وهو الذي خلّصنى من الجب، وهو الذي جعل فى قلب العزيز لى محلّا كبيرا فأكرم مثواى فلا ينبغى أن أقدم على عصيانه- سبحانه- وقد غمرنى بجميل إحسانه. ويقال إن يوسف عليه السلام قال لها: إن العزيز أمرنى أن أنفعه. «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» فلا أخونه فى حرمته بظهر الغيب. ويقال لمّا حفظ حرمة المخلوق بظهر الغيب أكرمه الحقّ سبحانه بالإمداد بالعصمة فى الحال ومكّنه من مواصلتها فى المآل على وجه الحلال. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 24] وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) ما ليس بفعل الإنسان مما يعتريه- بغير اختياره ولا بكسبه- كان مرفوعا لأنه لا يدخل تحت التكليف، فلم يكن «الهم» «1» منه ولا منها زلّة، وإنما الزلّة من المرأة كانت من حيث عزمت على ما همّت، فأمّا نفس الهمّ فليس مما يكسبه العبد. ويقال اشتركا فى الهمّ وأفرد- يوسف عليه السلام- بإشهاده البرهان. وفى تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان؟ - تكلّف غير محمود إذ لا سبيل إليه إلا بالخبر المقطوع به. وفى الجملة كان البرهان تعريفا من الحقّ إياه بآية من آيات صنعه، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «2» .   (1) واضح أن القشيري بهدف إلى نفى كل تهمة عن يوسف ولهذا يلجأ إلى تأويل لفظة «الهم» الذي اشترك فيه وامراة العزيز كما يعبر ظاهر اللفظ. (2) آية 53 سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وقوله: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ» صرف عنه السّوء حتى لم يوجد منه العزم على ذلك الفعل- وإن كان منه همّ- إلا أن ذلك لم يكن جرما كما ذكرنا. والصّرف عن الطريق بعد حصول الهمّ- كشف، والسوء المصروف عنه هو العزم على الزنا والفحشاء أو نفس الزنا، وقد صرفهما الله تعالى عنه. قوله «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» : لم تكن نجاته فى خلاصه، ولكن فى صرف السوء عنه واستخلاصه. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 25] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) استبقا، هذا ليهرب، وهذه للفعلة التي كانت تطلب. ولم يضر يوسف- عليه السلام- أن قدّت قميصه وهو لباس دنياه بعد ما صحّ عليه قميص تقواه. ويقال «1» لم تقصد قدّ القميص وإنما تعلّقت به لتحبسه على نفسها، وكان قصدها بقاء يوسف- عليه السلام- معها، ولكن صار فعلها وبالا على نفسها، فكان بلاؤها من حيث طلبت راحتها وشفاءها. ويقال تولّد انخراق القميص من قبضها عليه وكان فى ذلك افتضاح أمرها لأن قبضها على قميصه كان مزجورا عنه.. ليعلم أنّ الفاسد شجّه فاسد. ويقال لشدة استيلاء الهوى عليها لم تعلم فى الحال أنها تقدّ قميصه من ورائه أو من قدّامه.. كذلك صاحب البلاء فى الهوى مسلوب التمييز. ويقال لمّا لم تصل ولم تتمكن من مرادها من يوسف خرقت قميصه ليكون لها فى إلقائها الذّنب على يوسف- عليه السلام- حجّة، فقلب الله الأمر حتى صار ذلك عليها حجة، وليوسف دلالة صدق، قال تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «2»   (1) فيما يلى من إشارات تلاحظ أن القشيري قد جعل من امرأة العزيز رمزا لطالب الدنيا وأسير الهوى ومن يوسف رمزا مقابلا لذلك. (2) آية 43 سورة فاطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 قوله تعالى: «وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» : لمّا فتحا الباب وجدا سيدها لدى الباب، والإشارة فيه إلى أن ربك بالمرصاد إذا خرج العبد عن الذي هو عليه من التكليف فى الحال وقع فى ضيق السؤال. ويقال قال: «أَلْفَيا سَيِّدَها» ولم يقل سيدهما لأن يوسف فى الحقيقة كان حرا ولم يكن العزيز له سيدا. قوله جل ذكره: قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ شغلته بإغرائها إياه بيوسف عن نفسها بأن سبقت إلى هذا الكلام. ويقال لقنته حديث السجن أو العذاب الأليم لئلا يقصد قتله ففى عين ما سعت به نظرت له وأبقت عليه. ويقال قالت ما جزاء من فعل هذا إلا السجن فإن لم ترض بذلك، وستزيد فالعذاب الأليم يعنى الضّرب المبرّح.. كأنما ذكرت حديث العقوبة بالتدريج. ويقال أوقعت السجن الذي يبقى مؤجّلا فى مقابلة الضرب الأليم المعجل ليعلم أن السجن الطويل- وإن لم يكن فيه فى الظاهر ألم- فهو فى مقابلة الضرب الشديد الموجع لأنه- وإن اشتدّ فلا يقابله. ويقال قالت: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟» فذكر الأهل هاهنا غاية تهييج الحميّة وتذكير بالأنفة. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : الآيات 26 الى 28] قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أفصح يوسف عليه السلام بجرمها إذ ليس للفاسق حرمة يجب حفظها، فلم يبال أن هتك سترها فقال. «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» فلمّا كان يوسف صادقا فى قوله، ولم يكن له شاهد أنطق الله الصبيّ الصغير الذي لم يبلغ أوان النطق «1» . ولهذا قيل إذا كان العبد صادقا فى نفسه لم يبال الله أن ينطق الحجر لأجله. قوله: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ لما اتضح الأمر واستبان الحال وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» : دلّت الآية على أنّ الزنا كان محرّما فى شرعهم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 29] يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) لم يرد أن يهتك ستر امرأته فقال ليوسف: أعرض عن هذا الحديث، ثم قال لها: «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» : دلّ على أنه لم يكن فى شرعهم على الزنا حدّ- وإن كان محرّما حيث عدّه ذنبا. ويقال ليس كلّ أحد أهلا للبلاء لأن البلاء من صفة أرباب الولاء، فأمّا الأجانب فيتجاوز عنهم ويخلى سبيلهم- لا لكرامة محلّهم- ولكن لحقارة قدرهم، فهذا يوسف عليه السلام كان بريء السّاحة، وظهرت للكلّ سلامة جانبه وابتلى بالسجن. وامرأة العزيز فى سوء فعلها حيث قال: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» ، وقال لها: «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» .. ثم لم تنزل بها شظية من البلاء. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 30] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)   (1) قيل هو صبى فى المهد وهو ابن خال لها. وسمى قوله شهادة لأنه أدى مؤدى الشهادة فى أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها (النسفي ج 2 ص 218) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 إنّ الهوى لا ينكتم، ولا تكون المحبة إلا وأبيح لها لسان عذول، فلما تحققت محبتها ليوسف بسطت النّسوة فيها لسان الملامة. ولما كانت أحسن منهن قيمة- فقد كنّ من جملة خدمها- كانت أسرع إلى الملامة. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : الآيات 31 الى 32] فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) أرادت أن يغلب عليهن استحقاق الملامة، وتنفى عن نفسها أن تكون لها «1» أهلا، ففعلت بهن ما عملت، فلمّا رأينه تغيّرن وتحيّرن ونطقن بخلاف التمييز، فقلن: «ما هذا بَشَراً» : وقد كان بشرا، وقلن «إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» : ولم يكن ملكا. قوله: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» : أثّرت رؤيتهن له فيهن فقطّعن أيديهن بدل الثمار، ولم يشعرن، وضعفن بذلك عندها فقالت: ألم أقل لكن؟ أنتن لم تتمالكن حتى قطّعتنّ أيديكنّ! فكيف أصبر وهو فى منزلى؟! وفى معناه أنشدوا:   (1) أي أهلا للملامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 (أنت عند الخصام عدوى ... ... ............... ........... ) «1» ويقال «2» إن امرأة العزيز كانت أتم فى حديث يوسف- عليه السلام- من النسوة فأثرت رؤيته فيهن ولم تؤثّر فيها، والتّغيّر صفة أهل الابتداء فى الأمر، فاذا دام المعنى زال التغيّر قال أبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه- لمن رآه يبكى وهو قريب العهد فى الإسلام: هكذا كنّا حتى قست القلوب. أي وقرت «3» وصلبت. وكذا الحريق أول ما يطرح فيها الماء يسمع له صوت فإذا تعوّد شرب الماء سكن فلا يسمع له صوت. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 33] قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) الاختبار مقرون بالاختيار ولو تمنّي العافية بدل ما كان يدعى إليه لعلّه كان يعافى، ولكنه لما قال: «السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» طولب بصدق ما قال. ويقال إن يوسف عليه السلام نطق من عين التوحيد حيث قال: «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ» فقد علم أن نجاته فى أن يصرف- سبحانه- البلاء عنه لا بتكلّفه ولا بتجنبه. ويقال لمّا آثر يوسف- عليه السلام- لحوق المشقة فى الله على لذّة نفسه آثره عصره حتى قيل له: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» «4» قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 34] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)   (1) بقية البيت مضطربة فى الكتابة، ومطموسة فى بعض المواضع. (2) القشيري هنا مستفيد من رأى استاذه أبى على الدقاق. (انظر رأى الدقاق فى رسالة القشيري فى معنى التلوين والتمكين ص 44) (3) وقرت- أصابها الثقل. (4) آية 91 من سورة يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 لمّا رجع إلى الله بصدق الاستغاثة تداركه الله سبحانه بوشيك الإغاثة ... كذلك ما اغيّر. لأحد- فى الله تعالى- قدم إلّا روّحه بكرمه وتولّاه بنعمه- إنه هو «السَّمِيعُ» لأقوال السائلين، «الْعَلِيمُ» بأحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 35] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) لمّا سجن يوسف- عليه السلام- مع ظهور براءة ساحته اتقاء على امرأته أن يهتك سترها حوّل الله ملكه إليه، ثم فى آخر الأمر حكم الله بأن صارت امرأته بعد مقاساتها الضّر ... وهذا جزاء من صبر. ويقال لمّا ظلم يوسف عليه السلام بما نسب إليه أنطق الله تلك المرأة حتى قالت فى آخر أمرها بما كان فيه هتك سترها، فقالت: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 36] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) لصحبة السجن أثر يظهر ولو بعد حين فإنّ يوسف عليه السلام لمّا قال لصاحبه اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فبقى يوسف فى السجن زمانا، ثم إن خلاصه كان على لسانه حيث قال: فأرسلوا إلى يوسف وقيل له: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا ... الآية» فالصحبة تعطى بركاتها وإن كانت تبطئ. قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» : الشهادة بالإحسان للمحسن ذريعة، بها يتوسّل إلى استجلاب إحسانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 37] قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) التّثبّت فى الجواب دون التسرع من أمارات أهل المكارم، كيوسف عليه السلام وعدهما أن يجيبهما ولم يسرع الإجابة فى الوقت. ويقال لمّا أخّر الإجابة علّق قلوبهما بالوعد وإذا لم يكن نقد فليكن وعد. ويقال لمّا فاتحوه بسؤالهم قدّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال: «ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ ... » ثم قال: [سورة يوسف (12) : آية 38] وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) ولما فرغ من تفسير التوحيد، والدعاء إلى الحق سبحانه أجابهما فقال: [سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكت حين أخذ فى شرح التوحيد وذكر المعبود، وفى الخبر: من أحبّ شيئا أكثر من ذكره. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 41] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) اشتركا فى السؤال واشتركا فى الحكم وفى دخول السجن، ولكن تباينا في المآل واحد صلب، وواحد قرّب ووهب.. وكذا قضايا التوحيد واختيار الحق فمن مرفوع: فوق السّماك مطلعه، ومن مدفون: تحت التراب مضجعه. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 42] وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) يتبيّن أنّ تعبير الرؤيا- وإن كان حقا- فهو بطريق غلبة الظّنّ دون القطع. ثم إنه عاتب يوسف عليه السلام لأنه نسى فى حديثه من يستعين به حين قال: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ» . ويقال إنه طلب من بشر عوضا على ما علّمه، وفى بعض الكتب المنزلة: يا ابن آدم، علّم مجانا كما علّمت مجانا. ولما استعان بالمخلوق طال مكثه فى السجن، كذلك يجازى الحقّ- سبحانه- من يعلّق قلبه بمخلوق. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 43] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 كان ابتداء بلاء يوسف- عليه السلام- بسبب رؤيا رآها فنشرها وأظهرها، وكان سبب نجاته أيضا رؤيا رآها الملك فأظهرها، ليعلم أنّ الله يفعل ما يريد فكما جعل بلاءه فى إظهار رؤيا جعل نجاته فى إظهار رؤيا «1» ليعلم الكافة أن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 44] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) حال الرؤيا لا يختلف بالخطأ فى التعبير، فإنّ القوم حكموا بأن رؤياه أضغاث أحلام فلم يضره ذلك، ولم يؤثّر فى صحة تأويلها. قوله: «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» : من طلب الشيء من غير موضعه لم ينل مطلوبه، ولم يسعد بمقصوده. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 45] وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) لمّا كان المعلوم لله والمحكوم أن يوسف عليه السلام يكون فى ذلك الوقت هو من يعبّر الرؤيا- قبض القلوب حتى خفى عليها تعبير تلك الرؤيا، ولم يحصل للملك ثلج الصّدر إلا بتعبير يوسف «2» ، ليعلم أنّ الله- سبحانه- إذا أراد أمرا سهل أسبابه. ويقال: إن الله تعالى أفرد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين: بحسن الخلقة وبزيادة العلم فكان جماله سبب بلائه، وصار علمه سبب نجاته، لتعلم مزيّة العلم على غيره، لهذا قيل: العلم يعطى وإن كان يبطى.   (1) بهدف القشيري إلى شىء بعيد هو أن المقاييس الإنسانية نسبية ولا تؤدى حتما إلى الصواب، وبالتالى لا ينبغى تطبيقها على ما يجرى فى الكون من تصاريف إلهية. (2) يصلح هذا التصور- على نحو ما- لتفسير كرامات الأولياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 ويقال إذا كان العلم بالرؤيا يوجب الدنيا فالعلم بالمولى أولى أن يوجب العقبى، قال تعالى: «وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيما وملكا كبيرا» «1» قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : الآيات 47 الى 49] قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) لم يقدّم الدعاء إلى الله تعالى على تعبير هذه الرؤيا كما فعل فى المرة الأولى، لأن هذا السائل هو الذي دعاه فى المرة الأولى. فإمّا أنه قد قبل فى المرة الثانية، وإمّا أنه لم يقبل فيئس منه فأهمله. وصاحب الرؤيا الثانية كان الملك وكان غائبا، والوعظ والدعاء لا يكونا إلا فى المشاهدة دون المغايبة. ويقال يحتمل أن يكون قد تفرّس فى الفتيان قبول التوحيد فإنّ الشباب ألين قلبا، أمّا فى هذا الموضع فقد كان الملك أصلب قلبا وأفظّ جانبا فلذلك لم يدعه إلى التوحيد لما تفرّس فيه من الغلظة. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 50] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) أراد عليه السلام ألا يلاحظه الملك بعين الخيانة فيسقطه عيبه من قلبه فلا يؤثّر فيه قوله، فلذلك توقّف حتى يظهر أمره للملك وتنكشف براءة ساحته. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 51] قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)   (1) آية 20 سورة الإنسان. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 الحقائق لا تنكتم أصلا ولا بدّ من أن تبين ... ولو بعد حين. نسب يوسف إلى ما كان منه بريئا، وأنّب على ذلك مدة، وكان أمره فى ذلك خفيّا. ثم إن الله تعالى دفع عنه التهمة ورفع عنه المظنّة، وأنطق عذّاله، وأظهر حاله، عما فرق به سرباله «1» فقلن: «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» . قوله جل ذكره: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ لمّا كانت امرأة العزيز غير تامّة فى محبة يوسف تركت ذنبها عليه وقالت لزوجها: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ولم يكن ليوسف عليه السلام ذنب. ثمّ لمّا تناهت فى محبتة أقرّت بالذنب على نفسها فقالت: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ... » فالتناهى فى الحبّ يوجب هتك الستر، وقلة المبالاة بظهور الأمر والسّرّ «2» ، وقيل: ليقل من شاء ما ... شاء فإنى لا أبالى قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 52] ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) إنما أراد الله أن يظهر براءة ساحة يوسف، لأنه علم أنهم يستحقون العقوبة على ما يبسطون فيه من لسان الملامة وذكر القبيح، ولم يرد يوسف أن يصيبهم بسببه- من قبل الله- عذاب   (1) السربال- القميص. (2) من هذه الإشارة نستطيع بطريق غير مباشر أن نعرف موقف القشيري من قضية هامة وهى: هل يفصح المحب الواله عن حبه المكنون أم يكتم؟ وهل تغتفر له شطحاته فى هذا الموقف أم لا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 شفقة منه عليهم، وهذه صفة الأولياء: أن يكونوا خصم أنفسهم، ولهذا قيل: الصوفي دمه هدر وملكه مباح «1» - ولذلك قال: [سورة يوسف (12) : آية 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) لمّا تمدّح بقوله: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» كأنه نودى فى سرّه: ولا حين هممت؟ فقال: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي!» «2» ويقال: قوله «لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» بيان الشكر على ما عصمه الله، وقوله: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي» بيان العذر لما قصّر فى أمر الله، فاستوجب شكره زيادة الإحسان، واستحقّ بعذره العفو. والعفو باد من قوله: [سورة يوسف (12) : آية 54] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) لما اتضحت للملك طهارة فعله ونزاهة حاله استحضره لاستصفائه لنفسه، فلمّا كلمه وسمع بيانه رفع محلّه ومكانه، وضمنه برّه وإحسانه، فقال: «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 55] قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) إنما سأل ذلك ليضع الحقّ موضعه، وليصل نصيب الفقراء إليهم، فطلب حقّ الله تعالى فى ذلك، ولم يطلب نصيبا لنفسه. ويقال لم يقل إنى حسن جميل بل قال: إنى حفيظ عليم أي كاتب حاسب، ليعلم أنّ الفضل فى المعاني لا فى الصورة.   (1) هذا تعريف الصوفي عند سهل بن عبد الله التستري (الرسالة ص 139) . (2) هذا نموذج لمقاومة دعوى النفس ومحاربة اغترارها على الدوام، وعدم الاطمئنان إلى مصالحتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 56] وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) لمّا لم تكن له دواعى الشهوات من نفسه مكّنه الله من ملكه- قال تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها» «1» - فقال: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . ثم أخبر عن حقيقة التوحيد، وبيّن أنه إنما يوفّى عباده من ألطافه بفضله لا بفعلهم، وبرحمته لا بخدمتهم فقال: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» ثم يرقى همهم عما أولاهم من النّعم فقال: [سورة يوسف (12) : آية 57] وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) ليعلم أنّه لا بدّ من التقوى ومخالفة الهوى. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 58] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) عرف يوسف- عليه السلام- إخوته وأنكروه، لأنهم اعتقدوا أنّه فى رقّ العبودية لمّا باعوه، بينما يوسف- فى ذلك الوقت- كان قاعدا بمكان الملك. فمن طلب الملك فى صفة العبيد متى يعرفه؟ وكذلك من يعتقد فى صفات المعبود ما هو من صفات الخلق ... متى يكون عارفا؟ هيهات هيهات لما يحسبون! ويقال لمّا أخفوه صار خفاؤه حجابا بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي ... بخطاياه وزلاته تقع غبرة على وجه معرفته. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 59] وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)   (1) آية 63 سورة الشورى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 المحبّ غيور فلمّا كان يعقوب عليه السلام قد تسلّى عن يوسف برؤية ابنه بنيامين غار يوسف أن ينظر إليه يعقوب «1» . ويقال تلطّف يوسف فى استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففى ماله الذي أوصله إليهم وهو يقول: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» وفى إقباله عليهم وفى إكرامه لهم وهو يقول: «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» . وأمّا الترهيب فبمنع المال وهو يقول: [سورة يوسف (12) : آية 60] فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) أي فإن لم تؤامنونى عليه فلا كيل لكم عندى، وأمنع الإكرام والإقبال عنكم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 61] قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) لما علم يوسف من حالهم أنهم باعوه بثمن بخس علم أنهم يأتونه بأخيهم طمعا فى إيفاء الكيل، فلن يصعب عليهم الإتيان به. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 62] وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) جعل بضاعتهم فى رحالهم- فى باب الكرم- أتمّ من أن لو وهبها لهم جهرا لأنه يكون حينئذ فيه تقليد منه بالمواجهة، وفى تمليكها لهم بإشارة تجرّد من تكلّف تقليد منه بالمحاضرة «2» . ويقال علم أنهم لا يستحلّون مال الغير فدسّ بضاعتهم فى رحالهم، لكن إذا رأوها قالوا: هذا وقع فى رحالنا منهم بغلط، فالواجب علينا ردّها عليهم. وكانوا يرجعون بسبب ذلك شاءوا أم أبوا.   (1) وكذلك فإن للحق غيرة على عبده المؤمن أن يساكن سواه. (2) وكذلك نعمة الحق تأتى فى خفاء ... وقلّ من يفطن إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 63] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) لم يمنع يوسف منهم الكيل، وكيف منع وقد قال: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» ؟ ولكنهم تجوزوا فى ذلك تفخيما للأمر حتى تسمح نفس يعقوب عليه السلام بإرسال بنيامين معهم. ويقال أرادوا بقولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» فى المستقبل إذا لم نحمله إليه. ويقال إنهم تلطّفوا فى القول ليعقوب- عليه السلام- حيث قالوا: «أَخانا» إظهارا لشفقتهم عليه، ثم أكّدوا ذلك بقولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 64] قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) من عرف الخيانة لا يلاحظ الأمانة، ولذا لم تسكن نفس يعقوب بضمانهم لما سبق إليه من شأنهم. قوله جل ذكره: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً» : يحفظ بنيامين فلا يصيبه شىء من قبلهم. ولم يقل يعقوب فالله خير من يردّه إلىّ، ولو قال ذلك لعلّه كان يرده إليه سريعا. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 65] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) بيّن يوسف- عليه السلام- أنه حين عاملهم لم يحتج إلى عوض يأخذه منهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 فلمّا باعهم وجمع لهم الكيل ما أخذ منهم ثمنا، والإشارة من هذا إلى قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» . وكلّ منّ خطا للدّين خطوة كافأه الله تعالى وجازاه، فجمع له بين روح الطاعة ولذّة العيش من حيث الخدمة. قوله جلّ ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 66] قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) إنّ الحذر لا يغنى من القدر. وقد عمل يعقوب- عليه السلام- معهم فى باب بنيامين ما أمكنه من الاحتياط، وأخذ الميثاق ولكن لم يغن عنه اجتهاده، وحصل ما حكم به الله. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 67] وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) يحتمل أن يكون أراد تفريقهم فى الدخول لعلّ واحدا منهم يقع بصره على يوسف، فإن. لم يره أحدهم قد يراه الآخر «1» . ويقال ظنّ يعقوب أنهم فى أمر يوسف كانوا فى شدة العناية بشأنه، ولم يعلم أنهم كارهون لمكانه. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 68] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)   (1) نحسب أنه ربما كان الأمر بتفريقهم مرده إلى أنه فى الجماعة تختفى المسئولية الفردية إذ تذوب فى الكيان الجماعى، بينما يكبر الشعور بالمسئولية إذا كانوا آحادا، وقد قالوا ليعقوب من قبل (لئن أكله الذئب ونحن عصبة.) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 إن لم يحصل مقصود يعقوب عليه السلام فى المآل حصل مراده فى الحال، وفى ذلك القدر لأرباب القلوب استقلال. ويقال على الأصاغر حفظ إشارات الأكابر، والقول فيما يأمرون به هل فيه فائدة أم لا- ترك للأدب. ويقال إذا كان مثل يعقوب عليه السلام يشير على أولاده، ويتمنّي به حصول مراده.. ثم لا يحصل مراده علم أنه لا ينبغى أن يعتقد فى الشيوخ أنّ جميع ما يريدون يتّفق كونه على ما أرادوا لأنّ الذي لا يكون إلا ما يريده واجبا وما أراده فهو كائن ... هو الله الواحد القهار قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 69] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) حديث المحبة وأحكامها أقسام: اشتاق يعقوب إلى لقاء يوسف عليهما السلام فبقى سنين كثيرة، واشتاق يوسف إلى بنيامين فرزق رؤيته فى أوجز مدة. وهكذا الأمر فمنهم موقوف به، ومنهم صاحب بلاء. ويقال لئن سخنت «1» عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قرّت عين يوسف بلقائه. كذا الأمر: لا تغرب الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 70] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)   (1) سخنت العين أي لم تقرّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 احتمل بنيامين ما قيل فيه من السرقة بعد ما التقى مع يوسف. ويقال: ما نسب إليه من سوء الفعال هان عليه فى جنب ما وجد من الوصال. ويقال لئن نسب يوسف أخاه للسرقة فقد تعرّف إليه بقوله: إنى أنا أخوك- سرّا، فكان متحملا لأعباء الملامة فى ظاهره، محمولا بوجدان الكرامة فى سره، وفى معناه أنشدوا: أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمنى اللّوم قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 73] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) يعنى حسن سيرتنا فى سير المعاملة يدلكم على حسن سريرتنا فى الحالة. ويقال لو كنّا نسرق متاعكم لما رددناه عليكم ولما وجدتموه فى رحالنا بعد أن غبنا عنكم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 76] قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) تجاسر إخوة يوسف بجريان جزاء السّرقة عليهم ثقة بأنفسهم أنهم لم يباشروا الزّلّة، وكان بنيامين شريكهم فى براءة السّاحة، فلما استخرج الصّاع من وعائه بسط الإخوة فيه لسان الملامة، وبقي بنيامين «1» فلم يكن له جواب كأنّه أقرّ بالسرقة، ولم يكن ذلك صدقا إذ أنه لم يسرق، ولو قال: لم أفعل لأفشى سرّ يوسف عليه السلام الذي احتال معهم ذلك لأجله حتى يبقيه معه، فسكت لسان بنيامين، وتحقّق بالحال قلبه. ويقال لم يستصعب الملامة- وإن كان بريئا- مما قرن به، ولا يضرّ سوء المقالة بالمكاشفين بعد حسن الحالة مع الأحباب. ويقال شىء بما أظهرت عليه المقالة، ولكن حصل له بذلك صفاء الحالة. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 77] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)   (1) يصلح بنيامين- كما يصوره القشيري- نموذجا لواحد من أهل الملامة، لو دققنا النظر فى إشارات القشيري بصدده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 كان بنيامين بريئا مما رمى به من السرقة، فأنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة، واحد بواحد ليعلم العالمون أنّ الجزاء واجب. ويقال كان القرح بالقدح أوجع ما سمعه يوسف منهم «1» حيث قالوا: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» فقد كان ذلك أشدّ تأثيرا فى قلبه من الجفاء الأول. ويقال إذا حنق عليك الملك فلا تأمن غبّه- وإن طالت المدة- فإن يوسف عليه السلام حنق عليهم فلقوا فى المستأنف منه ما ساءهم من حبس أخيه، وما صاحبهم من الخجل من أبيهم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 78] قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) لم تنفعهم كثرة التّنصّل، وما راموا به من ذكر أبيهم ابتغاء التوسّل، ولم ينفعهم ما قيل منهم حين عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم فى البدل.. كذلك فكلّ مطالب بفعل نفسه: لا تزر وازرة وزر أخرى فلا الأب يؤخذ بدل الولد، ولا القريب يرضى به عوضا عن أحد لذلك قال يوسف عليه السلام: [سورة يوسف (12) : آية 79] قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) توهموا أن الحديث معهم من حيث معاملة الأموال، فعرضوا أنفسهم كى يؤخذ واحد منهم بدل أخيهم، ولم يعلموا أن يوسف عليه السلام كادهم فى ذلك، وأنّ مقصوده من   (1) القرح- الجرح، والقدح- العيب فى عرض غيرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 ذلك ما استكنّ فى قلبه من حبّ لأخيه، وكلّا.. أن يكون عن المحبوب بدل أو لقوم مقام أحد.. وفى معناه أنشدوا: إذا أوصلتنا الخلد كيما تذيقنا ... أبينا وقلنا: أنت أولى إلى القلب وقيل: أحبّ ليلى وبغّضت إلىّ ... نساء ما لهنّ ذنوب قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 80] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) لما علموا أن يوسف عليه السلام ليس يبرح عن أخيه خلا بعضهم ببعض فعملت فيهم الخجلة، وعلموا أن يعقوب فى هذه الكرّة يتجدد له مثلما أسلفوه من تلك الفعلة، فلم يرجع، أكبرهم إلى أبيهم، وتناهى إلى يعقوب خبرهم، فاتهمهم وما صدّقهم، واستخونهم وما استوثقهم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 81] ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) كان لهم فى هذه الكرّة حجة على ما قالوا، ولكن لم يسكن قلب يعقوب عليه السلام إليها، فإنّ تعيّن الجرم فى المرة الأولى أوجب التّهمة فى الكرّة الأخرى. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 82] وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) ما ازدادوا إقامة حجّة إلا ازداد يعقوب- عليه السلام- فى قولهم شبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ويقال: فى مساءلة الأطلال أخذ لقلوب الأحباب، وسلوة لأسرارهم.. وهذا الباب مما للشرح فيه مجال. قوله جل ذكره [سورة يوسف (12) : آية 83] قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) لجأ إلى قرب خلاصه من الضرّ بالصبر. ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يمس حتى قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» ليعلم أنّ عزم الأحباب على الصبر منقوض غير محفوظ «1» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 84] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) تولّى عن الجميع- وإن كانوا أولاده- ليعلم أنّ المحبة لا تبقى ولا تذر. ويقال أراد إخوة يوسف أن يكون إقبال يعقوب عليهم بالكليّة فأعرض، وتولّى عنهم، وفاتهم ما كان لهم، ولهذا قيل: من طلب الكلّ فاته الكلّ. ويقال لم يجد يعقوب مساعدا لنفسه على تأسفه على يوسف فتولّى عن الجميع، وانفرد بإظهار أسفه، وفى معناه أنشدوا: فريد عن الخلّان فى كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد ويقال كان بكاء داود عليه السلام أكثر من بكاء يعقوب عليه السلام، فلم يذهب بصر داود وذهب بصر يعقوب لأن يعقوب عليه السلام بكى لأجل يوسف ولم يكن فى قدرة   (1) يوضح القشيري هذا المعنى فى رسالته حيث يقول: [واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين وصبر المحبين، فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا، وفى هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: أصبح يعقوب وقد وعد من نفسه- فصبر جميل- ثم لم يمس حتى قال. يا أسفا على يوسف] الرسالة ص 95. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 يوسف أن يحفظ بصره من البكاء لأجله، وأمّا داود فقد كان يبكى لله، وفى قدرة الله- سبحانه- ما يحفظ بصر الباكي لأجله. سمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله- يقول ذلك، وقال رحمه الله: إن يعقوب بكى لأجل مخلوق فذهب بصره، وداود بكى لأجل الله فبقى بصره. وسمعته- رحمه الله- يقول: لم يقل الله: «عمى يعقوب» ولكن قال: «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ» ، لأنه لم يكن فى الحقيقة عمى، وإنما كان حجابا عن رؤية غير يوسف «1» . ويقال كان ذهاب بصر يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شىء أشدّ على الأحباب من رؤية غير المحبوب فى حال فراقه، وفى معناه أنشدوا: لما تيقّنت أنى لست أبصركم ... أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه الله يقول: كان يعقوب عليه السلام يتسلّى برؤية بنيامين فى حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» أي أنه لما منع من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمّا بقي عن النظر قال: يا أسفا على يوسف. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 85] قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) هددوه بأن يصير حرضا- أي مريضا مشرفا على الهلاك- وقد كان، وخوفّوه مما لم يبال أن يصيبه حيث قالوا «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» . ويقال أطيب الأشياء فى الهلاك ما كان فى حكم الهوى- فكيف يخوّف بالهلاك من كان أحبّ الأشياء إليه الهلاك؟ قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 86] قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) شكا إلى الله ولم يشك من الله، ومن شكا إلى الله وصل، ومن شكا من الله انفصل.   (1) هذا نموذج من التذوق للنص القرآنى لا يفطن إليه إلا أرباب الذوق الصوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 ويقال لمّا شكا إلى الله وجد الخلف من الله. ويقال كان يعقوب- عليه السلام- متحمّلا بنفسه وقلبه، ومستريحا محمولا بسرّه وروحه لأنه علم من الله- سبحانه- صدق حاله فقال: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ، وفى معناه أنشدوا: إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة ... تمنّيت أن أشكوا إليك فتسمعا قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 87] يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) كان يعقوب عليه السلام يبعث بنيه فى طلب يوسف، وكان الإخوة يخرجون بطلب المسيرة وفى اعتقادهم هلاك يوسف.. وكلّ إنسان وهمّه. ويقال قوله «فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» أمر بطلب يوسف بجميع حواسّهم بالبصر لعلّهم تقع عليه أعينهم، وبالسّمع لعلّهم يسمعون ذكره، وبالشمّ لعلّهم يجدون ريحه وقد توهّم يعقوب أنهم مثله فى إرادة الوقوف على شأنه. ثم أحالهم على فضل الله حيث قال: «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» . ويقال لم يكن ليعقوب أحد من الأولاد بمكان يوسف، فظهر من قلّة الصبر عليه ما ظهر، وآثر غيبة الباقين من الأولاد فى طلب يوسف على حضورهم عنده.. فشتّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف! واحد لم يره فابيضّت عيناه من الحزن بفرقته، وآخرون أمرهم- باختياره- بغيبتهم عنه «1» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 88] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)   (1) هنا لفتة ذكية إلى أنثا قد نحب ونهلك في حب من لا تراه أعيننا.. فإذا صح هذا بالنسبة لمخلوق مثلنا فكيف بالنسبة لبارئنا وخالقنا!!؟ ثم إن التقريب والإبعاد يرتبطان بالاجتباء الإلهى وحده. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضّرّ، ومقاساة الجوع والفقر، ولم يذكروا حديث يوسف عليه السلام، وما لأجله وجّههم أبوهم. ويقال استلطفوه بقولهم: «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم. ويقال لمّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا: وجئنا ببضاعة مزجاة- أي رديئة- ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا: أوف لنا الكيل. ويقال قالوا كلنا كيلا يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا: «وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» : نزلوا أوضع منزل كأنهم قالوا: إن لم نستوجب معاملة البيع والشراء فقد استحققنا بذل العطاء، على وجه المكافأة والجزاء. فإن قيل كيف قالوا وتصدّق علينا وكانوا أنبياء- والأنبياء لا تحل لهم الصدقة؟ فيقال لم يكونوا بعد أنبياء، أو لعلّه فى شرعهم كانت الصدقة غير محرّمة على الأنبياء. ويقال إنما أرادوا أنّ من ورائنا من تحلّ له الصدقة. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 89] قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) افتضحوا بحضرة يوسف عليه السلام وقالوا: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» فعرفهم فعلمهم ووقفهم عند أحدهم فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ يعنى إنّ من عامل يوسف وأخا، بمثل معاملتكم فلا ينبغى له أن يتجاسر فى الخطاب كتجاسركم. ويقال إن يوسف عليه السلام قال لهم: أنهيتم كلامكم، وأكثرتم خطابكم، فما كان فى حديثكم إلا ذكر ضرورتكم.. أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف؟! وذلك فى باب العتاب أعظم من كلّ عقوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 ولمّا أخجلهم حديث العتاب لم يرض يوسف حتى بسط عندهم فقال: «إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 90] قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) فى الابتداء حين جهلوه كانوا يقولون له فى الخطاب: «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» فلمّا عرفوه قالوا: «إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» لأنّه لمّا ارتفعت الأجنبية سقط التكلّف فى المخاطبة، وفى معناه أنشدوا: إذا صفت المودّة بين قوم ... ودام ودادهم قبح الثناء ويقال إنّ التفاصل والتفارق بين يوسف وإخوته سبقا التواصل بينه وبين يعقوب عليهما السلام فالإخوة خبره وعرفوه قبل أن عرفه أبوه ليعلم أن الحديث بلا شك. ويقال لم يتقدموا على أبيهم فى استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم- وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضهم حديث الميرة والطعام فقط، فقال: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» : يعنى إنى لأخ لمثل هذا لا لمثلكم ولذا قال: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» ، ولم يقل وأنتم إخوتى، كأنّه أشار إلى طرف من العتاب، يعنى ليس ما عاملتمونى به فعل الإخوة. ويقال هوّن عليهم حال بداهة «2» الخجلة حيث قال «أَنَا يُوسُفُ» بقوله: «وَهذا أَخِي» ، وكأنه شغلهم بقوله: «وَهذا أَخِي» كما قيل فى قوله تعالى: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» إنه سبحانه شغل موسى عليه السلام باستماع: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» بمطالعة العصا فى عين ما كوشف به من قوله: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ» .   (1) واضح أن القشيري يطبق فكرة القبض والبسط فى هذه الإشارة. (2) بداهة الخجلة مفاجأتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر فى مقاساة الجهد والعناء فقال: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله- يقول لما قال يوسف: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ» أحال فى استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر ... فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» يعنى ليس بصبرك يا يوسف ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار الله إياك علينا فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف- على جهة الانقياد للحقّ: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمّا لم يرتقواه من نفسه حيث نبّهوه عليه نطق عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير «1» . قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 91] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) اعترفوا بالفضل ليوسف- عليه السلام- حيث قالوا: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وأكّدوا إقرارهم بالقسم بقولهم «تَاللَّهِ» وذلك بعد ما جحدوا فضله بقولهم: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد. ويقال لمّا اعترفوا بفضله وأقرّوا بما اتصفوا به من جرمهم بقولهم: «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ وجدوا التجاوز عنهم حين قال يوسف: [سورة يوسف (12) : آية 92] قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) أسرع يوسف فى التجاوز عنهم، ووعد يعقوب لهم بالاستغفار بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» لأنه كان أشدّ حبا لهم فعاتبهم، وأما يوسف فلم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة، وفى معناه أنشدوا: ترك العتاب إذا استحق أخ ... منك العتاب ذريعة الهجر   (1) خلاصة رأى الدقاق أنه ليس بعمل الإنسان يصل ولكن بفضل الله واختياره، وحتى عمل الإنسان فهو أيضا يتم بفضل الله واختياره.. وذلك أصل من أصول المذهب القشيري كما وضح فى مواضع متفرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 ويقال أصابهم- فى الحال- من الخجلة ما قام مقام كلّ عقوبة، ولهذا قيل: كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 93] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) البلاء إذا هجم هجم مرّة، وإذا زال زال بالتدريج حلّ البلاء بيعقوب مرة واحدة حيث قالوا: «فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ولما زال البلاء.. فأولّا وجد ريح يوسف عليه السلام، ثم قميص يوسف، ثم يوم الوصول بين يدى يوسف، ثم رؤية يوسف. ويقال لمّا كان سبب البلاء، والعمى قميص يوسف أراد الله أن يكون به سبب الخلاص من البلاء «1» . ويقال علم أن يعقوب عليه السلام- لما يلحقه من فرط السرور- لا يطيقه عند أخذ القميص فقال: «فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي» . ويقال القميص لا يصلح إلا للباس إلا قميص الأحباب فإنه لا يصلح إلا لوجدان ريح الأحباب. ويقال كان العمى فى العين فأمر بإلقاء القميص على الوجه ليجد الشفاء من العمى. ويقال لمّا كان البكاء بالعين التي فى الوجه كان الشفاء فى الإلقاء على العين التي فى الوجه، وفى معناه أنشدوا: وما بات مطويا على أريحبة ... عقيب النوى إلا فتىّ ظلّ مغرما وقوله «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» : لما علم حزن جميع الأهل عليه أراد أن يشترك فى الفرح جميع من أصابهم الحزن.   (1) ويضاف إلى ذلك أن عدم تمزق قميص يوسف كان دلالة على براءة الذئب، وأن تمزقه من دبر كان دلالة على براءة يوسف من تهمة زليخا، وبهذا وذاك يمكن أن يكون قميص يوسف رمزا لموحيات كثيرة فى القصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 ويقال علم يوسف أن يعقوب لن يطيق على القيام بكفاية أمور يوسف فاستحضره، إبقاء على حاله لا إخلالا لقدره وما وجب عليه من إجلاله. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 95] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) ما دام البلاء مقبلا كان أمر يوسف وحديثه- على يعقوب- مشكلا، فلما زالت المحنة بعثرت بكل وجه حاله. ويقال لم يكن يوسف بعيدا عن يعقوب حين ألقوه فى الجبّ ولكن اشتبه عليه خبره وحاله، فلما زال البلاء وجد ريحه وبينهما مسافة ثمانين فرسخا- من مصر إلى كنعان. ويقال إنما انفرد يعقوب عليه السلام بوجدان ريح يوسف لانفرداه بالأسف عند فقدان يوسف. وإنما يجد ريح يوسف من وجد على فراق يوسف «1» فلا يعرف ريح الأحباب إلا الأحباب، وأمّا على الأجانب فهذا حديث مشكل.. إذ أنّى يكون للإنسان ريح!؟. ويقال لفظ الريح هاهنا توسع «2» ، فيقال هبّت رياح فلان، ويقال إنى لأجد ريح الفتنة.. وغير ذلك. قوله جل ذكره: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ تفرّس فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة فلم ينجع فيهم قوله، فزادوا في الملامة فقالوا: - قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قرنوا كلامهم بالشتم، ولم يحتشموا أباهم، ولم يراعوا حقّه فى المخاطبة، فوضفوه بالضلال فى المحبة. ويقال إن يعقوب عليه السلام قد تعرّف من الريح نسيم يوسف عليه السلام، وخبر يوسف كثر حتى جاء الإذن للرياح، وهذه سنّه الأحباب: مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال، وفى معناه أنشدوا:   (1) لاحظ الجمال فى أسلوب القشيري فى (يجد) ريح يوسف و (وجد) على فراقه. (2) كلمة (توسع) يستخدمها القشيري بمعنى (مجاز) - ذلك الاصطلاح البلاغى المعروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وإنّى لأستهدى الرياح نسيمكم ... إذا هى أقبلت نحوكم بهبوب واسألها حمل السلام إليكم ... فإن هى يوما بلغت فأجيبوا قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 96] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) لو ألقى قميص يوسف على وجه من فى الأرض من العميان لم يرتد بصرهم، وإنما رجع بصر يعقوب بقميص يوسف على الخصوص فإنّ بصر يعقوب ذهب لفراق يوسف، ولمّا جاءوا بقميصه أنطق لسانه، وأوضح برهانه، فقال لهم: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» عن حياة يوسف، وفى معناه أنشدوا: وجهك المأمول حجّتنا ... يوم يأتى النّاس بالحجج قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 97] قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) كلّ إنسان وهمّه وقع يعقوب ويوسف عليها السلام فى السرور والاستبشار، وأخذ إخوة يوسف فى الاعتذار وطلب الاستغفار. ويقال إخوة يوسف- وإن سلفت منهم الجفوة كلّموا أباهم بلسان الانبساط لتقديم شفقة الأبوة على ما سبق منهم من الخطيئة. ويقال يوم بيوم اليوم الذي كان يعقوب محزونا بغيبة يوسف فلا جرم اليوم كان يعقوب مسرورا بقميص يوسف، وكان الإخوة فى الخجلة مما عملوا بيوسف. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 98] قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ من استبشاره إلى الاستغفار. ويقال لم يجبهم على الوهلة ليدلّهم على ما قدّموا من سوء الفعلة لأن يوسف كان غائبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وقتئذ، فوعدهم الاستغفار فى المستأنف- إذا رضى عنهم يوسف حيث كان الحقّ أكثره له، ولو كان كله ليعقوب لوهبهم على الفور. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 99] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) اشتركوا فى الدخول ولكن تباينوا فى الإيواء، فانفرد الأبوان به لبعدهما عن الجفاء، كذلك غدا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فى وجود الجنان، ولكنهم يتباينون فى بساط القربة فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالاستواء. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 100] وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) أوقف كلّا بمحلّه فرفع أبويه على السرير، وترك الإخوة نازلين بأماكنهم. قوله: «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» : كان ذلك سجود تحية، فكذلك كانت عادتهم. ودخل الأبوان فى السجود- فى حقّ الظاهر- لأنّ قوله «خَرُّوا» إخبار عن الجميع، ولأنه كان عن رؤياه قد قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» وقال هاهنا: «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» . قوله جل ذكره: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 شهد إحسانه فشكره.. كذلك من شهد النعمة شكر، ومن شهد المنعم حمده «1» وذكر حديث السجن- دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر. وقيل لأن فيه تذكيرا بجرم الإخوة وكانوا يخجلون. وقيل لأن «السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» . وقيل لأنه كان فى البئر مرفوقا به والمبتدئ يرفق به وفى السجن فقد ذلك الرّفق لقوة حاله فالضعيف مرفوق به والقوىّ مشدّد عليه فى الحال، وفى معناه أنشدوا: وأسررتنى حتى إذا ما سببتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح تجافيت عنّي حين لا لى حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح وفى قوله: «وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» إشارة إلى أنه كما سرّ برؤية أبويه سرّ بإخوته- وإن كانوا أهل الجفاء، لأنّ الأخوّة سبقت الجفوة «2» . قوله: «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر، فقال كان الذي جرى منهم من نزغات الشيطان، ثم لم يرض بهذا حتى قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» . يعنى إن وجد الشيطان سبيلا إليهم، فقد وجد أيضا إلىّ حيث قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» . ثم نطق عن عين التوحيد فقال: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلونى. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) من حرف تبعيض لأن الملك- بالكمال- لله وحده. ويقال الملك الذي أشار إليه قسمان: ملكه فى الظاهر من حيث الولاية، وملك على نفسه حتى لم يعمل ما همّ به من الزّلّة.   (1) أي إن (الحمد) أعلى درجة من (الشكر) .. وهكذا تثرى البعوث الصوفية اللغة. (2) ربما يرمى القشيري من بعيد إلى أن يشير إلى أن الحق- سبحانه- يتفضل بكرمه على عباده- حتى ولو كانت منهم جفوة- لأنهم عباده أولا.. وإلى هذا يشير فى موضع آخر من كتابه: «عبدى.. إن لم تكن لى. فأنا لك» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 ويقال ليس كلّ ملك المخلوقين الاستيلاء على الخلق، إنما الملك- على الحقيقة- صفاء الخلق. قوله: «وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» : التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام «1» . قوله جل ذكره: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» - هذا ثناء، وقوله: «تَوَفَّنِي» - هذا دعاء. فقدّم الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء. ثم قال: «أنت وليي فى الدنيا والآخرة، هذا إقرار بقطع الأسرار عن الأغيار. ويقال معناه: الذي يتولّى فى الدنيا والآخرة بعرفانه أنت فليس لى غيرك فى الدارين. قوله: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً» : قيل علم أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فسأل الوفاة. وقيل من أمارات الاشتياق تمنّي الموت على بساط العوافي «2» مثل يوسف عليه السلام ألقى فى الجبّ فلم يقل توفنى مسلما، وأقيم فيمن يزيد «3» فلم يقل توفنى مسلما، وحبس فى السجن سنين فلم يقل توفنى مسلما، ثم لما تمّ له الملك، واستقام الأمر، ولقى الإخوة سجّدا، وألفى أبويه معه على العرش قال: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً» ، فعلم أنه كان يشتاق للقائه (سبحانه) . وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله يقول. قال يوسف ليعقوب: علمت أنّا نلتقى فيما بعد الموت.. فلم بكيت كلّ هذا البكاء؟   (1) تصلح هذه العبارة لتوضيح الفرق- فى نظر القشيري- بين كلمتى التأويل والتفسير. (2) هذه العبارة والاستشهاد عليها من قصة يوسف أوردهما القشيري منسوبين لشيخه الدقاق فى الرسالة ص 163. (3) (أقيم فيمن يزيد) لم ترد فى النص السابق بالرسالة. ومعناها: نودى عليه ليباع كالعبيد بعد إخراجه من البئر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 فقال يعقوب، يا بنىّ إنّ هناك طرقا، خفت أن اسلك طريقا وأنت تسلك طريقا، فقال يوسف عند ذلك: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً» . ويقال إن يوسف- عليه السلام- لما قال: توفنى مسلما، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال: يا بنى دعني أشتفى بلقائك من الذي منيت به فى طول فراقك، فلا تسعنى- بهذه السرعة- قولك: توفّني مسلما. قوله جلّ ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) تبيّن للكافة أن مثل هذا البيان لهذه القصة على لسان رجل أمي لا يكون إلا بتعريف سماوىّ ويقال كون الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمّيّا فى أول أحواله علامة شرفه وعلوّ قدره فى آخر أحواله، لأنّ صدقه فى أن هذا من قبل الله إنما عرف بكونه أميا، ثم أتى بمثل هذه القصة من غير مدارسة كتاب. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 103] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) أخبر عن سابق علمه بهم، وصادق حكمه حكمته فيهم. ويقال معناه: أقمتك شاهدا لإرادة إيمانهم، وشدّة الحرص على تحقّقهم بالدّين، وإيقانهم. ثم إنّى أعلم أنهم لا يؤمن أكثرهم، وأخبرتك بذلك، وفرض عليك تصديقى بذلك، وفرضت عليك إرادتى كون ما علمت أنه لا يكون من إيمانهم. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 104] وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) هذه سنّة الله- سبحانه- مع أنبيائه حيث أمرهم بألا يأخذوا على تبليغ الرسالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 عوضا ولا أجرا، وكذلك أمره للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام- بألّا يأخذوا من الخلق عوضا على دعائهم إلى الله، فمن أخذ منهم حظا من الناس لم يبارك للمستمع فيما يسمع منه فلا له أيضا بركة فيما يأخذ منهم فتنقطع به. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 105] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) الآيات ظاهرة، والبراهين باهرة، وكلّ جزء من المخلوقات شاهد على أنّه واحد، ولكن كما أنّ من أغمض عينه لم يستمتع بضوء نهاره فكذلك من قصّر فى نظره واعتباره لم يحظ بعرفانه واستبصاره. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 106] وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) الشّرك الجلىّ أن يتّخذ من دونه- سبحانه- معبودا- والشّرك الخفىّ أن يتخذ بقلبه عند حوائجه من دونه- سبحانه- مقصودا. ويقال شرك العارفين أن يتخذوا من دونه مشهودا، أو يطالعوا سواه موجودا «1» . ويقال من الشّرك الخفىّ الإحالة على الأشكال فى تجنيس الأحوال، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال «2» عند تزاحم الأشغال. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 107] أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) أفأمن الذي اغترّ بطول الإمهال ألا يبتلى بالاستئصال، أفأمن من اغترّ بطول السلامة ألا يقوم البلاء عليه يوم القيامة.   (1) أي (موجودا) على الحقيقة. (2) (الاحتيال) معناها اللجوء إلى الحيلة أي التدبير الإنسانى بل ينبغى إسقاط التدبير واللجوء إلى التقدير الإلهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ويقال الغاشية حجاب من القسوة يحصل فى القلب، لا يزول بالتضرع ولا ينقشع بالتخشع ويقال الغاشية من العذاب أن تزول من القلب سرعة الانقلاب إلى الله تعالى، حتى إذا تمادى صاحب الغفلة استقبله فى الطريق ما يوجب قنوطه من زواله، وفى معناه أنشدوا: قلت للنّفس إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 108] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) «البصيرة» : اليقين الذي لا مرية فيه، والبيان الذي لا شك فيه. البصيرة يكون صاحبها ملاطفا بالتوفيق جهرا، ومكاشفا بالتحقيق سرّا. ويقال البصيرة أن تطلع شموس العرفان فتندرج فيها أنوار نجوم العقل. قوله «أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» أي ذلك سبيلى، وسبيل من اقتدى بهداي فهو أيضا على بصيرة قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 109] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) تعجبوا أن يبعث الله إلى الخلق بشرا رسولا، فبيّن أنه أجرى سنّته- فيمن تقدّم من الأمم- ألا يكون الرسول إليهم إلا بشرا، فإما أن جحدوا جواز بعثة الرسول أصلا، أو أنهم استنكروا أن يبعث بشرا رسولا. ثم أمرهم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنّظر فقال: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..؟» قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 110] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وتيقّنوا أنهم كذبوهم- والظن هاهنا بمعنى اليقين- فعند ذلك جاءهم نصرنا للرسل بالنجاة ولأقوامهم بالهلاك، ولا مردّ «1» لبأسنا ويقال حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين «2» شيئا من الأحوال إلا بعد يأسهم منها، قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» «3» فكما أنّه ينزّل المطر بعد اليأس فكذلك يفتح الأحوال بعد اليأس منها والرضا بالإفلاس عنها. قوله جل ذكره: [سورة يوسف (12) : آية 111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) عبرة منها للملوك فى بسط العدل كما بسط يوسف عليه السلام، وتأمينهم أحوال الرعية كما فعل يوسف حين أحسن إليهم، وأعتقهم حين ملكهم. وعبرة فى قصصهم لأرباب التقوى فإن يوسف لمّا ترك هواه رقّاه الله إلى ما رقّاه. وعبرة لأهل الهوى فيما فى اتباع الهوى من شدة البلاء، كامرأة العزيز لمّا تبعت هواها لقيت الضرّ والفقر. وعبرة للمماليك فى حضرة السادة، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا ملك ملك العزيز، وصارت زليخا امرأته حلالا.   (1) سقطت الدال من (لا مرد) فأثبتناها. [ ..... ] (2) وردت (المرتدين) وهى خطأ فى النسخ فالكلام عن أحوال (المريدين) ، كذلك فإن الله لا يفتح على (المرتدين) شيئا فهم مغضوب عليهم. (3) آية 28 سورة الشورى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وعبرة فى العفو عند المقدرة، كيوسف عليه السلام حين تجاوز عن إخوته. وعبرة فى ثمرة الصبر، فيعقوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوما بلقاء يوسف عليه السلام «1» . السورة التي يذكر فيها «الرَّعْدُ» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يورث لقوم طلبا ثم طربا، ولقوم. حزنا ثم هربا، فمن سمع بشاهد الرجاء طلب وجود رحمته فأذنه لها طرب، ومن سمع بشاهد الرهبة حزن من خوف عقوبته ثم إليه هرب. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) أقسم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إنّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنّى أنزّل عليك فالألف تشير إلى اسم «الله» ، واللام تشير إلى اسم «اللطيف» ، والميم تشير إلى اسم «المجيد» ، والراء تشير إلى اسم «الرحيم» . فقال بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنى أنزله على محمد- صلى الله عليه وسلم. ثم عطف عليه بالواو قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» هو حق وصدق، لأنه أنزله على نبيّه- صلى الله عليه وسلم. قوله جل ذكره: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي ولكن الأكثر من الناس من أصناف الكفار لا يؤمنون به، فهم الأكثرون عددا، والأقلون قدرا وخطرا قوله جل ذكره: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ   (1) أحسن القشيري إذ جعل خاتمة السورة بمتشابة خلاصة دقيقة لها، وأوضح العبرة المستفادة من دور كل شخصية فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 دلّ على صفاته وذاته بما أخبر به من آياته، ومن جملتها رفع السماوات وليس تحتها عماد يشدّها، ولا أوتاد تمسكها. وأخبر فى غير هذه المواضع أنه زيّن السماء بكواكبها، وخصّ الأرض بجوانبها ومناكبها. «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» : أي احتوى على ملكه احتواء قدرة وتدبير. والعرش هو الملك حيث يقال: اندكّ عرش فلان إذا زال ملكه. قوله جل ذكره: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ... كلّ يجرى فى فلك. ويدلّ كل جزء من ذلك على أنه فعل ملك فى ملكه غير مشترك. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 3] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) بسط الأرض ودحاها، والجبال أرساها، وفجّر عيونها، وأجرى أنهارها، وجنّس بحارها، ونوّع من الحيوانات ما جعل البحر قرارها، وأنبت أشجارها، وصنّف أزهارها وثمارها، وكوّر عليها ليلها ونهارها.. ذلك تقدير العزيز العليم. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 4] وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 فمن سبخ «1» ومن حجر ومن رمل.. أنواع مختلفة، وأزواج متفقة. وزروع ونبات وأشجار أشتات، وأصل الكل واحد، فأجزاؤها متماثلة، وأبعاضها متشاكلة، ولكن جعل بعضها غدقا «2» ، وبعضها قشرا، وبعضها غصنا، وبعضها جذعا، وبعضها أزهارا، وبعضها أوراقا.. ثم الكلّ واحد، وإن كان لكلّ واحد طبع مخصوص وشكل مخصوص، ولون مخصوص وقشر مخصوص مع أنها تسقى بماء واحد إذ يصل إلى كل جزء من الشجر من الماء مقدار ما يحتاج إليه، «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» . قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 5] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وإن تعجب- يا محمد- لقولهم فهذا موضع يتعجّب منه الخلق، فالعجب لا يجوز فى صفة الحقّ «3» ، إذ أن التعجب الاستبعاد والحقّ لا يستبعد شيئا، وإنما أثبت موضع التعجب للخلق، وحسن ما قالوا: «إنما تعجّب من حجب» لأنّ من ينل عيون البصيرة لا يتعجّب من شىء. وقوم أطلقوا اللفظ بأن هذا من باب الموافقة أي إنك إن تعجب فهذا عجب موافقتك له. وإطلاق هذا- وإن كان فيه إشارة إلى حالة لطيفة- لا يجوز، والأدب السكوت عن أمثال هذا. والقوم عبّروا عن ذلك فقالوا: أعجب العجب قول ما لا يجوز فى وصفه العجم.. وإن تعجّب. وقوله تعالى: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» : استبعادهم النشأة الثانية- مع إقرارهم بالخلق الأول وهما فى معنى واحد- موضع التعجب، إذ هو صريح   (1) السبخ المكان يظهر فيه الملح وتسوخ فيه الأقدام (الوسيط) . (2) الغدق من العشب بالله وريه (الوسيط) (3) إشارة إلى ما في الآية (فعجب قولهم..) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 فى المناقضة، وكان القوم أصحاب تمييز وتحصيل، فقياس مثل هذا يدعو إلى العجب. ولكن لولا أن الله- سبحانه- لبّس عليهم كما قال: «فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «1» - وإلا ما كان ينبغى أن يخفى عليهم جواز هذا مع وضوحه «2» . قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 11] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) الكناية فى: «لَهُ مُعَقِّباتٌ» راجعة إلى العبد، أي أن الله وكل بكلّ واحد منهم معقبات وهم الملائكة الذين يعقب بعضهم بعضا بالليل والنهار يحفظون هذا المكلّف وذاك «3» من أمر الله، أي من البلاء الذي بقدرة الله. يحفظونهم بأمر الله من أمر الله، وذلك أن الله- سبحانه- وكل لكلّ واحد من الخلق ملائكة يدفعون عنهم البلاء إذا ناموا وغفلو، أو إذا انتبهوا وقاموا ومشوا ... وفى جميع أحوالهم. قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ إذا غيّروا ما بهم إلى الطاعات غيّر الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا فى نعمة فغيّروا ما بهم من الشكر لله تغيّر عليهم ما منّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا فى شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا فى التضرع، وأظهروا العجر غيّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل. ويقال إذا غيروا ما بألسنتهم من الذّكر غير الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيان   (1) آية 9 سورة يس. (2) هنا وضع الناسخ علامة على سقوط مساحة من النص، ومن المؤسف أنه لا يوجد استدراك لذلك فى الهامش ويقع فى هذه المساحة تفسير للآيات من (5 إلى 10) من السورة. (3) فى النسخة (وهذا) ولكننا آثرنا أن نجعلها (وذاك) حتى نزيد السياق إيضاحا ونمنع الليس إذ ربما يظن أن (وهذا) الثانية مبتدأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 والغفلة، فإذا كان العبد فى بسطة وتقريب، وكشف بالقلب وترقب.. فالله لا يغيّر ما بأنفسهم بترك أدب، أو إخلال بحق، أو إلمام بذنب. ويقال لا يكفّ ما أتاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يترك ويغيّر ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور «1» القلب بالنسيان وما يطيح به من العصيان. أبدل الله تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسلبه ما كان يعطيه من الإحسان. ويقال إذا توالت المحن وأراد العبد زوالها فلا يصل إليه النّفض «2» منها إلّا بأن يغير ما هو به فيأخذ فى السؤال بعد السكوت، وفى إظهار الجزع بعد السكون، فإذا أخذ فى التضرع غيّر ما به من الصبر «3» . قوله: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ» : يقال إذا أراد الله بقوم بلاء وفتنة فما تعلّقت به المشيئة لا محالة يجرى. ويقال إذا أراد الله بقوم سوءا ( ... ) «4» أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، ويسعون- فى الحقيقة- فى دمهم كما قال قائلهم: إلى حتفى مشى قدمى ... إذا قدمى أراق دمى قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 12] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) كما يريهم البرق- فى الظاهر- فيكونون بين خوف وطمع خوف من إحباس المطر وطمع فى مجيئه. أو خوف للمسافر من ضرر مجىء المطر، وطمع للمقيم فى نفعه.. كذلك يريهم البرق فى أسرارهم بما يبدو فيها من اللوائح ثم اللوامع ثم كالبرق فى الصفاء، وهذه أنوار المحاضرة ثم أنوار المكاشفة.   (1) وردت (حصول) وقد آثرنا أن تكون (حضور) القلب حتى تقابل (النسيان) . (2) يقال نقض فلان من مرضه أي برىء منه (الوسيط) (3) سيعود القشيري إلى الإجابة عن سؤالين: متى يجوز للعبد أن يشكو ويتضرع؟ وهل هذا آية نفاد صبره أم علامة ضعفه إزاء القوة الإلهية؟ .. عند حديثه عن أيوب فى سورة الأنبياء. (4) مشتبهة وربما كانت لفظة بمعنى (أعمى) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 «خَوْفاً» : من أن ينقطع ولا يبقى، «وَطَمَعاً» : فى أن يدوم فيه نقل صاحبه من المحاضرة إلى المكاشفة، ثم من المكاشفة إلى المشاهدة، ثم إلى الوجود ثم دوام الوجود ثم إلى كمال الخمود. ويقال «يُرِيكُمُ الْبَرْقَ» : من حيث البرهان، ثم يزيد فيصير كأقمار البيان، ثم بصير إلى نهار العرفان. فإذا طلعت شموس التوحيد فلا خفاء بعدها ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس، كما قيل: هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيب ويقال تبدو لهم أنوار الوصال فيخافون أن تجنّ «1» عليهم ليالى الفرقة، فقلّما تخلو فرحة الوصال من أن تعقبها موجة الفراق «2» ، كما قيل: أي يوم سررتنى بوصال ... لم «3» تدعنى ثلاثة بصدود؟! قوله جل ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحابَ «4» الثِّقالَ إذا انتاب السحابة فى السماء ظلام فى وقت فإنه يعقبه بعد ذلك ضحك الرياض، فما لم تبك السماء لا يضحك الروض، كما قيل: ومأتم فيه السماء تبكى ... والأرض من تحتها عروس كذلك تنشأ فى القلب سحابة الطلب، فيحصل للقلب تردد الخاطر، ثم يلوح وجه الحقيقة، فتضحك الروح لفنون راحات الأنس، وصنوف أزهار القرب. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 13] وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) أي الملائكة أيضا تسبح من خوفه تعالى. قوله جل ذكره: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ   (1) مصوبة هكذا فى الهامش، والمعنى ينقبلها وبرفض (ثمن) التي فى المتن. [ ..... ] (2) وردت (القرآن) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت (كم) (4) وردت (الصحاب) بالصاد وهى خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ قد يكون فى القلب حنين وأنين، وزفير وشهيق. والملائكة إذا حصل لهم على قلوب المريدين- خصوصا- اطلاع يبكون دما لأجلهم، لا سيّما إذا وقعت لواحد منهم فترة، والفترة فى هذه الطريقة الصواعق التي يصيب بها من يشاء، وكما قيل: ما كان ما أوليت من وصلنا ... إلا سراجا لاح «1» ثم انطفا قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 14] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) دواعى الحق تصير لائحة فى القلوب من حيث البرهان فمن استمع إليها بسمع الفهم، استجاب لبيان العلم. وفى مقابلتها دواعى الشيطان «2» التي تهتف بالعبد بتزيين المعاصي، فمن أصغى إليها بسمع الغفلة استجاب لصوت «3» الغىّ، ومعها دواعى النّفس وهى قائدة للعبد بزمام الحظوظ، فمن ركن إليها ولاحظها وقع فى هوان الحجاب. ودواعى الحقّ تكون بلا واسطة ملك، ولا بدلالة عقل، ولا بإشارة علم، فمن أسمعه الحقّ ذلك استجاب لا محالة لله بالله. قوله جل ذكره: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ هواجس النّفس ودواعيها تدعو- فى الطريقة- إلى الشّرك، وذلك بشهود شىء منك، وحسبان أمر لك، وتعريح فى أوطان الفرق، والعمى عن حقائق الجمع. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)   (1) وردت (راح) بالراء والمعنى لا يتقلبها فاخترنا (لاح) لأنها أقرب فى المعنى والخط. (2) وردت (السلطان) وهى خطأ في النسخ. (3) وردت (لصورت) والراء زائدة كما هو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 المؤمن يسجد لله طوعا، وإذا نزل به ضر ألجأه إلى أن يتواضع ويسجد، وذلك معنى سجوده كرها- وهذا قول أهل التفسير. والكافر يسجد طائعا مختارا، ولكن لمّا كان سجوده لطلب كشف الضّرّ قال تعالى: إنه يسجد كرها وعلى مقتضى هذا كلّ من يسجد لابتغاء عوض أو لكشف محنة. ويقال السجود على قسمين: ساجد بنفسه وساجد بقلبه فسجود النّفس معهود «1» ، وسجود القلب من حيث الوجود.. وفرق بين من يكون بنفسه، وواجد بقلبه. ويقال الكلّ يسجدون لله إمّا من حيث الأفعال بالاختيار، أو من حيث الأحوال بنعت الافتقار والاستبشار: سجود من حيث الدلالة على الوحدانية فكلّ جزء من عين أو أثر فعلى الوحدانية شاهد، وعلى هذا المعنى لله ساجد. وسجود من حيث الشهادة على قدرة الصانع واستحقاقه لصفات الجلال. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) سلهم- يا محمد- من موجد السماوات والأرض ومقدّرها، ومخترع ما يحدث فيها ومدبّرها؟ فإن أسكتهم عن الجواب ما استكنّ فى قلوبهم من الجهل فقل الله منشيها ومجريها. ثم قال: «أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» : يعنى الأصنام، وهى جمادات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، ويلتحق فى المعنى بها كلّ من هو موسوم برقم الحدوث، فمن علّق قلبه بالحدثان ساوى- من وجه- من عبد الأصنام، قال تعالى: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «2» .   (1) أي السجود فى الصلوات العادية بالنسبة للكافة، وأما سجود القلب فللخاصة. (2) آية 106 سورة يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 قوله جل ذكره: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الأعمى من على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصير من كحلّ الحقّ بصيرة سرّه بنور التوحيد.. لا يستويان! ثم هل تستوى ظلمات الشّرك وأنوار التوحيد؟ ومن جملة النور الخروج إلى ضياء شهود التقدير. قوله جل ذكره: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي لو كان له شريك لوجب أن يكون له ند مضاه، وفى جميع الأحكام له مواز، ولم يجد حينئذ التمييز بين فعليهما. وكذلك لو كان له ند.. فإنّ إثباتهما شيئين اثنين يوجب اشتراكهما فى استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضا مستحقا له، وهذا يؤدى إلى ألا يعرف المحلّ.. وذلك محال. قوله جل ذكره: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «كُلِّ شَيْءٍ» تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطب لا يدخل فى الخطاب. «وَهُوَ الْواحِدُ» : الذي لا خلف عنه ولا بدل «1» ، الواحد الذي فى فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلّ أحد، ويستعين به كل أحد. و «الْقَهَّارُ» : الذي لا يجرى يخلاف حكمه- فى ملكه- نفس. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 17] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)   (1) وردت (يدل) بالياء وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 هذه الآية تشتمل على أمثال ضربها الله لتشبيه القرآن المنزّل بالماء المنزّل من السماء، وشبّه القلوب بالأودية، وشبّه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بالزّبد الذي يعلو الماء، وشبّه الخلق «1» بالجواهر الصافية من الخبث كالذهب والفضة والنحاس وغيرها، وشبّه الباطل بخبث هذه الجواهر. وكما أن الأودية مختلفة فى صغرها وكبرها وأن بقدرها تحتمل الماء فى القلة والكثرة- كذلك القلوب تختلف فى الاحتمال على حسب الضعف والقوة. وكما أن السيل إذا حصل فى الوادي يطهّر الوادي فكذلك القرآن إذا حصل حفظه فى القلوب نفى الوساوس والهوى عنها، وكما أنّ الماء، قد يصحبه ما يكدره، ويخلص بعضه مما يشوبه- فكذلك الإيمان وفهم القرآن فى قلوب المؤمنين حين تخلص من نزغات الشيطان ومن الخواطر الرّديّة، فالقلوب بين صاف وكدر. وكما أنّ الجواهر التي تتخذ منها الأوانى إذا أذيبت خلصت من الخبث كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقّ ويضمحل الباطل. ويقال إن الأنوار إذا تلألأت فى القلوب نفت آثار الكلفة، ونور «2» اليقين ينفى ظلمة الشك، والعلم ينفى تهمة الجهل، ونور المعرفة ينفى أثر النكرة، ونور المشاهدة ينفى آثار البشرية،   (1) هكذا فى المصورة ونرجح أنها (الحق) ليقابل (الباطل) كما تقابل الجواهر الصوفية الخبث- ويزيد من قوة هذا الترجيح ما سيأتى بعد قليل عند (التمييز بين الحق والباطل) . (2) وردت (ونون) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وأنوار الجمع تنفى آثار التفرقة. وعند أنوار الحقائق تتلاشى آثار الحظوظ، وأنوار طلوع الشمس من حيث العرفان تنفى صدفة الليل من حيث حسبان أثر الأغيار. ثم الجواهر التي تتخذ منها الأوانى مختلفة فمن إناء يتخذ من الذهب وآخر من الرصاص، إلى غيره- كذلك القلوب تختلف، وفى الخبر: إن لله تعالى أوانى وهى القلوب» فزاهد قاصد ومحب واجد، وعابد خائف وموحّد عارف، ومتعبّد متعفّف ومتهجّد متصوف، وأنشدوا: ألوانها شتّي الفنون وإنما ... تسقى بماء واحد من منهل قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 18] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) «الْحُسْنى» «1» : الوعد بقبول استجابتهم، وذلك من أجلّ الأشياء عندهم فلا شىء أعزّ على المحبّ من قبول محبوبه منه شيئا. أما الذين لم يستجيبوا له فلو أنّ لهم جميع ما فى الأرض وأنفقوه عمدا لا يقبل منهم، ولهم سوء الحساب، وهو المناقشة فى الحساب، ثم مأواهم جهنم ودوام العذاب. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 19] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) «2» استفهام فى معنى النفي، أي لا يستوى البصير والضرير، ولا المقبول بالمردود بالحجبة، ولا المؤمّل بالتقريب بالمعرّض للتعذيب، ولا الذي أقصيناه عن شهودنا بالذي هديناه   (1) يرى النسفي أن (الحسنى) هنا صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى. (2) أخطأ الناسخ إذ جعلها (أفلم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 بوجودنا. إنما يتّعظ من عقله له تشريف، دون من عقله له سبب إقصاء وتعنيف. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 20] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) «1» الوفاء بالعهد باستدامة العرفان، والوفاء بشرط الإحسان، والتوقّى من ارتكاب العصيان بذلك أبرم العقد يوم الميثاق والضمان. وميثاق قوم ألا يعبدوا شيئا سواه، وميثاق قوم ألا يسألوا سواه قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 21] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) «2» الذين يصلون الإيمان به بالإيمان بالأنبياء والرسل. ويقال الذين يصلون أنفاسهم بعضا ببعض فلا يتخلّلها نفس لغير الله، ولا بغير الله، ولا فى شهود غير الله. ويقال يصلون سيرهم بسراهم فى إقامة العبودية، والتبرّى من الحول والقوة. وقوله: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» : الخشية لجام يوقف المؤمن عن الرّكض فى ميادين الهوى، وزمام يجرّ إلى استدامة حكم التّقى. وقوله: «وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» هو أن يبدو من الله ما لم يكونوا يحتسبون قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 22] وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) الصبر يختلف باختلاف الأغراض التي لأجلها يصبر الصابر، فالعبّاد يصبرون لخوف العقوبة، والزهاد يصبرون طمعا فى المثوبة، وأصحاب الإرادة هم الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وشرط هذا النوع من الصبر رفض ما يمنع من الوصول، واستدامة التوقي منه،   (1) أخطأ النساخ إذ جعلها (والذين) . [ ..... ] (2) هذه الآية مستدركة فى هامش الورقة بعد أن سقطت من المتن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فيدخل فيه ترك الشهوات، والتجرد عن جميع الشواغل والعلاقات، فيصبر عن العلة والزّلة. وعن كل شىء يشغّل عن الله. ومما يجب عليه الصبر الوقوف على حكم تعزّز الحق، فإنّه- سبحانه- يتفضّل على الكافة من المجتهدين، ويتعزز- خصوصا- على المريدين، فيمنحهم الصبر فى أيام إرادتهم، فإذا صدقوا فى صبرهم جاد عليهم بتحقيق ما طلبوا. قوله جل ذكره: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً. الأغنياء ينفقون أموالهم. والعبّاد ينفقون نفوسهم ويتحملون صنوف الاجتهاد، ويصبرون على أداء الفرائض والأوراد. والمريدون ينفقون قلوبهم فيسرعون إلى أداء الفرائض والأوراد ويصبرون إلى أن يبوح علم من الإقبال عليهم. وأمّا المحبون فينفقون أرواحهم.. وهى كما قيل: ألست لى خلفا؟ كفى شرفا ... فما وراءك لى قصد ومطلوب. قوله جل ذكره: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ يعاشرون الناس بحسن الخلق فيبدأون بالإنصاف ولا يطلبون الانتصاف، وإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء، وإن أذنب إليهم قوم اعتذروا عنهم، وإن مرضوا عادوهم. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : الآيات 23 الى 24] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 يتم النعمة عليهم بأن يجمع بينهم وبين من يحبون صحبتهم من أقاربهم وأزواجهم، وقد ورد فى الخبر: «المرء مع من أحبّ» فمن كان محبوبه أمثاله وأقاربه حشر معهم، ومن كان اليوم بقلبه مع الله، فهو غدا مع الله، وفى الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» ، وهذا فى العاجل، وأمّا فى الآجل، ففى الخبر: «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة» . قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) من كفر بعد إيمانه نقض عهد الإسلام فى الظاهر، ومن رجع إلى أحكام العادة بعد سلوكه طريق الإرادة، فقد نقض عهده فى السّرّاء ... فهذا مرتدّ جهرا، وهذا مرتدّ سرّا، والمرتد جهرا عقوبته قطع رأسه، والمرتد سرّا عقوبته قطع سرّه. وقوله: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» ، هو نقض قوله: «يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» . ويقال نقض العهد هو الاستعانة بالأغيار، وترك الاكتفاء بالله الجبّار. ويقال نقض العهد الرجوع إلى الاختبار والتدبير بعد شهود الأقدار، وملاحظة التقدير. ويقال نقض العهد بترك نفسه، ثم يعود إلى ما قال بتركه. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 26] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) يبسط الرزق للأغنياء ويطالبهم بالشكر ويضيّق على الفقراء ويطالبهم بالصبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وعد الزيادة للشاكرين، ووعد المعيّة للصابرين. للأغنياء الأموال بمزيدها، وللفقراء التجرد فى الدارين عن طريقها وتليدها. قوله جل ذكره: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ فرح الأغنياء بزكاء أموالهم، وفرح الفقراء بصفاء أحوالهم. «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» قليل بالإضافة إلى ما وعدهم الله فأموال الأغنياء- وإن كثرت- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من وجود أفضاله، وأحوال الفقراء- وإن صفت- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من شهود جماله وجلاله. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 27] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» : وهم الذين لم يشهدوا ما أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الشواهد والبرهان حتى ( ... ) «1» الزيادة. «وَيَهْدِي من يشاء» : وهم الذين أبصروا بعيون أسرارهم ما خصّ به من الأنوار فسكنوا بنور استبصارهم. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 28] الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) قوم اطمأنت قلوبهم بذكرهم الله، وفى الذكر وجدوا سلوتهم، وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم. وقوم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فذكرهم الله- سبحانه- بلطفه، وأثبت الطمأنينة فى قلوبهم على وجه التخصيص لهم.   (1) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 ويقال إذا ذكروا أنّ الله ذكرهم استروحت قلوبهم، واستبشرت أرواحهم، واستأنست أسرارهم، قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» لما نالت بذكره من الحياة، وإذا كان العبد لا يطمئن قلبه بذكر الله، فذلك لخلل فى قلبه، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 29] الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) طابت أوقاتهم وطابت نفوسهم. ويقال طوبى لمن قال له الحقّ: طوبى. طوبى لهم فى الحال، وحسن المآب فى المآل. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 30] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) لئن أرسلناك بالنبوة إليهم فلقد أرسلنا قبلك كثيرا من الرسل، ولئن أصابك منهم بلاء فلقد أصاب من قبلك كثير من البلاء، فاصبر كما صبروا تؤجر كما أجروا. قوله جل ذكره: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ لئن كفروا بنا فآمن أنت، وإذا آمنت فلا تبال بمن جحد، فإنّك أنت المقصود من البريّة، والمخصوص بالرسالة والمحبة. لو كان يجوز فى وصفنا أن يكون لنا غرض فى أفعالنا. ولو كان الغرض فى الخلقة فأنت سيد البشر، وأنت المخصوص من بين البشرية بحسن الإقبال «1» ، فهذا مخلوق يقول فى مخلوق:   (1) هذه أقصى درجة فى التصور لشخصية الرسول صلوات الله عليه- في نظر هذا الصوفي.. قارن ذلك بأقوال باحت آخر كابن عربى أو الجبلي عن «الإنسان الكامل» ، لتلحظ الفرق الهائل بين الاتجاهين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وكنت أخّرت أو طارى لوقت ... فكان الوقت وقتك والسلام وكنت أطالب الدنيا بحبّ ... فكنت الحبّ.. وانقطع الكلام قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 31] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) لو كان شىء من المخلوقات يظهر بغيرنا فى الإيجاد لكان يحصل بهذا القرآن، ولكن المنشئ الله، والخير والشر جملة من الله، والأمر كله لله. فإذا لم يكن شىء من الحدثان بالقرآن- والقرآن كلام الله العزيز- فلا تكون ذرة من النفي والإثبات لمخلوق.. فإن ذلك محال. قوله جل ذكره: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً معناه أفلم يعلم الذين آمنوا، ويقال أفلم ييأسوا من إيمانهم وقد علموا أنه من يهديه الحق فهو المهتدى؟ قوله جل ذكره: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ يعنى شؤم كفرهم لا يزال واصلا إليهم، ومقتص «1» فعلهم لاحق بهم أبدا. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 32] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)   (1) من (اقتص) والقصاص أن يوقع على الجاني مثل ماجنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 أنزل هذه الآية على جهة التسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم- عما كان يلاقيه منهم. وكما أن هؤلاء فى التكذيب جروا على نهجهم فنحن أدمنا سنّتنا فى التعذيب معهم. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 33] أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) الجواب فيه مضمر أي أفمن هو مجرى ومنشئ الخلق والمطّلع عليهم، لا يخفى عليه منهم شىء كمن ليس كذلك؟ لا يستويان غدا أبدا. قوله جل ذكره: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ قل لهم أرونى أي تأثير منهم، وأي نفع لكم فيهم، وأي ضرر لكم منهم؟ أتقولون ما يعلم الله بخلافه؟ وهذا معنى قوله: «بِما لا يَعْلَمُ» . قوله جل ذكره: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. أي قد تبين لكم أن ذلك من كيد الشيطان، وزين للذين كفروا مكرهم، وصاروا مصدودين عن الحق، مسدودة عليهم الطّرق، فإنّ من أضلّه حكمه- سبحانه- لا يهديه أحد قطعا. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 35] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) المثل أي الصفة، فصفة الجنة التي وعد المتقون هى أنها جنة تجرى من تحتها الأنهار، وأكلها دائم وظلها دائم، أي أن اللذات فيها متصلة. وإنما لهم جنات معجلة ومؤجلة، فالمؤجّلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 ما ذكره الله- سبحانه- فى نص القرآن، والمعجلة جنة الوقت «1» .. والدرجات- من حيث البسط- فيها متصلة، ونفحات الأنس لأربابها لا مقطوعة ولا ممنوعة. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 36] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) يريد بهم مؤمنى أهل الكتاب الذين كانوا يفرحون بما ينزل من القرآن لصدق يقينهم. وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي الأحزاب الذين قالوا كان محمد يدعو إلى إله واحد، فالآن هو ذا يدعو إلى إلهين لمّا نزل: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» «2» . قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ. قل يا محمد: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ» . والعبودية المبادرة إلى ما أمرت به، والمحاذرة «3» مما زجرت عنه، ثم التبرّى عن الحول والمنّة، والاعتراف بالطول والمنّة. وأصل العبودية القيام بالوظائف، ثم الاستقامة عند روح اللطائف. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 37] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) أي حكما ببيان العرب لأنّ الله تعالى أرسل الرسل فى كلّ وقت كلا بلسان قومه ليهتدوا إليه. ويقال من صفات العرب الشجاعة والسخاء ومراعاة الذّمام وهذه الأشياء مندوب إليها فى الشريعة.   (1) أي جنة أرباب الأحوال ... هنا فى هذه الدنيا (2) آية 110 سورة الإسراء ومنهم كعب بن الأشرف والسيد والعاقب وأشياعهم. (3) وردت (المحاضرة) بالضاد وهى خطا فى النسخ كما هو واضح من السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» : أي ولئن وافقتهم، ولم تعتصم بالله، ووقعت على قلبك حشمة من غير الله- فمالك من واق من الله. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 38] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) أي أرسلنا رسلا من قبلك إلى قومهم، فلم يكونوا إلا من جنسك، وكما لكم أزواج وذرية كانت لهم أزواج وذرية، ولم يكن ذلك قادحا فى صحة رسالتهم، ولا تلك العلاقات كانت شاغلة لهم. ويقال إن من اشتغل بالله فكثرة العيال وتراكم الأشغال لا تؤثر فى حاله ولا يضره ذلك. قوله جل ذكره: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. أي لكل شىء أجل مثبت فى كتاب الله وهو المحفوظ، وله وقت قسم له، وأنه لا اطلاع لأحد على علمه، ولا اعتراض لأحد على حكمه. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 39] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) المشيئة لا تتعلق بالحدوث، والمحو والإثبات متصلان بالحدوث. فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، وقوله وحكمه لا تدخل تحت المحو والإثبات، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله المحو يرجع إلى العدم، والإثبات إلى الإحداث، فهو يمحو من قلوب الزّهاد حب الدنيا ويثبت بدله الزهد فيها، كما فى خبر حارثة: «عزفت نفسى عن الدنيا فاستوى عندى حجرها وذهبها» «1» .   (1) سأل النبي (ص) حارثة. لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسى عن الدنيا ...... ، خرجنا هذا الحديث فى هامش سابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 ويمحو عن قلوب العارفين الحظوظ، ويثبت بدلها حقوقه تعالى، ويمحو عن قلوب الموحّدين شهود غير الحق ويثبت بدله شهود الحق، ويمحو آثار البشرية ويثبت أنوار شهود الأحدية. ويقال يمحو العارفين عن شواهدهم، ويثبتهم بشاهد الحق. ويقال يمحو العبد عن أوصافه ويثبته بالحقّ فيكون محوا عن الخلق مثبتا بالحق للحق. ويقال يمحو العبد فلا يجرى عليه حكم التدبير، ويكون محوا بحسب جريان أحكام التقدير، ويثبت سلطان التصديق والتقليب بإدخال ما لا يكون فيه اختيار عليه على ما يشاء. ويقال يمحو عن قلوب الأجانب ذكر الحق، ويثبت بدله غلبات الغفلة وهواجم النسيان. ويقال يمحو عن قلوب أهل الفترة ما كان يلوح فيها من لوامع الإرادة، ويثبت بدلها الرجوع إلى ما خرجوا عنه من أحكام العادة. ويقال يمحو أو ضار الزّلّة عن نفوس العاصين، وآثار العصيان عن ديوان المذنبين (ويثبت) «1» يدل ذلك لوعة النّدم، وانكسار الحسرة، والخمود عن متابعة الشهوة. ويقال يمحو عن ذنوبهم السيئة، ويثبت بدلها الحسنة، قال تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» . ويقال يمحو الله نضارة الشباب ويثبت ضعف المشيب. ويقال يمحو عن قلوب الراغبين فى مودة أهل الدنيا ما كان يحملهم على إيثار صحبتهم، ويثبت بدلا منه الزهد فى صحبتهم والاشتتغال بعشرتهم. ويقال يمحو الله ما يشاء من أيام صفت من الغيب «2» ، وليال كانت مضاءة بالزلفة والقربة ويثبت بدلا من ذلك أياما هى أشدّ ظلاما من الليالى الحنادس «3» ، وزمانا يجعل سعة الدنيا عليهم محابس.   (1) سقطت هذه اللفظة من الناسخ. (2) من (الغيب) يكون المعنى أن الأيام التي كانت تمنح لهم من الغيب صافية، ولكننا لا نستبعد أنها قد تكون (الغيم) على معنى خلو تلك الأيام من كل كدورة بدليل المقابلة التي وردت فيما بعد. (3) جمع حندس أي شديد السواد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ويقال يمحو العارفين بكشف جلاله، ويثبتهم فى وقت آخر بلطف جماله. ويقال يمحوهم إذا تجلّى لهم، ويثبتهم إذا تعزّز عليهم. ويقال يمحوهم إذا ردّهم إلى أسباب التفرقة لأنهم يبصرون بنعت الافتقار والانكسار، ويثبتهم إذا تجلّى لقلوبهم فيبصرون بنعت الاستبشار، ويشهدون بحكم الافتخار. قوله جل ذكره: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قيل اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما سبق به علمه وحكمه مما لا تبديل ولا تغيير فيه. ويقال إنه إشارة إلى علمه الشامل لكل معلوم. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 40] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) نفى عنه الاستعجال أمرا، و ( .... ) «1» فى قلوبهم أنه يوشك أن يجعل الموعود جهرا. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 41] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) فى التفاسير: بموت العلماء، وفى كلام أهل المعرفة بموت الأولياء، الذين إذا أصاب الناس بلاء ومحنة فزعوا إليهم فيدعون الله ليكشف البلاء عنهم. ويقال هو ذهاب أهل المعرفة حتى إذا جاء مسترشد فى طريق الله لم يجد من يهديه إلى الله. ويقال: فى كل زمان لسان ينطق عن الحقّ سبحانه «2» ، فإذا وقعت فترة سكن ذلك اللسان- وهذا هو النقصان فى الأطراف الذي تشير إليه الآية، وأنشد بعضهم: طوى العصران ما نشراه منى ... وأبلى جدتى نشر وطيّ   (1) مشتبهة. (2) يتصل ذلك بفكرة القطب والأوتاد والأبدال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 أرانى كلّ يوم فى انتقاص ... ولا يبقى مع النقصان شىّ ويقال ينقصها من أطرافها أي بفتح المدائن وأطراف ديار الكفار، وانتشار الإسلام، قال تعالى: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «1» . ويقال ينقصها من أطرافها بخراب البلدان، قال تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» «2» وقال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» «3» فموعود الحقّ خراب العالم وفناء أهله، ووعده حقّ لأن كلامه صدقّ، والله يحكم لا معقّب لحكمه، ولا ناقض لما أبرمه، ولا مبرم لما نقضه، ولا قابل لمن ردّه، ولا رادّ لمن قبله، ولا معزّ لمن أهانه، ولا مذلّ لمن أعزّه. «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» : لأن ما هو آت فقريب. ويقال «سَرِيعُ الْحِسابِ» فى الدنيا لأنّ الأولياء إذا ألموا بشىء، أو همّوا لمزجور عوتبوا فى الوقت، وطولبوا بحسن الرّجعى. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 42] وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) مكرهم إظهار الموافقة مع إسرارهم الكفر، ومكر الله بهم توّهمهم أنهم محسنون فى أعمالهم، وحسبانهم «4» أنهم سنأ من أحوالهم، وظنّهم أنه لا يحيق بهم مكرهم، وتخليته إياهم- مع مكرهم- من أعظم مكره بهم. قوله جل ذكره: [سورة الرعد (13) : آية 43] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)   (1) آية 28 سورة الفتح. [ ..... ] (2) آية 88 سورة القصص. (3) آية 26 سورة الرحمن. (4) وردت (وحسناتهم) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وبال تكذيبهم عائد إليهم، فإنّ الله شهيد لك بصدقك. «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» هو الله سبحانه وتعالى عنده علم جميع المؤمنين. فالمعنى كفى بالله شهيدا فعنده علم الكتاب وكفى بالمؤمنين شهيدا إذ المؤمنون يعلمون ذلك. السورة التي يذكر فيها إبراهيم عليه السلام قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله معناه بالله فقلوب العارفين بالله إشراقها، وقلوب الوالهين بالله احتراقها، لهؤلاء فا ( ... ) «1» محبته، ولهؤلاء شوقا إلى عزيز رؤيته. وأصحاب الوصول قالوا: بالله.. فوصل من الطالبين من وصل قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) أقسم بهذه الحروف: إنّه لكتاب أنزل إليك لتخرج الناس به من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشّكّ إلى نور اليقين، ومن ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير، ومن ظلمات الابتداع «2» إلى نور الاتباع، ومن ظلمات دعاوى النّفس إلى نور معارف القلب، ومن ظلمات التفرقة إلى نور الجمع- بإذن ربهم، وبإرادته ومشيئته، وسابق حكمه وقضائه إلى صراط رحمته، وهو نهج التوحيد وشواهد التفريد. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 2] اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) عرّف الخلق أنّ الله هو الذي له ما فى السماوات وما فى الأرض.   (1) مشتبهة. (2) وردت (الابتداء) بالهمزة وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 فمن عرف فله المآب الحميد، ومن جحد فله العذاب الشديد وذلك العذاب هو جهله بأنه- سبحانه- من هو. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 3] الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) ثم ذكر ذميم أخلاقهم، فقال: هم الذين يؤثرون اليسير من حطام الدنيا على الخطير من نعم الآخرة، وذلك من شدة جحدهم، ويبغون للدّين عوجا بكثرة جمعهم، أولئك لهم فى الدنيا الفراق وهو أشد عقوبة، وفى الآخرة الاحتراق وهو أجلّ محنة ومصيبة. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 4] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) إنما كان كذلك ليكون آكد فى إلزام الحجة، وأنّى ينفع ذلك إذا لم يوفّقوا لسلوك المحجّة؟ فأهل الهداية فازوا بالعناية السابقة، وأصحاب الغواية وقعوا فى ذلّ العداوة، فلا اعتراض عليه فيما يصنع، ولا يسأل عما يفعل أو لم يفعل. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 5] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) أخرج قومك بدعوتك من ظلمات شكهم إلى نور اليقين، ومن إشكال الجهل إلى روح العلم. وذكّرهم بأيام الله ما سلف لهم من وقت الميثاق، وما رفع عنهم من البلاء فى سابق أحوالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ويقال ذكّرهم بأيام الله وهى ما سبق لأهواحهم من الصفوة وتعريف التوحيد قبل حلولها فى الأشباح: سقيا لها ولطيبها ولحسنها وبهائها أيام لم ( ...... ) «1» ويقال ذكّرهم بأيام الله وهى التي كان العبد فيها فى كتم العدم، والحق يتولّى عباده قبل أن يكون للعباد فعل فلا جهد للسابقين، ولا عناء ولا ترك للمقتصدين، ولا وقع من الظالم لنفسه ظلم «2» . إذ كان متعلق العلم متناول القدرة، والحكم على الإرادة.. ولم يكن للعبد اختيار فى تلك الأيام. قوله: « ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . «صَبَّارٍ» : راض بحكمه واقف عند كون لذيذ العيش يسرّه. «شَكُورٍ» : محجوب «3» بشهود النّعم عن استغراقه فى ظهور حقه.. هذا واقف مع صبره وهذا واقف مع شكره، وكلّ ملزم بحدّه وقدره ... والله غالب على أمره، مقدّس فى نفسه متعزّز بجلال قدسه. قوله جل ذكره [سورة إبراهيم (14) : آية 6] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)   (1) بقية الكلام غامضة فى الكتابة والمعنى، وتعجز المطبعة أن تنقل حروفها. (2) يشير القشيري بذلك إلى الآية 33 من سورة فاطر: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» . (3) فلا يزول الحجاب إلا إذا تجرد العبد عن شهود النعمة، وشاهد المنعم، ومن شاهد المنعم استقبل السراء والضراء بلا تمييز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 تذكّر ما سلف من النّعم يوجب تجديد ما سبق من المحبة، وفى الخبر: «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» فالحقّ أمر موسى عليه السلام. بتذكير قومه ما سبق إليهم من فنون إنعامه، ولطائف إكرامه.. وفى بعض الكتب المنزلة على الأنبياء- عليهم السلام: «عبدى، أنا لك محبّ فبحقى عليك كن لى محبا» قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 7] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) إن شكرتم لأزيدنكم من إنعامى وإكرامى، وإن كفرتم بإحسانى لأعذبنكم اليوم بامتحانى، وغدا بفراقى وهجرانى. لئن عرفتم وصالى لأزيدنكم من وجود نوالى إلى شهود جمالى وجلالى «1» . ويقال لئن شكرتم وجوه توفيق العبادة لأزيدنكم بتحقيق الإرادة. ويقال لئن شكرتم شهود المكافي لأزيدنكم بشهود أوصافى. ويقال لئن شكرتم صنوف إنعامى لأزيدنكم بشهود إكرامى ثم إلى شهود إقدامى. ويقال لئن شكرتم مختص نعمائى لأزيدنكم منتظر آلائي. ويقال لئن شكرتم مخصوص نعمى لأزيدنكم مأمول كرمى. ويقال لئن شكرتم ما خوّلناكم من عطائى لأزيدنكم ما وعدناكم من لقائى. ويقال لئن شكرتم ما لوّحت فى سرائركم زدناكم ما ألبسنا من العصمة لظواهركم. ويقال لئن كفرتم نعمتى بأن توهمتم استحقاقها «2» لجرّعناكم ما تستمرّون مذاقها. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 8] وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)   (1) أي إن الوجود والشهود- عند هذا الصوفي- يرتبطان بالأوصاف لا بالذات، فقد جلت الصمدية عن أن يستشرف العبد من الذات. (2) أي ينبغى أن تنظروا لأعمالكم بعين الاستصغار وأن ما تنالون من نعمة فضل من الله وليس نظير أعمالكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 إن اجتمعتم أنتم ومن عاضدكم، وكل من غاب عنكم وحضركم، والذين يقتفون أثركم- على أن تكفروا بالله جميعا، وأخذتم كل يوم شركاء قطيعا- ما أوجهتم لعزّنا شينا، كما لو شكرتم ما جعلتم بملكنا زينا. والحقّ بنعوته ووصف جبروته علىّ، وعن العالم بأسره غنىّ. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 9] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) استفهام فى معنى التقرير. أخبره أنه لما جاءتهم الرسل قابلوهم بالكنود، وعاملوهم بالجحود وردوا أيديهم فى أفواههم، وحذوا سبيل أمثالهم فى الكفر، وبنوا على الشك والريبة قواعدهم، وأسسوا على الشّرك والغىّ مذاهبهم. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 10] قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) استفهام والمراد منه توبيخ ونفى. سبحانه لا يتحرك نفس إلا بتصريفه. وكيف يبصر جلال قدره إلا من كحلّه بنور برّه؟ ثم قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» : ليس العجب ممن تكلف لسيده المشاق وتحمل ما لا يطاق، وألّا يهرب من خدمة أو يجنح إلى راحة.. إنما العجب من سيد عزيز كريم يدعو عبده ليغفر له وقد أخطأ، ويعامله بالإحسان وقد جفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 والذي لا يكفّ عن العناد، ولا يؤثر رضاء سيده على راحة نفسه فلا يحمل هذا إلا على قسمة بالشقاء سابقة.. وإن أحكام الله بردّه صادقة. ثم أخبر أنهم قالوا لرسلهم: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ نظروا إلى الرسل من ظواهرهم ولم يعرفوا سرائرهم، ومالوا إلى تقليد أسلافهم، وأصروا على ما اعتادوه من شقاقهم وخلافهم. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 11] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) قالت لهم الرسل ما نحن إلا أمثالكم، والفرق بيننا أنه- سبحانه- منّ علينا بتعريفه، واستخلصنا بما أفردنا به من تشريفه. والذي اقترحتم علينا من ظهور الآيات فليس لنا إلى الإتيان به سبيل إلّا أن يظهره الله علينا إذا شاء بما شاء- وهو عليه قدير. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 12] وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) «ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» : وقد رقّانا من حدّ التكليف بالبرهان إلى وجود روح البيان بكثرة ما أفاض علينا من جميل الإحسان، فكفانا من مهان الشان. «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» : وقد حقّق لنا ما سبق به الضمان من وجود الإحسان، وكفاية ما أظلّنا من الامتنان. «ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» ولم نخرج إلى التقاضي على الله فيما وعدنا الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 قوله: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» : والصبر على البلاء يهون إذا كان على رؤية المبلى، وفى معناه أنشدوا: يستقدمون بلاياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قبلوا قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 13] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) لما عجز الأعداء عن معارضة الأنبياء عليهم السلام فى الإتيان بمثل آياتهم أخذوا فى الجفاء معهم بأنواع الإنذار، والتهديد بفنون البلاء من الإخراج عن الأوطان، والتشريد فى البلدان. وبسط الله على قلوبهم بوعد نصره ولقائه ما أظلّهم من الأمر، ومكّن لهم من مساكن أعدائهم بما قوّى قلوبهم على الصبر على مقاساة بلائهم فقال: «لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» ، وقال: [سورة إبراهيم (14) : آية 14] وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) «وَخافَ وَعِيدِ» : أي خاف مقامه فى محل الحساب غدا فأناب إلى نفسه على وجه التخصيص. ويقال خاف مقامى أي هاب اطلاعى عليه، فالأول تذكير المحاسبة فى الآجل، والثاني تحقيق المراقبة فى العاجل. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 15] وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) الاستفتاح طلب الفتح، والفتح القضاء، واستعجلوا حلول القضاء مثل قولهم: «إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» «1» وغيره فلما نزل بهم البلاء، وتحقق لهم   (1) آية 32 سورة الأنفال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 الأمر لم ينفعهم تضرعهم وبكاؤهم، ولم تقبل منهم صدقتهم وفداؤهم، وندموا حين لا ندامة، وجزعوا بعد ما عدموا السلامة. ويقال: «وَاسْتَفْتَحُوا» : بغير الرسل، ولما وجد الرسل إصرار قومهم سألوا النصرة عليهم من الله كقول نوح- عليه السلام: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ، وقول موسى عليه السلام: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» «1» فأجابهم الله بإهلاكهم. ويقال إذا اشتد البلاء وصدق الدعاء قرب النّجاء. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 16 الى 17] مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) لفظ «وراء» يقع على ما بين يديه وعلى ما خلف، والوراء ما توارى عليك أي استتر يريد هذا الكافر يأتيه العذاب فيما بين يديه من الزمان، وعلى ما خلفه أي لأجل ما سلف من الماضي من قبيح أفعاله، ويسقى من النار ما يشربه جرعة بعد جرعة، فلصعوبته ومرارته لا يشربه مرة واحدة. قوله جل ذكره: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ يرى العذاب- من شدته- فى كل عضو، وفى كل وقت، وفى كل مكان. وليس ذلك الموت لأنّ أهل النار لا يموتون، ولكنه فى الشدة كالموت. ثم «مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» : وهو الخلود فى النار، وهذا جزاء من اغترّ بأيام قلائل ساعدته المشيئة فيها، وانخدع فلم يشعر بما يليها.   (1) الآية 88 سورة يونس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 18] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أي وفيما يتلى عليك- يا محمد- مثل لأعمال الكفار فى تلاشيها، وكيف أنه لا يقبل شىء منها كرماد فى يوم عاصف، فإنه لا يبقى منه شىء- كذلك أعمالهم. ومن كان كذلك فقد خاب فى الدارين، وحلّ عليه الويل. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) خلق السماوات والأرض بالحكم الحق، أي له ذلك بحقّ ملكه، وخلقهما بقوله الحق فجعل كلّ جزء منهما على وحدانيته دليلا، ولمن أراد الوصول إلى ربّه سبيلا. ثم قال: إن يشأ يذهبكم بالإفناء، ويأت بخلق جديد فى الإنشاء، وليس ذلك عليه بعزيز ... وأنّى ذلك وهو على كل شىء قدير؟! قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 22] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) لم يكونوا عن الحقّ- سبحانه- مستترين حتى يظهروا له، ولكن معناه صارت معارفهم ضرورية فحصلوا فى مواطن لم يكن لغير الله فيها حكم، فصاروا كأنهم ظهروا لله. فقال الضعفاء للذين استكبروا: «إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» توهما أن يرفعوا عنهم شيئا من العناء، فأجابهم المتكبرون: إنّا جميعا فى العذاب مشتركون، ولو أمكننا أن نرفع عنكم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 العذاب، وقدرنا على أن نهديكم إلى طريق النجاة لنجيناكم مما شكوتم، وأجبناكم إلى ما سألتم، ولكنكم لستم اليوم لنا بمصرخين، ولا نحن لكم بمغيثين، ولا لما تدعونا إليه بمستجيبين ... فلا تلومونا ولوموا أنفسكم، ولات حين ملام! إنما ينفع لوم النّفس فيما تتعاطاه من الإساءة فى زمان المهلة وأوقات التكليف فإنّ أبواب التوبة مفتوحة، ولكن لمن لم ينزع روحه. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 23] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) ذلك الذي مضى ذكره صفة الكفار والأعداء. وأمّا المؤمنون والأولياء، فقال: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ... » والإيمان هو التصديق، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تحقيق التصديق. ويدخل فى جملة الأعمال الصالحة ما قلّ أو كثر من وجوه الخيرات حتى القذر تميطه «1» عن الطريق. و «تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» - وكذلك قال تعالى: «لَهُمْ دارُ السَّلامِ» ، فالوصف العام والتحية لهم من الله السلام. ويقال إن أحوالهم متفاوتة فى الرتبة فقوم سلموا من الاحتراق ثم من الفراق ثم من العذاب ثم من الحجاب. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 26] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)   (1) أماط الأذى أي نحاه وأبعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 هذا مثل ضربه الله للإيمان والمعرفة به سبحانه، فشبهه بشجرة طيبة، وأصل تلك الشجرة ثابت فى الأرض وفروعها باسقة وثمراتها وافية. تؤتى أكلها كل وقت، وينتفع بها أهلها كل حين. وأصل تلك الشجرة المعرفة، والإيمان مصحّحا بالأدلة والبراهين، وفروعها الأعمال الصالحة التي هى الفرائض ومجانبة المعاصي. والواجب صيانة الشجرة مما يضرّ بها مثل كشف القشر وقطع العرق وإملاق الغصن «1» وما جرى مجراه. وأوراق تلك الشجرة القيام بآداب العبودية، وأزهارها الأخلاق الجميلة، وثمارها حلاوة الطاعة ولذة الخدمة. وكما أن الثمار تختلف فى الطّعم والطبع والرائحة والصورة.. كذلك ثمرات الطاعات، ومعانى الأشياء التي يجدها العبد فى قلبه تختلف من حلاوة الطاعة وهى صفة العابدين، والبسط الذي يجده العبد فى وقته وهو صفة العارفين، وراحة فى الضمير وهو صفة المريدين، وأنس يناله فى سرّه وهو صفة المحبين. وقلق واهتياج يجدهما ولا يعرف سببهما، ولا يجد سبيلا إلى سكونه وهو صفة المشتاقين. إلى ما لا يفى بشرحه نطق، ولا يستوفيه تكلّف قول. وذكر من لوائح ولوامع، وطوارق وشوارق، كما قيل. طوارق أنوار تلوح إذا بدت ... فتظهر كتمانا وتخبر عن جمع ثم إن ثمرات الأشجار فى السنة مرة، وثمرات هذه الشجرة فى كل لحظة كذا كذا مرة. وكما قال الله تعالى فى ثواب الجنة: «لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» كذا لطائف هذه الشجرة   (1) أي إذهاب الفاسد منه. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 لا مقطوعة ولا ممنوعة، وقلوب أهل الحقائق عنها لا مصروفة ولا محجوبة، وهى فى كل وقت ونفس تبدو لهم غير محجوبة. وثمرات الشجرة أشرف الثمار، وأنوارها ألطف وأظرف الأنوار، وإشارات أهل هذه القصة وألفاظهم فى مراتبهم ومعانيهم كالرياحين والنّور. ويقال الكلمة الطيبة هى الشهادة بالإلهية، وللرسول- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة. وإنما تكون طيبة إذا صدرت عن سرّ مخلص. والشجرة الطيبة المعرفة، وأصلها ثابت فى أرض غير سبخة، والأرض السبخة قلب الكافر والمنافق، فالإيمان لا ينبت فى قلبيهما كما أن الشجرة فى الأرض السبخة لا تنبت. ثم لا بدّ للشجرة من الماء، وماء هذه الشجرة دوام العناية، وإنما تورق بالكفاية، وتتورّد بالهداية. ويقال ماء هذه الشجرة ماء الندم والحياء والتلهف والحسرة والأمانة والخشوع وإسبال «1» الدموع. ويقال ثمرات هذه الشجرة مختلفة بحسب اختلاف أحوالهم فمنها التوكل والتفويض والتسليم، والمحبة والشوق، والرضا، والأحوال الصافية الوافية، والأخلاق العالية الزكية. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هى كلمة الكفر، وخبثها ما صحبها من نجاسة الشّرك، فخبث الكلمة لصدورها عن قلب هو مستقرّ الشّرك ومنبعه. والشجرة الخبيثة هى الشّرك اجتثّ من فوق الأرض لأن الكفر متناقض متضاد، ليس له أصل صحيح، ولا برهان موجب، ولا دليل كاشف، ولا علة مقتضية، إنما هو شبه وأباطيل وضلال، تقتضى وساوس وتسويلات ما لها من قرار، لأنها حاصلة من شبه واهية وأصول فاسدة. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 27] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)   (1) أسبلت العين- سال دمها (الوسيط ج 1 ص 417) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 بالقول الثابت وهو البقاء على الاستقامة، وترك العوج. ويقال القول الثابت هو الشهادة الضرورية عن صفاء العقيدة وخلوص السريرة. ويقال القول الثابت هو بنطق القلوب لا بذكر اللسان. ويقال القول الثابت هو قول الله العزيز القديم الذي لا يجوز عليه الفناء والبطول «1» فهو بالثبوت أولى من قول العبد لأن قول العبد أثر، والآثار لا يجوز عليها الثبوت والبقاء وإنما يكون باقيا حكما ثبات العبد لقول الله وهو حكمه بالإيمان وإخباره أنه مؤمن وتسميته بالإيمان. وقول الله لا يزول ففى الدنيا يثبته حتى لا بدعة تعتريه، وفى الآخرة يثبته برسله من الملائكة، وفى القيامة يثبته عند السؤال والمحاسبة وفى الجنة يثبته لأنه لا يزول حمد العبد لله، ومعرفته به. وإذا تنوعت عليه الخواطر ورفع إليه- سبحانه- دعاءه ثبّته حتى لا يحيد عن النهج المستقيم والدين القويم. ويقال إذا دعته الوساوس إلى متابعة الشيطان، وصيّرته الهواجس إلى موافقة النّفس فالحق يثبته على موافقة رضاه. ويقال إذا دعته دواعى المحبة من كل جنس كمحبة الدنيا، أو محبة الأولاد والأقارب والأموال والأحباب أعانه الحقّ على اختيار النجاة منها، فيترك الجميع، ولا يتحسّس إلا دواعى الحقّ- سبحانه كما قيل: إذا ما دعتنا حاجة كى تردّنا ... أبينا وقلنا: مطلب الحقّ أوّلا قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 28] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28)   (1) بطل الشيء بطولا وبطلانا- ذهب ضياعا (الوسيط ج 1 ص 61) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وضعوا الكفران محل الشكر، فاستعملوا النعمة للكفر، بدلا من استعمالها فيما كان ينبغى لها من الشكر. واستعمال النعمة فى المعصية من هذه الجملة، فأعضاء العبد كلها نعم من الله على العبد، فإذا استعمل العاصي بدنه فى الزّلة بدلا من أن يستعملها فى الطاعة فقد بدّل النعمة كفرا، وكذلك إذا أودع الغفلة قلبه مكان المعرفة، والعلاقة فيه مكان الانقطاع إليه، وعلّق قلبه بالأغيار بدل الثقة به، ولطّخ لسانه بذكر المخلوقين ومدحهم بدل ذكر الله واشتغل بغير الله دون العناء فى ذكره ... كلّ هذا تبديل نعم الله كفرا. وإذا كان العبد منقطعا إلى الله، مكفيا من قبل الله.. وجد فى فراغه مع الله راحة عن الخلق، ومن إقباله عليه- سبحانه- كفاية، فإذا رجع إلى أسباب التفرقة، ووقع فى بحار الاشتغال ومعاملة الخلق ومدحهم وذمهم فقد أحلّ قومه دار البوار على معنى إيقاعه قلبه ونفسه وجوارحه فى المذلة من الخلق، والمضرة فى الحال، وشأنه كما قيل: ولم أر قبلى من يفارق جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنم قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 29] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وهى الجحيم المعجّل.. وعذابها الفرقة لا الحرقة. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 30] وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) رضوا بأن يكون معمولهم معبودهم، ومنحوتهم مقصودهم، فضلّوا عن نهج الاستقامة، ونأوا عن مقر الكرامة، وسيلقون غبّ «1» ما صنعوا يوم القيامة كما قيل: قد تركناك والذي تريد ... فعسى أن تملّهم فتعودا قل تمتعوا أياما قليلة فأيام السرور قصار، ومتع الغفلة سريعة الانقضاء. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 31] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)   (1) وردت (غير) وقد آثرنا أن تكون (غب) ليقوى المعنى أي عاقبة ما صنعوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 جعل الله راحة العبد- اليوم- بكمالها فى الصلاة فإنّها محلّ المناجاة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحنا يا بلال بالصلاة» «1» والصلاة استفتاح باب الرزق، قال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «2» وفى الصلاة يبث «3» العبد أسراره مع الحق فإذا كان لقاء الإخوان- كما قالوا- مسلاة لهم فكيف بمناجاتك مع الله، ونشر قصتك بين يديه؟ كما قيل: قل لى بألسنة التنفّس ... كيف أنت وكيف حالك؟ «وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ» : أمرهم بإنفاق اللسان على ذكره، وإنفاق البدن على طاعته، والوقت «4» على شكره، والقلب على عرفانه، والروح على حبه، والسّرّ على مشاهدته.. ولا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها، وإنما يطالب بأن تحضر إلى الباب، وتقف على البساط بالشاهد الذي آتاك ... يقول العبد المسكين: لو كان لى نفس أطوع من هذه لأتيت بها، ولو كان لى قلب أشدّ وفاء من هذا لجدت به، وكذلك بروحى وسرّى، وقيل: يفديك بالروح صبّ لو انّ له ... أعز من روحه شيئا فداك به «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» : وفى هذا المعنى أنشدوا: قلت للنّفس إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 33] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33)   (1) سبق تخريج هذا الحديث الشريف. (2) آية 132 سورة طه. (3) وردت (يثبت) والمعنى يقتضى (يبث) . (4) وردت (الوقف) وهى- كما هو واضح- خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 فى الظاهر رفع السماء فأعلاها، والأرض من تحتها دحاها، وخلق فيها بحارا، وأجرى أنهارا، وأنبت أشجارا، وأثبت لها أنوارا وأزهارا، وأمطر من السماء ماء مدرارا. وأخرج من الثمرات أصنافا، ونوّع لها أوصافا، وأفرد لكلّ منها طعما مخصوصا، ولإدراكه وقتا معلوما. وأمّا فى الباطن فسماء القلوب زيّنها بمصابيح العقول، وأطلع فيها شمس التوحيد، وقمر العرفان. ومرج فى القلوب بحرى الخوف والرجاء، وجعل بينهما برزخا لا يبغيان فلا الخوف يقلب الرجاء ولا الرجاء يقلب الخوف، كما جاء فى الخبر: «لو وزنا لاعتدلا» «1» - هذا لعوام المؤمنين، فأمّا الخواص فالقبض والبسط، ولخاص الخاص فالهيبة والأنس والبقاء والفناء. وسخّر لهم الفلك فى هذه البحار ليعبروها بالسلامة، وهى فلك التوفيق والعصمة، وسفينة الأنوار والحفظ. وكذلك ليالى الطلب للمريدين، وليالى الطرب لأهل الأنس من المحبين، وليالى الحرب «2» للتائبين، وكذلك نهار العارفين باستغنائهم عن سراج العلم عند متوع نهار اليقين. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 34] وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) ما سمت إليه هممكم، وتعلّق به سؤالكم، وخطر تحقيق ذلك ببالكم، أنلناكم   (1) أورده السراج فى لمعه ص 91 (قال صلى الله عليه وسلم: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا) (2) ربما يقصد القشيري بالحرب هنا جهاد التائب مع نفسه، وإظهار الحزن والتأسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 فوق ما تؤمّلون «1» ، وأعطيناكم أكثر مما ترجون «2» ، قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» . وقرأ بعض القراء «3» : «مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» فينوّن قوله: كل، ويجعل ما سألتموه (ما) للنفى أي كل شىء مما لم تسألوه. كذلك جاز أن يكون المعنى، قل يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألونى- وهذا لأرباب الطاعات، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى- وهذا لأصحاب الزلات. علم قصور لسان العاصي وما يمنعه من الخجل وما يقبض على لسانه إذا تذكّر ما عمله من الزلّات، فأعطاه غفرانه، وكفاه حشمة السؤال، والتفضل فقال: غفرت لكم قبل أن تستغفرونى. ولكن متى يخطر على قلب العبد ما أهّله الحق- سبحانه- من العرفان؟ وكيف يكون ذلك الحديث؟ .. قبل أن كان له إمكان، أو معرفة وإحسان، أو طاعة أو عصيان، أو عبادة وعرفان، أو كان له أعضاء وأركان، أو كان العبد شيخا أو عينا أو أثرا.. لا بل: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا قوله جل ذكره: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ كيف يكون شكركم كفاء نعمه..؟ وشكركم نزر يسير، وإنعامه وافر غزير. وكيف تكون قطرة الشكر بجوار بحار الإنعام؟ إنّ نعمه علومكم عن تفصيلها متقاصرة، وفهومكم عن تحصيلها متأخّرة.   (1) وردت (تؤمنون) وهى- كما هو واضح- لا يستقيم بها السياق فآثرنا تؤملون. (2) وردت (ترجعون) وهى- كما هو واضح- لا يستقيم بها السياق فآثرنا ترجون. (3) لا يهتم القشيري بالقراءات إلا نادوا، وحيثما وجد فى ذلك مجالا لإشارة نافعة للصوفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وإذا كان ما يدفع عن العبد من وجوه المحن «1» وفنون البلايا من مقدوراته لا نهاية له. فكيف يأتى الحصر والإحصاء على مالا يتناهى؟ وكما أن النّفع من نعمه فالدفع أيضا من نعمه. ويقال إن التوفيق للشكر من جملة ما ينعم به الحقّ على العبد فإذا أراد أن يشكره لم يمكنه إلا بتوفيق آخر فلا يبقى من النعم إلا ما يشكر عليه. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 36] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) «2» كما سأل أن يجعل مكة بلدا آمنا طلب أن يجعل قلبه محلا آمنا أي لا يكون فيه شىء إلا بالله. «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» : والصنم ما يعبد من دونه، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «3» فصنم كلّ أحد ما يشغله عن الله تعالى من مال وولد وجاه وطاعة وعبادة. ويقال إنه لمّا بنى البيت استعان بالله أن يجرّده من ملاحظة نفسه وفعله. ويقال إنه- صلى الله عليه وسلم- كان مترددا بين شهود فضل الله وشهود رفق نفسه، فلما لقى من فضله وجوده قال من كمال بسطه: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» . ولما نظر من حيث فقر نفسه قال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» . ويقال شاهد غيره فقال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» ، وشاهد فضله ورحمته ولطفه فقال: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .   (1) وردت (المحسن) وهى خطأ فى النسخ. (2) سقطت (وإذ) من الناسخ. [ ..... ] (3) آية 23 سورة الجاثية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 قوله جل ذكره: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «فَإِنَّهُ مِنِّي» : أي موافق لى ومن أهل ملّتى، ومن عصانى خالفنى وعصاك. قوله: «فَإِنَّكَ «1» غَفُورٌ رَحِيمٌ» : طلب للرحمة بالإشارة، أي فارحمهم. وقال: «وَمَنْ عَصانِي» .. ولم يقل: من عصاك، وإن كان من عصاه فقد عصى الله، ولكن اللفظ إنما لطلب الرحمة فيما كان نصيب من ترك حقه، ولم ينتصر لنفسه بل قابلهم بالرحمة. ويقال إن قول نبينا صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب أتمّ فى معنى العفو حيث قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» ، وإبراهيم- عليه السلام- عرّض وقال: «فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . ويقال لم يجزم السؤال لأنه بدعاء الأدب «2» فقال: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 37] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) أخبر عن صدق توكله وصدق تفويضه بقوله: «إِنِّي أَسْكَنْتُ ... » وإنما رأى الرّفق بهم فى الجوار لا فى المبارّ فقال: «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ثم قال: «لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» : أي أسكنتهم لإقامة حقّك لا لطلب حظوظهم. ويقال اكتفى أن يكونوا فى ظلال عنايته عن أن يكونوا فى ظلال نعمته.   (1) أخطأ الناسخ إذ جعلها «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . (2) تفيد هذه الإشارة فى النواحي البلاغية حيث استبدل التعبير بالأسلوب الإنشائى بالأسلوب الخبرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 ثم قال: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» أي ليشتغلوا بعبادتك، وأقم قومى- ما بقوا- بكفايتك، «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» : فإنّ من قام بحقّ الله أقام الله بحقّه قومه، واستجاب الله، دعاءه فيهم، وصارت القلوب من كل بر وبحر كالمجبولة على محبة تلك النسبة، وأولئك المتصلين به، وسكان ذلك البيت. ويقال قوله: «بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» : أي أسكنتهم بهذا الوادي حتى لا تتعلق بالأغيار قلوبهم، ولا تشتغل بشىء أفكارهم وأسرارهم فهم مطروحون ببابك، مصونون بحضرتك، مرتبطون بحكمك إن راعيتهم كفيتهم وكانوا أعزّ خلق الله، وإن أقصيتهم ونفيتهم كانوا أضعف وأذلّ خلق الله. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 38] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) استأثرت بعلم الغيب فلا يعزب عن علمك معلوم، وحالى لا تخفى عليك، فهى كما عرفت، أنت تعلم سرّى وعلني ... ومن عرف هذه الجملة استراح من طوارق الأغيار، واستروح قلبه عن ترجّم الأفكار، والتّقّسم في كون الحوادث من الأغيار. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 39] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) أسعده بمنحه الولد على الكبر، ويلتحق ذلك بوجه من المعجزات فحمد عليه. ولمّا كان هذا القول عقيب سؤاله ما قدّم من ذكر نعمته- سبحانه- عليه، وإكرامه بأنواره، وهذا يكون بمعنى الملق «1» ، ويكون استدعاء نعمة بنعمة، فكأنه قال: كما أكرمتنى بهبة الولد على الكبر فأكرمنى بهذه الأشياء التي سألتها. ويقال الإشارة فى هذا أنه قال: كما مننت علىّ فوهبتنى على الكبر هذه الأولاد   (1) الملق- الدعاء والتضرع (الوسيط) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فأجنبنا أن نعبد الأصنام لتكون النعمة كاملة. وفى قوله: «إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» .. إشارة إلى هذه الجملة. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 الى 41] رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) فى قوله: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ..» إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة، فمعناه اجعل صلاتى، والجعل والخلق بمعنى، فإذا جعله مقيم الصلاة فمعناه أن يجعل له صلاة. وقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» : أي اجعل منهم قوما يصلّون، لأنه أخبره فى موضع آخر بقوله: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1» ثم قال: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ» وهذ قبل أن يعلم أنه لا يؤمن. ويقال إن إجابة الدعاء ابتداء فضل منه. ولا ينبغى للعبد أن يتّكل على دعاء أحد وإن كان علىّ الشأن، بل يجب أنّ يعلق العبد قلبه بالله فلا دعاء أتمّ من دعاء إبراهيم عليه السلام، ولا عناية أتمّ من عنايته بشأن أبيه، ثم لم ينفعه ولا شفع الله له. ويقال لا ينبغى للعبد أن يترك دعاءه أو يقطع رجاءه فى ألا يستجيب الله دعاءه، فإن إبراهيم الخليل عليه السلام دعا لأبويه فلم يستجب له، ثم إنه لم يترك الدعاء، وسأل حينما لم يجب فيه. فلا غضاضة على العبد ولا تناله مذلّة إن لم يجبه مولاه فى شىء فإنّ الدعاء عبادة لا بدّ للعبد من فعلها، والإجابة من الحقّ فضل، وله أن يفعل وله ألا يفعل. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 43] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) هذا وعيد للظالمين وتسلية للمظومين فالمظلوم إذا تحقّق بأنه- سبحانه- عالم بما يلاقيه من البلاء هانت على قلبه مقاساته، وحق عليه تحمله.   (1) آية 124 سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 والظلم على وجوه ظلم على النّفس بوضع الزّلّة مكان الطاعة، وظلم على القلب بتمكين الخواطر الردية منه، وظلم على الروح بجعلها لمحبة المخلوقين. ويقال من جملة الظالمين الشيطان، فالعبد المؤمن مظلوم من جهته، والحقّ- سبحانه- ينتصف له منه غدا، وذلك إن لم يتّبعه اليوم، ودفعه عن نفسه بالمجاهدة وترك وساوسه. قوله جل ذكره: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي ... الآية وهذا للعوام من المؤمنين، علّق قلوبهم بالانتقام منهم فى المستأنف، وأمّا الخواص فإذ علموا أنه- سبحانه- عالم بهم وبحالهم فإنهم يعفون ويكتفون بذلك، وأمّا خواص الخواص فإذ علموا أنهم عبيده فإنهم لا يرضون بالعفو عن ظلمهم حتى يستغفرلهم، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» ، وفى معناه أنشدوا: وما رضوا بالعفو عن ذى زلة ... حتى أنالوا كفّه وازدادوا وأما أصحاب التوحيد فإذ علموا أنه المنشئ، وألا مخترع سواه فليس بينهم وبين أحد محاسبة، ولا مع أحد معاتبة، ولا منه مطالبة، لأنه يعدّون إثبات الغير فى الظن والحسبان شركا. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 44] وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) أفسدوا فى أول أمورهم، وقصّروا فى الواجب عليهم، ولم يكن للخلل فى أحوالهم جبران، ولا لعذرهم قبول لتصحّ الحجة عليهم، فافتضح المجرم منهم، وخاب الكافر، وحقّ الحكم عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 45] وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) أحللنا بهم العقوبة، وأشهدناكم ذلك مما اعتبرتم، وجريتم على منهاجهم، وفعلتم مثل فعلهم، وبإمهالنا لكم اغتررتم.. فانتظروا منّا ما عاملناكم به جزاء لكم على ما أسلفتم. ويقال إن معاشرة أهل الهوى والفسق ومجاورتهم مشاركة لهم فى فعلهم، فيستقبل فاعل ذلك استقبالهم، ومن سلكهم ينخرط فى التردّى نحو وهدة هلاكه مثلهم. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 47] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) أي لا تحسبنّه يخلف رسله وعده لأنه لا يخلف الوعد لصدقه فى قوله، وله أن يعذبهم بما وعدهم لحقّه فى ملكه، وهو «عَزِيزٌ» لا يصل إليه أحد، وإن كان وليا. «ذُو انتِقامٍ» لا يفوته أحد وإن كان ( ...... ) «1» . قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 48] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) لا يختلف عينها وإنما تختلف صورتها، وكذلك إذا انكدرت النجوم، وانشقت السماء يقال ما بدّل عينها وإنما بدّل الأزمان والمكان على الناس باختلاف أحوالهم فى السرور والمحن كمن صار من الرخاء إلى البلاء يقول: تغيّر الزمان والوقت.. وكذلك من صار من البلاء إلى الرخاء. ويقال إن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر قال: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح وفى هذه القصة «2» من كان صاحب بسط فردّ إلى حال القبض، ومن كان صاحب أنس   (1) وردت لفظتان هكذا (سهما قوما) . (2) يشير القشيري إلى (بالقصة) إلى الحياة الصوفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 فصار صاحب حجاب- يصحّ أن يقال بدل له الأرض، قال بعضهم: ما الناس بالناس الذي عهدى بهم ... ولا البلاد بتلك التي كنت أعرفها وكذلك العبد المريد إذا وقعت له وقفة أو فترة كانت الشمس له كاشفة، وكانت الأرض به راجفة، وكان النهار له ليلا، وكان الليل له ويلا، وكما قيل: فما كانت الدنيا بسهل ولا الضحى ... يطلق ولا ماء الحياة ببارد قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 49 الى 51] وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) الأصفاد الأغلال. الأصفاد تجمعهم، والسلاسل تقيدهم، والقطران سرابيلهم، والحميم شربهم، والنار محيطة بهم.. وذلك جزاء من خالف إلهه. قوله جل ذكره: [سورة إبراهيم (14) : آية 52] هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الحجج ظاهرة، والأمارات لائحة، والدواعي واضحة، والمهلة متسعة، والرسول عليه السلام مبلّغ، والتمكين من القيام بحق التكليف مساعد. ولكنّ القسمة سابقة، والتوفيق عن القيام ممنوع، والربّ- سبحانه- فعّال لما بريد، فمن اعتبر نجا، ومن غفل تردّى. ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 السورة التي يذكر فيها الحجر بسم الله الرحمن الرحيم سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أن الإثبات والإسقاط بلا علة فلم يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب علة. فإن قيل العلّة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء من بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة فى زيادة شكل الباء بركة أفضالها باسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال بها موجود، فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة يرفع من يشاء ويمنع من يشاء. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) أسمعهم هذه الحروف مقطّعة على خلاف ما كانوا يسمعون الحروف المنظومة فى الخطاب، فأعرضوا عن كل شىء وسمعوا لها. ونبههم القرآن إلى أن هذه التي يسمعونها آيات الكتاب، فقال لهم لما حضرت ألبابهم، واستعدت لسماع ما يقول آذانهم: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» . ووصف القرآن بأنه مبين لأنه يبين للمؤمنين ما يسكن قلوبهم، وللمريدين ما يقوى رجاءهم، وللمحسنين ما يهيج اشتياقهم، وللمشتاقين ما يثير لواعج أسرارهم، ويبيّن للمصطفى- صلى الله عليه وسلم- تحقيق ما منع غيره بعد سؤاله.. ألم تر إلى ربك قال لموسى عليه السلام: «لَنْ تَرانِي» بعد سؤاله: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» «1»   (1) آية 143 سورة الأعراف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 2] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) إذا عرفوا حالهم وحال المسلمين يوم القيامة لعلموا كيف شقوا، وأي كأس رشفوا. ويقال إذا صارت المعارف ضرورية أحرقت نفوس أقوام العقوبة، وقطّعت قلوبهم الحسرة. ويقال لو عرفوا حالهم وحال المؤمنين لعلموا أن العقوبة بإهلاكهم حاصلة لقوله تعالى بعدئذ: [سورة الحجر (15) : آية 3] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) قيمة كل امرئ على حسب همّته فإذا كانت الهمة مقصورة على الأكل والتمتع بالصفة البهيمية لا يحاسب، وعلى العقل لا يطالب فالتّكليف يتبعه التشريف! وغدا سوف يعلمون. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 5] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) الآجال معلومة، والأحوال مقسومة والمشيئة فى الكائنات ماضية، ولا تخفى على الحق خافية. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 6] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) الجنون معني يوجب إسناد ما ينكشف للعقلاء من التحصيل على صاحبه، فلمّا كانوا بوصف التباس الحقائق عليهم فهم أولى بما وصفوه به «1» ، فهم كما فى المثل: رمتني بدائها وانسلّت.   (1) لأنهم ليسوا عقلاء ولا تحصيل لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 7 الى 8] لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) اقترحوا عليه الإتيان بالملائكة بعد ما أزيحت العلة عليهم بما أيّد به معجزاته، فيتوجب اللّوم عليهم لسوء أدبهم. وأخبر الحقّ- سبحانه- أنه أجرى عادته أنه إذا أظهر الملائكة لأبصار بنى آدم فيكون ذلك عند استبصارهم لأنه تصير المعرفة ضرورية. وفى المعلوم أنه لم يكن ذلك الوقت أوان هلاكهم لعلمه أنّ فى أصلابهم من يؤمن بالله سبحانه فى المستأنف. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 9] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) أنزل التوراة وقد وكل حفظها إلى بنى إسرائيل بما استحفظوا من كتاب الله، فحرّفوا وبدّلوا، وأنزل الفرقان وأخبر أنه حافظه، وإنما يحفظه بقرائة فقلوب القرّاء خزائن كتابه، وهو لا يضيع كتابه. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 13] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) أخبر أنه كانت عادتهم التكذيب، وأنه أدام سنّته معهم فى التعذيب. ثم قال: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» : وهم لا يؤمنون به لأنه أزاح قلوبهم عن شهود الحقيقة، وسدّ- بالحرمان- عليهم سلوك الطريقة، وبيّن أنه لو أراهم الآيات عيانا ما ازدادوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 إلا عتوا وطغيانا، وأن من سبق له الحكم بالشقاء فلا يزداد على ممر الأيام إلا ما سبق به القضاء. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15] وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) من عليه التقدير كان بأمر التكليف مدعوا، وبأمر التكوين مقضيا.. فمتى ينفع فيه النصح؟ ومتى يكون للوعظ فيه مساغ؟ كلا.. إن البصيرة له مسدودة، و ( .... ) «1» الخذلان بقدمه مشدودة، فهو يحمل النصيحة له على الوقيعة، والحقيقة على الخديعة. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 18] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) بروجا أي نجوما هى لها زينة، ثم تلك النجوم للشياطين رجوم. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ إذا رام الشياطين أن يسترقوا السمع كانت النجوم لها رجوما كذلك للقلوب نجوم وهى المعارف وهى فى الوقت ذاته رجوم على الشياطين فلو دنا إبليس وجنوده من قلب ولىّ من الأولياء أحرقته بل محقته نجوم عقله وأقمار علمه وشموس توحيده. وكما أنّ نجوم السماء زينة للناظرين إذا لاحظوها فقلوب العارفين إذا نظر إليها ملائكة السماء لهى زينة. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 19 الى 20] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)   (1) مشتبهة وهى فى الخط هكذا (متقلاب) وربما كانت (مثقلات) بمعنى أثقال وقيود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 النفوس أرض عبادة العابدين، وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والخوف والرجاء لها رواس. وكذلك الرغبة والرهبة. ويقال من الرواسي التي أثبتها فى الأرض الأولياء فبهم يثبت الناس إذا وقع بهم الفزع. ومن الرواسي العلماء الذين بهم قوام الشريعة فعلماء الأصول هم قوام أصل الدّين، والفقهاء بهم نظام الشرع، قال بعضهم: وا حسرتا من فراق قوم ... هم المصابيح والأمن والمزن. قوله جل ذكره: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ كما أنبت فنونا من النبات ذات أنوار «1» أنبت فى القلوب صنوفا من الأنوار «2» ، منها نور اليقين ونور العرفان، ونور الحضور ونور الشهود، ونور التوحيد.. إلى غير ذلك من الأنوار. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ سبب عيش كلّ واحد مختلف فعيش المريدين من إقباله، وعيش العارفين التجمل بأفضاله «3» قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 21] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) خزائنه فى الحقيقة مقدوراته، وهو- سبحانه- قادر على كل ما هو مرسوم بالحدوث. ويقال خزائنه فى الأرض قلوب العارفين بالله، وفى الخزانة جواهر من كل صنف فحقائق العقل جواهر وضعها فى قلوب قوم، ولطائف العلم جواهر بدائع المعرفة، وأسرار العارفين   (1) أنوار النبات جمع نورة وهى الزهرة البيضاء. (2) أنوار القلوب جمع نور. (3) وردت (أفعاله) وقد رجحنا (أفضاله) لأنها أدق في المعنى، وإن كان كلاهما صحيحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 مواضع سرّه، والنفوس خزائن توفيقه، والقلوب خزائن تحقيقه، واللسان خزانة ذكره. ويقال من عرف أن خزائن الأشياء عند الله تقاصرت خطاه عن التردد على منازل الناس فى طلب الإرفاق منهم، وسعى فى الآفاق فى طلب الأرزاق منها، قاطعا أمله عن الخلق، مفردا قلبه لله متجردا عن التعلّق بغير الله. قوله: «وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» : عرف القسمة من استراح عن كدّ الطلب فإنّ المعلوم لا يتغير، والمقسوم لا يزيد ولا ينقص، وإذا لم يجب عليه شىء لأحد فبقدرته على إجابة العبد إلى طلبته لا يتوجب عليه شىء. ويقال أراح قلوب الفقراء من تحمّل المنّة من الأغنياء مما يعطونهم، وأراح الأغنياء من مطالبة الفقراء منهم شيئا، فليس للفقير صرف القلب عن الله سبحانه إلى مخلوق واعتقاد منّة لأحد، إذ الملك كله لله، والأمر بيد الله، ولا قادر على الإبداع إلا الله. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 22] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) كما أن الرياح فى الآفاق مقدّمات المطر كذلك الآمال فى القلوب، وما يقرب العبد مما يتوارد على قلبه من مبشرات الخواطر، ونسيم النجاة فى الطلب يحصل، فيستروح القلب إليه قبل حصول المأمول من الكفاية واللطف. قوله جل ذكره: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أسقاه إذا جعل له السّقيا كذلك يجعل الحق- سبحانه- لأوليائه ألطافا معلومة فى أوقات محدودة! كما قال فى وصف أهل الجنة: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» . كذلك يجعل من شراب القلوب لكلّ وردا معلوما، ثم قضايا ذلك تختلف: فمن شراب يسكر، ومن شراب يحضر، ومن شراب يزيل الإحساس، كما قيل: فصحوك من لفظى هو الصحو كله ... وسكرك من لحظى يبيح لك الشّربا ويقال إذا هبت رياح التوحيد على الأسرار كنست آثار البشرية، فلا للأغيار فيها أثر، ولا عن الخلائق لهم خبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 ويقال إذا هبّت رياح القرب على قلوب العارفين عطّرتها بنفحات الأنس، فيسقون فى نسيمها على الدوام، وفى معناه أنشدوا: وهبّت شمال آخر الليل قرّة «1» ... ولا ثوب إلا بردة وردائيا وما زال بردى لينا من ردائها ... إلى الحول حتى أصبح البرد باليا ويقال إذا هبّت رياح العناية على أحوال عبد عادت مساويه مناقبه ومثالبه محاسنه. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 23] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) نحيى قلوبهم بالمشاهدة، ونميت نفوسهم بالمجاهدة. ويقال نحييهم بأن نفنيهم بالمشاهدة، ونميتهم بأن نأخذهم عن شواهدهم. ويقال يحيى المريدين بذكره، ويميت الغافلين بهجره. ويقال يحيى قوما بموافقة الأمر فى الطاعات، ويميت قوما بمتابعة الشهوات. ويقال يحيى قوما بأن يلاطفهم بلطف جماله، ويميت قوما بأن يحجبهم عن أفضاله. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 24] وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) العارفون مستقدمون بهممهم، والعابدون مستقدمون بقدمهم، والتائبون بندمهم. وأقوام مستأخرون بقدمهم وهم العصاة، وآخرون مستأخرون بهمومهم وهم الراضون بخسائس الحالات. ويقال المستقدمون الذين يسارعون فى الخيرات، والمستأخرون المتكاسلون عن الخيرات. ويقال المستقدمون الذين يستجيبون خواطر الحقّ- من غير تعريج إلى تفكر، والمستأخرون الذين يرجعون «2» إلى الرّخص والتأويلات. ويقال المستقدمون الذين يأتون على مراكب التوفيق، والمستأخرون الذين تثبطهم مشقة الخذلان.   (1) قرة أي باردة. [ ..... ] (2) وردت (يرجون) وهى خطا فى النسخ- حسبما نعرف من رأى القشيري فى مثل هذا الموقف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 25] وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) يبعث كلا على الوصف الذي خرجوا من الدنيا عليه: فمن منفرد القلب بربه، ومن متطوّح فى أودية التفرقة، ثم يحاسبهم على ما يستوجبونه. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) ذكّرهم بخسّتهم لئلا يعجبوا بحالتهم. ويقال القيمة فى القربة لا بالتّربة والنسب تربة ولكن النعت قربة. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ. وإذا انطفأت النار صارت رمادا لا يجىء منها شىء، والطين إذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه، كذلك العدو «1» لمّا انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة لم ينجبر بعده، وأمّا آدم- عليه السلام فلمّا اغترّ جبره ماء العناية، قال تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ... » «2» قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 31] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) أظهرهم بهذا القول، وفى عين ما أظهرهم سترهم. ويقال ليست العبرة بقوالبهم، إنما الاعتبار بالمعاني التي أودعها فيهم.   (1) يقصد إبليس. (2) آية 122 سورة طه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ويقال الملائكة لا حظوه بعين الخلقة فاستصغروا قدره وحاله، ولهذا عجبوا من أمر الله- سبحانه- لهم بالسجود له، فكشف لهم شظية مما اختصّه به فسجدوا له. قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ: وكذا أمر من حجب عن أحواله ادّعى الخيرة وبقي فى ظلمة الحيرة. ويقال بخل بسجدة واحدة، وقال: أستنكف أن أسجد لغير الله. ثم من شقاوته لا يبالى بكثرة معاصيه، فإنه لا يعصى أحد إلّا وهو سبب وسواسه، وداعيه إلى الزّلّة. وذلك هو عين الشّقوة وقضية الخذلان. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 32 الى 35] قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) سأله ومعلوم له حاله، ولو ساعدته المعرفة لقال: قل لى مالك؟ وما منعك؟ ومن منعك حتى أقول. أنت ... حيث أشقيتني، وبقهرك أغويتني، ولو رحمتني، لهديتنى وفى كنف عصمتك آويتنى ... ولكنّ الحرمان أدركه حتى قال: «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ» قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 36 الى 38] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) ولمّا أبعده الحقّ- سبحانه- عن معرفته، وأفرده باللعنة استنظره إلى يوم القيامة والبعث، فأجابه. وظنّ اللّعين أنه حصل فى الخبر مقصوده، ولم يعلم أنه أراد بذلك تعذيبه عذابا شديدا، فكأنه كان فى الحقيقة مكرا- وإن كان فى الحال فى صورة إجابة السؤال بما يشبه اللطف والبرّ. وبعض أهل الرجاء يقول: إن الحق- سبحانه- حينما يهين عدوّه لا يردّ دعاءه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فى الإمهال ولا يمنعه من الاستنظار فالمؤمن- إذ أمره الاستغفار والسؤال بوصف الافتقار- أولى ألا يقنط من رحمته، لأنّ إنظار اللعين زيادة شقاء له لا تحقيق عطاء. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 39] قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) الباء فى: «بِما أَغْوَيْتَنِي» باء القسم، ولم يكن إغواؤه إياه مما يجب أن يقسم به لولا فرط جهله. ثم هو فى المعنى صحيح، لأنّ الإغواء مما يتفرّد الحق بالقدرة عليه، ولا يشاركه فيه أحد، ولكنّ اللّعين لا يعرف الله على الحقيقة، إذ لو عرفه لم يدع إلى الضلال، لأنه لو قدر على إضلال غيره لا ستبقى على الهداية نفسه. وعند أهل التحقيق إنه يقول جميع ذلك حدسا وهو لم يعرف الله- على الحقيقة- قطّ. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 40 الى 41] إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) الإخلاص هو تصفية الأعمال عن الغين وعن الآفات المانعة من صالح الأعمال وقد علم اللعين أنه لا سبيل له إليهم بالإغواء لمّا تحقق من عناية الحقّ بشأنهم. «قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» تهديد، كما تقول: افعل ما شئت.. وهذا طريقى. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 42] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) السلطان الحجة، وهى لله على خلقه، وليس للعدوّ حجة على مخلوق، إذ لا تتعدّى مقدرته محلّه، فلا تسلّط- فى الحقيقة «1» - لمخلوق على مخلوق بالتأثير فيه. «إِنَّ عِبادِي ... » : إذا سمى الله واحدا عبدا فهو من جملة الخواص، فإذا أضافه إلى نفسه فهو خاص الخاص، وهم الذين محاهم عن شواهدهم، وحفظهم وصانهم عن أسباب التفرقة   (1) نلاحظ أن القشيري يكثر فى هذا الموضوع من قوله (في الحقيقة، وعلى الحقيقة ... ونحو ذلك) والسبب فى ذلك راجع إلى أن ظاهر النصوص أن لابليس إرادة وفعلا، ولكن- فى الحقيقة- كل شىء مرده إلى الحق سبحانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وجرّدهم عن حولهم وقوّتهم، وكان النائب عنهم فى جميع تصرفاتهم وحالاتهم، وحفظ عليهم آداب الشرع، وألبسهم صدار الاختيار فى أوان أداء التكليف، وأخذهم عنهم باستهلاكهم فى شهوده، واستغراقهم فى وجوده ... فأىّ سبيل للشيطان إليهم؟ وأي يد للعدو عليهم؟ ومن أشهده الحقّ حقائق التوحيد، ورأى العالم مصرّفا فى قبضة التقدير، ولم يكن نهبا للأغيار ... فمنى يكون للّعين عليه تسلط، وفى معناه قالوا: جحودى فيك تقديس ... وعقلى فيك تهويس فمن آدم إلّاك ... ومن فى البيت إبليس «1» قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 43 الى 44] وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) اجتمعوا اليوم فى أصل الضلالة، ثم الكفر ملل مختلفة، ثم يجتمعون غدا فى العقوبة وهم زمر مختلفون، لكلّ دركة من دركات جهنم قوم مخصّون. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 45] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) المتقى من وقّاه الله بفضله لا من اتّقى بتكلّفه، بل إنه ما اتقى بتكلفه إلّا بعد أن وقّاه الحقّ- سبحانه- بفضله. هم اليوم فى جنات ولها درجات بعضها أرفع من بعض، كما أنهم غدا فى جنّات ولها درجات بعضها فوق بعض. اليوم لقوم درجة حلاوة الخدمة وتوفيق الطاعة، ولقوم درجة البسط والراحة، ولآخرين درجة الرجاء والرغبة، ولآخرين درجة الأنس والقربة، قد علم كلّ أناس مشربهم ولزم كلّ قوم مذهبهم. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 46] ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) .   (1) هذان البيتان للحلاج (الطواسين ص 43) والديوان المقطعة رقم 28 ومعناهما: أننى لو سجدت لغيرك- حسبما أمرتنى- فأنا جاحد، ولكن- نظرا لمعرفتى بك- فإن جحودى عين تقديسى، لأننى أعلم أنه لا يستحق السجود على الحقيقة إلا أنت، فأنا راض باحتمال لعنتك ثمنا لعدم امتثالى لإرادتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 معناه: يقال لهم: «ادْخُلُوها» ، وأجمل ذلك ولم يقل من الذي يقول لهم. ويرى قوم أن الملك يقول لهم: أدخلوها. ويقال إذا وافوا الجنة وقد قطعوا المسافة البعيدة، وقاسوا الأمور الشديدة فمن حقّهم أن يدخلوا الجنة، خاصة وقد علموا أنّ الجنة مباحة لهم، ولعلهم لا يفقهون حتى يقال لهم ويقال يحتمل أنهم لا يدخلونها بقول الملك حتى يقول الحقّ: أدخلوها، كما قالوا: ولا ألبس النّعمى وغيرك ملبس ... ولا أقبل الدنيا وغيرك واهب قوله: «بِسَلامٍ آمِنِينَ» : بمعنى السلامة، وهى الأمان، فيأمنون أنهم لا يخرجون منها ويقال كما لا يخرجون من الجنة لا يخرجون عما هم عليه من الحال فالرؤية لهم وما هم فيه من الأحوال الوافية- مديدة. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 47] وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) أمر الخليل عليه السلام ببناء الكعبة وتطهيرها فقال: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» «1» ، وأمر جبريل عليه السلام حتى غسل قلب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فطهّره «2» . وتولّى هو- سبحانه- بنفسه تطهير قلوب العاصين، فقال: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» «3» وذلك رفقا بهم، فقد يصنع الله بالضعيف ما يتعجّب منه القوى، ولو وكل تطهير قلوبهم إلى الملائكة لاشتهرت عيوبهم، فتولّى ذلك بنفسه رفقا بهم. ويقال قال: «ما فِي صُدُورِهِمْ» ولم يقل ما فى قلوبهم لأن القلوب فى قبضته يقلبها، وفى الخبر: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» : يريد بذلك قدرته، فاستعمل لفظ الإصبع لذلك توسعا. وقيل بين إصبعين أي نعمتين. قوله جل ذكره: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قابل بعضهم بعضا بالوجه، وحفظ كلّ واحد عن صاحبه سرّه وقلبه، فالنفوس متقابلة   (1) آية 26 سورة الحج. (2) أنظر كتاب (المعراج) للقشيرى ففيه تفصيل ذلك (3) عن على بن الحسين أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر وعمر وعلى رضى الله عنهم وأن الغل غل الجاهلية الذي كان بين تيم وعد وبنى هاشم فلما أسلموا تحابوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ولكنّ القلوب غير متقابلة إذ لا يشتغل بعضهم ببعض، قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» «1» قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 48] لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) أي لا يلحقهم تعب لا بنفوسهم ولا بقلوبهم. وإذا أرادوا أمرا لا يحتاجون إلى أن ينتقلوا من مكان إلى مكان، ولا تحار أبصارهم، ولا يلحقهم دهش، ولا يتغير عليهم حال عما هم عليه من الأمر، ولا تشكل عليه صفة من صفات الحق. «وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» أي لا يلحقهم «2» ذلّ الإخراج بل هم بدوام الوصال. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 49] نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) لمّا ذكر حديث المتقين وما لهم من علوّ المنزلة انكسرت قلوب العاصين، فتدارك الله قلوبهم، وقال لنبيّه- صلى الله عليه وسلم- أخبر عبادى العاصين أنى غفور رحيم، وأنى إن كنت الشكور الكريم بالمطيعين فأنا الغفور الرحيم بالعاصين. ويقال من سمع قوله: «أَنِّي أَنَا» بسمع التحقيق لا يبقى فيه مساغ لسماع المغفرة والرحمة لأنه يكون عندئذ مختطفا عن شاهده، مستهلكا فى إنّيته. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 50] وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) العذاب الأليم هنا هو الفراق، ولا عذاب فوق الفراق فى الصعوبة والألم «3» . قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 52] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) ألا عرّفهم كيف كانت فتوة الخليل فى الضيافة، وقيامه بحقّ الضيفان، وكان الخليل   (1) آية 24 سورة الأنفال. (2) هنا وقع الناسخ فى خطأ التكرار إذ أعاد كتابة عبارات سابقة مما ورد بعد (لا يلحقهم تعب ... إلخ) : (3) أي أن عذاب الفراق يفوق فى نظر الصوفية- عذاب الاحتراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 عليه السلام يقوم بنفسه بخدمة الضيفان، فلمّا سلموا من جانبهم وردّ عليهم وانفضّوا عن تناول طعامه: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. وجلون أي خائفون، فإنّ الإمساك عن تناول طعام الكرام موضع للريبة. ولمّا علم أنهم ملائكة خاف أن يكونوا نزلوا لتعذيب قومه إذ كانوا مجرمين. ولكن سكن روعه عند ما قالوا له: [سورة الحجر (15) : آية 53] قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) فليس لك موضع للوجل لكن موضع للفرج فإنا جئناك مبشّرين، وإن كنّا لغيرك معذّبين. نحن «نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» : أي يعيش حتى يعلم، لأن الطفل ليس من أهل العلم، وكانت بشارتهم بالولد وببقاء الولد هى العجب فقال: [سورة الحجر (15) : الآيات 54 الى 56] قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قال أبشرتموني وقد مسّنى الكبر؟ وإنّ الكبير قد فاته الوقت الذي يفرح فيه من الدنيا بشىء. بماذا تبشروني وقد طعنت فى السنّ، وعن قريب أرتحل إلى الآخرة؟ قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من جملة من يقنط من رحمة الله، ولا يقنط من رحمة ربه إلا من كان ضالا. قال: كيف أخطأ ظنكم فىّ فتوهمتم أنى أقنط من رحمة ربى؟ فلما فرغ قلبه من هذا الحديث، وعرف أنه لن يصيبه ضرر منهم سألهم عن حالهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 [سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) قال ما شأنكم؟ وإلى أين قصدكم؟ قالوا: أرسلنا لعذاب قوم لوط، ولننجى أهله إلا امرأته لمشاركتها معهم فى الفساد، وكانت تدل قومه على أضافه، فاستوجبت العقوبة. فلمّا وافى المرسلون من آل لوط أنكرهم لأنه لم يجدهم على صورة البشر، وتفرّس فيهم على الجملة أنهم جاءوا لأمر عظيم، قالوا: بل جئناك بما كان قومك يشكّون فيه من تعديبنا إياهم، وآتيناك بالحق، أي بالحكم الحق: [سورة الحجر (15) : الآيات 65 الى 66] فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) فأسر بأهلك بعد ما يمضى شىء من الليل، وامش خلفهم، وقدّمهم عليك، واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب، وإنا ننقذك وأهلك إلا امرأتك، فإنا نعذبها لمشاركتها مع قومك فى العصيان. «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» : فلكم السلامة ولقومكم العقوبة. [سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 71] وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) أي علّمناه وعرّفناه: «أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ» أي أنهم مهلكون ومستأصلون بالعقوبة. ثم لما نزل الملائكة بلوط عليه السلام قال لقومه إن هؤلاء أضيافى، فلا تتعرضوا لهم فتفضحونى، واتقوا الله، وذروا مخالفة أمره ولا تخجلوني. فقال قومه: ألم ننهك عن أن تحيى أحدا، وأمرناك ألا تمنع منّا أحدا؟ فقال: هؤلاء بناتي يعنى نساء أمتى. وقال قوم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 أراد بناته من صلبه، عرضهن عليهم لئلا يلمّوا بتلك الغلطة الفحشاء، فلم تنجع فيهم نصيحة، ولم يقلعوا عن خبيث قصدهم. فأخبره الملائكة ألا يخاف عليهم، وسكنوا من روعه حين أخبروه بحقيقة أمرهم، وأنهم إنما أرسلوا للعقوبة. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 72] لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) أقسم بحياته تخصيصا له فى شرفه، وتفضيلا له على سائر البرية، فقال وحياتك- يا محمد- إنهم لفى ضلالتهم وسكرة غفلتهم يتردّون، وإنهم عن شركهم لا يقلعون. ويقال أقسم بحياته لأنه لم يكن فى وقته حياة أشرف من حياته- إنهم فى خمار سكرهم، وغفلة ضلالتهم لا يترقبون عقوبة، ولا يخافون سوءا. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 73 الى 75] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) باتوا فى حبور وسرور، وأصبحوا فى محنة وثبور، وخرّت عليهم سقوفهم، وجعلنا مدنهم ومنازلهم عاليها سافلها، وأمطرنا عليهم من العقوبة مالم يبق عينا ولا أثرا، إنّ فى ذلك لعبرة لمن اعتبر، ودلالة ظاهرة لمن استبصر، «وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» لمن شاء أن يعتبر قوله جل ذكره: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «1» جاء فى التفسير «المتفرسين» ، والفراسة خاطر يحصل من غير أن يعارضه ما يخالفه عند ظهور برهان عليه، فيخرج من القلب عين ما يقع لصاحب الفراسة. مشتق من فريسة   (1) أخر الناسخ تفسير هذه الآية عند النقل فوضعها بعد الآية 86 (إن ربك هو الخلاق العليم) وقد صححنا هذا الوضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الأسد إذ لفريسته يقهر. والحق- سبحانه- يطلع أولياءه على ما خفى على غيرهم. وصاحب الفراسة لا يكون بشرط التفرس فى جميع الأشياء وفى جميع الأوقات بل يجوز أن تسدّ عليه عيون الفراسة فى بعض الأوقات كالأنبياء عليهم السلام فنبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كان يقول لعائشة- رضى الله عنها- فى زمان الإفك: «إن كنت فعلت فتوبى إلى الله» . وكابراهيم ولوط- عليهما السلام- لم يعرفا الرسل. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 84] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، وكان شعيب- عليه السلام- مبعوثا لهم فكذّبوه، فانتقمنا منهم. قوله: «وَإِنَّهُما» يعنى مدين والأيكة ... «لَبِإِمامٍ مُبِينٍ» : أي بطريق واضح من قصده ( ... ) «1» وكذلك أخبر أن أصحاب الحجر «2» - وهم ثمود- كذبوا المرسلين إليهم، وأنهم أعرضوا عن الآيات التي هى المعجزات كناقة صالح وغيرها، وأنهم كانوا أخلدوا إلى الأرضين وكانوا مغترّين بطول إمهال الله إياهم من تأخير العقوبة عنهم، وكانوا يتخذون من الجبال بيوتا، ويظنون أنهم على أنفسهم آمنون من الموت والعذاب.   (1) مشتبهة. (2) الحجر واد بين المدينة، والشام. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ثم أخبر أنهم أخذتهم الصيحة على بغتة، ولم تغن عنهم حيلتهم لمّا حلّ حينهم. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 85] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) دلّت الآية على أنّ أكساب العباد مخلوقة لله لأنها بين السماوات والأرض. إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ «إِلَّا بِالْحَقِّ» : أي وأنا محق فيه ويقال «بِالْحَقِّ» : بالأمر العظيم الكائن إن الساعة لآتية يعنى القيامة. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ يقال الصفح الجميل الذي تذكر الزّلّة فيه. ويقال الصفح الجميل سحب ذيل الكرم على ما كان من غير عقد الزّلّة، بلا ذكر لما سلف من الذنب، كما قيل: تعالوا نصطلح ويكون منّا ( ..... ) «1» ويقال الصفح الجميل الاعتذار عن الجرم بلا عدّ الذنوب من المجرم، والإقرار بأن الذنب كان منك لا من العاصي، قال قائلهم: (وتذنبون فننسى ونعتذر) قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 86] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) «هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» إذ لا يصح الفعل بوصف الانتظام والاتساق من غير عالم. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 87] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) أكثر المفسرين على أنها سورة الفاتحة، وسميت مثانى لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة   (1) الشطر الثاني مطموس غير واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ومرة بالمدينة، ولأنها شىء فى كل صلاة يتكرر، من «التثنية» وهى التكرير، أو لأن بعضها يضاف إلى الحق وبعضها يضاف إلى الخلق ... ومعنى هذا مذكور فى كتب التفاسير «1» . قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 88] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) لم يسلّم له إشباع النظر إلى زهرة الدنيا وزينتها. ويقال غار على عينيه- صلى الله عليه وسلم- أن يستعملها فى النظر إلى المخلوقات. ويقال أدّبه الله- سبحانه- بهذا التأديب حتى لا يعير طرفه من حيث الاستئناس به. ويقال أمره بحفظ الوفاء لأنه لمّا لم يكن اليوم سبيل لأحد إلى رؤيته «2» ، فلا تمدن عينيك إلى ملاحظة شىء من جملة ما خوّلناهم، كما قال بعضهم: لمّا تيقّنت أنى لست أبصركم ... أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد ويقال شتّان بينه وبين موسى- عليه السلام! قال له: لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» ، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- منعه من النظر إلى المخلوقات بوصف هو تمام النظر فقال: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» . ويقال إذا لم يلم له إشباع النظر بظاهره إلى الدنيا فكيف يسلم له السكون بقلبه إلى غير الله؟! ويقال لما أمر بغضّ بصره عما يتمتّع به الكفار فى الدنيا تأدّب- عليه السلام- فلم ينظر ليلة المعراج إلى شىء مما رأى فى الآخرة، فأثنى عليه الحقّ بقوله: «ما زاغَ الْبَصَرُ. وَما طَغى» وكان يقول لكل شىء رآه: «التحيات لله» أي الملك لله.   (1) ويرى بعضهم أنها نسبع سور وهى الطوال، واختلف في السابعة فقيل الأنفال وبراءة لأنهما فى حكم سورة بدليل عدم التسمية بينهما، وقيل سورة يونس. أو أسباع القرآن. (2) الضمير فى (رؤيته) يعود إلى الحق سبحانه، والمقصود حفظ العين- من قبيل الوفاء- لكى لا تعاين سواه سبحانه فيما بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 قوله جل ذكره: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أدّبه حتى لا يتغير بصفة أحد، وهذه حال التمكين. قوله جل ذكره: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ألن لهم جانبك. وكان عليه السلام إذا استعانت به الوليدة «1» فى الشفاعة إلى مواليها يمضى معها.. إلى غير ذلك من حسن خلقه- صلوات الله عليه- وكان فى الخبر: إنه كان يخدم بيته وكان فى (مهنة) أهله «2» . وتولّى خدمة الوفد، وكان يقول: سيد القوم خادمهم. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 89] وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) لمّا لم يكن بنفسه وكان قائما بحقه- سبحانه وتعالى- سلّم له أن يقول: إنى وأنا. وفى الخبر: أن جابرا دقّ عليه الباب، فقال: من؟ قال: أنا ... فقال النبي عليه السلام: «أنا أنا» .. كأنه كرهها «3» ويقال: قل لاحدّ لاستهلا كك فينا، سلّمنا أن تقول: إنى أنا، لما كنت بنا ولنا. قوله جل ذكره [سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 91] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) أي قل إنى أنا لكم منذر بعذاب كالعذاب الذي عذّبنا به المقتسمين وهم الذين تقاسموا بالله لنبيّه فى قصه صالح عليه السلام. وقيل هم من أهل الكتاب الذين اقتسموا كتاب الله فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. ويقال إنى لكم نذير أخوفكم عقوبة المقتسمين الذين اقتسموا الجبال والطرق بمكة فى الموسم، وصدوا الناس. وكان الواحد منهم يقول لمن مرّ به: لا تؤمن بمحمد فإنه ساحر، ويقول الآخر: إنه كاهن ويقول ثالث: إنه مجنون، فهم بأقسامهم: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ «4»   (1) الوليدة- الجارية، قال طرفة: فذالت كما ذالت وليدة مجلس ... ترى ربها أذيال سحل ممدد (2) عن الأسود بن يزيد: قال سئلت عائشة رضى الله عنها ما كان النبي (ص) يصنع فى بيته؟ قالت: كان يكون فى مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إليها (رواه البخاري) . (3) الحديث جاء مضطرب الكتابة في النسختين وقد صححناه كما أورد النووي فى رياض الصالحين ط بيروت ص 351 (4) عضين ج عضة وأصلها عضوة أي جزء، وعضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء وأجزاء وأقساما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ففرقوا القول فيه، فقال بعضهم إنه شعر، وقال بعضهم إنه سحر، وقال بعضهم إنه كهانه ... إلى غير ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 92 الى 93] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) العوام يسألهم عن تصحيح أعمالهم، والخواص يسألهم عن تصحيح أحوالهم. ويقال يسأل قوما عن حركات ظواهرهم، ويسأل آخرين عن خطرات سرائرهم. ويسأل الصديقين عن تصحيح المعاني بفعالهم، ويسأل المدّعين عن تصحيح الدعاوى تعنيفا لهم. ويقال سماع هذه الآية يوجب لقوم أنسا وسرورا حيث علموا أنه يكلّمهم ويسمعهم خطابه لاشتياقهم إليه، ولا عجب فى ذلك فالمخلوق يقول فى مخلوق: من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انتهت أحدوثة لو تعيدها فلا أسعد من بشر يعرف أنّ مولاه غدا سيكلمه. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 94] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) كن بنا وقل بنا، وإذا كنت بنا ولنا فلا تجعل حسابا لغيرنا، وصرّح بما خاطبناك به، وأفصح عمّا نحن خصصناك به، وأعلن محبتنا لك: فسبّح «1» باسم من تهوى ودعنا من الكني ... فلا خير في اللّذات من بعدها ستر قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 95 الى 96] إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) الذين دفعنا عنك عادية «2» شرّهم، ودرأنا عنك سوء مكرهم، ونصرناك بموجب   (1) الأصل فى البيت (فصرح) والتصريح يقابل (الكناية) . (2) وردت (عادية) بالغين، والملائم للسياق (عادية) بالعين. حيث يقال (دفعت عنك عادية فلان أي ظلمه وشره) : الوسيط ص 595. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 عنايتنا بشأنك.. فلا عليك فيما يقولون أو يفعلون، فما العقبى إلا لك بالنصر والظفر. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : الآيات 97 الى 98] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وقال: «يَضِيقُ صَدْرُكَ» ولم يقل يضيق قلبك لأنه كان فى محل الشهود، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله، ولا تكون مع اللقاء وحشة. ويقال هوّن عليه ضيق الصدر بقوله: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ» ويقال إن ضاق صدرك بسماع ما يقولون فيك من ذمّك فارتفع «1» بلسانك فى رياض تسبيحنا، والثناء علينا، فيكون ذلك سببا لزوال ضيق صدرك وسلوة لك بما تتذكر من جلال قدرنا وتقديسنا، واستحقاق عزّنا. قوله جل ذكره: [سورة الحجر (15) : آية 99] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) قف على بساط العبودية معتنقا للخدمة، إلى أن تجلس على بساط القربة، وتطالب بآداب الوصلة. ويقال التزم شرائط العبودية إلى أن ترقى بل تكفى بصفات الحرية. ويقال فى «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» «2» : إن أشرف خصالك قيامك بحقّ العبودية.   (1) وردت هكذا ونرجح أنها فى الأصل (فارتع) فهى أكثر ملائمة للمعنى. جاء فى رسالة القشيري ص 111 (وفى الخبر المشهور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا فيها، فقيل له: وما رياض الجنة؟ فقال: مجالس الذكر. (2) عن العلاقة بين العبودية واليقين ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله: «العبادة لمن له علم اليقين، والعبودية لمن له عين اليقين والعبودة لمن له حق اليقين» الرسالة ص 99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 السورة التي يذكر فيها النحل قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألف الوصل فى «بِسْمِ اللَّهِ» لم يكن لها فى التحقيق أصل، جلبت للحاجة إليها للتوصل بها إلى النطق بالسّاكن، وإذ وقع ذلك أنفا عنها أسقطت فى الإدراج، ولكن كان لها بقاء فى الخط وإن لم يكن لها ظهور فى اللفظ، فلمّا صارت إلى «بِسْمِ اللَّهِ» أسقطت من الخط كذلك.. وكذلك من ازداد صحبة استأخر «1» رتبة. ويقال أي استحقاق لواو عمرو حتى ثبتت فى الخط؟ وأي استحقاق إلى الألف فى قولهم قتلوا وفعلوا؟ وأىّ موجب لحذف الألف من السماوات؟ طاحت العلل فى الفروق، وليس إلا اتفاق الوضع ... كذلك الإشارة فى أرباب الردّ والقبول، قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» «2» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) صيغة أتى للماضى، والمراد منه الاستقبال لأنه بشأن ما كانوا يستعجلونه من أمر الساعة، والمعنى «سيأتى» أمر القيامة، والكائنات كلّها والحادثات بأسرها من جملة أمره أي حصل أمر تكوينه وهو أمر من أموره لأنه حاصل بتقديره وتيسيره، وقضائه وتدبيره فما يحصل من خير وشرّ، ونفع وضرّ، وحلو ومرّ.. فذلك من جملة أمره تعالى. «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» وأصحاب التوحيد لا يستعجلون شيئا باختيارهم لأنهم قد سقطت عنهم الإرادات والمطالبات، وهم خامدون تحت جريان تصريف الأقدار فليس لهم إيثار ولا اختيار فلا يستعجلون أمرا، وإذا أمّلوا شيئا، أو أخبروا بحصول شىء فلا استعجال لهم، بل شأنهم   (1) إن صح نقل هذه الكلمة عن الأصل فلربما يقصد القشيري منها استخفى عن الظهور، وازداد ذبولا، وبعدا عن التظاهر والدعوى. (2) آية 107 سورة هود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 التأنّى والثبات والسكون. وإذا بدا من التقدير حكم فلا استعجال لهم لما يرد عليهم، بل يتقبلون مفاجأة التقدير بوجه ضاحك، ويستقبلون ما يبدو من الغيب من الردّ والقبول، والمنع والفتوح بوصف الرضاء، ويحمدون الحق- سبحانه وتعالى- على ذلك. «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» : تعالى عما يشركون بربهم، والكفار لم ييسر لهم حتى أنّه لا سكن لقلوبهم من حديثه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 2] يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) ينزل الملائكة على الأنبياء- عليهم السلام- بالوحى والرسالة، وبالتعريف والإلهام على أسرار أرباب التوحيد وهم المحدّثون. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير مردود لكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك، ولا يحملون رسالة إلى الخلق. ويراد بالروح الوحى والقرآن، وفى الجملة الروح ما هو سبب الحياة إمّا حياة القلب أو حياة الدنيا. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 3] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خلقها بالحق، ويحكم فيها بالحق، فهو محقّ فى خلقها لأنّ له ذلك، ويدخل فى ذلك أمره بتكليف الخلق، وما يعقب ذلك التكليف من الحشر والنّشر، والثواب والعقاب. «تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» : تقديسا وتشريفا له عن أن يكون له شريك أو معهم ليك قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 4] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) تعرّف إلى العقلاء بكمال قدرته حيث أخبر أنه قدر على تصوير الإنسان على ما فيه من التركيب العجيب، والتأليف اللطيف من نطفة متماثلة الأجزاء، متشاكلة فى وقت الإنشاء، مختلفة الأعضاء وقت الإظهار والإبداء، والخروج من الخفاء. ثم ما ركّب فيه من تمييز وعقل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ويسّر له النطق والفعل، والتدبير فى الأمور، والاستيلاء على الحيوانات على وجه التسخير. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 5] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) ذكّرهم بما تفضّل عليهم، وأخبرهم بما للحيوانات من النّعم، وما لهم فيها من وجوه الانتفاع فى جميع الأحوال، كالحمل وكالسفر عليها وقطع المسافات، والتوصّل على ظهورها إلى مآربهم، وما لنسلها ولدرّها من المنافع. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 6 الى 7] وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) الغنيّ له جمال بماله، والفقير له استقلال بحاله.. وشتّان ماهما! فالأغنياء يتجملون بأنعامهم حين يريحون وحين يسرحون، والفقراء يستقلون بمولاهم حين يصبحون وحين يمسون. أولئك تحمل أثقالهم جمالهم، وهؤلاء يحمل الحقّ عن قلوبهم أثقالهم. «لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» : قوم أحوالهم مقاساة الشدائد يصلون سيرهم بسراهم، وقوم فى حمل مولاهم بعيدون عن كدّ التدبير، مستريحون بشهود التقدير، راضون باختيار الحقّ فى العسير واليسير «1» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 8] وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) فالنفوس فى حملها كالدواب، والقلوب معتقة عن التعنّى فى الأسباب. «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» : كما أن أهل الجنة من المؤمنين يجدون فى الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فكذلك أرباب الحقائق يجدون- اليوم- ما لم يخطر قطّ على بال، ولا قرأوا فى كتاب، ولا تلقنوه من أستاذ، ولا إحاطة بما أخبر الحق أنه   (1) يطلق القشيري على الأول اصطلاح (متحمل) وعلى الثاني (محمول) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 لا يعلم تفصيله «1» سواه.. وكيف يعلم من أخبر الحقّ- سبحانه- أنه لا يعلم؟ قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 9] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) قوم هداهم السبيل، وعرّفهم الدليل، فصرف عن قلوبهم خواطر الشكّ، وعصمهم عن الجحد والشّرك، وأطلع فى قلوبهم شمس العرفان، وأفردهم بنور البيان. وآخرون أضلّهم وأغواهم، وعن شهود الحجج أعماهم، وفى سابق حكمه من غير سبب أذلّهم وقمعهم «2» ، ولو شاء لعرّفهم وهداهم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) أنزل المطر وجعل به سقيا النبات، وأجرى العادة بأن يديم به الحياة، وينبت به الأشجار، ويخرج الثمار، ويجرى الأنهار. ثم قال: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ثم قال بعده بآيات: «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ، ثم قال بعده: «لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» . وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة «3» ، فأولا التفكر ثم العلم ثم التذكر، أولا يضع النظر موضعه فإذا لم يكن فى نظره خلل وجب له العلم لا محالة، ولا فرق بين العلم والعقل فى الحقيقة، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر. ويقال إنما قال: «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» : على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير   (1) وردت (تفضله) وهى خطأ من الناسخ. (2) (قمعهم) - قهرهم وذلهم. على أننا لا نستبعد- حسبما نعرف من كلف القشيري بالخوض على الموسيقى اللفظية- أنها ربما كانت (أقماهم) أي صغرهم وأذلهم (انظر آية 4 سورة القصص المجلد الثالث) . (3) هذه نقطة هامة إذا أردنا أن ندرس مذهب المعرفة عند الصوفية عموما، والقشيري بخاصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 عارفا، وكل جزء من العلم تحصل له آية ودليل، فللعالم حتى يكون عارفا بربّه آيات ودلائل، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة فبدليل واحد يعلم وجه النظر، وبأدلة كثيرة يصير عارفا بربه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 12] وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) الليل والنهار ظرفا الفعل، والناس فى الأفعال مختلفون: فموفّق ومخذول فالموفّق يجرى وقته فى طاعة ربه، والمخذول يجرى وقته فى متابعة هواه. العابد يكون فى فرض يقيمه أو نفل يديمه، والعارف فى ذكره وتحصيل أوراده بما يعود على قلبه فيؤنسه، وأما أرباب التوحيد فهم مختطفون عن الأحيان والأوقات بغلبة ما يرد عليهم من الأحوال كما قيل: لست أدرى أطال ليلى أم لا ... كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟ لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ورعيت النجوم كنت مخلّا قوله جل ذكره: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. هذا فى الظاهر، وفى الباطن نجوم العلم وأقمار المعرفة وشموس التوحيد. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 13] وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) أقوام خلق لهم فى الأرض الرياض والغياض «1» ، والدور والقصور، والمساكن والمواطن، وفنون النّعم وصنوف القسم.. وآخرون لا يقع لهم طير على وكر، ولا لهم فى الأرض شبر لا ديار تملكهم، ولا علاقة تمسكهم- أولئك سادات الناس وضياء الحق.   (1) الغياض جمع غيضة وهى الموضع يكثر فيه الشجر ويلتف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 14] وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) سخر البحر فى الظاهر، وسهّل ركوبه فى الفلك، ويسّر الانتفاع بما يستخرج منه من الحلىّ كاللؤلؤ والدّرّ، وما يقتات به من السمك وحيوان البحر. ومن وجوه المعاني خلق صنوفا من البحر، فقوم غرقى فى بحار الشغل وآخرون فى بحار الحزن، وآخرون فى بحار اللهو.. فالسلامة من بحر الشغل فى ركوب سفينة التوكل، والنجاة من بحر الحزن فى ركوب سفينة الرضا، والسلامة من بحر اللهو من ركوب سفينة الذكر، وأنشد بعضهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 15] وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) الرواسي فى الظاهر الجبال، وفى الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخلق، بهم يرحمهم، وبهم يغيثهم.. ومنهم أبدال ومنهم أوتاد ومنهم القطب. وفى الخبر: «الشيخ فى قومه كالنبى فى أمته» وقال تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «2» ، كما قال تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ» «3» ، وأنشد بعضهم: وا حسرتا من فراق قوم ... هم المصابيح والأمن والمزن قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 16] وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) الكواكب نجوم السماء ومنها رجوم للشياطين، والأولياء نجوم فى الأرض. وكذلك العلماء وهم أئمة فى التوحيد وهم رجوم للكفّار والملحدين.   (1) سقط الشاهد الشعرى من الناسخ. (2) آية 33 سورة الأنفال. (3) آية 25 سورة الفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 ويقال فرق بين نجوم يهتدى بها فى فجاج الدنيا، ونجوم يهتدى بهم إلى الله تعالى. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 17] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) تدل هذه الآية على نفى التشبيه بينه- سبحانه- وبين خلقه. وصفات القدم لله مستحقّة، وما هو من خصائص الحدثان وسمات الخلق يتقدّس الحقّ- سبحانه- عن جميع ذلك. ولا تشبّه ذات القديم بذوات المخلوقين، ولا صفاته بصفاتهم، ولا حكمه بحكمهم، وأصل كلّ ضلالة التشبيه، ومن قبح ذلك وفساده أنّ كلّ أحد يتبرّأ منه ويستنكف من انتحاله. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 18] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) الموجودات لا تحصوها لتقاصر علومكم عنها، وما هو من نعم الدفع «1» فلا نهاية له. وهو غفور رحيم حيث يتجاوز عنكم إذا عجزتم عن شكره، ويرضى بمعرفتكم ( ... ) «2» لكم عن شكره. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 19] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) ما تسرّون من الإخلاص وملاحظة الأشخاص.. فلا يخفى عليه حسان، وما تعلنون من الوفاق والشقاق، والإحسان والعصيان. والآية توجب تخويف أرباب الزّلّات، وتشريف أصحاب الطاعات. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 20] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أخبر أن الأصنام لا يصحّ منها الخلق لكونها مخلوقة، ودلّت الآية على أنّ من وجدت له سمة الخلق لا يصحّ منه الخلق، والخلق هو الإيجاد ففى الآية دليل على خلق الأعمال.   (1) من قصور الإنسان أنه لا يشعر إلا بنعم المنح، ولكن نعم الدفع التي لا تتناهى لا يكاد الإنسان يشعر بها البتة وبالتالى لا يشكر عليها ... وما أكثرها! (2) مشتبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 21] أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) لأنّ من لحقه وصف التكوين لا يصحّ منه الإيجاد. وفى التحقيق كلّ من علق قلبه بشىء، وتوهّم منه خيرا أو شرا فقد أشرك بالله بظنّه، وإنما التوحيد تجريد القلب عن حسبان شظيّة من النفي والإثبات من جميع المخلوقين والمخلوقات. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 22] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا قسيم لذاته جوازا أو وجوبا، ولا شبيه له ولا شريك. ومن لم يتحقق بهذه الجملة قطعا، وبشهادة البراهين له تفصيلا فهو فى دركات الشّرك واقع، وعن حقائق التوحيد بمعزل، قال تعالى فى صفة الكفار: «قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» أي فى أسر الشّرك وغطاء الكفر، ثم ليس فيه اتصاف لطلب العرفان لأنّ العلة- لمن أراد المعرفة- متاحة، وأدلة الخلق لائحة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 23] لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) فيفضحهم ويبيّن نفاقهم، ويعلن للمؤمنين كفرهم وشقاقهم. قوله جل ذكره: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ. دليل الخطاب أنه يحب المتواضعين المتخاشعين، ويكفيهم فضلا بشارة الحق لهم بمحبته لهم. قوله جلّ ذكره: [سورة النحل (16) : آية 24] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لحقهم شؤم تكذيبهم، فأصرّوا على إعراضهم عن النظر، وقست قلوبهم ولم تجنح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 إلى الإقرار بالحق، فلبّسوا على من يسائلهم، وقالوا: هذا الذي جاء به محمد من أكاذيب العجم، فضلّوا وأضلوا. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 25] لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) لما سعوا فى الدنيا لغير الله لم تصف أعمالهم، وفى الآخرة حملوا معهم أوزارهم. أولئك الذين خسروا فى الدنيا والآخرة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 26] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) اتصفوا بالمكر فحاق بهم مكرهم، ووقعوا فيما حفروه لغيرهم، واغتروا بطول الإمهال، فأخذهم العذاب من مأمنهم، واشتغلوا بلهوهم فنغّص عليهم أطيب عيشهم: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. الذي وصف نفسه به فى كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة، وذلك على عادة العرب فى التوسع فى الخطاب. وهو سبحانه يكشف الليل ببدره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمكره، وفى معناه قالوا: وأمته فأتاح لى من مأمنى ... مكرا، كذا من يأمن الأياما قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 27] ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فى الدنيا عاجل بلائهم، وبين أيديهم آجله. وحسرة «1» المفلس تتضاعف إذا ما حوسب، وشاهد حاصله. «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..» : يسمع الكافرين قول المؤمنين، ويبيّن للكافة صدقهم. ويقع الندم على جاهلهم «2» . وأما اليوم فعليهم بالصبر والتحمّل، وعن قريب ينكشف الغطاء، وأنشد بعضهم: خليلىّ لو دارت على رأسى الرّحى ... من الذّلّ لم أجزع ولم أتكلّم وأطرقت حتى قيل لا أعرف الجفا ... ولكننى أفصحت يوم التكلّم قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 28 الى 29] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) «ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ» : بارتكاب المعاصي وهم الكفار. «فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» : انقادوا واستسلموا لحكم الله. «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» : جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات. «بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» : هكذا قالت لهم الملائكة، ثم يقولون لهم: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ..» : وكذلك الذين تقسو نفوسهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزلت بهم الوفاة يأخذون فى الجزع وفى التضرع، ثم لا تطيب نفوسهم بأن يقرّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لما أخلّوا من معاملاتهم، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير، والنقير والقطمير، ثم يبقون أبدا فى وبال ما أحقبوه، لأن شؤم ذلك يلحقهم فى أخراهم.   (1) وودت (مرة) بالميم (وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح. (2) وردت (جاهدهم) بالدال. وربما كانت فى الأصل (جاحدهم) ، فالجهل والجحد من صفات الكافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 30] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) أما المسلمون فإذا وردوا عليهم، وسألوهم عن أحوال محمد- صلى الله عليه وسلم، وعما أنزل الله عليه، قالوا: دينه حقّ، والله أنزل عليه الحقّ.. والذين أحسنوا فى الدنيا يجدون الخير فى الآخرة. ويقال فى هذه الدنيا حسنة، وهى ما لهم من حلاوة الطاعة بصفاء الوقت ويصحّ أن تكون تلك الحسنة زيادة التوفيق لهم فى الأعمال، وزيادة التوفيق لهم فى الأحوال. ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يوفّقهم بالاستقامة على ما هم عليه من الإحسان. ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يبلّغهم منازل الأكابر والسادة، قال تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» «1» ويصح أن تكون تلك الحسنة ما يتعدّى منهم إلى غيرهم من بركات إرشادهم للمريدين، وما يجرى على من اتبعهم مما أخذوه وتعلموه منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يهتدى بهداك رجل خير لك من حمر النعم» «2» . ثم قال: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» ، لأن ما فيها يبقى، وليس فيها خطر الزوال. ولأن فى الدنيا مشاهدة وفى الآخرة معاينة «3» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 31] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)   (1) آية 24 سورة السجدة. (2) سبق تخريج هذا الحديث. (3) نفهم من هذا أن المعاينة أعلى درجة من المشاهدة، ونفهم كذلك أن المشاهدة- وهى تنم فى هذه الدنيا- هى أقصى درجات المعراج الروحي عند أصحاب وحدة الشهود، وكل قول بما يزيد عن ذلك خروج عن أصول هذا المذهب، وقد نعى كثير من الباحثين على الغلاة والأدعياء والظالمين، فى هذا الخصوص. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 كما أن الإرادات والهمم تختلف فى الدنيا فكذلك فى الآخرة، وفى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» فمن مريد يكتفى من الجنة بورودها، ومن مريد لا يكتفى من الجنة دون شهود ربّ الجنة. ويقال إذا شاءوا أن يعودوا إلى ما فاتهم من قصورهم، وما وجدوا فى ذلك من صحبة اللّعين «1» فى سائر أحوالهم وأمورهم يسلم لهم ذلك، ومن شاء أن تدوم رؤيته، ويتأبّد سماع خطابه فلهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد، وهو ما لم يخطر ببال أحد. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 32] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) يقبض أرواحهم طيبة. أو يقال «طَيِّبِينَ» حال. والأسباب التي تطيب بها قلوبهم وأرواحهم مختلفة، فمنهم من طاب وقته لأنه قد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، ومنهم من طاب قلبه لأنه سلّم عليه محبوبه، ومنهم من طاب قلبه لأنه لم يفته مطلوبه. ومنهم من طاب وقته لأنه يعود إلى ثوابه، ويصل إلى حسن مآبه. ومنهم من يطيب قلبه لأنه أمن من زوال حاله، وحظى بسلامة مآله «2» ، ومنهم من يطيب قلبه لأنه وصل إلى أفضاله، وآخر لأنه وصل إلى لطف جماله، وثالث لأنه خصّ بكشف جلاله- قد علم كلّ أناس مشربهم. ويقال «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» طيبة نفوسهم أي طاهرة من التدنّس بالمخالفات، وطاهرة قلوبهم عن العلاقات، وأسرارهم عن الالتفات إلى شىء من المخلوقات.   (1) اللعين مقصود به إبليس. (2) وردت (ماله) والملائم هنا أن تكون (مآله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» احظوا بالجنة، منهم من يخاطبه بذلك الملك، ومنهم من يكاشفه بذلك الملك. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) القوم ينتظرون مجىء الملك لأنهم لم يعرفوه ولم يعتقدوا كونه. ولكن لمّا كانوا يستعجلون معتقدين أن الرسل غير صادقين، ولمّا سلكوا «1» مسلك أضرابهم من المتقدمين- عوملوا بمثل ما لقى أسلافهم، وما كان ذلك من الله ظلما، لأنه يتصرف فى ملكه من غير حكم حاكم عليه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 35] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) خبثت قصودهم فيما قالوا على وجه التكذيب والاستهزاء، وغلبت على نطقهم ظلمات جهلهم وجحدهم، وانكشف عدم صدقهم فى أحوالهم. وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ..» يشبه قولهم: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» «2» . ولا خلاف أن الله لو شاء أن يطعمهم لكان ذلك.   (1) وردت (سكنوا) وهى خطأ من الناسخ. (2) آية 47 سورة يس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 36] وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) لم يخل زمانا من الشرع توضيحا لحجته، ولكن فرّقهم فى سابق حكمه ففريقا هداهم، وفريقا حجبهم «1» وأعماهم «2» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 37] إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) ألزمهم الوقوف على حدّ العبودية فى إرادة هدايتهم ومعرفتهم حقائق الربوبية فقال: إنك وإن كنت بأمرنا لك حريصا على هدايتهم فإن من قسمت له الضلال لا يجرى عليه غير ما قسمت له. ويقال من ألبسته صدار الضلال لا تنزعه وسيلة ولا شفاعة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 38] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) القسم يؤكّد الخبر، ولكنّ يمين الكاذب توجب ضعف قوله لأنه كلما زاد فى جحد الله ازداد القلب نفرة من قوله. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 39] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)   (1) وردت (حجتهم) وهى خطأ فى النسخ إذ ربما كانت النقطتان فوق الباء فتحة فى الأصل وتوهم الناسخ أنها نقطتان. (2) وردت (وأعمالهم) والمعنى والسياق يرفضانها ويتقبلان (وأعماهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 إذا بيّن الله صدق ما ورد به الشرع فى الآخرة بكشف الغيب زاد افتضاح أهل التكذيب فيكون فى ذلك زيادة لهم فى التعذيب. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 40] إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) فيكون بالسمع علم تعلّق قوله بما يفعله. وحمله قوم على أن معناه أنه لا يتعسّر عليه فعل شىء أراده، فالآية على القولين جميعا. والذي لا يحتاج فى فعله إلى مادة يخلق منها لا يفتقر إلى مدة يقع الفعل فيها. وتدل الآية على أنّ قوله ليس بمخلوق إذ لو كان مخلوقا لكان مقولا له: كن، وذلك القول يجب أن يكون مقولا له بقول آخر ... وهذا يؤدى إلى أن يتسلسل ما يحصل إلى ما لا نهاية له «1» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 41] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) من هاجر عن أوطان السوء- فى الله- أبدل له الله فى جوار أوليائه ما يكون له فى جوارهم معونة على الزيادة فى صفاء وقته. ومن هجر أوطان الغفلة مكّنه الله من مشاهد الوصلة. ومن فارق مجالسة المخلوقين، وانقطع بقلبه إليه- سبحانه- باستدامة ذكره- فكما فى الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» . وبداية هؤلاء القوم نهاية أهل الجنة ففى الخير «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة» . ويقال القلب مظلوم من جهة النّفس لما تدعوه إليه من شهواتها، فإذا هجرها أورث الله القلب أؤطان النّفس حتى تنقاد لما يطالب به القلب   (1) كلام الله ليس بمخلوق- هذا أصل عام من أصول المذهب الأشعري الذي يعد القشيري من أعظم أنصاره. وقد ناقش هذه القضية بإسهاب فى كتابه القيم: «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة» . وانظر أيضا كتابنا (الإمام القشيري: تصوفه وأدبه- فصل: القشيري متكلما) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 من الطاعة فبعد ما تكون أوطان الزّلّة بدواعى الشهوة تصير أوطان الطاعة لسهولة أدائها. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 42] الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) الصبر الوقوف بحسب جريان القضاء، والتوكل التوقي بالله بحسن الرجاء. ويقال صبروا فى الحال، وتوكلوا على الله فى تحقيق الآمال. ويقال الصبر تحسّى كاسات المقدور، والتوكل الثقة فى الله فى استدفاع المحذور. ويقال الصبر تجرّع ما يسقى، والتوكل الثقة بما يرجو. ويقال إنما يقوون على الصبر بما حققوا من التوكل. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 43] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) تعجبوا أن يكون من البشر رسلا، فأخبر أنّ الرسل كلّهم كانوا من البشر، وأنّ فيمن سبق من أقرّ بذلك. و «أَهْلَ الذِّكْرِ» هم العلماء والعلماء مختلفون: فالعلماء بالأحكام إليهم الرجوع فى الاستفتاء من قبل العوام فمن أشكل عليه شىء من أحكام الأمر والنهى يرجع إلى الفقهاء فى أحكام الله، ومن اشتبه عليه شىء من علم السلوك في طريق الله يرجع إلى العارفين بالله، فالفقيه يوقّع عن الله، والعارف ينطق- فى آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها- عن الله، فهو كما قيل: (أليس حقا نطقت بين الورى فاشتهرت، كاشفها يعلم ما منّ عليها فجرت، فهى عناء به عينيه قد طهرت) «1» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 44] بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أي إن البيان إليك، فأنت الواسطة بيننا وبينهم، وأنت الأمين على وحينا.   (1) ما بين القوسين نقلناه كما هو من النص، وربما كان شاهدا شعريا مضطرب الكتابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47] أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) العبد فى جميع أحواله عرضة لسهام التقدير، فينبغى أن يستشعر الخوف فى كلّ نفس من الإصابة بها، وألّا يأمن مكر الله فى أي وقت، وأكثر الأسنة تعمل فى الموطأة نفوسهم وقلوبهم على ما عوّدهم الحق من عوائد المنّة، ولكن كما قيل: يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا «1» قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 48] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) كل مخلوق من عين أو أثر، من حجر أو مدر أو غبر فلله- من حيث البرهان- ساجد، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 49] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) ذلك سجود شهادة لا سجود عبادة، فإذا امتنعت عن إقامة الشهادة لقوم قالة، فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 50] يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) يخافون الله أن ينزل عليهم عذابا من فوق رءوسهم.   (1) كان عبد الحميد المكفوف كثيرا ما يتمثل بهذا البيت في قصصه (الحيوان ج 6 ص 508) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 «وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» لا يعصونه ولا يحيدون عن طاعته. ويقال خير شىء للعبد فى الدنيا والآخرة الخوف إذ يمنعه من الزّلة ويحمله على الطاعة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 52] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) الحاجة إلى إثبات صانع واحد داعية، وما زاد على الواحد (قالا ... ) «1» فيه متساوية. ويقال إثبات الواحد ضرورة، وقدرة الاثنين محصورة. قوله جل ذكره: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ له الدين خالصا وله الدين دائما، وله الدين ثابتا، فالطاعة له واجبة. فلا تتقوا غيره، وأطيعوا شرعه بخلاف هواكم، واعبدوه وحده، واستجيبوا له فى المسرّة والمضرّة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 53] وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) النّعمة ما يقرّب العبد من الحق، فأمّا مالا يوجب النسيان والطغيان، والغفلة والعصيان فأولى أن يكون محبة. ويقال ما للعبد فيه نفع، أو يحصل به للشر منع فهو على أصح القولين نعمة سواء كان دينيا أو دنيويا، فالعبد مأمور بالشكر على كل حال. وأكثر الناس يشكرون على نعم الإحسان، «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «2» على كل حال. وفائدة الآية قطع الأسرار عن الأغيار فى حالتى اليسر والعسر، والثقة بأن الخير والشر، والنفع والضر كلاهما من الله تعالى. قوله جل ذكره ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ إذ ليس لكم سواه فإذا أظلّت العبد هواجم الاضطرار التجأ إلى الله فى استدفاع   (1) بقية الكلمة مشتبهة. (2) آية 13 سورة سبأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ما مسّه من البلاء ثم إذا منّ الحقّ عليه، وجاد عليه بكشف بلائه صار كأن لم يمسه سوء أو أصابه همّ كما قيل: كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا «1» وقال: [سورة النحل (16) : آية 54] ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) الخطاب عام، وقوله «مِنْكُمْ» : لأنّ القوم منهم [سورة النحل (16) : آية 55] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) فى هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامة، ويعتذرون حين لا يقبل لهم عذر.. ومن زرع شرا فلن يحصد إلا جزاء عمله. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 56] وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) أي يجعلون لما لا يعلمون- وهى أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم- نصيبا من أرزاقهم فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا. «تَاللَّهِ» أقسم إنهم سيلقون عقوبة فعلهم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 57] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) من فرط جهلهم وصفوا المعبود بالولد، ثم زاد الله فى خذلانهم حتى قالوا: الملائكة بنات الله. وكانوا يكرهون البنات، فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء فى استحقاق   (1) تمول أي نما المال له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 الذمّ كلّ من آثر حظّ نفسه على حقّ مولاه، فإذا فعل ماله فيه نصيب وغرض كان مذموم الوصف، ملوما على ما اختاره من الفعل. ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه ويتصفون به من كراهة أن تولد لهم الإناث فقال: [سورة النحل (16) : الآيات 58 الى 59] وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) استولت عليهم رؤية الخلق «1» ، وملكتهم الحيرة، فحنقوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البعل فيهن.. وهذه نتائج الإقامة فى أوطان التفرقة، والغيبة عن شهود الحقيقة. ثم قال: «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» أي يحبس المولود إذا كان أنثى على مذلّة، «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» ليموت؟ وتلك الجفوة فى أحوالهم جعلت- من قساوة قلوبهم فى أحوالهم- العقوبة أشدّ ممّا كانت بتعجيلها لهم. وجعلهم فرط غيظهم، وفقد رضائهم، وشدة حنقهم على من لا ذنب له من أولادهم- من أهل النار فى دركات جهنم، وتكدّر عليهم الوقت، واستولت الوحشة.. ونعوذ بالله من المثل السوء! قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 60 الى 61] لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)   (1) أي تشتت رؤيتهم حين لم ينظروا إلى الخالق واستبدلوا ذلك بأن نظروا للمخلوق ... وهذه صفة هل التفرقة والغيبة- كما سيأتى بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 مثل السوء للكفار الذين جحدوا توحيده فلهم صفة السوء. ولله صفات الجلال ونعوت العزّ، ومن عرفه بنعت الإلهية تمّت سعادته فى الدارين، وتعجلت راحته، وتنزّه سرّه على الدوام فى رياض عرفانه، وطربت روحه أبدا فى هيجان وجده. أمّا الذين وسموا بالشّرك ففى عقوبة معجّلة وهموم محصّلة. «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ ... » أي لو عاملهم بما استحقوا عاجلا لحلّ الاستئصال بهم، ولكنّ الحكم سبق بإمهالهم، وسيلقون غبّ أعمالهم فى مآلهم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 62] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) انخدعوا لمّا لان لهم العيش، فظنوا أنهم ينجون، وبما يؤمّلونه يحيطون فحسنت فى أعينهم مقابح صفاتهم، ويوم يكشف الغطاء عنهم يعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة، فلا تسمع منهم دعوة، ولا تتعلق بأحدهم رحمة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 63] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أنزل هذه الآية على جهة التسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم وذلك أنه أخبر أن من تقدّمه من الأمم كانوا فى سلوك الضلالة، والانخراط فى سلك الجهالة كما كان من قومه، ولكن الله- سبحانه- لم يعجز عنهم. وكما سوّل الشيطان لأمّته، وكان وليا لهم، فهو ولىّ هؤلاء وأمّا المؤمنون فالله وليّهم، والكافرون لا مولى لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 64] وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) أنت «1» الواسطة بيننا وبين أوليائنا، ولك البرهان الأعلى والنور الأوفى تبلّغ عنّا وتؤدّى منّا، فأنت رحمة أرسلناك لأوليائنا.. فمن تبعك اهتدى، ومن عصاك ففى هلاكه سعى. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 65] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) أحيا بماء التوفيق قلوب العابدين فجنحت إلى جانب الوفاق، وأحيا بماء التحقيق أرواح العارفين فاستروحت على بساط الوصال، وأحيا بماء التجريد أسرار الموحدين فتحررت من رقّ الآثار، وانفردت بحقائق الاتصال. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 66] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) سخّرها لكم، وهيأها للانتفاع بلحمها وشحمها، وجلدها وشعرها ودرّها، وأصلها ونسلها. ثم عجيب ما أظهر من قدرته من إخراج اللبن- مع صفائه، وطعمه ونفعه- من بين الروث «2» والدم، وذلك تقدير العزيز العليم. والذي يقدر على حفظ اللبن بين الروث والدم يقدر على حفظ المعرفة بين وحشة الزّلّة من وجوهها المختلفة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 67] وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)   (1) وردت (آية) وهى خطأ فى النسخ. [ ..... ] (2) الفرث والروث بقايا الطعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 منّ على العباد بما خلق لهم من فنون الانتفاع بثمرات النخيل كالتمر والرطب واليابس.. وغير ذلك. والرزق الحسن ما كان حلالا. ويقال هو ما أتاك من حيث لا تحتسب، ويقال هو الذي لا منّة لمخلوق فيه ولا تبعة عليه. ويقال هو ما لا يعصى الله مكتسبه فى حال اكتسابه. ويقال هو ما لا ينسى الله فيه مكتسبه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) أوحى إلى النحل: أراد به وحي إلهام.. ولما حفظ الأمر وأكل حلالا، طاب مأكله وجعل ما يخرج منه شفاء للناس. ثم إن الله- سبحانه- عرّف الخلق أنّ التفضيل ليس من جهة القياس والاستحقاق إذ أن النحل ليس له خصوصية فى القامة أو الصورة أو الزينة، ومع ذلك جعل منه العسل الذي هو شفاء للناس. والإنسان مع كمال صورته، وتمام عقله وفطنته، وما اختص به الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى.. فأىّ فضيلة للنحل؟ وأىّ ذنب للإنسان؟ ليس ذلك إلا اختياره- سبحانه. ويقال إن الله- سبحانه- أجرى سنّته أن يخفى كلّ شىء عزيز فى شىء حقير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فجعل الإبريسم «1» فى الدود وهو أضعف الحيوانات، وجعل العسل فى النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدّرّ فى الصدف وهو أوحش «2» حيوان من حيوانات البحر، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج فى الحجر ... كذلك أودع المعرفة به والمحبة له فى قلوب المؤمنين وفيهم من يعصى وفيهم من يخطىء «3» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 70] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) خلق الإنسان فى أحسن تركيب، وأملح ترتيب، فى الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، والنور والضياء، والفهم والذكاء. ورزقه من العقل والتفكر، والعلم والتبصر، وفنون المناقب التي خصّ بها من الرأى والتدبير، ثم فى آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودا، ويرى فى كل يوم ألما جديدا. ويقال «مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» : وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق فهو يكون فى أول أحوال عمره مطيعا ثم يصير فى آخر عمره عاصيا. ويقال أرذل العمر أن يرغب فى عنفوان شبابه فى الإرادة، ويسلك طريق الله مدّة، ثم تقع له فترة، فيفسخ عقد إرادته، ويرجع إلى طلب الدنيا. وعند القوم هذه ردّة فى هذا الطريق. ويقال أرذل العمر رغبة الشيخ فى طلب. ويقال أرذل العمر حبّ المرء للرياسة.   (1) الإبريسم- أحسن الحرير (معرب) (الوسيط ح 1 ص 2) . (2) هنا معناها أجوع الحيوان، من قولهم بات وحشا أي جائعا لم يأكل شيئا فحلا جوفه (الوسيط ج 2 ص 6، 10) . (3) ينسجم اتجاه القشيري فى هذه الإشارة مع السياق القرآنى.. إذ يأتى بعد قليل: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» .. وفضل الله بلا علة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ويقال أرذل العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يرضى خصومه. قوله جلّ ذكره: [سورة النحل (16) : آية 71] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) أرزاق المخلوقات مختلفة فمن مضيّق عليه رزقه، ومن موسّع عليه رزقه، ومن أرزاق هى أرزاق النفوس، وأرزاق للقلوب وأرزاق للأرواح، وأرزاق للأسرار فأرزاق النفوس لقوم بتوفيق الطاعات، ولآخرين بخذلان المعاصي. وأرزاق القلوب لقوم حضور القلب باستدامة الفكر، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة. وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم، فيكون بلاؤهم فى محبتهم لأمثالهم. وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقّ، فأمّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 72] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) شغل الخلق بالخلق لأنّ الجنس أولى بالجنس. ولمّا أراد الحقّ- سبحانه- بقاء الجنس هيّأ سبب التناسب والتناسل لاستيفاء مثل الأصل. ثم منّ على البعض بخلق البنين، وابتلى قوما بالبنات- كلّ بتقديره على ما يشاء. قوله جل ذكره: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ والرزق الطيب لعبد ما تستطيبه نفسه، ولآخر ما يستطيبه سرّه. فمنهم من يستطيب مأكولا ومشروبا، ومنهم من يستطيب خلوة وصفوة ... إلى غير ذلك من الأرزاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ» ، وهو حسبان حصول شىء من الأغيار، وتعلّق القلب بهم استكفاء منهم أو استدفاعا لمحذور أو استجلابا لمحبوب. «وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» والنعمة التي كفروا بها هى الثقة بالله، وانتظار الفرج منه، وحسن التوكل عليه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 73] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) ومن يتعلّق بشخص أو بسبب مضاه «1» لعبّاد الأصنام من حيث إنه يضيّع وقته فيما لا يعينه، فالرزق، من الله- فى التحقيق- مقدّر. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 74] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) كيف تضرب الأمثال لمن (لا) «2» يساويه أحد فى الذات والصفات وأحكام الأفعال؟ ومن نظر إلى الحقّ من حيث الخلق «3» وقع فى ظلمات التشبيه، وبقي عن معرفة المعبود. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 75] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) شبّه الكافر بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شىء ولا ملك له فى الشرع، والمؤمن المخلص بمن رزقه الخيرات ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثواب وحسن المآب على ما أنفقه.   (1) فى الهامش هكذا، بينما هى فى النص (معناه) ، والصواب ما جاء فى الهامش أي مماثل. (2) سقطت (لا) والمعنى يتطلبها. (3) أي من حيث مضاهاته بالخلق، ومناظرته بالحدثان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس من كان بنفسه، ملاحظا لأبناء جنسه، متماديا فى حسبان مغاليطه كمن كان مدركا بربّه مصطلما «1» عن شاهده، غائبا عن غيره، والمجرى عليه ربّه ولا حول له إلا به. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 76] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) هذا المثل أيضا للمؤمن والكافر فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجىء منه شىء، ولا يحصل منه نفع، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حوله وقوّته، ولا يعترف إلا بطوله- سبحانه- ومنّته. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 77] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) استأثر الحقّ- سبحانه- بعلم الغيبيات، وسترها على الخلق فيخرج قوما فى الضّلالة ثم ينقلهم إلى صفة الولاية، ويقيم قوما برقم العداوة ثم يردهم إلى وصف الولاية.. فالعواقب مستورة، والخواتيم مبهمة، والخلق فى غفلة عما يراد بهم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 78] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)   (1) الاصطلام: نعت غلبة ترد على المقول فيستلبها بقوة سلطانه وقهره (اللمع ص 450) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 خلقهم من غير أن شاورهم، وأثبتهم- على الوصف الذي أراده- دون أن خيّرهم، ولم يعلموا بماذا سبق حكمهم.. أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدم أخرجهم من من بطون أمهاتهم؟ فلا صلاح أنفسهم علموا، ولا صفة ربّهم عرفوا ثمّ بحكم الإلهام هداهم حتى قبل الصبيّ ثدى أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف. «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ» : لتسمعوا خطابه، «وَالْأَبْصارَ» لتبصروا أفعاله، «وَالْأَفْئِدَةَ» لتعرفوا حقّه، ثم لتشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 79] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) الطائر إذا حلق فى الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط، وقد قامت الدلالة على أن الحقّ- سبحانه- متفرّد بالإيجاد، ولا يخرج حادث عن قدرته، وفى ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 80] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) للنفوس وطن، وللقلوب وطن. والناس على قسمين مستوطن ومسافر: فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم فالمريد أو الطالب مسافر بقلبه لأنه يتلوّن، ويرتقى من درجة إلى درجة، والعارف مقيم ومستوطن لأنه واصل متمكن والطريق منازل ومراحل، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب، والمريد سالك والعارف واصل. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 81] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 فى الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالا.. كذلك جعل فى ظل عنايته لأوليائه مثوى وقرارا. وكما ستر ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم- كذلك ألبس سرائركم لباسا يلفكم به فى السراء والضراء، ولباس العصمة يحميكم من مخالفته، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته، وكساكم بحلل الوصل مما يؤهلكم لقربته، وصحبته. قوله: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ..» ، إتمام النعمة بأن تكون عاقبتهم مختومة بالخير، ويكفيهم أمور الدين والدنيا، ويصونهم عن اتباع الهوى، ويسدّدهم حتى يؤثروا ما يوجب من الله الرضاء. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 82] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) إذا بلّغت الرسالة فما جعلنا إليك «1» حكم الهداية والضلالة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 83] يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) يستوفقون إلى الطاعة، فإذا فعلوا أعجبوا بها «2» .   (1) وردت (إليكم) والخطاب موجه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فالصواب (إليك) . (2) فى هذا الصدد ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله (لما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبى عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟. فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها. فقال: هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشيها ومجريها؟) الرسالة ص 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 ويقال يستغيثون، فإذا أجابهم مقصّروا فى شكره. ويقال إذا وقعت لهم محنة استجاروا بربهم، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة. ويقال يعرفون فى حال توبتهم قبح ما كانوا فيه فى حال زلتهم، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 84] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) إذا كان يوم الحشر سأل الرسل عن أحوال أممهم، فمن نطق بحجة أكرم، ومن لم يدل بحجة لا تراعى له حرمة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 85] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) أي يشدّد عليهم الأمر ولا يسهّل. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 86] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) تمنوا أن ينقموا من إخوانهم الذين عاشروهم، وحملوهم على الزّلّة، فيتبرأون من شركائهم، ويلعن بعضهم بعضا، وتضيق صدورهم من بعض. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 87] وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) استسلموا لأمر الله وحكمه، ويومئذ لا تضرّع منهم يرى، ولا محنة- يصرخون من ويلها- عنهم تكشف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) تأتى- يوم القيامة- كلّ أمة مع رسولها، فلا أمة كهذه الأمة فضلا، ولا رسول كرسولنا صلى الله عليه وسلم رتبة وقدرا. «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» أي القرآن تبيانا لكل شىء، فيه للمؤمنين شفاء، وهو لهم ضياء، وعلى الكافرين بلاء، وهو لهم سبب محنة وشقاء. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 90] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) العدل ما هو صواب وحسن، وهو نقيض الجور والظلم. أمر الله الإنسان بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق فالعدل الذي بينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها، قال تعالى: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» «1» ، وكمال عدله مع نفسه كىّ عروق طمعه. والعدل الذي بينه وبين ربّه إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه، وتقديم رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر. والعدل الذي بينه وبين الخلق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل «2» أو كثر، والإنصاف بكل وجه وألا تشى إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بالهمّ أو العزم.   (1) آية 40 سورة النازعات. (2) وردت (كل) بالكاف وهى خطأ من الناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وإذا كان نصيب العوام بذل الإنصاف وكفّ الأذى فإنّ صفة الخواص ترك الانتصاف، وإسداء الإنعام، وترك الانتقام، والصبر على تحمّل ما يصيبك من البلوى. وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم- والعلم مأمور به- أي العلم بحدوث نفسه، وإثبات محدثه بصفات جلاله، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها. وأما الإحسان فى الفعل فالحسن منه ما أمر الله به، وأذن لنا فيه، وحكم بمدح فاعله. ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقّ وجب عليك حتى لو كان لطير فى ملكك، فلا تقصر فى شأنه. ويقال أن تقضى ما عليك من الحقوق وألا تقتضى لك حقا من أحد. ويقال الإحسان أن تترك كل مالك عند أحد، فأما غير ذلك فلا يكون إحسانا. وجاء فى الخبر: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم. قوله: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إعطاء ذى القرابة، وهو صلة الرّحم، مع مقاساة ما منهم من الجور والجفاء والحسد. يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» : وذلك كلّ قبيح مزجور عنه فى الشريعة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 91] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) يفرض على كافة المسلمين الوفاء بعهد الله فى قبول الإسلام والإيمان، فتجب عليهم استدامة الإيمان. ثم لكلّ قوم منهم عهد مخصوص عاهدوا الله عليه، فهم مطالبون بالوفاء به فالزاهد عهده ألا يرجع إلى الدنيا، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نقض عهده ولم يف به. والعابد عاهده فى ترك الهوى. والمريد عاهده فى ترك العادة، وآثره بكل وجه. والعارف عهده التجرد له، وإنكار ما سواه. والمحب عهده ترك نفسه معه بكل وجه «1» .   (1) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 والموحّد عهده الامتحاء «1» عنه، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد منهىّ عن تقصير عهده، مأمور بالوفاء به. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 92] وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) من نقض عهده أفسد بآخر أمره أوّله، وهدم بفعله ما أسّسه، وقلع بيده ما غرسه، وكان كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا «2» ، أي من بعد ما أبرمت فتله. وإنّ السالك إذا وقعت له فترة، والمريد إذا حصلت له فى الطريق وقفة، والعارف إذا حصلت له حجبة «3» ، والمحبّ إذا استقبلته فرقة- فهذه محن عظيمة ومصائب فجيعة، فكما قيل: فلأبكينّ على الهلال تأسّفا ... خوف الكسوف عليه قبل تمامه فما هو إلا أن تكسف شمسهم، وينطفىء- فى الليلة الظلماء- سراجهم، ويتشتّت من السماء ضياء نجومهم، ويصيب أزهار أنسهم وربيع وصلهم إعصار فيه بلاء شديد، وعذاب أليم. فإنّ الحقّ- سبحانه إذا أراد بقوم بلاء فكما يقول: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «4» » فإنّ آثار سخط الملوك موجعة، وقصة إعراض السلطان موحشة وكما قيل: والصبر يحسن فى المواطن كلها ... إلا عليك- فإنّه مذموم   (1) القشيري مستفيد من قول بعض الشيوخ: المحبة محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته. «الرسالة ص 158» [ ..... ] (2) أنكاثا جمع نكث وهو ما ينكث قتله، وقيل هى ربطة، وكانت حمقاء تغزل هى وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن غزلهن. (3) وردت (محبة) وهى خطأ فى النسخ، وقد اخترنا (حجبة) لأنها أقرب إلى السياق، ومشابهة فى الكتابة لكلمة (محبة) حيث يحتمل أن يحدث الالتباس فى حرف الميم عند النقل. (4) آية 110 سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 هنالك تنسكب العبرات، وتشق الجيوب، وتلطم الخدود، وتعطّل العشار، وتخرّب المنازل، وتسودّ الأبواب، وينوح النائح: وأتى الرسول فأخ ... بر أنهم رحلوا قريبا رجعوا إلى أوطانهم ... فجرى لهم دمعى صبيبا وتركن نارا فى الضلوع ... وزر عن فى رأسى مشيبا قوله جل ذكره: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بلاء كلّ واحد على ما يليق بحاله فمن كان بلاؤه بحديث النّفس أو ببقائه عن هواه، وبحرمانه لكرائمه فى عقباه فاسم البلاء فى صفته مجاز، وإنما هذا بلاء العوام. ولكنّ بلاء الكرام غير هذا فهو كما قيل: من لم يبت- والحبّ ملء فؤاده ... لم يدر كيف تفتّت الأكباد قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 93] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) ليست واقعة القوم بخسران يصيبهم فى أموالهم، أو من جهة تقصيرهم فى أعمالهم ولما ضيّعوه من أحوالهم.. فهذه- لعمرى- وجوه وأسباب، ولكنّ سرّ القصة كما قيل: أنا صب لمن هويت ولكن ... ما احتيالى بسوء رأى الموالي؟ قوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» : لو شاء الله سعادتهم لرحمهم، وعن المعاصي عصمهم، وبدوام الذكر- بدل الغفلة- ألهمهم.. ولكن سبقت القسمة فى ذلك، وما أحسن ما قالوا: شكا إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد حيران.. لو شئت اهتدى ... ظمآن ... نو شئت ورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 94] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) أبعدكم عدم صدقكم فى إيمانكم عن تحققكم ببرهانكم، لأنكم وقفتم على حدّ التردد دون القطع والتعيين، فأفضى بكم تردّدكم إلى أوطان شرككم، إذ الشكّ فى الله والشّرك به قرينان فى الحكم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 95] وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) لا تختاروا على القيام بحقّ الله والوفاء بعهده عوضا يسيرا مما تنتفعون به من حطام دنياكم من حلالكم وحرامكم، فإنّ ما أعدّ الله لكم فى جناته- بشرط وفائكم لإيمانكم- يوفى ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 96] ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) الذي عندكم عرض حادت فان، والذي عند الله من ثوابكم فى مآلكم نعم مجموعة، لا مقطوعة ولا ممنوعة. ويقال ما عندكم أو ما منكم أو ما لكم أفعال معلولة وأحوال مدخولة «1» ، وما عند الله فثواب مقيم ونعيم عظيم ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثار متعاقبة، وأصناف متناوبة، أعيانها غير باقية وإن كانت أحكامها غير باطلة «2» ، والذي يتصف الحقّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفات أزلية ونعوت سرمدية.   (1) أي مصابة بالدّخل (2) لأنها منكم فعلا ومن الله حكما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فمعرّض للزوال، وقابل للانقضاء، وما وصفنا به أنفسا من الإقبال لا يتناهى وأفضال لا تفنى، كما قيل: ألا طال شوق الأبرار إلى لقائى ... وإنى للقائهم لأشدّ شوقا قوله: «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ... » : جزاء الصبر الفوز بالطّلبة، والظّفر بالبغية. ومآلهم فى الطلبات يختلف: فمن صبر على مقاساة مشقة فى الله. فعوضه وثوابه عظيم من قبل الله، قال تعالى: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «1» . ومن صبر عن اتباع شهوة لأجل الله، وعن ارتكاب هفوة مخافة لله فجزاؤه كما قال تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» «2» . ومن صبر تحت جريان حكم الله، متحققا بأنه بمرآة من الله فقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «3» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 97] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) الصالح ما يصلح للقبول، والذي يصلح للقبول ما كان على الوجه الذي أمر الله به. وقوله «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» : فى الحال، «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» : فى المآل فصفاء الحال يستوجب وفاء المآل، والعمل الصالح لا يكون من غير إيمان، ولذا قال: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . ويقال «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي مصدّق بأن إيمانه من فضل الله لا بعمله الصالح. ويقال «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي مصدّق بأن عمله بتوفيق الله وإنشائه وإبدائه. قوله «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» :   (1) آية 10 سورة الزمر. (2) آية 75 سورة الفرقان. (3) صبر العبد مع الله أشد أنواع الصبر ويكون- كما يقول عمرو بن عثمان: بالثبات مع الله، وتلقى بلائه بالرحب والدعة. وصبر الله مع العبد يصفه الشيخ الدقاق بقوله: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله تعالى معيته. (الرسالة ص 93) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 الفاء للتعقيب، «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ... » الواو للعطف ففى الأولى معجّل، وفى الثانية مؤجّل، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يعرف بالنطق، وإنما يعرف ذلك بالذوق فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة، وقوم قالوا إنه القناعة، وقوم قالوا إنه الرضا، وقوم قالوا إنه النجوى، وقوم قالوا إنه نسيم القرب ... والكل صحيح ولكلّ واحد أهل. ويقال الحياة الطيبة ما يكون مع المحبوب، وفى معناه قالوا: نحن فى أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتمّ السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى ... أنكم غيّب ونحن حضور ويقال الحياة الطيبة للأولياء ألا تكون لهم حاجة ولا سؤال ولا أرب ولا مطالبة وفرق بين من له إرادة فترفع وبين من لا إرادة له فلا يريد شيئا «1» ، الأولون قائمون بشرط العبودية، والآخرون معتقون بشرط الحرية. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 98] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) شيطان كلّ واحد ما يشغله عن ربه، فمن تسلّطت عليه نفسه حتى شغلته عن ربه ولو بشهود طاعة أو استحلاء عبادة أو ملاحظة حال- فذلك شيطانه. والواجب عليه أن يستعيذ بالله من شرّ نفسه، وشرّ كل ذى شر. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 99] إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) أنّى يكون للشيطان سلطان على العبد والحقّ- سبحانه- متفرّد بالإبداع، متوّحد بالاختراع؟. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 100] إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) .   (1) فى هذا الصدد يقول القشيري فى رسالته: «والمريد- على موجب الاشتقاق- من له إرادة كالعالم من له علم لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد فى عرف هذه الطائفة من لا إرادة له فمن يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا. (الرسالة ص 101) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 إنما سلطانه على الذين هم فى غطاء غفلهم، وسر ظنونهم ومشتبهاتهم فأمّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثات بالله ظهورها، ومن الله ابتداؤها، وإلى الله مآلها وانتهاؤها. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 102] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ما ازدادوا فى طول مدتهم إلا شكا على شك، وجحدا على جحد، وجروا على منهاجهم فى التكذيب، فلم يصدّقوه صلى الله عليه وسلم، وما زادوا فى ولايته إلا شكا ومرية: وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ: ردّ على فرط جهلهم بربهم، وبعد رتبتهم عن التحصيل، فلمّا كانوا متفرقين فى شهود الملك ردّوا فى حين التعريف إليهم بذكر الملك. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 103] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) لم يستوحش الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تكذيبهم، وخفاء حاله وقدره عليهم.. وأىّ ضرر يلحق من كانت مع السلطان مجالسته إذا خفيت على الأخسّ من الرعية حالته؟ ثم إنه أقام الحجة فى الردّ عليهم حيث قال: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» : فمن فرط جهلهم توهموا أنّ هذا القرآن- الذي عجز كافة الخلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 عن معارضته فى فصاحته وبلاغته- مقول وحاصل باتصاله بمن هو أعجمى النطق «1» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 104] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إنّ من سبقت بالشقاوة قسمته لم تتعلق من الحق- سبحانه- به رحمته، ومن لم يهده الله فى عاجله إلى معرفته لا يهديه الله فى آجله إلى جنته. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 105] إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) هذا من لطائف المعاريض إذ لمّا وصفوه- عليه السلام- بالافتراء أنار الحقّ- سبحانه- فى الجواب، فقال: لست أنت المفترى إنما المفترى من كذّب معبوده وجهل توحيده. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 106] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) إذا علم الله صدق عبده بقلبه، وإخلاصه فى عقده، ولحقته ضرورة فى حاله خفّف عنه حكمه، ودفع عنه عناءه فلا يلفظ بكلمة الكفر إلا مكرها- وهو موحّد، وهو مستحق العذر فيما بينه وبين الله تعالى «2» ... وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم،   (1) أرادوا به غلاما كان لحويطب اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب، أو هو جبر غلام رومى لعامر بن الحضرمي وكان يقرأ التوراة والإنجيل، أو سلمان الفارسي.. وكلهم أعاجم. (2) ومن أمثال ذلك عمار بن ياسر الذي جرت كلمة الكفر على لسانه مكرها وهو معتقد الإيمان، وأتى رسول الله وهو يبكى، فجعل الرسول بمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» . وكان يقول عنه: «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وتجردوا لسلوك طريق الله ثم عرضت لهم أسباب، واتفقت لهم أعذار كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغال أو إلى شىء من العلوم رجوع.. لم يكن ذلك قادحا فى صحة إرادتهم، ولا يعدّ ذلك فسخا لعهودهم، ولا ينفى بذلك عنهم سمة القصد إلى الله تعالى. أمّا «مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» : فرجع باختياره، ووضع قدما- كان قد رفعه فى طريق الله- بحكم هواه فقد نقض عهد إرادته، وفسخ عقده، وهو مستوجب ( ... ) «1» إلى ( ... ) «2» تتداركه الرحمة. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 107] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) السالك إذا اثر (الحظوظ) «3» على الحقوق بقي عن الله، ولم يبارك له فيما آثره على حقّ الله، ولقد قالوا: قد تركناك والذي تريد ... فعسى أن تملهم فتعود قوله جل ذكره [سورة النحل (16) : آية 108] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) إذا تمادى فى غفلته، ولم يتدارك حاله بملازمة حسرته، ازداد قسوة على قسوة، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة، وكما قال جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 109] لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) هم فى الآخرة محجوبون، وبذلّ البعد موسومون.   (1) مشتبهة (2) مشتبهة. (3) سقطت هذه اللفظة والسياق يتطلبها، فأثبتناها حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى المقابلة بين حظوظ النفس وحقوق الحق. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 قوله جل ذكره [سورة النحل (16) : آية 110] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) ومن صبر حين عزم الأمر، ولم يجنح إلى جانب الرّخص، وأخذ فى الأمور بالأشقّ أكرم الله حقّه، وقرّب مكانه، ولقّاه فى كل حالة بالزيادة، وربحت صفقته حين خسر أشكاله، وتقدّم على الجملة وإن قلّ احتياله. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 111] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) غدا كلّ مشغول بنفسه، ليس له فراغ إلى غيره. وعزيز عبد لا يشتغل بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان بحال لقى الله بها» . إنما يكون الفارغ غدا من كان اليوم فارغا، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمام بنفسه. والمؤمن لا نفس له قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» «1» اشتراها الحقّ منهم، وأودعها عندهم، فليس لهم فيها حق، وإنما يراعون فيها أمر الحق. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 112] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) فراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبد بهذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرف فى فساد الشهوة، شوّش الله عليه قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء وقته لأنّ طوارق النفس توجب عزوب شوارق القلب، وفى الخبر: إذا أقبل الليل من   (1) آية 111 سورة التوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 هاهنا أدبر النهار من هاهنا» . وكذلك القلب إذا انقطع عنه معهود ما كان الحقّ أتاحه له أصابه عطش شديد ولهب عظيم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 113] وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) كما جاءهم الرسول جهرا فإنه تتأدّى إليهم من قبل خواطرهم إشارات تترى «1» ، فمن لم يستجب لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق «2» أخذه العذاب من حيث لا يشعر. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 114] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) الحلال الطيب ما يتناوله العبد على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب فى ترك الشبهة «3» ، وحقيقة الشكر على النعمة الغيبة عن شهود النعمة بالاستغراق فى شهود المنعم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 115] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) يباح تناول المحرمات عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع، ولا يرخّص فى ذلك إلا على أوصاف مخصوصة، وبقدر ما يسدّ الرّمق، كذلك عند استهلاك العبد بغلبات الحقيقة لا بد من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه، ثم لا يمكّن من التعريج فى أوطان التفرقة والتمييز بعد مضى أوقات الصحو من أجل أداء الشرع «4» ، كما قيل:   (1) تترى أي تتابع، وربما كانت (سرا) لتقابل جهرا (2) أي إعتاق النفس وتحريرها من رق الشهوات (3) وردت (الشدة) والصواب- حسب ما يقول القشيري في مواضع مماثلة- أن تكون (الشبهة) (4) هذه هى حالة الفرق الثاني التي تتخلل حالة جمع الجمع، وفيها يرد العبد إلى الصحو عند أوقات الفرائض ويكون رجوعه لله بالله لا للعبد بالعبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 فإن تك منه غيبة بعد غيبة ... فإنّ إليه بالوجود إيابي قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117] وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) الصدق فى كل شىء أولى «1» من الكذب، وكثير من أقوالهم فى الاعتراض عينّات «2» من الكذب. والصّدّيق لا يكذب صريحا، ولا يتداول أقوال كاذب مهين. وصاحب الكذب تظهر عليه المذلّة لما هو فيه من الزلّة، وله فى الآخرة عذاب أليم «3» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 118] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) بيّن أنه أوضح لمن تقدّم الحلال والحرام، فمنهم من أتى بما أمر به ومنهم من خالف.. وكلّ عومل بما استوجبه فمن أطاع قلبه قرّبه، ومن عصى ردّه وحجبه. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 119] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) .   (1) وردت (أولا) وهى خطا فى النسخ. (2) عينات جمع عينة وهى نموذج من أصل الشيء ومادته (الوسيط) (3) قمنا هنا ببعض إصلاحات طفيفة نظرا لانبهام الخط ورداءته، ووجود بعض حروف تعجز المطبعة عن نقلها كما هى فى الرسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 إذا ندموا على قبيح ما قدّموا، وأسفوا على كثير مما أسلفوا وفيه أسرفوا، ومحا صدق عبرتهم آثار عثرتهم- نظر الله إليهم بالرحمة، فتاب عليهم إذا أصلحوا، ونجّاهم إذا تضرّعوا. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 120] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) قيل آمن بالله وحده فقام مقام الأمة، وفى التفسير: كان معلّما- للخير- لأمة. ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون فى أمة متفرقا. ويقال لمّا قال إبراهيم لكلّ ما رآه: «هذا رَبِّي» ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هى بل كان مستهلكا فى شهود الحقّ، ورأى الكون كلّه بالله، وما ذكر حين ذكر غير الله.. كذلك كان جزاء الحق فقال: أنت الذي تقوم مقام الكلّ، ففى القيام بحق الله منك على الدوام غنية عن الجميع. و «الحنيف» : المستقيم فى الدّين، أو المائل إلى الحق بالكلية «1» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 121] شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) الشاكر فى الحقيقة- من يرى عجزه عن شكره، ويرى شكره من الله عزّ وجل، لتحقّقه أنه هو الذي خلقه، وهو الذي وفّقه لشكره، وهو الذي رزقه الشكر، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له- سبحانه. «وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي تحقّق بأنه عبده، وأنه رقّاه إلى محلّ الأكابر. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 122] وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) الحسنة التي آتاه الله هى دوام ما أتاه حتى لم تنقطع عنه.   (1) الحنيف- فى اللغة- من الأضداد- المائل والمستقيم (ابن الأنباري فى كتاب الاضداد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ويقال هى الخلة. ويقال هى النبوة والرسالة. ويقال آتيناه فى الدنيا حسنة حتى كان لنا بالكلية، ولم تكن فيه لغير بقية. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 123] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» أي الكون بالحق، والامتحاء «1» عن شاهد نفسه فكان نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى اتباعه ابراهيم مؤتمرا بأمر الله. وكانت ملة إبراهيم- عليه السلام- الخلق والسخاء والإيثار والوفاء، فاتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم وزاد عليه، فقد زاد على الكافة شأنه، وبانت مزيّته. قوله جل ذكره [سورة النحل (16) : آية 124] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) قوم حرّموا العمل فيه وقوم حللوه معصية منهم، وقيل جعل الجمعة لهم فقالوا: لا نريد إلا يوم السبت.. فهذا اختلافهم فيه. والإشارة من ذلك أنهم حادوا «2» عن موجب الأمر، ومالوا إلى جانب هواهم. ثم أنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 125] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) .   (1) وردت (الامتحان) وهى خطأ فى النسخ. (2) وردت (جادوا) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الدعاء إلى سبيل الله بحثّ «1» الناس على طاعة الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله. والدعاء بالحكمة ألا يخالف بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق. والموعظة الحسنة ما يكون صادرا عن علم وصواب، ولا يكون فيها تعنيف. «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» : بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح. قال تعالى: «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» «2» : فشرط الأمر بالمعروف استعمال ما تأمر به، والانتهاء عما تنهى عنه «3» . قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 127] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إذا جرى عليكم ظلم من غيركم وأردتم الانتقام.. فلا تتجاوزوا حدّ الإذن بما هو فى حكم الشرع. «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» : فتركتم الانتصاف لأجل مولاكم فهو خير لكم إن فعلتم ذلك. والأسباب التي قد يترك لأجلها المرء الانتصاف مختلفة فمنهم من يترك ذلك طمعا فى الثواب غدا فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعا فى أن يتكفّل الله بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مكتف بعلم الله تعالى بما يجرى عليه، ومنهم من يترك ذلك لكرم نفسه، وتحرّره عن الأخطار ولاستحبابه العفو عند الظّفر، ومنهم من لا يرى لنفسه حقا، ولا يعتقد أنّ لأحد هذا الحق فهو على عقد إرادته بترك نفسه فملكه مباح ودمه هدر. ومنهم من ينظر إلى خصمه- أي المتسلط عليه- على أنّ فعله جزاء على ما عمله هو من مخالفة أمر الله، قال تعالى: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» «4» . فاشتغاله باستغفاره عن جرمه يمنعه عن انتصافه من خصمه. قوله جل ذكره: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ   (1) وردت (بحيث) وهى خطأ فى النسخ. (2) آية 88 سورة هود. (3) أي تكون أنت قدوة فيما تدعو إليه من أوامر وما تنهى عنه من زواجر. [ ..... ] (4) آية 30 سورة الشورى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 «وَاصْبِرْ» تكليف، «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» : تعريف. «وَاصْبِرْ» تحقق بالعبودية «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» إخبار عن الربوبية. «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ..» أي طالع التقدير، فما لا نجعل له خطرا عندنا لا ينبغى أن يوجب أثرا فيك فمن أسقطنا قدره فاستصغر أمره. وإذا عرفت انفرادنا بالإيجاد فلا يضيق قلبك بشدة عداوتهم، فإنّا ضمنّا كفايتك، وألا نشمتهم بك، وألا نجعل لهم سبيلا إليك. قوله جل ذكره: [سورة النحل (16) : آية 128] إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة. «الَّذِينَ اتَّقَوْا» رؤية النصرة من غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحول والقوة. والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، وهذه حال المشاهدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 بسم الله الرحمن الرحيم « ... أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها، والحقّ- سبحانه- منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة.. جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية. ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدينا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجزلنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكا فينا غليلا، مهدّنا له فى دار فضلنا مقيلا» عبد الكريم القشيري عند سورة الكهف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 السورة التي يذكر فيها بنو إسرائيل «1» قوله تعالى وتقدّس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كلمة ما سمعها عابد إلّا شكر عصمته، وما سمعها مالك إلا وجد رحمته، وما تحقّقها عارف إلّا تعطر قلبه بنسيم قربته، وما شهدها موحّد إلا تقطّر دمه لخوف فرقته. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه فقال: «سُبْحانَ الَّذِي..» : الحقّ سبّح نفسه بعزيز خطابه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قدره، وعن توحّده بعلوّ نعوته. ولمّا أراد أن يعرف العباد ما خصّ به رسوله- صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج من علوّ ما رقّاه إليه، وعظم ما لقّاه به أزال الأعجوبة بقوله: «أَسْرى» ، ونفى عن نبيّه خطر الإعجاب بقوله: «بِعَبْدِهِ» لأنّ من عرف ألوهيته، واستحقاقه لكمال العزّ فلا يتعجّب منه أن يفعل ما يفعل. ومن عرف عبودية نفسه، وأنّه لا يملك شيئا من أمره فلا يعجب بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نفى التعجّب من إظهار فعل الله عزّ وجل، ونفى الإعجاب فى وصف رسول الله عليه السلام. ويقال أخبر عن موسى عليه السلام- حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة-   (1) يقول السيوطي فى الإتقان: «وتسمى أيضا سورة الإسراء، وسورة سبحان وسورة بنى إسرائيل» الإتقان ط الحلبي سنة 1951 ح 1 ص 54. أما القاضي البيضاوي (ص 370) فيقول: سورة بنى إسرائيل أو سورة «أَسْرى» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 فقال: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» «1» ، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه «أَسْرى بِعَبْدِهِ» وليس من جاء بنفسه كمن أسرى به ربّه، فهذا متحمّل وهذا محمول، هذا بنعت الفرق وهذا بوصف الجمع، هذا مريد وهذا مراد. ويقال جعل المعراج بالليل عند غفلة الرّقباء وغيبة الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أهبة واستعداد، كما قيل: «2» ويقال جعل المعراج بالليل ليظهر تصديق من صدّق، وتكذيب من تعجّب وكذّب أو أنكر وجحد. ويقال لما كان تعبّده صلى الله عليه وسلم وتهجّده بالليل جعل الحقّ سبحانه المعراج بالليل ويقال: ليلة الوصل أصفى ... من شهور ودهور سواها ويقال أرسله الحقّ- سبحانه- ليتعلّم أهل الأرض منه العبادة، ثم رقّاه إلى السماء ليتعلّم الملائكة منه آداب العبادة، قال تعالى في وصفه- صلى الله عليه وسلم-: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» «3» ، فما التفت يمينا ولا شمالا، وما طمع فى مقام ولا فى إكرام تجرّد عن كلّ طلب وأرب. قوله: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» : كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كشف بالذات. ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله- سبحانه- شىء فى جلاله وجماله، وعزّه وكبريائه، ومجده وسنائه ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عرف به صلوات الله عليه- أنه ليس أحد من الخلائق مثله فى نبوته ورسالته وعلوّ حالته وجلال رتبته.   (1) آية 143 سورة الأعراف. (2) هنا شاهد شعرى مضطرب فى الكتابة، وأكثر أجزائه سلامة هو: والناس عما نحن فيه بمعزل. (3) آية 17 سورة النجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 2] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنّ نبيّنا- صلوات الله عليه- كان أوفى- سماعا، فإنّ الشمس فى طلوعها وإشراقها تكون أقرب ممن طلعت له من حقائقها. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 3] ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) أي يا ذرية من حملنا مع نوح- على النداء.. إنه كان عبدا شكورا. والشكور الكثير الشكر وكان نوح قد لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وكان يضرب فى كل ( ... ) «1» كما فى القصة- سبعين مرة، وكان يشكر. كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه: أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، وأمر حين دعا عليهم فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» . ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيق الله له لشكره، ولا يتقاصر عن شكره لنعمه. ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه فى سبيل الله ولا يدّخره، ويشكر بنفسه فيستعملها فى طاعة الله، ولا يبقى شيئا من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبه ربّه فلا تأتى عليه ساعة إلا وهو يذكره. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 4] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)   (1) مشتبهة. (2) آية 26 سورة نوح ويكون المراد أنه لم يدع بإهلاكهم نتيجة نفاد صبره أو عدم شكره بل حسبما أمره الله، ولو وضعنا الفاصلة بعد (وأمر) يكون المعنى: إلا من قد آمن وأمر بالايمان. وهذا التأويل لا يتعارض مع المذهب العام للقشيرى، فكل شىء عنده بأمر الله وتوفيقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 القضاء هاهنا بمعنى الإعلام، والإشارة فى تعريفهم بما سيكون فى المستأنف منهم وما يستقبلهم، ليزدادوا يقينا إذا لقوا ما أخبروا به، وليكون أبلغ فى إلزام الحجّة عليهم، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم، وليعلموا أن ما سبق به القضاء فلا محالة يحصل وإن ظنّ التباعد عنه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 5] فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) إن الله سبحانه يعدّ أقواما لأحوال مخصوصة حتى إذا كان وقت إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 6] ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) يدلّ على أنه مقدّر أعمال العباد، ومدبّر أفعالهم فإنّ انتصارهم على أعدائهم من جملة أكسابهم، وقد أخبر الحقّ أنه هو الذي تولّاه بقوله: «رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ... » قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 7] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 إن أحسنتم فثوابكم كسبتم، وإن أسأتم فعداءكم جلبتم- والحقّ أعزّ من أن يعود إليه من أفعال عباده زين أو يلحقه شين. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 8] عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) كلمة «عَسى» فيها ترجية وإطماع، فهو- سبحانه- وقفهم على حد الرجاء والأمل، والخوف والوجل. وقوله «عَسى» : ليس فيه تصريح بغفرانهم ورحمتهم، وإنما فيه للرجاء موجب قوىّ فبلطفه وعد أن يرحمكم. قوله جل ذكره: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي إن عدتم إلى الزّلّة عدنا إلى العقوبة، وإن استقمتم فى التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة. ويقال إن عدتم إلى نقض العهد عدنا إلى تشديد العذاب. ويقال إن عدتم للاستجارة عدنا للإجارة. ويقال إن عدتم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء. ويقال إن عدتم إلى ما يليق بكم عدنا إلى ما يليق بكرمنا. «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ، لأنهم ( .... ) «1» وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين. و «حَصِيراً» أي محبسا ومصيرا. فالمؤمن- وإن كان صاحب ذنوب وإن كانت كبيرة- فإنّ من خرج من دنياه على إيمانه فلا محالة يصل يوما إلى غفرانه.   (1) هنا بياض فى النسخة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 9] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) القرآن يدل على الحقّ والصواب. و «أَقْوَمُ» : هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير فالقرآن يدل على الحق والصواب، ولكنّ الخلل من جهة المستدلّ لا الدليل، إذ قد يكون الدليل ظاهرا ولكنّ المستدلّ معرض، وبآداب النظر مخلّ، فيكون العيب فى تقصيره لا فى قصور الدليل «1» . القرآن نور من استضاء به خلص من ظلمات جهله، وخرج من غمار شكّه. ومن رمدت عيون نظره التبس رشده. ويقال الحول ضرره أشدّ من العمى لأنّ الأعمى يعلم أنه ليس يبصر فيتبع قائده، ولكن الأحوال يتوهّم الشيء شيئين، فهو بتخيّله وحسبانه يمارى من كان سليما.. كذلك المبتدع إذا سلك طريق الجدل، ولم يضع النظر موضعه بقي فى ظلمات جهله، وصال بباطل دعواه على خصمه، كما قيل: بأطراف المسائل كيف يأتى ... - ولا أدرى لعمرك- مبطلوها؟ قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 11] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) من الأدب فى الدعاء ألّا يسأل العبد إلّا عند الحاجة «2» ، ثم ينظر فإنّ كان شىء لا يعنيه ألا يتعرّض له فإنّ فى الخبر «3» : «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» . ثم من آداب الداعي إذا سأل من الله حاجته ورأى تأخيرا فى الإجابة ألا يتّهم الحقّ- سبحانه- ويجب أن يعلم   (1) هذا نموذج مصغر لأسلوب القشيري الجدلي. (2) وردت (نجاحه) وهى خطأ فى النسخ. (3) وردت (الخير) بالياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 أن الخير فى ألا يجيبه، والاستعجال- فيما يختاره العبد- غير محمود، وأولى الأشياء السكون والرضا بحكمه سبحانه، إن لم يساعده الصبر وسأل فالواجب ترك الاستعجال، والثقة بأنّ المقسوم لا يفوته، وأنّ اختيار الحقّ للعبد خير له من اختياره لنفسه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 12] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) جعل الليل والنهار علامة على كمال قدرته، ودلالة على وجوب وحدانيته فى تعاقبهما وتناوبهما، وفى زيادتهما ونقصانهما. ثم جعلهما وقتا صالحا لإقامة العبادة، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته فالعبادة شرطها الدوام والاتصال، والوظائف حقّها التوفيق والاختصاص ولو وقع فى بعض العبادات تقصير أو حصل فى أداء بعضها تأخير تداركه بالقضاء حتى يتلافى التقصير. ويقال من وجوه الآيات فى الليل والنهار إفراد النهار بالضياء من غير سبب، وتخصيص الليل بالظلام بغير أمر مكتسب «1» ، ومن ذلك قوله تعالى: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» : وهو اختلاف أحوال القمر فى إشراقه ومحاقه، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة، بل هو فى كل ليلة فى منزل آخر، إما بزيادة أو بنقصان. وأمّا الشمس فحالها الدوام.. والناس كذلك أوصافهم فأرباب التمكين الدوام شرطهم، وأصحاب التلوين التنقل «2» حقّهم، قال قائلهم: ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحير الألباب دون نزوله   (1) أي أن أفعال الله بمخلوقاته لا تخضع لعلة أو سبب، أو حيلة أو كسب. (2) يقصد بالتنقل هنا التقلب فى الأحوال.. وليس التنقل من مكان إلى مكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 13] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) ألزم كلّ أحد ما لبس بجيده. فالذين هم أهل السعادة أسرج لهم مركب التوفيق، فيسير بهم إلى ساحات النجاة، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مطيّة الخذلان فأقعدتهم عن النهوض نحو منهج الخلاص، فوقعوا فى وهدة الهلاك. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 14] اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) من ساعدته العناية الأزلية حفظ عند معاملاته مما يكون وبالا عليه يوم حسابه، ومن أبلاه بحكمه ردّه وأمهله، ثم تركه وعمله، فإذا استوفى أجله عرف ما ضيّعه وأهمله، ويومئذ يحكّمه فى حال نفسه، وهو لا محالة يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عند ما يتحقق من قبيح أعماله.. فكم من حسرة يتجرّعها، وكم من خيبة يتلقّاها! ويقال من حاسبه بكتابه فكتابه ملازمه فى حسابه فيقول: ربّ: لا تحاسبنى بكتابي.. ولكن حاسبني بما قلت: إنّك غافر الذّنب وقابل التوب.. لا تعاملنى بمقتضى كتابى ففيه بواري وهلاكى قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 15] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) قضايا أعمال العبد مقصورة عليه إن كانت طاعة فضياؤها لأصحابها، وإن كانت زلّة فبلاؤها لأربابها. والحقّ غنىّ مقدّس، أحدى منزّه. قوله جل ذكره: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا كلّ مطالب بجريرته. وكلّ نفس تحمل أوزارها لا وزر نفس أخرى.. «وَما كُنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» : دلّ ذلك على أن الواجبات إنما تتوجّه من حيث السمع «1» . قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 16] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) إذا كثر أهل الفساد غلبوا، وقلّ أهل الصلاح وفقدوا فعند ذلك (يغمر) «2» الله الخلق ببلائه، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا فى بابهم، ولا فيهم من يبتهل إلى الله فيسمع دعاؤه، فيخترم «3» أولياءه، ويبقى أرباب الفساد، وعند ذلك يشتدّ البلاء وتعظم المحن إلى أن ينظر الله تعالى إلى الخلق نظر الرحمة والمنّة. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 17] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) فى الآية تسلية للمظلومين إذا استبطأوا هلاك الظالمين، و ( ... ) «4» قصر أيديهم عنهم. فإذا فكّروا فيما مضى من الأمم أمثالهم وكيف بنوا مشيدا، وأمّلوا بعيدا.. فبادوا جميعا، يعلمون أنّ الآخرين- عن قريب- سينخرطون فى سلكهم، ويمتحلون بمثل شأنهم. وإذا أظلّتهم سحب الوحشة فاءوا إلى ظلّ شهود التقدير، فتزول عنهم الوحشة، وتطيب لهم الحياة، وتحصل الهيبة. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 18] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18)   (1) نظن أن القشيري يريد بذلك أن يرد على بعض أهل الكلام الذين يقولون إن الله يعذب الناس على ذنوبهم حتى ولو لم يبعث لهم رسولا لأن عقل الإنسان مطالب بالتكليف قبل سماع الرسل. [ ..... ] (2) وردت (يعمر) بالعين والصواب أن تكون بالغين لأن السياق يتطلب ذلك. (3) وردت (فيحترم) بالحاء والسياق يتطلب أن الله (يخترم) أولياءه أي يأخذهم إليه. (4) مشتبهة، وترجح أنها كلمة تؤدى إلى معنى (وأحسوا) قصر أيديهم عن الظالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 من رضى بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بقي عن نفيس الآخرة، ثم لا يحظى إلا بقدر ما اشتمّه، ثم يكون آنس ما به قلبا وأشدّ ما يكون به سكونا.. ثم يختطف عن نعمته، ولا يخصه بشىء مما جمع من كرائمه، ويمنعه من قربه فى الآخرة.. ولقد قيل: يا غافلا عن سماع الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت من لم تزل نعمته عاجلا ... أزاله عن نعمته الموت قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 19] وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) علامة من أراد الآخرة- على الحقيقة- أن يسعى لها سعيها فإرادة الآخرة إذا تجرّدت عن العمل لها كانت مجرد إرادة، ولا يكون السعى مشكورا. قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» : أي فى المآل كما أنه مؤمن فى الحال. ويقال وهو مؤمن أنّ نجاته بفضله لا بسببه. «فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» أي مقبولا، ومع القبول يكون التضعيف والتكثير فكما أن الصدقة يربيها كذلك طاعة العبد يكثّرها وينّميها. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 20] كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) يجازى كلا بقدرة فلقوم نحاة ولقوم درجات، ولقوم سلامة ولقوم كرامة، ولقوم مثوبته، ولقوم قربته. قوله جل ذكره [سورة الإسراء (17) : آية 21] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) التفضيل على أقسام، فالعبّاد فضّل بعضهم على بعض ولكن فى زكاء أعمالهم، والعارفون فضّل بعضهم على بعض ولكن فى صفاء أحوالهم، وزكاء الأعمال بالإخلاص، وصفاء الأحوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 بالاستخلاص فقوم تفاضلوا بصدق القدم، وقوم تفاضلوا بعلوّ الهمم والتفضيل فى الآخرة أكبر: فالعبّاد تفاضلهم بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم لترون أهل علّيين كما ترون الكوكب الدرىّ فى أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم» وأهل الحضرة تفاضلهم بلطائفهم من الأنس بنسيم القربة بما لا بيان يصفه ولا عبارة، ولا رمز يدركه ولا إشارة. منهم من يشهده ويراه مرة فى الأسبوع، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة، فهم يجتمعون فى الرؤية ويتفاوتون فى نصيب كلّ أحد، وليس كلّ من يراه يراه بالعين التي بها يراه صاحبه، وأنشد بعضهم «1» : لو يسمعون- كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 22] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) الذي أشرك بالله أصبح مذموما من قبل الله، ومخذولا من قبل (من) «2» عبده من دون الله. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 23] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) أمر بإفراده- سبحانه- بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبد منها، وأن يكون مغلوبا باستيلاء سلطان الحقيقة عليه بما يحفظه عن شهود عبادته «3» وأمر بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقّهما، والوقوف عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما،   (1) البيت لكثير صاحب عزة. (2) سقطت (من) والسياق يتطلبها، والخذلان ناجم عن أنّ أي معبود غير الله لا يملك لمن يعبده نفعا ولا يدفع عنه ضرا. (3) فاخلاص العبد فى التحقق يحفظه عن التقصير فى أمور الشريعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحسن عشرتهما ورعاية حرمتهما، وألا يبدى شواهد الكسل عند أوامرهما، وأن يبذل المكنة فيما يعود إلى حفظ قلوبهما ... هذا فى حال حياتهما، فأمّا بعد وفاتهما فبصدّق الدعاء لهما، وأداء الصدقة عنهما، وحفظ وصيتهما على الوجه الذي فعلاه، والإحسان إلى من كان من أهل ودّهما ومعارفهما. ويقال إنّ الحقّ أمر العباد بمراعاة حقّ الوالدين وهما من جنس العبد.. فمن عجز عن القيام بحقّ جنسه أنّى له أن يقوم بحقّ ربه؟ قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 24] وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) اخفض لهما جناح الذّلّ بحسن المداراة ولين المنطق، والبدار إلى الخدمة، وسرعة الإجابة، وترك البرم بمطالبهما، والصبر على أمرهما، وألا تدّخر عنهما ميسورا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 25] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) إذا علم الله صدق قلب عبد أمدّه بحسن الأمجاد، وأكرمه بجميل الامتداد «1» ، ويسّر عليه العسير من الأمور، وحفظه عن الشرور، وعطف عليه قلوب الجمهور. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 26] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إيتاء الحقّ يكون من المال ومن النّفس ومن القول ومن الفعل، ومن نزل على اقتضاء حقّه، وبذل الكلّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقّ سبحانه بأمره.   (1) أي الاستدامة والاستمرار دون وقفة أو فترة- وتلك من أعظم المنن فى نظر القشيري، وقد قال الرسول (ص) : «خير العمل أدومة وإن قل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 والتبذير مجاوزة الحدّ عمّا قدّره الأمر والإذن. وما يكون لحظّ النّفس- وإن كان سمسمة- فهو تبذير، وما كان له- وإن كان الوفاء بالنّفس- فهو تقصير. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 27] إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) إنما كانوا إخوان الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم، وجروا فى طريقهم على دواعى الشياطين ووساوسهم، ولمّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوان الشياطين. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 28] وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) إن لم يساعدك الإمكان على ما طالبوك من الإحسان فاصرفهم عنك بوعد جميل إن لم تسعفهم بنقد جزيل. وإنّ وعد الكرام أهنأ من نقد اللئام «1» . قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 29] وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) لا تمسك عن الإعطاء فتكدى «2» ، ولا تسرف فى البذل بكثرة ما تسدى، واسلك بين الأمرين طريقا وسطا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 30] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) إذا بسط لا تبقى فاقة، وإذا قبض استنفد كلّ طاقة «3» .   (1) وردت (الأيام) وقد أثبتنا (اللئام) فيها يقوى المعنى وتستقيم المقابلة. (2) تكدى أي تبخل، قال تعالى: «وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى» . (3) واضح أن القشيري يوجه الإشارة إلى رزق الأحوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 31] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) من عرف أنّ الرازق هو الله خفّ عن قلبه همّ العيال «1» - وإن كثروا، ومن خفى عليه أنه قسّم- قبل الخلق- أرزاقهم تطوح فى متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبدن ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 32] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) ترجّح «2» الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييع حرمة الحقّ، وهتك حرمة الخلق، ثم لما فيه من الإخلال بالنّسب، وإفساد ذات البين «3» من مقتضى الأنفة والغضب. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 33] وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق. وكما أنّ قتل النّفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرّم فكذلك القصد إلى هلاك المرء محرّم. ومن انهمك فى مخالفة ربه فقد سعى فى هلاك نفسه. «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي تسلطا على القاتل فى الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة: إن النصرة من قبل الله ومنصور الحقّ لا تنكسر سنانه، ولا تطيش سهامه «4» .   (1) وردت (القيال) بالقاف وهى خطأ فى النسخ. (2) ترجح زاد وثقل. (3) وردت (اليمين) وهى خطأ فى النسخ (4) وردت (شهامه) بالشين وهى خطا فى النسخ [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 34] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) لمّا لم يكن لليتيم من يهتم بشأنه أمر- سبحانه- الأجنبيّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سبب أن يتولّى أمره، ويقوم بشأنه، وأوصاه فى بابه فالصبيّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى «1» ، والولىّ ساع بمقاساة العنا.. فأمر الحقّ- سبحانه- للولىّ أحظى للصبيّ من شفقة آله عليه فى حال حياتهم «2» . قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 35] وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) كما تدين تدان، وكما تعامل تجازى، وكما تكيل يكال لك، وكما تكونون يكون عليكم، ومن وفى وفوا له، ومن خان خانوا معه، وأنشدوا: أسأنا فساءوا.. عدل بلا حيف ... ولو عدلنا لخلّصنا من المحن قوله جل ذكره [سورة الإسراء (17) : آية 36] وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) إذا غلبت عليك مجوّزات الظنون، ولم يطلعك الحقّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان، وإذا أشكل عليك شىء من أحكام الوقت فارجع إلى الله فإن لاح لقلبك وجه من الدليل على حدّ الالتباس فكل علمه إلى الله، وقف حيثما وقفت.   (1) الهوينى- الخفض والدعة (2) ما يقوله القشيري فى حالة اليتيم يتصرف- كما هو واضح- على حالة المريد بالنسبة لشيخه فالمريد يجد من شيخه مالا يجده عند ذويه، ذلك يربى الأرواح وهؤلاء يربون الأشباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أنّ العلماء يعرفون الشيء أولا ثم يعلمون بعلمهم، وأصحاب الحقّ يجرى عليهم بحكم التصريف شىء لا علم لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يكشف لهم وجهه، وربما يجرى على ألسنتهم شىء لا يدرون وجهه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه، ودليل ما نطقوا به من شواهد العلم «1» . قوله: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ... » هذه أمانة الحق- سبحانه- عند العبد، وقد تقدم فى بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة. ومن استعمل هذه الجوارح فى الطاعات، وصانها عن استعمالها فى المخالفات فقد سلّم الأمانة على وصف السلامة، واستحق المدح والكرامة. ومن دنّسها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة، واستوجب الملامة. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 37] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) الخيلاء والتجبّر، والمدح والتكبّر- كل ذلك نتائج الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقّ فإنّ الله إذا تجلّى لشىء خشع له- بذلك ورد الخبر. فأمّا فى حال حضور القلب واستيلاء الذكر وسلطان الشهود. فالقلب مطرق، وحكم الهيبة غالب. ونعت المدح وصفة الزّهو وأسباب التفرقة- كل ذلك ساقط. والناس- فى الخلاص من صفة التكبر- أصناف: فأصحاب الاعتبار إذ عرفوا أنهم مخلوقون من نطفة أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم.. تعلو هممهم عن التضييق والتدنيق «2» ، ويبعد عن قلوبهم قيام أخطار للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبّر.   (1) من هذه الوصية وما جاء بعدها يتضح رأى القشيري فى التفرقة بين المعرفة عند أرباب العلوم والمعرفة عند أرباب الحقائق، ويذهب القشيري فى «رسالته» إلى أن باستطاعة كبار شيوخ أهل هذه الطريقة أن يفتوا في مسائل الفقه إفتاء يعتدّ به حتى لو كان أحدهم أميا (أنظر الرسالة ص 198 وقصة شيبان الراعي مع الشافعي وابن حنبل) . (2) دنّق البخيل بالغ فى التضييق فى النفقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وأمّا أرباب الحضور فليس فى طلوع الحق إلا انخناس النّفس، وفى معناه قالوا: إذا ما بدا لى تعاظمته ... فأصدر فى حال من لم يرد قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 38 الى 39] كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) إذا سعدت الأقدام بحضور ساحات الشهود، وعطرت الأسرار بنسيم القرب تجرّدت الأوقات عن الحجبة، واستولى سلطان الحقيقة، فيحصل التنقّي من هذه الأوصاف المذمومة. وقال تعالى لنبيّه: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» : بالوحى والإعلام، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 40] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) جوّزوا أن يكون لله- سبحانه- ولد، وفكّروا فى ذلك، ثم لم يرضوا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم، فما زادوا فى تمرّدهم إلا عتوّا، وفى طغيانهم إلا غلوّا، وعن قبول الحقّ إلا نبوّا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 43] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) بيّن أنه لو كان الصانع أكثر من واحد لجرى بينهم تضادّ وتمانع، وصحّ عند ذلك فى صفتهم العجز، وذلك من سمات المحدثات. ثم قال سبحانه- تنزيها له عن الشّريك والظهير، والمعين والنظير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 [سورة الإسراء (17) : آية 44] تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) الأحياء من أهل السماوات والأرض يسبّحون له تسبيح قالة «1» ، وغير الأحياء يسبّح من حيث البرهان والدلالة. وما من جزء من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية، ولكنهم إذا استمعوا توحيدا للإله تعجبوا- لجهلهم وتعسّر إدراكهم- وأنكروا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 45] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) أي أدخلناك فى إيواء حفظنا، وضربنا عليك سرادقات عصمتنا، ومنعنا الأيدى الخاطئة عنك بلطفنا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 46] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) «2» صرّح بأنه خالق ضلالتهم، وهو المثبت فى قلوبهم ما استكنّ فيها من فرط غوايتهم «3» «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ..» أحبوا أن تذكر آلهتهم، قد ختم الله على قلوبهم، فلا حديث يعجبهم إلّا ممّن لهم شكل ومثل.   (1) وردت (ماله) بالميم والصواب أن تكون (قالة) بمعنى أن تسبيح الأحياء بالقول والنطق. (2) يمكن أن تكون (نفورا) مصدرا من نفر ينفر أي ولىّ، ويمكن أن تكون جمع نافر كقاعد وقعود. (3) هذا رأى على جانب كبير عن الخطورة ينبنى على أصل فى مذهب القشيري- نوهنا به سابقا- وهو أن الله خالق كل شىء- على الحقيقة- حتى أكساب العباد، هى له حكما ولهم فعلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 47] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) لبّسوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحوالهم، وأظهروا الوفاق من أنفسهم، ففضحهم الله تعالى، وكشف أسرارهم، وبيّن مقابحهم، وهتك أستارهم، فما تنطوى عليه السريرة لا بدّ أن يظهر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسرّة. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 48] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) عابوه بما ليس بنقيصة فى نفسه حيث قالوا: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي ذا سحر. وأىّ نقيصة كانت له إذا كان- صلى الله عليه وسلم- من جملة البشر؟ والحقّ سبحانه وتعالى متول نصرته، ولم يكن تخصيصه ببنية، ولا بصورة، ولا بحرفة، ولم يكن منه شىء بسببه وإنما بان شرفه لجملة ما تعلّق به لطفه القديم- سبحانه- ورحمته. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 49] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) أقرّوا بأنّ الله خلقهم، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عدمهم، ولكن.. كما جاز أن يوجدهم أولا وهم فى كتم العدم ولم يكن لهم عين ولا أثر، ولكنهم كانوا فى متناول القدرة ومتعلق الإرادة، فمن حقّ صاحب القدرة والإرادة أن يعيدهم إلى الوجود مرة أخرى.. وهكذا إذا رمدت عين قلب لم يستبصر صاحبه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 51] قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 «1» أخبر- سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصّى عليه مقدور لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقدرته عامّة التعلق فلا المشقة تجوز فى صفته ولا الرفاهية. فالخلق الأول والإعادة عليه سيّان لا من هذا عائد إليه ولا من ذاك، لأن قدمه يمنع تأثير الحدوث فيه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 52] يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون. فالحمد بمعنى الشكر، وإنما يشكر العبد على النعمة والآية تدل على أنهم- وهم فى قبورهم- فى نعمته. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 53] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) القول الحسن ما يكون للقائل أن يقوله. ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحسن، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركه. ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه. ويقال الأحسن من القول إقرار المحبّ بعبودية محبوبه. ويقال أحسن قول من المذنبين الإقرار بالجرم، وأحسن قول من العارفين الإقرار بالعجز عن المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم: سبحانك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .   (1) يتغضون رءوسهم أي يحركونها تعجيا واستهزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 54] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) سدّ على كلّ أحد طريق معرفته بنفسه ليتعلّق كلّ قلبه بربه. وجعل العواقب على أربابها مشتبهة، فقال «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» . ثم قدّم حديث الرحمة على حديث العذاب، فقال: «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» وفى ذلك ترجّ للأمل أن يقوى. ويوصف العبد بالعلم ويوصف الربّ بالعلم، ولكن العبد يعلم ظاهر حاله، وعلم الرب يكون بحاله وبمآله، ولهذا فالواجب على العبد أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وهذا معنى: «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بعد قوله: «أَعْلَمُ بِكُمْ» . قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 55] وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) فضّل بعض الأنبياء على بعض فى النبوة والدرجة، وفى الرسالة واللطائف والخصائص. وجعل نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضلهم فهم كالنجوم وهو بينهم بدر، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموس وهو شمس الشموس. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 56] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) استعينوا فيما يستقبلكم «1» بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادة شىء من دون الله، ولا يضركم ترك ذلك، ولقد قيل فى الخبر: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «2»   (1) أي ما يستقبلكم من البلايا (2) رواه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة، وأحمد عن الحسين بن على والعسكري عن علىّ، وأوضحه الشيخان فى تخريج الأربعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 57] أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) يعنى الذين يعبدونهم ويدعونهم- كالمسيح وعزير والملائكة- لا يملكون نفعا لأنفسهم ولا ضرّا، وهم يطلبون الوسيلة إلى الله أي يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاء إحسان الله، وطمعا فى رحمته، ويخافون العذاب من الله ... فكيف يرفعون عنكم البلاء وهم يرجون الله ويخافونه فى أحوال أنفسهم؟ ويقال فى المثل: تعلّق الخلق بالخلق تعلّق مسجون بمسجون. ويقال: إذا انضمّ الفقير إلى الفقير ازدادا فاقة. ويقال إذا قاد الضرير ضريرا سقطا معا فى البئر، وفى معناه أنشدوا: إذا التقى فى حدب واحد ... سبعون أعمى بمقادير وسيّروا بعضهم قائدا ... فكلّهم يسقط فى البير قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 58] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) العذاب على أقسام: فالألم الذي يرد على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى ما يرد على القلوب والسرائر فعذاب القلوب لأصحاب الحقائق أحدّ فى الشّدّة ممّا يصيب أصحاب الفقر والقلة. ثم إن الحقّ سبحانه أجرى سنّته بأن من وصلت منه إلى غيره راحة انعكست الراحة إلى موصلها، وبخلاف ذلك من وصلت منه إلى غيره وحشة عادت الوحشة إلى موصلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 ومن سام «1» الناس ظلما وخسفا فبقدر ظلمه يعذّبه الله- سبحانه وتعالى- فى الوقت بتنغيص العيش، واستيلاء الغضب من كلّ أحد عليه، وتترجّم ظنونه وتتقسّم أفكاره فى أحواله وأشغاله. ولو ذاق من راحة الفراغ وحلاوة الخلوة شظية لعلم ما طعم الحياة.. ولكنّ حرموا النّعم، وما علموا ما منوا به من النّقم. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 59] وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) «2» أجرى الله سنّته أنه إذا أظهر آية اقترحتها أمّة من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أن يعجّل لها العقوبة، وكان المعلوم والمحكوم به ألا يجتاح العذاب القوم الذين كانوا فى وقت الرسول- عليه السلام- لأجل من فى أصلابهم من الذين علم أنهم يؤمنون فلذلك أخّر عنهم العذاب الذي تعجّلوه «3» . وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله فإنّ لم يخافوا وقع عليهم العذاب. ثم إنه علم أنه لا يفوته شىء بتأخير العقوبة عنهم فأخّر العذاب، وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حكمه وعلمه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 60] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)   (1) وردت (صام) بالصاد وهى خطأ فى النسخ. (2) اختار من الآيات التي اقترحها الأولون ناقة صالح (عم) لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. (3) عن عائشة رضى الله عنها ( ... نادانى ملك الجبال فسلم علىّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربى إليك لتأمرنى بأمرك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (جبلين يحيطان بمكة) فقال النبي (ص) : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 «1» الإيمان بما خصصناك به امتحان لهم وتكليف، ليتميز الصادق من المنافق، والمؤمن من الجاحد فالذين تداركتّهم الحماية وقفوا وثبتوا، وصدّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خامر الشكّ قلوبهم، ولم تباشر خلاصة التوحيد أسرارهم، فما ازدادوا بما امتحنوا به إلا تحيّرا وضلالا وتبلّدا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 61] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) امتنع الشقىّ وقال: لا أسجد لغيرك بوجه سجدت لك به، وكان ذلك جهلا منه، ولو كان بالله عارفا لكان لأمره مؤثرا، ولمحيط نفسه تاركا. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 62] قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) لو علقت به ذرّة من المعرفة والتوحيد لم يحطب «2» على نفسه بالإضلال والإغواء، لكنّه أقامه الحقّ بذلك المقام، وأنطقه بما هو لقلوب أهل التحقيق متّضح. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 63 الى 64] قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)   (1) الرؤيا المقصودة هى التي سبقت يوم بدر، وفيها بشر بالنصرة وبأنه سيهزم الجمع ويولون الدبر، فسخروا منه. وربما كانت رؤيا المعراج عند من قال إن المعراج كان فى المنام. والشجرة الملعونة هى الزّقوم حيث قالوا كيف يزعم محمد أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول إن بها تثبت شجرة! فجعلوها سخرية [ ..... ] (2) حسطب- جنى على نفسه لعدم تفقد أمره وكلامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويت، ولو، أخّر عقوبة قوم فإن ذلك إمهال لا إهمال، ومكر واستدراج لا إنعام وإكرام. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ: أي افعل ما أمكنك، فلا تأثير لفعلك فى أحد، فإنّ المنشئ والمبدع هو الله.. وهذا غاية التهديد. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 65] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) السلطان الحجة، فالآية تدل على العموم «1» ، ولا حجة للعذر على أحد، بل الحجة لله وحده. ويقال السلطان هو التّسلّط، وليس لإبليس على أحد تسلط إذ المقدور بالقدرة الحادثة لا يخرج عن محل القدرة الإلهية، فالحادثات كلها تحدث بقدرة الله فلا لإبليس ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير فى أحد، وعلى هذا أيضا فالآية للعموم. ويقال أراد بقوله: «عِبادِي» الخواص من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قبل الله فإن وساوس الشيطان لا تضرّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإن الشيطان إذا قرب من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم. ويقال إنّ فرار «2» الشيطان من المؤمنين أشدّ من فرار المؤمنين، من الشيطان. والخواص من عباده هم الذين لا يكونون فى أسر غيره، وأمّا من استعبده هواه،   (1) العموم هنا معناها الكافة أي الخواص وغير الخواص. (2) وردت (قرار) بالقاف وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح من السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 واستمكنت منه الأطماع، واسترقته «1» كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه.. وفى الخبز «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار» «2» ويقال فى «عِبادِي» هم المتفيّئون فى ظلال عنايته، والمتبرّون عن حولهم وقوّتهم، المتفرّدون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلّق به. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 66] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) تعرّف إلى عباده بخلقه وإنعامه، فما من حادث من عين أو أثر أو طلل أو غبر إلا وهو شاهد على وحدانيته، دالّ على ربوبيته. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 67] وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) جبل الإنسان على أنه إذا أصابته نقمة، أو مسّته محنة فرع «3» إلى الله لاستدفاعها، وقد يعتقد أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله، فإذا أزال الله تلك النّقمة «4» وكشف تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا، كأنهم لم يكونوا فى ضرّ مسّهم، وفى معناه أنشدوا: فكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا ... أحباءنا كم تجهلون! وتحلم!   (1) وردت (ويسرقة) ولا معنى لها هنا. (2) فى رسالة القشيري ص 99 جاء هذا الخبر مضافا إليه (.. تعس عبد الخميصة) . (3) وردت (فرغ) بالراء والأفضل أن تكون بالزاي. (4) وردت (النعمة) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 68 الى 69] أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس- كذلك قال الشيوخ «1» . وأعرفهم بالله أخوفهم من الله. وصنوف العذاب كثيرة فكم من مسرور أوّل ليله أصبح فى شدّة! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النّعم! وفى معناه قالوا: إن من خاف البيات لا يأخذه السّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا: مستوفزون على رجل كأنهمو ... يريدون أن يمضوا ويرتحلوا قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 70] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) المراد من قوله: «بَنِي آدَمَ» هنا المؤمنون لأنه قال فى صفة الكفار: «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» «2» . والتكريم التكثير من الإكرام، فإذا حرم الكافر الإكرام. فمتى يكون له التكريم؟. ويقال إنما قال: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد   (1) هذه العبارة للجنيد كما جاء فى رسالة القشيري ص 65 فى رواية أبى عبد الله الصوفي عن على بن ابراهيم العكبري. (2) آية 18 سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 توضيحا بأن التكريم لا يكون مقابل فعل، أو معلّلا بعلة، أو مسببا باستحقاق يوجب ذلك التكريم. ومن التكريم أنهم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة. ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خاطبه، وإذا أراد أن يسأل شيئا سأله. ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته، فلو تكرر منه جرمه ثم توبته يضاعف له قبوله التوبة وعفوه. ومن التكريم أنه إذا شرع فى التوبة أخذ بيده، وإذا قال: لا أعود- يقبل قوله وإن علم أنه ينقض توبته. ومن التكريم أنه زيّن ظاهرهم بتوفيق المجاهدة، وحسّن باطنهم بتحقيق المشاهدة. ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم، وغفر لهم قبل استغفارهم، كذا فى الأثر: «أعطيتكم قبل أن تسألونى، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى» . ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «1» ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن. وكما خصّ بنى آدم بالتكريم خصّ أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- منهم بتكريم مخصوص، فمن ذلك قوله تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «2» و «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» «3» وقوله «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» «4» . ومن التكريم قوله: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» «5» .   (1) آية 152 سورة البقرة. (2) آية 54 سورة المائدة. (3) آية 119 سورة المائدة. (4) آية 165 سورة البقرة. (5) آية 110 سورة النساء. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه. ومن التكريم لقوم توفيق صدق القدم، ولقوم تحقيق علوّ الهمم. قوله: «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» : سخّر البحر لهم حتى ركبوا فى السفن، وسخّر البرّ لهم حتى قال: «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» . ويقال محمول الكرام لا يقع، فإن وقع وجد من يأخذ بيده. ويقال الإشارة فى حملهم فى البرّ ما أوصل إليهم جهرا «1» ، والإشارة بحديث البحر ما أفردهم به من لطائف الأحوال سرّا. ويقال لمّا حمل بنو آدم الأمانة «2» حملناهم فى البر، فحمل هو جزاء حمل، حمل هو فعل من لم يكن «3» وحمل هو فضل من لم يزل. قوله: «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق فمن لم يكن غائبا بقلبه «4» ولا غافلا عن ربّه استطاب كلّ رزق، وأنشدوا: يا عاشقى إنى سعدت شرابا ... لو كان حتى علقما أو صابا قوله: «وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» : أي الذين فضلناهم على خلق كثير، وليس يريد أن قوما بقوا لم يفضلهم عليهم، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلّ من خلقنا، وذلك التفضيل فى الخلقة. ثم فاضل بين بنى آدم فى شىء آخر هو الخلق الحسن، فجمعهم فى الخلقة- التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومايز بينهم فى الخلق. ويقال: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» : هذا اللفظ للعموم، والمراد منه الخصوص، وهم المؤمنون، وبذلك يفضل قوم على الباقين، ففضّل أولياءه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاق الولاية.   (1) وردت (خيرا) والصواب أن تكون (جهرا) لتقابل سرا) وبذلك يقوى السياق ويتماسك. (2) وردت (الاهانة) بالهاء ومن المؤكد أن الميم التبست على الناسخ والمراد (الأمانة) إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ... الآية» . (3) (من لم يكن) هو الإنسان و (من لم يزل) هو الرب سبحانه وتعالى. (4) غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه، ثم يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره (الرسالة ص 40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 ويقال فضّلهم بألّا ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 71] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) إمام كلّ أحد من يقتدى به، ولكن.. من إمام يهتدى به مقتديه، ومن إمام يتردّى به مقتديه. «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» : لكمال صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفهم وتردّدهم لا يقرأون كتابهم. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 72] وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) فى الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته. فى الآخرة عذابه الفرقة وتضاف إليها الحرقة- لهذا فهو «أَضَلُّ سَبِيلًا» . قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 73] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) ضربنا عليك سرادقات العصمة، وآويناك فى كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك، فالزّلّة منك محال «1» ، والافتراء فى نعتك لا يجوز.. ولو جنحت لحظة إلى الخلاف لتضاعفت عليك تشديدات البلاء، لكمال قدرك وعلوّ شأنك فإنّ من كان أعلى درجة فذنبه- لو حصل- أشدّ تأثيرا.   (1) وردت (مجال) بالجيم وهى خطأ فى النسخ، ومن قول القشيري يتضح أنه يؤيد عصمة الأنبياء من الزلات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 74 الى 75] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) لو وكلناك ونفسك، ورفعنا عنك «1» ظلّ العصمة لألممت بشىء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكننا أفردناك بالحفظ، فلا تتقاصر عنك آثاره، ولا تغرب عن ساحتك أنواره. قوله: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ... الآية» هبوط الأكابر على حسب صعودهم، ومحن الأحبّة وإن قلّت جلّت، وفى معناه أنشدوا: أنت عينى وليس من حقّ عينى ... غضّ أجفانها على الأقذاء قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 76] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) من ظنّ (أنه يستمتع بحياته بعد مضىّ الأعزّة) «2» والأكابر غلط فى حسابه، وإن الحسود لا يسود: وفى تعب من يحسد الشمس ضوءها ... (ويجهد أن يأتى لها) «3» بضريب والأرض كلها ملك لنا، ونقلّب أولياءنا فى ترددهم فى البلاد وتطوافهم فى الأقطار، ترددا على بساطنا، وتقلبا فى ديارنا فالبقاع لهم سواء، وأنشدوا: (فسر أو أقم) «4» وقف عليك محبتى ... مكانك من قلبى عليك مصون   (1) وردت (عليك) والملائم للسياق أن تكون (عنك) . (2) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ. (3) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ. (4) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردىء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 77] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) الحقّ أمضى سنّته مع الأولياء بالإنعام، ومع أعدائه بالإدغام «1» ، فلا لهذه أو هذه تحويل. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 78] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) الصلاة قرع باب الرزق. والصلاة الوقوف فى محل المناجاة. والصلاة اعتكاف القلب فى مشاهد التقدير. ويقال هى الوقوف على بساط النجوى. وفرّق أوقات الصلاة ليكون للعبد عود إلى البساط فى اليوم والليلة مرات. «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» : تشهده ملائكة الليل والنهار- على لسان العلم. وأمّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح- الذي هو وقت إتيانه- يبعد من النوم وكسل النفس فله هذه المزية. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 79] وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) الليل لأحد أقوام: لطالبى النجاة وهم العاصون من جنح «2» منهم إلى التوبة، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يجدّون فى الطاعات، ويسارعون فى الخيرات، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عند ما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة. ويقال الليل لأحد رجلين: للمطيع والعاصي: هذا فى احتيال أعماله، وهذا فى اعتذاره عن قبيح أفعاله.   (1) أدغمه الله إدغاما أي سود وجهه وأذله (الوسيط) . (2) وردت (نجح) وهى خطأ فى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 والمقام المحمود هو المخاطبة فى حال الشهود، ويقال الشهود. ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر. ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خصّ به- صلى الله عليه وسلم «1» - بما لا يشاركه فيه أحد. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 80] وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) أي أدخلنى إدخال صدق وأخرجنى إخراج صدق. والصدق أن يكون دخوله فى الأشياء بالله لله لا لغيره، وخروجه عن الأشياء بالله لله لا لغيره. «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» : فلا ألاحظ دخولى ولا خروجى. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 81] وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) أراد بالحقّ هاهنا الإسلام والدين، وأراد بالباطل الكفر والشّرك، والحقّ المطلق هو الموجود الحق، والحق المقيد ما كان حسنا فى الاعتقاد والفعل والنطق، والباطل نقيض الحق. والله حقّ: على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه محقّ الحق «2» . ويقال الحقّ ما كان الله، والباطل ما كان لغير الله. ويقال الحقّ من الخواطر ما دعا إلى الله، والباطل ما دعا إلى غير الله. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 82] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) القرآن شفاء من داء الجهل للعلماء، وشفاء من داء الشّرك للمؤمنين، وشفاء من داء   (1) إضافة من جانبنا حتى يتضح السياق. (2) قارن ذلك بنظرية «وحدة الوجود» وما تراه في معنى «الوجود» و «الحق» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا: وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم قوله: «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً» : الخطاب خطاب واحد، والكتاب كتاب واحد، ولكنه لقوم رحمة وشفاء، ولقوم سخط وشقاء. قوم أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشى على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 83] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) إذا نزعنا عنه موجبات الخوف، وأرخينا له حبل الإمهال، وهيّأنا له أسباب الرفاهية اعترته مغاليط النسيان، واستولت عليه دواعى العصيان، فأعرض عن الشكر، وتباعد عن بساط الوفاق. ويقال إعراضه فى هذا الموضوع نسيانه، ورؤية الفضل منه لا من الحقّ، وتوهمه أنّ ما به من النّعم فباستحقاق طاعة أخلصها أو شدة قاساها.. وهذا فى التحقيق شرك. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 84] قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) كلّ يترشح بمودع باطنه، فالأسرّة تدل على السريرة، وما تكنّه الضمائر يلوح على السرائر، فمن صفا من الكدورة جوهره لا يفوح منه إلا نشر مناقبه، ومن طبعت على الكدورة طينته فلا يشمّ من يحوم حوله إلا ريح مثالبه. ويقال حركات الظواهر تدلّ وتخبر عن بواطن السرائر. ويقال حبّ ( ... ) «1» لا ينبت غضّ العود.   (1) مشتبهة. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 ويقال من عجنت بماء الشّقوة طينته، وطبعت على النكرة جبلّته لا تسمح بالتوحيد قريحته، ولا تنطق بالتوحيد عبارته. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) أرادوا أن يجادلوه ويغلّطوه فأمره أن ينطق بلفظ يفصح عن أقسام الروح لأنّ ما يطلق عليه لفظ «الروح» يدخل تحت قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه فى القالب، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة، (وكما يصح أن يكون البصر محلّ الرؤية والأذن محلّ السمع.. إلى آخره، والبصير والسامع إنما هو الجملة- وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح، ومحل الأوصاف المذمومة النّفس، والحكم أو الاسم راجع إلى الجملة) «1» وفى الجملة الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ما دام الروح فى جسده. والروح لطيفة تفررت للكافة طهارتها ولطافتها، وهى مخلوقة قبل الأجساد بألوف من السنين. وقيل إنه أدركها التكليف، وإن لها صفاء التسبيح، وصفاء المواصلات، والتعريف من الحق. «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» : لأن أحدا لم يشاهد الروح ببصره. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 86] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86)   (1) ما بين القوسين مضطرب اضطرابا شديدا فى النسخ، وقد عدنا إلى رسالة القشيري فاعتمدنا عليها فى تنظيم السياق بقدر الإمكان. (أنظر الرسالة ص 48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 سنّة الحقّ- سبحانه- مع أحبائه وخواص عباده أن يديم لهم افتقارهم إليه، ليكونوا فى جميع الأحوال منقادين لجريان حكمه، وألا يتحرك فيهم عرق بخلاف اختياره، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبه- صلوات الله عليه- بقوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» : (فمن كان استقلاله بالله يقدّم) «1» مراد سيده- فى العزل والولاية- على مراد نفسه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 87] إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) والمقصود (من هذا إدامة تفرّد سرّه) «2» صلى الله عليه وسلم به- سبحانه- دون غيره. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) (سائر الأنبياء) «3» معجزاتهم باقية حكما، ونبيّنا- صلى الله عليه وسلم- معجزته باقية عينا، وهى القرآن (الذي نتلوه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه) «4» ولا من خلفه. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 89] وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) لا شىء أحظى عند الأحباب من كتاب الأحباب، فهو شفاء من داء الضنى، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البلاء، وفى معناه أنشدوا: وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم   (1) ، (2) ، (3) ، (4) مدونة في أعلى الورقة بعلامات مميزة لمكانها من النص، وقد أثبتنا كلا فى موضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) اقترحوا الآيات بعد إزاحة العلّة وزوال الحاجة، فركضوا فى مضمار سوء الأدب، وحرموا الوصلة والقربة. ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جحدا، ونكرة، وقد قيل: إنّ الكريم إذا حباك بودّه ... ستر القبيح وأظهر الإحسانا وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» : قل يا محمد: سبحان ربى! من أين لى الإتيان بما سألتم من جهتى؟ فهل وصفي إلا العبودية؟ وهل أنا إلا بشر؟ قال تعالى: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ» «1» قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 94] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)   (1) آية 172 سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 تعجّبوا «1» مما ليس بمحلّ شبهة، ولكن حملهم على ذلك فرط جهلهم، ثم أصرّوا على تكذيبهم وجحدهم. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 95] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) الجنس إلى الجنس أميل، والشكل بالشكل آنس، فقال سبحانه لو كان سكان الأرض ملائكة لجعلنا الرسول إليهم ملكا، فلمّا كانوا بشرا فلا ينبغى أن يستبعد إرسال البشر إلى البشر. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 96] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) الحقّ- سبحانه- هو الحاكم وهو الشاهد، ولا يقاس حكمه على حكم الخلق، ولا يجوز فى صفة المخلوق أن يكون الحاكم هو الشاهد، فكما لا تشبه ذاته ذات الخلق لا تشبه صفته صفة الخلق. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 97] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) من أراده بالسعادة فى آزاله استخلصه فى آباده بأفضاله، ومن علمه فى الأزل بالشقاء وسمه فى أبده بسمة الأعداء. فلا لحكمه تحويل، ولا لقوله تبديل.   (1) وردت (تعجلوا) والمعنى يقتضى (تعجبوا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 98] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) لمّا أصرّوا على تكذيبهم جازاهم الحقّ بإدامة تعذيبهم، ولو ساعدهم التوفيق لوجد منهم التحقيق، لكنهم عدموا التأييد فحرموا التوحيد. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 99] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) مهد بهذه الآية طريق إثبات القياس «1» ، فلم يغادر فى الكتاب شيئا من أحكام الدّين لم يؤيده بالدليل والبيان «2» ، فعلم الكلّ أن الركون إلى التقليد عين الخطأ والضلال. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 100] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) إذ البخل غريزة الإنسان، والشحّ سجيته [ ( ... ) «3» المعروف لا يعرف الخلقة] «4»   (1) من هذا نعرف أن القشيري مؤمن بأهمية القياس العقلي ضمن ما هو معروف من مصادر الشريعة وفى هذا رد على من يتهم الصوفية بالتنكر للعقل، مع أنهم حريصون كل الحرص على تصحيح الإيمان فى مراحل البداية عن طريق الوسائل العقلية. (2) ربما كانت (البرهان) بدل (البيان) ، فالبرهان أقرب إلى (الدليل) وإلى (القياس) كما أن البيان- فى مذهب القشيري المعرفى- مرحلة قلبية وليست عقلية. ومع ذلك فقد يكون المقصود أن كتاب الله لم يغادر شيئا إلا أيده (بالدليل العقلي) و (البيان) القلبي. (3) هنا بياض فى الأصل. (4) ما بين القوسين الكبيرين ورد هكذا وفيه غموض ناتج عن سقوط ما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 102] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) «1» هى أمارات كرامته وعلامات محبته. قوله جل ذكره: فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أنت- يا فرعون- سلكت طريق الاستدلال فعلمت أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا من قبل الله، ولكنّك ركنت إلى الغفلة فى ظلمات الجهل. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 103] فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) أراد فرعون إهلاك بنى إسرائيل واستئصالهم، وأراد الحقّ- سبحانه- نصرتهم وبقاءهم، فكان ما أراد الحقّ لا ما كاد اللعين. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 104] وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) أورثهم منازل أعدائهم، ومكّنهم من ذخائرهم ومساكنهم، واستوصى بهم شكر نعمته، وعرّفهم أنهم إن سلكوا في العصيان مسلك من تقدّمهم ذاقوا من العقوبة مثل عقوبتهم.   (1) عن ابن عباس أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن أنها الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 106 الى 105] القرآن حقّ، ونزوله بحق، ومنزّله حق، والمنزّل عليه حق، فالقرآن بحقّ نزل ومن حقّ نزل وعلى حقّ نزل، وقد فرّق القرآن ليهوّن عليه- صلوات الله عليه- حفظه، وليكثر تردد الرسول من ربّه عليه، وليكون نزوله فى كل وقت وفى كل حادثة وواقعة دليلا على أنه ليس مما أعان عليه غيره. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : الآيات 108 الى 107] إن آمنتم حصل النفع لكم، وإن جحدتم ففى إيمان من آمن من أوليائنا عنكم خلف، وإنّ الضّرر عائد عليكم. وإنّ من أضأنا عليهم شموس إقبالنا لتشرق أنوار معارفهم فإذا تليت عليهم آياتنا سجدوا بدل جحدهم، واستجابوا بدل تمردهم، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 109] وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) تأثيره فى قلوب قوم يختلف فتأثير السماع فى قلوب العلماء بالتبصّر، وتأثير السماع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 فى أنوار الموحّدين بالتحير «1» تبصّر العلماء بصحة الاستدلال، وتحيّر الموحدين فى شهود الجمال والجلال. وبكاء كل واحد على حسب حاله: فالتائب يبكى لخوف عقوبته لما أسلفه من زلّته وحوبته، والمطيع يبكى لتقصيره فى طاعته، ولكيلا يفوته ما يأمله من منّته. وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم. وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين. وآخرون يبكون تحسرا على ما يفوتهم من الحق. والبكاء عند الأكابر معلول «2» ، وهو فى الجملة يدل على ضعف حال الرجل، وفى معناه أنشدوا: خلقنا رجالا للتجلد والأسى ... وتلك الغواني للبكا والمآتم قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 110] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) من عظيم نعمته- سبحانه- على أوليائه تنزّههم بأسرارهم فى رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس. ويقال الأغنياء ترددهم فى بساتينهم، والأولياء تنزههم فى مشاهد تسبيحهم، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. قوله جل ذكره: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلّها، وارفع صوتك فى بعضها دون بعض. ويقال ولا تجهر بها جهرا يسمعه الأعداء، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء. «وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» : يكون للأحباب مسموعا، وعن الأجانب ممنوعا.   (1) ليس (التحير) هنا ناجما عن الشك، وإنما ناجم عن شدة الوله وعنف الأخذ. (2) لأن الأكابر في حال التمكين لا التلوين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 ويقال «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ» : بالنهار، «وَلا تُخافِتْ بِها» : بالليل. قوله جل ذكره: [سورة الإسراء (17) : آية 111] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) احمده يذكر تقدسه عن الولد، وأنه لا شريك له ولا ولى له من الذلّ إما على أنه لم يذلّ فيحتاج إلى ولى، أو على أنه لم يوال أحدا من أجل مذلة به فيدفعها بموالاته. ويقال اشكره على نعمته العظيمة حيث عرّفك بذلك. ويقال له الأولياء ولكن لا يعتريهم بذلّهم، إذ يصيرون بعبادته أعزّة. «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» بأن تعلم أنّك تصل إليه به لا بتكبيرك. السورة التي يذكر فيها الكهف قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما سعدت القلوب إلا بسماع اسم الله، وما استنارت الأسرار إلا بوجود الله، وما طربت الأرواح إلا بشهود جلال الله. سماع «بِسْمِ اللَّهِ» راحة القلوب وضياؤها، وشفاء الأرواح ودواؤها. «بِسْمِ اللَّهِ» قوت العارفين بها يزول كدّهم وعناؤهم، وبها استقلالهم وبقاؤهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)   (1) لاحظ الربط بين تفسير البسملة فى أول هذه السورة وبين قصة أهل الكهف، الذين فنوا عن أنفسهم لبقائهم بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 إذا حمل «الْحَمْدُ» هنا على معنى الشكر فإنزال الكتاب من أجلّ نعمه، وكتاب الحبيب لدى الحبيب. أجلّ موقع وأشرف محلّ، وهو من كمال إنعامه عليه، وإن سمّاه- عليه السلام- عبده فهو من جلائل نعمه عليه لأنّ من سمّاه عبده جعله من جملة خواصّه. وإذا حمل «الْحَمْدُ» فى هذه الآية على معنى المدح كان الأمر فيه بمعنى الثناء عليه- سبحانه، بأنّه الملك الذي له الأمر والنهى والحكم بما يريد، وأنه أعدّ الأحكام التي فى هذا الكتاب للعبيد، وسمّاه صلى الله عليه وسلم عبده لمّا كان فانيا عن حظوظه، خالصا لله بقيامه بحقوقه. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 2] قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) «قَيِّماً» : أي صانه عن التعارض والتناقض، فهو كتاب عزيز من ربّ عزيز. «والبأس الشديد» : معجّله الفراق، ومؤجّله الاحتراق. ويقال هو البقاء عن الله تعالى، والابتلاء بغضب الله. ومعنى الآية لينذرهم ببأس شديد. قوله جل ذكره: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. والعمل الصالح ما يصلح للقبول، وهو ما يؤدّى على الوجه الذي أمر به. ويقال العمل الصالح ما كان بنعت الخلوص، وصاحبه صادق فيه. ويقال هو الذي لا يستعجل عليه صاحبه حظّا فى الدنيا من أخذ عوض، أو قبول جاه، أو انعقاد رياسة.. وما فى هذا المعنى. وحصلت البشارة بأنّ لهم أجرا حسنا، والأجر الحسن ما لا يجرى مع صاحبه استقصاء فى العمل. ويقال الأجر الحسن ما يزيد على مقدار العمل. ويقال الأجر الحسن ما لا يذكّر صاحبه تقصيره، ويستر عنه عيوب عمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 3] ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) البشارة منه أنّ تلك النّعم على الدوام غير منقطعة، وأعظم من البشارة بها قوله «1» : [سورة الكهف (18) : الآيات 4 الى 5] وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) قالتهم القبيحة نتيجة جهلهم بوحدانية الله، ولقد توارثوا ذلك الجهل عن أسلافهم والحيّة لا تلد إلا حيّة! كبرت كلمتهم فى الإثم لمّا خسّت فى المعنى. ومن نطق بما لم يحصل له به إذن لحقه هذا الوصف. ومن تكلّم فى هذا الشأن قبل أوانه فقد دخل فى غمار هؤلاء «2» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 6] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) من فرط شفقته- صلى الله عليه وسلم- داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان، فهوّن الله- سبحانه- عليه الحال، بما يشبه العتاب فى الظاهر كأنه قال له: لم كل هذا؟ ليس فى امتناعهم- فى عدّنا- أثر، ولا فى الدّين من ذلك ضرر.. فلا عليك من ذلك. ويقال أشهده جريان التقدير، وعرّفه أنه- وإن كان كفرهم منهيّا عنه فى الشرع- فهو فى الحقيقة مراد الحق. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 7] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)   (1) البشارة بالآية التالية أعظم لأن المؤمن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. (2) فى هذه الإشارة غمزة بمن ينطقون- بدعوى المحو- بما لا يليق. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ما على الأرض زينة لها تدرك بالأبصار، وممن على الأرض من هو زينة لها يعرف بالأسرار. وإنّ قيمة الأوطان لقطّانها، وزينة المساكن فى سكّانها. ويقال العبّاد بهم زينة الدنيا، وأهل المعرفة بهم زينة الجنة. ويقال الأولياء زينة الأرض وهم أمان من فى الأرض. ويقال إذا تلألأت أنوار التوحيد فى أسرار الموحدين أشرقت جميع الآفاق بضيائهم. قوله جل ذكره: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أحسنهم عملا أصدقهم نيّة، وأخلصهم طوية. ويقال أحسنهم عملا أكثرهم احتسابا إذ لا ثواب لمن لا حسبة له، وأعلى من هذا بل وأولى من هذا فأحسنهم عملا أشدّهم استصغار لفعله، وأكثرهم استحقارا لطاعته لشدة رؤيته لتقصيره فيما يعمله، ولانتقاصه أفعاله فى جنب ما يستوجبه الحقّ بحقّ أمره. ويقال أحسن أعمال المرء نظره إلى أعماله بعين الاستحقار والاستصغار، لقول الشاعر: وأكبر من فعله وأعظمه ... تصغيره فعله الذي فعله معناه: أكبر من فعله- الذي هو عطاؤه وبذله- تقليله واستصغاره لما يعطيه ويجود به. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 8] وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) كون ما على الأرض زينة لها فى الحال سلب قدره بما أخبر أنه سيفنيه فى المآل. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 9] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) أزال الأعجوبة عن أوصافهم بما أضافه إلى ربّه بقوله: «مِنْ آياتِنا» فقلب العادة من قبل الله غير مستنكر ولا مبتدع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 ويقال مكثوا فى الكهف مدة فأضافهم إلى مستقرّهم فقال: «أَصْحابَ الْكَهْفِ» ، وللنفوس محال، وللقلوب مقارّ، وللهم مجال، وحيثما يعتكف يطلب أبدا صاحبه «1» . ويقال الإشارة فيه ألا تتعجّب من قصتهم فحالك أعجب فى ذهابك إلينا فى شطر من الليل حتى قاب قوسين أو أدنى «2» ، وهم قد بقوا فى الكهف سنين. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 10] إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) آواهم إلى الكهف بظاهرهم، وفى الباطن فهو مقيلهم فى ظلّ إقباله وعنايته، ثم أخذهم عنهم، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم «3» . وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله. «رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً» : أي أنهم أخذوا فى التبرّى من حولهم وقوّتهم، ورجعوا إلى الله بصدق فاقتهم، فاستجاب لهم دعوتهم، ودفع عنهم ضرورتهم «4» ، وبوّأهم فى كنف الإيواء مقيلا حسنا. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 11] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) أخذناهم عن إحساسهم بأنفسهم، واختطفناهم عن شواهدهم بما استغرقناهم فيه من حقائق ما كاشفناهم به من شهود الأحدية، وأطلعناهم عليه من دوام نعت الصمدية.   (1) معنى العبارة يطلب صاحب المكان من حيث المكان الذي يعتكف فيه. (2) يشير القشيري بذلك إلى المنزلة الرفيعة التي وصل إليها المصطفى- صلوات الله عليه- ليلة الإسراء والمعراج، وكيف أنه انتهى فى ليلة واحدة إلى ما لم يصل إليه أصحاب الكهف فى سنين. (3) واضح أن القشيري يعالج قصة أهل الكهف في ضوء حال الفناء وحال البقاء.. وهذا من النماذج التي يقدمها التصوف لتفسير الظواهر العجيبة التي تقلب فيها العادة، وبحار فيها العقل. (4) يقصد من الضرورة هنا ما يلزم الإنسان من طعام وشراب وتخلص من بقاياهما.. ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 12] ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) أي رددناهم إلى حال صحوهم وأوصاف تمييزهم، وأقمناهم بشواهد التفرقة بعد ما محوناهم عن شواهدهم بما أقمناهم بوصف الجمع. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 14] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) لمّا كانوا مأخوذين عنهم تولّى الحق- سبحانه- أن قصّ عنهم، وفرق بين من كان عن نفسه وأوصافه قاصّا لبقائه فى شاهده وكونه غير منتف بجملته.. وبين من كان موصوفا بواسطة غيره لفنائه عنه وامتحائه منه وقيام غيره عنه. ويقال لا تسمع قصة الأحباب أعلى وأجلّ مما تسمع من الأحباب، قال عزّ من قائل: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» ، وأنشدوا: وحدّثتني يا سعد عنها فزدتنى ... حنينا فزدنى من حديثك يا سعد قوله: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ» : يقال إنهم فتية لأنهم آمنوا- على الوهلة- بربّهم، آمنوا من غير مهلة، لمّا أتتهم دواعى الوصلة «1» . ويقال فتية لأنهم قاموا لله، وما استقروا حتى وصلوا إلى الله. قوله جل ذكره: وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ لاطفهم بإحضارهم، ثم كاشفهم فى أسرارهم، بما زاد من أنوارهم، فلقّاهم أولا التبيين، ثم رقاهم عن ذلك باليقين.   (1) لاحظ أهمية ذلك فى فهم معنى (الفتوة) عند الصوفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ: بزيادة اليقين حتى متع نهار «1» معارفهم، واستضاءت شموس تقديرهم، ولم يبق للتردد مجال فى خواطرهم، و ( ... ) «2» فى التجريد أسرارهم، وتمّت سكينة قلوبهم. ويقال «رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» : بأن أفنيناهم عن الأغيار، وأغنيناهم عن التفكّر بما أوليناهم من أنوار التبصّر. ويقال ربطنا على قلوبهم بما أسكنّا فيها من شواهد الغيب، فلم تسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين. قوله جل ذكره: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قاموا لله بالله، ومن قام بالله فقد عمّا سوى الله. ويقال من قام لله، لم يقعد حتى يصل إلى الله. ويقال قعدت عنهم الشهوات فصحّ قيامهم بالله. قوله جل ذكره: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. من أحال الشيء على الحوادث فقد أشرك بالله، ومن قال إنّ الحوادث من غير الله فقد اتخذ إلها من دون الله. قوله جلّ ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 15] هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)   (1) متوع النهار اصطلاح يأتى فى مذهب القشيري بعد اللوائح والطوالع واللوامع، وهو يلتقى مع المعنى من حيث اللغة (يقال متع النهار أي بلغ غاية ارتفاعه) . (2) مشتبهة وهى قريبة فى الرسم من (واتخذوا) ومصوبة فى الهامش (وانحدروا) لأجل هذا لم نستطع أن نحسم فيها برأى، وهى على العموم كلمة تفيد خلوص أسرارهم فى التجريد وإلا لما حدثت سكينة قلوبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 لمّا لم يكن لهم حجة اتضح فيما ادعوه كذبهم، فمن اكتفى بنفي القالة دون ما يشهد لقوله من أدلته فهو معلول فى نحلته. «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟» فمن ذكر فى الدّين قولا لم يؤيّد ببرهان عقلى أو نقلى فهو مفتر، ومن أظهر من نفسه حالا لم يوجبه صدق مجاهدته أو منازلته فهو على الله مفتر. والذي يصدق فى قوله- فى هذه الطريقة- فهو الذي يسمع من الحق بسرّه، ثم ينطق بلفظه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 16] وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) العزلة عن غير الله توجب الوصلة بالله. بل لا تحصل الوصلة بالله إلا بعد العزلة عن غير الله. ويقال لما اعتزلوا ما عبد من دون الله آواهم الحقّ إلى كنف رعايته، ومهد لهم مثوى فى كهف عنايته. ويقال من تبرّأ من اختياره فى احتياله، وصدق رجوعه إلى الله فى أحواله، ولم يستعن- بغير الله- من أشكاله وأمثاله آواه إلى كنف أفضاله، وكفاه جميع أشغاله، وهيّأ له محلّا يتفيؤ فيه فى برد ضلاله، بكمال إقباله. قوله جل ذكره: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ «2» عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ   (1) هذا رأى على جانب كبير من الخطورة فى قضية هامة من قضايا التصوف، كانت لها في بعض الأحيان عواقب جسيمة: وهى هل يفصح الصوفي الواله أم يكتم؟ ونلاحظ أنى القشيري ربط القضية بعنصر أساسى هو الصدق ... (2) نزاور من الزور وهو الميل، والزور الميل عن الصدق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 [سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 18] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) «1» كانوا فى متّسع من الكهف، ولكن كان شعاع الشمس لا ينبسط عليهم مع هبوب الرياح عليهم. ويقال أنوار الشمس تتقاصر وتتصاغر بالإضافة إلى أنوارهم «2» . إن نور الشمس ضياء يستضىء به الخلق، ونور معارفهم أنوار يعرف بها الحق، فهذا نور يظهر فى الصورة، وهذا نور يلوح فى السريرة. وبنور الشمس يدرك الخلق وبنورهم كانوا يعرفون الحق. وفى قوله- عزّ اسمه: «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» فيه دلالة على أن فى الأمر شيئا بخلاف العادة، فيكون من جملة كرامات الأولياء ويحتمل أن يكون شعاع الشمس إذا انتهى إليهم ازورّ عنهم، ومضى دونهم بخلاف «3» ما يقول أصحاب الهبة، ليكون فعلا ناقضا للعادة فلا يبعد أن يقال إن نور الشمس يستهلك فى النور الذي عليهم. قوله جل ذكره: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً فالله يهدى قوما بالأدلة والبراهين، وقوما بكشف اليقين فمعارف الأولين قضية الاستدلال، ومعارف الآخرين حقيقة الوصال، فهؤلاء مع برهان، وهؤلاء على بيان كأنهم أصحاب عيان: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» : أي من وسمه بسمة الحرمان فلا عرفان ولا علم ولا إيمان. قوله جل ذكره: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ   (1) تقرضهم أي تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم. (2) بالإضافة إلى أنوارهم أي إذا قيست بانوارهم. (3) أي هذا على لسان أهل التفسير أما على لسان أهل الإشارة. وهذه أول مرة يطلق القشيري (أصحاب الهبة) هذا الوصف عليهم فى «لطائفه» ، لهذا نبهنا إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 هم مساوبون عنهم، مختطفون منهم، مستهلكون فيما كوشفوا به من وجود الحق فظاهرهم- فى رأى الخلق- أنهم بأنفسهم، وفى التحقيق: القائم عنهم غيرهم. وهم محو فيما كوشفوا به من الحقائق. ثم قال: «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» : وهذا إخبار عن حسن إيوائه لهم فلا كشفقة الأمهات بل أتم، ولا كرحمة الآباء بل أعزّ ... وبالله التوفيق. ويقال إن أهل التوحيد صفتهم ما قال الحقّ- سبحانه- فى صفة أصحاب الكهف: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ» فهم بشواهد الفرق فى ظاهرهم، لكنهم بعين الجمع بما كوشفوا به فى سرائرهم، يجرى عليهم أحوالهم وهم غير متكلّفين، بل هم يثبتون- وهم خمود عما هم به- أن تصرفاتهم القائم بها عنهم سواهم، وكذلك فى نطقهم «1» . قوله جل ذكره: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ. ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً كما ذكرهم ذكر كلبهم، ومن صدق فى محبة أحد أحبّ من انتسب إليه وما ينسب إليه. ويقال كلب خطا مع أحبائه خطوات فإلى القيامة يقول الصبيان- بل الحق يقول بقوله العزيز-: «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ .... » فهل ترى أنّ مسلما يصحب أولياءه من وقت شبابه إلى وقت مشيبه يردّه يوم القيامة خائبا.؟ إنه لا يفعل ذلك. ويقال فى التفاسير إنهم قالوا للراعى الذي تبعهم والكلب معه: اصرف هذا الكلب عنّا ... فقال الراعي: لا يمكننى، فإنى أنا دينه. ويقال أنطق الله سبحانه- الكلب فقال لهم: لم تضربوننى؟ فقالوا: لتنصرف عنّا. فقال: لا يمكننى أن أنصرف.. لأنه ربّانى. ويقال كلب بسط يده على وصيد الأولياء فإلى القيامة يقال «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ»   (1) فنطق العبد الواله وتصرفه يكونان بالله .... تذكر قصة الحلاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 «بِالْوَصِيدِ» ... فهل إذا رفعها مسلم إليه خمسين سنة ترى يردّها خائبة؟ هذا لا يكون. ويقال لما صحبهم الكلب لم تضره نجاسة صفته، ولا خساسة قيمته. ويقال قال فى صفة أصحاب الكهف إن كانوا «سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» ، أو خمسة سادسهم كلبهم فقد قال فى صفة هذه الأمة: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» .. وشتّان ما هما! ويقال كل يعامل بما يليق به من حالته ورتبته فالأولياء قال فى صفتهم: «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» ، والكلب قال فى صفته: «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» . ويقال كما كرّر ذكرهم، كرر ذكر كلبهم. وجاء فى القصة أن الكلب لما لم ينصرف عنهم قالوا: سبيلنا إذا لم يتصرف عنّا أن نحمله حتى لا يستدّل علينا بأثر قدمه فحملوه، فكانوا فى الابتداء (بل إياه) «1» وصاروا فى الانتهاء مطاياه.. كذا من اقتفى أثر الأحباب. ويقال في القصة إن الله أنطق الكلب معهم، وبنطقه ربط على قلوبهم بأن ازدادوا يقينا بسماع نطقه، فقال: لم تضربونى؟ فقالوا: لتنصرف، فقال: أنتم تخافون بلاء يصيبكم فى المستقبل وأنتم بلائي فى الحال: ثم إنّ بلاءكم الذي تخافون أن يصيبكم من الأعداء، وبلائي منكم وأنتم الأولياء. ويقال لما لزم الكلب محلّه ولم يجاوز حدّه فوضع يديه على الوصيد بقي مع الأولياء ... كذا أدب الخدمة يوجب بقاء الوصلة. قوله جل ذكره: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً   (1) وردت هكذا ونرجح أنها (بلاياه) بدليل ما سيأتى بعد ذلك: (وأنتم بلائي فى الحال) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الخطاب له- صلى الله عليه وسلم. والمراد منه غيره. ويقال لو اطلعت عليهم من حيث أنت لولّيت منهم فرارا، ولو شاهدتهم من حيث شهود تولّى الحق لهم لبقيت على حالك. ويقال لو اطلعت عليهم وشاهدتهم لولّيت منهم فرارا من أن تردّ عن عالى منزلتك إلى منزلتهم والغنىّ إذا ردّ إلى منزلة الفقير فرّ منه، ولم تطب به نفسه. «وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» بأن يسلب عظيم ما هو حالك، وتقام فى مثل حالهم النازلة عن حالك. ويقال: «لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً» لأنك لا تريد أن تشهد غيرنا. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 19] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) استقلوا مدة لبثهم وقد لبثوا (طويلا) ، ولكنهم كانوا مأخوذين عنهم، ولم يكن لهم علم بتفصيل أحوالهم، قال قائلهم: لست أدرى أطال ليلى أم لا؟ ... كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟ لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ورعيت النجوم كنت مخلّا ويقال أيام الوصال عندهم قليلة- وإن كانت طويلة، ولو كان الحال بالضدّ لكان الأمر بالعكس، وأنشدوا: صباحك سكر والمساء خمار «1» ... نعمت وأيام السرور قصار قوله جل ذكره: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لأنه هو الذي خصّكم بما به أقامكم.   (1) الخمار ما خالط الإنسان من سكر الخمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 قوله جل ذكره: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ما داموا مأخوذين عنهم لم يكن لهم طلب لأكل ولا شرب ولا شىء من صفة النّفس، فلمّا ردّوا إلى التمييز أخذوا فى تدبير الأكل أوّل ما أحسوا بحالهم، وفى هذا دلالة على شدة «1» ابتداء الخلق بالأكل. قوله جل ذكره: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً تواصوا فيما بينهم بحسن التّخلق وجميل الترفّق، أي ليتلطف مع من يشترى منه شيئا. ويقال أوصوا من يشترى لهم الطعام أن يأتيهم بألطف شىء وأطيبه، ومن كان من أهل المعرفة لا يوافقه الخشن من الملبوس ولا المبتذل فى المطعم من المأكول. ويقال أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات طعامهم الخشن ولباسهم كذلك «2» . والذي بلغ المعرفة لا يوافقه إلا كل لطيف، ولا يستأنس إلا بكل مليح. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 20] إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) تواصوا فيما بينهم بكتمان الأسرار عن الأجانب «3» وأخبر أنهم إن اطلعوا عليهم وعلى أحوالهم بالغوا فى مخالفتهم إمّا بالقتل وإما بالضرب وبما أمكنهم من وجوه الفعل، ولا يرضون   (1) شدة هنا معناها ضرورة. (2) معنى هذا أن القشيري يميز بين مطعم وملبس أصحاب الرياضات ومطعم وملبس أهل المعرفة، وربما كان سبب ذلك أن أهل المعرفة الواجب عليهم ستر أحوالهم عن الخلق، بدليل قوله فيما بعد: «تواصوا فيما بينهم بكتمان الأسرار عن الأجانب» . (3) من هذا نفيم ضرورة أن يكتم أرباب الأحوال أسرارهم، وإلا تعرضوا لأذى الذين لا يدركون حقائق أحوالهم، وقد يصل الأذى إلى حد الضرب والقتل (تذكر قصة الحلاج وغيره) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 إلا بردّهم إلى ما منه تخلصوا، فمن احترق كدسه فما لم يحترق كدس غيره لا تطيب نفسه. ويقال من شأن الأبرار حفظ الأسرار عن الأغيار. ويقال من أظهر لأعدائه سرّه فقد جلب باختياره ضرّه، وفقد ما سرّه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 21] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) جعل أحوالهم عبرة لمن جاء بعدهم حين كشف لأهل الوقت قصتهم، فعاينهم الناس، وازداد يقين من كان يؤمن بالله حين شاهدوا بالعيان ما كان نقضا للعادة المستمرة. ثم إن الله تعالى ردّهم إلى ما كانوا عليه من الحالة، كانوا مأخوذين عن التمييز، متقلبين فى القبضة على ما أراده الحق، مستودعين فيما كوشفوا، مستهلكين عنهم فى وجود الحق- سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 22] سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) أخبر أنّ علوم الناس متقاصرة عن عددهم فالأحوال التي لا يطلع عليها إلا الله فى أسرارهم وقلوبهم.. متى يكون للخلق عليها إشراف؟ أشكل عليهم عددهم، وعددهم يعلم بالضرورة، وهم لا يدركون بالمشاهدة.   (1) يقول الشبلي واصفا سبب محنة الحلاج: «كنت والحسين بن منصور شيئا واحدا ولكنه أظهر وأنا كتمت» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 ويقال سعد الكلب حيث كرّر الحقّ- سبحانه- ذكرهم وذكر الكلب معهم على وجه التكرار، ولمّا ذكرهم عدّ الكلب فى جملتهم. قوله جل ذكره: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ لما كانوا من أوليائه فلا يعلمهم إلا خواصّ عباده، ومن كان قريبا فى الحال منهم فهم فى كتم الغيرة وإيواء الستر لا يطّلع الأجانب عليهم ولا يعلمهم إلا قليل لأنّ الحق- سبحانه- يستر أولياءه عن الأجانب، فلا يعلمهم إلا أهل الحقيقة فالأجانب لا يعرفون الأقارب، ولا تشكل أحوال الأقارب على الأقارب كذلك قال شيوخ هذه الطائفة: «الصوفية أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم» «1» . قوله جل ذكره: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً كما لا يعرفهم من كان بمعزل عن حالتهم، ولا يهتدى إلى أحكامهم من لا يعرفهم.. فلا يصحّ استفتاء من غاب علمهم عنه فى حالهم. ومن لم يكن قلبه محلا لمحبة الأحباب لا يكون لسانه مقرا لذكرهم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) إذا كانت الحوادث صادرة عن مشيئة الله فمن عرف الله لم يعدّ من نفسه ما علم أنه لا يتم إلا بالله. ويقال من عرف الله سقط اختياره عند مشيئته، واندرجت أحكامه فى شهوده لحكم الله. ويقال المؤمن يعزم على اعتناق الطاعة فى مستقبله بقلبه، لكنه يتبرأ عن حوله وقوّته   (1) هذا القول للجنيد (ص 139) الرسالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 بسرّه، والشرع يستدعى منه نهوض قلبه فى طاعته، والحقّ يقف سرّه عند شهود ما منه لمحبوبه تحت جريان قسمته «1» . قوله جل ذكره: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن طرأت عليك طوارق النسيان- لا بتعهدك- فجرّد بذكرك قصدك عن أوطان غفلتك. ويقال «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» : فى الحقيقة نفسك تمنعك من استغراقك فى شهود ذكرك. ويقال واذكر ربك إذا نسيت ذكرك لربّك: فإن العبد إذا كان ملاحظا لذكره كان ذلك آفة فى ذكره «2» . ويقال واذكر ربك إذا نسيت حظّك منه. ويقال واذكر ربّك إذا نسيت غير ربّك. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 25] وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) كانوا مأخوذين عنهم فى إحساسهم بأنفسهم فلم يقفوا على تطاول مدتهم، وفى المثل: «أيام السرور قصار» ، والدهور فى السرور شهور، والشهور فى المحن دهور، وفى معناه: أعدّ الليالى ليلة بعد ليلة ... وقد كنت قبلا لا أعد اللياليا قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 26] قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)   (1) معنى هذه الفقرة انه قد يبدو فى الظاهر ان للعبد إرادة فى الامتثال للطاعة وفي إجراء أحكام الشريعة، ولكن فى الحقيقة أن الحق سبحانه يتولى تبرئته من حوله وإرادته، وتهيئة سره للتجرد عن كل غير وسوى. (2) لأن أعلى درجات الذكر أن يفنى الذاكر فى المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 من لم يعد أيامه لاشتغاله بالله أحصى الله أنفاسه التي لله، قال تعالى: «أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 27] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) تسلّ- حينما تتنوع عليك الأحوال- بما نطلعك عليه من الأخبار وإنّ كتب الأحباب فيها شفاء لأنها خطاب الأحباب للأحباب. قوله جل ذكره: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي لا تغيير لحكمه فمن أقصاه فلا قبول له، ومن أدناه فلا وصول له، ومن قبله فلا ردّ له، ومن قرّ به فلا صدّ له. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 28] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) قال: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» ولم يقل: «قلبك» لأن قلبه كان مع الحقّ، فأمره بصحته جهرا يجهر، واستخلص قلبه لنفسه سرّا بسرّ. ويقال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : معناها مريدين وجهه أي فى معنى الحال، وذلك يشير إلى دوام دعائهم ربهم بالغداة والعشىّ وكون الإرادة على الدوام. ويقال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : فآويناهم فى دنياهم بعظائمنا، وفي عقباهم بكرائمنا. ويقال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : فكشف قناعهم، وأظهر صفتهم، وشهرهم بعد ما كان قد سترهم، وأنشدوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وكشفنا لك القناع وقلنا ... نعم وهتكنا لك المستورا ويقال لما زالت التّهم سلمت لهم هذه الإرادة، وتحرروا عن إرادة كلّ مخلوق وعن محبة كل مخلوق. ويقال لمّا تقاصر لسانهم عن سؤال هذه الجملة مراعاة منهم لهيبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرمة باب الحقّ- سبحانه- أمره بقوله: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» وبقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا ترفع بصرك عنهم، ولا تقلع «1» عنهم نظرك. ويقال لما نظروا بقلوبهم إلى الله أمر رسوله- عليه السلام- بألا يرفع بصره عنهم، وهذا جزاء فى العاجل. والإشارة فيه كأنه قال: جعلنا نظرك اليوم إليهم ذريعة لهم إلينا، وخلفا عما يفوتهم اليوم من نظرهم إلينا، فلا تقطع اليوم عنهم نظرك فإنا لا نمنع غدا نظرهم عنّا «2» . قوله جل ذكره: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً هم الذين سألوا منه- صلى الله عليه وسلم- أن يخلى لهم مجلسه من الفقراء، وأن يطردهم يوم حضورهم من مجلسه- صلى الله عليه وسلم وعلى آله. ومعنى قوله: «أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» : أي شغلناهم بما لا يعنيهم. ويقال «أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» أي شغلناهم حتى اشتغلوا بالنعمة عن شهود المنعم. ويقال هم الذين طوّح قلوبهم فى التفرقة، فهم فى الخواطر الرّديّة مثبتون، وعن شهود مولاهم محجوبون.   (1) لا تقلع عنهم نظرك أي لا تكف وتبعد. (2) تهم هذه الإشارة فى تقدير مدى تصور الصوفية لشخصية محمد (ص) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ويقال أغفلنا عن ذكرنا الذين ابتلوا بنسيان الحقيقة ولا يتأسّفون «1» على ما منوا به ولا على ما فاتهم. ويقال الغفلة تزجبة الوقت فى غير قضاء فرض أو أداء نفل. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 29] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) قل يا محمد: ما يأتيكم من ربّكم فهو حقّ، وقوله صدق.. فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر.. هذا غاية التهديد، أي إن آمنتم ففوائد إيمانكم عليكم مقصورة، وإن أبيتم فعذاب الجحود موقوف عليكم، والحقّ- سبحانه- عزيز لا يعود إليه بايمان الكافة- إذا وحّدوا- زين، ولا من كفر الجميع- إن جحدوا- شين. قوله جلّ ذكره: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً العقوبة الكبرى لهم أن يشغلهم بالألم حتى لا يتفرغوا عنه إلى الحسرة على مافاتهم من الحقّ، ولو علموا ذلك لعلّه كان يرحمهم. والحقّ- سبحانه- أكرم من أن يعذب أحدا يتّهم لأجله. ويقال لو علموا من الذي يقول: «وَساءَتْ مُرْتَفَقاً» لعله كان لهم تسل ساعة، ولكنهم لا يعرفون قدر من يقول هذا، وإلا فهذا شبه مرتبة لهم، والعبارة عن هذا تدق. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)   (1) وردت (ولا ينافسون) والمعنى يرفضها مما يرجح خطأ الناسخ فى نقلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها. والحقّ- سبحانه- منزّه عن أن يعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة ولا من تنعيم هؤلاء فائدة ... جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية! ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدينا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجزلنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة «1» كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكا فينا غليلا «2» مهّدنا له- فى دار فضلنا- مقيلا. «أجر من أحسن عملا» : العمل أحسنه ما كان مضبوطا بشرائط الإخلاص. ويقال «مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» بأن غاب عن رؤية إحسانه. ويقال من جرّد قصده عن كلّ حظّ ونصيب. ويقال الإحسان فى العمل ألا ترى قضاء حاجتك إلا فى فضله، فإذا أخلصت فى توسلك إليه بفضله، وتوصّلك إلى ما موّلك من طوله بتبرّيك عن حولك وقوّتك استوجبت حسن إقباله، وجزيل نواله. قوله أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أولئك هم أصحاب الجنان، فى رغد العيش وسعادة الجدّ «3» وكمال الرّفد «4» ، يلبسون حلل الوصلة، ويتوّجون بتاج القربة،   (1) وردت (سيده) . (2) وردت (عليلا) بالعين. (3) الجد- الحظ. [ ..... ] (4) الرفد- العطاء والصلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ويحملون على المباسط، ويتّكئون على الأرائك، ويشمون رياحين الأنس، ويقيمون فى مجال الزّلفة، ويسقون شراب المحبة، ويأخذون بيد الزلفة ما يتحفهم الحقّ به من غير واسطة، ويسقيهم شرابا طهورا يطهّر قلوبهم عن محبة كلّ مخلوق. «نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً» : نعم الثواب ثوابهم، ونعم الربّ ربّهم، ونعم الدار دارهم، ونعم الجار جارهم، ونعم الحال حالهم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 41] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 أخبر أنه خلق رجلين جعل لهما جنتين على الوصف الذي ذكره، فشكر أحدهما لخالقه وكفر الآخر برازقه، فأصبح الكافر وجنّته أصابتها جائحة، وندم على ما ضيّعه من الشكر، وتوجّه عليه اللوم. وفى الإشارة يخلق عبدين يطيّب لهما الوقت، ويمهّد لهما بساط اللطف، ويمكّن لهما من البسط.. فيستقيم أحدهما فى الترقي إلى النهاية من مقامات البداية بحسن المنازلة وصدق المعاملة، فتميز له المجاهدة ثمرات أحسن الأخلاق فيعالجها بحسن الاستقامة، ثم يتحقق بخصائص الأحوال الصافية، ثم يختطف عنها بما يكاشف به من حقائق التوحيد، ويصبح منتفى عن جملته باستهلاكه فى وجود ما بان له من الحقائق. والثاني لا يقدّر قدر ما أهّل له من حسن البداية فيرجع إلى مألوفاته، فينتكس أمره، بانحطاطه إلى ذميم عاداته، وفيرتدّ عن سلوك الطريقة ويتردّى «1» فى ظلمة الغفلة فيصير وقته ليلا مظلما، ويتطوح فى أودية التفرقة، ويوسم الطرد، ويسقى شراب الإهانة، وينخرط فى سلك الهجر.. وذلك جزاء من لم يرهم الحقّ لوصلته أهلا، ولم يجعل لولائهم فى التحقيق والقبول أصلا: تبدّلت وتبدلنا يا حسرة لمن ... ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 43] وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)   (1) وردت (ويرتدى) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح من السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 إذا ظهر خسران من آثر حظّه على حقّ الله، قرع باب ندامته، ثم لا ينفعه. ولو قرع باب كرمه فى الدنيا- حين وقعت له الفترة- لأشكاه «1» عند ضرورته، أنجاه من ورطته.. ولكنه ربط بالخذلان، ولبّس عليه الأمر بحكم الاستدراج. قوله: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ» : من اشتهر أمره بسخط السلطان عليه لم ينظر إليه أحد من الجند والرعية، كذلك من وسمه الحقّ بكىّ الهجر لم يرث له ملك ولا نبىّ، ولم يحمه صديق ولا ولىّ. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 44] هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) هو الحقّ المتفرّد بنعت ملكوته، لا يشرك فى جلال سلطانه من الحدثان أحدا، وإذا بدا من سلطان الحقيقة شظية فلا دعوى ولا معنى لبشر، ولا وزن فيما هنا لك لحدثان ولا خطر، كلّا.. بل هو الله الخلّاق الواحد القهار. هنا لك الولاية لله أي القدرة- والواو هنا بالكسر، وهنا لك الولاية لله أي النصرة- والواو هنا بالفتح «2» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 45] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) .   (1) أشكاه: أزال سبب شكواه، وأعانه. (2) الولاية (بالكسر) بمعنى القدرة أي: السلطان والملك كله لله، ويتولى الله كل مضطر فيكون قوله: «لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا من شؤم كفره- ولولا ذلك لم يقلها. أو على الولاية (بالفتح) بمعنى النصرة تقريرا لقوله: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 من وطّن النّفس على الدنيا وبهجتها غرته بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها. ثم إنها تخفى الصّاب فى شرابها، والحنظل فى عسلها، والسراب فى مآربها تعد ولا تفى بعداتها، وتوفى آفاتها على خيراتها.. نعمها مشوبة بنقمها، وبؤسها مصحوب بمأنوسها، وبلاؤها فى ضمن عطائها. المغرور من اغترّ بها، والمغبون من انخدع فيها. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 46] الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) من اعتضد بعتاده، واغترّ بأولاده، ونسى مولاه فى أوان غفلاته.. خسر فى حاله، وندم على ما فاته فى مآله. ويقال زينة أهل الغفلة فى الدنيا بالمال والبنين، وزينة أهل الوصلة بالأعمال واليقين.. فهؤلاء رتّبهم لظواهرهم.. وهؤلاء زينتهم لعبوديته، وافتخارهم بمعرفة ربوبيته. ويقال ما كان للنّفس فيه حظّ فهو من زينة الحياة الدنيا، ويدخل فى ذلك الجاه وقبول المدح، وكذلك تدخل فيه جميع المألوفات والمعهودات على اختلافها وتفاوتها. ويقال ما كان للإنسان فيه شرب ونصيب فهو معلول: إن شئت فى عاجله وإن شئت فى آجله. قوله جل ذكره: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا. وهى الأعمال التي بشواهد الإخلاص والصدق. ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : ما كان خالصا لله تعالى غير مشوب بطمع، ولا مصحوب بغرض. ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : ما يلوح فى السرائر من تحلية العبد بالنعوت، ويفوح نشره فى سماء الملكوت. ويقال هى التي سقت من الغيب لهم بالقربة وشريف الزلفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 ويقال هى ضياء شموس التوحيد المستكنّ (فى السرائر مما لا يتعرّض لكسوف الحجبة) «1» قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 47] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) كما تسيّر جبال الأرض «2» يوم القيامة فإنها تقتلع بموت الأبدال الذين يديم بهم الحقّ- اليوم- إمساك الأرض، فهؤلاء السادة- فى الحقيقة- أوتاد العالم. قوله: «فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» : الإشارة منه أنه ما من أحد إلا ويسقى كأس المنية، ولا يغادر الحقّ أحدا اليوم على البسيطة إلا وينخرط عن نظامه. وإنّ شرفهم فى الدرجات فى توقّيهم عن مساكنة الدنيا. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 48] وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) يقيم كلّ واحد يوم العرض فى شاهد مخصوص، ويلبس كلّا ما يؤهّله له فمن لباس تقوى، ومن قميص هوى، ومن صدار وجد، ومن صدرة محبة، ومن رداء شوق، ومن حلّة وصلة. ويقال يجرّدهم عن كل صفة إلا ما عليه نظرهم يوم القيامة. وينادى المنادى على أجسادهم: هذا الذي أتى ووجد، وهذا الذي أبى وجحد. وهذا الذي خالف فأصرّ، وهذا الذي أنعمنا عليه فشكر، وهذا الذي أحسنّا إليه فذكر. وهذا الذي أسقيناه شرابنا، ورزقناه محابّتا، وشوّقناه إلى لقائنا، ولقّيناه خصائص رعائنا» . وهذا الذي وسمناه بحجبتنا، وحرمناه وجوه قربتنا. وألبسناه نطاق فراقنا، ومنعناه، توفيق وفاقنا، وهذا، وهذا ...   (1) تكملة فى أسفل الصفحة موضحة فى المتن بالعلامة. (2) نلاحظ كثيرا أن القشيري يتحدث عن الأوتاد والأبدال والقطب كلما ورد فى القرآن ذكر للجبال، فكما أن الله يمسك بها الأرض ويثبتها كذلك يقوم هؤلاء بحفظ الخلق، وبكرامتهم يندفع البلاء عنهم. (3) الرعاء: المراعاة والمحافظة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وا خجلتي من وقوفي وسط دارهم! وقال لى مغضبا: من أنت يا رجل؟ وقوله جل ذكره: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً جئتمونا بلا شفيع ولا ناصر، ولا معين ولا مظاهر. قوم يقال لهم: سلام عليكم ... كيف أنتم؟ وكيف وجدتم مقيلكم؟ وكم إلى لقائنا اشتقتم! وقوم يقال لهم: ما صنعتم، وما ضيّعتم؟ ما قدّمتم، وما أخرتم؟ ما أعلنتم، وما أسررتم؟ قل لى بألسنة التنفّس «1» ... كيف أنت وكيف حالك؟ ويقال يجيب بعضهم عند السؤال فيفصحون عن مكنون قلوبهم، ويشرحون ما هم به من أحوال مع محبوبهم وآخرون تملكهم الحيرة وتسكتهم الدهشة، فلا لهم بيان، ولا ينطق عنهم لسان. وآخرون كما قيل: قالت سكينة من هذا فقلت لها: ... أنا الذي أنت من أعدائه زعموا قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 49] وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) إنما يصيبهم ما كتب فى الكتاب الأول وهو المحفوظ، لا ما فى الكتاب الذي هو كتاب أعمالهم نسخه ما فى اللوح المحفوظ. ويقال إن عامل عبدا بما فى الكتاب الذي أثبته الملك عليه فكثير من عباده يعاملهم بما فى كتاب الملك- سبحانه، وفرق بين من يعامل بما فى كتاب الحقّ من الرحمة «2» والشفقة وبين من يحاسبه بما كتب عليه الملك من الزّلة «3»   (1) التنفس: الاستراحة من الكد والتعب (2) يشير بذلك إلى قوله تعالى «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (آية 12 سورة الأنعام) وإلى قوله تعالى: «فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (آية 54 سورة الأنعام) . (3) يشير بذلك إلى قوله تعالى: «بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» (آية 80 سورة الزخرف) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ويقال إذا حاسبهم فى القيامة يتصور لهم كأنهم فى الحال ما فارقوا الزّلة، وإن كانت مباشرة الزّلة قد مضت عليها سنون كثيرة. قوله جل ذكره: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً يملك الحزن قلبه لأنه يعلم أنه يرى فى عمله سيئة فهو فى موضع الخجل لتقصيره. وإن رأى حسنة فهو فى موضع الخجل أيضا لقلة توقيره فخجلة أهل الصدق عند شهود حسناتهم توفى وتزيد على خجلة أهل الغفلة إذا عثروا على زلّاتهم. ويقال أصحاب الطاعة إذا وجدوا ما قدّموا من العبادات فمآلهم السرور والبهجة وحياة القلب والراحة، وأمّا أصحاب المخالفات فإنما يجدون فيما قدّموا مجاوزة الحدّ ونقض العهد، وما فى هذا الباب من الزّلة وسوء القصد. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 50] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) أظهر للملائكة شظيّة مما استخلص به آدم فسجدوا بتيسير من الله- سبحانه، وسكّر بصر اللعين فما شهد منه غير العين «1» فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، ولا صدق فى قوله: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» لمّا فسق عن الأمر، ولكن أدركته الشقاوة الأصيلة فلم تنفعه الوسيلة بالحيلة. قوله جل ذكره: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ   (1) أي نظر إبليس إلى الجسد المادي لآدم فقال: خلقتنى من نار وخلقته من طين، ولم ينظر إلى الجوهر، والسبب فى ذلك في رأى القشيري أن الله أغلق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فى الآية إشارة إلى أنّ من يفرده بالولاية فلا يقتفى غيره ولا يخاف غيره. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 51] ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) أكذب المنجمين والأطباء الذين يتكلمون فى الهيئات والطبائع بقوله: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» : وبيّن أن ما يقولونه من إيجاب الطبائع لهذه الكائنات لا أصل له فى التحقيق. «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» : أي لم أجعل للذين يضلّون الناس عن دينهم بشبههم فى القول بالطبائع حجة، ولم أعطهم لتصحيح ما يقولونه برهانا. ويقال إذا تقاصرت علوم الخلق عن العلم بأنفسهم فكيف تحيط علومهم بحقائق الصمدية، واستحقاقه لنعونه إلا بمقدار ما يخصّهم به من التعريف على ما يليق برتبة كل أحد بما جعله له أهلا؟ ويقال أخبر أنّ علومهم تتقاصر عن الإحاطة بجميع أوصافهم وجميع أحوالهم وعن كلّ ما فى الكون، ولا سبيل لهم إلى ذلك ولا حاجة بهم إلى الوقوف على ما قصرت علومهم عنه، إذ لا يتعلّق بذلك شىء من الأمور الدينية. فالإشارة فى هذا أن يصرفوا عنايتهم إلى طلب العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإنه لا بدّ لهم- بحكم الديانة- من التحقق بها إذ الواجب على العابد معرفة معبوده بما يزيل التردد عن قلبه فى تفاصيل مسائل الصفات والأحكام «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 52] وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)   (1) فى هذا أبلغ رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلوم، وكيف يجافونها وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 علم الحقّ- سبحانه- أنّ الأصنام لا تغنى ولا تنفع ولا تضر، ولكن يعرّفهم فى العاقبة بما يصيّر معارفهم ضرورية «1» حسما لأوهام القوم حيث توهموا أنّ عبادتهم للأصنام فيها نوع تقرب إلى الله على وجه التعظيم له كما قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «2» . فإذا تحققوا بذلك صدقوا فى الندم، وكان استيلاء الحسرة عليهم، وذلك من أشد العقوبات لهم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 53] وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) إذا صارت الأوهام منقطعة، والمعارف ضرورية، والنار معاينة استيقنوا أنهم واقعون فى النار، فلا يسمع لهم عذر، ولا تنفع لهم حيلة، ولا تقبل فيهم شفاعة، ولا يؤخذ منهم فداء ولا عدل.. لقد استمكنت الخيبة، وغلب اليأس، وحصل القنوط، وهذا هو العذاب الأكبر. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 54] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) أوضح للكافة الحجج، ولكن لبّس على قوم النهج فوقعوا فى العوج. «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» الجدل فى الله محمود مع أعدائه، والجدل مع الله شرك لأنه صرف إلى مخالفة توهم أن أحدا يعارض التقدير، وتجويز ذلك انسلاخ   (1) المعارف إما ضرورية أو كسبية، والضرورية من الحق، والكسبية من الخلق. (2) آية 3 سورة الزمر. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 عن الدّين. ومن أمارات السعادة للمؤمن فتح باب العمل عليه، وإغلاق باب الجدل دونه. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 55] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) لا عذر لهم إذا لجأوا إلى ما تعاطوه من العصيان وترك المبادرة إلى المأمور، ولا توفيق يساعدهم فيخرجهم عن حوار الداعي إلى عزم الفعل، فهم- وإن لم يكونوا بنعت الاستطاعة على ما ليسوا يفعلونه- ليسوا عاجزين عن ذلك ولكنهم بحيث لو أن العبد منهم أراد ما أمر به لتأبّى منه ذلك، وتعذّر عليه ففى الحال ليس بقادر على ما ليس يفعله ولا هو عاجز عنه، وهذا يسميه القوم حال التخلية وهى واسطة بين القدرة والعجز. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 56] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) أرسل الرسل- عليهم السلام- تترى، وأيّدهم بالحجج والبراهين، وأمرهم بالإنذار والتخويف، والتشريف فى عين التكليف، وتضمين ذلك بالتحقيق، ولكن سعد قوم باتباعهم، وشقى آخرون بخلافهم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 57] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 لا أحد أظلم ممّن ذكّر ووعظ بما لوّح له من الآيات، وبما شاهده وعرفه من أمر أصلح أو شغل كفى أو دعاء أجيب له، أو سوء أدب حصل منه، فأدّب بما يكون تنبيها له، أو حصلت منه طاعة وكوفىء فى العاجل إمّا بمعني وجده فى قلبه من بسط أو حلاوة أو أنس، وإمّا بكفاية شغل أو إصلاح أمر.. ثم إذا استقبله أمر نسى ما عومل به، أو أعرض عن تذكّره، ونسى ما قدّمت يداه من خيره وشرّه، فوجد فى الوقت موجبه.. ومن كانت هذه صفته جعل على قلبه سترا وغفلة وقسوة حتى تنقطع عنه بركات ما وهبه. ويقال من أظلم ممن يستقبله أمر مجازاة لما أسلفه من ترك أربه فيتّهم ربّه، ويشكو مما يلاقيه، وينسى حرمة الذي بسببه أصابه ما أصابه؟ وكما قيل: وعاجز الرأى مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا قوله جلّ ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 58] وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) «غفور» : لأنه ذو الرحمة، ورحمته الأزلية أوجبت المغفرة لهم. ويقال «الْغَفُورُ» : للعاصين من عباده، و «ذُو الرَّحْمَةِ» بجميعهم فيصلح أحوال كافتهم. «لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا» : لعجّل لهم العذاب أي عاملهم بما استوجبوه من عصيانهم، فعجّل لهم العقوبة، لكنه يؤخرها لمقتضى حكمته، ثم فى العاقبة يفعل ما يفعل على قضية إرادته وحكمه. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 59] وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) لمّا لم يشكروا النّعم ولم يصبروا فى المحن عجّلنا لهم العقوبة. ويقال لمّا غفلوا عن شهود التقدير، وحرموا روح الرضا وكّلناهم إلى ظلمات تدبيرهم، فطاحوا فى أودية غفلاتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 61] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) لما صحّت صحبة يوشع مع موسى عليهما السلام استحقّ اسم الفتوة، ولذا قال: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» وهو اسم كرامة لا اسم علامة. جعل دخول السمك الماء علامة لوجود الخضر هنالك «1» ، ثم أدخل النسيان عليهما ليكون أبلغ فى الآية، وأبعد من اختيار البشر. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 62] فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) كان موسى فى هذا السّفر متحمّلا، فقد كان سفر تأديب واحتمال مشقة، لأنه ذهب لاستكثار العلم. وحال طلب العلم حال تأديب ووقت تحمّل المشقة، ولهذا لحقه الجوع، فقال: «لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» . وحين صام فى مدة انتظار سماع الكلام من الله صبر ثلاثين يوما، ولم يلحقه الجوع ولا المشقة، لأن ذهابه فى هذا السفر كان إلى الله، فكان محمولا. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 63 الى 64] قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)   (1) كان الحوت سمكة مملوحة، فنزلا ليلة على شاطىء عين الحياة ونام موسى، فلما أصاب السكة الماء عاشت ووقعت فى الماء (النسفي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 «1» طال عليهما السفر لأنهما احتاجا إلى الانصراف إلى مكانهما، ثم قال يوشع: «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» : الله- سبحانه- أدخل عليه النسيان ليكون الصّيد من تكلفه، ثم قال: «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» : يعنى دخول السمك الماء وكان مشويا فصار ذلك معجزة له، فلما انتهيا إلى الموضع الذي دخل السمك فيه الماء لقيا الخضر. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 65] فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) إذا سمى الله إنسانا بأنه عبده جعله من جملة الخواص فإذا قال: «عبدى» جعله من خاص الخواص. «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» : أي صار مرحوما من قبلنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوما، ويكون بها راحما على عبادنا. «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» : قيل العلم من لدن الله «2» ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتّطلّب. ويقال ما يعرّف به الحقّ- سبحانه- الخواص من عباده. ويقال ما يعرّف به الحق أولياءه فيما فيه صلاح عباده.   (1) قال الزجاج: القصص اتباع الأثر، فقص قصصا: اتبع الأثر. (2) يتخذ الصوفية من قصة الخضر وموسى مصدرا ثريا لاستمداد كثير من أصولهم فيما يتصل بالعلم اللدني وعلم الوراثة، والولاية والنبوة، والعلاقة بين المريد والشيخ، وفكرة الظاهر والباطن، والملامة على ظاهر مستشنع باطنه سليم.. ونحو ذلك. وقد نجد خلال إشارات القشيري شيئا من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وقيل هو ما لا يعود منه نفع إلى صاحبه، بل يكون نفعه لعباده ممّا فيه حقّ الله- سبحانه. ويقال هو ما لا يجد صاحبه سبيلا إلى جحده، وكان دليلا على صحة ما يجده قطعا، فلو سألته عن برهانه لم يجد عليه دليلا فأقوى العلوم أبعدها من الدليل «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 66] قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) تلطف فى الخطاب حيث سلك طريق الاستئذان، ثم صرّح بمقصوده من الصحبة بقوله: «عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» . ويقال إن الذي خصّ به الخضر من العلم لم يكن تعلمه من أستاذ ولا من شخص، فما لم يكن بتعليم أحد إياه.. متى كان يعلمه غيره؟ قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 67 الى 69] قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) سؤال بذلك العطف وجواب بهذا العطف! ثم تدارك قلبه بقوله: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟» ، فأجابه موسى: «قالَ سَتَجِدُنِي ... » وعد من نفس موسى بشيئين: الصبر، وبأن لا يعصيه فيما يأمر به، فأمّا الصبر فقرنه بالاستثناء بمشيئة الله فقال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» فصبر حتى وجد صابرا، فلم يقبض على يدى الخضر فيما كان منه من الفعل، والثاني قوله: «لا أَعْصِي»   (1) وسر قوة العلم الذي يبعد عن الدليل أنه من الحق، وبقدر ما تختفى الجوانب الإنسانية فى العلم وتبرز المنن الإلهية فيه تكون نصاعة برهانه وقوة بيانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 «لَكَ أَمْراً» : أطلقه ولم يقرنه بالاستنشاء، فما استنشأ لأجله لم يخالفه فيه، وما أطلقه وقع فيه الخلف «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 70] قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فإنه ليس للمريد أن يقول: «لا» لشيخه، ولا التلميذ لأستاذه، ولا العامىّ، للعالم المفتى فيما يفتى ويحكم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 71] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) لما ركبوا الفلك خرقها وكان ذلك إبقاء على صاحبها لئلا يرغب فى السفينة المخروقة الملك الطامع فى السفن. وقوله: «لِتُغْرِقَ أَهْلَها» أي لتؤدى عاقبة هذا الأمر إلى غرق أهلها لأنه علم أنه لم يكن قصد إغراق أهل السفينة. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 72] قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) أي أنت تنظر إلى هذا من حيث العلم، وإنّا نجريه من حيث الحكم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 73] قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) طالبه بما هو شرط العلم حيث قال: «لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» لأن الناسي لا يدخل تحت التكليف، وأيّد ذلك بما قرن به قوله: «وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» فالمتمكّن من حقه   (1) الخلف- الإخلاف، فقد خالف موسى الأمر حين كان ينسى ويتساءل عقب كل حادثة فى القصة، وكان الحضر فى كل مرة يقول: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 التكليف، ومن لا يصحّ منه الفعل والترك لا يتوجه () «1» والناسي «2» من جملتهم. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 74] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) كان بخلق العلم واجبا على موسى- عليه السلام- قصره حيث يرى فى الظاهر ظلما، ولكن فيما عرف من حال الخضر من حقه التوقف ريثما يعلم أنه ألمّ بمحظور أو مباح، ففى ذلك الوقت كان قلب العادة. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 75] قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) كرّر قوله: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ... » لأنه واقف بشرط العلم، وأمّا فى محل الكشف فشرط عليه موسى عليه السلام فقال: [سورة الكهف (18) : آية 76] قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) بلغ عصيانه ثلاثا والثلاثة آخر حدّ القلّة وأوّل حدّ الكثرة، فلم يجد المسامحة بعد ذلك «3» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 77] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) .   (1) بياض فى النسخة، ونرجح أن المفقود (عليه لوم) او مؤاخذة. (2) وردت (والناس) والسياق يتطلب (والناسي) بالياء إذ جاء فى الآية ( ... بما نسيت) . (3) قد تكشف هذه العبارة عن تصور القشيري لأقصى درجات الذنب القابل للتوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 كان واجبا فى ملتهم على أهل القرية إطعامهما، ولم يعلم موسى أنه لا جدوى من النكير عليهم ولو كان أغضى على ذلك منهم لكان أحسن. فلمّا أقام الخضر جدارهم ولم يطلب عليه أجرا لم يقل موسى إنك قمت بمحظور، ولكنه قال له: «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» أي إن لم تأخذ بسببك فلو أخذت بسببنا لكان أخذك خيرا لنا من تركك ذلك، ولئن وجب حقّهم فلم أخللت بحقنا؟ ويقال إنّ سفره ذلك كان سفر تأديب فردّ إلى تحمّل المشقة، وإلّا فهو حين سقى لبنات شعيب فإنّ ما أصابه من التعب وما كان فيه من الجوع كان أكثر «1» ، ولكنه كان فى ذلك الوقت محمولا وفى هذا الوقت متحمّلا. فلما قال موسى هذا قال له الخضر: [سورة الكهف (18) : آية 78] قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أي بعد هذا فلا صحبة بيننا. ويقال قال الخضر إنّك نبيّ.. وإنما أؤاخذك بما قلت، فأنت شرطت هذا الشرط وقلت: إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى وإنما أعاملك بقولك. ويقال لمّا لم يصبر موسى معه فى ترك السؤال لم يصبر الخضر أيضا معه فى إدامة الصحبة فاختار الفراق. ويقال ما دام موسى عليه السلام سأله لأجل الغير- فى أمر السفينة التي كانت للمساكين، وقتل النّفس بغير حق- لم يفارقه الخضر، فلمّا صار فى الثالثة إلى القول فيما كان فيه حظّ لنفسه من طلب الطعام ابتلى بالفرقة، فقال الخضر: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» . ويقال كما أن موسى- عليه السلام- كان يحب صحبة الخضر لما له فى ذلك من غرض الاستزادة من العلم فإن الخضر كان يحب ترك صحبة موسى عليه السلام إيثارا للخلوة بالله عن المخلوقين.   (1) ومع ذلك لم يطلب اجرا، ولم يفكر في ذلك البتة.. لأنه كان بحق الله ولكنه فى هذا الموقف كان متكلفا، فهو يفكر بحظ نفسه، ولذا فكر فى الأجر وطلب الطعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 79] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) لما فارق الخضر موسى عليه السلام لم يرد أن يبقى فى قلب موسى شبه اعتراض فأزال عن قلبه ذلك بما أوضح له من الحال، وكشف له أنّ السّرّ فى قصده من خرق السفينة سلامتها وبقاؤها لأهلها حيث لن يطمع فيها الملك الغاصب، فبقاء السفينة لأهلها- وهى مصيبة- كان خيرا لهم من سلامتها وهى مغضوبة. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 80 الى 81] وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) بيّن له أن قتل الغلام لمّا سبق به العلم مضى من الله الحكم أنّ فى بقائه فتنة لوالديه، وفى إبدال الخلف عنه سعادة لهما. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 82] وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) أما تسوية الجدار فلاستبقاء كنز الغلامين وترك طلب الرفق من الخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 90 الى 92] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) أقوام هم أهل مطلع الشمس الغالب عليهم طول نهارهم، وآخرون كانوا من أهل مغرب الشمس الغالب عليهم استتار شمسهم.. كذلك الناس فى طلوع شمس التوحيد: منهم الغالب عليهم طلوع شموسهم، والحضور نعتهم والشهود وصفهم والتوحيد حقّهم، وآخرون لهم من شموس التوحيد النصيب الأقل والقسط الأرذل. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 93 الى 95] حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) أي ما كانوا يهتدون إلا إلى لسان أنفسهم، وما كانوا يفقهون فقه غيرهم فلجئوا إلى عبراتهم فى شرح قصتهم، ورفعوا إليه- فى باب يأجوج وماجوج- مظلمتهم، وضمنوا له خراجا يدفعونه إليه، فأجابهم إلى سؤلهم، وحقّق لهم بغيتهم، ولم يأخذ منهم ما ضمنوا له من الجباية، لمّا رأى أنّ من الواجب عليه حق الحماية على حسب المكنة. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 96] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 استعان بهم فى الذي احتاج إليه منهم من الإمداد بما قال: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» فلمّا فعلوا ما أمرهم به، ونفخوا فيه النار جعل السد بين الصدفين أي جانبى الجبل. ثم أخبر أنه إنما يبقى ذلك إلى أن يأذن الله له فى الخروج، وتندفع عن الناس عادية ( .... ) «1» إلى الوقت المضروب لهم فى التقدير. وبعد ذلك يكون من شأنهم ما يريد الله. وبيّن- سبحانه- أنّ خروجهم من وراء سدّهم من أشراط الساعة. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 101] الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) نظروا بأعين رءوسهم لأنهم فقدوا نظر القلب من حيث الاعتبار والاستدلال، ولم يكن لهم سمع الإجابة لما فقدوا من التوفيق، فتوجه عليهم التكليف ولم يساعدهم التعريف. قوله: «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» : لأنهم فقدوا من قبله- سبحانه- الإسماع فلم يستطيعوا لهم القبول. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 102] أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) أي توهموا أنه ينفعهم ما فعلوه حسب ظنهم، واعتقدوا فى أصنامهم استحقاق التعظيم، وكانوا يقولون: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «2» ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.   (1) مشتبهة. (2) آيه 3 سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 104] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) ضلّ سعيهم لأنهم عملوا لغير الله.. وما كان لغير الله فلا ينفع. ويقال الذين ضلّ سعيهم هم الذين قرنوا أعمالهم بالرياء، ووصفوا أحوالهم بالإعجاب، وأبطلوا إحسانهم بالملاحظات أو بالمنّ. ويقال هم الذين يلاحظون أعمالهم وما منهم بعين الاستكثار «1» . قوله جل ذكره: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً لم يكونوا أصحاب التحقيق، فعملوا من غير علم، ولم يكونوا على وثيقة «2» قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 105] أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) عموا عن شهود الحقيقة فبقوا فى ظلمة الجحد، فتفرقّت بهم الأوهام والظنون، ولم يكونوا على بصيرة، ولم تستقر قلوبهم على عقيدة مقطوع بها فليس لهم فى الآخرة وزن ولا خطر، اليوم هم كالأنعام، وغدا واقعون ساقطون ( ... ) «3» الأقدام. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 106] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)   (1) ملاحظة الأعمال واستكثارها من أخطر دعاوى النفس، كثيرا ما حذّر منهما أهل الملامة فى نيسابور- موطن القشيري. (2) الوثيقة ما يضبط به الأمر ويحكم. (3) مشتبهة، وقد ضبطنا (الأقدام) بفتح الهمزة مراعاة للانسجام مع (الأنعام) على عادة القشيري فى ضبط الموسيقى الداخلية للجمل والفقرات، ومع ذلك فإنّ صحة ضبطها تتوقف على معرفة الكلمة المشتبهة. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 هم اليوم فى عقوبة الجحد، وغدا فى عقوبه الردّ. اليوم هم فى ذلّ الفراق، وغدا فى أليم الاحتراق. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 107] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) لهم جنات معجّلة سرا، ولهم جنان مؤجلة جهرا. اليوم جنان الوصل وغدا جنان الفضل. اليوم جنان العرفان وغدا جنان الرضوان. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 108] خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) عرّفنا- سبحانه- أن ما يخوّله لهم غدا يكون على الدوام، فهم لا ينفكون عن أفضالهم، ولا يخرجون عن أحوالهم فهم أبدا فى الجنة، ولا إخراج لهم منها. وأبدا لهم الرؤية، ولا حجاب لهم عنها «1» . قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 109] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) أي لا تعدّ معانى كلمات الله لأنه لا نهاية لها فإنّ متعلقات الصفة القديمة لا نهاية لها كمعلومات الحقّ- سبحانه- ومقدوراته وسائر متعلقات صفاته. والذي هو مخلوق «2» لا يستوفى ما هو غير متناه- وإن كثر ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الكهف (18) : آية 110] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)   (1) القشيري من الباحثين الذين يصرحون بالرؤية بالأبصار فى الآخرة، أما فى الدنيا فيقول: الأقوى فيه أنه لا يجوز، الرسالة ص 175. (2) يفصد (البحر) إذا صار مدادا فالبحر يتناهى. وكلمات الله لا تتناهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 أخبر أنّك لهم من حيث الصورة والجنسية مشاكل، والفرق بينك وبينهم تخصيص الله- سبحانه- إياك بالرسالة، وتركه إياهم فى الجهالة. ويقال: قل اختصاصى بما لى من (الاصطفاء) «1» ، وإن كنا- أنا وأنتم- فى الصورة أكفاء. قوله جل ذكره: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً حمل الرجاء فى هذه الآية على خوف العقوبة ورجاء المثوبة حسن، ولكنّ ترك هذا على ظاهره أولى فالمؤمنون قاطبة يرجون لقاء الله. والعارف بالله- سبحانه- يرجو لقاء الله والنظر إليه والعمل الصالح الذي بوجوده يصل إلى لقائه هو صبره على لواعج اشتياقه، وأن يخلص فى عمله. «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ» : أي لا يلاحظ عمله، ولا يستكثر طاعته، ويتبرأ من حوله وقوّته. ويقال العمل الصالح هنا اعتقاد (وجود الصراط ورؤيته وانتظار وقته) «2»   (1) هنا كلمة منبهمة فى الخط، فوضعنا كلمة (الاصطفاء) من عندنا فهى أليق بالمعنى والسياق. (2) هكذا في ص وليس واضحا عودة الضمير فى (رؤيته) هل هى على الصراط أم على الحق. فنحن تعلم أن القشيري شافعىّ من حيث مذهبة الفقهي، ونعلم كذلك أن الشافعي يقول: لو علم ابن إدريس أنه لا يرى ربّه يوم القيامة ما عبده. انتهت سورة الكهف بهذا التذييل فى النسخة من. [تمّ بعون الله تعالى وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ 12 شهر شوال سنة 1134] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا سورة مريم عليها السلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله، اسم عزيز من عبده واصل جهاده، ومن طلبه ودّع وساده، ومن عرفه أنكر أحبابه. ومن يسّر له أوقفه على محبته. من ذكره نسى اسمه، ومن شهده فقد عقله ولبّه «1» . اسم عزيز جبلّت القلوب على محبته، وكل قلب ليس يوقفه على محبته، فليس بحيلة يصل. اسم ما اتصفت أشباح الأبرار إلا بعبادته، وما اعتكفت أرواح الأحرار إلا بمشاهدته. اسم عزيز من عرفه اعترف أنه وراء ما وصفه. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) تعريف للأحباب بأسرار معانى الخطاب، حروف خصّ الحقّ المخاطب بها بفهم معانيها، وإذا كان للأخيار سماعها وذكرها، فللرسول- عليه السلام- فهمها وسرّها. ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي فى الإنعام والانتقام، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحكم.   (1) المقصود بفقد العقل واللب هنا غيبة التمييز فى حال الشهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ويقال فى الكاف تعريف بكونه مع أوليائه، وتخويف بخفيّ مكره فى بلائه. ويقال فى الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نفسه قبل كتابة الملائكة الزّلّة على عباده. والهاء تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه، وماله من الحق بحكم إحسانه. والياء إشارة إلى يسر نعمه بعد عسر محنه. وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده. والعين تشير إلى علمه بأحوال عبده فى سرّه وجهره، وقلّه وكثره، وحاله ومآله، وقدر طاقته وحق فاقته. وفى الصاد إلى أنه الصادق فى وعده. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 2] ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) تخصيصه إياه بإجابته فى سؤال ولده، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 3] إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) وإنما ذلك لئلا يطّلع أحد على سرّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه، والاعتقاد بالسّوء فى نفسه، ثم أخفى سرّه عن الخلق لئلا يقع لأحد إشراف على حاله، ولئلا يشمت بمقالته أعداؤه. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 4] قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) أي لقيت بضعفي عن خدمتك ما لا أحبّه فطعنت فى السنّ، ولا قوة بعد المشيب فهب لى ولدا ينوب عنى فى عبادتك. قوله جل ذكره: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. أي إنى أسألك واثقا بإجابتك لعلمى بأنى لا أشقى بدعائك فإنّك تحبّ أن تسأل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 ويقال إنك عوّدتنى إجابة الدعاء، ولم تردّنى فى سالف أيامى إذا دعوتك. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 5 الى 6] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) إنى خفت أن تذهب النبوة من أهل بيتي، وتنتقل إلى بنى أعمامى فهب لى ولدا يعبدك، ويكون من نسلى ومن أهلى. وهو لم يرد الولد بشهوتة الدنيا وأخذ الحظوظ منها، وإنما طلب الولد ليقوم بحقّ الله، وفى قوله: «يَرِثُنِي» دليل على أنه كما سأل الولد سأل بقاء ولده فقال: ولدا يكون وارثا لى أي يبقى بعدي، ويرث من آل يعقوب النبوة وتبليغ الرسالة. واجعله ربّ رضيا: رضى فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مرضيّا لك. ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضيا منك، وراضيا بتقديرك. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 7] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) أي استجبنا لدعائك، ونرزقك ولدا ذكرا اسمه يحيى تحيا به عقرة أمّه، ويحيا به نسبك، ويحيا به ذكرك، وما سألته من أن يكون نائبا عنك فيحيا به محلّ العبادة والنبوة فى بيتك. «لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» : انفراده- عليه السلام- بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة أي لم يكن له سمىّ قبله فلا أحد كفو له فى استجماع أوصاف فضله. ويقال لم نجعل له من قبل نظيرا لأنه لم يكن أحد لا ذنب له قبل النبوة ولا بعدها غيره «1»   (1) هذا رأى في مذهب القشيري الكلامى يتصل بقضية هامة: هل يكون من النبي ذنب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 8] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) سأل الولد فلمّا أجيب قال أنّى يكون لى غلام؟ ومعنى ذلك- على ما جاء فى التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدة طويلة فكأنه سأل الولد فى ابتداء حال سنّه، واستجيبت دعوته بعد ما تناهى فى سنّه، فلذلك قال: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؟» . ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد.. أمن هذه المرأة وهى عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفزشها؟ فالسؤال إنما كان لتعيين من منها يكون الولد. فقال تعالى: [سورة مريم (19) : آية 9] قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة فى هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرّ العادة ولادة مثل هذه المرأة دلالة ومعجزة لك على قومك، فتكون للإجابة بالولد من وجه معجزة ومن وجه راحة وكرامة. قوله جل ذكره: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً دلّت الآيه على أن المعدوم ليس بشىء لأنه نفى أن يكون قبل خلقه له كان شيئا. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 10] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) أراد علامة على علوق المرأة بالولد ولم يرد علامة يستدل بها على صدق ما يقال له. فأخبره تعالى: أنبئك علامة وقت إجابتك.. إنّ لسانك لا ينطق معهم بالمخاطبة- ولو اجتهدت كلّ الجهد- ثلاثة أيام، وعليك أن تخاطبني، وأن تقرأ الكتب المنزّلة التي كانت فى وقتك. فكان لا ينطق لسانه إذا أراد أن يكلّمهم، وإذا أراد أن يقرأ الكتب أو يسبّح الله انطلق مع الله لسانه. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 11] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 أي فلمّا خرج عليهم عرّفهم- من طريق الإشارة «1» - أنّ اللسان الذي كان يخاطبهم به ليس الآن منطلقا. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 13] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة منّا، خصصناك بها.. لا قوة يد ولكن قوة قلب، وذلك خير خصّه الله تعالى به وهو النبوة. ودلّت الآية على أنه كان من الله له كتاب. «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» أي النبوة، بعثه الله بها إلى قومه، وأوحى إليه وهو صبّى. ويقال الحكم بالصواب والحقّ بين الناس. ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر. قوله وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي آتيناه رحمة من عندنا، وطهارة وتوفيقا لمجلوبات التقوى وتحقيقا لموهوباتها فإن التقوى على قسمين: مجموع ومجلوب يتوصّل إليه العبد بتكلّفه وتعلّمه، وموضوع من الله تعالى ومرهوب منه يصل إليه العبد ببذله سبحانه وبفضله. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 14] وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) «بَرًّا بِوالِدَيْهِ» كأمر الله- سبحانه- له بذلك لا لمودّة البشر وموجب عادة الإنسانية. ولم يكن متمردا عن الحق، جاحدا لربوبيته. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 15] وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) أي له منّا أمان يوم القيامة، ويوم ولادته فى البداية، ويوم وفاته فى النهاية، وهو أن يصونه عن الزّيغ والعوج فى العقيدة بما يشهده على الدوام من حقيقة الإلهية.   (1) كأنما يقصد القشيري إلى بيان أنّ الإشارة تغنى عن العبارة وأنها بأمر إلهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وكذلك هو فى القيامة له منه- سبحانه- الأمان فهو فى الدنيا معصوم عن الزلة. محفوظ عن الآفة. وفى الآخرة معصوم عن البلاء والمحنة. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 17] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) اعتزلت عنهم لتحصيل يطهرها، فاستترت عن أبصارهم. فلمّا أبصرت جبريل فى صورة إنسان لم تتوقعه أحسّت فى نفسها رعبا، ولم تكن لها حيلة إلا تخويفه بالله، ورجوعها إلى الله. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 18] قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالت مريم لجبريل- وهى لم تعرفه- إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يخاف ويتقّى منه أي إن كنت تقصد السوء. ومعنى قولها «بِالرَّحْمنِ» ولم تقل: «بالله» - أي بالذي يرحمنى فيحفظنى منك. ويقال يحتمل أن يكون معناه: إن كنت تعرف الله وتكون متقيا مخالفة أمره فإنّى أعوذ بالله منك وأحذر عقوبته. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 19] قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) تعرّف جبريل إليها بما سكّن روعها، وقرن مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام. [سورة مريم (19) : الآيات 20 الى 21] قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 قالت أنى يكون لى ولد ولم ألمّ بزلة ولا فاحشة؟ فقال جبريل- عليه السلام-: الأمر كما قلت لك فلا يتعصّى ذلك على الله تعالى إذ هو أقدر أن يجعل هذا الولد دلالة على كمال قدرته، ويكون هذا الولد رحمة منه- سبحانه- لمن آمن، وسبب جهل للآخرين. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 22] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) لمّا ظهر بها الحمل، وعلمت أنّ الناس يستبعدون ذلك، ولم تثق بأحد تفشى إليه سرّها.. مضت إلى مكان بعيد عن الخلق. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 23] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) ألجأها وجع الولادة إلى الاعتماد إلى جذع النخلة. ولمّا أخذها الطلق، وداخلها الخجل من قومها نطقت بلسان العجز، وقالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» . ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقا من قومها، لأنها علمت أنّهم سيبسطون لسان الملامة فيها بلسان الفجر وينسبونها إلى الفحشاء. ويقال قالتها شفقة على قومها لئلا تصيبهم بسببها عقوبة. ويقال قالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» حتى لم أسمع من قال فى الله تعالى بسببى إن عيسى ابن الله وابن مريم، وإن مريم زوجته ... تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا! ويقال «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» : فى الوقت الذي كنت مرفوقا بي، ولم تستقبلنى هذه الخشونة فى الحالة التي لحقتني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ويقال «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» : فى الوقت الذي لم يكن قلبى متعلقا بسبب. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 24] فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) «1» فى التفسير أنّ المعنيّ بقوله «مِنْ تَحْتِها» : جبريل عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام. والمقصود منه تسكين ما كان بها من الوحشة، والبشارة بعيسى عليه السلام، أي يرزقك الله ولدا سريا. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 25 الى 26] وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) وكان جذعا يابسا أخرج الله تعالى منه فى الوقت الثمرة، وهى الرّطب الجنىّ، وكان فى ذلك آية ودلالة لها فالذى قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى- عليه السلام- من غير أب. ويقال عند ما كانت مجرّدة بلا علاقة، فقد كان زكريا- عليه السلام- يجد عندها رزقا من غير أن أمرت بتكلف، فلمّا جاءت علاقة الولد أمرت بهزّ النخلة اليابسة- وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد، ليعلم أنّ العلاقة توجب العناء والمشقة. ويقال بل أمرت بهزّ النخلة اليابسة، وكان تمكنها من ذلك أوضح دلالة على صدقها فى حالها. ويقال لمّا لم يكن لها فى هذه الحالة من يقوم بتعهدها تولّى الله تعالى كفايتها ليعلم العالمون أنه لا يضيع خواصّ عباده فى وقت حاجتهم. قوله جل ذكره:   (1) السرى- السيد الكريم، وقيل هو نهر صعير أو جدول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 كفاها أسباب ما احتاجت إليه من أكلها وشربها، وسكّن من خوفها، وطيّب قلبها. «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً» : فلا تخاطبيهم وعرّفيهم- بالإشارة- أنّك نذرت للرحمن الصمت مع الخلق، وترك المخاطبة معهم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 28] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) بسط قومها فيها لسان الملامة لما رأوها قد ولدت- وظاهر الحال كان معهم- فقالوا لها على سبيل الملامة: يا من كنا نعدّك فى الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح.. من أين لك هذه الحالة الشنعاء؟ ويقال كان أخوها اسمه هارون: ويقال كان هارون رجلا فاسقا فى قومهم، فقالوا: يا شبيتهه فى الفساد.. ما هذا الولد؟ ويقال كان هارون رجلا صالحا فيهم فقالوا: يا أخت هارون، ويا من فى حسابنا وظنّنا ما كان أبواك فيهما سوء ولا فساد.. كيف أتيت بهذه الكبيرة الفظيعة؟! قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 29] فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) فى الظاهر أشارت إلى الولد، وفى الباطن أشارت إلى الله، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا: كيف نكلّم من هو أهل بأن ينوّم فى المهد؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ف «كانَ» هاهنا فى اللفظ صلة.. وحملوا ذلك منها على الاستهانة بفعلتها. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 30] قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) لما قالوا ذلك أنطق الله عيسى حتى قال: إنى عبد الله، فظهرت براءة ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثله. وجرى على لسانه حتى قال: إنى عبد الله ليقال للنصارى إن صدق عيسى أنه عبد الله بطل قولكم إنه ثالث ثلاثة، وإن كذب فالذى يكذب لا يكون ابنا لله، وإنما يكون عبدا لله، وإذا لم يكن عبد هواه، ولا فى أسر شىء سواه فمن تحرر من غيره فهو فى الحقيقة عبده. و «آتانِيَ الْكِتابَ» : أي سيؤتينى الكتاب أو آتاني فى سابق حكمه. «وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» بفضله. وفى الآية ردّ على من يقول إن النبوة تستحقّ بكثرة الطاعة لأنه قال ذلك فى حال ولادته ولم تكن منه بعد عبادة وأخبر أن الله جعله نبيا «1» . قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 31 الى 32] وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) أي نافعا للخلق يرشدهم إلى أمور دينهم، ويمنعهم من ارتكاب الزّلّة التي فيها هلاكهم، ومن استضاء بنوره نجا. فهذه بركاته التي كانت تصل إلى الخلق. ومن بركاته إغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وإرشاد الضال، والنصيحة للخلق، وكفّ الأذى عنهم وحمل الأذى منهم. وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يجعلنى غير قابل للنصيحة.   (1) فى موضع آخر حاول القشيري ان يوضح ضرورة استقلال عمل الإنسان والنظر إليه بعين الاستصغار رغبة منه في ربط كل شىء بالفضل والاجتباء الإلهيين، فاستشهد بأن عيسى صار نبيا- وهو بعد لم تكن منه طاعة ولا عمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 ويقال «شَقِيًّا» : أي متكبرا متجبرا. ويقال مختوما بكفر. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 33] وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) قال عيسى عليه السلام: «وَالسَّلامُ عَلَيَّ» ، وقال لنبينا عليه السلام ليلة المعراج: «السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته» .. فشتان ما هما! والسلام بمعنى السلامة، أي سلامة لى يوم الولادة مما نسبوا إلىّ من قول النصارى في مجاوزة الحدّ فى المدح، ومما وصفنى به اليهود من الذمّ «1» ، فلست كما قالت الطائفتان جميعا. وسلام علىّ يوم أموت ففى ذلك اليوم تكون لى سلامة حتى تكون بالسعادة وفاتي. وسلام علىّ يوم أبعث أي سلامة لى فى الأحوال ممّا يبتلى به غير أهل الوصال. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 34] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) أي الذي قال ما أخبر الله عنه هو عيسى ابن مريم ... أيكون بقول إله؟ وقد شكّ فيه أكثر الخلق فردّه قوم وقبله قوم، والفرق بينهما فى استحقاقه «2» . وقوله: «قَوْلَ الْحَقِّ» أي يكون بقوله الحق وهو: قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 35 الى 36] ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) لا يجوز أن يكون له ولد على الحقيقة لأنه واحد، والولد بعض والده.   (1) فقد اتهم اليهود امه بالزنا. (2) أي فى نصيبه من الحق الفارق بين الردّ والقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ولأنه لا داعى له إلى صحبة زوجة فيكون له ولد على الحقيقة. ولا يجوز عليه التبني لأحد لعدم الجنسية بينهما. وقوله: «وَإِذا قَضى أَمْراً ... » إذا أراد إحداث شىء خلقه بقدرته، وخاطبه بأمر التكوين «1» ، ولا يتعّصى عليه- فى التحقيق- مقدور. «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» أي أمرنى بأن تعلموا ذلك وأمرنى بتبليغ رسالتى، واتباع ما شرع الله من العبادات. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 37] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) فمن عجنت بماء السعادة طينته أطاع فى عاجله وما ضاع فى آجله، ومن أقصته القسمة السابقة لم تدنه الخدمة اللاحقة، وسيلقون غبّ هذا الأمر. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 38] أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) صير معارفهم ضرورية، وأحوالهم كلّها معكوسة، والحجّة تتأكّد عليهم، والحاجة لا تسمع منهم، والرحمة لا تتعلّق بهم، فلا ترحم شكاتهم، ولا يسمع نداؤهم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 39] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) تقوم الساعة بغتة، وتصادفهم القيامة وهم غير مستعدين لها فيتحسّرون على ما فانهم. ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سبقت لقوم الشقاوة- وهم فى محو العدم، ولآخرين السعادة- وهم بنعت العدم، ولم يكن من أولئك جرم بعد، ولا من هؤلاء وفاق بعد.   (1) أي كن فيكون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 40] إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) يريد به إذا قبض أرواح بنى آدم بجملتهم، ولم يبق على وجه الأرض منهم واحد، وليس يريد به استحداث ملكه، وهو اليوم مالك الأرض ومن عليها، ومالك الكون وما فيه. ويقال إن زكريا قال- لمّا سأل الولد: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقال تعالى فى صفة بنى إسرائيل: «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» «1» وقال: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» «2» ، ولما انتهى إلى هذه الأمة «3» قال: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها» .. فشتان بين من وارثه الولد وبين من وارثه الأحد! ويقال هان على العبد المسلم إذا مات إذا كان الحقّ وارثه.. وهذا مخلوق يقول فى صفة مخلوق: فإن يك عتّاب مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد وقال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ» «4» لماذا؟ لأنّ وارثهم الله. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 41] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) الصّديق الكثير الصدق، الذي لا يمازج صدقه شوب. ويقال هو الصادق فى أقواله وأعماله وأحواله. ويقال الصدّيق لا يناقض سرّه علنه.   (1) آية 59 سورة الشعراء. (2) آية 128 سورة الأعراف. [ ..... ] (3) يقصد امة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه. (4) آية 168 سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ويقال هو الذي لا يشهد غير الله مثبتا ولا نافيا. ويقال هو المستجيب لما يطالب به جملة وتفصيلا. ويقال هو الواقف مع الله فى عموم الأوقات على حدّ الصدق. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 42] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) دلّت الآية على استحقاق المعبود الوصف بالسمع والبصر على الكمال دون نقصان فيه، وكذلك القول فى القدرة على الضّرّ والنفع. وإذا رجع العبد إلى التحقيق علم أن كلّ الخلق لا تصلح قدرة واحد منهم للإبداع والإحداث، فمن علّق قلبه بمخلوق، أو توهّم شظية منه من النفي والإثبات فقد ضاهى عبدة الأصنام. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 43] يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) أمره باتباعه لمّا ترجح عليه جانبه فى كون الحقّ معه- وإن كان أكبر منه سنّا، وبيّن أن الخلاص فى اتباع أهل الحقّ، وأنّ الهلاك فى الابتداع والتطوح فى مغاليط الطرق. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 44] يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) بيّن أنّ العلة فى منعه من عبادة الشيطان عصيانه للرحمن فبان أنّه لا ينبغى أن تكون طاعة لمن يعصى الله بحال. ويقال أساس الدّين هجران أرباب العصيان. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 45] يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 لم يغادر الخليل شيئا من الشفقة على أبيه، ولم ينفعه جميل وعظه، ولم تنجع فيه كثرة نصحه فإنّ من أقصته سوابق التقدير لم تخلّصه لواحق التدبير. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 46] قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) مناه ابراهيم بجميل العقبي، فقابله بتوعّد العقوبة فقال: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. فأجابه الخليل بمقتضى سكون البصيرة فقال: [سورة مريم (19) : آية 47] قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وهذا قبل أن ييأس من إيمانه، إذ كانت لديه بعد بقية من الرجاء فى شانه، فلمّا تحقق أنه مختوم له بالشقاوة قال له: [سورة مريم (19) : آية 48] وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) «ما تَدْعُونَ» : أي ما تعبدون، «وَأَدْعُوا رَبِّي» : أي أعبده. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 49] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) لما أيس من أصله آنسه الله بما أكرمه من نسله، فأنبتهم نباتا حسنا، ورزقهم النبوة، ولسان الصدق بالذكر لهم على الدوام «1» فقال:   (1) ربما يشير القشيري بذلك إلى: (الصلاة على ابراهيم وعلى آل ابراهيم) فى تشيد كل صلاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 51] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) مخلصا خالصا لله، ولم يكن لغيره بوجه فلم تأخذه فى الله لومة لائم، ولم يستفزه طمع نحو إيثار حظ، ولم يغض فى الله على شىء. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 52] وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) للنجوى مزية على النداء، فجمع له الوصفين: النداء فى بدايته، والسماع والنجوى فى نهايته فوقفه الحقّ وناداه، وفى جميع الحالين تولّاه. «مِنْ جانِبِ الطُّورِ» : ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور «1» . قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 53] وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) من خصائص موسى أنه وهب له أخاه هارون نبّيّا. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) كان صادق الوعد إذ وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه «2» ، وصبر على ذلك إلى أن ظهر الفداء. وصدق الوعد لأنه حفظ العهد. وكان يأمر أهله بالصلاة- بأمر الله إياه- وبالزكاة، ويشتمل هذا على ما أمره إياهم بالعيادة البدنية والمالية حينما وكيفما كان.   (1) بهذا يتجنب القشيري مزلقا خطرا فلا يكون النداء الإلهى من جهة. وعلى هذا تكون (وقربناه) تقريب مكانة لا مكان. (2) من هذه الاشارة نعرف أن القشيري يرى أن إسماعيل- لا إسحاق- هو مدار قصة الذبح والفداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 «وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» وكان هذا أشرف خصاله وأجلّ صفاته. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) الصّدّيق كثير الصدق، لا يشوب صدقه مذق «1» ، ويكون قائما بالحقّ للحق، ولا يكون فيه نفس لغير الله. «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» : درجة عظيمة فى التربية لم يساوه فيها أحد. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) أقامهم بشواهد الجمع، وأخبر أن منّته كامنة فى تخصيصهم بأحوالهم، وتأهيلهم لما رقّاهم إليه من المآل، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم ومما أنعم به عليهم من الخصائص رقّة قلوبهم فهم إذا تتلى عليهم الآيات سجدوا، وسجود ظواهرهم يدل على سجود سرائرهم بما حقّق لهم من شواهد الجمع، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية، وبنعت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية «2» . قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 59] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)   (1) مذق اللبن والشراب بالماء مذقا اى مزجه وخلطه، ومذق الود اى شابه ولم يخلصه. (2) هذا من أشد البراهين نصاعة على تمسك القشيري بالشريعة فإن صدق العبد فى التوجه أمارته ان يكون محفوظا- من قبل الحق- كى يؤدى فرائض الشرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 الذين حادوا عن طريقهم، وضيّعوا حقّ الشرع، وتخطوا واجب الأمر، وزاغوا عن طريق الرشد، وأخلوا بآداب الشرع، وانخرطوا فى سلك متابعة الشهوات- سيلقون عن قريب ما يستوجبونه، ويعاملون بما يستحقونه. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 60 الى 63] إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) فأولئك الذين تداركتهم الرحمة الأزلية، وسيبقون فى النعم السرمدية. يستنجز الحقّ لهم عداتهم، ويوصّلهم إلى درجاتهم، ويحقّق لهم ما وعدهم. «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» : لأن ما أتيته فقد أتاك أو ما أتاك فقد أتيته «1» . «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» : فإن أسماعهم مصونة عن سماع الأغيار، لا يسمعون إلا من الله وبالله، فإن لم يكن ذلك فلا يسمعون إلا الله. قوله جل ذكره: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا كانوا يعدّون من عنده طعام البكرة والعشية من جملة المياسير والأغنياء لكونهم فقراء إن وجدوا غداءهم ففى الغالب يعدمون عشاءهم، وإن وجدوا عشاءهم فقلّما كانوا يجدون غداءهم. ويقال فى «لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» فيها: بمقدار الغدو والعشى من الزمان فى الجنة أي كالوقت. ثم إن الأرزاق تختلف فى الجنة فللأشباح رزق من مطعوم ومشروب، وللأرواح رزق من سماع وشهود، ولكل- على قدر استحقاقه- قسط معلوم. قوله جل ذكره: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا   (1) أي أن (ماتيا) إما اسم مفعول، أو اسم مفعول بمعنى اسم الفاعل مثل مجروح وجريح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 فالجنة للأتقياء من هذه الأمة معدّة لهم، والرحمة لعصاة المسلمين مدّخرة لهم. الجنة لطف من الله تعالى، والرحمة وصف لله تعالى. وقوله: «مِنْ عِبادِنا» : فعبده على الخصوصية من كان اليوم فى قيد أمره. وقوله: «مَنْ كانَ تَقِيًّا» : قوم يتقون المعاصي والمخالفات، وقوم يتقون الشهوات، وآخرون يتقون الغفلات، وآخرون يتقون شهود كلّ غير. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 64] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) إن الملائكة- عليهم السلام- أبدا ينزلون بإذن الحقّ تعالى، فبعضهم بإنجاد المظلومين، وبعضهم بإغاثة الملهوفين، وبعضهم بتدمير الجاحدين، وبعضهم بنصرة المؤمنين، وبعضهم إلى ما لا يخصى من أمور الناس أجمعين. والله- سبحانه- لا يترك جاحدا ولا عابدا من حفظ وإنعام، أو إمهال ونكال ... قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 65] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) بحق الإظهار يجب أن يكون هو ربّها، ويكون مالكها، ويكون قادرا عليها. وإذا وجدت فهو فاعلها، فمعنى كون فعل الشيء لفاعله أنه فى مقدوره وجوده. ويقال إذا كان ربّ الأكبر من الأقوياء فهو أيضا ربّ الأصاغر من الضعفاء، وقيمة العبد بمالكه وقدره «1» ، ولا بثمنه فى نفسه وخطوه. قوله: «فَاعْبُدْهُ» أي قف حيثما أمرك، ودع ما يقع لك، وخلّ رأيك وتدبيرك. قوله: «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» : الاصطبار غاية الصبر. قوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» : أي كفوا ونظيرا. ويقال هل تعرف أحدا يسمى «الله» غير الله؟ ويقال أنّى بالنظير ... وهو بالقدم متوحد! والتشبيه يقتضى التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له.. لا موجودا ولا موهوما.   (1) أي قدر هذا المالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 67] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) أنكروا حديث البعث غاية الإنكار، فأقام الحجّة عليهم بالنشأة الأولى فقال: إن الذي قدر على خلق الخلق فى الابتداء وهم نطف ضعفاء، وقبل كانوا فى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ففطرهم، وعلى ما شاء صوّرهم، وفى الوقت الذي أراد- عن «1» بطون أمهاتهم أخرجهم. قوله: «وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» فيه دليل على صحة أهل البصائر أنّ المعدوم لم يك شيئا فى حال عدمه «2» . ويقال أبطل لهم كلّ دعوى حيث ذكّرهم نسبهم وكونهم من العدم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 68] فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) نحشرهم جميعا فيجتمعون فى العرصة «3» . ثم يختلف منقلبهم فيصير قوم إلى النار ثم إلى دركات بعضها أسفل من بعض- واسم جهنم يجمع أماكنهم. ويصير قوم إلى الجنة ثم هى درجات بعضها أعلى رتبة ودرجة من بعض- واسم الجنة يشتمل على جميع مساكنهم. ويقال التفاوت فى الجنة بين الدرجات أكثر من التفاوت بين أهل الدارين. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 69 الى 70] ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)   (1) الأصوب أن تكون (من) كما ورد فى الآية 78 سورة النحل: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» . (2) وفيه ردّ على القائلين بأن المادة لا تستحدث. (3) العرصة ساحة الدار أو صفيحة من الحديد توضع فى التنور لينضج عليها الخبز وغيره (الوسيط) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 من تقدّم عليهم فى الإضلال والضلال ضوعف عليه غدا العذاب والأغلال. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ينزل فى كل دركة من دركاتها من هو أهل لها، فمن كان عتوّه اليوم أشدّ غلوا كان فى النار أبعد من الله وأشدّ عقوبة وإذلالا. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 71] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) كلّ يرد النار ولكن لا ضير منها ولا احتباس بها لأحد إلا بمقدار ما عليه من ( ... ) «1» والزلل فأشدّهم انهماكا أشدهم بالنار اشتعالا واحتراقا. وقوم يردونها- كما فى الخبر: «إن للنار عند مرورهم عليها إذوابة كإذوابة اللّبن، فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أو ليس وعدنا جهنم على طريق؟ فيقال لهم. عبرتم وما شعرتم «2» ! قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 72] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) ينجّى من كان مؤمنا، بعضهم قبل بعض، وبعضهم بعد بعض، ولكن لا يبقى من   (1) مشتبهة وهى في الرسم هكذا (الالتبات) وربما كانت فى الأصل (الالتباس) أي الوقوع فى (اللبس) والالتباس مناسب (للزلل) . (2) الإذواية: الزبد حين يوضع فى البرمة ليذاب (مقايبس اللغة لابن فارس ج 2 ص 362) . وعن جابر أنه عليه السلام سئل عن ذلك فقال: إذا دخل أهل الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم قد ورد نموها وهى خامدة (القاضي البيضاوي ط الجسّال بجدة) ص 410. وعن جابر أيضا، الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين يردا وسلاما كما كانت على إبراهيم» [الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج 11 ص 136 سلسلة التراث] . وعن الحسن «ليس الورود الدخول، إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها فالورود أن يمروا على الصراط «وقد استند كثير إلى رأى الحسن واحتجوا بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 المؤمنين من لا ينجيهم. ويترك الكفار فيها بنعت الخيبة عن الخروج منها، وعند ذلك يشتدّ عليهم البلاء، وتطبق عليهم أبواب جهنم، وينقطع منهم الرجاء والأمل. وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم فزيادة التقوى توجب لهم التعجيل فى النجاة فمن سابق ومن لاحق، ومن منقطع، ومن محترق.. إلى كثير من الأصناف والألوان. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 73] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) يعنى إذا قرئت عليهم آيات القرآن قابلوها بالردّ والجحد والعتو والزيغ، ويدّعون أنهم على حق، ولا يعتمدون فى ذلك إلا على الحدس والظّن. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 74] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) أي إن هؤلاء ينخرطون فى سلك من تقدّمهم، كما سلكوا فى الريب منهاجهم، وسيلقون ما يستوجبونه على سوء أعمالهم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 75] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) «1» إن الله تعالى يمهل الكفار ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم، ويغترّوا بسلامة أحوالهم، فينسونه فى غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم قوله «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ... » أي يحل بهم موعود العقوبة عاجلا أو قيام   (1) سقطت (قل) من الناسخ فأثبتناها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 الساعة «1» آجلا، فعند ذلك يتضح لهم ما تعاموا عنه من شدة الانتقام، وسيعلمون عند ذلك ما فاتهم وما أصابهم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 76] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أي يغنيهم بنور البدر عن الاستضاءة بنور النجم، ثم بطلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فإذا متع نهار العرفان فلا ظلمة ولا تهمة. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : الشهادة بالربوبية خير من غيرها مما لا يوجد فيه صدق الإخلاص. ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : التي تبقى عند الله مقبولة. قوله تعالى: «خَيْرٌ» لأن فى استحقاق القبول زيادة للهدى فيصير علم اليقين عين اليقين، وعين يقينهم حق اليقين. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 77] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أخبر بقصة ذلك الكافر «2» الذي قال بيمين- من غير حجة- لأعطينّ مالا وولدا، ورأى أن يكون ليمينه تصديق، فهل هو: [سورة مريم (19) : آية 78] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78)   (1) وردت (السرعة) والصواب أن تكون (الساعة) فهكذا الآية: (2) عن الحسن: أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة. والمشهور انها فى العاص بن وائل فقد روى ان خباب ابن الأرت صاغ للعاصى حليا فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون انكم تبعثون وان فى الجنة ذهبا وفضة فأنا أقضيك ثم فإنى اوتى مالا وولدا حينئذ! وقد ذكر الواحدي ثلاث وروايات تؤيد ذلك عن مسروق وعن الكلبي وعن مقاتل. (أسباب النزول ط مؤسسة الحلبي) ص 204. ورواه البخاري عن الحميدي عن سفيان، ورواه مسلم عن الأعمش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 هل يقول ما يقول بتعريف منا؟ أم هل اتخذ مع الله عهدا؟ ليس الأمر كذلك. ودليل الخطاب يقتضى أن المؤمن إذا ظن بالله تعالى ظنا جميلا، أو أمّل منه أشياء كثيرة فالله تعالى يحققها له، ويصدق ظنّه لأنه على عهد مع الله تعالى، والله تعالى لا يخلف عهده. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 79 الى 80] كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) كلا.. ليس الأمر على ما يقول، وليس لقولهم تحقيق، بل سنمدلهم من العذاب مدا أي سنطيل فى العذاب مدتهم. «وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ... » لن نمتّعه بأولاده وحشمه وخدمه وقومه، ويعود إلينا منفردا عنهم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 82] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) حكموا بظنهم الفاسد أنّ أصنامهم تمنعهم، وأنّ ما عبدوه من دون الله تعالى توجب عبادتهم لهم عند الله تعالى وسيلة.. وهيهات! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق، بل إذا حشروا وحشرت أصنامهم تبّرأت أصنامهم منهم، وما أمّلوا نفعا منها عاد ضررا عليهم. ويقال طلبوا العزّ فى أماكن الذل، فأخفقوا فى الطلب، ونفوا عن المراد. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 83] أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) تؤزهم أي تزعجهم، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وغمّة، وخاطر الحقّ يكون بروح وسكينة، وهذه إحدى الدلائل بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 84] فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) الأنفاس فى الحكم معدودة فمن لم يستوف فلا انقضاء لها. وإذا انتهى الأجل فلا تنفع بعد ذلك الحيل، وقبل انقضائه لا يزيد ولا ينقص بالعلل. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 85] يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) قيل ركبانا على نجائب طاعاتهم، وهم مختلفون فمن راكب على صدور طاعاته، ومن راكب على مراكب هممه، ومن راكب على نجائب أنواره. ومن محمول يحمله الحقّ فى عقباه كما يحمله اليوم فى دنياه. وليس محمول الحقّ كمحمول الخلق! قوله جل ذكره [سورة مريم (19) : آية 86] وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) فأولئك يساقون بوصف العزّ، وهؤلاء يساقون بنعت الذّلّ، فيجمعهم فى السّوق، ولكن يغابر بينهم فى معانيه.. فشتّان ما هما!! قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 87] لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وذلك العهد حفظهم فى دنياهم ما أخذ عليهم- يوم الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 91] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) ما أعظم بهتانهم فى مقالتهم! وما أشدّ جرأتهم فى قبيح حالتهم! لكنّ الصمدية متقدّسة عن عائد يعود إليها من زين بتوحيد موحّد، أو شين بإلحاد ملحد.. فما شاهت إلّا وجوههم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يتجمّل بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا على القائل مقابل من عاجل أو آجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : الآيات 92 الى 95] وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) أنّى بالولد وهو واحد؟! وأنّى بالولادة ولا جنس له وجوبا «1» ولا جوازا؟! «لَقَدْ أَحْصاهُمْ..» : لا يعزب عن علمه معلوم، ولا ينفكّ عن قدرته- مما يصح أن يقال حدوثه- موهوم. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً: لا خدم يصحبهم، ولا حشم يلحقهم، كلّ بنفسه مشتغل، وعن غيره منفرد. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 96] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) يجعل فى قلوبهم ودا لله نتيجة لأعمالهم الخالصة، وفى الخبر: «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه» «2» . ويقال يجعل لهم الرحمن ودا فى قلوب عباده، وفى قلوب الملائكة، فأهل الخير والطاعة محبوبون من كلّ أحد من غير استحقاق بفعل «3» .   (1) وردت (وجودا) والأرجح ان تكون (وجوبا) لتتلاءم مع (جوازا) اى لا يجب عليه ولا يجوز فى وصفه- لتقدسه وتنزهه- ان يكون له جنس. (2) ( ... فإذا أجبته كنت عينه التي يبصر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها) وهو حديث قدسى ورواه البخاري عن أبى هريرة، واحمد عن عائشة، والطبراني فى الكبير عن ابى امامة، وابن السنى عن ميمون، وقد اخطأ من زعم ان البخاري انفرد بروايته. (3) اخرج مسلم والترمذي عن ابى هريرة ان النبي (ص) قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبه، فينادى فى السماء ثم تنزل له المحبة فى الأرض.. وذلك قوله تعالى: «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» . السيوطي فى إتقانه ص 199 ج 2 ط مصطفى الحلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 97] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) «1» الكلام واحد والخطاب واحد، وهو لقوم تيسير، ولآخرين تخويف وتحذير. فطوبى لمن يسّر لما وفّق به، والويل لمن خوّف بل خذل فيه. والقوم بين موفق ومخذول. قوله جل ذكره: [سورة مريم (19) : آية 98] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) أثبتهم وأحياهم، وعلى ما شاء فطرهم وأبقاهم، ثم بعد ذلك- لما شاء- أماتهم وأفناهم، فبادوا بأجمعهم، وهلكوا عن آخرهم، فلا كبير منهم ولا صغير، ولا جليل ولا حقير، وسيطالبون- يوم النشور- بالنقير والقطمير. سورة طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم عزيز من تحقّق بجلال عزّته تمحض «2» فى خلوص عبوديته، وإذا وصل إلى ضياء صفوته نزل عن سيماء نعوته. اسم عزيز من عرفه سمت همّته، وإذا سمت همته سقطت عن الدارين طلبته. اسم من عرفه زال كربه وطاب قلبه دينه ربّه «3» وجنّته حبّه. اسم عزيز من وسمه بعبوديته حرّره من رقّ شهواته، وأعتقه من أسر مطالبه فلا له لمحبوب طلب، ولا يستفزّه لمحذور هرب.   (1) أخطأ الناسخ إذ جعلها (وإنما) (2) المحض- اللبن الخالص، وتمحض- خلص من الشوائب. (3) أي عبادته لربه لذاته لا طلبا لثواب ولا خوفا من عقاب كما هو الشأن فى العبادة التقليدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) الطاء إشارة إلى قلبه- عليه السلام- من غير الله، والهاء إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله. وقيل طأ بسرّك بساط القربة فأنت لا تهتدى إلى غيرنا. ويقال طوينا عن سرّك ذكر غيرنا، وهديناك إلينا. ويقال طوبى لمن اهتدى بك. ويقال طاب عيش من اهتدى بك. «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» : أي ليس المقصود من إيجابنا إليك تعبدك، وإنما هذا استفتاح الوصلة، والتمهيد لبساط القربة. ويقال إنه لما قال له: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» «1» وقف بفرد قدم تباعدا وتنزها عن أن يقرب من الدنيا استمتاعا بها بوجه فقيل له: طأ الأرض بقدميك. لم كل هذا التعب الذي تتحمله؟ فزاد فى تعبده، ووقف، حتى تقدمت قدماه «2» وقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» أي لما أهلني من التوفيق حتى أعبده. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 3] إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) فالقرآن تبصرة لذوى العقول، تذكرة لذوى الوصول، فهؤلاء به يستبصرون فينالون به راحة النّفس فى آجلهم، وهؤلاء به يذكرون فيجدون روح الأنس فى عاجلهم. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 4] تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)   (1) آية 88 سورة الحجر. (2) نرجح انها (تورمت قدماه) لأن السياق يذكرنا بالحديث: [انه كان يصلى حتى تورمت قدماه فقيل له: يا رسول الله» أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا] الشيخان، والنسائي. والترمذي عن المغيرة بن شعبة. (وسيعود القشيري إلى فكرة «طأ بقدميك الأرض» فى آخر السورة عند تفسير آية: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... آية 131) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 جعل الأرض قرارا لعباده. ونفوس العابدين أرض وقرار لطاعتهم، وقلوب العارفين قرار لمعارفهم. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 5] الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) استواء عرشه فى السماء معلوم، وعرشه فى الأرض قلوب أهل التوحيد. قال تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» «1» وعرش القلوب: قال تعالى: «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» «2» . أمّا عرش السماء فالرحمن عليه استوى، وعرش القلوب الرحمن عليه استولى. عرش السماء قبلة دعاء الخلق، وعرش القلب محلّ نظر الحق. فشتّان بين عرش وعرش! قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 6] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) له الأشياء على العموم ملكا، والأولياء تخصيصا وتشريفا. له ما بين السماوات والأرض مما أظهر من العدم فالكلّ له إثباتا وخلقا. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 7] وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) النّفس لا تقف على ما فى القلب، والقلب لا يقف على أسرار الرّوح، والروح لا سبيل له إلى حقائق السرّ والذي هو أخفى من السّرّ فهو ما لا يطّلع عليه إلا الحق «3» . ويقال الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان، ولا يكتبه الملكان، ويستأثر بعلمه الجبّار، ولا تقف عليه الأغيار. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 8] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)   (1) آية 17 سورة الحاقة. (2) آية 70 سورة الإسراء. (3) يسميه القشيري فى مواضع أخرى من مصنفاته (سر السر) أو (عين السر) الرسالة ص 48 [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 نفى كل موهوم من الحدثان بأن يكون شىء منه صالحا للإبداع، وأثبت كلّ ما فى الوجود له باستحقاق القدم. «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» أي صفاته، على انقسامها إلى صفة ذات وصفة معنى «1» ويقال «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» : تعريف للخلق بأنّ استحقاق العلو والتقدّس عن النقائص له على وصف التفرّد به. قوله جل ذكره [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 10] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) سؤال فى صيغة الاستفهام والمراد منه التقرير «2» والإثبات. وأجرى- تعالى- سنّته فى كتابه أن يذكر قصة موسى عليه السلام فى أكثر المواقع التي يذكر فيها حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، فيعقبه بذكر موسى عليه السلام. إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ألاح له النار حتى أخرجه من أهله يطلبها، وكان المقصود إخراجه من بينهم، فكان موسى عليه السلام يدنو والنار تنأى، وقال لأهله: «امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» فقال أهله: كيف تتركنا والوادي مسبع؟ فقال: لأجلكم أفارقكم فلعلّى آتيكم من هذه النار بقبس. ويقال استولى على موسى عند رؤيته النار الانزعاج، فلم يتمالك حتى خرج. ففى القصة أنه لما أتاها وجد شجرة تشتعل من أولها إلى آخرها، فجمع موسى- عليه السلام- حشائش ليأخذ من تلك النار، فعرف أن هذه النار لا تسمح نفسها بأن تعطى إلى أحد شعلة:   (1) الأرجح- حسب الذي ذكره القشيري فى كتابه التحيير فى التذكير- أنها (وصفه فعل) . (2) وردت (التقدير) والصواب أن تكون (التقرير) فهذا هو المصطلح البلاغى الذي يطلق على مثل هذا الاستفهام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وقلن لنا نحن الأهلّة إنما ... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى يا موسى هذه النار تضىء ولكن لا تعطى لأحد منها شعلة. يا موسى هذه النار تحرق القلوب لا النفوس. ويقال كان موسى عليه السلام فى مزاولة قبس من النار فكان يحتال كيف يأخذ منها شيئا، فبينما هو فى حالته إذ سمع النداء من الحقّ. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 11 الى 12] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) علم موسى أنه كلام الحق- سبحانه- لمّا سمع فيه الترتيب والتنظيم والتركيب، فعلم أنه خطاب الحق. ويقال إنما عرف موسى- عليه السلام- أنه كلام الله بتعريف خصّه الحق- سبحانه- به من حيث الإلهام دون نوع من الاستدلال. «قوله: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ..» فإن بساط حضرة الملوك لا يوطأ بنعل. ويقال ألق عصاك يا موسى، واخلع نعليك، وأقم عندنا هذه الليلة ولا تبرح. ويقال الإشارة فى الأمر بخلع النعلين تفريغ القلب من حديث الدارين، والتجرد للحقّ بنعت الانفراد. ويقال «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» : تبرّأ عن نوعى أفعالك «1» ، وامح عن الشهود جنسى أحوالك من قرب وبعد، ووصل وفصل، وارتياح واجتياح، وفناء وبقاء ... وكن بوصفنا فإنما أنت بحقنا. أثبته فى أحواله حتى كان كالمجرد عن جملته، المصطلم عن شواهده.   (1) ربما حدث سقوط، فالكلام يحتاج إلى توضيح (نوعى أفعالك) قياسا على ما ذكر فى (جنسى أحوالك) ونرجح أن نوعى الفعل هما الأمر والنهى، أو المأمور به والمزجور عنه ... أو ما فى هذا المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 قوله: «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» : أي إنك بالوادي المقدس عن الأعلال وساحات الصمدية تجلّ عن كل شين، وإيمان وزين عن زين بإحسان وشين بعصيان لأنّ للربوبية سطعات عزّ تقهر كلّ شىء. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 13] وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) وعلى علم منى بك اصطفينك، وجرّدتك ونقّيتك عن دنس الأوهام وكلّ ما يكدّر صفوك. ويقال بعد ما اخترتك فأنت لى وبي، وأنت محو فى فنائك عنك. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 14] إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) تقدّست عن الأعلال فى أزلى، وتنزهت ( ... ) «1» والأشكال باستحقاقى لجلالى وجمالى. ويقال «لا إِلهَ إِلَّا أَنَا» : الأغيار فى وجودى فقد، والرسوم والأطلال عند ثبوت حقّى محو قوله: «فَاعْبُدْنِي» : أي تذلّل لحكمى، وأنفذ أمرى، واخضع لجبروت سلطانى. قوله جل ذكره: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إقامتها من غير ملاحظة مجريها ومنشيها يورث الإعجاب. وإذا أقام العبد صلاته على نعت. الشهود والتحقق بأن مجريها غيره «2» كانت الصلاة بهذا فتحا لباب المواصلة، والوقوف على محل النجوى، والتحقق بخصائص القرب والزلفة. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 15] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) الفائدة فى تعريف العباد بقرب الساعة أن يستفيقوا من غفلات التفرقة، فإذا حضروا   (1) حدث هنا طمس أفقدنا بقية الجملة، وربما كانت (عن الأمثال) . (2) الضمير فى (غيره) يعود على العبد والمقصود أن يتحقق العبد بأن الرب هو الذي يجرى عليه تعبده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 بقلوبهم- ففى حال استدامة الذكر- فما هو موعود فى الآجل أكثره للحاضرين موجود فى العاجل والحاضرة لهم كالآخرة. وكذلك جعلوا من أمارات الاستقامة شهود الوقت قيامة «1» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 16] فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) إذا أكرمه الله بحسن التنبيه، وأحضره بنعت الشهود فلا ينبغى أن ينزل عن سماء صفاته إلى جحيم أهل الغفلة فى تطوحهم فى أودية التفرقة. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 17] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) كرّر عليه السؤال فى غير آية عن عصاه لمّا كان المعلوم له سبحانه فيها من إظهاره فيها عظيم المعجزة. ويقال إنما قال ذلك لأنه صحبته هيبة المقام عند فجأة سماع الخطاب فليسكن بعض ما به من بواده الإجلال.. ردّه إلى سماع حديث العصا، وأراه ما فيها من الآيات. ويقال لو تركه على ما كان عليه من غلبات الهيبة لعلّه كان لا يعى ولا يطيق ذلك.. فقال له: وما تلك بيمينك يا موسى؟ [سورة طه (20) : الآيات 18 الى 21] قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) قال هى عصاى، وأخذ يعدّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له: قالَ أَلْقِها يا مُوسى   (1) (فالقيامة عند هؤلاء تقوم كل يوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) و (جهنم الفراق أشد هولا من جهنم الاحتراق) . اللطائف فى مواضع أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 فإنّك بنعت التوحيد «1» ، واقف على بساط التفريد، ومتى يصحّ ذلك، ومتى يسلم لك أن يكون لك معتمد تتوكأ عليه، ومستند عليه تستعين، وبه تنتفع؟ ثم قال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» : أوّل قدم فى الطريق ترك كلّ سبب، والتّنقّى عن كل طلب فكيف كان يسلم له أن يقول: أفعل بها، وأمتنع «2» ، ولى فيها مآرب أخرى. ويقال ما ازداد موسى- عليه السلام- تفصيلا فى انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأولى بأن يؤمن بإلقائها، والتنقى عن الانتفاع بها على موجب التفرّد لله. ويقال التوحيد التجريد، وعلامة صحته سقوط الإضافات «3» بأسرها فلا جرم لما ذكر موسى- عليه السلام- ذلك أمر بإلقائها فجعلها الله حيّة تسعى، وولّى موسى هاربا ولم يعقّب. وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة إذا كوشف صاحبها بسرّها يهرب منها. ويقال لمّا باسطه الحقّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب، فأجاب عما يسأل وعمّا لم يسأل فقال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، وذكر وجوها من الانتفاع منها أنه قال تؤنسني «4» فى حال وحدتي، وتضىء لى الليل إذا أظلم، وتحملني إذ عييت فى الطريق فأركبها، وأهشّ بها على غنمى، وتدفع عنى عدوّى. وأعظم مأرب لى فيها أنّك قلت: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ؟» وأية نعمة أو مأرب أو منفعة تكون أعظم من أن تقول لى: وما تلك؟ ويقال قال الحقّ- بعد ما عدّد موسى وجوه الآيات وصنوف انتفاعه بها- ولك يا موسى فيها أشياء أخرى أنت غافل عنها وهى انقلابها حية، وفى ذلك لك معجزة وبرهان صدق.   (1) إذا صح نقل هذه العبارة عن الأصل فالقشيرى يقصد بها (فإنك موحد) ، والموحد أعلى درجات العارفين. (2) أي تكون لى بها منعة وقوة، وربما كانت (وأنتفع) وكلاهما صحيح فى المعنى. (3) سقوط الإضافات أي لا يقول لى ولا بي ولا منى- وهذه آية صحة التوحيد عندهم (أنظر الرسالة ص 149) . (4) وردت (تسعى) ، وقد وجدنا (تؤنسني) أقرب إلى المعنى وإن كانت بعيدة فى الرسم، فآثرناها ونبهنا إلى الأصل. أو ربما سقطت (معى) بعد (تسعى) ويكون السياق آنذاك منسجما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 ويقال جميع ما عدّد من المنافع فى العصا كان من قبل الله.. فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه، ولهذا قالوا: يا جنّة الخلد، والهدايا إذا ... تهدى إليك فما منك يهدى ويقال قال موسى لما رآها حية تهتز: لقد علمت كلّ وصف بهذه العصا، أمّا هذه الواحدة فلم أعرفها. قوله جل ذكره: قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى لا عبرة بما يوهم ظاهر الأشياء فقد يوهم الظاهر بشىء ثم يبدو خلافه فى المستقبل فعصا موسى صارت حية. ثم قال المقصود بذلك أن تكون لك آية ومعجزة لا بلاء وفتنة «1» . قوله: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ ... » : أشهده- بانقلاب العصا من حال إلى حال مرة عصا ثم ثعبانا ثم عصا مرة أخرى- أنّه يثبّت عباده فى حال التلوين مرة ومرة فمن أخذ ومن ردّ، ومن جمع ومن فرق إلخ «2» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 22 الى 23] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) كما أراه آية من خارج أراه آية من نفسه، وهى قلب يده بيضاء إذ جعلها فى جيبه من غير البرص. قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «3»   (1) وهذا الكلام يتطبق. ذلك على الكرامة التي تظهر على يدى الولي، وهذا فرق بين المعجزة الكرامة من ناحية وبين السحر من ناحية أخرى. (2) حتى يصلوا إلى حال (التمكين) . (3) آية 53 سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وإنما قال: أدخل يدك فى جيبك ولم يقل كمّك لانه لم يكن لما عليه من اللّباس كمّان. قوله: «لنريك «1» من آياتنا الكبرى» : الآية الكبرى هى ما كان يجده فى نفسه من الشهود والوجود، وما لا يكون بتكلّف العبد وتصرّفه من فنون الأحوال التي يدركها صاحبها ذوقا. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 24] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) بعد ما أسمعه كلامه من غير واسطة، وشرّف مقامه، وأجزل إكرامه أمره بالذهاب ليدعو فرعون إلى الله- مع علمه بأنه لا يؤمن ولا يجيب ولا يسمع ولا يعرف- فشقّ على موسى ذهابه إلى فرعون، وسماع جحده منه، بعد ما سمع من الله كلامه سبحانه، ولكنه آثر أمر محنته على مراد نفسه. ويقال لمّا أمره بالذهاب إلى فرعون سأل الله أهبة النّقل وما به يتمّ تبليغ ما حمل من الرسالة، ومن ذلك قوله: [سورة طه (20) : الآيات 25 الى 28] قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) ليعلم أنّ من شرط التكليف التّمكّن من أداء المأمور به. ويقال إنّ موسى لم أخذ فى المخاطبة مع الله كاد لا يسكت من كثرة ما سأله فظل يدعو: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ... » وهكذا إلى آخر الآيات والأسئلة. قوله «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» : حتى أطيق أن أسمع كلام غيرك بعد ما سمعت منك. «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» : حتى ينطلق بمخاطبة غيرك، وقوّنى حتى أردّ ما أردّ ... بك لا بي قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 29 الى 31] وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)   (1) أخطأ الناسخ إذ جعلها (لنريه) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 سأل أن يصحب أخاه معه، ولما ذهب لسماع كلام الله حين قال تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» «1» كان بمفرده، لأن الذهاب إلى الخلق يوجب الوحشة فطلب من أخيه الصحبة ليخفّف عليه كلفة المشقة. ويقال إن المحبة توجب التجرّد والانفراد وألا يكون للغير مع المحبّ مساغ ففى ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه، ولمّا كان الذهاب إلى الميقات لم يكن للغير سبيل إلى صحبته، إذ كان المقصود من ذهابه أن يكون مخصوصا بحاله. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 33 الى 34] كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) بيّن أنّ طلبه مشاركة أخيه له بحقّ ربه لا بحظّ نفسه حيث قال: «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 36] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) أعطيناك ما سألت، وتناسيت ابتداء حالك حين حفظناك فى اليمّ ونجّينا أمّك من ذلك الغمّ، وربّيناك فى حجر العدوّ.. فأين- حينذاك- كان سؤالك واختيارك ودعاؤك «2» ؟ وأثبتنا فى قلب امرأة فرعون شفقتك، وألقينا عليك المحبة حتى أحبك عدوّك، وربّاك حتى قتل بسببك ما لا يحصى من الولدان، والذي بدأك بهذه المنن هو الذي آتاك سؤلك، وحقّق لك مأمولك. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 38 الى 39] إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)   (1) آية 143 سورة الأعراف. (2) أي أن فضل الله دائم، وسابق للدعاء، وغير مرتبط بالاختيار الإنسانى ولا بالعمل الإنسانى، وهذه نظرة فى الشمول قلما يفطن إليها غير الصوفية. فأين منهم المعتزلة الذين يوجبون على الله؟! ذلك أحد المرامى البعيدة التي يقصد إليها القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 كان ذلك وحي إلهام، ألقى الله فى قلبها أن تجعله فى تابوت، وتلقيه فى اليم يعنى نهر النيل، ففعلت، فألقاه النهر على الساحل، فحمل إلى فرعون. فلمّا وقع بصر امرأة فرعون عليه باشر حبّه قلبها، وكذلك وقعت محبته فى قلب فرعون، ولكنها كانت أضعف قلبا، فسبقت بقولها «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ..» «1» ، ولولا أنها علمت أنه أخذ شعبة من قلب فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» . قوله: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» : ربّاه فى حجر العدو، وكان قد قتل بسببه ألوفا من الولدان.. ولكن من مأمنه يؤتى الحذر! وبلاء كلّ أحد كان بعده إلا بلاء موسى عليه السلام فإنه تقدّم عليه بسنين ففى اليوم الذي أخذ موسى فى حجره كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربّاه ليكون إهلاك ملكه على يده.. ليعلم أنّ أسرار الأقدار لا يعلمها إلا الجبار. ويقال كان فرعون يسمّى والد موسى وأباه- ولم يكن. وكان يقال لأمّ موسى ظئر «2» موسى- ولم تكن فمن حيث الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة.. هكذا الحديث والقصة «3» . ولقد جاء فى القصة أن موسى لمّا وضع فى حجر فرعون لطم وجهه فقال: إنّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أن يقتل، فقالت امرأته: إنه صبيّ لا تمييز له، ويشهد لهذا أنه لا يميّز بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء، وأرادت أن يصدّق زوجها قالتها، فاستحضرت شيئا من النار وشيئا من الجواهر، فأراد موسى عليه السلام أن يمدّ يده إلى الجواهر فأخذ جبريل عليه السلام بيده وصرفها إلى النار فأخذ جمرة بيده، وقرّبها من فيه فاحترق لسانه- ويقال إنّ العقدة التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق- فعند ذلك قالت امرأة فرعون: ها قد تبينّ أن هذا لا تمييز له فقد أخذ الجمرة إلى فيه. وتخلّص موسى بهذا مما حصل منه من لطم فرعون.   (1) آية 9 سورة القصص. (2) الظئر. المرضعة لغير ولدها. (3) يقصد بالحديث والقصة التصوف وأهله فلقب العبد مرتبط بقلبه وحقيقة باطنه لا بما يستفاد من ظاهره ورأى الناس فيه، وهذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق من أخذ الجمرة وهو صبي رضيع، ثم احترق لسانه، فعلم الكلّ أن هذا الأمر ليس بالقياس. فإنه سبحانه فعّال لما يريد. قوله جل ذكره: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي أحببتك. ويقال فى لفظ الناس: فلان ألقى محبته على فلان أي أحبّه. ويقال «أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : أي طرحت فى قلوب الناس محبة لك، فالحقّ إذا أحبّ عبدا فكلّ من شاهده أحبّه. ويقال لملاحة فى عينيه فكان لا يراه أحد إلا أحبّه. ويقال «أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : أي أثبتّ فى قلبك محبتى فإن محبه العبد لله لا تكون إلا بإثبات الحق- سبحانه- ذلك فى قلبه، وفى معناه أنشدوا: إنّ المحبة أمرها عجب ... تلقى عليك وما لها سبب قوله جل ذكره: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي بمرأى منى ويقال لا أمكّن غيرى بأن يستبعدك عنى. ويقال أحفظك من كل غير، ومن كلّ حديث سوى حديثنا. ويقال ما وكلنا حفظك إلى أحد. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 40] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) البلاء على حسب قوة صاحبه وضعفه، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى «1» ، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمّ موسى ضعيفة فردّ إليها ولدها بعد أيام، وكان يعقوب أقوى فى حاله فلم يعد إليه يوسف إلا بعد سنين طويلة. قوله جل ذكره: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ   (1) قال صلى الله عليه وسلم «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» رواه الترمذي، وابن ماجه والحاكم عن سعد بن أبى وقاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 أجرى الله عليه ما هو فى صورة كبيرة من قتل النّفس بغير حق، ثم بيّن الله أنه لا يضره ذلك، فليست العبرة بفعل العبد فى قلّته وكثرته إنما العبرة بعناية الحقّ، بشأن أحد أو عداوته. ويقال قد لا يموت كثير من الخلق بفنون من العذاب، وكم من أناس لا يموتون وقد ضربوا ألوفا من السياط! وصاحب موسى عليه السلام ومقتوله مات بوكزة! إيش «1» الذي أوجب وفاته لولا أنه أراد به فتنة لموسى؟ وفى بعض الكتب أنه- سبحانه- أقام موسى كذا وكذا مقاما، وأسمعه كلامه كل مرة بإسماع آخر، وفى كل مرة كان يقول له: «وَقَتَلْتَ نَفْساً» . «فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ» : أريناك عين الجمع حتى زال عنك ما داخلك من الغمّ بصفة مقتضى التفرقة، فلمّا أريناك سرّ جريان التقدير نجيّناك من الغم. قوله جل ذكره: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. استخلصناك لنا حتى لا تكون لغيرنا. ويقال جنّسنا عليك البلاء ونوّعناه حتى جرّدناك عن كل اختيار وإرادة، ثم حينئذ رقّيناك إلى ما استوجبته من العلم الذي أهلناك له. قوله جل ذكره: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ. وكنت عند الناس أنك أجير لشعيب، ولم يظهر لهم ما أودعنا فيك، وكان يكفى- عندهم- أن تكون ختنا «2» لشعيب. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى. أي عددنا أيام كونك فى مدين شعيب، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرفك ومحبّتك منتظرين لك فجئت على قدر.   (1) أي (أي شىء) وهى لفظة ترد فى مصنفات القشيري من حين إلى آخر. وجاء فى الوسيط ج 1 ص 34 أن العرب تكلمت بها. (2) أي زوجا لابنته، وفي الحديث «علىّ ختن رسول الله» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 ويقال إنّ الأجل إذا جاء للأشياء فلا تأخير فيه ولا تقديم، وأنشدوا فى قريب من هذا المعنى: بينما خاطر المنى بالتلاقى ... سابح فى فؤاده وفؤادى جمع الله بيننا فالتقينا ... هكذا بغتة بلا ميعاد قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 41] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) استخلصتك لى حتى لا تصلح لأحد غيرى، ولا يتأتّى شىء منك غير تبليغ رسالتى، وما هو مرادى منك. ويقال أفردت سرّك لى، وجعلت إقبالك علىّ دون غيرى، وحلت بينك وبين كل أحد ممن هو دونى. ويقال «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» : قطعه بهذا عن كلّ أحد، ثم قال له: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 43] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) تعلّل موسى عليه السلام لمّا أرسله الحقّ إلى فرعون بوجوه من العلل مثل قوله: «يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» «1» ، «إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» «2» . إلى غير ذلك من الوجوه، فلم ينفعه ذلك، وقال الله: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» ، فاستقل «3» موسى عليه السلام بذلك، وقال: الآن لا أبالى بعد ما أنت معى. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 44] فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) .   (1) آية 13 سورة القصص. (2) آية 33 سورة القصص. (3) الاستقلال هنا معناه الاكتفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 إنما أمرهما بالملاينة معه فى الخطاب لأنه كان أول من دعوه إلى الدّين، وفى حال الدعوة يجب اللّين «1» فإنه وقت المهلة، فلا بدّ من الإمهال ريثما ينظر «2» قال الله لنبينا صلى الله عليه وسلم: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «3» » : وهو الإمهال حتى ينظروا ويستدلوا، وكذلك قال: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» «4» . ثم إذا ظهر من الخصم التمرّد والإباء فحينئذ يقابل بالغلظة والحتف. ويقال علّمهما خطاب الأكابر ذوى الحشمة ففرعون- وإن كان كافرا- إلا أنه كان سلطان وقته، والمتسلّط على عباد الله. ويقال إذا كان الأمر فى مخاطبة الأعداء بالرّفق والملاينة.. فكيف مع المؤمن فى السؤال؟ ويقال فى هذا إشارة إلى سهولة سؤال الملكين فى القبر للمؤمن. ويقال إذا كان رفقه بمن جحده فكيف رفقه بمن وحده؟ ويقال إذا كان رفقه بالكفّار فكيف رفقه بالأبرار؟ ويقال إذا كان رفقه بمن قال: أنا.. فكيف رفقه بمن قال: أنت؟ ويقال إنه «5» أحسن تربية موسى عليه السلام فأراده أن يرفق به اليوم فى الدنيا على جهة المكافأة. وقيل تفسير هذا ما قال فى آية أخرى «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» «6» . وقوله: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» : أي كونا على رجاء أن يؤمن. ولم يخبرهما أنه لا يؤمن   (1) وردت (التمكين) وهى خطأ فى النسخ وقد انتبه أحد القراء إلى هذا الخطأ فوضع علامة استفهام صغيرة. (2) النظر هنا معناها التفكر فى الأمر. (3) آية 125 سورة النحل. [ ..... ] (4) آية 46 سورة سبأ. (5) أي فرعون. (6) آية 18 سورة النازعات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 لئلا تتداخلهما فترة فى تبليغ الرسالة علما منه «1» بأنه لا يؤمن ولا يقبل. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 45] قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) فى الآية دليل على أنّ الخوف «2» الذي تقتضيه جبلة الإنسان غير ملوم صاحبه عليه، حيث قال مثل موسى ومثل هارون عليهما السلام: «إِنَّنا نَخافُ» . ثم إنّه سبحانه سكّن ما بهما من الخوف بوعد النصرة لهما. ويقال لم يخافا على نفسيهما شفقة عليهما، ولكن قالا: إننا نخاف أن تحل بنا مكيدة من جهته، فلا يحصل فيما تأمرنا به قيام بأمرك، فكان ذلك الخوف لأجل حقّ الله لا لأجل حظوظ أنفسهما. ويقال لم يخافا من فرعون، ولكن خافا من تسليط الله إياه عليهما، ولكنهما تأدّبا فى الخطاب. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 46] قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) تلطّف فى استجلاب هذا القول من الحق سبحانه، وهو قوله: «إِنَّنِي مَعَكُما» بقولهما: «إِنَّنا نَخافُ» ، وكان المقصود لهما أن يقول الحق لهما: «إِنَّنِي مَعَكُما» وإلا فأنّى بالخوف لمن هو مخصوص بالنبوّة؟! ويقال سكّن فيهما الخوف بقوله: «إِنَّنِي مَعَكُما» ، فقويا على الذهاب إليه إذ من شرط التكليف التمكين. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 47] فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47)   (1) وردت (منهم) وهى خطأ فى النسخ لأن المقصود: مع انه سبحانه عليم بانه لن يؤمن ولن يقبل. (2) فى هذه الإشارة توضيح هام لاصطلاح (الخوف) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 طال البلاء ببني إسرائيل من جهة فرعون، فتدراكهم الحقّ سبحانه ولو بعد حين، بذلك أجرى سنّته أنه يرخى عنان الظالم، ولكن إذا أخذه فإنّ أخذه أليم. قوله جل ذكره: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ من شرط التكليف التمكين بالبيّنة والآية للرسول حتى يتّضّح ما يدلّ على صدقه فيما يدعو إليه من النبوة. ثم إن تلك الآية وتلك البيّنة ما نفعتهم، وإنما تأكدت بهما عليهم الحجّة فإذا عمى بصر القلب فأنّى تنفع بصيرة الحجة؟ وفى معناه قالوا: وفى نظر الصادي إلى الماء حسرة ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد قوله جل ذكره: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إنما يتّبع الهدى من كحلّ قلبه بنور العرفان، فأما من كانت على قلبه غشاوة الجهل.. فمتى يستمع إلى الهدى؟ قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 48 الى 50] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) ما بعث الله نبيا إلّا وقد نذر قومه بالعذاب على ترك الأمر، وبشّرهم بالثواب على حفظ الأمر. والعذاب معجّل ومؤجّل فمؤجّله لا يوقف على تفصيله الأعداء، وكذلك مؤجّل الثواب، قال تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «1» . وأما معجّل العقوبة فأنواع، وعلى حسب مقام المرء تتوجّه عليه المطالبات، والزيادة فى العقوبة تدلّ على زيادة استحقاق الرّتبة كالحرّ والعبد فى الحدّ. وقسوة القلب نوع عقوبة، وما يتداخل الطاعة نوع عقوبة، وخسران نصيب فى المال والأنفس نوع عقوبة.. إلى غير ذلك. قوله جل ذكره: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.   (1) آية 17 سورة السجدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 «فَمَنْ رَبُّكُما» على التثنية، ثم قال: «يا مُوسى» فأفرده بالخطاب بعد ما قال: «فَمَنْ رَبُّكُما؟» . فيحتمل أن ذلك لمشاكلة رءوس الآي، ويحتمل أن موسى كان مقدّما على هارون فخصّه بالنداء. وإنما أجاب موسى عن هذا السؤال بالاستدلال على فعله- سبحانه فقال: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» ليعلم أنّ الدليل على إثباته- سبحانه- ما دلّت عليه أفعاله. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 51 الى 52] قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) لا يمكننى أن أخبركم إلا بما أخبرنى به ربى، فما عرّفنى عرّفت، وما ستره علىّ وقفت. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 53] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) جعل الأرض مستقرا لأبدانهم، وجعل أبدانهم مستقرا لعبادته، وقلوبهم مستقرا لمعرفته «1» ، وأرواحهم مستقرا لمحبته، وأسرارهم مستقرا لمشاهدته. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 54] كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) هيّأ لهم أسباب المعيشة، وكما انظر إليهم ورزقهم رزق دوابّهم التي ينتفعون بها،   (1) وردت (وأرواحهم مستقرا لعبادته) والصواب ان تكون (وقلوبهم مستقرا لمعرفته) حسبما نعرف من مذهب القشيري فى ترتيب الملكات الباطنية (انظر بحثنا فى الدكتوراه عن الإمام القشيري وتصوفه) ط مؤسسة الحلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وأمرهم أن يتقووا بما تصل إليه أيديهم، وأن ينتفعوا- ما أمكنهم- بأنعامهم ليكمل لديهم إنعامهم. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 55] مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) إذ خلقنا آدم من التراب، وإذ أخرجناكم من صلبه.. فقد خلقناكم من التراب أيضا. والأجساد قوالب والأرواح ودائع، والقوالب نسبتها التّربة «1» ، والودائع صفتها القربة «2» ، فالقوالب يزيّنها بأفضاله، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله. وللقوالب اليوم اعتكاف على بساط عبادته، وللودائع اتصاف بدوام معرفته. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 56] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) أمره بجهره، وأعماه عن شهود ذلك بسره، فما نجع فيه كلامه، وما انتفع بما حذّره من انتقامه، ويسر له من إنعامه. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 57 الى 58] قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) دعاهم موسى إلى الله، وخاطبهم فى حديث الآخرة من تبشير بثواب، وإنذار بعذاب، فلم يجيبوا إلّا من حيث الدنيا، وما زادهم تذكيرا إلا ازدادوا غفلة وجهاله.   (1) ، (2) وردتا (البرية) و (القوية) ولم نجد للجملتين معنى على ذلك- فى حدود ما نعرف- بينما لو صارت النسبة إلى (التربة) كما تشير الآية وكما يشير كلام المصنف فى بداية الفقرة، ثم لو جعلنا (القرية) بدل (القوية) لا نسجم السياق، ونحن فى هذا لا نصدر إلا عن استخدام القشيري لهذا الأسلوب فى مواضع مماثلة- والله اعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 كذلك صفة من وسمه الحقّ بالإبعاد، لم يكن له عرفان، ولا بمال يقال إيمان، ولا يتأسّف على ما يفوته، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده. قوله: «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ..» تأهّبوا لمناصبة الحقيقة وتشمّروا للمخالفة، فقصمتهم المشيئة وكبستهم القدرة، وكما قيل: استقبلني وسيفه مسلول ... وقال لى واحدنا معذول قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 59] قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فكان فى ذلك اليوم افتضاحهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 60] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) كان فرعون فكيد له، وأراد فارتدّ إليه، ودعا للاستعداد فأذلّ وإذ يقال بأس. ولم يدع موسى شيئا من الوعظ والرّفق، ولم يغادر فرعون شيئا من البله والحمق، ولكن: [سورة طه (20) : الآيات 61 الى 62] قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) اعلموا أنه لا طاقة لأحد مع الله- سبحانه- إذا عذّبه، فحملوا مقالته على الإفك، ورموا معجزته بالسحر فقالوا: [سورة طه (20) : الآيات 63 الى 65] قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65)   (1) يشير القشيري بذلك إلى شاهد شعرى سبق وروده: من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان ويهدف إلى أن يثبت ان تزين الظاهر لا جدوى منه فى الحقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 هما فى دعواهما كاذبان يقصدان إلى إخراجكم من بلدكم، والتشويش عليكم فى معتقدكم. قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أظهروا من أنفسهم التجلّد ظنّا بأنّ النصرة لهم، وإخلادا إلى ما كان السّحرة يسوّلون لهم، فخيّروا موسى فى الابتداء بناء على ما توهموا من الإلقاء، فقال لهم موسى: [سورة طه (20) : الآيات 66 الى 71] قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قال لهم موسى بل ألقوا أنتم، وليس ذلك إذنا لهم فى السحر، ولكن أراد الحقّ إظهار تمويههم، فلمّا خيّلوا للناس بإلقاء الحبال أنها حيات ابتلعت عصا موسى جملة ما صنعوا، وتحقّق السّحرة أنّ ذلك أمر سماوىّ حيث تلاشى عين ما كان معهم من أوقار «1» الحبال، وصار الثعبان عصا كما كان، فسجدوا لله مؤمنين، وانقلب فرعون وقومه خائبين، وتوعّدهم بالقتل والصّلب، وفنون من العذاب الصعب، وبعد ما كانوا يقسمون بعزّة فرعون صاروا يحلفون بالله. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 72] قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) أي بالله الذي فطرنا إنّا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات. ولما طلعت فى أسرارهم شموس العرفان، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقّ سبحانه بأسرارهم فنطقوا ببيان التصديق، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة، ورأوا ذلك من الله فاستعذبوا البلاء، وتحملوا اللأواء «2» ، فكانوا فى الغداة كفارا سحرة، وأمسوا أخيارا بررة «3» . قوله «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ... » علموا أنّ البلاء فى الدنيا ينقضى- وإن تمادى، وينتهى وإن تناهى «4» قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 73] إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) أهمّ الأشياء- على من عرفه- مغفرته لخطاياه فهذا آدم- عليه السلام- لما   (1) الأوقار جمع وقر- الحمل الثقيل. (2) اللأواء- ضيق المعيشة وشدة المرض (الوسيط) . (3) فى هذه الإشارة فتح الباب الأمل امام العصاة نظرا لقصر المسافة بين الكفر والايمان، فهى كما بين الغداة والمساء. (4) أي وإن تناهى فى الشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 استكشف «1» من حاله، وحلّ به ما حلّ قال: َبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ... » «2» وقال لنبينا- صلى الله عليه وسلم- «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» «3» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة» «4» . ومنّ عليه بقوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «5» قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر، وقرب منه فرعون، ورأى البحر منفلقا والطريق فيه يبسا عيّر قومه بتلبيسه فقال: «إنه بحشمتي انفلق، فأنا ربّكم الأعلى!» وحصل- كما فى القصة- من دخوله بعسكره البحر حتى دخل آخرهم، وهمّ أن يخرج أوّلهم، فأمر الله البحر حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعون لما ظهر له اليأس «6» ، ولم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصراره، وقد أدركته الشقاوة التي سبقت له من التقدير. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 80] يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80)   (1) يقصد القشيري حين (بدت لهما سوآتهما وانكشفت) وربما كانت فى الأصل (استنكف) اى خجل مما فعل فهى قريبة فى الكتابة وملائمة السياق. [ ..... ] (2) آية 16 سورة القصص (3) آية 55 سورة غافر. (4) عن أغر مزينة رضى الله عنه قال: قال رسول الله: إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله تعالى فى اليوم والليل مائة مرة. أخرجه مسلم وأبو داود. (5) آية 2 سورة الفتح. (6) ربما كانت (البأس) بالباء فهى ملائمة للسياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 يذكّرهم آلاءه، ويعدّ عليهم نعماءه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لما أسبغ عليهم من فنون النّعم، ثم يذكرهم ما منّ به على أسلافهم من إنزال المنّ والسلوى، وضروب المحن وفنون البلوى. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 81] كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) الطيب ما كان حلالا. ويقال الطيب من الرزق ما لا يعصى الله مكتسبه. ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق. ويقال الطيب من الرزق ما حصل منه الشكر. ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبد من الله فما لأهل الجنة مؤجّل فى عقباهم جهرا، معجّل لأصفيائه فى دنياهم سرّا، قال تعالى: «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ «1» » . والأرزاق مختلفة فلأقوام حظوظ النفوس ولآخرين حقوق القلوب، ولأقوام شهود الأسرار فرزق النفوس التوفيق، ورزق القلوب التصديق، ورزق الأرواح التحقيق «2» . قوله: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» : بمجاوزة الحلال إلى الحرام. ويقال «لا تَطْغَوْا فِيهِ» : بالزيادة على الكفاف «3» ، وما لا بدّ منه مما زاد على سدّ الرمق. ويقال «لا تَطْغَوْا فِيهِ» : بالأكل على الغفلة والنسيان. قوله جل ذكره: فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى. فيحل عليكم غضبى بالخذلان لمتابعة الزّلّة بعد الزّلّة. ويقال فيحل عليكم غضبى لفقدكم التأسّف على ما فاتكم. ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال.   (1) آية 16 سورة الذاريات. (2) نضع ذلك فى اعتبارنا عند بحث الملكات الباطنية، ووظائفها وآفاتها ... وأرزاقها. (3) الكفاف من الرزق ما كان على مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 82] وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) الغفّار كثير المغفرة فمنك التوبة عن زلّة واحدة ومنه المغفرة لذنوب كثيرة، ومنه السّرّية التي لا اطلاع لأحد غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع. وهو يغفر لمن عمل مثل عملك، وهو يغفر لمن قلبك مريد له بالخير والنعمة، وكما قالوا. إنى- على جفواتها- فبربّها ... وبكل متّصل بها متوسّل وأحبّها وأحبّ منزلها الذي ... نزلت به وأحبّ أهل المنزل قوله «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ» : فلا تصحّ التوبة إلا لمن يكون مؤمنا. وقوله هنا: «وَآمَنَ» : أي آمن فى المآل كما هو مؤمن فى الحال. ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته، إنما نجاته برحمته. ويقال «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ» : من الزّلّة «وَآمَنَ» : فلم ير أعماله من نفسه، وآمن بأن جميع الحوادث من الحقّ- سبحانه- «وَعَمِلَ صالِحاً» : فلم يخلّ بالفرائض ثم اهتدى للسّنّة والجماعة «1» . ويقال «ثُمَّ» : للتراخى أي آمن فى الحال «ثُمَّ» اهتدى فى المآل. ويقال من سمع منه «وَإِنِّي» لا يقول بعد ذلك: «إِنِّي» «2» ويقال من شغله سماع قوله: «وَإِنِّي» استهلك فى استيلاء ما غلب عليه من ضياء القربة، فإذا جاءت «لَغَفَّارٌ» صار فيه بعين المحو، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتنى بشأنه. ويقال «إِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة لمن تاب مرة فيغفر له أنواعا من ذنوبه التي لم يتب منها سرّها وجهرها، صغيرها وكبيرها، وما يتذكر منها وما لا يتذكر. ولا ينبغى أن يقول:   (1) واضح حرص القشيري السنى على التمسك بسنيته- وهذا أصل ثابت فى مذهبه سواء فى علم الكلام أو فى علم التصوف. (2) فالتوحيد الصادق إسقاط الياءات ونفى كل دعوى للنفس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 عملت «عملا صالِحاً» : بل يلاحظ عمله بعين الاستصغار، وحالته بغير الاستقرار. وقوله «ثُمَّ اهْتَدى» : أي اهتدى إلينا بنا. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 83] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) أخرجهم مع نفسه لمّا استصحبهم، ثم تقدّمهم «1» بخطوات فتأخروا عنه، فقيل له فى ذلك مراعاة لحقّ صحبتهم. ويقال قوم يعاتبون لتأخرهم وآخرون لتقدمهم.. فشتان ماهما! قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 84] قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) أي عجلت إليك شوقا إليك، فاستخرج منه هذا الخطاب، ولولا أنه استنطقه لما أخبر به موسى «2» . قوله «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي..» أي ما خلّفتهم لتصييعى أيامى، ولكنى عجلت إليك لترضى. قال: يا موسى إنّ رضائى فى أن تكون معهم وألّا تسبقهم، فكونك مع الضعفاء الذين استصحبتهم- فى معانى حصول رضائى- أبلغ من تقدّمك عليهم. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 85] قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فتنّا قومك فضلّوا وعبدوا العجل فأخبر الحقّ- سبحانه- أنّ ذلك منه تقدير، وفى هذا تكذيب لمن جحد القول بالقدر. ويقال طلب موسى- عليه السلام- رضاء الحق، وقدّر الحقّ- سبحانه- فتنة. قومه فقال: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» ، ثم الحكم لله و، لم يكن بد لموسى عليه السلام من الرضاء بقضاء الله- فلا اعتراض على الله- ومن العلم بحقّ الله فى أن يفعل ما يشاء، وأنشدوا: أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد   (1) حين ذهب لميقات ربه. (2) وإلا كان دعوى من النفس. ويفيدنا هذا الرأى في قضية الإفصاح والكتمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 قوله جل ذكره: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وهو نوع من التغرير، وحصل ما حصل، وظهر ما ظهر من ( ... ) «1» قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 86] فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) ورجع نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- من المعراج بنعت البسط، وجاء بالنجوى «2» لأصحابه فيما أوجب الله عليهم من الصلاة، وأكرمهم به من القربة بالزلفة.. فشتان ماهما! ورجع موسى إلى قومه بوصف الغضب والأسف، وخاطبهم ببيان العتاب: قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ظنوا بنبيّهم ظنّ السّوء فى خلفه الوعد، فلحقهم شؤم ذلك حتى زاغوا عن العهد، وأشركوا فى العقد.. وكذلك يكون الأمر إذا لم يف المرء بعقده، فإنه ينخرط فى هذا السّلك قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 87] قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) قالوا لم نكن فى ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حصل منّا، ولا عالمين بما آلت إليه عاقبة   (1) مشتبهة، وهى قريبة فى الخط من (التعدية) وربما كانت صحيحة بمعنى التعدي لأنهم تركوا عبادة الله إلى عبادة العجل فظلموا أنفسهم وتجاوزوا حدودهم. (2) ربما كانت (بالنجاة) حيث تتضح المقابلة بين أمة عاد إليها نبيها من عند ربه (بالنجاة) وأمة عاد إليها نبيها منذرا بالعقوبة ومع ذلك فقد قبلنا (النجوى) على أساس أنها جوهر الصلاة. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 حالنا، وإن الذي حملنا من حلّى القبط صاغ السامرىّ منه العجل.. وكذلك الحرام من حطام الدنيا لا يخلو من شؤم أثره. فلقد كانت الغنيمة وأموال المشركين حراما عليهم، فاستعاروا الحلىّ من القبط، وآل إليهم ما كان فى أيديهم من الملك، فكان سبب عبادتهم العجل.. كذلك من انهمك فى طلب الدنيا من غير وجه حلال يكون على خطر من رقّة دينه، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 88 الى 89] فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) يقال إنهم لمّا مرّوا على قوم يعبدون أصناما لهم قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وكان ذلك الصنم على صورة العجل فكان ميلهم إلى عبادته مستكنّا فى قلوبهم، فصاغ السامرىّ العجل على تلك الصورة. وفى هذه إشارة إلى أن خفايا الهوى إذا استكنّت فى القلب فما لم ينقش ذلك الشرك بمنقاش المنازلة يخشى أن يلقى صاحبه ( ... ) «2» . ويقال إن موسى- عليه السلام- خرج من بين أمته أربعين يوما فرضى قومه بعبادة العجل، ونبيّنا- عليه السلام- خرج من بين أمته وأتت سنون كثيرة ولو ذكر واحد عند من أخلص من أمته فى التوحيد حديثا فى التشبيه لعدوا ذلك منه كبيرة ليس له منها مخلص «3» . كذلك فإنهم استحفظوا كتابهم فبدّلوه تبديلا، بينما ضمن الحقّ- سبحانه- إعزاز هذا الكتاب بقوله: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «4» .   (1) آية 23 سورة الجاثية. (2) مشتبهة وهى فى الرسم تقرب من (نعيبه) والنعيب صوت الغراب.. فهل يقصد القشيري- ما ذكره منذ قليل- أن صاحبه يلقى شؤم أثر ذلك؟ أم أن اللفظة فى الأصل غير ذلك؟ ربما كانت (نحبه) أو (نعيه) أو (مغبته) . (3) لأن المشبهة يدنون بتصوراتهم المادية عن الألوهية من عيدة العجل. (4) آية سورة الحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وقال: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «1» . قوله: «أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ... » بيّن أنّ من لا قول له لا يتكلم، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة، وفيه رد على من لم يثبت له فى الأزل القول، ولم يصفه بالقدرة على الخير والشر: قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 90] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون، والإشارة فى هذا أن من لم يحفظ أمر من هو أعلى رتبة كيف يحفظ أمر من هو أدنى منزلة؟ فمن ترك أمر الحقّ.. كيف يطمع فيه أن يحترم الشيوخ وأكل الناس؟ لهذا قيل: لا حرمة لفاسق لأنه إذا ترك حقّ الحقّ فمتى يحفظ حقّ الخلق؟ قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 91] قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) كان ذلك تعلّلا منهم بالباطل، فقالوا إنهم كانوا عازمين على ترك عبادة العجل إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة غير الله.. ولكن كلّ متعلّل يستند إلى ما يحتج به من الباطل. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 92 الى 93] قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) ضاق قلب موسى- عليه السلام- لمّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل، ولقد كان سمع من الله أنّ السامرىّ أضلّهم حين قال: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ» ، ولكن قديما قيل: ليس الخبر كالعيان، فلمّا عاين ذلك ضاق قلبه، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر «2» ،   (1) آية 28 سورة الفتح. (2) إشارة إلى أنه أخذ بشعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله غضبا، وغيرة فى الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وقيل: من ضاق قلبه اتسع لسانه. ولما ظهر لموسى- عليه السلام- ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المداراة.. وكذلك الواجب فى الصحبة لئلا يرتقى الأمر إلى الوحشة، فاستلطفه فى الخطاب واستعطفه بقوله: [سورة طه (20) : آية 94] قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) أنت أمرتنى ألّا أفارقهم. وقد يقال إن هارون لو قال لموسى: فى الوقت الذي احتجت أن تمضى إلى فرعون قلت: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» ، وقلت: «فَأَرْسِلْهُ مَعِي» ، وقلت حين مضيت إلى سماع كلام الحق: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» .. فما اكتفيت بأن لم تستصحبنى.. وخلّفتنى! وقد علمت أنى برىء الساحة مما فعلوا فأخذت بلحيتي وبرأسى.. ألم ترض بما أنا فيه حتى تزيدنى حريا على حرى «1» ؟! ... لو قال ذلك لكان موضعه، ولكن لحلمه، ولعلمه- بأنّ ذلك كلّه حكم ربّهم- فقد قابل كلّ شىء بالرضا. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 95] قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) سأل موسى كلّ واحد منهم بنوع آخر، وإن معاتبته مع قومه، ومطالبته لأخيه، وتغيّره فى نفسه، واستيلاء الغضب عليه- لم يغيّر التقدير، ولم يؤخّر المحكوم. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 96] قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيت جبريل، فقبضت التراب من موضع حافر   (1) الحرى- الغضب (الوسيط ج 1 ص 169) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 دابته، وألقى فى روعى أن ذلك سبب حياة العجل فطرحتها فى جوفه.. هكذا زيّنت لى نفسى فاتّبعت هواها. ثم كان هلاكه.. لئلا يأمن أحد حفىّ مكر التقدير، ولا يركن إلى ما فى الصورة من رفق فلعلّه- فى الحقيقة- يكون مكرا، ولقد أنشدوا: فأمنته فأتاح لى من مأمني ... مكرا، كذا من يأمن الأحبابا قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 97] قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) لم يخف على موسى- عليه السلام- تأثير التقدير وانفراد الحقّ بالإبداع، فلقد قال فى خطابه مع الحق: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» ، ولكنه لم يدع- مع ذلك- بإحلال العقوبة بالسامري والأمر فى بابه بما يستوجبه ليعلم أن الحكم فى الإبداع والإيجاد- وإن كان لله- فالمعاتبة والمطالبة تتوجهان على الخلق فى مقتضى التكليف، وإجراء الحقّ ما يجريه ليس حجّة للعبد ولا عذرا له. قوله جل ذكره: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً كلّ ما تعلّق به القلب من دون الله ينسفه الحقّ- سبحانه بمحبّه «1» ولهذا يلقى الأصنام غدا فى النار مع الكفار، وليس لها جرم، ولا عليها تكليف، ولا لها علم ولا خبر.. وإنما هى جمادات. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 98] إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) إي إلهكم الذي تجب عليكم عبادته بحقّ أمره هو الله الذي لا إله إلا هو، وهو بوصف الجلال، والذي لا يخفى عليه شىء من المعلومات هو الله، وليس مثل الذي هو جماد لا يعلم   (1) الباء هنا معناها (مع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 ولا يقدر، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر. ويمكنه أن يسحق هذا الجماد ويحرقه. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 99] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) نعرّفك أحوال الأولين والآخرين لئلا يلتبس عليك شىء من طرقهم فتتأدب بآدابهم وتجتمع فيك متفرّقات مناقبهم.. ولكن اعلم أنّا لم نبلغ أحدا مبلغك، ولم يكن لأحد منّا مالك آتيناك من عندنا شرفا وفخرا لم يشركك فيهما أحد، وذكّرناك ما سلف لك من العهد معنا، وجدّدنا لك بينهم تخصيصنا إياك، وكريم إقبالنا عليك. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 100] مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) المعرضون عنه شركا يحملون غدا وزرا وثقلا، أولئك بعدوا عن محلّ الخصوصية، ولم يكن لهم خطر فى التحقيق فعقوبتهم لا تزيد على آلام نفوسهم وإحراق أشباحهم، وأمّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعة، ونسوه لحظة لدار- فى الحال- على رؤوسهم البلا بحيث تتلاشى فى جهنّم عقوبة كلّ أحد (بالإضافة إلى هذه العقوبة) «1» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 102 الى 103] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) قوم يوم القيامة لهم مؤجّل، وهو بعد النفخ فى الصّور على ما ورد فى الكتاب وفى الخبر المأثور.   (1) ما بين القوسين أضفناه من عندنا ليتضح المعنى المطلوب حسبما نعرف من مذهب الصوفية أن عذاب الفراق أشد من عذاب الاحتراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وللآخرين قيامة معجّلة «1» فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة، وهو ان حاضر وعذاب حاصل، فكما ترد على ظواهر قوم فى الآخرة عقوبات، ترد على سرائر آخرين عقوبات فى الحياة الحاضرة، والمعاملة مع كلّ أحد تخالف المعاملة مع صاحبه. قوله «يتخافتون بينهم ... » من تفرّغ لعدّ الأوقات والتمييز بين اختلاف الحالات فنوع غير مستوف فى بلائه، وأمره سهل ... ومن كان يراد المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال فالأحوال تخبر عنه وهو لا يسأل عن الخبر. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 107] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) كما أنّ فى القيامة الموعودة تغيّر الجبال عن أحوالها فهى كالعهن المنفوش فكذلك فى القيامة الموجودة ... فلا يخبرك عنها إلا الأكابر الذين هم كالرواسى ثباتا فإنه يدخل عليهم من الأحوال ما يمحقهم عن شواهدهم، ويأخذهم عن أقرانهم ... كذا سنّته سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 108] يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، وتنخنس العقول، وتندرس العلوم، وتتحير المعارف، ويتلاشى ما هو نعت الخلق، ويستولى سلطان الحقيقة.. فعند ذلك لا عين ولا أثر، ولا رسم ولا طلل ولا غبر، فى الحضور خرس، وعلى البساط فناء، وللرسوم امتحاء، وإنما الصحة على الثبات. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 109] «2» يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)   (1) أي القيامة التي تحل بأرباب القلوب فى هذه الحياة الدنيا. (2) لأنه يكون فانيا عن نفسه، والقائم عنه ربّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 دليل الخطاب انّ من أذن له فى الشفاعة تنفعه الشفاعة، وإذا قبلت شفاعة أحد بإذن الرحمن فمن المحال ألّا تقبل شفاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الكافة، وشفاعة الأكابر من صفوته مقبولة فى الأصاغر في المؤجّل وفى المعجّل. والحقّ سبحانه يشفّع الشيوخ فى مريديهم اليوم «1» ويقال شفاعة الرسول عليه السلام غدا للمطيعين بزيادة الدرجة، وللعاصين بغفران الزّلّة، كذلك شفاعة الشيوخ- اليوم- للمريدين على قسمين: للذين هم أصحاب السلوك فبزيادة التحقيق والتوفيق، وللذين هم أصحاب التّخبّط والغرّة فبالتجاوز عنهم، وعلى هذا يحمل قول قائلهم: إذا مرضتم أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر! وحكايات السّلف من الشيوخ مع مريديهم فى أوقات فترتهم معروفة، وهى مشاكلة لهذه الجملة، وإن شفاعتهم لا تكون إلا بتعريف من قبل الله فى الباطن، ويكون ذلك أدبا لهم فى ذلك قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 110] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) لا يخفى على الحق شىء مما مضى من أحوالهم ولا من آتيها، ولا يحيطون به علما. والكناية «2» فى قوله: «بِهِ» يحتمل أن يعود إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، ويحتمل أن يعود إلى الحقّ- سبحانه-، وهو طريقة السّلف يقولون. يعلم الخلق ولا يحيط به العلم كما قالوا: إنه يرى ولا يدرك. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 111] وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) .   (1) بينما ينكر المعتزلة الشفاعة (أنظر الملل والنحل للشهرستانى) يثبت القشيري الشفاعة لا للرسول فقط بل للأولياء فى الدارين، وللشيوخ في هذه الحياة الدنيا.. على نحو ما هو واضح من إشارته. (2) الكناية فى تعبير القشيري معناها (الضمير) ، وهو هنا الهاء فى (به) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ذلّت له الرقاب واستسلم لحكمه الخلق، وخضعت له الجبابرة، ومن اقترف الظلم بقي فى ظلماته، وعلى حسب ذلك فى الزيادة والنقصان. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 112] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) العمل الصالح ما يصلح للقبول، فاعله هو المتجرّد عن الآفات الواقفة لحقيقة الأمر. ويقال العمل الصالح ما لم يستعجل عليه صاحبه أجرا. قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» : أي فى المآل كما هو مؤمن فى الحال. ويقال هو مؤمن مصدّق لربّه أنه لا يعطى المؤمن لأجل إيمانه شيئا، ولكن بفضله، وإيمانه أمارة لذلك لا موجب له «1» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 113] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) أتبعنا دليلا بعد دليل، وبعثنا رسولا بعد رسول، وحذّرناهم بوجوه من التعريفات، وإظهار كثير من الآيات قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 114] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) تعالى الله فى كبريائه وكبرياؤه: سناؤه وعلاه ومجده، ورفعته وعظمته، كل ذلك بمعنى واحد، وهو استحقاقه لأوصاف الجلال والتعظيم. و «الْمَلِكُ» : مبالغة من المالك، وحقيقة الملك القدرة على الإيجاد، والانفراد بذلك. و «الْحَقُّ» : فى وصفه- سبحانه- بمعنى الموجود، ومنه قوله عليه السلام: «العين حق» «2» أي موجود.   (1) على خلاف قول المعتزلة الذين يوجبون على الله أن يثبت من أطاع ويعاقب من أذنب. [ ..... ] (2) يقول القشيري فى تحبيره ص 68 «الحق من أسمائه سبحانه بمعنى الموجود الكائن، وكذا معناه فى اللغة، ومنه قوله عليه السلام: «السحر حق» أي كائن موجود، وكذا يقال الجنة حق، والنار حق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ويكون الحق بمعنى ذى الحقّ، ويكون بمعنى محقّ الحق. كل ذلك صحيح. قوله جل ذكره: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. كان يتعجل بالتلقف من جبريل مخافة النسيان، فأمره بالتثبت فى التلقين، وأمّنه من طوارق النسيان، وعرّفه أن الذي يحفظ عليه ذلك هو الله. والآية تشير إلى طرف من الاحتياط فى القضاء بالظواهر قبل عرضها على الأصول، ثم إن لم يوجد ما يوجب بالتحقيق أجراه على مقتضى العموم بحقّ اللفظ، بخلاف قول أهل التوقف. فالآية تشير إلى التثبت فى الأمور وضرورة التمكث واللبث قصدا للاحتياط «1» . قوله: (وقل ربّ زدنى علما) : فإذا كان أعلم البشر، وسيّد العرب والعجم، ومن شهد له الحقّ بخصائص العلم حين قال «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» «2» يقال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» - علم أنّ ما يخصّ به الحقّ أولياءه من لطائف العلوم لا حصر له. ويقال أحاله على نفسه «3» فى استزادة العلم. وموسى عليه السلام أحاله على الخضر حتى قال له: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» فشتان بين عبد أحيل على عبد فى ذلك ثم قيل له: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ثم بعد كل ذلك التلطف قال له فى آخر الأمر: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» ... وبين عبد أمره عند استزادة العلم بأن يطلبه من قبل ربه فقال: قل يا محمد: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ! ويقال لما قال عليه السلام: «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له» «4» ، قال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ليعلم أنّ أشرف خصال العبد الوقوف فى محلّ الافتقار، والاتصاف بنعت الدعاء دون الوقوف فى معرض الدعوى «5» .   (1) هذا يوضح مدى تحفظ المصنف واحتياطه في تناول النص النقلى. (2) آية 113 سورة النساء. (3) (على نفسه) الضمير هنا يعود على الحق سبحانه كما سيتضح بعد قليل. (4) البخاري عن أنس: (والله إنى لأخشاكم الله وأتقاكم له) . والشيخان عن عائشة: (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية) . (5) أي أن يكون العبد داعيا لا دعيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 115] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) لم نجد له قوة بالكمال، وانكماشا فى مراعاة الأمر حتى وقعت عليه سمة العصيان بقوله: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» «1» . ويقال «لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» : على الإصرار على المخالفة. ويقال لم نجد له عزما فى القصد على الخلاف «2» ، وإن كان.. فذلك بمقتضى النسيان، قال تعالى «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» على خلاف الأمر، وإن كان منه اتباع لبعض مطالبات الأمر. ويقال شرح قصة آدم- عليه السلام- لأولاده على حجة التسكين لقلوبهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله فإن آدم عليه السلام وقع عليه هذا الرقم، واستقبلته هذه الخطيئة، وقوله تعالى «فَنَسِيَ» من النسيان، ولم يكن فى وقته النسيان مرفوعا عن الناس. ويقال عاتبه بقوله: «فَنَسِيَ» ثم أظهر عذره فقال: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 116] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) السجود نوع من التواضع وإكبار القدر، ولم تتقدم «3» [من آدم عليه السلام طاعة- ولا عبادة فخلقه الحقّ بيده، ورفع شأنه بعد ما علّمه، وحمل إلى الجنة، وأمر الملائكة فى كل سماء أن يسجدوا له تكريما له على الابتلاء، واختبارا لهم. فسجدوا بأجمعهم، وامتنع إبليس من بينهم، فلقى من الهوان ما سبق له فى حكم التقدير. والعجب ممن يخفى عليه أنّ مثل هذا يجرى من دون إرادة الحقّ ومشيئته وهو عالم بأنه كذلك يجرى، واعتبروا الحكمة فى أفعاله وأحكامه، ويزعمون أنه علم ما سيكون من حال إبليس وذريته، وكثرة مخالفات   (1) آية 121 من السورة نفسها. (2) الخلاف- المخالفة. (3) ابتداء من هذا الموضع وحتى ينتهى الكلام بين القوسين الكبيرين وضعه الناسخ خطأ فيما بين الورقة 418 والورقة 422 عند تفسير سورة الفرقان أي فى مكان متأخر كثيرا وقد سمعنا وضعه، ونبهنا إلى ذلك فى مدخل هذا الكتاب (المجلد الأول) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 أولاد آدم، وكيف أن الشيطان يوسوس لهم ... ثم يقولون إن الحقّ سبحانه أراد خلاف ما علم، وأجرى فى سلطانه ما يكرهه وهو عالم، وكان عالما بما سيكون! ثم خلق إبليس ومكّنه من هذه المعاصي مع إرادته ألا يكون ذلك! ويدّعون حسن ذلك فى الفعل اعتبارا انما هو الحكمة ... فسبحان من أعمى بصائرهم، وعمّى حقيقة التوحيد عليهم! قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 117] فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) وما كان ينفعهم النّصح وقد أراد بهم ما حذّرهم، وعلم أنهم سيلقون ما خوّفهم به. قوله: «فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» : علم أنهم سيلقون ذلك الشقاء: وأمّا إنّه أضاف الشقاء إلى آدم وحده- وكلاهما لحقه شقاء الدنيا- فذلك لمضارعة رءوس الآي، أو لأن التعب على الرجال دون النساء. ومن أصغى إلى قول عدوّه فإنه يتجرّع النّدم ثم لا ينفعه. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119] إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) لا تصديق أتمّ من تصديق آدم، ولا وعظ أشدّ رحمة من الله، ولا يقين أقوى من يقينه.. ولكن ما قاسى آدم الشقاء قبل ذلك، فلمّا استقبله الأمر وذاق ما خوّف به من العناء والكدّ ندم وأطال البكاء، ولكن بعد إبرام التقدير. «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» أوثر بكل وجه فلم يعرف قدر العافية والسلامة، إلى أن جرى ما هو محكوم به من سابق القسمة. ويقال تنعّم آدم فى الجنة ولم يعرف قدر ذلك إلى حين استولى فى الدنيا عليه الجوع والعطش، والبلاء من كل ( ... ) «1»   (1) هنا طمس أخفى لفظة فى نهاية السطر وهى أقرب إلى أن تكون (فن) ونحن نتقبلها، فالقشيرى يستعملها فى مواضع مماثلة (أنظر مثلا استعماله (فنون الخذلان) عند تفسير الآية التي ستأتى بعد قليل: ومن اعرض عن ذكرى ... ) ، و (فن) تكون بمعنى (نوع) كما سيأتى فى العبارة التالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وكان آدم عليه السلام إذا تجدّد له نوع من البلاء أخذ فى البكاء، وجبريل عليه السلام يأتى ويقول: «ربّك يقرئك السلام ويقول: لم تبكى؟ فكان يذكّر جبريل عليه السلام وهو يقول: أهذا الذي قلت: «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» ..! وغير هذا من وجوه الضمان والأمن؟! قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 120] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) وسوس إليه الشيطان وكان الحقّ يعلم ذلك ولم يذكر آدم فى الحال أن هذا من نزغات من قال له- سبحانه: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ» . ويقال: لو عمّى على إبليس تلك الشجرة حتى لم يعرفها بعينها، ولو لم يكن ( ... ) «1» حتى دلّه على تلك الشجرة (إيش) «2» الذي كان يمنعه منه إلا أنّ الحكم منه بذلك سبق، والإرادة به تعلّقت؟ ويقال إن الشيطان ظهر لآدم عليه السلام بعد ذلك فقال له: يا شقىّ، فعلت وصنعت..! فقال إبليس لآدم: إن كنت شيطانك فمن كان شيطانى «3» ؟ ويقال سمّى الشيطان شيطانا لبعده عن طاعة الله، فكلّ بعيد عن طاعة الله يبعد الناس عن طاعة الله فهو شيطان، ولذلك يقال: شياطين الإنس، وشياطين الإنس شرّ من شياطين الجن. ويقال لما طمع آدم فى البقاء خالدا وجد الشيطان سبيلا إليه بوسوسته. والناس تكلموا فى الشجرة: ما كانت؟ والصحيح أن يقال إنها كانت شجرة المحنة. ويقال لو لم تخلق فى الجنة تلك الشجرة لما كان فى الجنة نقصان فى رتبتها «4»   (1) مشتبهة. (2) معناها (فأى شىء؟) وهى هنا استفهامية. (3) فى ذلك تنصل من اللعين أساسه المغالطة والتلبيس. (4) أي أن الجنة فى عرف هذا المتكلم (مخلوقة) و (حادثة) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 ويقال لولا أنه أراد لآدم ما كان لطالت تلك الشجرة حتى ما كانت لتصل إليها يده، ولكنه- كما فى القصة- كانت لا تصل إلى أوراقها يده- بعد ما أكل منها- حينما أراد أن يأخذ منها ليسترد عورته «1» . قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 121] فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) لمّا ارتكبا المنهىّ عنه ظهر ما يستحي من ظهوره، ولكنّ الله- سبحانه- ألطف معهما فى هذه الحالة بقوله: فبدت لهما سوآتهما، ولم يقل- مطلقا- فبدت سوءتهما أي أنه لم يطلع على سوءتهما غيرهما. ويقال لمّا تجرّدا عن لباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر. قوله جل ذكره: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أول الحرف والصناعات- على مقتضى هذا- الخياطة، وخياطة الرّقاع بعضها على بعض للفقراء ميراث من أبينا آدم- عليه السلام «2» . ويقال كان آدم- عليه السلام- قد أصبح وعليه من حلل الجنة وفنون اللّباس ما الله به أعلم، ثم لم يمس حتى كان يخصف على نفسه من ورق الجنة، وهكذا كان فى الابتداء ما هو موروث فى أولاده من هناء بعده بلاء. قوله تعالى: «وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» «3» : عند ذلك وقعت عليهما الخجلة لمّا ورد عليهما خطاب الحقّ: «أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ ... » ولهذا قيل: كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء قوله تعالى: «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا..» «4» : لم يتكلما بلسان الحجة فقالا: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» ، ولم يقولا: بظلمنا صرنا من الخاسرين، بل قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»   (1) وفى هذا تحذير ضمنى للأكابر من الوقوع فى الزلة، وكيف أن كرامة الولى تتلاشى بزلته. (2) لاحظ أهمية ذلك عندما نؤرخ للخرقة والمرقعة عند الصوفية. (3) آية 22 سورة الأعراف. (4) آية 23 سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 ليعلم أنّ المدار على حكم الربّ لا على جرم الخلق. قوله جل ذكره: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لمّا وقعت عليه سمة العصيان- وهو أوّل البشر- كان فى ذكر هذا تنفيس لأولاده أن تجرى عليهم زلّة وهم بوصف الغيبة فى حين الفترة. ويقال كانت تلك الأكلة شيئا واحدا، ولكن قصتها يحفظها ويرددها الصبيان إلى يوم القيامة. وعصى آدم ربّه ليعلما أن عظم الذنوب لمخالفة الآمر وعظم قدره.. لا لكثرة المخالفة فى نفسها. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 122] ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) أخبر أنه بعد ما عصى، وبعد كلّ ما فعله اجتباه ربّه فالذى اصطفاه أوّلا بلا علّة «1» اجتباه ثانيا بعد الزّلّة، فتاب عليه، وغفر ذنبه، «وَهَدى» : أي هداه إليه حتى اعتذر واستغفر. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 123] قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) أوقع العداوة بين آدم وإبليس والحية، وقد توالت المحن على آدم وحواء بعد خروجهما من الجنة بسمة العصيان، ومفارقة الجنة، ودخول الدنيا، وعداوة الشيطان، والابتلاء بالشهوات. ثم قال: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ... » وترك هواه، ولم يعمل بوسوسة العدوّ فله كلّ خير، ولا يلحقه ضير. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : الآيات 124 الى 126] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك فى الدنيا، وفي القبر،   (1) تفيد هذه العبارة فى بيان أهمية الاصطفاء الإلهى، وأن العمل الإنسانى له الدرجة الثانية فى الأهمية. ثم تفيد فى بيان الفرق فى الاصطلاح بين (الاصطفاء) و (الاجتباء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وفى النار، وبالقلب من حيث وحشة الكفر، وبالوقت من حيث انغلاق الأمور. ويقال من أعرض عن الانخراط فى قصايا الوفاق انثالت عليه فنون الخذلان، ومن أعرض عن استدامة ذكره- سبحانه- بالقلب توالت عليه من تفرقة القلب ما يسلب عنه كلّ روح. ومن أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بما يوجب له وحشة الضمير، وانسداد أبواب الراحة والبسط. ويقال من أعرض عن ذكر الله فى الخلوة قيّض الله له فى الظاهر من القرين السوء ما توجب رؤيته له قبض القلوب واستيلاء الوحشة. قوله جل ذكره: نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى فى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» فمن كان فى الدنيا أعمى القلب يحشر على حالته، ومن يعش على جهل يحشر على جهل، ولذا يقولون: «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» «1» إلى أن تصير معارفهم ضرورية. وكما يتركون- اليوم- التدبّر فى آياته يتركون غدا فى العقوبة من غير رحمة على ضعف حالاتهم. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 127] وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) جرت سنّته بأن يجازى كلا بما يليق بحاله، فما أسلفه لنفسه سيلقى غبّه على الخير خيرا، وعلى الشرّ شرّا.   (1) آية 52 سورة يس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 128] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) أي أفلا ينظرون فيتفكرون «1» ؟ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون؟ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون؟ أم على وجوههم- فى ميادين غفلاتهم يركضون، وعن سوء معاملاتهم لا يرجعون؟ ألا ساء ما يعملون! قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 129] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) لولا أنّ كلمة الله سبقت بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وأنه لا يستأصلهم لأنّ جماعة من الأولياء فى أصلابهم لعجّل عقوبتهم، ولكن ... كما ذكر من الأحوال أمهلهم مدة معلومة، ولكنه لم يهملهم أصلا. وإذا كانت الكلمة بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت، والعلم بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى- فالسعى والجهد، والانكماش والجدّ.. متى تنفع؟ لكنه من القسمة أيضا ما ظهر. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 130] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) سماع الأذى يوجب المشقة، فأزال عنه ما كان لحقه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون، وأمره: إن كان سماع ما يقولون يوحشك فتسبيحنا- الذي تثنى به علينا- يروّحك. «قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» : أي فى صدر النهار ليبارك لك فى نهارك، وينعم صباحك. «وَقَبْلَ غُرُوبِها» أي عند نقصان النهار ليطيب ليلك، وينعم رواحك.   (1) (الفاء) هنا حرف عطف لا (فاء) سبب، ولو اعتبرناها سببيه نقول (فيتفكروا) لوقوعها بعد أسلوب طلبى، ولكننا أثبتنا ما جاء فى النص لتكرار ذلك فيما تلاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 «وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ» أي فى ساعات الليل فإن كمال الصفوة فى ذكر الله فى حال الخلوة. «وَأَطْرافَ النَّهارِ» أي استدم ذكر الله فى جميع أحوالك. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 131] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) فضل «1» الرؤية فيما لا يحتاج إليه معلول كفضل الكلام، والذي له عند الله منزل وقدر فللحقّ على جميع أحواله غيرة إذ لا يرضى منه أن يبذل شيئا من حركاته، وسكناته وجميع حالاته فيما ليس لله- سبحانه- فيه رضاء، وفى معناه أنشدوا: فعينى إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها ويقال لما أدّبه فى ألا ينظر إلى زينة الدنيا بكمال نظره وقف على وجه الأرض بفرد قدم تصاونا عنها حتى قيل له: «طه» أي طأ الأرض بقدمك.. ولم كلّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفرد قدم؟! طأ الأرض بقدميك. «زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... » الفتنة ما يشغل به عن الحقّ، ويستولى حبّه على القلب، ويجسّر وجوده على العصيان، ويحمل الاستمتاع به على البطر والأشر. قوله جل ذكره: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى القليل من الحلال- وفيه رضاء الرحمن- خير من الكثير من الحرام والحطام. ومعه سخطه. ويقال قليل يشهدك ربّك خير من كثير ينسيك ربّك. قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 132] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) الصلاة استفتاح باب الرزق، وعليها أحال فى تيسير الفتوح عند وقوع الحاجة إليه. ويقال الصلاة رزق القلوب، وفيها شفاؤها، وإذا استأخر قوت النّفس قوى قوت القلب. وأمر- الرسول- عليه السلام- بأن يأمر أهله بالصلاة، وأن يصطبر عليها.   (1) الفضل هنا معناه الزيادة (وفضل الرؤية) زيادة التطلع إلى أكثر من المباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وللاصطبار مزية على الصبر وهو ألّا يجد صاحبه الألم بل يكون محمولا مروّحا. قوله جل ذكره: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نكلفك برزق أحد فإنّ الرازق الله- سبحانه- دون تأثير الخلق، فنحن نرزقك ونرزق الجميع. قوله جل ذكره: نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى هما شيئان: وجود الأرزاق وشهود الرزاق فوجود الأرزاق يوجب قوة «1» النفوس، وشهود الرزاق يوجب قوة «2» القلوب. ويقال استقلال «3» العامة بوجود الأرزاق، واستقلال الخواص بشهود الرزّاق. ويقال نفى عن وقته الفرق بين أوصاف الرزق حين قال: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» فإنّ من شهد وتحقق بقوله: «نَحْنُ» سقط عنه التمييز بين رزق ورزق. ويقال خفّف على الفقراء مقاساة قلّة الرزق وتأخّره عن وقت إلى وقت بقوله: «نَحْنُ» «4» قوله: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» : أي العاقبة بالحسنى لأهل التقوى. ويقال المراد بالتقوى المتّقى، فقد يسمّى الموصوف بما هو المصدر «5» قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 133] وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) عميت بصائرهم وادّعوا أنه لا برهان معه، ولم يكن القصور فى الأدلة بل كان الخلل فى بصائرهم، ولو جمع الله لهم كلّ آية اقترحت على رسول ثم لم يرد الله أن يؤمنوا لما   (1) ، (2) ربما كانا (قوت النفوس، وقوت القلوب) بالتاء المفتوحة فقد سبقا هكذا منذ قليل، وإن كان السياق لا يمنع (قوة النفوس وقوة القلوب) . (3) (استقلال) هنا بمعنى اكتفاء. (4) لأن من عاش (نحن) اكتفى بها ولم يستعجل شيئا. (5) كما يقال مثلا (رجل عدل) ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 ازدادوا إلا طغيانا وكفرا وخسرانا ... وتلك سنّة أسلافهم فى تكذيب أنبيائهم، ولذا قال: قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 134] وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) إن أرسلنا إليهم الرسل قابلوهم بفنون من الجحد، ووجوه من العلل مرّة يقولون فما بال هذا الرسول بشر؟ هلّا أرسله ملكا؟ ولو أرسلنا ملكا لقالوا هلّا أرسل إلينا مثلنا بشرا؟ ولو أظهر عليهم آية لقالوا: هذا سحر مفترى! ولو أخليناهم من رسول وعاملناهم بما استوجبوه من نكير لقالوا: هلّا بعث إلينا رسولا حتى كنا نؤمن؟ فليست تنقطع أغلالهم، ولا تنفك- عما لا يرضى- أحوالهم. وكذلك سبيل من لا يجنح إلى الوصال ولا يرغب فى الوداد، وفى معناه أنشدوا: وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... سلّ الوصال وقال كان وكانا قوله جل ذكره: [سورة طه (20) : آية 135] قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) الكل واقفون على التجويز غير حاصلين بوثيقة، ينتظرون ما سيبدو فى المستأنف، إلّا أنّ أرباب التفرقة ينتظرون ما سيبدو ممّا يقتضيه حكم الأفلاك، وما الذي توجبه الطبائع والنجوم. والمسلمون ينتظرون ما يبدو من المقادير فهم فى روح التوحيد، والباقون فى ظلمات الشّرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 السورة التي يذكر فيها الأنبياء قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. بسم الله اسم عزيز من توسّل إليه بطاعته تفضّل عليه بجميل نعمته إن أطاع فضّله، وإن أضاع أمهله، ثم إن آب وأقر.. ذكره، وإن عصى وعاب ستره، فإن تنصّل رحمه، وإن تكبر قصمه «1» . اسم عزيز ما استنارت الظواهر إلّا بآثار توفيقه، وما استضاءت السرائر إلا بأنوار تحقيقه بتوفيقه وصل العابدون إلى مجاهدتهم، وبتحقيقه وجد العارفون كمال مشاهدتهم، وبتمام مجاهدتهم وجدوا آجل مثوبتهم، وبدوام مشاهدتهم نالوا عاجل قربتهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) فالمطيعون منهم عظم لدينا ثوابهم، والعاصون منهم حقّ منّا عقابهم. «فِي غَفْلَةٍ» يقال الغفلة على قسمين: غافل عن حسابه باستغراقه فى دنياه وهواه، وغافل عن حسابه لاستهلاكه فى مولاه فالغفلة الأولى سمة الهجر والغفلة الثانية صفة الوصل فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا من سكرة الموت، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد لفنائهم فى وجود الحق تعالى «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 2] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) :   (1) يمكن القول أن هناك نوعا من الترابط والانسجام بين إشارات البسملة- على هذا النحو- وبين جزئيات السورة، حيث انقسم الناس إزاء الأنبياء إلى مصدق ومكذب، ومؤمن وجاحد.. ونال كل جزاءه. (2) تهمنا هذه الإشارة عند دراسة المصطلح الصوفي فالغفلة نوعان: مذمومة ومحمودة غفلة ناشئة عن الهجر وغفلة ناشئة عن الوصل. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 لم يجدد إليهم رسولا إلا ازدادوا نفورا، ولم ينزّل عليهم خطابا إلا ردّوه جحدا وتكذيبا، وما زدناهم فصلا إلا عدوّه هزلا، وما جددنا لهم نعمة إلا فعلوا ما استوجبوا نقمة، فكان الذي أكرمناهم به محنة بها بلوناهم.. وهذه صفة من أساء مع الله خلقه، وخسر عند الله حقّه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 3] لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) عميت بصائرهم وغامت أفهامهم، فهم فى غباوة لا يستبصرون، وفى أكنة عمّا أقيم لهم من البرهان فهم لا يعلمون. قوله: «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ... » لمّا عجزوا عن معارضته، وسقطوا عند التحدي، وظهرت عليهم حجّته رجّموا فيه الفكر، وقسّموا فيه الظن فمرة نسبوه إلى السحر، ومرة وصفوه بقول الشعر، ومرة رموه بالجنون وفنون من العيوب. وقبل ذلك كانوا يقولون عنه: هو محمد الأمين، كما قيل: أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 4] قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) الأقاويل التي يسمعها الحقّ- سبحانه- مختلفة فمن خطاب بعضهم مع بعض، ومن بعضهم مع الحق. والذين يخاطبون الحقّ: فمن سائل يسأل الدنيا، ومن داع يطلب كرائم العقبي، ومن مثن يثنى على الله لا يقصد شيئا من الدنيا والعقبى. ويقال يسمع أنين المذنبين سرا عن الخلق حذرا أن يفتضحوا، ويسمع مناجاة العابدين بنعت التسبيح إذا تهجدوا، ويسمع شكوى المحبين إذا مسّتهم البرحاء «1» فضجّوا من شدة الاشتياق.   (1) البرحاء: الشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 ويقال يسمع خطاب من يناجيه سرّا بسرّ، وكذلك تسبيح من يمدحه ويثنى عليه بلسان سرّه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 5] بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) نوّعوا ما نسبوا إليه- بعد ما نزّلنا إليه الأمر- من حيث كانوا، ولم يشاهدوا هممه على الوصف الذي كانوا يصفونه به من صدق فى الحال والمقال، وكما قيل: رمتنى بدائها وأنسلت. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 6] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) أخبر أن الله تعالى أجرى سنّته أن يعذّب من كان المعلوم من شأنه أنه لا يؤمن لا فى الحال ولا فى المآل. وإنّ هؤلاء الذين كفروا فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثالهم فى الكفران، وقد حكم الحقّ لهم بالحرمان والخذلان. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 7] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) لمّا قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يرسل إلى الناس رسولا فيما سبق من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بشرا، وذكر أنّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم. ثم قال: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» : الخطاب للكلّ والمراد منه الأمة، وأهل الذكر العلماء من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم. ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين فى محل الإعلام من الحقّ- سبحانه- أو من يحسن الإفهام عن الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 ويقال العالم يرجع إلى الله فى المعاملات والعبادات، وإذا اشتكلت الواقعة فيخبر عن اجتهاده، وشرطه ألا يكون مقلدا، ويكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يخالف النصّ وأدى اجتهاده إلى شىء ولم يخالف أصلا مقطوعا بصحته وجب قبول فتواه، وأمّا الحكيم فإذا تكلم فى المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يفتي به فإن لم تتقدم له من قبله المنازلة فتواه فى هذا الطريق كفتوى المقلّد فى مسائل الشرع. فأمّا العارف فيجب أن يتكلم فى هذا الطريق عن وجده- إن كان- وإلا فلا تقبل فتواه، ولا تسمع «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 8] وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) لمّا عيّروا الرسول- عليه السلام- بقولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟. أخبر أن أكل الطعام ليس بقادح فى المعنى الذي يختص به الأكابر، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تكنّه القلوب والسرائر من وجوه التعريف. ويقال النفوس لا خبر لها مما به القلوب، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرّ. قوله: «وَما كانُوا خالِدِينَ» : أي إنهم على ممر ومعبر، ولا سبيل اليوم لمخلوق إلى الخلد. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 9] ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) الحقّ- سبحانه- يحقّق وعده وإن تباطأ بتحقيقه الوقت فيما أخبر أنه يكون. والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدّين، وإرغام من نابذ الحقّ من الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ أهل الشبهة.   (1) فهم هذه الإشارة فى توصية الشيوخ إذا استفتاهم المريدون، كما فهم فى توضيح ما يمكن أن نسميه «أصول الفقه عند الصوفية» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 10] لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) يريد بالكتاب القرآن، وقوله: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» : أي شرفكم ومحلّكم، فمن استبصر بما فيه من النور سعد فى دنياه وأخراه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 11] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) إنّ الله يمهل الظالم حينا لكنه يأخذه أخذ قهر وانتقام، وقد حكم الله بخراب مساكن الظالمين، وقد جاء الخبر: «لو كان الظلم بيتا فى الجنة لسلّط عليه الخراب» فإذا ظلم العبد نفسه حرّم الله أن يقطنها التوفيق وجعلها موطن الخذلان، فإذا ظلم قلبه بالغفلة سلّط عليه الخواطر الردية التي هى وساوس الشيطان ودواعى الفجور. وعلى هذا القياس فى القلة والكثرة إنّ الروح إذا خربت زايلتها الحقائق والمحابّ، واستولت عليها العلائق والمساكنات. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 12] فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لمّا ذاقوا وبال أفعالهم اضطربوا فى أحوالهم فلم ينفعهم ندمهم، ولم تعد إلى محالّها أقدامهم، وبعد ظهور الخيانة لا تقبل الأمانة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 13] لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) وللخيانة سراية «1» ، فإذا حصلت الخيانة لم تقف السراية، وإذا غرقت السفينة فليس بيد الملّاح إلا إظهار الأسف، وهيهات أن يجدى ذلك! قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 14] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)   (1) سرى الجرح او السوء سراية. أي دام الألم منهما حتى حدث الموت. ويقال سرى التحريم وسرى العتق أي تعدى إلى غير المحرم أو المعتق (الوسيط) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 للإقرار زمان فإذا فات وقته فكما فى المثل: يسبق الفريص الحريص. ووضع القوس بعد إرسال السهم لا قيمة له. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 15] فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) إنّ من البلاء أن يشكو المرء فلا يسمع، ويبكى فلا ينفع، ويدنو فيقصى، ويمرض فلا يعاد، ويعتذر فلا يقبل.. وغاية البلاء التّلف. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 16] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) اللّعب نعت من زال عن حدّ الصواب، واستجلب بفعله الالتذاذ، وانجرّ فى حبل السّفه. وحقّ الحقّ متقدّس عن هذه الجملة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 17] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) يخاطبهم على حسب أفهامهم وإلا.. فالذى لا يعتريه سهو لا يستفزّه لهو، والحقّ لا يعتريه ولا يضاهيه كفو. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 18] بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) ندخل نهار التحقيق على ليالى الأوهام فينقشع سحاب الغيبة، وينجلى ضباب الأوهام، وتنير شمس اليقين، وتصحو سماء الحقائق عن كلّ غبار التّهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 19] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 الحادثات له سبحانه ملكا والكائنات له حكما، وتعالى الله عن أن يتجمل بوفاق أو ينقص بخلاف، وبالقدر ظهور الجميع، وعلى حسب الاختيار «1» تنصرف الكلمة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 20] يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) المطيع المختار يسبّحه بالقول الصدق، والكلّ من المخلوقات تسبيحها بدلالة الخلقة، وبرهان البيّنة «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 21] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) تفرّد الحقّ بالإبداع والإيجاد، وتقدّس عن الأمثال «الأنداد، فالذين يعبدون من دونه أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ. وهم «3» بالضرورة يعرفون.. أفلا يعتبرون وألا يزدجرون؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 22] لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) أخبر أنّ كلّ أمر يناط بجماعة لا يجرى على النظام إذ ينشأ بينهم النزاع والخلاف. ولمّا كانت أمور العالم فى الترتيب منسّقة فقد دلّ ذلك على أنها حاصلة بتقدير مدبّر حكيم فالسماء فى علوّها تدور على النظام أفلاكها، وليس لها عمد لإمساكها، والأرض مستقرة بأقطارها على ترتيب تعاقيب ليلها ونهارها. والشمس والقمر والنجوم السائرة تدور فى بروج، ورقعة السماء تتسع من غير فروج.. ذلك لتقدير العزيز العليم علامة، وعلى وحدانيته دلالة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 23] لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) لكون الخلق له، وهم يسألون للزوم حقه عليهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 24] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)   (1) الاختيار هنا مقصود به الاختيار الإلهى. (2) عبر القشيري عن هذا المعنى فى موضع سابق حين ذكر ان كل الكائنات شاهدة على وحدانيته للناطق منها توحيد القالة، ولغير الناطق توحيد الدلالة. (3) الضمير (هم) يعود على من يعبدون من دون الله آلهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 دلت الآية على فساد القول بالتقليد، ووجوب إقامة الحجة والدليل. ودلّت الآية على توحيد المعبود، ودلّت الآية على إثبات الكسب للعبيد إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللوم والعتب «1» . وكلّ من علّق قلبه بمخلوق، أو توهّم من غير الله حصول شىء فقد دخل فى غمار هؤلاء لأنّ الإله من يصحّ منه الإيجاد. قوله: «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» : الإشارة منه أن الدّين توحيد الحق، وإفراد الربّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية. ثم قال: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر، ولو وضعوا النظر موضعه لوجب لهم العلم لا محالة، والأمر يدل على وجوب النظر، وأنّ العلوم الدينية كلّها كسبية «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 25] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) التوحيد فى كل شريعة واحد، والتعبد- على من أرسل إليه الرسول- واجب، ولكنّ الأفعال للنسخ والتبديل معرّضة، أما التوحيد وطريق الوصول إليه فلا يجوز فى ذلك النسخ والتبديل. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 26] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) فى الآية رخصة فى ذكر أقاويل أهل الضلال والبدع على وجه الردّ عليهم، وكشف   (1) هذا راى على جانب خطير من الأهمية فى علم الكلام، وصدوره عن باحث صوفى يعرف أن المريد- على الحقيقة- من لا إرادة له يزيد فى أهمية الأمر. (2) فى هذا رد على من يتهمون الصوفية بإنكارهم للعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 عوراتهم، والتنبيه على مواضع خطاياهم، وأنّه إن وسوس الشيطان إلى أحد بشئ منه كان فى ذلك حجة للانفصال عنه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 27] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) أخبر أن الملائكة معصومون عن مخالفة أمره- سبحانه، وأنهم لا يقصّرون فى واجب عليهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 28] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) علمه القديم- سبحانه- لا يختصّ بمعلوم دون معلوم، وإنما هو شامل لجميع المعلومات، فلا يعزب عن علم الله معلوم. قوله: «لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» دلّ على أنهم يشفعون لقوم، وأنّ الله يتقبل شفاعتهم «1» . قوله: «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» : ليس لهم ذنب ثم هم خائفون ففى الآية دليل على أنه سبحانه يعذبهم وأن ذلك جائز، فإذا لم يجز أن يعذّب البريء لكانوا لا يخافونه لعلمهم أنهم لم يرتكبوا زلة «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 29] وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أخبر أنهم معرضون عن الزّلّة بكلّ وجه. ثم قال: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ»   (1) أي أن القشيري يؤمن بالشفاعة- على عكس بعض فرق المتكلمين الذين ينكرونها. (2) هذا رأى آخر له أهميته من الوجهة الكلامية، حيث يرى المعتزلة- وقد سموا أنفسهم أهل العدل- أن الله لا يعذب البريء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وقد علم أنهم لا يقولون ذلك، ولكن علم لو كان ذلك كيف كان يكون حكمه، فالحق- سبحانه- يعلم ما لا يكون كيف كان يكون. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 30] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) داخلتهم الشبهة فى إعادة الخلق والقيامة والنّشر، فأقام الله الحجة عليهم بأن قال: أليسوا قد علموا أنه خلق السماوات والأرض سمك السماء وبسط الأرض. فإذا قدر على ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة بعد الإبادة؟ قوله جل ذكره: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ كلّ شىء مخلوق حىّ فمن الماء خلقه، فإنّ أصل الحيوان الذي حصل بالتناسل النطفة، وهى من جملة الماء. وحياة النفوس بماء السماء من حيث الغذاء، وحياة القلوب بماء الرحمة، وحياة الأسرار بماء التعظيم. وأقوام حياتهم بماء الحياء.. وعزيز هم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 31] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) الأولياء هم الرواسي فى الأرض وبهم «1» يرزقون، وبهم يدفع عنهم البلاء، وبهم يوفى عليهم العطاء. وكما أنه لولا الجبال الرواسي لم تكن للأرض أوتاد.. فكذلك الشيوخ الذين هم أوتاد الأرض (فلولاهم) لنزلت بهم الشدة. وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ كما أن فى الأرض سبلا يسلكونها ليصلوا إلى مقاصدهم كذلك جعل السبل إليه   (1) الضمير فى (بهم) يعود على الخلق، ولم يكن القشيري بحاجة إلى ذكر (الخلق) هنا لكثرة ما أعاد فى هذا الموضوع من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 مسلوكة بما بيّن على ألسنتهم من هداية المريدين، وقيادة السالكين، كما يسّر بهداهم الاقتداء بهم فى سيرهم إلى الله. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 32] وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) فى ظاهر الكون السماء منيرة، والأرض مسكونة.. كذلك للنفوس أراض هى مساكن الطاعات، وفى سماء القلوب نجوم العقل وأقمار العلم وشموس التوحيد والعرفان. وكما جعلت النجوم رجوما للشياطين جعل من المعارف رجوما للشياطين. وكما أن الناس عن آياتها معرضون لا يتفكرون فالعوام عن آيات القلوب مما فيها من الأنوار غافلون، لا يكاد يعرفها إلا الخواص قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 33] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) كما أن الحق- سبحانه- فى الظاهر يكوّر الليل على النهار، ويكور النهار على الليل فكذلك يدخل فى نهار البسط ليل القبض. والبسط فى الزيادة والنقصان. فكما أنّ الشمس أبدا فى برجها لا تزيد ولا تنقص، والقمر مرة فى المحاق، ومرة فى الإشراق.. فصاحب التوحيد بنعت التمكين- يرتقى عن حدّ تأمّل البرهان إلى روح البيان، ثم هو متحقق بما هو كالعيان. وصاحب العلم مرة يردّ إلى نجديد نظره وتذكّره، ومرة يغشاه غير فى حال غفلته فهو صاحب تلوين «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 34] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) إنك فى هذه الدنيا عابر سبيل، لكننا لم نتركك فردا فى الدنيا، ولذلك قال عليه السلام لصاحبه فى الغار: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!» .   (1) فأهل التمكين كالشمس فى ثباتها، وأهل التلوين كالقمر في تدرجه وتغير أحواله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 35] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) الموت به آفة قوم، وفيه راحة قوم لقوم انتهاء مدة الاشتياق، ولآخرين افتتاح باب الفراق، لقوم وقوع فتنتهم ولآخرين خلاص من محنتهم، لقوم بلاء وقيامة ولآخرين شفاء وسلامة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 36] وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) لو شهدوا بما هو به من أوصاف التخصيص وما رقّاه إليه من المنزلة لظلوا له خاضعين، ولكنهم حجبوا عن معانيه وسريرته، وعاينوا منه جسمه وصورته. قوله جلّ ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 37] خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) العجلة مذمومة والمسارعة محمودة فالمسارعة البدار إلى الشيء فى أول وقته، والعجلة استقباله قبل وقته، والعجلة نتيجة وسوسة الشيطان، والمسارعة قضية التوفيق. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 38] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) اعتادوا تكذيب الأنبياء عليهم السلام فيما وعدوهم، فاستعجلوا حصول ما توعدوهم به. ولو علموا ما ينالهم لكان السكون منهم، فالفزع يدلّ على استعجالهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 39] لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) ... لأمسكوا اليوم عن الانخراط فى عذاب «1» الظنون، والاغترار بمواعيد الشيطان.   (1) ضبطناها (عذاب) بكسر العين لتكون جمع (عذب) فقد غرهم ما هيأت لهم الظنون فاستعذبوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 40] بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) العقوبة إذا أتت فجأة كانت أنكى وأشد. وسنّة الله فى الانتقام أن يثير ريح البغتة فى حال الانغماس فى النّعمة والمنّة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 41] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) تسلية له، وتعريف بوشك الانتصار على الذين كانوا يؤذونه من أعداء الذين أي عن قريب ستجدون وبال ما استوجبوه من العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 42] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) تقرير عليهم بأن ليس بتداخل المخلوقين نجاتهم، وقد جرّبوا ذلك فى أحوال محنتهم، فكيف لا يتبرءون ممن ليس لهم شىء، ومما ليس منه نفع ولا ضرّ؟ وفى ذلك تنبيه للمؤمنين بأن مآربهم إلى الخيرات من نوعى النفع والدفع من الله عز وجل، فالواجب دوام اعتكافهم بقلوبهم بعقوة كرمه وجوده. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 43] أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) .. بسط القول وكرره فى تعريفهم استحالة حصول الضر والنفع من الجمادات وأصنامهم التي عبدوها من تلك الجملة، ولم يرد منهم- على تكرار هذه الألفاظ- إلّا عجز وانقطاع قول. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 44] بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) طول الإمتاع إذا لم يكن مقرونا بالتوفيق، مشفوعا بالعصمة كان مكرا واستدراجا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 وزيادة فى العقوبة. والحقّ كما يعاقب بالآلام والأهوال يعاقب بالإملاء والإمهال. وقال: أفلا يرون أنا نأتى الأرض ... » تتوالى القسوة حتى لا يبقى أثر للصفوة فيتعاقب الخذلان حتى يتواتر العصيان، ويتأدى ذلك إلى الحرمان الذي فيه ذهاب الايمان. ويقال تنقص بذهاب الأكابر ويبقى الأراذل ويتعرض الأفاضل. وفى هذا أيضا إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين وتطاول العمر، فإن آخر الأمر كما قيل] : «1» آخر الأمر ما ترى ... القبر واللّحد والثرى وكما قيل: طوى العصران «2» ما نشراه منى ... وأبلى جدتى نشر وطيّ أرانى كلّ يوم فى انتقاص ... ولا يبقى- مع النقصان- شىّ قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 45] قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) أي بأمر الله أعلمكم بموضع المخافة، ويوحى إلىّ فى بابكم أن أخوّفكم بأليم عقابه، ولكنّ الذي عدم سمع التوفيق.. أنى ينفعه تكرار الأمر بالقبول عليه؟! قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 46] وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) أي إنهم لا يصبرون على أقلّ شىء من العقوبة وإنّ الحقّ إذا شاء أن يؤلم أحدا فلا يحتاج إلى مدد وعون. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 47] وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)   (1) هنا نهاية الجزء الذي أخطأ الناسخ في نقله من أواخر «طه» وأوائل «الأنبياء» إلى مكان آخر من «الفرقان» . [ ..... ] (2) العصران: الغداة والعشى، أو الليل والنهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 توزن الأعمال بميزان الإخلاص فما ليس فيه إخلاص لا يقبل، وتوزن الأحوال بميزان الصدق فما يكون فيه الإعجاب لا يقبل، وتوزن الأنفاس بميزان ( ... ) «1» فما فيه حظوظ ومساكنات لا يقبل. ويقال ينتصف المظلوم من الظالم، وينتقم الضعيف من القوى. ويقال ما كان لغير الله لا يصلح للقبول. ويقال يكافئ كلا بما يليق بعمله فمن لم يرحم عباده فى دنياه لا يرحمه الله، ومن لم يحسن إلى عباده تقاصر عنه إحسانه، ومن ظلم غيره كوفئ بما يليق بسوء فعله. قوله: «فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» : أي يجازى المظلومين وينتقم من الظالمين، وينصف المظلوم من مثقال الذرة ومقياس الحبّة، وإن عمل خيرا بذلك المقدار فسيلقى جزاءه، ويجد عوضه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 48] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) ما آتاه الحق سبحانه للأنبياء عليهم السلام من الضياء والنّور، والحجّة والبرهان يشاركهم المستجيبون من أممهم فى الاستبصار به ... فكذلك الأكابر من هذه الأمة يشاركون نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى الاستبصار بنور اليقين. و «المتّقى» هو المجانب لما يشغله ويحجبه عن الله، فيتقى أسباب الحجاب وموجباتها.   (1) نرى انه قد حدث سقوط للفظة فى هذا المكان، ولا بد انها بمعنى الخلوص لله والتجرد من كل العلائق، وربما كانت أيضا (الحقوق) أي حقوق الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 49] الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) صار لهم فى استحقاق هذه البصائر والخشية بالغيب إطراق السريرة، وفى أوان الحضور استشعار الوجل من جريان سوء الأدب، والحذر من أن يبدو من الغيب من خفايا التقدير ما يوجب حجبة العبد. والإشفاق من الساعة على ضربين: خوف قيام الساعة الموعودة للعامة، وخوف قيام الساعة التي هى قيامة هؤلاء القوم «1» فإنّ ما يستأهل الكافة فى الحشر معجّل لهم فى الوقت من تقريب ومن تبعيد، ومن محو ومن إثبات. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 50] وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وصف القرآن بأنه «مُبارَكٌ» ، وهو إخبار عن دوامه «2» ، من قولهم: برك الطائر على الماء أي دام. وإنّ هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما لا ابتداء له- وهو كلامه القديم- فلا انتهاء للكتاب الدالّ عليه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 51] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) أراد به ما تعرّف إليه من الهداية حتى لم يقل بما يجوز عليه الزوال والأفول «3» ، لولا أنّه خصّه فى الابتداء بالتعريف.. وإلّا متى اهتدى إلى التمييز بينه وبين خلقه لولا ما أضاء. «4» عليه من أنوار التوحيد قبلما حصل منه من النظر فى المخلوق؟ ويقال هو ما كاشف به روحه قبل إبداعها من تجلّى الحقيقة.   (1) اى أرباب الأحوال (2) وردت (بيانه) وآثرنا- طبقا للسياق- أن نجمعها (دوامه) (3) إشارة إلى أن إبراهيم لما رأى أفول الشمس والقمر والنجم قال: «إنى لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» . (4) (أضاء) مقبولة فى السياق ولكننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (أفاء) أي (أنعم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قوله جل ذكره [سورة الأنبياء (21) : آية 52] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) خاطب قومه وأباه «1» ببيان التنبيه طمعا فى استفاقتهم من سكرة الغفلة، ورجوعهم من ظلمة «2» الغلظة، وخروجهم من ضيق الشّبهة. ثم سأل الله إعانتهم بطلب الهداية لهم. فلمّا تبيّن له أنهم لا يؤمنون، وعلى كفرهم يصرّون تبرّأ منهم أجمعين. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 53 الى 55] قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) ما استروحوا فى الجواب إلا إلى التقليد، فكان من جوابه الحكم بالتسوية بينهم وبين آبائهم فى الضلال، والحجة المتوجهة على سلفهم لزموها وتوجهت عليهم، فلم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا: «أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟» فطالبوه بالبرهان إلى ما دعاهم إليه من الإيمان فقال: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 56 الى 60] قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) فأحالهم على النظر والاستدلال والتعرّف «3» من حيث أدلة العقول «4» لأنّ إثبات الصانع   (1) وردت (وأتاه) والصواب أن تكون (أباه) كما فى الآية. (2) وردت فى (ظلمة) وفى م (ظل) والصواب أن تكون (ظلمة) فالقشيرى يستعمل الظل للعناية وما فى معناها. (3) فى ص (والتعريف) وفى م (التعرف) ونحن نرجح هذه. (4) فى ص (القبول) ونحن نرجح (العقول) لتلاؤمها مع السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 لا يعرف بالمعجزات، وإنما المعجزات علم بصدق الأنبياء عليهم السلام، وذلك فرع لمعرفة الصانع. ثم بيّن لهم أنّ ما عبدوه من دون الله لا يستحق العبادة، ثم إنه لم يحفل بما يصيبه من البلاء ثقة منه بأنّ الله هو المتفرّد بالإبداع، فلا أحد يملك له «1» ضرا من دون الله، فتساءلوا فيما بينهم وقالوا: قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي يذكرهم بالسوء. ويحتمل أن يكون من فعله.. فاسألوه، فسألوه «2» فقال: بل فعله كبيرهم. فقالوا كيف ندرك الذنب عليه؟ وكيف تحيلنا فى السؤال عليه- وهو جماد؟ فقال: وكيف تستجيزون عبادة ما هو جماد لا يدفع عن نفسه السوء؟! قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 65] ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) فقال: شرّ وأمرّ «3» .. كيف تستحق أمثال هذه.. العبادة؟! فلمّا توجّهت الحجة عليهم ولم يكن لهم جواب داخلتهم الأنفة والحمية فقالوا: سبيلنا أن نقتله شرّ قتلة، وأن نعامله بما يخوفنا به من النار. فقالوا: «ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» ، فلما رموه فى النار: [سورة الأنبياء (21) : آية 69] قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)   (1) الضمير فى (فسألوه) يعود على ابراهيم عليه السلام. (2) أي أن فى الكلام كما يقول البلاغيون- إيجاز حذف. (3) أي هذا عذر أقبح من الذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 لو عصمه من نار «1» نمرود ولم يمكنه من رميه فى النار من المنجنيق لكان- فى الظاهر- أقرب من النصر، ولكنّ حفظه فى النار من غير أنّ يمسّه ألم أتمّ فى باب النصرة والمعجزة والكرامة. ويقال إن ابراهيم- عليه السلام- كان كثيرا ما يقول: أواه من النار! قال تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «2» فلمّا رمى فى النار، وجعل الله عليه النار بردا قيل له: لا تقل بعد هذا. أواه من النار! فالاستعاذة بالله من الله.. لا من غيره. قوله: «وَسَلاماً» : أي وسلامة عليه وله، فإنه إذا كان للعبد السلامة فالنار والبرد عنده سيان. ويقال إن الذي يحرق فى النار من فى النار يقدر على حفظه فى النار. ولمّا سلم قلبه من غير الله بكل وجه فى الاستنصار «3» والاستعانة وسلم من طلب شىء بكلّ وجه.. تعرّض له جبريل- عليه السلام- فى الهواء وقد رمى من المنجنيق وقال له: هل من حاجة؟ فقال: أمّا إليك.. فلا! فجعل الله النار عليه بردا وسلاما إذ لمّا كان سليم القلب من الأغيار وجد سلامة النّفس من البلايا والأعلال. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 70] وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) من حفر لأوليائه وقع فيما حفر، ومن كان مشغولا بالله لم يتولّ الانتقام منه سوى الله.   (1) فى م (يد) نمرود وكلاهما مقبول فى السياق. [ ..... ] (2) آية 114 سورة التوبة. (3) هكذا فى من وهى أصح من (الاستبصار) فى ص لانسجام (الاستنصار) مع (الاستعانة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 71] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) مضت سنّة الله فى أنبيائه- عليهم السلام- أنه إذا نجّى منهم واحدا أشرك معه من كان مساهما له فى ضرّه ومقاساة مشقته. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 72] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) منّ عليه بأن أخرج من صلبه من كان عابدا لله، ذاكرا له، فإنّ مفاخر الأبناء مناقب للآباء، كما أنّ مناقب الآباء شرف للأبناء. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 73] وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) الإمام مقدّم القوم، واستحقاق رتبة الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي فى الأمة فيه، فمن لم تتجمع فيه متفرّقات الخصال المحمودة لم يستحق منزلة الإمامة. قوله جل ذكره [سورة الأنبياء (21) : آية 74] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) أكمل له الأنعام بعصمته من مثل ما امتحن به قومه، ثم بخلاصه منهم بإخراجه إيّاه من بينهم، فميزه عنهم ظاهرا وباطنا. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 75] وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) بيّن أنه أدخله فى رحمته ثم قال: «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» فلا محالة من أدخله فى رحمته كان صالحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وقوله: «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» إخبار عن عين الجمع، وقوله: «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» : إخبار عن عين الفرق «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77] وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) كان نوح- عليه السلام- أطولهم عمرا، وأكثرهم بلاء. ففى القصة أنه كان يضرب سبعين مرة، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قول هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح- عليه السلام- يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمّا أيس من إيمانهم، وأوحى إليه: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» «2» دعا عليهم فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «3» فقال تعالى: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ .... » فأزهق الشّرك وأغرق أهله. سورة الكهف ... سورة مريم ... سوره طه ... قوله جل ذكره [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 79] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) أشركهم فى حكم النبوة وإن كان بين درجتيهما تفاوت.. ففى مسألة واحدة أثبت لسليمان- عليه السلام- بها خصوصية إذ منّ عليه بقوله: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» ولم بمن عليه بشىء من الملك الذي أعطاه بمثل ما منّ عليه بذلك، وفى هذه المسألة دلالة على تصويب المجتهدين- وإن اختلفوا- إذا كان اختلافهم فى فروع الدّين حيث قال: «وَكُلًّا آتَيْنا   (1) لأن الرحمة من صفات ذاته- سبحانه، وصلاح العبد فيه شىء من كسب العبد. (2) آية 36 سورة هود. (3) آية 26 سورة نوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 حُكْماً وَعِلْماً» ولمن قال بتصويب أحدهما وتخطئة الآخر فله تعلّق بقوله: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» «1» قوله جل ذكره: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ أمر الجبال وسخّرها لتساعد داود- عليه السلام- فى التسبيح، ففى الأثر: كان داود- عليه السلام- يمرّ وصفاح «2» الجبال تجاويه، وكذلك الطيور كانت تساعده عند تأويبه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 80] وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) سخّر الله- سبحانه- لداود الحديد وألانه فى يده، فكان ينسج الدروع، قال تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» ليتحصن من السهام فى الحروب، قال تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» وأحكم الصنعة وأوثق المسامير.. ولكن لما قصدته سهام التقدير ما أصابت إلا حدقته حين نظر إلى امرأة أوريا- من غير قصد- فكان ما كان. ولقد خلا ذلك اليوم، وأغلق على نفسه باب البيت، وأخذ يصلى ساعة، ويقرأ التوراة مرة، والزبور أخرى، حتى يمضى وينتهى ذلك اليوم بالسلامة. وكان قد أوحى إليه أنّه يوم فتنة، فأمر الحجّاب والبواب ألا يؤذن عليه أحد، فوقع من كوّة البيت طير لم ير مثله   (1) هذا رأى القشيري فى (الاجتهاد) ومداه، ويجدر الاهتمام به إذا شئنا أن نبحث فى «أصول الفقه عند الصوفية» . (2) صفاح جمع صفح، وصفح الشيء عرضه (مقاييس اللغة ج 3 ص 293) . ويقول القرطبي (قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا، والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير) ويضيف القرطبي شيئا هاما بالنسبة للتفسير الصوفي: (كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى بشتاتى، ولهذا قال: «وَسَخَّرْنا» أي جعلناها بحيث تطيعه) . «الجامع لأحكام القرآن ج 11 ص 319» وبهذه المناسبة نود أن نستدرك شيئا لم نشر إليه فى مدخل الكتاب، وهو أن القرطبي كثيرا ما يستفيد من آراء الصوفية، وبصفة خاصة من القشيري، وهو في معظم الأحيان عبد الرحمن القشيري أحد أبناء المصنف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 فى الحسن، فهمّ أن يأخذه، فتباعد ولم يطر كالمطمع له فى أخذه، فلم يزل يستأخر قليلا قليلا حتى طار من كوّة البيت، فتبعه داود ينظر إليه من الكوة من ورائه، فوقع بصره على امرأة أوريا، وكانت قد تجرّدت من ثيابها تغتسل فى بستان خلف البيت الذي به داود، فحصل فى قلبه ما حصل، وأصاب سهم التقدير حدقته، ولم تنفعه صنعة اللّبوس التي كان تعلّمها لتحّصنه من بأسه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 81] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) سخّر الله له الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، ولو أراد أن يزيد فى قدر مسافتها شبرا لما استطاع، تعريفا بأنه موقوف على حكم التقدير، فشهود التقدير كان يمنعه عن الإعجاب بما أكرم به من التسخير، ولقد نبّه- سبحانه- من حيث الإشارة أن الذي ملكه سليمان كالريح إذا مرّ وفات، أو أنه لا يبقى باليد منه شىء «1» . وفى القصة أنه لا حظ ذلك يوما فمالت الريح ببساطه قليلا، فقال سليمان للريح: استو. فقالت له الريح: استو أنت. أي إنما ميلى ببساطك لميلك بقلبك بملاحظتك فإذا استويت أنت استويت أنا «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 82] وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) إنما كان ذلك أياما قلائل فى الحقيقة. ثم إنه أراد يوما أن يعود إلى مكانه فجاءه ملك الموت فطالبه بروحه، فقال: إلىّ حين أرجع إلى مكانى. فقال له: ولا وجه للتأخير، وقبضه وهو قائم يتكئ على عصاه وبقي بحالته، ولم تعلم الجنّ،   (1) فهو كما قيل: باطل وقبض الريح. (2) فى ذلك إشارة إلى أصحاب الأحوال بأنه إذا تغيرت أو تعذرت الأمور فالسبب كامن فى نفوسهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 إلى أن أكلت دابة الأرض- كما فى القصة- عصاه، فلما خرّ سليمان علمت الشياطين بموته، وتحققوا أنّ الذي بالعصا قيامه فقهر الموت يلحقه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) أي واذكر أيوب «1» حين نادى ربّه. وسمّى أيوب لكثرة إيابه إلى الله فى جميع أحواله فى السرّاء والضرّاء، والشّدّة والرّخاء. ولم يقل: ارحمني، بل حفظ أدب الخطاب فقال: «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . ومن علامات الولاية أن يكون العبد محفوظا عليه وقته في أوان البلاء. ويقال إخباره عنه أنه قال: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» لم يسلبه اسم الصبر حيث أخبر عنه سبحانه بقوله: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً» لأنّ الغالب كان من أحواله الصبر، فنادر قالته لم يسلب عنه الغالب من حالته. والإشارة من هذا إلى أنّ الغالب من حال المؤمن المعرفة، أو الإيمان بالله فهو الذي يستغرق جميع أوقاته، ولا يخلو منه لحظة ونادر زلّاته- مع دائم إيمانه- لا يزاحم الوصف الغالب. ويقال لمّا لم يكن قوله: مسنى الضرّ على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز- فلم يكن ذلك منافى الصفة الصبر. ويقال استخرج منه هذا القول ليكون فيه متنفّس للضعفاء فى هذه الأمة حتى إذا ضجّوا فى حال البلاء لم يكن ذلك منافى الصفة الصبر. ويقال لم يكن هذا القول منه على جهة الشكوى، وإنما كان من حيث الشكر «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ» الذي تخصّ به أولياءك، ولولا أنك أرحم الراحمين لما خصصتنى بهذا، ولكن برحمتك أهّلتنى لهذا.   (1) فى تقدير با أن ما كتبه القشيري فى هذا الموضع عن أيوب عليه السلام من أجمل ما كتب فى هذا الموضوع سواء من الناحية الأدبية أو من الناحية الإشارى ة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 ويقال لم يكن هذا القول من أيوب ولكنه استغاثة البلاء منه، فلم يطق البلاء صحبته فضجّ منه البلاء لا أيوب ضجّ من البلاء.. وفى معناه أنشدوا. صابر الصبر فاستغاث به الصبر ... فصاح المحبّ بالصبر صبرا ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة، ومعناه: أيمسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين؟ كما قال «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ» «1» أي أتلك نعمة تمنها علىّ أن عبدت بنى إسرائيل؟ ويقال إن جبريل- عليه السلام- أتى أيوب فقال: لم تسكت؟ فقال: ماذا أصنع؟ فقال: إنّ الله سببان عنده بلاؤك وشفاؤك ... فاسأل الله العافية فقال أيوب: إنى مسنى الضّر، فقال تعالى: «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» والفاء تقتضى التعقيب، فكأنه قال: فعافيناه فى الوقت. وكأنه قال: يا أيوب، لو طلبت العافية قبل هذا لاستجبنا لك. ويقال سقطت دودة كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوب ووضعها على موضعها، فعقرته عقرة عيل صبره فقال: مسنى الضر، فقيل له: يا أيوب: أتصبر معنا؟ لولا أنى ضربت تحت كل شعرة من شعراتك كذاخيمة من الصبر.. ما صبرت ساعة! ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما علا بدنه، فلم يبق منه إلا لسانه وقلبه، فصعدت دودة إلى لسانه، وأخرى إلى قلبه فقال: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» ... فلم يبق لى إلا لسان به أذكرك، أو قلب به أعرفك، وإذ لم يبق لى ذلك فلا يمكننى أن أعيش وأصبر! ويقال استعجمت عليه جهة البلاء فلم يعلم أنه يصيبه بذلك تطهيرا أو تأديبا أو تعذيبا أو تقريبا أو تخصيصا أو تمحيصا ... وكذلك كانت صحبته «2» . ويقال قيل لأيوب عليه السلام سل العافية فقال: عشت فى النّعم سبعين سنة فحتى يأتى علىّ سبعون سنة فى البلاء.. وعندئذ أسأل الله العافية!   (1) آية 22 سورة الشعراء. (2) أي وهكذا كانت صحبة الحق لوليه دائما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وقيل لمّا كشف الله عنه البلاء قيل له: ما أشدّ مالقيت فى أيام البلاء؟ فقال شماتة الأعداء: وفى القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم، وحرّقوا ما كتبوه عنه وقالوا: لو كان لك عند الله منزلة لما ابتلاك بكل هذا البلاء! وقيل لم يبق معه إلا زوجه، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه السلام، فهى التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده. ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب- عليه السلام. وقيل إنما قال: مسنى الضرّ لمّا قال لها الشيطان: إنّ أردت أن يشفى مريضك فاسجدى لى، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظهر لها فى صورة إنسان، فأخبرت أيوب بذلك فقال عندئذ: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» . ويقال لمّا ظهر به البلاء اجتمع قومه وقالوا لها: أخرجى هذا المريض من قريتنا، فإننا نخاف العدوى وأن يمسنّا بلاؤه، وأن نعدى إلينا علّته، فأخرجته إلى باب القرية فقالوا: إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارنا عليه، فنتشاءم به، فأبعديه عن أبصارنا، فحملته إلى أرض قفر، وكانت تدخل البلد، وتستأجر للخبز والعمل فى الدور، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه، فلما علموا أنّها امرأته استقذروها ولم يستعملوها. ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه، فباعت ذوائبها برغيف أخذته لتحمله إليه، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء، وأن شعرها جزّ فى ذلك فحلف أيوب أن يجلدها إذا صحّ حدسه، وكانت المحنة على قلب تلك المرأة أشدّ مما على بدن أيوب من كل المحن. وقيل إن امرأته غابت ودخلت البلد، فعافى الله أيوب عليه السلام، وعاد شابا طريا كما قال فى قصته قوله: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» «1» . فلما رجعت   (1) آية 42 سورة ص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 امرأته ولم تره حسبت أنه أكله سبع أو أصابته آفة، فأخذت تبكى وتولول، فقال لها أيوب- وهى لم تعرفه لأنه عاد صحيحا- مالك يا امرأة؟ قالت: كان لى هاهنا مريض ففقدته. فقال لها أيوب: أنا ذاك الذي تطلبينه! وفى بعض الأخبار المروية أنه بقي فى بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقيل تعرّض له إبليس فقال: إن أردت العافية فاسجد لى سجدة، فقال: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» . ويقال إن أيوب- عليه السلام- كان مكاشفا بالحقيقة، مأخوذا عنه، فكان لا يحسّ بالبلاء، فستر عليه مرة، وردّه إليه، فقال: مسّني الضّرّ «1» . ويقال أدخل على أيوب تلك الحالة، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية. ويقال أوحى الله إلى أيوب- عليه السلام- أنّ هذا البلاء اختاره سبعون نبيا قبلك فما اخترته إلا لك، فلمّا أراد كشفه عنه قال: مسنّي الضرّ! وقيل كوشف بمعنيّ من المعاني فلم يجد ألم البلاء فقال: مسّنى الصرّ لفقدى ألم الضّرّ. وقال جعفر الصادق: حبس عنه الوحى أربعين يوما فقال: مسنى الضرّ لما لحقه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأن ردّ عليه قوّته ليقوم بحقّ الطاعة. ويقال طلب الزيادة فى الرضا فاستجيب له بكشف ما كان به من ضعف الرضا. ويقال إن الضرّ الذي شكا منه أنه بقيت عليه بقية، وبليته كانت ببقيته، فلمّا أخذ عنه بالكلية زال البلاء، ولهذا قال «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» وكانت نفسه ضرّه، وردّ عليه السلامة والعافية والأمل- فى الظاهر- لمّا ضار مأخوذا بالكلية عنه، منقّى عن كل بقية، وعند ذلك يستوى البلاء والعافية، والوجود والفقد.   (1) أي ان العبد الواله لا يحس بنفسه وهو فى حال الجمع، ويحس بها وهو فى حال الغرق. وقد حكى القشيري فى الرسالة أن بعضهم قطعت رجله حيث كانت بها غر غرينة فلم يشعر، بينما آلت بعضهم قملة.. وهو في حال الفرق. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 85] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) أي واذكر هؤلاء الأنبياء ثم قال: «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» ، ثم قال: [سورة الأنبياء (21) : آية 86] وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) بيّن الحكم والمعنى الحكم صبرهم وصلاحهم، والمعنى إدخاله إياهم فى الرحمة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 87] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) «مُغاضِباً» : على ملك وقته حيث اختاره للنبوة، وسأله: لم اخترتني؟ فقال: لقد أوحى الله إلى نبيّى: أن قل لفلان الملك حتى يختار واحدا ليرسل إلى نينوى بالرسالة. فثقل على ذى النون لما اختاره الملك لأنه علم أن النبوة مقرونة بالبلاء، فكان غضبه عليه لذلك «1» . ويقال مغاضبا على قومه لمّا امتنعوا عن الإيمان وخرج من بينهم. ويقال مغاضبا على نفسه أي شديد المخالفة لهواه، وشديدا على أعداء الدين من مخالفيه. «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أي أن لن نضيّق عليه «2» بطن الحوت، من قوله: «وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» «3» أي ضيّق.   (1) عن ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك حزقيا أن يبعثا يونس إلى ملك نينوى الذي كان قد غزا بنى إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بنى إسرائيل وكان الأنبياء فى ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة الى ملك قد اختاروه، فيعمل على وحي ذلك النبي، وقد أوحى لشعيا: ان قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا من بنى إسرائيل إلى أهل نينوى.. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجى؟ قال: لا، قال: فهاهنا أنبياء أمناء أقوياء، فألحوا عليه.. فخرج مغاضبا للنبى والملك وقومه، حتى أنى بحر الروم.. وكان من قصته ما كان، وابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعبا.. قال تعالى «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» (2) (ان لن نضيق عليه) مفقودة فى ص وموجودة فى م والسياق يقتضى وجودها. (3) آية 16 سورة الفجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ويقال فظنّ أن لن نقدر عليه من حبسه فى بطن الحوت. وخرج من بين قومه لمّا أخبر بأنّ الله يعذّب قومه، وخرج بأهله. ويقال إن السبع افترس أهله فى الطريق، وأخذ النّمر ابنا صغيرا له كان معه، وجاء موج البحر فأغرق ابنه الآخر، وركب السفينة، واضطرب البحر، وتلاطمت أمواجه، وأشرفت السفينة على الغرق، وأخذ الناس فى إلقاء الأمتعة فى البحر تخفيفا عن السفينة، وطلبا لسلامتها من الغرق، فقال لهم يونس: لا تلقوا أمتعتكم فى البحر بل اطرحوني فيه فأنا المجرم فيما بينكم لتخلصوا. فنظروا إليه وقالوا: نرى عليك سيماء الصلاح، وليست تسمح نفوسنا بإلقائك فى البحر، فقال تعالى مخبرا عنه: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «1» أي فقارعهم، فاستهموا، فوقعت القرعة عليه. وفى القصة أنه أتى حرف السفينة، وكان الحوت فاغزا فاه، فجاء إلى الجانب الآخر فجاء الحوت إليه كذلك، حتى جاز كل جانب. ثم لمّا علم أنه مراد بالبلاء ألقى نفسه فى الماء فابتلعه الحوت «وَهُوَ مُلِيمٌ» : أي أتى بما يلام عليه، قال تعالى: «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» «2» . وأوحى الله إلى السمك: لا تخدش منه لحما ولا تكسر منه عظما، فهو وديعة عندك وليس بطعمة لك. فبقى فى بطنه- كما فى القصة- أربعين يوما. وقيل إن السمك الذي ابتلعه أمر بأن يطوف فى البحر، (وخلق الله له إدراك ما فى البحر) «3» ، وكان ينظر إلى ذلك. ويقال إن يونس عليه السلام صحب الحوت أياما قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظنّك بعبد عبده- سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طول عمره.. ترى أيبطل هذا؟ لا يظنّ بكرمه ذلك! «فَنادى فِي الظُّلُماتِ ... » يقال ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت- هذا بيان   (1) آية 141 سورة الصافات (2) آية 142 سورة الصافات (3) موجودة فى م ومفقودة فى ص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 التفسير، ويحتمل «1» أن تكون الظلمات ما التبس عليه من وقته واستبهم عليه من حاله. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 88] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) استجبنا له ولم يجر منه دعاء لأنه لم يصدر عنه أكثر من قوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» ، ولم يقر بالظلم إلا وهو يستغفر منه. ثم قال: «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ... » يعنى: كلّ من قال من المؤمنين- إذا أصابه غمّ، أو استقبله مهم- مثلما قال ذو النون نجيناه كما نجينا ذا النون. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 89] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) سأل الولد، وإنما سأله ليكون له معينا على عبادة ربّه، وليقوم فى النبوة مقامه، ولئلا تنقطع بركة الرسالة من بيته «2» ، ولقد قاسى زكريا من البلاء ما قاسى حتى حاولوا قطعه بالمنشار، ولما التجأ إلى شجرة انشقت له وتوسّطها، والتأمت الشجرة، وفطنوا إلى ذلك فقطعوا الشجرة بالمنشار، وصبر لله، وسبحان الله! كان انشقاق الشجرة له معجزة، وفى الظاهر كان حفظا له منهم، ثم لو لم يطلعهم عليه لكان في ذلك سلامته، ولعلّهم- وقتلوه- لم يصبه من الألم القدر الذي لحقه من القطع بالمنشار طول إقامته، وإنما المعنى فيه أن انشقاق الشجرة كان له معجزة، فقوى بذلك يقينه لمّا رأى عجيب الأمر فيه من نقض العادة «3» ، ثم البلاء له بالقتل ليس ببلاء فى التحقيق، ولقد قال قائلهم: «إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى» .   (1) هذا النوع من الظلمات- وهو المرتبط بالنفس- متوقع صدوره عن مفسر صوفى علم بأحوال النفس. (2) أي أنه لم يسال الولد لحظ نفسه بل لحق ربه، وهذه بشرى إجابة الدعاء. (3) أي أن المعجزة ليست فقط من أجل القوم الذين فيهم النبي بل فى حسابها تثبيت قلب النبي وترسيخ يقينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 90] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) سمى يحيى لأنه حي به عقر أمه. وقوله: «وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» : لتكون الكرامة لهم جميعا بالولد، ولئلا يستبدّ زكريا بفرح الولد دونها مراعاة لحقّ صحبتها.. وهذه سنّة الله فى باب إكرام أوليائه، وفى معناه أنشدوا: إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم فى المنزل الخشن ثم قال: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا..» وفى هذا بشارة لجميع المؤمنين، لأن المؤمن لا يخلوا من حالة من أحوال الرغبة أو الرهبة إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطا والقنوط كفر «1» ، ولو لم تكن رهبة لكان أمنا والأمن كفر «2» . قوله: «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» الخشوع قشعريرة القلب عند اطلاع الرب، وكان لهم ذلك على الدوام. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 91] وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) يعنى مريم، وقد نفى عنها سمة الفحشاء وهجنة الذم. ويقال فنفخنا فيها من روحنا، وكان النفخ من جبريل عليه السلام، ولكن لمّا كان بأمره- سبحانه- صحّت الإضافة إليه، وفى هذا دليل على تأويل خبر النزول، فإنه يكون بإنزال ملك فتصحّ الإضافة إلى الله إذ كان بأمره. وإضافة الروح إلى نفسه على جهة التخصيص. كقوله: (ناقة الله، وبيتي) .. ونحو ذلك. (وجعلنا وابنها آية للعالمين) : ولم يقل آيتين   (1) قال تعالى: «وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» 56 الحجر. (2) قال تعالى: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» 99 الأعراف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 لأن أمرهما كان معجزة ودلالة، ويصح أن يراد أنّ كلّ واحد منهما آية- على طريقة العرب فى أمثال هذا. وفيه نفى لتهمة من قال إنها حبلت من الله ... تعالى الله عن قولهم! قوله (آية للعالمين) : وإن لم يهتد بهما جميع الناس.. لكنهما كانا آية. ومن نظر فى أمرهما، ووضع النظر موضعه لاهتدى، وإذا أعرض ولم ينظر فالآية لا تخرج عن كونها حجّة ودلالة بتقصير المقصّر فى بابها. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) أي كلكم خلقته، وكلكم اتفقتم فى الفقر، وفى الضعف، وفى الحاجة. «وَأَنَا رَبُّكُمْ» : وخالقكم على وصف التّفرّد. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 93] وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) اختلفوا وتنازعوا، واضطربت أمورهم، وتفرّقت أحوالهم، فاستأصلتهم البلايا. قوله: (كلّ إلينا راجعون) : وكيف لا ... وهم ما يتقلبون إلّا فى قبضة التقدير؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 94] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) من تعنّى لله لم يخسر على الله، ومن تحمّل لله مشقة وجب حقّه (على) «1» الله: قوله: وهو مؤمن) بعد قوله: (يعمل من الصالحات) دليل على أن من لا يكون مؤمنا لا يكون عمله صالحا ففائدة قوله هاهنا: (وهو مؤمن) فى المآل والعاقبة، فقد يعمل الأعمال الصالحة من لا يختم له بالسعادة، فيكون فى الحال مؤمنا وعمله يكون على الوجه الذي آمن ثم لا ثواب له، فإذا كانت عاقبته على الإسلام والتوحيد فحينئذ لا يضيع سعيه.   (1) نرجح أنها فى الأصل (من) لأن القشيري فى مواضع شتى عارض أي وجوب (على) الله.. وطا لما أوضحنا ذلك فى الهوامش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 95] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) أي لا نهلك قوما وإن تمادوا فى العصيان إلا إذا علمنا أنهم لا يؤمنون، وأنه بالشقاوة تختم أمورهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 96] حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) أي يحق القول عليهم، ويتم الأجل المضروب لهم، فعند ذلك تظهر أيامهم، وإلى القدر المعلوم فى التقدير لا تحصل نجاة الناس من شرّهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 97] وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) تأخذهم القيامة بغتة وتظهر أشراط الساعة فجأة، ويقرّ الكاذبون بأنّ الذنب عليهم، ولكن فى وقت لا تقبل فيه معذرتهم، وأوان لا ينفعهم فيه إيمانهم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 98] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) «وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» : أي الأصنام التي عبدوها، ولم تدخل فى الخطاب الملائكة التي عبدها قوم، ولا عيسى وإن عبده قوم لأنه قال: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ» ولم يقل إنكم ومن تعبدون «1» . فيحشر الكافرون فى النار، وتحشر أصنامهم معهم. والأصنام جمادات فلا جرم لها، ولا احتراقها عقوبة لها، ولكنه على جهة براءة ساحتها، فالذنب للكفار وما الأصنام إلا جمادات.   (1) لأن (ما) اسم موصول لغير العاقل و (من) اسم موصول للعاقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 [سورة الأنبياء (21) : آية 99] لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) القوم قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «1» فعلموا أن الأصنام جمادات، ولكن توهموا أن لها عند الله خطرا، وأنّ من عبدها يقرب بعبادتها من الله، فيبيّن الله لهم- غدا- بأنّها لو كانت تستحق العبادة، ولو كان لها عند الله خطر لما ألقيت فى النار، ولما أحرقت. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 100] لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) «لَهُمْ» : أي لعبدة الأصنام، «فِيها» أي فى النار، «زَفِيرٌ» لحسرتهم على ما فاتهم، «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» من نداء يبشرهم بانقضاء عقوبتهم. وبعكس أحوالهم عصاة المسلمين «2» فى النار فهم- وإن عذّبوا حينا- فإنهم يسمعون قول من يبشّرهم يوما بانقضاء عذابهم- وإن كان بعد مدة مديدة. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 101] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) «سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» : أي الكلمة بالحسنى، والمشيئة والإرادة بالحسنى، لأن الحسنى فعله، وقوله: «سَبَقَتْ» إخبار عن قدمه، والذي كان لهم فى القدم هو الكلمة التي هى صفة تعلّقت بهم فى معنى الإخبار بالسعادة. ثم قال: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» أي عن النار، ولم يقل متباعدون ليعلم العالمون أن المدار على التقدير، وسابق الحكم من الله، لا على تباعد العبد أو بتقرّبه. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 102] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)   (1) آية 3 سورة (الزمر) [ ..... ] (2) تسمى هذه فى علم الكلام: المنزلة بين المنزلتين وهى التي بين المؤمن والكافر، وليست عقوبة هؤلاء- كما هو شأن الكفار- على التأييد.. كما يرى القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 يدل ذلك على أنهم لا يعذّبون فيها بكل وجه. والمراد منه العباد من المؤمنين الذين لا جرم لهم. «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ» : مقيمين لا يبرحون. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 103] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) قيل الفزع الأكبر قول الملك: «لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» «1» ويقال إذا قيل: «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» » ويقال إذا قيل: يا أهل الجنة.. خلودا لا موت فيه، ويا أهل النار. خلودا لا موت فيه! وقيل إذا: «قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» «3» وقيل الفزع الأكبر هو الفراق. وقيل هو اليأس من رحمة الله وتعريفهم ذلك. قوله «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» يقال لهم هذا يومكم الذي كنتم وعدتم فيه بالثواب فمنهم من يتلقّاه الملك، ومنهم من يرد عليه الخطاب والتعريف من الملك «4» . قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 104] يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) إنما كانت السماء سقفا مرفوعا حين كان الأولياء تحتها، والأرض كانت فراشا إذ كانوا عليها، فإذا ارتحل الأحباب عنها تخرب ديارهم.. على العادة فيما بين الخلق من خراب الديار بعد مفارقة الأحباب.   (1) آية 22 سورة الفرقان (2) آية 59 سورة يس (3) آية 108 سورة المؤمنون. (4) أي من الله سبحانه- وهؤلاء هم صفوة الأخيار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 ويقال نطوى السماء التي إليها عرجت دواوين العصاة من المسلمين لئلا تشهد عليهم بالإجرام، وتبدّل الأرض التي عصوا عليها غير تلك الأرض حتى لا تشهد عليهم بالإجرام. أو نطوى السماء لنقرّب قطع المسافات على الأحباب. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 105] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) «الذِّكْرِ» هنا هو التوراة، و «كتب» : أي أخبر وحكم، و «الصَّالِحُونَ» أمة محمد- صلى الله عليه وسلم: أنّ «الْأَرْضَ» هم الذين يرثونها. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 107] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) أمّا من أسلم فبك ينجون، وأمّا من كفر فلا نعذبهم ما دمت فيهم فأنت رحمة منّا على الخلائق أجمعين. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 108] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) واحد فى ذاته، واحد فى صفاته، واحد فى أفعاله واحد بلا قسيم، واحد بلا شبيه، واحد بلا شريك. «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» مخلصون في عقد التوحيد بالتبرّى عن كل غير فى حسبان صلاحيّته للألوهية؟ قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 109] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إن أعرضوا ولم يؤمنوا فقل: إنى بالالتزام أعلمتكم، ولكن للإكرام ما ألهتكم، فتوجّهت عليكم الحجة واستبهمت عليكم المحجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 قوله: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ..» إنّ علمى متقاصر عن تفصيل أحوالكم فى مآلكم، ووقت ما توعدون به فى القيامة من تحصيل أهوالكم، ولكنّ حكم الله غير مستأخر إذا أراد شيئا من تغيير أحوالكم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 110] إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) لا يخفى عليه سرّكم ونجواكم، وحالكم ومآلكم، وظاهركم وباطنكم.. فعلى قدر استحقاقكم يجازيكم، وبموجب أفعالكم يحاسبكم ويكافيكم. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 111] وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) ليس يحيط علمى (إلا) «1» بما يعلمنى، وإعلامه إياى ليس باختياري، ولا هو مقصود على حسب مرادى وإيثارى. قوله جل ذكره: [سورة الأنبياء (21) : آية 112] قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) الرحمن كثير الرحمة عامة لكل أحد، ومنه يوجد العون والنصر حين يوجد وكيف يوجد. السورة التي يذكر فيها «الحج» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سماع «بِسْمِ اللَّهِ» يوجب الهيبة والغيبة وذلك وقت محوهم. وسماع «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يوجب الأنس والقربة، وذلك وقت صحوهم.. فعند سماع هذه الآية انتظم لهم المحو والصحو فى سلك واحد. سماع «بِسْمِ اللَّهِ» يوجب انزعاج القلوب وعنده يحصل داء جنونهم «2» ، وسماع «الرَّحْمنِ»   (1) سقطت (إلا) فى ص وموجودة فى م. (2) ليس الجنون والفتون هنا مرتبطين بفساد العقل كما قد يتبادر للذهن إنما يرتبطان بذهاب العقل والوله فى المحبوب، وهذه هى المرة الأولى التي تصادف فيها هاتين اللفظتين فى مثل هذا السياق، وقد اعتدنا أن نسمع بدلا من (مجنون ومفتون) كلمات أخرى مثل (مهيم ومتيم) [انظر التحبير فى التذكير ص 62] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 «الرَّحِيمِ» يوجب ابتهاج القلوب وبه يحصل شفاء فتونهم، فعودة فتونهم فى لطف جماله كما أن موجب جنونهم فى كشف جلاله. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) «يا أَيُّهَا النَّاسُ» نداء علامة، و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» نداء كرامة، وبكلّ واحد من القسمين يفتتح الحقّ خطابه فى السّور وذلك لانقسام خطابه إلى صفة التحذير مرة، وصفة التبصير أخرى. والتقوى هى التحرز والاتقاء وتجنب المحظورات. وتجنب المحظورات فرض، وتجنب الفضلات والشواغل- وإن كان من جملة المباحات- نفل، فثواب الأول أكثر ولكنه مؤجّل، وثواب النّفل أقلّ ولكنه معجّل «1» . ويقال خوّفهم بقوله: «اتَّقُوا» . ثم سكن ما بهم من الخوف بقوله: «رَبَّكُمْ» فإنّ سماع الربوبية يوجب الاستدامة وجميل الكفاية. قوله: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» : وتسمية المعدوم «شيئا» توسّع بدليل أنه ليس فى العدم زلزلة بالاتفاق وإن كان مطلق اللفظ يقتضيه، وكذلك القول فى تسميته «شيئا» هو توسّع. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 2] يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) لكل ذلك اليوم شغل يستوفيه، ويستغرقه، وترى الناس سكارى أي من هول ذلك   - ومن المفيد أن نسوق نصا لإحدى المجانين: معشر الناس ما جننت ولكن ... انا سكرانة وقلبى صاح أنا مفتونة بحب حبيب ... لست أبغى عن بابه من براح (الروض الفائق ص 362) وكتابنا (نشأة التصوف الإسلامى ط المعارف ص 178) . (1) هذا أصل يضاف إلى أصول الفقه الصوفي عند القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 اليوم عقولهم ذاهبة، والأحوال فى القيامة وأهوالها غالبة. وكأنهم سكارى وما هم فى الحقيقة بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، ولشدّته يحيرهم ولا يبقيهم على أحوالهم. وهم يتفقون فى تشابههم بأنهم سكارى، ولكنّ موجب ذلك يختلف فمنهم من سكره لما يصيبه من الأهوال، ومنهم من سكره لاستهلاكه فى عين الوصال. كذلك فسكرهم اليوم مختلف فمنهم من سكره سكر الشراب، ومنهم من سكره سكر المحاب.. وشتّان بين سكر وسكر! سكر هو سكر أهل الغفلة، وسكر هو سكر أهل الوصلة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 3] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) المجادلة لله- مع أعداء الحق وجاحدى الدّين- من موجبات القربة، والمجادلة فى الله، والمماراة مع أوليائه، والإصرار على الباطل بعد ظهور الدلائل من أمارات الشقوة، وما كان بوساوس الشيطان ونزغاته فقصاراه النار. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 4] كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) من وافق الشيطان بمتابعة دواعيه لا يهديه إلّا إلى الضلال، ثم إنه فى الآخرة يتبرأ من موافقته، ويلعن جملة متّبعيه. فنعوذ بالله من الشيطان ونزغاته، ومن درك الشقاء وشؤم مفاجآته. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 5] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)   (1) حديث القشيري فى (السكر) هنا مفيد عند دراسة هذا المصطلح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 التبس عليهم جواز (بعثه الخلق) «1» واستبعدوه غاية الاستبعاد، فلم ينكر الحق عليهم إلا بإعراضهم عن تأمل البرهان، واحتجّ عليهم فى ذلك بما قطع حجتهم، فمن تبع هداه رشد، ومن أصرّ على غيّه تردّى فى مهواة هلاكه. واحتجّ عليهم فى جواز البعث بما أقروا به فى الابتداء أن الله خلقهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها ... إلى أن نقلهم من حال شبابهم إلى زمان شيبهم، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم. واحتجّ أيضا عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيى الأرض- فى حال الربيع- بعد موتها، فتعود إلى ما كانت عليه فى الربيع من الخضرة والحياة. والذي يقدر على هذه الأشياء يقدر على خلق الحياة فى الرّمة البالية والعظام النخرة. قوله: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» : زمان الفترة بعد المجاهدة، وحال الحجبة عقب المشاهدة. ويقال أرذل العمر السعى للحظوظ بعد القيام بالحقوق. ويقال أرذل العمر الزلة فى زمان المشيب. ويقال أرذل العمر الإقامة فى منازل العصيان. ويقال أرذل العمر التعريج فى (أوطان) «2» المذلة. ويقال أرذل العمر العشرة مع الأضداد. ويقال أرذل العمر (عيش) «3» المرء بحيث لا يعرف قدره. ويقال أرذل العمر بأن يوكل إلى نفسه. ويقال أرذل العمر التطوح فى أودية الحسبان أن شيئا بغير الله. ويقال أرذل العمر الإخلاد إلى تدبير النّفس، والعمى عن شهود تقدير الحق.   (1) هكذا فى م أما فى ص فهى (بعثهم الحق) ونرجح الأولى إذ الذي استبعدوه أن يبعث الله واحدا من الخلق. (2) هكذا فى م وهى غير موجودة فى ص. (3) فى م (عيش) المرء وفى ص (حبس) المرء. وقد رجحنا (عيش) على معنى أن الله يمنحه من العمر ما لا يكون خلاله تقدير من الخلق له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 6] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) الله هو الحقّ، والحق المطلق الوجود «1» ، وهو الحق أي ذو الحق. «وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى» أي الأرض التي أصابتها وحشة الشتاء «2» يحييها وقت الربيع. ويقال يحيى النفوس بتوفيق العبادات، ويحيى القلوب بأنوار المشاهدات. ويقال يحيى أحوال المريدين بحسن إقباله عليهم. ويقال حياة الأوقات بموافقة الأمر، ثم بجميل الرضا وسكون الجأش عند جريان التقدير. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 9] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) دليل الخطاب يقتضى جواز المجادلة فى الله إذا كان صاحب المجادلة على علم بالدليل والحجة ليستطيع المناضلة عن دينه، قال سبحانه لنبيّه: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ومن لم يحسن مذهب الخصم وما يتعلق به من الشبه لم يمكنه الانفصال عن شبهته، وإذا لم تكن له قوة الانفصال فلا يستحبّ له أن يجادل الأقوياء «3» منهم، وهذا يدل على وجوب تعلم علم الأصول «4» ، وفى هذا رد على من جحد ذلك. قوله جل ذكره: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ   (1) (الحق المطلق الوجود) هذه عبارة لم تصادفنا من قبل فى أي مصنف القشيري، ونحن نعطيها أهمية خاصة إذا تذكرنا أن هذا اصطلاح لأرباب وحدة الوجود، فهم يعتبرون الوجود المطلق للحق وما عدا فوجوده نسبى متكثر متعدد، وهذا لا بأس به، ولكن النتائج التي رتبوها عليه خطيرة. ونظن أنها (الموجود) بدل (الوجود) بدليل ما سبق ذكره عند تفسير الآية «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» من سورة طه وكنا قد أيدنا ذلك بما ذكره فى كتابه «التحبير في التذكير» . [ ..... ] (2) هكذا فى م ولكنها فى ص (الشقاء) بالقاف ونحن نؤثر الأولى لأن المقصود المقابلة مبين الربيع و (الشتاء) . (3) هكذا فى م ولكنها في ص (إلا قوما) . (4) فى هذا وفيما بعده رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلم، وعدم احترامهم للعقل، كما أن فيه ردا على قضية أنارها بعض المتكلمين حول وجوب أو عدم وجوب تعلم المسلم أصول التوحيد كى يصح إيمانه، ومدى ما يكون عليه إيمان العامة الذين لا تتاح لهم فرصة هذا التعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق يريد أنه متكبّر عن قبول الحق، زاهد فى التحصيل، غير واضع نظره موضعه إذ لو فعل ذلك لهان عليه التخلّص من شبهته. ثم قال: «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» أي مذلة وهوان، وفى الآخرة عذاب الحريق. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يعنى يكون على جانب، غير مخلص ... لا له استجابة توجب الوفاق، ولا جحدا يبين الشقاق فإن أصابه أمن وخير ولين اطمأن به وسكن إليه، وإن أصابته فتنة أو نالته محنة ارتدّ على عقبيه ناكسا، وصار لما أظهر من وفاقه عاكسا. ومن كانت هذه صفته فقد خسر فى الدارين، وأخفق فى المنزلتين. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : الآيات 12 الى 13] يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) أي يعبد من المضرّة فى عبادته أكثر من النّفع منه، بل ليس فى عبادته النفع بحال، فالضّرّ المتيقّن فى عبادتهم الأصنام هو بيان ركاكة عقولهم، ورؤية الناس خطأ فعلهم. والنفع الذي يتوهمونه فى هذه العبادة ليس له تحصيل ولا حقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 ثم قال: «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» : أي لبئس الناصر الصّنم لهم، ولبئس القوم هم للصنم، ولم لا.؟ ولأجله وقعوا فى عقوبة الأبد. قوله جل ذكره [سورة الحج (22) : آية 14] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) «الَّذِينَ آمَنُوا» : أي صدّقوا ثم حقّقوا فالإيمان ظاهره التصديق وباطنه التحقيق، ولا يصل العبد إليهما إلا بالتوفيق. ويقال الإيمان (انتسام) «1» الحق فى السّرّ. ويقال الإيمان ما يوجب الأمان، ففى الحال يجب الإيمان وفى المآل يوجب الأمان، فمعجّل الإيمان من ( ... ) «2» المسلمين، ومؤجّله الخلاص من صحبة الكافرين الفاسقين. وقوله: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويصلح للثواب، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلّق به الإيمان. والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة فالمؤجّله ثواب وتوبة، والمعجّلة أحوال وقربة، قال تعالى: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» «3» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 15] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) أي أنّ الحقّ- سبحانه- يرغم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تطب   (1) فى م (ابتسام) وفى ص (انتسام) ، ونحن نفضل هذه على تلك على أنها صيغة (انفعال) من (تنسم) فلان العلم أو الخبر أي تلطف فى التماسه حتى تبينه وتبعه. (2) فى م (سيف) وفى ص (سلف) ونحن نؤثر الأولى إذ أن الذي يؤمن يأمن- فى الحال- من بطش المسلمين الذين أمروا بقتال أعدائهم جهادا فى سبيل إعلاء كلمة الإيمان. (3) آية 46 سورة الرحمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 نفسه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به فليقتل نفسه من الغيظ خنقا، ثم لا ينفعه ذلك، كما قيل: إن كنت لا ترضى بما قد ترى ... فدونك الحبل به فاخنق قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 16] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) «آياتٍ بَيِّناتٍ» : أي دلالات وعلامات نصبها الحقّ سبحانه لعباده، فمن الآيات ما هو قضية العقل، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل، ومنها ما هو تعريفات فى أوقات المعاملات «1» فما يجده العبد فى حالاته من انغلاق، واشتداد قبض، وحصول خسران، ووجوه امتحان.. لا شكّ ولا مرية إذا أخلّ بواجب أو ألمّ بمحظور «2» . أو تكون زيادة بسط أو حلاوة طاعة، أو تيسير عسير من الأمور، أو تجدد إنعام عند حصول شىء من طاعاته. ثم قد يكون آيات فى الأسرار، هى خطاب الحقّ ومحادثة معه، كما فى الخبر: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يك فى أمتى فعمر» «3» ثم يقال الآيات ظاهرة، والحجج زاهرة، ولكن الشأن فيمن يستبصر. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أصناف الناس على اختلاف مراتبهم: الولىّ والعدوّ، والموحّد والجاحد يجمعون يوم الحشر، ثم الحقّ- سبحانه- يعامل كلا بما وعده إما بوصال بلا مدى، أو بأحوال   (1) يمكن القول إن هذه هى المصادر الأساسية لما أطلقنا عليه من قبل (أصول الفقه الصوفي) ومنها يتضح اهتمام القشيري بالعقل ثم النقل ثم ما يحصل من العرفان نتيجة المجاهدات. (2) فإن الإثم ما حاك فى صدرك ... كما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه. (3) وهى التي يطلق عليها القشيري (الفراسة) انظر الرسالة ص 115 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 بلا منتهى. الوقت واحد وكلّ واحد لما أعدّ له وافد، وعلى ما خلق له وارد.. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 18] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) أهل العرفان يسجدون له سجود عبادة، وأرباب الجحود كلّ جزء منهم يسجد له سجود دلالة وشهادة. وفى كل شىء له آية ... تدلّ على أنه واحد قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 19] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) أما الذين كفروا فلهم اليوم لباس الشرك وطرازه الحرمان، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان. وفى الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران، قال تعالى: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» . أمّا أصحاب الإيمان فلباسهم اليوم التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشّرك ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكون إلى غير الله والاستبشار إلى ما سوى الله. وفى الآخرة لباسهم فيها حرير، وآخرون لباسهم صدار المحبة، وآخرون لباسهم الانفراد به، وآخرون هم أصحاب التجريد فلا حال ولا مقام ولا منزلة ولا محل وهم الغرباء «1» ، وهم الطبقة العليا، وهم أحرار من رقّ كل ما لحقه التكوين.   (1) يقول ابن الجلاء فى تعريف الصوفي: فقير مجرد عن الأسباب، كان مع الله بلا مكان، ولا يمنعه الحق- سبحانه- من علم كل مكان (الرسالة ص 140) ويقول الحصرى: «الصوفى لا تقله أرض ولا تظله سماء» الرسالة (الصفحة ذاتها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 23] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) التحلية تحصين لهم، وستر لأحوالهم فهم للجنة زينة، وليس لهم بالجنة زينة: وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 24] وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) الطيب من القول ما صدر عن قلب خالص، وسرّ صاف (مما يرضى به علم التوحيد، فهو الذي لا اعتراض عليه للأصول) «1» ويقال الطيب من القول ما يكون وعظا للمسترشدين، ويقال الطيب من القول هو إرشاد المريدين إلى الله. ويقال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ويقال الدعاء للمسلمين. ويقال كلمه حق عند من يخاف ويرجى «2» . ويقال الشهادتان عن قلب مخلص. ويقال ما كان قائله فيه مغفورا «3» وهو مستنطق.   (1) هكذا فى ص ولا فرق بين العبارة فى س، م إلا أنها جاءت فى الأخيرة (مما رضى به ... ) والمقصود أن أقوال أرباب القلوب ينبغى ألا تتعارض مع أقوال أرباب أصول التوحيد لأن الحقيقة لا تعارض الشريعة فى شىء. فالضمير (فهو) يعود على الطيب من القول الصادر من القلب الخالص والسر الصافي. (2) أي عند صاحب سلطان، وقد عرف الصوفية بشجاعتهم الرائعة فى مواجهة أصحاب الأمر والنهى من الحكام وغيرهم. (3) هكذا فى ص أما فى م فهى (مفقودا) وعلى الأول يكون المعنى أن قوله مسموح به- ظاهريا- حيث لا يستشنع فى الباطن، وعلى الثاني: أي يكون قائله فى حال الفقد فهو لا ينطق بنفسه بل بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 ويقال هو بيان الاستغفار والعبد برىء من الذنوب. ويقال الإقرار بقوله: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» «1» . ويقال أن تدعوا للمسلمين بما لا يكون لك فيه نصيب. وأمّا «صِراطِ الْحَمِيدِ» : فالإضافة فيه كالإضافة عند قولهم: مسجد الجامع (أي المسجد الجامع) والصراط الحميد: الطريق المرضى وهو ما شهدت له الشريعة بالصحة، وليس للحقيقة عليه نكير. ويقال الصراط الحميد: ما كان طريق الاتباع دون الابتداع. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) الصدّ عن المسجد الحرام بإخافة السّبل، وبغصب المال الذي لو بقي فى يد صاحبه لوصل به إلى المسجد الحرام. قوله: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ «2» » وإنما يعتبر فيه السبق والتقدم. ومشهد الكرام يستوى فيه الإقدام، فمن وصل إلى تلك العقوة فلا ترتيب ولا ردّ، وبعد الوصول فلا زجر ولا صدّ، أمّا فى الطريق فربما يعتبر التقدم والتأخر قال تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» «3» ولكن فى الوصول فلا تفاوت ولا تباين، ثم إذا اجتمعت النفوس فالموضع الواحد يجمعهم، ولكن لكلّ حال ينفرد بها.   (1) آية 23 سورة الأعراف. [ ..... ] (2) البادي- غير المقيم. (3) آية 24 سورة الحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 26] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) أصلحنا له مكان البيت ومسكّناه منه وأرشدناه له، وهديناه إليه، وأعنّاه عليه، وذلك أنه رفع البيت إلى السماء الرابعة فى زمن طوفان نوح عليه السلام، ثم أمر إبراهيم عليه السلام ببناء البيت على أساسه القديم. قوله «أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» ، أي لا تلاحظ البيت ولا بناءك له. «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ..» يعنى الكعبة- وذلك على لسان العلم، وعلى بيان الإشارة فرّغ قلبك عن الأشياء كلّها سوى ذكره- سبحانه. وفى بعض الكتب: «أوحى الله إلى بعض الأنبياء فرّغ لى بيّتا أسكنه، فقال ذلك الرسول: إلهى.. أى بيت تشغل؟ فأوحى الله إليه: ذلك قلب عبدى المؤمن» . والمراد منه ذكر الله تعالى فالإشارة فيه أن يفّرّغ قلبه لذكر الله. وتفريغ القلب على أقسام: أوله من الغفلة ثم من توهّم شىء من الحدثان من غير الله. ويقال قد تكون المطالبة على قوم بصون القلب عن ملاحظة العمل، وتكون المطالبة على الآخرين بحراسة القلب عن المساكنة إلى الأحوال. ويقال «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» : أي قلبك عن التطلع والاختيار بألا يكون لك عند الله حظّ فى الدنيا أو فى الآخرة حتى تكون عبدا له بكمال قيامك بحقائق العبودية. «ويقال طَهِّرْ بَيْتِيَ» : أي بإخراج كل نصيب لك فى الدنيا والآخرة من تطلع إكرام، أو تطلّب إنعام، أو إرادة مقام، أو سبب من الاختيار والاستقبال. ويقال طهّر قلبك للطائفين فيه من موارد الأحوال على ما يختاره الحق. «وَالْقائِمِينَ» وهى الأشياء المقيمة من مستودعات «1» العرفان فى القلب من الأمور المغيبة عن البرهان،   (1) هكذا فى م أما فى ص فهى (مستوطنات) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 ويتطلع بما هو حقائق البيان التي هى كالعيان كما فى الخبر: «كأنك تراه» . «1» «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» : هى أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة، والرجاء والمخافة والقبض والبسط، وفى معناه أنشدوا: لست من جملة المحبين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما وطوافى إجالة السّرّ فيه ... وهو ركنى إذا أردت استلاما قوله: «لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» : لا تلاحظ البيت ولا بناءك «2» للبيت. ويقال هو شهود البيت دون الاستغراق فى شهود ربّ البيت. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 27] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) أذّن إبراهيم- عليه السلام- بالحج ونادى، وأسمع الله نداءه جميع الذرية فى أصلاب آبائهم، فاستجاب من المعلوم من حاله أنه يحج. وقدّم الرّجالة على الركبان لأنّ الحمل على المركوب أكثر «3» . ولتلك الجمال على الجمال خصوصية لأنها مركب الأحباب، وفى قريب من معناه أنشدوا: وإنّ جمالا قد علاها جمالكم ... - وإن قطّعت أكبادنا- لحبائب ويقال «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم. وكم قدر مسافة الدنيا بجملتها!؟ ولكن لأجل قدر أفعالهم وتعظيم صنيعهم يقول ذلك إظهارا لفضله وكرمه.   (1) إشارة إلى الحديث (أعبد الله كأنك تراه وعد نفسك من الموتى) . الطبراني عن أبى الدرداء، وحسن السيوطي سنده، ورواه البيهقي عن معاذ. وفى الحلية (أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ... ) . (2) هكذا فى م أما فى ص فقد وردت (ولا تبال) ونحن نرجح ما جاء فى م. (3) فتقديم الرجالة فيه تخصيص نظرا لما يبذلونه من جهد أكبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 28] لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) أرباب الأموال منافعهم أموالهم، وأرباب الأعمال منافعهم حلاوة طاعتهم، وأصحاب الأحوال منافعهم صفاء أنفاسهم، وأهل التوحيد منافعهم رضاهم باختيار الحقّ ما يبدو من الغيب لهم. قوله جل ذكره: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «1» عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ لأقوام عند التقرّب بقرابينهم وسوق هديهم «2» . وآخرون يذكرون اسمه عند ذبحهم أمانيهم واختيارهم بسكاكين اليأس.. حتى يقوموا بالله لله بمحو ما سوى الله. قوله جل ذكره: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ. شاركوا الفقراء فى الأكل من ذبيحتكم- الذي ليس بواجب- لتلحقكم بركات الفقراء. والإشارة فيه أن ينزلوا «3» ساحة الخضوع والتواضع، ومجانبة الزّهو والتكبّر. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 29] ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ليقضوا حوائجهم وليحققوا عهودهم، وليوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فمن كان عقده التوبة فوفاؤه ألا يرجع إلى العصيان. ومن كان عهده اعتناق الطاعة فشرط وفائه ترك تقصيره. ومن كان عهده ألا يرجع إلى طلب مقام وتطلّع إكرام فوفاؤه استقامته على الجملة فى هذا الطريق بألا يرجع إلى استعجال نصيب واقتضاء حظ. قوله جل ذكره: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الإشارة فى الطواف إلى أنه يطوف بنفسه حول البيت، وبقلبه فى ملكوت السماء، وبسرّه فى ساحات الملكوت.   (1) أبو حنيفة: هى عشر ذى الحجة وآخرها يوم النحر. وأكثر المفسرين: هى أيام النحر. (2) الهدى- ما يهدى إلى الحرم من النعم، قال تعالى: «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» . (3) هكذا فى م وفى س (يتركوا) وربما كانت فى الأصل ألا يتركوا فهكذا يقتضى السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 30] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) تعظيم الحرمات «1» بتعظيم أمره وتعظيم أمره بترك مخالفته. ويقال من طلب الرضا بغير رضى الله لم يبارك له فيما آثره من هواه على رضى مولاه، ولا محالة سيلقى سربعا غبّه «2» . ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه (وما فجر صاحب حرمة قط «3» ) . ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجب الفرقة. ويقال كلّ شىء من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إليه طريق، وترك الحرمة على خطر ألا يغفر.. وذلك بأن يؤدى ثبوته بصاحبه إلى أن يختلّ دينه وتوحيده. قوله جل ذكره: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ. فالخنزير من جملة المحرمات، وكذلك النطيحة والموقوذة، وما يجىء تفصيله فى نصّ الشرع. قوله جل ذكره: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. «مَنْ» هاهنا للجنس لا للتبعيض، وهوى كلّ من اتبعه معبوده، وصنم كلّ أحد نفسه. «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» : ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قول القلب ونطقه، ومن عاهد الله بقلبه ثم لا يفى بذلك فهو من جملة قول الزور. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 31] حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)   (1) هكذا في م وفى ص (الجهات) ونرجح الأول حيث وردت فى الآية. (2) هكذا في م وفى ص (نحبه) ونرجح (غبه) بمعنى عاقبته. (3) هكذا فى م وفى ص (وما فجر صاحب ظلمة فظ) والعبارة الأولى أقرب إلى المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 الحنيف المائل إلى الحق عن الباطل فى القلب والنّفس، فى الجهر وفى السّرّ، فى الأفعال وفى الأحوال وفى الأقوال «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» : الشّرك جلىّ وخفىّ «1» . قوله «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما ... » كيف لا.. وهو يهوى فى جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب؟ أو تهوى به الريح من مكان سحيق.. وكذلك غدا فى صفة قوم يقول الله تعالى: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «2» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 32] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) يقف المؤمن على تعيين شعائر الله وتفصيلها بشهادة العلم جهرا، وبخواطر الإلهام سرّا. وكما لا تجوز مخالفة شهادة الشرع لا تجوز مخالفة شهادة خواطر الحق فإنّ خاطر الحقّ لا يكذب، وعزيز من له عليه وقوف. وكما أنّ النّفس لا تصدق فالقلب لا يكذب، وإذا خولف القلب عمى فى المستقبل، وانقطعت عنه تعريفات الحقيقة، والعبارة «3» والشرح يتقاصران عن ذكر هذا على التعيين والتفسير. ويقوى القلب بتحقيق المنازلة فإذا خرست النفوس، وزالت هواجسها، فالقلوب تنطق بما تكاشف به من الأمور. ومن الفرق بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبه أولا ثم يعمل مختارا، وما كان من الحق يجرى ويحصل ثم بعده يعلم من جرى عليه   (1) الشرك الجلى معروف أما الشرك الخفي فهو أن ينازعه منازع فى قلبك من هوى أو حظ أو علاقة تنأى بك عنه. (2) آية 67 سورة التوبة. [ ..... ] (3) فى م وص (والعبادة) وقد رأينا أن تكون (العبارة) بالراء أي أن التعبير عن ذلك بالكلام والشرح قاصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 ذلك معناه، ولا يكون الذي يجرّى عليه ما يجرى مضطرا إلى ما يجرى. وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار «1» ، بل يكون مختارا ولكنّ سببه عليه مشكل، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 33] لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) لكلّ من تلك الجملة منفعة بقدره وحدّه «2» فلأقوام بركات فى دفع البلايا عن نفوسهم وعن أموالهم، ولآخرين فى لذاذات بسطهم، ولآخرين فى حلاوة طاعاتهم، ولآخرين فى أنس أنفاسهم. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الشرائع مختلفة فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف، ثم هم فيها مختلفون: فقوم هم أصحاب التضعيف «3» فيما أوجب عليهم وجعل لهم، وقوم هم أصحاب التخفيف فيما ألزموا وفيما وعد لهم. قوله «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى..» وذكر اسم الله على ما رزقهم على أقسام: منها معرفتهم إنعام الله بذلك عليهم.. وذلك من حيث الشكر، ثم يذكرون اسمه على ما رفقهم لمعرفته بأنه هو الذي يتقبل منهم وهو الذي يثيبهم. قوله جل ذكره: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. أي استسلموا لحكمه بلا تعبيس ولا استكراه من داخل القلب.   (1) هذه وجهة نظر باحث صوفى فيما يشغل المتكلمين عن الجبر والاختيار. (2) أي بحسب ماله من قدر وهمة، وما هو واقف عنده من حد ورتبة. (3) أصحاب التضعيف أي أصحاب التشدد الذين يأبون اتباع الرخص، لأن الرخص لا تكون إلا لأرباب الحوائج والأشغال وهؤلاء لا حاجة ولا شغل لهم إلا بالحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 والإسلام «1» يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال، ثم تصفية الأنفاس. «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» : الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة. ومن أمارات الإخبات كمال الخضوع بشرط دوام الخشوع، وذلك بإطراق السريرة. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 35] الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الوجل الخوف من المخافة، والوجل عند الذكر على أقسام: إما لخوف عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم، أو لخروج من الدنيا على غفلة من غير استعداد للموت، أو إصلاح أهبة، أو حياء من الله سبحانه فى أمور إذا ذكر اطلاعه- سبحانه- عليها لما بدرت منه تلك الأمور التي هى غير محبوبة. ويقال الوجل على حسب تجلى الحق للقلب فإن القلوب فى حال المطالعة والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة. ويقال وجل له سبب ووجل بلا سبب فالأول مخافة من تقصير، والثاني معدود فى جملة الهيبة «2» . ويقال الوجل خوف المكر والاستدراج، وأقربهم من الله قلبا أكثرهم من الله- على هذا الوجه- خوفا. قوله جل ذكره: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ. أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراه ولا تمنى خرجة، ولا روم فرجة بل يستسلم طوعا:   (1) هكذا فى م ولكنها فى ص (السلام) والصواب الأولى ففى الآية (أسلموا) . (2) فالخوف إذن أدنى منزلة من الهيبة، والترتيب هكذا: الخوف والرجاء ثم القبض والبسط ثم الهيبة والأنس (الرسالة ص 35 وص 36) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 ويقال الصابرين على ما أصابهم. أي الحافظين معه أسرارهم، لا يطلبون السلوة باطلاع الخلق «1» على أحوالهم. قوله جل ذكره: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ. أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف فى محلّ النجوى: إذا ما تمنّي الناس روحا وراحة ... تمنّيت أن أشكو إليك فتسمعا قوله جل ذكره: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عند المعاملة من أموالهم، وفى قضايا المنازلة بالاستسلام، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير فينفقون أبدانهم على تحمل مطالبات الشريعة، وينفقون قلوبهم على التسليم والخمود تحت جريان الاحكام بمطالبات الحقيقة. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 36] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) أقسام الخير فيها كثيرة بالركوب والحمل عليها (وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها ثم الاعتبار بخلقتها كيف سخّرت للناس على قوتها وصورتها، ثم كيف تنقاد للصبيان فى البروك عند الحمل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها) «2» وصبرها على العطش فى الأسفار، وعلى قليل العلف، ثم ما فى طبعها من لطف الطبع، وحيث تستريح بالحداء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك.   (1) هكذا فى ص ولكنها فى م (بإطلاق الحق) والصواب الأول لأنهم لا يفزعون للخلق طلبا للسلوة فيما يصيبهم من الحق وفى هذا حفظ لأسرارهم. (2) ما بين القوسين موجود فى م وساقط من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها» : أي سقطت على وجه الأرض فى حال النّحر فأطعموا القانع الذي ألقى جلباب الحياء وأظهر فقره للناس، والمعترّ الذي هو فى تحمّله متحمّل، ولمواضع فاقته كاتم. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 37] لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) لا عبرة بأعيان الأفعال سواء كانت بدنية محضة، أو مالية صرفة، أو بما له تعلّق بالوجهين، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص «1» ، فإذا انضاف إلى أكساب الجوارح إخلاص القصود، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها للأغيار صلحت للقبول «2» . ويقال التقوى شهود الحقّ بنعت التفرّد فلا يشاب تقرّبك بملاحظة أحد، ولا تأخذ عوضا على عمل من بشر. «لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» : أي هداكم وأرشدكم إلى القيام بحقّ العبودية على قضية الشرع. «وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» : والإحسان كما فى الخبر: «أن تعبد الله كأنك تراه..» . وأمارة صحته سقوط التعب بالقلب عن صاحبه، فلا يستثقل شيئا، ولا يتبرم بشىء. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 38] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) .   (1) يقال إن سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا إذا تحروا الإبل نضحوا الدماء- حبل البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت الآية. (2) يرى القشيري ان هذا جوهر العبادات جميعا، أن تكون خالصة لله، وقد فصلنا ذلك عند بحثنا عن القشيري المفسر. انظر كتابنا (الإمام القشيري ومذهبه فى التصوف) ط مؤسسة الحلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 يدفع عن صدورهم نزغات الشيطان، وعن قلوبهم خطرات العصيان، وعن أرواحهم طوارق النسيتان. والخيانة على أقسام: خيانة فى الأموال تفصيلها فى المسائل الشرعية، وخيانة فى الأعمال، وخيانة فى الأحوال فخيانة الأعمال بالرياء والتصنع، وخيانة الأحوال بالملاحظة والإعجاب والمساكنة، وشرّها الإعجاب، ثم المساكنة وأخفاها الملاحظة «1» . ويقال خيانة الزاهدين عزوفهم عن الدنيا (على) «2» طلب الأعواض ليجدوا فى الآخرة حسن المآل.. وهذا إخلاص الصالحين. ولكنه عند خواص الزهاد خيانة لأنهم تركوا دنياهم لا لله ولكن لوجود العوض على تركهم ذلك من قبل الله. وخيانة العابدين أن يدعوا شهواتهم ثم يرجعون إلى الرّخص، فلو صدقوا فى مرماهم لما انحطّوا إلى الرخص بعد ترقيهم عنها. وخيانة العارفين جنوحهم إلى وجود مقام، وتطلعهم لمنال منزلة وإكرام من الحق ونوع تقريب. وخيانة المحبين روم فرحة «3» مما يمسهم من برحاء المواجيد، وابتغاء خرجة مما يشتدّ عليهم «4» من استيلاء صدّ، أو غلبات شوق، أو تمادى أيام هجر. وخيانة أرباب التوحيد أن يتحرك لهم للاختيار عرق، ورجوعهم- بعد امتحائهم عنهم- إلى شظية من أحكام الفرق، اللهم إلا أن يكون ذلك منهم موجودا، وهم عنه مفقودون «5» .   (1) نلفت النظر إلى أهمية ذلك عند دراسة المصطلح الصوفي، خاصة وأن القشيري لم يتكلم عن ذلك فى رسالته. (2) (على) طلب الأعواض معناها لأجل طلب الأعواض. (3) (روم) فى ص و (روح) فى م، ونظن أنها (فرجة) بالجيم كما سبق منذ قليل حين استعمل القشيري (فرجة، وخرجة) فى سياق مماثل. (4) هكذا فى م وهى فى ص مما (يشق عليهم) وكلاهما مقبول فى السياق. [ ..... ] (5) معنى هذا أن القشيري يسلم بأنه قد يحدث من العبد الواله ما ينبغى أن يعذر فيه، إن صحّ صدقه فى التوجه، واشتد وقع المحو عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 39] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) إذا أصابهم ضرّ أو مسّهم- ما هو فى الظاهر- ذلّ من الأعادى يجرى عليهم ضيم، أو يلحقهم من الأجانب استيلاء وظلم.. فالحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائهم لأجلهم، فهم بنعت التسليم والسكون فى أغلب الأحوال، وتفاصيل الأقدار جارية باستئصال من يناويهم، وبإحالة الدائرة على أعاديهم. وفى بعض الأحايين ينصبهم الحقّ سبحانه بنعت الغلبة والتمكين من نزولهم بساحات من يناوئهم بحسن الظّفر، وتمام حصول الدائرة على من ناصبهم، وأخزاهم بأيديهم، وكلّ ذلك يتفق، وأنواع النصرة من الله- سبحانه- حاصلة، والله- فى الجملة- غالب على أمره. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 40] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) المظلوم منصور ولو بعد حين، ودولة الحق تغلب دولة الباطل، والمظلوم حميد العقبى، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» «1» . وقد يجرى من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء وأهل القصة- ظلم، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء، وتستولى غاغة النّفس، فتعمل فى القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تنداعى القلوب للخراب من «2» طوارق الحقائق وشوارق الأحوال، كما قال قائلهم: أنى إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الجود فيها أبحر الحكم فيهزم الحقّ- سبحانه- بجنود الإقبال أراذل الهواجس، وينصر عسكر التحقيق بأمداد الكشوفات. ويتجدّد دارس العهد، وتطلع شموس السّعد فى ليالى الستر، وتكنس القلوب وتتطهر من آثار ظلمة النّفس، كما قيل:   (1) آية 52 سورة النمل. (2) (للخراب من طوارق الحقائق) أي بسبب خلوها من طوارق الحقائق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 أطلال سعدى باللّوى تتجدّد فإذا هبّت على تلك القلوب رياح العناية، وزال عنها وهج النسيان سقاها الله صوب «1» التجلّى، وأنبت فيها أزهار البسط فيتضح فيها نهار الوصل، ثم يوجد فيها نسيم القرب إلى أن تطلع شموس التوحيد. قوله جل ذكره: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. يتجاوز عن الأصاغر لقدر الأكابر، ويعفو عن العوام لاحترام الكرام.. وتلك سنّة أجراها الله لاستنقاء «2» منازل العبادة، واستصفاء من اهل العرفان. ولا تحويل لسنّته، ولا تبديل لكريم عادته. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 41] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) إذا طالت بهم المدة، وساعدهم العمر لم يستفرغوا أعمالهم فى استجلاب حظوظهم، ولا فى اقتناء محبوبهم من الدنيا أو مطلوبهم، ولكن قاموا بأداء حقوقنا. وقوله: «أَقامُوا الصَّلاةَ» : فى الظاهر، واستداموا المواصلات فى الباطن.   (1) الصوب- المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذى (الوسيط) . (2) هكذا فى م ولكنها فى س (لاستيفاء) . وقد آثرنا (استنقاء) لملاء منها (لاستصفاء) التي بعدها ولا نستبعد أنها قد تكون (لاستبقاء) فى الأصل على معنى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لما بقيت منازل العبادة لأن الكافرين إذا انتصروا لم يتركوا معابد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها فتعلم- بين يدى الله- من أنت، ومن تناجى، ومن الرقيب عليك، ومن القريب منك. وقوله: «وَآتَوُا الزَّكاةَ» : الأغنياء منهم يوفون بزكاة أموالهم، وفقراؤهم يؤتون زكاة أحوالهم فزكاة الأموال عن كل مائتين خمسة للفقراء والباقي لهم، وزكاة الأحوال أن يكون من مائتى نفس تسعة وتسعون ونصف جزء ومائة لله، ونصف جزء من نفس- من المائتين- لك.. وذلك أيضا علّة «1» قوله «وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» : يبتدئون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأنفسهم ثم بأغيارهم، فإذا أخذوا فى ذلك لم يتفرغوا من أنفسهم إلى غيرهم. ويقال «الأمر بالمعروف» حفظ الحواس عن مخالفة أمره، ومراعاة الأنفاس معه إجلالا لقدره. ويقال الأمر بالمعروف على نفسك، ثم إذا فرغت من ذلك تأخذ فى نهيها عن المنكر ومن وجوه المنكر الرياء والإعجاب والمساكنة والملاحظة. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 44] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فى الآيات تسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم، وأمر حتم عليه بالصبر على مقاساة ما كان يلقاه من قومه من فنون البلاء وصنوف الأسواء «2» .   (1) لأنه ينبغى الا تكون لك فى نفسك بقية على الإطلاق، ويجب أن تكون بكليتك للحق. (2) أسواء- جمع سوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 45] فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) الظلم يوجب خراب أوطان الظالم، فتخرب أولا أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشة التي هى غالبة على الظّلمة من ضيق صدورهم، وسوء أخلاقهم، وفرط غيظ من يظلمون عليهم.. كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم، وهو فى الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم. ويقال خراب منازل الظّلمة ربما يتأخر وربما يتعجل. وخراب نفوسهم فى تعطلها عن العبادات لشؤم ظلمهم، وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصا فى أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم.. نقد «1» غير مستأخر. قوله جل ذكره: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. الإشارة فى «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» : إلى العيون المتفجرة التي كانت فى بواطنهم، وكانوا يستقون منها، وفى ذلك الاستقاء حياة أوقاتهم من غلبات الإرادة وقوة المواجيد، فإذا اتصفوا بظلمهم غلب غشاؤها «2» وانقطع ماؤها بانسداد عيونها. والإشارة فى «قَصْرٍ مَشِيدٍ» إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأنس، وخلوّ أرواحهم من أنوار المحابّ، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 46] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)   (1) (نقد) هنا معناها معجّل، تقابل (وعد) فى المؤجّل. (2) الغثاء- الفاسد من الماء، الممتلئ ببقايا الأشياء من وجه الأرض والرغوة القدرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 كانت لهم قلوب من حيث الخلقة، فلمّا زايلتها صفاتها المحمودة صارت كأنها لم تكن فى الحقيقة. ثم إنه أخير أن العمى عمى القلب وكذلك الصمم، وإذا صحّ وصف القلب بالسمع والبصر صحّ وصفه بسائر صفات الحىّ من وجوه الإدراكات فكما تبصر القلوب بنور اليقين يدرك نسيم الإقبال بمشامّ السّرّ، وفى الخبر: «إنى لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» وقال تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» «1» وما كان ذلك إلا بإدراك السرائر دون اشتمام ريح فى الظاهر. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 47] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) عدم تصديقهم حملهم على استعمال ما توعدهم به، قال تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» «2» ولو آمنوا لصدّقوا، ولو صدّقوا لسكنوا. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ» : أي إنّ الأيام عنده تتساوى، إذ لا استعجال له فى الأمور فسواء عنده يوم واحد وألف سنة إذ من لا يجرى عليه الزمان وهو يجرى الزمان فسواء عليه وجود الزمان، وعدم الزمان وقلة الزمان وكثرة الزمان. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 48] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) : الإمهال يكون من الله- سبحانه وتعالى، والإمهال يكون بأن يدع الظالم فى ظلمه حينا، ويوسّع له الحبل «3» ، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي   (1) آية 94 سورة يوسف. (2) آية 18 سورة الشورى. (3) هكذا فى م ولكنها فى ص (الحيل) بالياء جمع حيلة، وربما تتأيد هذه بقوله فيما بعد (وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى لتقدير عدمه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 أراده، ثم يأخذه من حيث لا يرتقب، فيعلوه ندم، ولات حينه، وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى التقدير عدمه؟ قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 49] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) : أشابهكم فى الصورة ولكنى أباينكم من حيث السريرة، وأنا لمحسنكم بشير، ولمسيئكم نذير، وقد أيّدت بإقامة البراهين ما جئتكم به من وجوه الأمر بالطاعة والإحسان. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 50] فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) الناس- فى المغفرة- على أقسام: فمنهم من يستر «1» عليه زلّته، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة، ومنهم من يستر حاله لئلا تصيبه من الشهرة فتنة «2» ، وفى معناه قالوا: لا تنكرن جحدى هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل ومنهم من يستره بين أوليائه، لذلك ورد فى الكتب: «أوليائى فى قبائى، لا يشهد أوليائى غيرى» . «والرزق الكريم» ما يكون من وجه الحلال. ويقال ما يكون من حيث لا يحتسب العبد. ويقال هو الذي يبدو- من غير ارتقاب- على رفق فى وقت الحاجة إليه. ويقال هو ما يحمل المرزوق على صرفه فى وجه القربة. ويقال ما فيه البركة. ويقال الرزق الكريم الذي ينال من غير تعب «3» ، ولا يتقلد منّه مخلوق.   (1) لأن غفر معناها فى اللغة ستر. (2) وهذه إحدى الأفكار التي نشط أصحاب الملامة فى العمل بها، وحثّ أتباعهم عليها. [ ..... ] (3) (الذي ينال من غير تعب) هنا معناها من غير استعجال، ومن غير بعد عن التفويض والتوكل، ومن غير اعتماد على مخلوق. ونحو ذلك مما قد يهدم صرح الاستسلام الكامل للرازق الوهاب سبحانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 51] وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) فى الحال فى معجّله الوحشة وانسداد أبواب الرشد، وتغص العيش، والابتلاء بمن لا يعطف عليه ممن لا يخافون الله. وفى الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الاجرام. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 53] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) الشياطين يتعرّضون للأنبياء عليهم السلام ولكن لا سلطان ولا تأثير فى أحوالهم منهم، ونبيّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضل الجماعة. وإنما من الشيطان تخييل وتسويل (من التضليل) «1» . وكان لنبيّنا- صلى الله عليه وسلم- سكتات فى خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلفّظ الشيطان ببعض الألفاظ «2» ، فمن لم يكن له تحصيل توهّم أنه كان من ألفاظ الرسول- عليه الصلاة والسلام وصار فتنة لقوم.   (1) هكذا فى ص ولكن فى م وردت هكذا (وليس به شىء من التضليل) ونحسب ان هذا أكثر ملازمة للسياق حسبما يتضح من الهامش التالي. (2) قيل كان الرسول صلوات الله عليه وسلامه يقرأ بين قومه سورة النجم حتى إذا وصل إلى (ومناة الثالثة الأخرى) جرى على لسانه. تلك الفرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فنبهه جبريل لما لم يفطن له، وحيث إن النبي معصوم من إجراء الشيطان عليه، ومعصوم من الغفلة، ولأنه لا يعقل أن يجرى على لسانه مدح للأصنام- فقد جاء لتحطيمها- فيرى بعض المفسرين انّ الشيطان تكلم بهذه الكلمات- وقد وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد- وتداخلت الكلمات فى قراءة النبي (ص) أثناء سكتة من سكتاته- كما نبّه القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 أما- الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يضرهم «1» ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 54] وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) إذا أراد الله بعبده خيرا أمدّه بنور التحقيق، وأيّده بحسن العصمة، فيميز بحسن البصيرة بين الحق والباطل فلا يظلّه غمام الرّيب، وينجلى عنه غطاء الغفلة، فلا تأثير لضباب الغداة فى شعاع الشمس عند متوع النهار، وهذا معنى قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 56] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) : لم يتخصص ملكه- سبحانه- بيوم، ولم تتحدد له وقتية أمر، ولا لجلاله قدر «2» ، ولكنّ الدعاوى فى ذلك اليوم تنقطع، والظنون ترتفع، والتجويزات تتلاشى «3» فللمؤمنين وأهل الوفاق نعم، وللكفار وأصحاب الشقاق نقم.   (1) ضبطناها هكذا ولا بأس- من حيث المعنى- أن تضبط (ولم يضرهم ذلك) فما حدث من الفتنة لم يلحق بهم ضيرا ولا ضررا فقد أدركتهم العناية. (2) أي أنه يجل عن التحدد بزمان وقدر فهو المطلق الذي لا يتناهى. (3) الدعاوى والظنون والتجويزات هى تهم النفس والعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : الآيات 57 الى 58] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) هؤلاء لهم عذاب مهين، وهؤلاء لهم فضل مبين. «وَالَّذِينَ هاجَرُوا ... » : للقلوب حلاوة العرفان، وللأرواح حلّة المحاب، وللأسرار دوام الشهود. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 59] لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) إدخالا فوق ما يتمنّونه، وإبقاء على الوصف الذي يهدونه.. ذلك فى أوان صحوهم لينالوا لطائف الأنس على وصف الكمال، ويتمكنوا من قضايا البسط على أعلى أحوال السرور. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 60] ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) نصره- سبحانه- للأولياء نصر عزيز، وانتقامه بتمام، واستئصاله بكمال، وإزهاقه أعداءه بتمحيق جملتهم، وألا يحتاج المنصور إلى الاحتيال أو الاعتضاد بأشكال «1» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 61] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) .   (1) أي لا يحتاج المنصور إلى حيلة أو أي تدبير إنسانى من جانبه، بل يسقط تدبيره لأن النصر له من عند الله، ولا يحتاج المنصور إلى أن يعتضد بأمثاله من المخلوقين فكفى الله له ناصرا ومعينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 كما فى أفق العالم ليل ونهار فكذلك للسرائر ليل ونهار فعند التجلي نهار وعند الستر ليل، ولليل السّرّ ونهاره زيادة ونقصان، فبمقدار القبض ليل وبمقدار البسط نهار، ويزيد أحدهما على الآخر وينقص.. وهذا للعارفين. فأمّا المحقّقون فلهم الأنس والهيبة مكان قبض قوم وبسطهم، وذلك فى حالى صحوهم ومحوهم، ويزيد أحدهما وينقص، ومنهم من يدوم نهاره ولا يدخل عليه ليل.. وذلك لأهل الأنس فقط «1» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 62] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) إذا بدا علم من الحقائق حصلت بمقداره شظية من الفناء لمن حصل له التجلي، ثم يزيد ظهور ما يبدو ويغلب، وتتناقص آثار التفرقة وتتلاشى، قال: صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا» فإذا نأى العبد بالكلية عن الإحساس بما دون الله فلا يشهد أولا الأشياء إلا للحقّ، ثم لا يشهدها إلا بالحق، ثم لا يشهد إلا الحق.. فلا إحساس له بغير الحق، ومن جملة ما ينساه.. نفسه والكون كله «2» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 63] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) ماء السماء يحيى الأرض بعد موتها، وماء الرحمة يحيى أحوال أهل الزّلة بعد تركها، وماء العناية يحيى أحوال ( ... ) «3» بعد زوال رونقها، وماء الوصلة يحيى أهل القربة بعد لضوبها.   (1) كثير من المصطلحات الصوفية لا يفهم فهما دقيقا إلّا بطريق المقارنة المعتمدة على مظاهر الطبيعة كالليل والنهار والجبال والبحار والسحب ... إلخ. وقد استغل القشيري- فى ظلال القرآن الكريم- هذا الجانب. (2) تفيد هذه الفقرة فى توضيح مراتب الشهود. (3) في م (الناس) وفى ص مكتوبة هكذا (المقاليس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 64] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) الملك له، وهو عن الجميع غنى، فهو لا يستغنى بملكه، بل ملكه بصير موجودا بخلقه إياه إذ المعدوم له مقدور والمقدور هو المملوك. ويقال كما أنه «1» غنىّ عن الأجانب ممن أثبتهم فى شواهد الأعداء فهو غنى عن الأكابر وجميع الأولياء. ويقال إذا كان الغىّ حميدا فمعنى ذلك أنه يعطى حتى يشكر. ويقال الغنىّ الحميد المستحقّ للحمد: أعطى أو لم يعط فإنّ أعطى استحقّ الحمد الذي هو الشكر، وإن لم يعط استحق الحمد الذي هو المدح «2» . قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 65] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) أراد به تسخير الانتفاع بها فما للخلق «3» به انتفاع وميسّر له فى الاستمتاع به فهو كالمسّخّر له على معنى تمكينه منه، ثم يراعى فيه الإذن فمن استمتع بشىء على وجه الإباحة والإذن والدعاء إليه والأمر به فذلك إنعام وإكرام، ومن كان بالعكس فمكر واستدراج. وأمّا السفينة.. فإلهام العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها بالحمل فيها وركوبها فمن أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد، ثم ما يحصل بها من قطع المسافات البعيدة، والتوصل بها إلى المضارب   (1) هكذا في م وهى فى ص (أنت) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح. (2) لاجل هذا نقول فى صلاتنا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي نشكرك فى السراء، ونمدحك فى الضراء فالحمد أعم والشكر أو المدح أخص. (3) وردت هكذا فى م وهى فى ص (للحق) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 النائية، والتمكن من وجوه الانتفاع ففى ذلك أعظم نعمة، وأكمل عافية. وجعل الأرض للخلق قرارا من غير أن تميد، وجعل السماء بناء من غير وقوع، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء فى الظلام، ثم هى زينة السماء- وفى ذلك من الأدلة ما يوجب ثلج الصدر وبرد اليقين. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 66] وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) إحياء النفوس وإماتتها مرات محصورة، وإحياء أوقات العبّاد وإماتتها لا حصر له ولا عدّ، وفى معناه أنشدوا. أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت ويقال يحي الآمال بإشهاد تفضله، ثم يميتها بالاطلاع على تعزّزه. ويقال هذه صفة العوام منهم، فأمّا الأفاضل فحياتهم مسرمدة وانتعاشهم مؤبّد. وأنّى يحيا غيره وفى وجوده- سبحانه- غنية وخلف عن كل فائت «1» !؟ قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 67] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) جعل لكلّ فريق شرعة هم واردوها، ولكلّ جماعة طريقة هم سالكوها. وجعل لكلّ مقام سكّانه، ولكلّ محلّ قطّانه، فقد ربط كلّا بما هو أهل له، وأوصل كلّا إلى ما جعله محلا له فبساط التّعبّد موطوء بأقدام العابدين، ومشاهد الاجتهاد معمورة بأصحاب التكلف من المجتهدين، ومجالس أصحاب المعارف مأنوسة بلزوم العارفين، ومنازل المحبين مأهوله بحضور الواجدين.   (1) هكذا فى النسختين، ونحن لا نستبعد أن تكون في الأصل (فان) فسواء كان الفناء بالمعنى المعروف أو بالمعنى الصوفي فإنها منسجمة مع السياق. ولأن القشيري يستعمل هذا الأسلوب كثيرا: فكفى به خلفا لك عند فنائك عنك. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 قوله: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ... » الأمر اشهد تصاريف الأقدار، واعمل بموجب التكليف، وانته دون ما أذنت له من المناهل. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 68] وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) كلهم إلينا عند ما راموا من الجدال، ولا تنكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوح قلبك إلى الاستعانة بالأمثال والأشكال، فإنهم قوالب خاوية، وأشباح عن المعاني خالية. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 69] اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أمّا الأجانب فيقول لهم: «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «1» ، وأمّا الأولياء فقوم منهم يحاسبهم حسابا يسيرا، وأقوام مخصوصون يقول لهم: بينى وبينكم حساب فلا جبريل يحكم بينهم ولا ميكائيل، ولا نبيّ مرسل، ولا ملك مقرّب. «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» يحكم بينهم فيسأل عن أعماله جميع خصمائه، ويأمر بإرضاء جميع غرمائه. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 70] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) يعلم السّرّ والنجوى، وما تكون حاجة العبد له أمس وأقوى، وبكلّ وجه هو بالعبد أولى، وله أن يحمل له النّعمى، ويزيل عنه البلوى، ولا يسمع منه الشكوى، فله الحكم تبارك وتعالى. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 71] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)   (1) آية 14 سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الآية تشير إلى أنّ من كان من جملة خواصّه أفرده- سبحانه- ببرهان، وأيّده ببيان، وأعزّه بسلطان. ومن لا سلطان له يمتد إليه قهره، ومن لا برهان له ينبسط عنه- إلى غيره- نوره، فهو بمعزل عن جملته. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 72] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) لسماع الخطاب أثر في القلوب من الاستبشار والبهجة، أو الإنكار «1» والوحشة. ثم ما تخامره السرائر يلوح على الأسرّة فى الظاهر فكانت الآيات عند نزولها إذا تليت على الكفار يلوح على رجوههم دخان ما تنطوى عليه قلوبهم من ظلمات التكذيب، فما كان يقع عليهم طرف إلّا نبّأ عن جحودهم، وعادت إلى القلوب النّبوءة عن إقلاعهم. ثم أخبر أنّ الذي هم بصدده فى الآخرة من أليم العقوبة شرّ بكل وجه لهم ممّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم. وإنّ المناظر الوضيئة للرائين مبهجة، والمناظر المنكرة للناظرين إليها موحشة. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) .   (1) هكذا فى م ولكنها فى ص (الانكسار) بالسين وهى خطأ لأن المقصود بيان المقابلة بين أثر القرآن على المؤمنين بالاستبشار والبهجة مع أثر القرآن على الكافرين (بالإنكار) والوحشة وظلمات التكذيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 نبه الأفكار المشتّتة، والخواطر المتفرقة على الاستجماع لسماع ما أراد تضمينه فيها فاستحضرها فقال: «ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ..» ثم بيّن المعنى فقال إنّ الذين تدعون من دون الله، وتدعونها آلهة أي وتسمونها آلهة (وأنها للعبادة مستحقة) «1» لن يخلقوا بأجمعهم ذبابا، ولا دون ذلك. وإن يسلبهم الذباب شيئا بأن يقع على طعام لهم فليس فى وسعهم استنقاذهم ذلك منه، ومن كان بهذه الصفة فساء المثل مثلهم، وضعف وصفهم، وقلّ خطرهم. ويقال إن الذي لا يقاوم ذبابا فيصير به مغلوبا فأهون بقدره! قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 74] ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) ما عرفوه حقّ معرفته، ولا وصفوه بجلال ما يستحقه من النعوت. ومن لم يكن فى عقيدته نقص لما يستحيل فى وصفه- سبحانه- لم تباشر خلاصة التوحيد سرّه، وهو فى ترجّم فكر، وتجويز ظن، وخطر تعسّف، يقع فى كل وهدة من الضلال. ويقال العوام اجتهادهم فى رفضهم الأعمال الخبيثة خوفا من الله، والخواص جهدهم فى نقض عقيدتهم للأوصاف التي تجلّ عنها الصمدية، وبينهما ( ... ) «2» بعيد. «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» قوى أي قادر على أن يخلق من هو فوقهم فى التحصيل وكمال العقول. «عَزِيزٌ» : أي لا يقدّر أحد قدره- إلا بما يليق بصفة البشر- بقدر من العرفان. ويقال من وجد السبيل إليه فليس النعت له إلا بوصف القصور، ولكن كلّ بوجده مربوط، وبحدّه فى همته موقوف، والحق سبحانه عزيز «3» .   (1) ما بين القوسين موجود فى ص مفقود فى م (2) فى ص جاءت (وفاق) وفى م جاءت (فرقان) والأولى مرفوضة، وفى مثل هذا الموضع يستعمل القشيري (فرق) أو (بون) بعيد. (3) كلام القشيري هنا فى (قوى) وفى (عزيز) هام لأنه لم يرد فى مبحثه المستقل عن الأسماء والصفات الإلهية الذي ضمنه كتاب (التحبير فى التذكير) الذي حققناه ونشرته دار الكاتب العربي سنة 1969. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 75] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) الاجتباء والاصطفاء من الحق سبحانه بإثبات القدر، وتخصيص الطّول، وتقديمهم على أشكالهم فى المناقب والمواهب. ثم بعضهم فوق بعض درجات فالفضيلة بحقّ المرسل، لا لخصوصية فى الخلقة فى المرسل. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 76] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يعلم حالهم ومآلهم، وظاهرهم وباطنهم، ويومهم وغدهم، ويعلم نقضهم عهدهم فإليه منقلبهم، وفى قبضته تقلّبهم. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 77] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) الركوع والسجود والعبادة كلّها بمعنى الصلاة لأنّ الصلاة تشتمل على هذه الأفعال جميعها، ولكن فرّقها فى الذكر «1» مراعاة لقلبك من الخوف عند الأمر بالصلاة فقسّمها ليكون مع كلّ لفظة ومعنى نوع من التخفيف والترفيه، ولقلوب أهل المعرفة فى كل لفظة راحة جديدة. ويقال لوّن عليهم العبادة، وأمرهم بها، ثم جميعها عبادة واحدة، ووعد عليها من الثواب الكثير ما تقصر عن علمه البصائر. ويقال علم أن الأحباب يحبّون سماع كلامه فطّول عليهم القول إلى آخر الآية ليزدادوا عند سماع ذلك أنسا على أنس، وروحا على روح، ومعاد خطاب الأحباب هو روح روحهم، وكمال راحتهم.   (1) ما يلى من الكلام فى هذه الفقرة مفيد فى المباحث البلاغية فائدة كبيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ثم قال بعد هذا: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» فأدخل فيه جميع أنواع القرب. قوله جل ذكره: [سورة الحج (22) : آية 78] وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) ( «حَقَّ جِهادِهِ» : حق الجهاد ما وافق الأمر فى القدر والوقت والنوع، فإذا حصلت فى شىء منه مخالفة فليس حقّ جهاده) «1» . ويقال المجاهدة على أقسام: مجاهدة بالنّفس، ومجاهدة بالقلب، ومجاهدة بالمال. فالمجاهدة بالنفس ألا يدّخر العبد ميسورا إلا بذله فى الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق «2» . والمجاهدة بالقلب صونه عن الخواطر الرديئة مثل الغفلة، والعزم على المخالفات، وتذكر ما سلف أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار. ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإن كان فى الأخفّ أيضا حق. ويقال حق الجهاد ألا يفتر العبد عن مجاهدة النّفس لحظة، قال قائلهم. يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع ... فكلّ أرض لى ثغر طرسوس قوله جل ذكره: هُوَ اجْتَباكُمْ يحتمل أنه يقول من حقّ اجتبائه إياكم أنّ تعظّموا أمر مولاكم ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لما جاهدتم، فلاجتبائه إياك وفّقك حتى جاهدت. ويقال علم ما كنت تفعله قبل أن خلقك ولم يمنعه ذلك من أن يجتبيك، وكذلك إن رأى ما فعلت فلا يمنعه ذلك أن يتجاوز عنك ولا يعاقبك   (1) ما بين قوسين موجود فى م وناقص فى ص. (2) إذا كانت (الإرفاق) فمعناه التسهيل، والقشيري لا يرضى به غالبا لأرباب الطريق لأنهم باحثون عن الأشق، وإذا كانت (الأرفاق) فهى جمع رفق وقد نهى القشيري فى نهاية رسالته عن وفق النسوان والصبيان فهم الأنتان والجيف ... إلخ. والسياق هنا بعيد عن ذلك مما يرجح أنها الإرفاق بكسر الهمزة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 قوله جل ذكره: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجب جزيل فضله وإحسانه، وتتخلّص به من أليم عقابه وامتحانه- يسير «1» من الأمر لا يستغرق كنه إمكانك بمعنى أنّك إن أردت فعله لقدرت عليه، وإن لم توصف فى الحال بأنّك مستطيع ما ليس بموجود فيك. قوله جل ذكره: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ. أي اتّبعوا والزموا ملّة أبيكم ابراهيم عليه السلام فى البذل والسخاء والجود والخلة والإحسان. قوله جل ذكره: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ. الله هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سمّاكم المسلمين. وقيل ابراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» «2» . قوله: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، نصب الرسول بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يبقى للشفاعة موضعا ومحلا. قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ. وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومن كانت له شهادة عند أحد- وهو كريم- فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده. قوله جل ذكره: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.   (1) يسير خبر لاسم الموصول (والذي به ... ) (2) آية 128 سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة. والاعتصام بالله التبري من الحول والقوة، والنهوض بعبادة الله بالله لله. ويقال الاعتصام بالله التمسك بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصام بالله حسن الاستقامة بدوام الاستعانة. «هُوَ مَوْلاكُمْ» : سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه. «فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» نعم المولى: إخبار عن عظمته، ونعم النصير: إخبار عن رحمته. ويقال إن قال لأيوب: «نِعْمَ الْعَبْدُ» «1» ولسليمان «نِعْمَ الْعَبْدُ» «2» فلقد قال لنا «فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ، ومدحه لنفسه أعزّ وأجلّ من مدحه لك. ويقال «فَنِعْمَ الْمَوْلى» : بدأك بالمحبة قبل أن أحببته، وقبل أن عرفته أو طلبته أو عبدته. «وَنِعْمَ النَّصِيرُ» : إذا انصرف عنك جميع من لك فلا يدخل القبر معك أحد كان ناصرك، ولا عند السؤال أو عند الصراط. السورة التي يذكر فيها المؤمنون قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم اشتقاقه من السمو، وللمسمى بهذا الاسم استحقاق العلو، فالاسم اسم لسموّه من القدم، والحقّ حقّ لعلوّه بحق القدم. ويقال من عرف «بِسْمِ اللَّهِ» سمت همّته عن المرسومات، ومن أحبّ بسم الله صفت حالته عن مساكنة الموهومات.. اسم من طلبه نسى من الدارين أربه، ومن عرفه وجد بقلبه مالا يعرف سببه.   (1) «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية 44 سورة ص. (2) «وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية 30 سورة ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) ظفر بالبغية وفاز بالطّلبة من آمن بالله. و «الفلاح» : الفوز بالمطلوب والظّفر بالمقصود. والإيمان انتسام الحقّ فى السريرة، ومخامرة التصديق خلاصة القلب، واستمكان التحقيق من تأمور الفؤاد «1» . والخشوع فى الصلاة إطراق السّرّ على بساط النّجوى باستكمال نعت الهيبة، والذوبان تحت سلطان الكشف، والامتحاء عند غلبات التّجلّي. ويقال أدرك ثمرات القرب وفاز بكمال الأنس من وقف على بساط النجوى بنعت الهيبة، ومراعاة آداب الحضرة. ولا يكمل الأنس بلقاء المحبوب إلا عند فقد الرقيب. وأشدّ الرقباء وأكثرهم تنغيصا لأوان القرب النّفس فلا راحة للمصلّى مع حضور نفسه، (فإذا خنس عن نفسه) «2» وشاهده عدم إحساسه بآفات نفسه، وطاب له العيش، وتمّت له النّعمى، وتجلّت له البشرى، ووجد لذّة الحياة. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 3] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ما يشغل عن الله فهو سهو، وما ليس لله فهو حشو، وما ليس بمسموع من الله أو بمعقول مع الله فهو لغو، (وما هو غير الحق سبحانه فهو كفر، والتعريج على شىء من هذا بعد وهجر) «3» . ويقال ما ليس بتقريظ الله ومدحه من كلام خلقه فكل ذلك لغو. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 4] وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)   (1) يقال اجعل هذا الأمر فى تأمورك أي داخل قلبك (الوسيط: مادة أم ر) . (2) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى ص. [ ..... ] (3) موجود فى م وغير موجود فى ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 الزكاة النّماء، ومن عمله للنماء فأمارة ذلك أن يكون بنقصانه فى نفسه عن شواهده ولا يبلغ العبد إلى كمال الوصف فى العبودية إلا بذوبانه عن شاهده. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 الى 6] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) لفروجهم حافظون ابتغاء نسل يقوم بحقّ الله، ويقال ذلك إذا كان مقصوده التعفف والتصاون عن مخالفات الإثم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 7] فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) أي من جاوز قصد إيثار الحقوق، وجنح إلى جانب استيفاء الحظوظ.. فقد تعدّى محلّ الأكابر، وخالف طريقتهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 8] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) الأمانات مختلفة، وعند كلّ أحد أمانة أخرى، فقوم عندهم الوظائف بظواهرهم، وآخرون عندهم اللطائف فى سرائرهم، ولقوم معاملاتهم، ولآخرين منازلاتهم، ولآخرين مواصلاتهم. وكذلك عهودهم متفاوتة فمنهم من عاهده ألا يعبد سواه، ومنهم من عاهده ألا يشهد فى الكونين سواه. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 9] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) لا تصادفهم الأوقات، وهم غير مستعدين، ولا يدعوهم المنادى وهم ليسوا بالباب، فهم فى الصف الأول بظواهرهم، وكذلك فى الصف الأول بسرائرهم قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 10 الى 11] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 الإرث على حسب النّسب، وفى استحقاق الفردوس بوصف الإرث لنسب الإيمان فى الأصل، ثم الطاعات فى الفضل. وكما فى استحقاق الإرث تفاوت فى مقدار السهمان: بالفرض أو بالتعصيب- فكذلك فى الطاعات فمنهم من هم فى الفردوس بنفوسهم، وفى الأحوال اللطيفة بقلوبهم، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعا لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا ( ... ) «1» عن حالات قلوبهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 12] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) عرّفهم أصلهم لئلا يعجبوا بفعلهم. ويقال نسبهم لئلا يخرجوا عن حدّهم، ولا يغلطوا فى نفوسهم. ويقال خلقهم من سلالة سلّت من كل بقعه فمنهم من طينته من جردة «2» أو من سبخة «3» أو من سهل، أو من وعر.. ولذلك اختلفت أخلاقهم. ويقال بسط عذرهم عند الكافة فإنّ المخلوق من سلالة من طين ... ما الذي ينتظر منه؟! ويقال خلقهم من سلالة من طين، والقدر للتربية لا للتربة. ويقال خلقهم من سلالة ولكنّ معدن المعرفة ومرتع المحبة، ومتعلق العناية منه لهم قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» . ويقال خلقهم، ثم من حال إلى حال نقلّهم، يغيّر بهم ما شاء تغييره. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 13 الى 14] ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)   (1) مشتبهة فى ص، م وربما كانت (ولا ينفكون) . (2) الأرض الجردة التي لا نبات فيها. (3) السّبخة التي فيها ملح ونزّ ولا تكاد تنبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 قطرة أجزاؤها متماثلة، ونطفة أبعاضها متشاكلة، ثم جعل بعضها لحما وبعضها عظما، وبعضها شعرا، وبعضها ظفرا، وبعضها عصبا، وبعضها جلدا، وبعضها مخّا، وبعضها عرقا. ثم خصّ كلّ عضو بهيئة مخصوصة، وكلّ جزء بكيفية معلومة. ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة، من السّمع والبصر والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحقد والجود والأوصاف التي يتقاصر عنها الحصر والعدّ. قوله جل ذكره: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فى التفاسير أنه صورة الوجه، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة، واختصّ به من السّمع والبصر والعقل والتمييز، وما تفرّد به بعض منهم بمزايا فى الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات. ويقال «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» : وهو أن هيّأهم لأحوال عزيزة يظهرها عليهم بعد بلوغهم، إذا حصل لهم كمال التمييز من فنون الأحوال فلقوم تخصيص بزينة العبودية، ولقوم تحرّر من رقّ البشرية، ولآخرين تحقق بالصفات الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هى أوصاف البشرية. قوله جل ذكره: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ خلق السماوات والأرضين بجملتها، والعرش والكرسىّ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها- ثم لمّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خلقه بنى آدم تخصيصا لهم وتمييزا، وإفرادا لهم من بين المخلوقات. ويقال إن لم يقل لك إنّك أحسن المخلوقات فى هذه الآية فلقد قال فى آية أخرى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «1» .   (1) الآية 4 سورة التين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين- ولم يثن عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» ، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزّ وأجلّ من أن يثنى عليك. ويقال لما ذكر نعتك، وتارات حالك فى ابتداء خلقك، ولم يكن منك لسان شكر ينطق، ولا بيان مدح ينطلق.. ناب عنك فى الثناء على نفسه، فقال: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 15] ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) أنشدوا: آخر الأمر ما ترى ... القبر واللحد والثرى وأنشدوا: حياتنا عندنا قروض ... ونحن بعد الموت فى التقاضي لا بدّ من ردّ ما اقترضنا ... كلّ غريم بذاك راضى ويقال نعاك إلى نفسك بقوله: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» وكلّ ما هو آت فقريب. ويقال كسر على أهل الغفلة سطوة غفلتهم، وفلّ دونهم سيف صولتهم بقوله: ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وللجماد مضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لمبعدون، وفى عداد ما لا خطر له من الأموات معدودون. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 16] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) فعند ذلك يتصل الحساب والعقاب، والسؤال والعقاب، ويتبين المقبول من المردود، والموصول من المهجور. ويوم القيامة يوم خوّف به العالم حتى لو قيل للقيامة: ممن تخافين؟ لقالت من القيامة. وفى القيامة ترى الناس سكارى حيارى لا يعرفون أحوالهم ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيّن لكلّ واحد أمره خيره وشرّه: فيثقل بالخيرات ميزانه، أو يخف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 عن الطاعات أو يخلو ديوانه. وما بين الموت والقيامة: فإمّا راحات متّصلة، أو آلام وآفات غير منفصلة. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 17] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) الحقّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مدرك، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية. وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم فالعادة جارية بأنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب. وكذلك إذا حلّت الغفلة القلوب استولى عليها الذهول، وانسدّت بصائرها، وانتفت فهومها وفوقنا حجب ظاهرة وباطنة ففى الظاهر السماوات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمنية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة. أمّا المريدون فإذا أظلّتهم سحائب الفترة، وسكن هيجان إرادتهم فذلك من الطرائق التي عليهم. وأما الزاهدون فإذا تحرّك بهم عرق الرغبة انفلّت «1» قوة زهدهم، وضعفت دعائم صبرهم، فيترخّصون بالجنوح إلى بعض التأويلات، فتعود رغباتهم قليلا قليلا، وتختلّ رتبة عزوفهم، وتنهدّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خلق فوقهم. وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحايينهم وقفة فى تصاعد سرّهم إلى ساحات الحقائق. فيصيرون موقفين ريثما يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذا، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق. وفى جميع هذا فإنّ الحقّ سبحانه غير غافل عن الخلق، ولا تارك للعباد. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 18] وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) .   (1) انفلّ السيف- انثلم حدّه، وانفلّ القوم- انهزموا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 أنزل من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين، وذلك بقدر معلوم. ثم.. البلاد مختلفة فى السّقى: فبعضها خصب، وبعضها جدب، وسنة يزيد وسنة ينقص، سنة يفيض وسنة يغيض. كذلك أنزلنا من السماء ماء الرحمة فيحيى القلوب، وهى مختلفة فى الشّرب: فمن موسّع عليه رزقه منه، ومن مضيّق مقتّر عليه. ومن وقت هو وقت سحّ، ومن وقت هو وقت حبس. ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلّتهم وأوضار عثرتهم، وماء هو سقى قلوبهم يزيل به عطش تحيرهم، ويحيى به موات أحوالهم فتنبت فى رياض قلوبهم فنون أزهار البسط، وصنوف أنوار الروح. وماء هو شراب المحبة فيخص به قلوبا بساحات القرب، فيزيل عنها به حشمة الوصف، ويسكن به قلوبا فيعطلها عن التمييز، ويحملها على التجاسر ببذل الرّوح فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا «1» . قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 19] فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) كما يحيى بماء السماء الغياض والرياض، ويصنّف فيها الأزهار والأنوار، وتثمر الأشجار وتجرى الأنهار.. فكذلك يسقى القلوب بماء العرفان فتورق وتثمر بعد ما تزهر، وتؤتى أكلها: من طيب عيش، وكمال بسط، ثم وفور هيبة ثم روح أنس، ونتائج تجلّ، وعوائد قرب.. إلى ما تتقاصر العبارات عن شرحه، ولا تطمع الإشارات فى حصره. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 21] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) الإشارات منه أنّ الكدورات الهاجمة لا عبرة بها، ولا مبالاة فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوى حواياها عليه من الوحشة، لكنه صاف لم يؤثر   (1) حتى لو كان ما وهبوه أرواحهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 فيه منها بحكم الجوار، وكذلك الصفاء يوجد أكثره من عين الكدورة إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقّ ولا باطل. ومن أشرف على (سرّ) «1» التوحيد تحقّق بأنّ ظهور جميع الحدثان من التقدير، فتسقط عنه كلفة التمييز، فالأسرار عند ذلك تصفو، والوقت لصاحبه لا يجفو. «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ» : لازمة لكم، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم: إنّي- على جفواتها- بربّها ... وبكلّ متّصل بها متوسّل قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 22] وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) يحفظهم فى السفينة فى بحار القطرة، ويحفظهم فى سفينة السلامة والعصمة فى بحار القدرة، وإنّ بحار القدرة تتلاطم أمواجها، والناس فيها غرقى إلا من يحفظه الحقّ- سبحانه- فى سفينة العناية. وصفة أهل الفلك إذا مستهم شدّة خوف الغرق ما ذكر الله فى قوله: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «2» » كذلك من شاهد نفسه على شفا الهلاك والغرق، والتجأ إلى صدق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقّ- سبحانه- من مخلوقات التقدير. ويقال إنّ وجه الأرض بحار الغفلة، وما عليه الناس من أسباب التفرقة بحار مهلكة والناس فيها غرقى، وكما قال بعضهم: الناس بحر عميق ... والبعد عنهم سفينة وقد نصحتك فانظر ... لنفسك المسكينة قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 23] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) .   (1) موجودة فى م وغير موجودة فى ص. (2) آية 65 سورة العنكبوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 كرّر قصة نوح لما فيها من عظيم الآيات من طول مقامه فى قومه، وشدة مقاساة البلاء منهم، وتمام صبره على ما استقبله فى طول عمره، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه، ثم لم يغادر منهم أحدا، ولم يبال- سبحانه- بأن أهلك جملتهم. ولقد ذكر فى القصص أن امرأة من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولود، فحملته وقامت حاملة له ترفعه عن الطوفان، فلمّا بلغ الماء إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها- قدر ما أمكنها- إبقاء على ولدها، وإشفاقا عليه من الهلاك، إلى أن غلبها الماء وتلفت وولدها. فأوحى الله إلى نوح- عليه السلام- لو أنى كنت أرحم واحدا منهم لرحمت تلك المرأة وولدها. وفى الخبر أن نوحا كان اسمه يشكر ولكثرة ما كان يبكى أوحى الله إليه: يا نوح.. إلى كم تنوح؟ فسمّاه نوحا. ويقال إنّ ذنبه أنه مرّ يوما بكلب فقال: ما أوحشه! فأوحى الله إليه: اخلق أنت أحسن من هذا! فكان يبكى معتذرا عن قالته تلك. وكان قومه يلاحظونه بعين الجنون، وما زاد لهم دعوة إلا ازدادوا عن إجابته نبوة، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوة على قسوة. ولما عمل السفينة ظهر الطوفان، وأدخل فى السفينة أهله، تعرّض له إبليس- كما جاء فى القصة- وقال: احملنى معك فى السفينة، فأبى نوح وقال: يا شقّى.. تطمع فى حملى إياك وأنت رأس الكفرة؟! فقال إبليس: أما علمت- يا نوح- أنّ الله أنظرنى إلى يوم القيامة، وليس ينجو اليوم أحد إلّا فى هذه السفينة؟ فأوحى الله إلى نوح أن احمله فكان إبليس مع نوح فى السفينة، ولم يكن لابنه معه مكان فى السفينة. (وفى هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول) «1» لأنه إن كان المعنى فى أن ابنه لم يكن معه له مكان لكفره فبإبليس يشكل.. ولكنها أحكام غير معلولة، وجاز له- سبحانه- أن يفعل ما يريد: يصل «2» من شاء ويردّ من شاء   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود فى ص. (2) وردت فى م (يضل) بالضاد ونحن نجد (يصل) أكثر انسجاما مع المعنى لتقابل (يرد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 29] وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) الإنزال المبارك أن يكون بالله ولله، وعلى شهود الله من غير غفلة عن الله، ولا مخالفا لأمر الله ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القرب عليك، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلّى حتى لا تبقى عين ولا أثر، فإذا تمّ هذا ودام هذا فهو نزول بساحات الحقيقة مبارك لأنك بلا أنت.. بكليتك من غير بقية أو أثر عنك. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 31] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) تتابعت القرون على طريقة واحدة فى التكذيب، وغرّهم طول الامهال، وما مكنّهم من رفه العيش وخفض الدّعة، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم، ولم يسم لهم طرف إلى من فوقهم فى الحال والمنزلة، فقالوا: أنؤمن بمن يتردد فى الأسواق، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق؟ ولئن أطعنا بشرا مثلنا لسلكنا سبيل الغىّ، وتنكبنا سنّة الرّشد. فأجراهم الله فى الإهانة وإحلال العقوبة بهم مجرى واحدا، وأذاقهم عذاب الخزي. وأعظم ما داخلهم من الشّبهة والاستبعاد أمر الحشر والنشر، ولم يرتقوا للعلم بأنّ الإعادة كالابتداء فى الجواز وعدم الاستحالة، والله يهدى من يشاء ويغوى من يريد. ثم إن الله فى هذه السورة ذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بعده قصة عيسى عليه السلام، وخصّ كلّ واحد منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة «1» . قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 51] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) كلوا من الطيبات مما أحلّ لكم وأباح، وما هو محكوم بأنه طيب- على شريطة مطابقة   (1) نلاحظ هنا أن القشيري قد اختصر الكلام فقفز إلى الآية 50 دون تمهل أمام كل آية كما تعودنا منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 رخصة الشريعة- مما كان حلالا فى وقتهم، مطلقا مأذونا لهم فيه. وكذلك أعمالهم الصالحة ما كان موافقا لأمر الله فى زمانهم بفنون طاعاتهم فى أفعالهم وعقائدهم وأحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 52] وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) معبودكم واحد، ونبيّكم واحد، وشرعكم واحد فأنتم فى الأصول شرع سواء، فلا تسلكوا ثنيات الطرق «1» فتطيحوا فى أودية الضلالة. وعليكم باتباع سلّفكم، واحذروا موافقة ابتداع خلفكم. «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» خافوا مخالفة أمرى، واعرفوا عظيم قدرى، واحفظوا فى جريان التقدير سرّى، واستديموا بقلوبكم ذكرى، تجدوا فى مآلكم غفرى، وتحظوا بجميل برّى. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 53] فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فمستقيم على حقّه، وتائه فى غيّه، ومصرّ على عصيانه وفسقه، ومقيم على إحسانه وصدقه، كلّ مربوط بحدّه، موقوف بما قسم له فى البداية من شأنه، كلّ ينتحل طريقته ويدّعى بحسن طريقته حقيقة، وعند صحو سماء قلوب أرباب التوحيد لا غبار فى الطريق وهم على يقين معارفهم فلا ريب يتخالجهم ولا شبهة. وأهل الباطل فى عمى جهلهم، وغبار جحدهم، وظلمة تقليدهم، ومحنة شكهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 54] فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) إنّ مدة أخذهم لقريبة، والعقوبة عليهم- إذا أخذوا- لشديدة، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 55 الى 56] أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) .   (1) ثنية الطريق- منعطفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 هذا فى شأن أصحاب الاستدراج من مكر الحقّ بهم بتلبيس المنهاج رأو سرابا فظنوه شرابا، ودس لهم فى شهدهم صابا فتوهموه عذابا «1» ، وحين لقوا عذابا علموا أنهم لم يفعلوا صوابا. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 57] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) أمارة الإشفاق من الخشية إطراق السريرة فى حال الوقوف بين يدى الله بشواهد الأدب، ومحاذرة بغتات الطّرد، لا يستقر بهم قرار لما داخلهم من الرّعب، واستولى عليهم من سلطان الهيبة. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 58] وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) تلك الآيات مختلفة فمنها ما يكاشفون به فى الأقطار من اختلاف الأدوار، وما فيه الناس من فنون الهمم وصنوف المنى والإرادات، فإذا آمن العبد بها، واعتبر بها اقتنع بما يرى نفسه مطالبا به. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 59] وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) يذرون جلّى الشّرك وخفيّه والشّرك الخفىّ ملاحظة الخلق فى أوان الطاعات، والاستبشار بمدح الخلق وقبولهم، والانكسار والذبول عند انقطاع رؤية الخلق. ويقال الشّرك الخفىّ إحالة النادر من الحالات- فى المسارّ والمضارّ- على الأسباب كقول القائل. «لولا دعاء أبيك لهلكت» و «لولا همّة فلان لما أفلحت» ... وأمثال هذا قال الله تعالى «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «2» . وكذلك توّهم حصول الشّفاء من شرب الدواء. فاذا أيقن العبد بسرّه ألا شىء من الحدثان، ولم يتوهم ذلك، وأيقن ألّا شىء إلّا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشّرك «3» .   (1) العذاب جمع عذب وهو السائغ من الطعام والشراب ونحوهما (الوسيط) . [ ..... ] (2) آيه 106 سورة يوسف. (3) أي أن القشيري لا ينكر الأسباب ولكن يعنى على من يتوهم أن من الحدثان شيئا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 60] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) يخلصون فى الطاعات من غير إلمام بتقصير، أو تعريح فى أوطان الكسل، أو جنوح إلى الاسترواح بالرّخص. ثم يخافون كأنهم ألمّوا بالفواحش، ويلاحظون أحوالهم بعين الاستصغار، والاستحقار، ويخافون بغتات التقدير، وقضايا السخط، وكما قيل: يتجنّب الآثام ثم يخافها ... فكأنّما حسناته آثام قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 61] أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) «1» مسارع بقدمه من حيث الطاعات، ومسارع بهممه من حيث المواصلات، ومسارع بندمه من حيث تجرّع الحسرات، والكلّ مصيب، وللكلّ من إقباله- على ما يليق بحاله- نصيب. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 62] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) المطالبات فى الشريعة مضمّنة بالسهولة، وأمّا مطالبات الحقيقة فكما قالوا: ليس إلّا بذل الروح، ولهذا فهم لا تشغلهم الترّهات «2» . قال لأهل الرخص والمستضعفين فى الحال: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3» ، وأمّا أرباب الحقائق فقال: «وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «4» وقال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» «5» ، وقال: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «6» » .   (1) في س أخطأ الناسخ إذ زاد (لهم) بعد يسارعون. (2) الترهات جمع ترهة وهى القول الباطل الذي لا نفع فيه، أو الطريق الصغيرة المتشعبة عن الطريق الأعظم. (3) آية 78 سورة الحج. (4) آية 284 سورة البقرة. (5) آية 15 سورة النور. (6) آية 78 سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 قوله: «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» : لولا غفلتهم عن مواضع الحقيقة لما خوّفهم بكتابة الملك، ولكن غفلوا عن شهود الحق فخوّفهم باطلاع الملائكة، وكتابتهم عليهم أعمالهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 63] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) لا يصلح لهذا الشأن «1» إلا من كان فارغا من جميع الأعمال، لا شغل له فى الدنيا والآخرة، فأمّا من له شغل بدنياه، أو على قلبه حديث عقباه، فليس له نصيب من حديث مولاه، وفى الخبر «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» . ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم، وأرباب العقبى مشغولون بعقباهم، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم وإن الذي له فى الدنيا والآخرة غير مولاه- حين الفراغ- عزيز قال تعالى: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» «2» . قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 64] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) إنه- سبحانه- يمهل ولكنّه لا يهمل فإذا أخذ فبطشه شديد، قال تعالى: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «3» ... فإذا أخذ أصحاب الكبائر- حين يحل بهم الانتقام- فى الجواب ردّوا في الهوان، ويقال لهم: [سورة المؤمنون (23) : آية 65] لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) فإذا انفصل من الغيب حكم فلا مردّ لتقديره.   (1) (هذا الشأن) يقصد به طريق رباب الأحوال (2) آية 55 سورة يس. (3) آية 12 سورة البروج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ويقال للجنابة سراية فإذا أمسك الجاني عن الجناية فلا ينفعه ذلك ما لم يمض حكم السراية. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 الى 67] قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) ذكر هذا من باب إملاء العذر، وإلزام الحجة، والقطع بألا ينفع- الآن- الجزع ولا يسمع العذر والملوك إذا أبرموا حكما، فالاستغاثة غير مؤثّرة فى الحاصل منهم، قال قائلهم: إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه- آخر الدهر- تقبل قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 68] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) يعنى أنهم لو أنعموا النظر، وسلطوا على أحوالهم صائب الفكر لاستبصروا فى الحال، ولا نتفى عن قلوبهم الاستعجام والإشكال، ولكنهم استوطنوا مركب الكسل، وعرّجوا فى أوطان التغافل، فتعودوا الجهل، وأيسوا من الاستبصار. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 69] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) ذهلوا عن التحقيق فتطوّحوا فى أودية المغاليط، وترجّمت بهم الظنون الخاطئة، وملكتهم كواذب التقديرات «1» ، فأخبر الله (الرسول) «2» عن أحوالهم فمرة قابلوه بالتكذيب، ومرة رموه بالسّحر، ومرة عابوه بتعاطيه أفعال العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب، ومرة قدحوا فيه بما هو فيه من الفقر وقلّة ذات اليد ... فأخبر الله عن تشتّت أحوالهم، وتقسّم أفكارهم   (1) هكذا فى م أما في ص فهى (التقدير) ونحن نرجه الأولى حتى يقتصر إطلاق (التقدير) بالمفرد على الفعل الإلهى أما هنا فهى (التقديرات الإنسانية) أي الظنون. (2) السياق يتطلب وجود كلمة (الرسول) وهى غير موجودة فى التسخين فوضعناها من عندنا لينسجم الأسلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 71] وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) وذلك لتضادّ مناهم وأهوائهم إذ هم متشاكسون فى السؤال والمراد، وتحصيل ذلك محال تقديره فى الوجود. فبيّن الله- سبحانه- أنه لو أجرى حكمه على وفق مرادهم لاختلّ أمر السماوات والأرض، ولخرج عن حدّ الإحكام والإتقان. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 72] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) أي إنّك لا تطالبهم على تبليغ الرسالة بأجر، ولا بإعطاء عوض حتى تكون بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة. أم لعلّك تريد أن يعقدوا لك الرياسة. ثم قال: والذي لك من الله سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يغنيك عن التصدّى لنيل ما يكون فى حصوله منهم مطمع. وهذا كان سنّة الأنبياء والمرسلين عملوا لله ولم يطلبوا أجرا من غير الله. والعلماء ورثة الأنبياء فسبيلهم التوقّى عن التّدنّس بالأطماع، والأكل بالدّين فإنه رياء مضرّ بالإيمان فإذا كان العمل لله فالأجر منتظر من الله، وهو موعود من قبل الله «1» . قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 الى 74] وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) الصراط المستقيم شهود الربّ بنعت الانفراد فى جميع الأشياء، وفى الإيجاد، والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراه الحكم. قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.   (1) القشيري هنا يغمز بانحراف كثير من الوعاظ المحترفين الذين امتلأ بهم عصره، ومنذ عهد الحسن البصري- الذي طالما نبه إلى خطورة هذا الأمر- ونحن نسمع هذه الصيحة ناعية ما آل إليه أمر المحترفين إلى التهافت والتهالك على أطماع الدنيا الزائلة. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 زاغوا عن الحجة المثلى بقلوبهم فوقعوا فى جحيم الفرقة، وستميل وتزل أقدامهم غدا عن الصراط، فيقعون فى نار الحرقة فهم ناكبون فى دنياهم وعقباهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 75] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) أخبر عن صادق علمه بهم، وذلك صادر عن سابق حكمه فيهم، فقال: لو كشفنا عنهم فى الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان فى المآل، ولقد علم أنهم سيكفرون، وحكم عليهم بأنهم يكفرون إذ لا يجوز أن يكون حكمه فيهم بخلاف علمه بهم «1» قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 76] وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده.. تنبيها لهم، فما انتبهوا وما انزجروا، ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرع والابتهال لأسرع الله زواله عنهم، ولكنهم أصرّوا على باطلهم، ليقضى الله أمرا كان مفعولا. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 77] حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) لما أجللنا بهم أشدّ العقوبات ضعفوا عن تحمّلها، وأخذوا بغتة، ولم ينفعهم ما قدّموا من الابتهال، فيئسوا عن الإجابة، وعرّجوا فى أوطان القنوط. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 78] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) ذكر عظيم منّته عليهم بأن خلق لهم هذه الأعضاء، وطالبهم بالشكر عليها. وشكرهم عليها استعمالها فى طاعته فشكر السّمع ألا تسمع إلا بالله ولله، وشكر البصر ألا تنظر إلا بالله لله، وشكر القلب ألّا تشهد غير الله، وألّا تحبّ به غير الله.   (1) هذا التمييز بين الحكم والعلم له أهميته الكبيرة فى قضية القدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 79] وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) الابتداء للحادثات من الله بدعا، والانتهاء إليه عودا، والتوحيد ينتظم هذه المعاني فتعرف أنّ الحادثات بالله ظهورا، ولله ملكا، ومن الله ابتداء، وإلى الله انتهاء. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 80] وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) يحيى النفوس ويميتها والمعنى فى ذلك معلوم، وكذلك يحيى القلوب ويميتها فموت القلب بالكفر والجحد، وحياة القلب بالإيمان والتوحيد، وكما أنّ للقلوب حياة وموتا فكذلك للأوقات موت وحياة، فحياة الأوقات بيمن إقباله، وموت الأوقات بمحنة إعراضه، وفى معناه أنشدوا: أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت قوله: «وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» فليس كلّ اختلافها فى ضيائها وظلمتها، وطولها وقصرها، بل ليالى المحبين تختلف فى الطول والقصر، وفى الروح والنوح فمن الليالى ما هو أضوأ من اللآلى، ومن النهار ما هو أشدّ من الحنادس، يقول قائلهم: ليالىّ بعد الظاعنين شكول. ويقول قائلهم: وكم لظلام الليل عندى من ... تخبّر أنّ المانوية تكذّب وقريب من هذا المعنى قالوا: ليالى وصال قد مضين كأنّها ... لآلى عقود فى نحور الكواعب وأيام هجر أعقبتها كأنّها ... بياض مشيب فى سواد الذوائب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83] بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) سلكوا فى التكذيب مسلك سلفهم، وأسرفوا فى العناد مثل سرفهم، فأصابهم ما أصاب الأولين من هلاكهم وتلفهم. قوله: «لَقَدْ وُعِدْنا ... » لمّا طال عليهم وقت الحشر، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنّشر زاد ذلك فى ارتيابهم، وجعلوا ذلك حجّة فى لبسهم واضطرابهم، فقالوا: لقد وعدنا مثل هذا نحن وآباؤنا، ثم لم يكن لذلك تحقيق، فما نحن إلّا أمثالهم. فاحتجّ الله عليهم فى جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخلق: فقال جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 89] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) أمره- عليه السلام- أن يلوّن عليهم الأسئلة، وعقّب كلّ واحد من ذلك- مخبرا عنهم- أنهم سيقولون: لله، ثم لم يكتف منهم بقالتهم تلك، بل عاتبهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 تجرّد قولهم عن التّذكّر والفهم والعلم وتنبيها على أن القول- وإن كان فى نفسه صدقا- فلم تكن فيه غنية إذ لم يصدر عن علم ويقين. ثم نبّههم على كمال قدرته، وأنّ القدرة القديمة إذا تعلّقت بمقدور له ضدّ تعلّقت بضدّه، ويتعلق بمثل متعلقه. والعجب من اعترافهم بكمال أوصاف جلاله، ثم تجويزهم عبادة الأصنام التي هى جمادات لا تحيا، ولا تضرّ ولا تنفع. ويقال أولا قال: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ، ثم قال بعده: «أَفَلا تَتَّقُونَ» ، فقدّم التذكر على التقوى لأنهم بتذكرهم يصلون إلى المغفرة، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاء مخالفته. ثم بعد ذلك قال: «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» أي بعد وضوح الحجة فأىّ شكّ بقي حتى تنسبوه إلى السّحر؟ قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 90] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) بيّن أنهم أصرّوا على جحودهم، وأقاموا على عتوّهم ونبوّهم، وبعد أن أزيحت العلل فلات حين عذر، وليس لتجويز المساهلة موجب بتا. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) اتخاذ الأولاد لا يصحّ كاتخاذ الشريك، والأمران جميعا داخلان فى حدّ الاستحالة، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة فى القدر، والصمدية تتقدّس عن جواز أن يكون له مثل أو جنس. قوله جل ذكره: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 كلّ أمر نيط باثنين فقد انتفى عنه النظام وصحة الترتيب، وأدلة التمانع مذكور فى مسائل الأصول. «سُبْحانَ اللَّهِ» تقديسا له، وتنزيها عما وصفوه به. «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» : تنزّه عن أوهام من أشرك، وظنون من أفك. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 93] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) يقول إن عجلت لهم ما تتوعدهم به فلا تجعلنى فى جملتهم، ولا توصل إلىّ سوءا مثلما توصل إليهم من عقوبتهم. وفى هذا دليل على أنّ للحقّ أن يفعل ما يريد، ولو عذّب البريء لم يكن ذلك منه ظلما ولا قبيحا «1» . قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 95] وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) تدل على صحة قدرته على خلاف ما علم فإنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك، فصحّت القدرة على خلاف المعلوم «2» قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 96] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) الهمزة فى «أَحْسَنُ» يجوز ألا تكون للمبالغة ويكون المعنى ادفع بالحسن السيئة. أو أن تكون للمبالغة فتكون المكافأة جائزة والعفو عنها- فى الحسن- أشدّ مبالغة. ويقال ادفع الجفاء بالوفاء، وجرم أهل العصيان بحكم الإحسان. ويقال ادفع ما هو حظك إذا حصل ما هو حق له. ويقال اسلك مسلك الكرم، ولا تجنح إلى طريق المكافأة.   (1) لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض، إذ لا يعود عليه سبحانه من هذا أو ذاك مصلحة. (2) فى هذا ردّ ضمنى على المعتزلة القائلين بإنكار الصفات، إذ يتضح أن صفة العلم متميزة عن صفة القدرة. فالأشاعرة- ومنهم القشيري- حين يثبتون الصفات إنما يثبتون المعاني اللاثقة بذاته، وهى معان وإن تنوعت فليست طوارئ على الذات، وإنما الذات قائمة بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ويقال الأحسن ما أشار إليه القلب، والسيئة ما تدعو إليه النّفس. ويقال الأحسن ما كان بإشارة الحقيقة، والسيئة ما كان بوساوس الشيطان. ويقال الأحسن نور الحقائق، والسيئة ظلمة الخلائق. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 98] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) الاستعاذة- على الحقيقة- تكون بالله من الله كما قال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك منك» «1» ، ولكنه- سبحانه- أراد أن نعبده بالاستعاذة به من الشيطان، بل من كلّ ما هو مسلّط علينا، والحقّ عندئذ يوصل إلينا مضرتنا يجرى العادة. وإلّا.. فلو كان بالشيطان من إغواء الخلق شىء لكان يمسك على الهداية نفسه! فمن عجز عن أن يحفظ نفسه كان عن إغواء غيره أشدّ عجزا، وأنشدوا: جحودى فيك تلبيس ... وعقلى فيك تهويس فمن آدم إلّاك ... ومن فى ( ... ) «2» إبليس قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 100] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) .   (1) من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك» . مسلم، ومالك، وأبو داود، والنسائي، والترمذي. (2) فى م (ألين) وفي ص (اللبن) ، والبيتان للحلاج فى الطواسين ص 43 وفى ديوانه (المقطعة الثامنة والعشرون) جاءت البين، والمعنى أن آدم الذي خلقته من طين هو سبب بلائي فسجودى له سجود لغيرك. وفى البيتين بعض الغموض والشطح، ولهذا نعجب من استشهاد القشيري بهما. ونحن نلاحظ أنه بينما لم يكتب القشيري فى رسالته شيئا عن سيرة الحسين بن منصور الحلاج إلا أنه طالما يستشهد بأقواله شعرا ونثرا.. وقد عللنا لذلك في كتابنا «الإمام القشيرى وتصوفه» ط مؤسسة الحلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 إذا أخذ البلاء بخناقهم، واستمكن الضّرّ من أحوالهم، وعلموا ألّا محيص ولا محيد أخذوا فى التضرّع والاستكانة، ودون ما يرومون خرط القتاد! ويقال لهم هلّا كان عشر عشر هذا قبل هذا؟ ولقد قيل: قلت للنفس: إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 101] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) يومئذ لا تنفع الأنساب وتنقطع الأسباب، ولا ينفع النّدم، وسيلقى كلّ غبّ ما اجترم فمن ثقلت بالخيرات موازينه لاح عليه تزيينه. ومن ظهر ما يشينه فله من البلاء فنونه تلفح وجوههم النار، وتلمح من شواهدهم الآثار، ويتوجه عليهم الحجاج، فلا جواب لهم يسمع، ولا عذر منهم يقبل، ولا عذاب عنهم يرفع، ولا عقاب عنهم يقطع. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 106] قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) نطقوا بالحقّ ... ولكن فى يوم لا ينفع فيه الإقرار، ولا يقبل الاعتذار، ثم يقولون: [سورة المؤمنون (23) : آية 107] رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) والحقّ يقول: لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. علم أنّ ردّهم إلى الدنيا لا يكون، ولكنه علم أنّه لو كان فكيف كان يكون. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 108] قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) عند ذلك يتمّ عليهم البلاء، ويشتدّ عليهم العناء، لأنهم ما داموا يذكرون الله لم يحصل الفراق بالكلية، فإذا حيل بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة، وهو أحد ما قيل فى قوله. «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» «1» .   (1) آية 103 سورة الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وفى الخبر: أنهم ينصرفون بعد ذلك فإذا لهم عواء كعواء الذئب. وبعض الناس تغار من أحوالهم لأن الحق يقول لهم: «اخْسَؤُا فِيها» ، فيقولون: يا ليتنا يقول لنا! أليس هو يخاطبنا بذلك؟! وهؤلاء يقولون: قدح الأحباب ألذّ من مدح الأجانب، وينشدون فى هذا المعنى: أتانى عنك سبّك لى.. فسبىّ ... أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبى قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 109 الى 111] إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) الحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائه بما يطيّب به قلوب أوليائه، وتلك خصومة الحق، فيقول: قد كان قوم من أوليائى يفصحون بمدحى وثنائى، ويتصفون بمدحى واطرائى، فاتخذتموهم سخريا ... فأنا اليوم أجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 114] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) عدد سنين الأشياء- وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفى ويربى عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا فى الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها فى القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 115] أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) العبث اللهو، واللّعب والاشتغال بما يلهى عن الحقّ، والله لم يأمر العباد بذلك، ولم يدعهم إلى ذلك، ولم يندبهم إليه. والعابث فى فعله من فعله على غير حدّ الاستقامة، ويكون هازلا مستجلبا بفعله أحكام اللهو إلى نفسه، متماديا فى سهوه، مستلذّ التفرقة فى قصده. وكلّ هذا من صفات ذوى البشرية، والحقّ- سبحانه- منزّه النّعت عن هذه الجملة، فلا هو بفعل شىء عابث، ولا بشىء من العبث آمر. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 116] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) الحقّ- بنعوت جلاله- متوحّد، وفى عزّ آزاله وعلّو أوصافه متفرّد، فذاته حقّ، وصفاته حقّ، وقوله صدق، ولا يتوجّه لمخلوق عليه حق، وما يفعله من إحسان بعباده فليس شىء منها بمستحق «1» . «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» : ما تجمّل بالعرش، ولكن تعزّز العرش بأنّه أضافه إلى نفسه إضافة خصوصية. والكريم الحسن، والكرم نفى الدناءة. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 117] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) حسابه على الله فى آجله. وعذابه من الله له فى عاجله، وهو الجهل الذي أودع قلبه حتى رضى بأن يعبد معه غيره. وقولهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» كلام   (1) معنى هذه العبارة أنه لا يجب على الله شىء فى إحسانه لعباده، فهو إذا أحسن إليهم فهذا من فضله، وليس نتيجة وجوب على الله أو حق للعبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 حاصل من غير دليل عقل، ولا شهادة خبر أو نقل، فما هو إلا إفك وبهتان، وقول ليس يساعده برهان. قوله جل ذكره: [سورة المؤمنون (23) : آية 118] وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) اغفر الذنوب، واستر العيوب، وأجزل الموهوب. وارحم حتى لا تستولى علينا هواجم التفرقة ونوازل الخطوب. والرحمة المطلوبة بالدعاء من صنوف النعمة، ويسمى الحاصل بالرحمة باسم الرحمة على وجه التوسع وحكم المجاز «1» . السورة التي يذكر فيها النور قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. بسم الله اسم نذير الوفاة فرقته، اسم بشير الحياة وصلته، اسم سبب الرّوح عرفانه، اسم راحة الرّوح إحسانه، اسم كمال الأنس إقباله، اسم، فتنة قلوب المهيّمين جماله، اسم من شهده دامت سلامته، اسم من وجده قامت قيامته، اسم لا إليه حظوة، ولا بدونه سلوة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) سورة هى شرف لك- يا محمد- أنزلناها لأن أقلّ ما ورد به التحدي سورة «2» فكلّ سورة شرف له عليه السلام لأنها له معجزة، بيّناها وشرعنا فيها من الحلال والحرام، وبيّنا (فيها من الأحكام ما) «3» لكم به اهتداء، وللقلوب من غمرة الاستعجام شفاء. أنزلنا فيها آيات بينات، ودلائل واضحات، وحججّا لائحات لتتذكروا تلك الآيات، وتعتبروا بما فيها من البراهين والبينات.   (1) لأن الرحمة- فى الأصل- وصف للذات، والنعمة من صفات الفعل. (2) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة البقرة: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» ، وإلى قوله تعالى فى سورة يونس: «قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» . (3) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 2] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) والعقوبة على الزنا شديدة أكيدة، ولكن جعل إثبات أمره وتقرير حكمه والقطع بكونه على أكثر الناس خصلة عسيرة بعيدة إذ لا تقبل الشهادة عليه حتى يقول: رأيت ذلك منه فى ذلك منها! وذلك أمر ليس بالهّين، فسبحان من أعظم العقوبة على تلك الفعلة الفحشاء، ثم جعل الأمر فى إثباتها بغاية الكدّ والعناء! وحين اعترف واحد له بذلك قال له صلى الله عليه وسلّم: لعلّك قبّلت.. لعلّك لا مست، وقال لبعض أصحابه: «استنكهوه» «1» وكلّ ذلك روما لدرء الحدّ عنه، إلى أن ألحّ وأصرّ على الاعتراف. قوله جل ذكره: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ما يأمر به الحقّ فالواجب مقابلته بالسمع والطوع. والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود، فأمّا ما يقتضيه الطّبع والعادة والسوء فمذموم غير محمود. ونهى عن الرحمة على من خرق الشرع، وترك الأمر، وأساء الأدب، وانتصب فى مواطن المخالفة. ويقال نهانا عن الرحمة بهم، وهو يرحمهم بحيث لا يمحو عنهم- بتلك الفعلة الفحشاء- رقم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» «2» ولولا رحمته لما استبقى عليه حلّة إيمانه مع قبيح جرمه وعصيانه.   (1) وردت الإشارة إلى حادث «ما عز» في هامش سبق، وقوله «استنكهوه» اى ابحثوا هل فى فمه ريح الخمر، وبعدها سأله النبي للمرة الأخيرة «أزتيت؟ فقال نعم. فأمر به فرجم» صحيح مسلم ط أولى سنة 1930 م المصرية بالأزهر ج 11 ص 199. (2) عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أنهما قالا: عن أبى هريرة أن النبي (ص) قال (لا يزنى ... ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) صحيح مسلم ج 2 ص 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 قوله جل ذكره: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليكون عليهم أشدّ، وليكون تخويفا لمتعاطى ذلك الفعل، ثم من حقّ الذين يشهدون ذلك الموضع أن يتذكروا عظيم نعمة الله عليهم أنهم لم يفعلوا مثله، وكيف عصمهم من ذلك. وإن جرى منهم شىء من ذلك يذكروا عظيم نعمة الله عليهم كيف ستر عليهم ولم يفضحهم، ولم يقمهم فى الموضع الذي أقام فيه هذا المبتلى به. وسبيل من يشهد ذلك الموضع ألّا يعيّر صاحبه بذلك، وألا ينسى حكم الله تعالى فى إقدامه على جرمه. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) الناس أشكال فكلّ نظير «1» مع شكله، وكلّ يساكن شكله، وأنشدوا: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدى فأهل الفساد الفساد يجمعهم- وإن تباعد مزارهم (وأهل السداد السداد يجمعهم- وإن تناءت ديارهم) «2» قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 4] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين، ولئلا يهتكوا أستار الناس أمر بتأديبهم، وإقامة الحدّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.   (1) هكذا فى ص وهى فى م (وكل طير..) وربما كانت (وكلّ يطير) أو (فكل طير) ، والمثل يقول: (الطيور على أشكالها تقع) . (2) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى س. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 ثم بالغ فى عدد الشهود، وألّا تقبل تلك الشهادة إلّا بالتضرع التام، ثم أكمله بقوله «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» . وفى الخبر المسند قوله عليه السلام: «من أتى منكم بشىء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنّ من أبدى لنا صفحته، أقمنا عليه حدّ الله» «1» قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 5] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) جعل من شرط قبول شهادته صحّة توبته، وجعل علامة صحة توبته إصلاحه، فقال: «وَأَصْلَحُوا» ، وهو أن تأتى على توبته مدة تنشر فيها بالصلاح صفته، كما اشتهرت بهتك أعراض المسلمين قالته.. كلّ هذا تشديدا لمن يحفظ على المسلمين ظاهر صلاحه. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 6] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) لمّا ضاق الأمر على من رأى أهله على فاحشة، إذ أن فى ذلك قبول نسب غير صحيح- فقد نهى الشرع عن استلحاقه ولدا من غيره. وكان أمرا محظورا هتك عرض المرأة والشهادة عليها بالفحشاء، إذ يجوز أن يكون الأمر فى المعيب أي بخلاف ما يدّعيه الزوج. ولأن ذلك أمر ذو خطر شرع الله حكم اللّعان «2» ليكون للخصومة قاطعا، وللمقدم على   (1) رواه البيهقي والحاكم عن ابن عمر بإسناد جيد بلفظ: «اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بشىء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» (ص 155 ج 1 فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوى الطبعة الأولى سنة 1356 هـ) . (2) اللعان فى الشريعة أن يقسم الزوج أربع مرات على صدقه فى قذف زوجته بالزنا، والخامسة باستحقاقه لعنة الله إن كان كاذبا وبذا يبرأ من حدّ القذف. ثم تقسم الزوجة أربع مرات على كذبه، والخامسة باستحقاقها غضب الله إن كان صادقا فتبرأ من حد الزنا. وقد نزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال وجدت على بطن امرأتى خولة شريك بن سحماء فكذبته، فلا عن النبي (ص) بينهما. فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا- وهما من أهل الشهادة- صح اللعان بينهما، واختلف الفقهاء هل تقع الفرقة بينهما بالتلاعن أم بتفريق القاضي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 الفاحشة زاجرا، ففى مثل هذه الأحوال عنها خرجة «1» . ولولا أنّ الله على كل شىء قدير وإلا ففى عادة الناس. من الذي يهتدى لمثل هذا الحكم لولا تعريف سماوى وأمر نبوى، من الوحى متلقّاه «2» ، ومن الله مبتداه وإليه منتهاه؟ قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 10] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) ... لبقيتم فى هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 11] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) هذا قصة عائشة رضى الله عنها، وما كان من حديث الإفك. بيّن الله- سبحانه- أنه لا يخلى أحدا من المحنة والبلاء، فى المحبة والولاء فالامتحان من أقوى أركانه وأعظم برهانه وأصدق بيانه، كذلك قال صلى الله عليه وسلم «يمتحن الرجل على قدر دينه» ، وقال: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» «3» . ويقال إنّ الله- سبحانه- غيور على قلوب خواصّ عباده، فإذا حصلت مساكنة بعض إلى بعض يجرى الله ما يردّ كلّ واحد منهم عن صاحبه، ويردّه إلى نفسه، وأنشدوا: إذا علقت روحى بشىء، تعلّقت ... به غير الأيام كى تسلبنّيا وإن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا قيل له: أي الناس أحب إليك؟   (1) الخرجة هى الخروج والخلاص من أمر شديد. (2) هكذا فى ص وهى فى م (مستفاد) وكلاهما صحيح، ولكن الأولى أقوى مراعاة للموسيقى اللفظية، وربما كانت (مستقاه) . (3) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ... وقد سبق تخريج هذا الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 قال: عائشة. فساكنها. وفى بعض الأخبار أن عائشة قالت: «يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك» .. فأجرى الله حديث الافك حتى ردّ قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها إلى الله، وردّ قلب عائشة عنه إلى الله حيث قال- لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك كشف الله عنها به تلك المحقة، وأزال الشكّ، وأظهر صدقها وبراءة ساحتها. ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنّ المؤمن ينظر بنور الله» «1» ، فإذا كانت الفراسة صفة المؤمن فأولى الناس بالفراسة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تظهر له بحكم الفراسة براءة ساحتها، حتى كان يقول: «إن فعلت فتوبى» . والسبب فيه أنه فى أوقات البلاء يسدّ الله على أوليائه عيون الفراسة إكمالا للبلاء. وكذلك إبراهيم- عليه السلام- لم يميّز ولم يعرف الملائكة حيث قدّم إليهم العجل الحنيذ، وتوهمهم أضيافا. ولوط عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة إلى أن أخبروه أنهم ملائكة. ويقال إنه كان- صلى الله عليه وسلم- يقول لعائشة: «يا حميراء» . فلما كان زمان الإفك، وأرسلها إلى بيت أبويها، واستوحش الأبوان معها، ومرضت عائشة- رضى الله عنها- من الحزن والوجد، كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى واحدا من دار أبى بكر يقول: كيف بيتكم؟ لا عائشة ولا حميراء! فما كان يطيب بالتغافل عنها، فتعبيره- إن لم يفهم بالتصريح- فيفقه بالتلويح. ثم إنه- سبحانه- قال: «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» : فبمقدار جرمهم احتمل كلّ واحد ما يخصّه من الوزر. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 12] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)   (1) الترمذي والطبراني، الترمذي من حديث أبى سعد، والطبراني وأبو نعيم بسند حسن عن أنس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وبسط ألسنتهم بالسوء عنها، وتركهم الإعراض عن حرم النبي صلى الله عليه. ثم قال: وهلّا جاءوا على ما قالوا بالشهداء؟ وإذا لم يجدوا ذلك فهلّا سكتوا عن بسط اللسان؟ قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 14] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) لأنه أخبر أن جرمهم- وإن كان عظيما- فإنه فى علم الله عنهم غير مؤثّر، ولولا أن الله- سبحانه- ينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه فلعلّه لم يذكر هذه المبالغة فى أمرهم فإنّ الذي يقوله الأجانب والكفار فى وصف الحق- سبحانه- بما يستحيل وجوده وكونه يوفى ويربى على كل سوء- ثم لا يقطع عنهم أرزاقهم، ولا يمنع عنهم أرفاقهم، ولكن ما تتعلّق به حقوق أوليائه- لا سيما حق الرسول صلى الله عليه وسلم- فذاك عظيم عند الله. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 15] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) بالغ فى الشكاية منهم لما أقدموا عليه بما تأذّى به قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقلوب جميع المخلصين من المسلمين. ثم قال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة، ولا يستصغر فى الخلاف زلّة فإنّ تعظيم الأمر تعظيم للآمر. وأهل التحقيق لا ينظرون ما ذلك الفعل ولكن ينظرون من الآمر به. ويقال: يسير الزّلّة- يلاحظها العبد بعين الاستحقار- فتحبط كثيرا من الأحوال، وتكدّر كثيرا من صافى المشارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 واليسير من الطاعة- ربما يستقلّها العبد- ثم فيها نجاته ونجاة عالم معه. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 16] وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) استماع الغيبة نوع من الغيبة، بل مستمع الغيبة شرّ المغتابين إذ بسماعة يتمّ قصد صاحبه. وإذا سمع المؤمن ما هو سوء قالة فى المسلمين- مما لا صحّة له فى التحقيق- فالواجب الردّ على قائله، ولا يكفى فى ذلك السكوت دون النكير، ويجب ردّ قائله بأحسن نصيحة، وأدقّ موعظة، ونوع تشاغل عن إظهار المشاركة له فيما يستطيب من نشره من إخجال لقائله موحش، فإن أبى إلا انهما كا فيما يقول فيرد عليه بما أمكن لأنه إن لم يستح فائله من قوله فلا ينبغى أن يستحى المستمع من الرّدّ عليه «1» . قوله جل ذكره [سورة النور (24) : آية 17] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) يتعلّق هذا بأنّ من بسط لسانه فى عائشة- رضى الله عنها- بعد ذلك لم يكن مؤمنا لظاهر هذه الآية، (ولعمرى قائل ذلك مرتكب كبيرة ولكن لا يخرج عن الإيمان بذلك) «2» أي ينبغى للمؤمن ألا يتكلم فى هذا، وهذا كما يقول القائل: «إذا كنت أخى فواسنى عند شدّتى فإن لم تواسنى لم تخرج عن الأخوّة بذلك» .. ومعنى هذا القول أنّه ينبغى للأخ أن يواسى أخاه فى حال عثرته، وترك ذلك لا يبطل النّسب. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 19] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)   (1) فى هذه الوصية تتجلى نزعة القشيري فيما يمكن أن نسميه (آداب السلوك) ونزمع بعون الله أن نتجز بحثا شاملا عن «علم الأخلاق عند الصوفية» . (2) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م، والعبارة هامة فى توضيح الرأى فى مرتكب الكبيرة، ورد على من يلصقون وصمة الكفر- دون حساب- بالكثير من الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 هؤلاء فى استحقاق الذمّ أقبح منزلة، وأشدّ وزرا حيث أحبوا افتضاح المسلمين، ومن أركان الدين مظاهرة المسلمين، وإعانة أولى الدّين، وإرادة الخير لكافة المؤمنين. والذي يودّ فتنة للمسلمين فهو شرّ الخلق، والله لا يرضى منه بحاله، ولا يؤهله لمنال خلاصة التوحيد. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 20] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) كرّر قوله: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ..» ليبيّن للجميع أنّ حسن الدفع عنهم كان بفضله ورحمته وجميل المنح لهم، وكلّ يشهد حسن المنح ويشكر عليه، وعزيز عبد يشهد حسن الدفع عنه فيحمده على ذلك «1» . قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) إذا تنقى القلب عن الوساوس، وصفا عن الهواجس بدت فيه أنوار الخواطر، فإذا سما وقت العبد عن ذلك سقطت الخواطر، وبدت فيه أحاديث الحق- سبحانه- كما قال فى الخبر: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر» . وإذا كان الحديث منه فذلك يكون تعريفا يبقى مع العبد، ولا يكون فيه احتمال ولا إشكال ولا إزعاج، وصاحبه يجب أن يكون أمينا، غير مظهر لسرّ ما كوشف به «2» قوله جل ذكره: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ   (1) أي يكثر فى الحياة من يشكر على نعمة المنح ويقل من يشكر على نعمة الدفع لأن الأولى تجرى بأثر ملموس، والثانية تجرى ولا يكاد يشعر بها المرء. (2) هنا نجد القشيري يطالب بالكتمان دون الإفصاح ففى الكتمان حفظ للأمانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 ردّهم فى جميع أحوالهم إلى مشاهدة ما منّ الحقّ في قسمى النفع والدفع، وحالتى العسر واليسر، والزّكى «1» من الله، والنّعمى من الله، والآلاء من الله، قال تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» . قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) تحرّك فى أبى بكر عرق من البشرية فى وصف الانتقام من مسطح «2» حين شرع وخاض فى ذلك الحديث، وكان فى رفق أبى بكر فقطع عنه ذلك، وأخبر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- وانتظر الأمر من الله فى ذلك، فأنزل الله تعالى: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ..» فلم يرض من الصديق رضى الله عنه أن يتحرك فيه عرق من الأحكام النفسية والمطالبات البشرية، فأعاد أبو بكر له ما كان يفعله فى ماضى أيامه. والإحسان إلى المحسن مكافأة، وإلى من لا يسىء ولا يحسن فضل، وإلى الجاني فتوّة وكرم «3» ، وفى معناه أنشدوا: وما رضوا بالعفو عن كلّ زلة ... حتى أنالوا كفّه وأفادوا قوله: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» : العفو والصفح بمعنى، فكررهما تأكيدا. ويقال العفو فى الأفعال، والصفح فى جنايات القلوب «4» .   (1) الزكي والزكاء- النماء والزيادة، وزكى الشيء- أصلحه وظهره. (2) مسطح ابن خالة أبى بكر، وكان مسكينا، بدريا مهاجرا، كان ينفق عليه أبو بكر، فلما قرأ الرسول عليه الآية قال: بلى: أحب أن يغفر الله لى، ورد إلى مسطح نفقته رغم ما خاض فى عائشة رضى الله عنها. (3) يمكن أن يضاف هذا الشاهد إلى الباب الذي عقده القشيري «للفتوة» في رسالته. (4) نعرف عن القشيري أنه لا يتحمس كثيرا للقول بأن بالقرآن تكرارا، لأجل ذلك نراه يسرع إلى التمييز بين العفو والصفح عقيب ذكره أنهما بمعنى. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 قوله جل ذكره: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا من كمال تلطفه- سبحانه. وفى الخبر: أن الله لما أنزل هذه الآية قال أبو بكر- رضى الله عنه: «بلى، أحبّ يا رب» ، وعفا عن مسطح. وإن الله لا يغادر فى قلوب أوليائه كراهة من غيرهم، وأنّى بالكراهة من الخلق والمتفرّد بالإيجاد الله؟! وفى معناه أنشدوا: ربّ رام لى بأحجار الأذى ... لم أجد بدّا من العطف عليه فعسى أنّ يطلع الله على ... قدح القوم فيدنينى إليه قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 23] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) بالغ فى توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة فى شأنهم. ووصف المحصنات بالغفلة: أي بالغفلة عما ينسبن إليه فليس الوصف على جهة الذمّ، ولكن لبيان تباعدهن عمّا قيل فيهن. واستحقاق القذفة للعنة- فى الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام «1» . قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 24] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا من غير اختيار منهم، ثم كما تشهد بعض أعضائهم عليهم تشهد بعض أعضائهم لهم، فالعين كما تشهد: أنه نظر بي، تشهد بأنه بكى بي.. وكذلك سائر الأعضاء.   (1) عن ابن عباس رضى الله عنه: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض فى أمر عائشة. وهذا تعظيم ومبالغة في أمر الإفك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 ويقال شهادة الأعضاء فى القيامة مؤجّلة، وشهادتها فى المحبة اليوم معجّلة من صفرة الوجه إذا بدا المحبوب، وشحوب اللون، ونحافة الجسم، وانسكاب الدموع، وخفقان القلب، وغير ذلك. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 25] يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) يجازيهم على قدر استحقاقهم للعابدين بالجنان والمثوبة على توفية أعمالهم، وللعارفين بالوصلة والقربة على تصفية أحوالهم فهؤلاء لهم علوّ الدرجات، وهؤلاء لهم الأنس بعزيز المشاهدات ودوام المناجاة. «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» : فتصير المعرفة ضرورية فيجدون المعافاة من النّظر وتذكّره، ويستريح القلب من وصفي تردّده وتغيّره: (لاستغنائه ببصائره عن تبصّره) «1» . ويقال لا يشهدون غدا إلا الحقّ فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يبيّن لهم أسرار التوحيد وحقائقه، ويكون القائم عنهم، والآخذ لهم منهم من غير أن يردّهم إليهم. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) «الْخَبِيثاتُ» : من الأعمال وهى المحظورات «لِلْخَبِيثِينَ» : من الرجال المؤثرين لها طوعا، والذين يجنحون إلى مثل تلك الأعمال فهم لها، كلّ مربوط بما يليق به فالفعل لائق بفاعله، والفاعل بفعله فى الطهارة والقذارة، والنفاسة والخساسة، والشرف والسّرف. ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأحوال وهى الحظوظ والمني والشهوات لأصحابها والساعين لها. والساعون لمثلها لها، غير ممنوع أحدهما من صاحبه، فالصفة للموصوف ملازمة، والموصوف لصفته ملازم.   (1) هكذا فى النسختين، ويكون مراد القشيري أنه لم يعد مجال للتبصر فقد أصبح الشهود عيانا، وتحققت لهم الرؤية البصرية التي لم ينالوها فى الدنيا، ونفهم أن القشيري لا يرى الرؤية العيانية إلا فى الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأشياء للخبيثين من الأشخاص، وهم الراضون بالمنازل السحيقة ... وإنّ طعام الكلاب الجيف. ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأموال- وهى التي ليست بحلال- لمن بها رتبته، وعليها تعتكف همّته فالخبيثون من الرجال لا يميلون إلّا لمثل تلك الأموال، وتلك الأموال لا تساعد إلا مثل أولئك الرجال. قوله جل ذكره: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ. «الطَّيِّباتُ» : من الأعمال هى الطاعات والقرب للطيبين، والطيبون هم المؤثرون لها والساعون فى تحصيلها. «وَالطَّيِّباتُ» : من الأحوال- وهى تحقيق المواصلات بما هو حقّ الحق، مجرّدا عن الحظوظ- «لِلطَّيِّبِينَ» من الرجال، وهم الذين سمت همّتهم عن كلّ مبتذل خسيس، ولهم نفوس تسمو إلى المعالي، وهى التجمّل بالتذلل لمن له العزّة. ويقال الطيبات من الأموال- وهى التي لا نكير للشرع عليها، ولا منّة لمخلوق فيها- للطيبين من الرجال، وهم الأحرار الذين تخلّصوا من رقّ الكون. ويقال «الطَّيِّباتُ» من الأشخاص وهن المبرّات من وهج الخطر، المتنقيات عن سفساف أخلاق البشرية، وعن التعريج فى أوطان الشهوات- «لِلطَّيِّبِينَ» من الرجال الذين هم قائمون بحقّ الحقّ لا يصحبون الخلق إلا للتعفّف، دون استجلاب الشهوات. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لهم مغفرة فى المآل، ورزق. كريم فى الحال وهو ما ينالون من غير استشراف، ولا تطلب طمع، ولا ذلّ منّة «1» ، ولا تقديم تعب «2» . قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)   (1) أي (منّة) من مخلوق. (2) (التعب) الذي ينشأ عن الاستعجال وعدم التفويض ونقص الثقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 الخواص لا يرون لأنفسهم ملكا يتفردون به لا من الأموال المنقولة ولا من المساكن التي تصلح لأن تكون مدخولة، فمن فاتحهم بشىء منها فلا يكون منهم منع ولا زجر، ولا حجب لأحد ولا حظر.. هذا فيما نيط بهم. أمّا فيما ارتبط بغيرهم فلا يتعرّضون لمن هى فى أيديهم لا باستشراف طمع، ولا بطريق سؤال، ولا على وجه انبساط «1» . فإن كان حكم الوقت يقتضى شيئا من ذلك فالحقّ يلجىء من فى يده الشيء ليحمله إليه بحكم التواضع والتقرّب، والولىّ يأخذ ذلك بنعت التعزّز، ولا يليق معنى ذلك إلا بأحوال تلك القصة «2» ، وأنشد بعضهم فى هذا المعنى: وإنى لأستحى من الله أن أرى ... أسير بخيل ليس منه بعير وأن أسأل المرء اللئيم بعيره ... وبعران ربّى فى البلاد كثير قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 28] فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) فى هذا حفظ أمر الله وحفظ حرمة صاحب الدار لأنّ من دخلها بغير إذن صاحبها ربما تكون فيها عورة منكشفة، وربما يكون لصاحب الدار أمر لا يريد أن يطّلع عليه غيره، فلا ينبغى أن يدخل عليه من غير استئذان. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.   (1) يقول السرى السقطي فى مثل هذا السياق: «أعرف طريقا مختصرا قصدا إلى الجنة. فقيل له ما هو؟ فقال: لا تسأل من أحد شيئا. ولا تأخذ من أحد شيئا، ولا يكن معك شىء تعطى منه أحدا «الرسالة ص 11» . (2) أي بأرباب الطريق الصوفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 إن قيل لكم: ارجعوا.. فارجعوا فقد تكون الأعذار قائمة، وصاحب الملك بملكه أولى. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 29] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) رفع الله الجناح والحرج فى الانتفاع بما لا يستضرّ به صاحبه بغير إذنه كدخول أرض للداخل فيها أغراض لقضاء حاجته- ولا يجد طريقا غير ذلك- إذا لم يكن فى دخوله ضرر على صاحبها، وجرى هذا مجرى الاستظلال بظلّ حائط إذا لم يكن قاعدا فى ملكه، وكالنظر فى المرآة المنصوبة فى جدار غيره.. وكل هذا إنما يستباح بالشرع دون قضية العقل- على ما توهمه قوم. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 30] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) : «يَغُضُّوا» : من أبصار الظواهر عن المحرّمات، ومن أبصار القلوب عن الفكر الرّدّية، ومن تصوّر الغائبات عن المعاينة» ، ولقد قالوا: إنّ العين سبب الحين، وفى معناه أنشدوا: وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك- يوما- أتعبتك المناظر وقالوا: من أرسل طرفه اقتضى حتفه. وإن النظر إلى الأشياء بالبصر يوجب تفرقة القلوب. ويقال إن العدوّ إبليس يقول: قوسى القديم وسهمى الذي لا يخطىء النظر. وأرباب   (1) ربما يقصد القشيري أن ينهى عن إقحام فكرة النظر بالعين فى الأمور الغيبية، وبمعنى آخر النهى عن إخضاع كل شىء للحس، فطبيعة الغيبيات تختلف عن ذلك وإلا كنت كمن يحاول عبور الماء فوق جواد، أو يعبر اليابسة وهو فى سفينة- على حد تعبير جلال الدين الرومي فى سياق مماثل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 المجاهدات إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المحسّات- وهذا أصل كبير لهم فى المجاهدة فى أحوال الرياضة «1» . ويقال قرن الله النهى عن النظر إلى المحارم بذكر حفظ الفرج فقال: «وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» تنبيها على عظم خطر النظر فإنه يدعو إلى الإقدام على الفعل. ويقال قوم لا ينظرون إلى الدنيا وهم الزّهّاد، وقوم لا ينظرون إلى الكون وهم أهل العرفان، وقوم هم أهل الحفاظ والهيبة كما لا ينظرون بقلوبهم إلى الأغيار لا يرون نفوسهم أهلا للشهود، ثم الحق- سبحانه- يكاشفهم من غير اختيار منهم أو تعرّض أو تكلف. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 31] وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) المطالبة عليهن كالمطالبة على الرجال لشمول التكليف للجنسين، فالواجب عليهن ترك المحظورات، والندب والنّفل لهن صون القلب عن الشواغل والخواطر الردية، ثم إن ارتقين عن هذه الحالة فالتعامى بقلوبهن عن غير المعبود، والله يختص برحمته من يشاء. قوله: «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» : ما أباح الله- سبحانه- على بيان مسائل الفقه فمستثنّى من الحظر، وما وراء ذلك فالواجب عليهن حفظ أنفسهن عن العقوبات فى الآجل، والتصاون عن أن يكون سببا لفتنة قلوب عباده. والله سبحانه كما يحفظ أولياءه عما يضرهم فى الدّين يصونهم عما يكون سببا لفتنة غيرهم، فإن لم يتصل منهم نفع بالخلق فلا تصيب أحدا بهم فتتة. وفى الجملة ما فيه زينة العبد لا يجوز إظهاره فكما أنّ للنساء عورة ولا يجوز لهن إبداء زينتهن فكذلك من أظهر للخلق ما هو زينة سرائره «2» من صفاء أحواله، وزكاء أعماله   (1) سقطت (الرياضة) من النسخة ص. (2) هنا يجدد القشيري رأيه بدقة فى قضية الإفصاح والكتمان. فالأصل عنده الكتمان، فإذا افصح العبد فلا يكون ذلك إلّا لاضطرار ويكون عندئذ غير مؤاخذ لأنه بعيد عن التعمل والتكلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 انقلب زينه شينا، إلا إذا ظهر على أحد شىء- لا بتعمله ولا بتكلّفه- فذلك مستثنى لأنه غير مؤاخذ بما لم يكن بتصرفه وتكلفه، فذوات المحارم على تفصيل بيان الشريعة يستثنى حكمهن عن الحظر «1» . قوله جل ذكره: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ تراعى فى جميع ذلك آداب الشرع فى الإباحة والحظر. قوله جل ذكره وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ التوبة الرجوع عن المذمومات من الأفعال إلى أضدادها المحمودة، وجميع المؤمنين مأمورون بالتوبة، فتوبة عن الزّلّة وهى توبة العوام، وتوبة عن الغفلة وهى توبة الخواص. وتوبة على محاذرة العقوبة، وتوبة على ملاحظة الأمر. ويقال أمر الكافة بالتوبة العاصين بالرجوع إلى الطاعة من المعصية، والمطيعين من رؤية الطاعة إلى رؤية التوفيق، وخاصّ الخاصّ من رؤية التوفيق إلى مشاهدة الموفّق. ويقال أمر الكلّ بالتوبة لئلا يخجل العاصي من الرجوع بانفراده. ويقال مساعدة الأقوياء مع الضعفاء- رفقا بهم- من أمارات الكرم. ويقال فى قوله: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» يتبين أنّه أمرهم بالتوبة لينتفعوا هم بذلك، لا ليكون للحقّ- سبحانه- بتوبتهم وطاعتهم تجمّل. ويقال أحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنّه ليس يحتاج إلى التوبة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 32] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)   (1) يصلح هذا نموذجا (للقياس) إن أردنا بحث ما اسميناه (الفقه الصوفي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 إذا كان القصد فى المناكحة التأدب بآداب الشرع يكفى الله ببركاته مطالبات النفس والطبع، وإنما يجب أن يكون القصد إلى التعفّف ثم رجاء نسل يقوم بحقّ الله «1» . قوله: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: يغنيهم الله فى الحال، أولا بالنفس ثم غنى القلب وغنىّ القلب غني عن الشيء، فالغني عن الدنيا أتمّ من الغنى بالدنيا. ويقال إن يكونوا فقراء فى الحال يغنهم الله فى المستأنف والمآل. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 33] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) من تقاصر وسعه عن الإنفاق على العيال فليصبر على مقاساة التحمل فى الحال، فعن قريب تجيبه نفسه إلى سقوط الأرب، أو الحق- سبحانه- يجود عليه بتسهيل السبب من حيث لا يحتسب، ولا تخلو حال المتعفّف عن هذه الوجوه. قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي إن سمحت نفوسكم بإزالة الرّقّ عن المماليك- الذين هم فى الدين إخوانكم- من غير عوض تلاحظون منهم فلن تخسروا على الله فى صفقتكم. وإن أبيتم إلا العوض ودعوا إلى الكتابة، وعلمتم بغالب ظنكم صحة الوفاء بمال الكتابة من قبلهم فكاتبوهم «2» ،   (1) كذلك دعا الأنبياء ربهم حين طلبوا الذرية. (2) المكاتبة أن يقول لمملوكه: «كاتبتك على ألف درهم» مثلا فإن أداها عتق، ومعناها كتبت عليك بالوفاء وكتبت على بالعتق، ويجوز أداء المال حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم لإطلاق الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 ثم تعاونوا على تحصيل المقصود بكل وجه من قدر يحط من مال الكتابة، وإعانة لهم من فروض الزكاة «1» ، وإمهال بقدر ما يحتمل المكاتب ليكون ترفيها له. وإذا كنا فى الشرع مأمورين بكل هذا الرّفق حتى يصل المملوك المسكين إلى عتقه فبالحرىّ أن يسمو الرجاء إلى الله بجميل الظنّ أن يعتق العبد من النار بكثرة تضرعه، وقديم سعيه- بقدر وسعه- من عناء قاساه، وفضل من الله- عن قديم- رجاه «2» . ثم فى الخبر: «إن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم» : والعبد يسعى بجهده ليصل إلى تحرر قلبه، وما دام تبقى عليه بقية من قيام الأخطار وبقية من الاختيار وإرادة شىء من الأغيار فهو بكمال رقّه وليس فى الحقيقة بحرّ.. فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم. قوله جل ذكره: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ. حامل العاصي على زلّته، والداعي له إلى عثرته، والمعين له على مخالفته تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوزر أكثر من غيره، وبعكسه لو كان الأمر فى الطاعة والإعانة على العبادة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 34] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)   (1) إشارة إلى قوله تعالى فى أسهم الزكاة: (وفى الرقاب) وعند الشافعي- رحمه الله- حطوا من بدل الكتابة ربعا. (2) للنسفى كلام لطيف يصلح لتوضيح مقصد القشيري حيث يقول: العابد كالعبد فهو يشترى نفسه من ربه بنجوم مرتبة ليسعى فى فكاك رقبته خوفا من البقاء فى ربقة العبودية وطمعا فى فتح باب الحرية ليسرح فى رياض الجنة، فعليه فى اليوم والليلة خمس، وفى المائتي درهم خمسة، وفى السنة شهر، وفى العمر زورة إشارة إلى الصلاة والزكاة والصوم والحج على الترتيب. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 لم يغادر على وجه الدليل غبرة «1» ، ولم يترك الحقّ- سبحانه- للإشكال محلا بل أوضح المنهاج وأضاء السّراج، وأنار السبيل وألاح الدليل، فمن أراد أن يستبصر فلا يلحقه نصب، ولا يمسّه تعب. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) أي هادى أهل السماوات والأرض، ومنه نورهما. والذي منه الشيء يسمى باسمه الشيء. ومنه نور السماوات والأرض خلقا فنظام السماوات والأرض وإحكامها وترتيبها بوصف إتقانها حاصل بالله تعالى. ويقال نور السماوات والأرض أي منوّرها وخالق ما فيها من الضياء والزينة، وموجد ما أودعها من الأدلة اللائحة. ويقال نوّر الله السماء بنجومها فقال: «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» «2» فكذلك زين القلوب بأنوار هى نور العقل ونور الفهم ونور العلم ونور اليقين ونور المعرفة ونور التوحيد «3» ، فلكلّ شىء من هذه الأنوار مطرح شعاع بقدره فى الزيادة والنقصان. قوله جل ذكره: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. قوله «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ..» : أراد بهذا نور قلب المؤمن وهو معرفته، فشبّه صدره   (1) الغبرة- لطخ الغبار. (2) آية 12 سورة فصلت. (3) نلفت النظر إلى أهمية هذا الترتيب فى توضيح مراحل المعرفة عند الصوفية وهى تتدرج فى الضياء من السراج إلى النجم إلى القمر إلى البدر إلى الشمس إلى شمس الشموس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 بالمشكاة، وشبّه قلبه فى صدره بالقنديل فى المشكاة، وشبّه القنديل- الذي هو قلبه- بالكوكب الدرىّ، وشبه إمداده بالمعرفة بالزيت الصافي الذي يمدّ السراج فى الاشتعال. ثم وصف الزيت بأنّه على كمال إدراك زيتونه من غير نقصان أصابه، أو خلل مسّه. ثم وصف ذلك الزيت- فى صفوته- بأنه بحيث يكاد يضىء من غير أن تمسّه نار. ويقال إن ضرب المثل لمعرفة المؤمن بالزيت أراد به شريعة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ودينه الحنيفي، فما كان يهوديا- وهم الذين قبلتهم إلى جانب المغرب، ولا نصرانيا- وهم الذين قبلتهم فى ناحية المشرق. وقوله: «نُورٌ عَلى نُورٍ» : نور اكتسبوه بجهدهم بنظرهم واستدلالهم، ونور وجدوه بفضل الله فهو بيان أضافه إلى برهانهم، أو عيان أضافه إلى بيانهم، فهو نور على نور. ويقال أراد به قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- ونور معرفته موقد من شجرة هى إبراهيم عليه السلام، فهو صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم. قوله: «لا شَرْقِيَّةٍ» بحيث تصيبه الشمس بالعشي دون الغداة، ولا غربية بحيث تصيبه الشمس بالغداة دون العشى، بل تصيبه الشمس طول النهار ليتمّ نضج زيتونه، ويكمل صفاء زيته. والإشارة فيه أنه لا ينفرد خوف قلوبهم عن الرجاء فيقرب من اليأس، ولا ينفرد رجاؤهم عن الخوف فيقرب من الأمن، بل هما يعتدلان فلا يغلب أحدهما الآخر تقابل هيبتهم أنسهم، وقبضهم بسطهم، وصحوهم محوهم، وبقاؤهم فناءهم، وقيامهم بآداب الشريعة تحقّقهم بجوامع الحقيقة «1» . ويقال «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» : أي أن هممهم لا تسكن شرقيا ولا غربيا، ولا علويا ولا سفليا، ولا جنيا ولا إنسيا، ولا عرشا ولا كرسيا، سطعت «2» عن الأكوان، ولم تجد سبيلا إلى الحقيقة لأن الحقّ منزّه عن اللحوق والدرك، فبقيت عن الحق منفصلة، وبالحق غير   (1) فالقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه بين طرفى الأحوال حتى يصفو له. (2) هكذا فى م وهى فى ص (شطحت) وربما قبلناها فالسياق لا يرفضها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 متصلة «1» وهذه صفة الغرباء.. وإن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ويقال نور القلب: ثم موجبه هو دوام الانزعاج فلا يذره يعرّج فى أقطار الكسل، فيصل سيره بسراه فى استعمال فكره، والحقّ يمده: بنور التوفيق حتى لا يصده عن عوارض الاجتهاد شىء من حبّ رياسة، أو ميل لسوء، أو هوادة. فإذا أسفر صبح غفلته، واستمكن النظر من موضعه حصل العلم لا محالة. ثم لا يزال يزداد يقينا على يقين مما يراه فى معاملته من القبض والبسط، والمكافأة والمجازاة فى زيادة الكشف عند زيادة الجهد، وحصول الوجد عند أداء الورد. ثم بعده نور المعاملة، ثم نور المنازلة، ثم متوع نهار المواصلة. وشموس التوحيد مشرقة، وليس فى سماء أسرارهم سحاب ولا فى هوائها ضباب، قال تعالى: «نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» . ويقال نور المطالبة يحصل فى القلب فيحمل صاحبه على المحاسبة، فإذا نظر فى ديوانه، وما أسلفه من عصيانه يحصل له نور المعاينة، فيعود على نفسه باللائمة، ويتجرّع كاسات ندمه، فيرتقى عن هذا باستدامة قصده، والتّنقّى عما كان عليه فى أوقات فترته. فإذا استقام فى ذلك كوشف بنور المراقبة فيعلم أنّه- سبحانه- مطّلع عليه. وبعد هذا نور المحاضرة وهى لوائح تبدو فى السرائر. ثم بعد ذلك نور المكاشفة وذلك بتجلّى الصفات. ثم بعده نور المشاهدة فيصير ليله نهارا، ونجومه أقمارا، وأقماره بدورا، وبدوره شموسا. ثم بعد هذا أنوار التوحيد، وعند ذلك يتحقق التجريد بخصائص التفريد، ثم مالا تتناوله عبارة ولا تدركه إشارة، فالعبارات- عند ذلك- خرس، والشواهد طمس، وشهود الغير عند ذلك محال «2» . عند ذلك: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ» «3» ، و «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وانْفَطَرَتْ..»   (1) هذا نموذج للتصوف الإسلامى الحق الذي لا تشوبة شائبة حلول أو اتحاد أو امتزاج، فالرب رب والعبد عبد، ولا تداخل بينهما. (2) لأنه لا وجود عندئذ للغير والسوي، فقد فنى العبد عن نفسه وعن الغير الله تماما فناء ذوقيا شهوديا، لا فناء طبيعيا كما هو الشأن فى بعض التصوفات الأخرى. (3) سورة التكوير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 فهذه كلها أقسام الكون. وما من العدم لهم صار إلى العدم. القائم عنهم غيرهم، والكائن عنهم سواهم. وجلّت الأحدية وعزّت الصمدية، وتقدّست الديمومية، وتنزهت الإلهية. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 37] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) المساجد بيوته- سبحانه- وإنّ الله أذن أن ترفع الحوائج فيها إليه فيقضيها، ورفع أقدار تلك البيوت على غيرها من الأبنية والآثار. المساجد بيوت العبادة والقلوب بيوت الإرادة فالعابد يصل بعبادته إلى ثواب الله، والقاصد يصل بإرادته إلى الله. ويقال القلوب بيوت المعرفة، والأرواح مشاهد المحبة، والأسرار محالّ المشاهدة. قوله: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ ... » لم يقل: لا يتجرون ولا يشترون ولا يبيعون، بل قال: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فإن أمكن الجمع بينهما فلا بأس- ولكنه كالمتعذر- إلّا على الأكابر الذين تجرى عليهم الأمور وهم عنها مأخوذون «1» . ويقال هم الذين يؤثرون حقوق الحقّ على حظوظ النّفس. ويقال إذا سمعوا صوت المؤذن: حىّ على الصلاة تركوا ما هم فيه من التجارة والبيع، وقاموا لأداء حقه. ويقال هم الخواص والأكابر الذين لا يشغلهم قوله: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» عن التحقق يذكره من غير ملاحظة عوض أو مطالعة سبب. قوله جل ذكره: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ   (1) هذا رأى حاسم فى مدى وجوب السعى من أجل الرزق على طوائف أرباب الأحوال وتقدير لموقف من يعجزون عن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 أقوام ذلك اليوم مؤجّل لهم، وآخرون: ذلك لهم معجّل وهو بحسب ما هم فيه من الوقت فانّ حقيقة الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 38] لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) من رفع الحساب من الوسط يرفع معه الحساب «1» ، ومن هو فى أسر مطالباته فالوزن يومئذ الحقّ. والرزق بغير حساب فى أرزاق الأرواح، فأمّا أرزاق الأشباح فمحصورة معدودة لأن أرزاق الأشباح حظوظ وهى وجود أفضال وفنون نوال. وما حصره الوجود من الحوادث فلا بدّ أن يأتى عليه العدد، وأما مكاشفة الأرواح بشهود الجمال والجلال فذلك على الدوام. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) وقال تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «2» ، وقال: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» «3» . ومن أمّل السراب شرابا فلا يلبث إلا قليلا حتى يعلم أنّه كان تخييلا فالعطش يزداد، والروح تدعو للخروج. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 40] أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)   (1) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة أولئك الذين يعبدون الله لذاته دون حساب فى العلاقة لثواب أو عقاب، ويتأيد ذلك بقوله فى العبارة التالية (ومن هو فى أسر مطالباته..) أي من ابتغى العوض لأنه يكون على حد تعبير رابعة كالأجير السوء. (2) آية 104 سورة الكهف. (3) آية 18 سورة المجادلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 ظلمات الحسبان، وغيوم التفرقة، وليالى الجحد، وحنادس الشّكّ إذا اجتمعت فلا سراج لصاحبها، ولا نجوم، ولا أقمار ولا شموس.. فالويل ثم الويل! قوله: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» : إذا لم يسبق لعبد نور القسمة، ولم يساعده تعلّق فجهده وكدّه، وسعيه وجدّه عقيم من ثمراته، موئس من نيل بركاته. والبدايات غالبة للنهايات فالقبول لأهله غير مجتلب، والردّ لأهله غير مكتسب. وسعيد من سعد بالسعادة فى علمه فى آزاله، وأراد كون ما علم من أفعاله يكون، وأخبر أن ذلك كذلك يكون، ثم أجرى ذلك على ما أخبر وأراد وعلم «1» . وهكذا القول فى الشقاوة فليس لأفعاله علّة، ولا تتوجّه عليه لأحد حجّة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 41] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) التسبيح على قسمين: تسبيح قول ونطق، وتسبيح دلالة وخلق فتسبيح الخلق عام من كل مخلوق وعين وأثر، منه تسبيح خاصّ بالحيوانات، وتسبيح خاص بالعقلاء وهذا منقسم إلى قسمين: تسبيح صادر عن بصيرة، وتسبيح حاصل من غير بصيرة فالذى قرينته البصيرة مقبول، والذي تجرّد عن العرفان مردود. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 42] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)   (1) هذا شرح جميل لفكرة القشيري عن: «الله خالق أفعال العباد» التي هى إحدى أصول عقيدته الكلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 الملك مبالغة من الملك، والملك القدرة على الإيجاد فالمقدورات- قبل وجودها- للخالق مملوكة، كذلك فى أحوال حدوثها بعد عدمها عائدة إلى ما كانت عليه، فملكه لا يحدث ولا يزول ولا يئول شىء منه إلى البطول. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) تعرّف إلى قلوب العلماء بدلالات صنعه فى بديع حكمته، وبما يدل منها على كمال قدرته، وشمول علمه وحكمته، ونفوذ إرادته ومشيئته. فمن أنعم النظر وصل إلى برد اليقين، ومن أعرض بقي فى وهدة الجحد وظلمات الجهل. ترتفع بقدرته بخارات البحر، وتصعد بتسيره «1» وتقديره إلى الهواء وهو السحاب، ثم يديرها إلى سمت يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما فى السحاب من ماء البحر قطرة قطرة ويكون الماء قبل حصول بخارات البحر غير عذب فيقلبه عذبا، ويسحّه السحاب سكبا، فيوصل إلى كلّ موضع قدرا يكون له مرادا معلوما، لا بالجهد من المخلوقين يمسك أو ينزّل، ولا بالحيلة يستنزل على المكان الذي لا يمطره «2» . «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» : وكذلك جميع الأغيار من الرسوم والآثار.. ذلك تقدير العزيز العليم.   (1) ربما كانت فى الأصل (بتيسيره) وكلاهما مقبول فى السياق. [ ..... ] (2) نفى الجهد والحيلة من أمارات الاعتماد على التقدير وإسقاط التدبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 45] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) يريد خلق كلّ حيوان من ماء، يخرج من صلب الأب وتريبة «1» الأمّ. ثم أجزاء الماء متساوية متماثلة، ثم ينقسم إلى جوارح فى الظاهر وجوارح فى الباطن، فيختصّ كلّ عضو وينفرد كل شلو «2» بنوع من الهيئة والصورة، وضرب من الشكل والبنية. ثم اختلاف هيئات الحيوانات فى الريش والصوف والوبر والظفر والحافر والمخلب، ثم فى القامة والمنظر، ثم انقسام ذلك إلى لحم وشحم وجلد وعظم وسنّ ومخّ وعصب وعرق وشعر. فالنظر فى هذا- مع العبرة به- يوجب سجود البصيرة وقوة التحصيل. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 46] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) الآيات بيّنة ولكنّ الله يهدى إليها قوما ويلبّس على آخرين، والذي سدّ بصره أنّى ينفعه طلوع الشمس والنجوم؟ وكذلك الذي سدّت بصيرته أنّى تنفعه شواهد العلوم ودلائل الفهوم؟ وقالوا فى معناه: وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 47] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) .   (1) وردت (تربة) والصواب أن تكون (تريبة) الأم وهى عظمة الصدر مما يلى الترقوتين والجمع ترائب. (2) الشلو- العضو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 يستسلمون فى الظاهر ويقرّون باللسان، ثم المخلص يبقى على صدقه. والذي قال لخوف سيف المسلمين، أو لغرض له آخر فاسد يتولّى بعد ذلك، وينحاز إلى جانب الكفرة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 48] وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) علموا أن افتضاحهم فى حكم نيتهم، فمن علم أنه قاسط فى خصومته لم يطب نفسا بحكمه. وكذلك المريب يهرب من الحقّ، ويجتهد فى الفرار «1» . قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 49] وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) منقادين يميلون مع الهوى، ولا يقبلون حكمه إيمانا. وكذلك شأن المريض الذي يميل بين الصحة والسقم فأرباب النفاق مترددون بين الشك والعلم، فليس منهم نفى بالقطع ولا إثبات بالعلم، فهم متطوّحون فى أودية الشك، وهذا معنى قوله: [سورة النور (24) : آية 50] أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) فلمّا انخرطوا فى سلك التجويز ما حصلوا إلا فى ظلم الشك، ولما لم يكن لهم يقين فى القلب لم يكن معهم لأهل القلوب ذكر. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 51] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) .   (1) ذكر الواحدي فى «أسباب النزول» ص 221 ان هذه الآية نزلت فى بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما فى أرض، فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله (ص) ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا ... إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 الذين إيمانهم حقيقة بحكم التصديق شأنهم قيامهم بإظهار ما ضمنوه من التحقيق. ومن يقابل أمر الله بالطاعة، ويستقبل حكمه بالاستخذاء.. فأولئك هم الصادقون فى الحقيقة، السالكون فى الطريقة، الآخذون بالوثيقة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) أقسموا بالله غاية اليمين، ووعدوا من أنفسهم الطاعة لو أمرهم بالخروج فى المستقبل، فقال: لا تعدوا بما هو معلوم منكم ألا تفوا به فطاعة فى الوقت أولى من تسويف بالوعد. ثم قال: قل يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. فإن أجابوا سعدوا فى الدارين، وأحسنوا إلى أنفسهم. وإن تولّوا عن الإجابة فما أضرّوا إلا بأنفسهم ويكون الندم فى المستقبل عليهم، وسوف يلقون سوء عواقبهم، وليس على الرسل إلا حسن البلاغ. ويوم الحشر يعطى كلّ أحد كتابه، ويعامل بمقتضى حساب نفسه. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وعد الله حقّ وكلامه صدق، والآية تدل على صحة الخلفاء الأربعة لأنه- بالإجماع- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 لم يتقدمهم فى الفضيلة- إلى يومنا- أحد «1» فأولئك مقطوع بإمامتهم، وصدق وعد الله فيهم، وهم على الدين المرضىّ من قبل الله، ولقد أمنوا بعد خوفهم، وقاموا بسياسة المسلمين، والذّبّ عن حوزة الإسلام أحسن قيام. وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين الذين هم أركان الملّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباده، الهادون من يسترشد فى الله إذ الخلل فى أمر المسلمين من الولاة الظّلمة ضرره مقصور على ما يتعلّق بأحكام الدنيا، فأما حفّاظ الدين فهم الأئمة من العلماء وهم أصناف: قوم هم حفّاظ أخبار الرسول عليه السلام وحفّاظ القرآن وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول الرادّون على أهل العناد وأصحاب البدع بواضح الأدلة، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه. وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات وما يتعلق بأحكام المصاهرات وحكم الجراحات والدّيّات، وما فى معانى الأيمان والنذور والدعاوى، وفصل الحكم فى المنازعات وهم فى الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك. وقوم هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وهم فى الدّين كخواصّ الملك وأعيان مجلس السلطان فالدين معمور بهؤلاء- على اختلافهم إلى يوم القيامة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 57] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) إنّ الباطل قد تكون له دولة ولكنها تخييل- وما لذلك بقاء- وأقلّ لبثا من عارض ينشأ عن الغيظ. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)   (1) فى م بعدها (وما بعدهم مختلف فيهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 «1» ضيّق الأمر من وجه ووسّعه من وجه، وأمر بمراعاة الاحتياط وحسن السياسة لأحكام الدين ومراعاة أمر الحرم، والتحرر من مخاوف الفتنة، وإذا كانت الجوانب محروسة صارت المخاوف مأمونة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 60] وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) يحدث تأثير بالمضرّة لبنات الصدور «2» من دواعى الفتنة واستيلاء سلطان الشهوة فإذا سكنت تلك الثائرة سهل الباب، وأبيحت الرّخص وأمنت الفتنة. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إذا جاءت الأعذار سهل الامتحان والاختيار، وإذا حصلت القرابة سقطت الحشمة، وإذا صدقت القرابة انتفت التفرقة والأجنبية فبشهادة هذه الآية إذا انتفت هذه الشروط صحّت المباسطة فى الارتفاق.   (1) ذكر ابن عباس أن الرسول (ص) وجّه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله: وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا فى حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية. وقال مقاتل نزلت فى أسماء بنت مرند حين دخل عليها غلام كبير فى وقت كرهته فشكت إلى رسول الله. فانزل الله هذه الآية. (2) بنات الصدور تعبير بالكناية عن الأسرار والخواطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 ثم قال: «أَوْ صَدِيقِكُمْ» : وعزيز من يصدق فى الصداقة فيكون فى الباطن كما يرى فى الظاهر، ولا يكون فى الوجه كالمرآة ومن ورائك كالمقراض، وفى معناه ما قلت: من لى بمن يثق الفؤاد بودّه ... فإذا ترحّل لم يزغ عن عهده يا بؤس نفسى من أخ لى باذل ... حسن الوفاء بوعده لا نقده يولى الصفاء بنطقه لا خلقه ... ويدسّ صابا فى حلاوة شهده فلسانه يبدى جواهر عقده ... وجنانه تغلى مراجل حقده لاهمّ إنى لا أطيق مراسه ... بك أستعيذ من الحسود وكيده (وقوله: «أَوْ صَدِيقِكُمْ» من تؤمن منه هذه الخصال وأمثالها) «1» . قوله جل ذكره: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ السلام الأمان، وسبيل المؤمن إذا دخل بيتا أن يسلّم من الله على نفسه أي يطلب الأمان والسلامة من الله لتسلم نفسه من الإقدام على ما لا يرضاه الله، إذ لا يحل لمسلم أن يفتر لحظة عن الاستجارة بالله حتى لا يرفع عنه- سبحانه- ظلّ عصمته بإدامة حفظه عن الاتصاف بمكروه فى الشرع «2» . قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)   (1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود فى م. (2) فى هذه الإشارة غمز بأصحاب البدع الذين يرتكبون ما يخالف الشرع بدعوى الوله والانمحاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 شرط الاتباع موافقة المتبوع، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزابا كما قال: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» «1» والعلماء ورثة الأنبياء، والمريدون لشيوخهم كالأّمة لنبيّهم فشرط المريد ألا يتنفّس ينفس إلا بإذن شيخه، ومن خالف شيخه فى نفس- سرّا أو جهرا- فإنه يرى غبّه سريعا فى غير ما يحبّه. ومن خالفة الشيوخ فيما يستسرونه «2» عنهم أشدّ ممّا يظهر بالجهر بكثير لأن هذا يلتحق بالخيانة. ومن خالف شيخه لا يشمّ رائحة الصّدق، فإن بدر منه شىء من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمّا حصّل منه من المخالفة والخيانة، ليهديه شيخه إلى ما فيه كفّارة جرمه، ويلتزم فى الغرامة بما يحكم به عليه. وإذا رجع المريد إلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته فإن المريدين عيال على الشيوخ فرض عليهم أن ينفقوا عليهم من قوّة أحوالهم بما يكون جبرانا لتقصيرهم. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 63] لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أي عظّموه فى الخطاب، واحفظوا فى خدمته الأدب، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. قوله جل ذكره: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «3» أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ   (1) آية 14 سورة الحشر. (2) فى ص (يستبشرونه) وفى م (يستسترونه) ونحن نؤيد هذه حتى تتلاءم مع (ما يظهر بالجهر) فينتظم السياق بها. (3) يقال خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 سعادة الدارين فى متابعة السّنّة، وشقاوة المنزلين فى مخالفة السّنّة. ومن أيسر ما يصيب من خالف سنته حرمان الموافقة، وتعذّر المتابعة بعده، وسقوط حشمة الدارين عن قلبه. قوله جل ذكره: [سورة النور (24) : آية 64] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) «1» «2» إنّ لليوم غدا، ولمّا يفعل العبد حسابا، وسيطالب المكلّف بالصغير والكبير، والنقير والقطمير. سورة الفرقان قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم جليل شهدت بجلاله أفعاله، ونطقت بجماله أفضاله. دلّت على إثباته آياته، وأخبرت عن صفاته مفعولاته. بسم الله اسم عزيز عرفت بفعله قدرته، اسم كريم شهدت بفضله نصرته. بسم الله اسم عزيز عرفه العقلاء بدلالات أفعاله، وعرفه الأصفياء باستحقاقه لجلاله وجماله فبلطف جماله عرفوا جوده، وبكشف جلاله عرفوا وجوده. بسم الله اسمه عزيز من دعاه لبّاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن توسّل إليه أكرمه وآواه، ومن تنصّل إليه «3» رحمه وأدناه، ومن شكا إليه أشكاه «4» ، ومن سأله خوّله وأعطاه.   (1) وفى قراءة (يرجعون) بفتح الياء وكسر الجيم. (2) يروى أن ابن عباس رضى الله عنه قرأ سورة النور على المنبر فى الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت. [ ..... ] (3) تنصل إليه هنا معناها تبرأ من ذنبه وتاب. (4) أشكى أي قبل الشكاة وأعان الشاكي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) يقال برك الطير على الماء إذا دام وقوفه على ظهر الماء. ومبارك الإبل مواضع إقامتها بالليل. وتبارك على وزن تفاعل تفيد دوام بقائه، واستحقاقه لقدم ثبوته وبقاء وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع. وفى التفاسير «تَبارَكَ» أي تعظّم وتكبّر. وعند قوم أنه من البركة وهى الزيادة والنفع، فداومه وجوده، وتكبره ستحقاق ذاته لصفاته العلية، والبركة أو الزيادة تشير إلى فضله وإحسانه ولطفه. فوجوه الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة: ثناء عليه بذكر ذاته وحقّه، وثناء بذكر وصفه وعزّه، وثناء بذكر إحسانه وفضله فكلمة «تَبارَكَ» مجمع الثناء عليه- سبحانه. «الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» وهو القرآن «عَلى عَبْدِهِ» : فأكرمه بأن نبّاه وفضّله، وإلى الخلق أرسله، وبيّن معجزته وأمارة صدقه بالقرآن الذي عليه أنزله، وجعله بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 2] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) تفرّد بالملك فلا شريك يساهمه، وتوحّد بالجلال فلا نظير يقاسمه فهو الواحد بلا قسيم فى ذاته، ولا شريك فى مخلوقاته، ولا شبيه فى حقّه ولا فى صفاته. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 3] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) اتخذوا من دون الله آلهة لا يملكون قطميرا، ولا يخلقون نقيرا، ولا يدفعون عنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 كثيرا ولا يسيرا، ولا ينفعونهم ولا يسهّلون عليهم عسيرا، ولا يملكون لأحد موتا «1» ولا نشورا. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) ظنّوه كما كانوا، ولمّا كانوا بأمثالهم قد استعانوا فيما عجزوا عنه من أمورهم، واستحدثوا لأمثالهم واستكانوا- فقد قالوا من غير حجّة وتقولوا، ولم يكن لقولهم تحصيل، ولأساطير الأولين ترّهاتهم «2» التي لا يدرى هل كانت؟ وإن كانت فلا يعرف كيف كانت ومتى كانت؟ ثم قال: يا محمد، إن هذا الكتاب- الذي أنزله الذي يعلم السّرّ فى السماوات والأرض- لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ولو تشاغلوا «3» من الوقت الذي أتى به أعداء الدين، وهم على كثرتهم مجتهدون فى معارضته بما يوجب مساواته فادّعوا تكذيبه. وانقطعت الأعصار وانقضت الأعمار، ولم يأت أحد بسورة مثله، فانتفى الرّيب عن صدقه، ووجب الإقرار بحقّه. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 10] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)   (1) هكذا فى م وهى في ص (حياة ولا نشورا) والمعنى يتقبلهما أيضا. (2) هكذا فى م وهى في ص (برهانهم الذي ... ) ولكننا آثرنا (ترهانهم) بدليل التأنيث فى (كانت) مكررا. (3) هكذا فى ص وهى فى س (ولو تساعدوا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 «1» لما عجزوا عن معارضته أخذوا يعيبونه بكونه بشرا من جنسهم يمشى فى الأسواق، ويأكل الطعام، وعابوه بالفقر وقالوا: هلّا نزّل عليه الملائكة فيرون عيانا؟ وهلّا جعل له الكنوز فاستكثر مالا؟ وهلّا خصّ بآيات- اقترحوها- فتقطع العذر وتزيل عنّا إشكالا؟! وما هذا الرجل إلا بشر تعتريه من دواعى الشهوات ما يعترى غيره! فأىّ خصوصية له حتى تلزمنا متابعته ولن يظهر لنا حجة؟ فأجاب الله عنهم وقال: إنّ الحقّ قادر على تمليك ما قالوا وأضعاف ذلك، وفى قدرته إظهار ما اقترحوه وأضعاف ذلك، ولكن ليس لهم هذا التخير «2» بعد ما أزيح العذر بإظهار معجزة واحدة، واقتراح ما يهوون تحكّم على التقدير، وليس لهم ذلك. ثم أخبر أنه لو أظهر تفصيل ما قالوه وأضعافه لم يؤمنوا لأن حكم الله بالشقاوة سابق لهم، وقال:   (1) يذكر ابن عباس أنه لم اعبر المشركون محمدا (ص) بالفاقة أقبل رضوان خازن الجنة عليه وقال: يا محمد، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عنده فى الآخرة مثل جناح بعوضة فقال النبي: يا رضوان لا حاجة لى فيها، لأحب إلى أن أكون عبدا صابرا شكورا فقال رضوان: أصبت أصابك الله. ورفع الرسول بصره فإذا منازله فوق منازل الأنبياء وغرفهم فدعا النبي: اللهم اجعل ما أردت أن تعطينى فى الدنيا ذخيرة عندك فى الشفاعة يوم القيامة. (2) يمكن أن تكون (التحيز) لتنسجم مع (ما اقترحوه) ومع (ما يهوون) ولكننا لا نستبعد أن تكون (التحيز) بالحاء لكثرة جدلهم حول ما ينبغى- فى تصورهم- للرسول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 [سورة الفرقان (25) : آية 11] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) فهم فى حكم الله من جملة الكفار، والله أعدّ لهم ولأمثالهم من الكفار وعيد الأبد.. فلا محالة يمتحنون به. قوله: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» : دليل على جواز التكليف بما لا يقدر عليه العبد فى الحال لأنه أخبر أنهم لا يستطيعون سبيلا، وهم معاتبون مكلّفون. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 12] إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) فوحشة النار توجد من مسافة بعيدة قبل شهودها والامتحان بها، ونسيم الجنة يوجد قبل شهودها والدخول فيها، والنار تسجّر منذ سنين قبل المحترقين بها، والجنة تزيّن منذ سنين قبل المستمتعين بها. وكذب من أحال «1» وجودهما قبل كون سكانهما وقطانهما من المنتفعين أو المعاقبين، لأن الصادق أخبر عن صفاتهما التي لا تكون إلا بموجود حيث قال: [سورة الفرقان (25) : الآيات 13 الى 14] وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) راحة الجنة مقرونة بسعتها، ووحشة النار مقرونة بضيقها، فيضيّق عليهم مكانهم، ويضيّق عليهم قلوبهم، ويضيق عليهم أوقاتهم. ولو كانت حياتهم تبطل وكانوا يتخلصون   (1) لهذا الرأى أهميته حيث يرى كثير من المعتزلة أن الجنة والنار لا يوجدان الآن وإنما يوجدان فى الآخرة عند الجزاء، وأجمع المعتزلة- بخلاف جهم وحده- أنهما لا تفنيان ولا يفنى أهلهما، وهم في هذا يتفقون مع الأشاعرة. أما مخالفة جهم لذلك فقد ذكرها الشهرستاني فى (الملل والنحل ج 1 ص 111 ط الخانجى) بدعوى أن تلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها حركات تتناهى مع أن نصوص القرآن صريحة فى دوامهما.. والقشيري الأشعري يصرح بذلك فى الآيات التالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 منها لم يكن البلاء كاملا، ولكنها آلام لا تتناهى، ومحن لا تنقضى كلما راموا فرجة قيل لهم: فلن تريدكم إلا عذابا. قوله جل ذكره [سورة الفرقان (25) : آية 15] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) المتقون أبدا فى النعيم المقيم حور وسرور وحبور، وروح وريحان، وبهجة وإحسان، ولطف جديد وفضل مزيد، وألذّ شراب وكاسات محابّ، وبسط قلب وطيب حال، وكمال أنس ودوام طرب وتمام جذل، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماء فى الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها «1» . ثم فيها ما يشاءون، وهم أبدا مقيمون لا يبرحون، ولا هم عنها يخرجون. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 16] لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) ولكن لا يخلق فى قلوبهم إلا إرادة ما علم أنه سيفعله، فما هو المعلوم لله أنه لا يفعله لا تتعلق به إرادتهم، ويمنع من قلوبهم مشيئته. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 17] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) الله يحشر الكفار ويحشر الأصنام التي عبدوها من دون الله، فيحييها ويقول لها: هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ فيتبرأون.. كلّه تهويل وتعظيم للشأن، وإلا فهو عليم بما كان وما لم يكن. فالأصنام تتبرأ منهم، وتقابلهم بالتكذيب، وهم ينادون على أنفسهم بالخطأ والضلال، فيلقون فى النار، ويبقون فى الوعيد إلى الأبد. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 20] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) :   (1) هذا تنبيه هام جدا لتوضيح حقيقة النعم التي فى الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 أخبر أن الذين تقدّموه من الرسل كانوا بشرا، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهور المعجزات عليهم. وفى الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة، ثم قال: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» . (فضّل بعضا على بعض، وأمر المفضول بالصبر والرضاء، والفاضل بالشكر على العطاء) «1» وخصّ قوما بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصّ قوما بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لمن نعّمه مناقب، ولا لمن امتحنه معايب.. فبحكمه لا يجرمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقداره لا بأوزارهم، وبه لا بهم. قوله: «أَتَصْبِرُونَ؟» استفهام فى معنى الأمر، فمن ساعده التوفيق صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 21] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) «لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» : لا يؤمنون بالحشر والنشر والرجوع إلى الله فى القيامة من الدنيا. وكما كانوا لا يخافون العذاب، ولا ينتظرون الحشر كذلك كانوا لا يؤمنون لقاء الله. فمنّكر الرؤية من أهل القبلة- ممن يؤمن بالقيامة والحشر- مشارك لهؤلاء فى جحد ما ورد به الخبر والنقل لأن النّقل كما ورد بكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان «2» . فالذين لم يؤمنوا قالوه على جهة رؤية المقام لأنفسهم، وأنه مسلم لهم ما اقترحوه من نزول   (1) ما بين القوسين فى م وغير موجود فى ص. (2) يعود القشيري بعد قليل إلى شرح موضوع الرؤية عند تفسيره الآية: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وذلك وإن كان فى القدرة جائزا- إلا أنه لم يكن واجبا بعد إزاحة عذرهم بظهور معجزات الرسول عليه السلام، فلم يكن اقتراح ما قالوه جائزا لهم. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 22] يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) اقترحوا شيئين: رؤية الملائكة ورؤية الله، فأخبر أنهم يرون الملائكة عند التوفّى، ولكن تقول الملائكة لهم: «لا بشرى لكم!» . «حِجْراً مَحْجُوراً» : أي حراما ممنوعا يعنى رؤية الله عنهم، فهذا يعود إلى ما جرى ذكره، وحمله على ذلك أولى من حمله على الجنة، ولم يجر لها هنا ذكر. ثم فيه بشارة للمؤمنين بالرؤية لأنهم يرون الملائكة ويبشرونهم بالجنة، قال تعالى: «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» «1» فكما لا تكون للكفار بشارة بالجنة وتكون للمؤمنين لا تكون الرؤية للكفار وتكون للمؤمنين. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 23] وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) هذه آفة الكفار ضاع سعيهم وخاب جهدهم، وضاع عمرهم وخسرت صفقتهم وانقطع رجاؤهم، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فى لوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال روحهم، وتتأدّى إلى قلوبهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهم: ويتقاصر عن ثنائه نطقهم، حيث يسمعون قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقّ لأجله: «وَقَدِمْنا إِلى ... » فهم إذا سمعوا ذلك وجب لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله: «فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ويقولون: يا ليت   (1) آية 30 سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تقبل منها ذرة وهو يقول بسببها: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ... » ! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدّوا ذلك من أجلّ ما ينالون من الإحسان إليهم «1» ، وفى معناه أنشدوا: سأرجع من حجّ عامى مخجلا ... لأنّ الذي قد كان لا يتقبّل «2» قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 24] أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) أصحاب الجنة هم الراضون بها، الواصلون إليها، والمكتفون بوجدانها، فحسنت لهم أوطانهم، وطاب لهم مستقرّهم. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 26] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) يريد يوم القيامة إذا بدت أهوالها، وظهرت للمبعوثين أحوالها عملوا وتحققوا- ذلك اليوم- أنّ الملك للرحمن، ولم يتخصص ملكه بذلك اليوم، وإنما علمهم ويقينهم حصل لهم ذلك الوقت. ويقال تنقطع دواعى الأغيار، وتنتفى أوهام الخلق فلا يتجدّد له- سبحانه- وصف ولكن تتلاشى للخلق أوصاف، وذلك يوم على الكافرين عسير، ودليل الخطاب يقتضى أنّ ذلك اليوم على المؤمنين يسير وإلا بطل الفرق فيجب ألا يكون مؤمن إلّا وذلك اليوم يكون عليه هينا. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 27 الى 28] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) «3»   (1) هذه إشارة دقيقة غاية الدقة، نأمل أن يفطن إليها القارئ ويستمتع بها. (2) معنى البيت مرتبط بالفكرة الصوفية أن عمل الإنسان لا قيمة له، والأمل كله معقود على الفضل الإلهى، فكلما استصغر العابد عبادته بجانب هذا الفضل شعر بقصوره وارتقى فى التجريد والتفويض منزلة بعد منزلة.. وفى هذا تقول رابعة بعد عبادة ليلة كاملة: إن استغفارنا فى حاجة إلى استغفار. [ ..... ] (3) قيل نزلت هذه الآية فى أبى بن خلف، وقد قتله الرسول (ص) يوم أحد فى مبارزة، وقيل نزلت فى عقبة بن أبى محيط وكان محالفا لأبىّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 يندم الكافر على صحبة الكفار. ودليل الخطاب يقتضى سرور المؤمنين بمصاحبة أخدانهم وأحبائهم فى الله، وأمّا الكافر فيضلّ صاحبه فيقع معه فى الثبور، ولكن المؤمن يهدى صاحبه إلى الرشد فيصل به إلى السرور. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) شكا إلى الله منهم، وتلك سنة المرسلين أخبر الله عن يعقوب- عليه السلام- أنه قال: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ» فمن شكا من الله فهو جاحد، ومن شكا إلى الله فهو عارف واجد. ثم إنه أخبر أنه لم يخل نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم إلا سلّط عليه عدوّا فى وقته، إلا أنّه لم يغادر من أعدائهم أحدا، وأذاقهم وبال ما استوجبوه على كفرهم وغيّهم. قوله جل ذكره: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً. كفى بربك اليوم هاديا إلى معرفته، وغدا نصيرا على رؤيته. ويقال آخر فتنة للمؤمنين ما ورد فى الخبر: أن كل أمة ترى فى القيامة الصنم الذي عبدوه يتبعونه فيحشرون إلى النار، فيلقون فيها ويبقى المؤمنون، فيقال لهم: ما وقفكم؟ فيقولون: إنهم رأوا معبودهم فتبعوه ونحن لم نر معبودنا! فيقال لهم: ولو رأيتموه.. فهل تعرفونه؟ فيقولون: نعم. فيقال لهم: بم تعرفونه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة. فيريهم شيئا فى صورة شخص فيقول لهم: أنا معبودكم فيقولون: معاذ الله.. نعوذ بالله منك! ما عبدناك. فيتجلّى الحقّ لهم فيسجدون له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 32] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) أي إنما أنزلناه متفرقا ليسهل عليك حفظه فإنه كان أميا لا يقرأ الكتب، ولأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل عليه السلام بالرسالة إليه فى كل وقت وكل حين.. وكثرة نزوله كانت أوجب لسكون قلبه وكمال روحه ودوام أنسه «1» ، فجبريل كان يأتى فى كل وقت بما كان يقتضيه ذلك الوقت من الكوائن والأمور الحادثة، وذلك أبلغ فى كونه معجزة، وأبعد عن التهمة من أن يكون من جهة غيره، أو أن يكون بالاستعانة بمن سواه حاصلا «2» . قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 33] وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) كان الجواب لما يوردونه على جهة الاحتجاج لهم مفحما، ولفساد ما يقولونه موضحا، ولكن الحقّ- سبحانه- أجرى السّنة بأنه لم يزد ذلك للمسلمين إلا شفاء وبصيرة، ولهم إلا عمى وشبهة. ثم أخبر عن حالهم فى مآلهم فقال: [سورة الفرقان (25) : آية 34] الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) يحشرون على وجوههم وذلك أمارة لإهانتهم، وإن فى الخبر: «الذين أمشاهم اليوم»   (1) لأنه كتاب يحمله رسول الحبيب من الحبيب إلى الحبيب. (2) أي أن اتصال القرآن الكريم بحياة الناس وواقع أمورهم آية كونه معجزة بعكس ما يتخرص به المضللون الملحدون الذين يدعون أن محمدا كاتب هذا القرآن، وأنه أوتى ذكاء خارقا كان يجعله يكتب للناس ما يلي احتياجهم ويحل مشاكلهم.. خرست ألسنتهم إن يقولون إلا زورا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 «على أقدامهم يمشيهم غدا على وجوههم» «1» ، وهو على ذلك قادر، وذلك منه غير مستحيل. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 35] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) قلّما يجرى فى القرآن لنبينا- صلى الله عليه وسلم- ذكر إلا ويذكر الله عقيبه موسى عليه السلام. وتكررت قصته فى القرآن فى غير موضع تنبيها على علو شأنه، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور فالتكرير فى الذكر يوجب التفصيل فى الوصف لأن القصة الواحدة إذا أعيدت مرات كثيرة كانت فى باب البلاغة أتمّ لا سيما إذا كانت فى كل مرة فائدة زائدة «2» . ثم بيّن أنه قال لهما: [سورة الفرقان (25) : آية 36] فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) أي فذهبا فجحد القوم فدمرناهم تدميرا «3» أي أهلكناهم إهلاكا، وفى ذلك تسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء، ووعد له بالجميل فى أنه سيهلك أعداءه كلّهم. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 37 الى 40] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) أحللنا بهم العقوبة كما أحللنا بأمثالهم، وعاملناهم بمثل معاملتنا لقرنائهم. ثم عقّب هذه الآيات بذكر عاد وثمود وأصحاب الرّسّ، ومن ذكرهم على الجملة من غير تفصيل، وما أهلك   (1) القسم الأول من الخبر على النحو التالي: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم» قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم فقال عليه السلام: الذين أمشاهم ... (2) يضاف هذا إلى ما سبق أن نبهنا إليه عن موقف القشيري من التكرار. (3) يلقت القشيري نظرنا إلى ما يعرف فى البلاغة بإيجاز الحذف، فقد اكتفى بذكر أول القصة وآخرها وقد أحسن القشيري حين وطأ لذلك بكلام فى القصة الواحدة التي تعاد أكثر من مرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 به قوم لوط حيث عملوا الخبائث ... كل ذلك تطييبا لقلبه صلى الله عليه وسلم، وتسكينا لسرّه، وإعلاما وتعريفا بأنه سيهلك من يعاديه، ويدمّر من يناويه، وقد فعل من ذلك الكثير فى حال حياته، والباقي بعد مضيّه- عليه السلام- من الدنيا وذهابه. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 41] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) كانت تكون له سلوة لو ذكر حالته وشكا إليه قصته، فإذا أخبر الله وقصّ عليه ما كان يلاقيه كان أوجب للسّلوة وأقرب من الأنس، وغاية سلوة أرباب المحن أن يذكروا لأحبائهم ما لقوا فى أيام امتحانهم كما قال قائلهم: يودّ بأن يمشى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله ويهتزّ للمعروف فى طلب العلى ... لتذكر يوما عند سلمى شمائله وأخبر أنهم كانوا ينظرون إليه- عليه السلام- بعين الإزدراء والتصغير لشأنه لأنهم كانوا لا يعرفون قدره، قال تعالى: «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون» «1» . قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 43] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) كانوا يعبدون من الأصنام ما يهوون يستبدلون صنما بصنم، وكانوا يجرون على مقتضى ما يقع لهم. والمؤمن بحكم الله لا بحكم نفسه، وبهذا يتضح الفرقان «2» بين رجل وبين رجل. والذي يعيش على ما يقع له فعابد هواه، وملتحق بالذين ذكرهم الحقّ بالسوء فى هذه الآية. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 44] أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)   (1) آية 198 سورة الأعراف. (2) فرق بين الشيئين فرقا وفرقانا. والفرقان البرهان والحجة، وكل ما فرق به بين الحق والباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 كالأنعام التي ليس لها همّ إلّا فى أكلة وشربة، ومن استجلب حظوظ نفسه فكالبهائم. وإنّ الله- سبحانه- خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم، والبهائم وعلى الهوى فطرهم، وبنى آدم وركّب فيهم الأمرين فمن غلب هواه عقله فهو شرّ من البهائم، ومن غلب عقله هواه فهو خير من الملائكة.. كذلك قال المشايخ. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) قيل نزل الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره وقت القيلولة فى ظل شجرة وكانوا خلقا كثيرا فمدّ الله ظلّ تلك الشجرة حتى وسع جميعهم وكانوا كثيرين، فأنزل الله هذه الآية، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه السلام. وقيل إن الله فى ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرض كلّها ظلا، ثم إذا طلعت الشمس، وانبسط على وجه الأرض شعاعها فكلّ شخص يبسط له ظلّ، ولا يصيب ذلك الموضع شعاع الشمس، ثم يتناقص إلى وقت الزوال، ثم يأخذ فى الزيادة وقت الزوال. وذلك من أمارات قدرة الله تعالى لأنه أجرى العادة بخلق الظلّ والضوء والفيء. قوله: «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» : أي دائما. «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» أي حال ارتفاع الشمس ونقصان الظّلّ. ويقال: ألم تر إلى ربك كيف مدّ ظل العناية على أحوال أوليائه فقوم هم فى ظل الحماية، وآخرون فى ظل الرعاية، وآخرون فى ظل العناية، والفقراء فى ظل الكفاية، والأغنياء فى ظل الراحة من الشكاية. ظل هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم فى الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبى صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» ثم قوله: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» سترا لما كان كاشفة به أولا، إجراء للسّنّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 فى إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام: «لَنْ تَرانِي» . وقال لنبينا عليه السلام: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» وشتان ما هما! ويقال أحيا قلبه بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» إلى أن قال: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» فجعل استقلاله بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» إلى أن سمع ذكر الظل. ويقال أحياه بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» ثم أفناه بقوله: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وكذا سنّته مع عباده يردّدهم بين إفناء وإبقاء. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 47] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) «1» جعل الليل وقتا لسكون قوم ووقتا لانزعاج آخرين فأرباب الغفلة يسكنون فى ليلهم، والمحبون يسهرون فى ليلهم إن كانوا فى روح الوصال، فلا يأخذهم النوم لكمال أنسهم، وإن كانوا فى ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم، فالسّهر للأحباب صفة: إمّا لكمال السرور أو لهجوم الهموم. ويقال جعل النوم للأحباب وقت التجلّى بما لا سبيل إليه فى اليقظة، فإذا رأوا ربّهم فى المنام يؤثرون النوم على السّهر «2» ، قال قائلهم: وإنى لأستغفى وما بي نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا وقال قائلهم: رأيت سرور قلبى فى منامى ... فأحببت التّنعّس والمناما ويقال النوم لأهل الغفلة عقوبة ولأهل الاجتهاد رحمة فإن الحقّ- سبحانه- يدخل عليهم النوم ضرورة رحمة منه بنفوسهم ليستريحوا من كدّ المجاهدة. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 48 الى 49] وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)   (1) السبت- القطع. والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته. وقيل السبات- الموت، والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. وهو كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» ، ويعضده ذكر النشور فى مقابلته. (2) ذكر القشيري فى باب «رؤيا القوم» برسالته أمثلة كثيرة للكرامات التي تحققت للأولياء أثناء نومهم، وكان بعضها ذا تأثير عظيم فى مجرى حيواتهم. (الرسالة ص 192 وما بعدها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 يرسل رياح الكرم فتهب على قلوب ذوى الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارّه، ويرسل رياح الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتكفى بالله لله، ويرسل رياح الخوف على قلوب العصاة فتحملهم على النّدم، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شىء إلا عن اللواعج فلا تستقرّ إلا بالكشف والتجلّى. ويقال إذا تنسّم القلب نسيم القرب هام فى ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود. قوله جل ذكره: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. أنزل من السماء ماء المطر فأحيا به الغياض والرياض، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمة فغسل العصاة ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنّسوا به من الأوزار. و «الطّهور» هو الطاهر المطهّر، وماء الحياء يطهر قلوب العارفين عن الجنوح إلى المساكنات، وما يتداخلها فى بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يحيي به قلوب المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلّى حتى يزول عنها عطش الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيى به نفوسا ميتة باتباع «1» الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات. قوله جل ذكره [سورة الفرقان (25) : آية 51] وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51)   (1) الباء في (باتباع) معناها (بسبب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 إنّ الله- سبحانه- خصّ نبينا صلى الله عليه وسلم بأن فضّله على الكافة، وأرسله إلى الجملة، وبالا ينسخ شرعه إلى الأبد. وبهذه الآية أدّبه بأدقّ إشارة، حيث قال: «وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» وهذا كما قال: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» «1» . وقصد الحقّ أن يكون خواصّ عباده أبدا معصومين عن شواهدهم. وفى القصة أن موسى عليه السلام تبرّم وقتا بكثرة ما كان يسأل، فأوحى الله فى ليلة واحدة إلى ألف نبى من بنى إسرائيل فأصبحوا رسلا، وتفرّق الناس عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام، فضاق قلب موسى وقال: يا رب، إنى لا أطيق ذلك! فقبض الله أرواحهم فى ذلك اليوم. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 52] فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) أي كن قائما بحقّنا من غير أن يكون منك جنوح إلى غيرنا أو مبالاة بمن سوانا، فإنّا نعصمك بكلّ، وجه، ولا نرفع عنك ظلّ عنايتنا بحال. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 53] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) البحر الملح لا عذوبة فيه، والعذب لا ملوحة فيه، وهما فى الجوهرية واحد، ولكنه سبحانه- بقدرته- غاير بينهما فى الصفة، كذلك خلق القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان وبعضها محلّ الشكّ والكفران. ويقال أثبت فى قلوب المؤمنين الخوف والرجاء، فلا الخوف يغلب الرجاء، ولا الرجاء يغلب الخوف.   (1) آية 86 سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 ويقال خلق القلوب على وصفين: قلب المؤمن مضيئا (مشرقا «1» ) وقلب الكافر أسود مظلما، هذا بنور الإيمان مزيّن، وهذا بظلمة الجحود معلّم. ويقال قلوب العوام فى أسر المطالب ورغائب الحظوظ، وقلوب الخواصّ معتقة عن المطالب، مجرّدة عن رقّ الحظوظ. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 54] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) الخلق متشاكلون فى أصل الخلقة، متماثلون فى الجوهرية، متباينون فى الصفة، مختلفون فى الصورة فنفوس الأعداء مطاياهم تسوقهم إلى النار، ونفوس المؤمنين مطاياهم تحملهم إلى الجنة. والخلق بشر.. ولكن ليس كلّ بشر كبشر واحد عدوّ لا يسعى إلا فى مخالفته، ولا يعيش إلا بنصيبه وحظّه، ولا يحتمل الرياضة ولا يرتقى عن حدّ الوقاحة والخساسة، وواحد ولىّ لا يفتر عن طاعته، ولا ينزل عن همّته، فهو فى سماء تعززه بمعبوده. وبينهما للناس مناهل ومشارب فواحد يكون كما قال: [سورة الفرقان (25) : آية 55] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) يكتفى بالمنحوت من الخشب، والمصنوع من الصّخر، والمتّخذ من النحاس، وكلّها جمادات لا تعقل ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع. أما المؤمن فإنّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش- وإن علا، ولا ينقاد بقلبه لمخلوق- وإنّ اتصف بمناقب لا تحصى   (1) وردت فى م ولم ترد فى ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 56] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) رسولا منّا، مأمورا بالإنذار والتبشير، واقفا حيث وقفناك على نعت التبليغ، غير طالب منهم أجرا، وغير طامع فى أن تجد منهم حظّا. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 57] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) «إِلَّا» أداة استثناء منقطع إذ ابتغاؤهم السبيل إلى ربّهم ليس بأجر يأخذه منهم، فهو لمن أقبل بشير، ولمن أعرض نذير. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 58] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) التوكل تفويض الأمور إلى الله. وحقّه وأصله علم العبد بأنّ الحادثات كلّها حاصلة من الله تعالى، وأنه لا يقدر أحد على الإيجاد غيره. فإذا عرف هذا فهو فيما يحتاج إليه- إذا علم أن مراده لا يرتفع إلا من قبل الله- حصل له أصل التوكل. وهذا القدر فرض، وهو من شرائط الايمان، فإن الله تعالى يقول: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» » وما زاد على هذا القدر- وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار- فهى أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله. فإن تقرّر هذا فالناس فى الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلّ درجة من هذه الأقسام اسم: إمّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح. فأول رتبة فيه أن يكتفى بما فى يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة.. وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحيها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له   (1) آية 23 سورة المائدة. والمطلوب منا أن نلاحظ دائما ظاهرة هامة نبهنا إليها في مدخل هذا الكتاب، وهى أن القشيري يحاول أولا استمداد المصطلح الصوفي من كتاب الله، (فالتوكل) الذي هو ركن هام من أركان الطريق الصوفي له أصل فى القرآن. ثم تأتى من بعد ذلك مرحلة البحث فى تطور هذا الأصل ونموه في بينة المتصوفة. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 فلا يستزيد. ثم اكتفاء كلّ أحد يختلف فى القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء فى التخلص من الحرص وإرادة الزيادة. ثم بعد هذا سكون القلب فى حالة عدم وجود الأسباب، فيكون مجردا عن الشيء، ويكون فى إرادته متوكلا على الله. وهؤلاء متباينون فى الرتبة، فواحد يكتفى بوعده لأنه صدقه فى ضمانه، فيسكن- عند فقد الأسباب- بقلبه ثقة منه بوعد ربه.. ويسمى هذا توكلا، ويقال على هذا: إن التوكل سكون القلب بضمان الربّ، أو سكون الجأش فى طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نقده، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد. وألطف من هذا أن يكتفى بعلم أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ويعمل على طاعته ولا يراعى إنجاز ما وعده بل يكل أمره إلى الله.. وهذا هو التسليم. وفوق هذا التفويض «1» ، وهو أن يكل أمره إلى الله، ولا يقترح على مولاه بحال، ولا يختار ويستوى عنده وجود الأسباب وعدمها فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ولا يفكر فى حال نفسه ويعلم أنه مملوك لمولاه والسيّد أولى بعبده من العبد بنفسه «2» . فإذا ارتقى عن هذه الحالة، وجد راحة فى المنع واستعذب ما يستقبله من الرّدّ.. وتلك هى مرتبة الرضا «3» ويحصل له فى هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه مالا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.   (1) الواقع أن القشيري هنا متأثر بالآراء الكثيرة التي أدلى بها الشيوخ فى هذا الموضوع، وعلى وجه الخصوص بشيخه الدقاق، الذي يقول: التوكل ثلاث درجات: التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه، ويقول كذلك: التوكل بداية والتسليم واسطة، والتفويض نهاية. ويقول كذلك: التوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين. (الرسالة ص 85) . (2) يروى فى هذا الباب أن جماعة سألوا الجنيد: أين نطلب الرزق؟ فقال: إن علمتم فى أي موضع هو فاطلبوه. قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك. فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه. فقالوا: ندخل البيت فنتوكل؟ فقال: التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة (الرسالة الصفحة ذاتها) . (3) كذلك ربط السراج فى «لمعه» بين التوكل والرضا بوصفهما مقامين متتاليين فى مقامات الطريق (اللمع ص 79 من أسفل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وبعد هذا الموافقة وهى ألا يجد الراحة فى المنع، بل يجد بدل هذا عند نسيم القرب زوائد الأنس بنسيان كلّ أرب، ونسيان وجود سبب أو عدم وجود سبب فكما أن حلاوة الطاعة تتصاغر عند برد الرضا- وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجابا- فكذلك أهل الأنس بالله.. بنسيان كلّ فقد ووجد، وبالتغافل عن أحوالهم فى الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف الرضا نقصانا فى الحال. ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء.. وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أنس ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة. هذا بيان ترتيبهم «1» . فأمّا ما دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين- على تباين شربهم- يختلف على حسب اختلاف محالّهم. فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل فى المهد لا شىء من قبله إلا أن يرضعه من هو فى حضانته «2» . ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار. ويقال التوكل السكون عند مجارى الأقدار على اختلافها. ويقال إذا وثق القلب يجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح فى توكله «3» . ويقال عوام المتوكلين إذا أعطوا شكروا، وإذا منعوا صبروا. وخواصّهم إذا أعطوا آثروا، وإذا منعوا شكروا.   (1) هذا الترتيب الذي ذكره القشيري على جانب كبير من الأهمية لأنه أولا يكشف عن التدرج في مراتب التوكل واحدة بعد الأخرى، والدقائق النفسية المرتبطة بكل منها، كما أنه يكشف عن مرحلة الانتقال من المقامات- التي هى جهود- إلى الأحوال التي هى من عين الجود. وواضح أن (الرضا) يحمل فى طياته طبيعة هذه المرحلة الانتقالية، وقد عالج القشيري هذه الظاهرة فى رسالته ص 97. (2) القشيري متأثر بأقوال الشيوخ فى ذلك: نحو (المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه (الرسالة ص 85 وقولهم) (الصوفية أطفال فى حجر الحق) الرسالة ص 139. (3) هذه نقطة هامة جدا توضح أن التوكل الصوفي الحق لا يتعارض مع الكسب، ولا يتعارض معه الكسب.. وقد كذب من ادعى التواكل وكذب من انهم الصوفية بالتكاسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ويقال الحق يجود على الأولياء- إذا توكلوا- بتيسير السبب من حيث يحتسب ولا يحتسب، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب ... وإذا لم يكن الأرب فمتى يكون الطلب؟ ويقال التوكل فى الأسباب الدنيوية إلى حدّ، فأمّا التوكل على الله فى إصلاحه- سبحانه- أمور آخرة العبد فهذا أشدّ غموضا، وأكثر خفاء. فالواجب فى الأسباب الدنيوية أن يكون الشكون عن طلبها غالبا، والحركة تكون ضرورة أفأمّا فى أمور الآخرة وما يتعلّق بالطاعة فالواجب البدار والجدّ والانكماش، والخروج عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل. والذي يتّصف بالتواني فى العبادات، ويتباطؤ فى تلافى ما ضيّعه من إرضاء الخصوم والقيام بحقّ الواجبات، ثم يعتقد فى نفسه أنه متوكّل على الله وأنه- سبحانه- يعفو عنه فهو متّهم معلول الحال، ممكور مستدرج، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه. ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرّأ بسرّه من حوله وقوّته. ثم يكون حسن الظنّ بربّه، ومع حسن ظنه بربه لا ينبغى أن يخلو من مخافته، اللهم إلا أن يغلب على قلبهما يشغله فى الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة فى العواقب فإن ذلك- إذا حصل- فالوقت غالب، وهو أحد ما قيل فى معانى قولهم: الوقت سيف «1» قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 59] الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) انتظم به الكون- والعرش من جملة الكون- ولم يتجمّل الحقّ- سبحانه- بشىء   (1) فى هذا المعنى يقول القشيري «أي كما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب، وكما أن السيف لين مسه قاطع حده فمن لاينه سلم، ومن خاشنه اصطلم كذلك الوقت من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردى، ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت. وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: الوقت مبرد يسحقك ولا يمحقك» الرسالة ص 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 من إظهار بريّته فعلوّه على العرش بقهره وقدرته، واستواؤه بفعل خص به العرش بتسوية أجزائه وصورته «1» . قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 60] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) أقبل الحقّ- سبحانه- بلطفه وبفضله على أقوام فلذلك وجدوه، وأعرض عن آخرين بتكبره وتعزّزه فلذلك جحدوه فطرهم على سمة البعد، وعجن طينتهم بماء الشقاوة والصدّ، فلما أظهرهم ألبسهم صدار الجهل والجحد. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 61] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) زيّن السماء الدنيا بمصابيح، وخلق فيها البروج، وبثّ فيها الكواكب، وصان عن الفطور والتشويش أقطارها ومناكبها، وأدار بقدرته أفلاكها، وأدام على ما أراد إمساكها. وكما أثبت فى السماء بروجا (أثبت فى سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجا) «2» فبروج السماء معدودة وبروج القلب مشهودة. وبروج السماء (بيوت) «3» شمسها وقمرها ونجومها، وبروج القلوب مطالع أنوارها ومشارق شموسها ونجومها. وتلك النجوم التي هى نجوم القلوب كالعقل، والفهم والبصيرة والعلم، وقمر القلوب المعرفة.   (1) كانت هذه الآية وأمثالها فرصة لآراء كلامية خطيرة سواء من ناحية استواء الله- سبحانه- على العرش ومسألة تنزههه عن المكانية، أو من ناحية خلق الله ما بين السماوات والأرض وهل المقصود بذلك خلق أفعال الإنسان. وقد ناقش الباقلاني فى كتابه (التمهيد فى أصول الدين) كلا الأمرين، والواقع أن القشيري- تلميذ الباقلاني- متأثر بآراء أستاذه إلى حد كبير، وإن كان الباقلاني أقل تأويلا للصفات الخبرية منه. (2) غير موجودة فى ص وموجودة فى م. (3) فى ص (ثبوت) وفى م (بيوت) وقد رجحنا هذه لأن البرج (بيت يبنى على سور المدينة وفي أعلاها) كما جاء فى المعاجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 قمر السماء له نقصان ومحاق، وفى بعض الأحايين هو بدر بوصف الكمال، وقمر المعرفة أبدا له إشراق وليس له نقصان أو محاق، ولذا قال قائلهم: دع الأقمار تخبو أو تنير ... لها بدر تذلّ له البدور فأمّا شمس القلوب فهى التوحيد، وشمس السماء تغرب ولكن شمس القلوب لا تغيب ولا تغرب، وفى معناه قالوا: إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب ويصحّ أن يقال إن شمس النهار تغرب بالليل، وشمس القلوب سلطانها فى الضوء والطلوع بالليل أتمّ. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 62] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) الأوقات متجانسة، وتفضيلها بعضها على بعض على معنى أنّ الطاعة فى البعض أفضل والثواب عليها أكثر. والليل خلف النهار والنهار خلف الليل، فمن وقع له فى طاعة الليل خلل فإذا حضر بالنهار فذلك وجود جبرانه، وإن حصل فى طاعة النهار خلل فإذا حضر بالليل ففى ذلك إتمام لنقصانه. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 63] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفّقوا للطاعات، فبرحمته وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعباد الرحمن الذين يستحقون غدا رحمته هم القائمون برحمته فبرحمته وصلوا إلى طاعته.. هكذا بيان الحقيقة، وبطاعتهم وصلوا إلى جنّته.. هكذا لسان الشريعة. ومعنى «هَوْناً» متواضعين متخاشعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 ويقال شرط التواضع وحده ألا يستحسن شيئا من أحواله، حتى قالوا «1» : إذا نظر إلى رجله لا يستحسن شسع نعله، وعلى هذا القياس لا يساكن أعماله، ولا يلاحظ أحواله. قوله: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» : قيل سداد المنطق ويقال من خاطبهم بالقدح فهم يجاوبونه بالمدح له. ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، الطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرّفق، وحسن الخلق، والقول الحسن والكلام الطيب. ويقال يخبرون من جفاهم أنهم فى أمان من المجافاة «2» قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 64] وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) يبيتون لربهم ساجدين، ويصبحون واجدين فوجد صباحهم ثمرات سجود أرواحهم، كذا فى الخبر: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» أي عظم ماء، وجهه عند الله، وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود محسّن وباطن بالوجود مزيّن. ويقال متصفين بالسجود قياما بآداب الوجود. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 65 الى 66] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التنصّل «3» كما قيل: وما رمت الدخول عليه حتى ... حللت محلة العبد الذليل   (1) هذا القول سمعه القشيري من شيخه الدقاق (الرسالة ص 74) . (2) وردت (المكافاة) والصواب أن تكون (المجافاة) بمعنى أنهم لا يقابلون الجفاء بالجفاء، فمن عاداهم أمن من انتقامهم أو على معنى أن مجافاة الأعداء لا تصيبهم بأذى إذ ليس فى مقدور أحد أن يؤذى أولياء الله. (3) وفى ذلك يقول الرسول صلوات الله عليه: «الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» رواه احمد عن عائشة، والترمذي وابن أبى حاتم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 67] وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) الإسراف أن تنفق فى الهوى وفى نصيب النّفس، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف، والإقتار ما كان ادخارا عن الله. فأمّا التضييق على النّفس منعا لها عن اتباع الشهوات ولتتعود الاجتزاء باليسير فليس بالإقتار المذموم. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 68] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) «1» «إِلهاً آخَرَ» : فى الظاهر عبادة الأصنام المعمولة من الأحجار، المنحوتة من الأشجار. وكما تتصف بهذا النفوس والأبشار فكذلك توهّم المبارّ والمضارّ من الأغيار شرك. «وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ... » من النفوس المحرّم قتلها على العبد نفسه المسكينة، قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «2» . وقتل النّفس من غير حقّ تمكينك لها من اتباع ما فيه هلاكها فى الآخرة فإنّ العبد إذا لم ينه مأمور.   (1) (عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا عليه الصلاة والسلام فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو نخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت الآية: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... إلى قوله تعالى: غَفُوراً رَحِيماً» رواه مسلم عن ابراهيم بن دينار عن حجاج. و (عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قال: قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت ثم أي؟ قال: أن تزانى حليلة جارك. فأنزل الله هذه الآية وما بعدها تصديقا لذلك) رواه البخاري، ومسلم عن عثمان بن أبى شيبة، عن جرير. و (عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي (ص) فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرنى حتى أسمع كلام الله، فقال الرسول: قد كنت أحب أن أراك على غير جوار، فأما إذ أتيتنى مستجيرا فأنت فى جوارى حتى تسمع كلام الله. قال: فإنى أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، فهل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية.. وأسلم وحشي) . [ ..... ] (2) آية 29 سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 ثم دليل الخطاب أن تقتلها بالحقّ «1» ، وذلك بذبحها بسكين المخالفات، فما فلاحك إلا بقتل نفسك التي بين جنبيك. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 69] يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) يضاعف لهم العذاب يوم القيامة بحسرات الفرقة وزفرات الحرقة. وآخرون يضاعف لهم العذاب اليوم بتراكم الخذلان ووشك الهجران ودوام الحرمان. بل من كان مضاعف العذاب فى عقباه فهو الذي يكون مضاعف العذاب فى دنياه جاء فى الخبر: من كان بحالة لقى الله بها. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 70] إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) إِلَّا مَنْ تابَ من الذنب فى الحال وآمن فى المآل. ويقال «وَآمَنَ» أن نجاته بفضل الله لا بتوبته، «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» لا ينقض توبته. ويقال إن نقض توبته عمل صالحا أي جدّد توبته «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» . ويخلق لهم التوفيق بدلا من الخذلان «2» . ويقال يبدل الله سيئاتهم محسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم. ويقال يمحو ذلّة زلّاتهم، ويثبت بدلها الخيرات والحسنات، وفى معناه أنشدوا: ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة ... حتى أنالوا كفّه وأفادوا قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 73] وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)   (1) تذكر كيف يفرق القشيري بين حظ النفس وحق الله، ولاحظ كيف أحسن استغلال الاستثناء هنا (قتل النفس إلا بالحق) أي ذبحها بسكين المجاهدات في سبيل حق الله. (2) واضح من هذا الرأى مدى اتساع صدور الصوفية للأمل في الأخذ بيد العصاة، فرحمة الله- فى نظرهم- أكثر رجابة من أن تضيق في وجه من عثرت أقدامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 يستمكنون فى مواطن الصدق لا يبرحون عنها ليلا ونهارا، وقولا وفعلا. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين معرضين لا بساكنون أهل تلك الحالة. ويقال نزلت الآية فى أقوام مرّوا- لمّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرة- متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فشكر الله لهم ذلك. ثم قال فى صفتهم: «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» : بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 74] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) قرة العين من به حياة الروح، وإنما يكون كذلك إذا كان بحقّ الله قائما. ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقا، ولمخالفة أمره مفارقا. «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» الإمام من يقتدى به ولا يبتدع. ويقال إن الله مدح أقواما ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع، ولم يدّعوا فيها اختيارهم فالإمامة بالدعاء لا بالدعوى، فقالوا: «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» . قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 75] أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) يعطى- سبحانه- الكثير من عطائه ويعده قليلا، ويقبل اليسير من طاعة العبد ويعده كثيرا عظيما، يعطيهم الجنة قصورا وحورا ثم يقول: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ» ، ويقبل اليسير من العبد فيقول: «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» «1» .   (1) آية 22 سورة الذاريات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 قوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» : يسمعون سلامه عليهم بلا واسطة، ويتجلّى لهم ليروه من غير تكلف نقل، ولا تحمل قطع مسافة «1» ويقال «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» «2» : اليوم يحضر العبد بيته لأداء العبادة، وينقل أقدامه إلى المساجد، وغدا يجازيهم بأن يكفيهم قطع المسافة، فهم على أرائكهم- فى مستقرّ عزّهم- يسمعون كلام الله، وينظرون إلى الله. قوله: «بِما صَبَرُوا» أي صبروا عمّا نهوا عنه، وصبروا على الأحكام التي أجراها عليهم بترك اختيارهم، وحسن الرضا بتقديره. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 76] خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) مقيمين لا يبرحون منازلهم «3» ، وفى أحوالهم حسن مستقرهم مستقرا، وحسن مقامهم مقاما. قوله جل ذكره: [سورة الفرقان (25) : آية 77] قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) لولا عبادتكم الأصنام ودعاؤكم إياها باستحقاق العبادة وتسميتكم لها آلهة.. متى كان يخلدكم فى النار؟. ويقال لولا تضرعكم ودعاؤكم بوصف الابتهال لأدام بكم البلاء، ولكن لما أخذتم فى الاستكانة والدعاء، وتضرّعتم رحمكم وكشف الضرّ عنكم.   (1) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى موضوع الرؤية فى الآخرة (2) آية: 60 سورة الرحمن. (3) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى تأبيد تنعم أهل الجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 تم المجلد الثاني ويلية المجلد الثالث وأوله سورة الشعراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 فهرس سورة التوبة 5 سورة يونس 76 سورة هود 120 سورة يوسف 164 سورة الرعد 215 سورة إبراهيم 238 سورة الحجر 262 سورة النحل 284 سورة بنى إسرائيل 333 سورة الكهف 375 سورة مريم 418 سورة طه 444 سورة الأنبياء 491 سورة الحج 527 سورة المؤمنون 566 سورة النور 592 سورة الفرقان 625 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 [الجزء الثالث] بسم الله الرّحمن الرّحيم «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» ... تلك دلالات كرمنا، وأمارات فضلنا، وشواهد برّنا نبيّن لأوليائنا صدق وعدنا، ونحقق للأصفياء حفظ عهدنا. بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيب أمل من أمّل لطفى، بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى. طلب القاصدين مقابل بلطفي، وسعى العاملين مشكور بعطفى. هذا الكتاب بيان وشفاء، ونور وضياء، وبشرى ودليل لمن حقّقنا له الإيمان، وأكّدنا له الضمان، وكفلنا له الإحسان» عبد الكريم القشيري عند سورة النمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 السورة التي يذكر فيها الشعراء بسم الله الرّحمن الرّحيم بسم الله اسم عزيز يرتضى من الزاهد ترك دنياه، ومن العابد مخالفة هواه، ومن القاصد قطع مناه، ولا يرضى من العارف أن يساكن شيئا غير مولاه. إن خرج عن كلّ مرسوم- بالكلية، وانسلخ عن كل معلوم- من غير أن تبقى له منه بقية فلعلّه يجد شظيّة. وإن عرّج على شىء، ولم يصف من الكدورات- حتى عن يسيرها- وإن دقّ- فإنه كما في الخبر: «المكاتب عبد ما بقى عليه درهم» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) ذكرنا فيما مضى اختلاف السّلف في الحروف المقطّعة فعند قوم: الطاء إشارة إلى طهارة عزّه وتقدّس علوّه، والسين إشارة ودلالة على سناء جبروته، والميم دلالة على مجد جلاله فى آزاله. ويقال الطاء إشارة إلى شجرة طوبى، والسين إلى سدرة المنتهى، والميم إلى اسم محمد صلى الله عليه وسلم أي ارتقى محمد ليلة الإسراء عن شهوده شجرة طوبى حتى بلغ سدرة المنتهى، فلم يساكن شيئا من المخلوقات في الدنيا والعقبى «1» .   (1) أورد القشيري في كتابه «المعراج» طائفة كبيرة من الأخبار نفهم منها أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه لم يتطلع إلى شىء مما رأى من عجائب المخلوقات وعظائم النعم في تلك الليلة، بل كان خالص القصد إلى الحق، وبعبارة صوفية دقيقة: كان فانيا بحقوق ربه عن حظوظ نفسه، فما زاغ البصر وما طغى. وفي ذلك يقول رويم: «لما أكرم المصطفى (ص) بأعظم الشرف في المسرى علت همته عن الالتفات إلى الآيات والكرامات، والجنة والنار، فما زاغ البصر أي ما أعار طرفه شيئا من الأكوان، ومن شاهد البحر استقلّ الأنهار والأودية. (المعراج ص 112) ويقول القشيري في ص 102 من الكتاب نفسه: يروى في الخير أنه «لما ركب البراق لم يعرّج على شىء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ويقال الطاء طرب أرباب الوصلة على بساط القرب بوجدان كمال الروح، والسين سرور العارفين بما كوشفوا به من بقاء الأحدية باستقلالهم بوجوده «1» والميم إشارة إلى موافقتهم لله بترك التخيّر على الله، وحسن الرضا باختيار الحق لهم. ويقال الطاء إشارة إلى طيب قلوب الفقراء عند فقد الأسباب لكمال العيش بمعرفة وجود الرزّاق بدل طيب قلوب العوام بوجود الأرفاق والأرزاق. ويقال الطاء إشارة إلى طهارة أسرار أهل التوحيد، والسين إشارة إلى سلامة قلوبهم عن مساكنة كلّ مخلوق، والميم إشارة إلى منّة الحقّ عليهم بذلك. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 3] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) أي لحرصك على إيمانهم ولإشفاقك من امتناعهم عن الإيمان فأنت قريب من أن تقتل نفسك من الأسف على تركهم الإيمان. فلا عليك- يا محمد- فإنه لا تبديل لحكمنا فمن حكمنا له بالشقاوة لا يؤمن. ليس عليك إلا البلاغ فإن آمنوا فبها، وإلّا فكلّهم «2» سيرون يوم الدّين ما يستحقون. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 4] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) أخبر عن قدرته على تحصيل مراده من عباده، فهو قادر على أن يؤمنوا كرها لأن التقاصر عن تحصيل المراد يوجب النقص والقصور في الألوهية. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 5 الى 6] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) .   كان ينادى من يمينه ومن يساره، ثم قال له جبريل عليه السّلام: الذي ناداك من يمينك داعى اليهودية، والذي ناداك من يسارك داعى النصرانية، ولو التفتّ يا محمد لتهودت أو تنصرت أمتك» . (1) استقل الشيء رآه قليلا واستقل بالشيء لم يشتغل بسواه اكتفاء به. (2) السياق مقبول على هذا النحو، ولكننا لا نستبعد أن يكون هناك سقوط لكلمة «لنا» ، وعندئذ يكون السياق «فكلهم لنا .... » : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 أي ما نجدّد لهم شرعا، وما نرسل لهم رسولا.. إلا أعرضوا عن تأمل برهانه، وقابلوه بالتكذيب. فلو أنهم أنعموا النظر في آيات الرسل لا تضح لهم صدقهم، ولكن المقسوم لهم من الخذلان في سابق الحكم يمنعهم من الإيملن والتصديق. فقد كذّبوا، وعلى تكذيبهم أصرّوا، فسوف تأتيهم عاقبة أعمالهم بالعقوبة الشديدة، فيذوقون وبال شركهم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 7 الى 9] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) فنون ما ينبت في الأرض وقت الربيع لا يأتى عليه الحصر، ثم اختصاص كلّ شىء منها بلون وطعم ورائحة مخصوصة، ولكلّ شكل وهيئة ونور مخصوص، وورق مخصوص ... إلى ما تلطف عنه العبارة، وتدق فيه الإشارة. وفي ذلك آيات لمن استبصر، ونظر وفكّر. «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» : القاهر الذي لا يقهر، القادر الذي لا يقدر، المنيع الذي لا يجبر. «الرَّحِيمُ» : المحسن لعباده، المريد لسعادة أوليائه. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 11] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) أخبر أنه لما أمره بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى الله علم أنه شديد الخصومة، قد غرّته نفسه فهو لا يبالى بما فعل. وأخذ (موسى) «1» يتعلّل- لا على جهة الإباء والمخالفة- ولكن على وجه الاستعفاء والإقالة إلى أن علم أنّ الأمر به جزم، والحكم به عليه حتم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 12 الى 15] قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)   (1) ليست موجودة في النص وقد وضعناها بين قوسين منعا للبس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 سأل موسى- عليه السلام- أن يشفعه بهارون ويشركه في الرسالة. وأخبر أنه قتل نفسا، وأنه في حكم فرعون عليه دم، فقال: «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» إلى أن قال له الحقّ: - «قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» «كَلَّا» حرف ردع وتنبيه أي كلا أن يكون ذلك كما توهمت، فارتدع عن تجويز ذلك، وانتبه لغيره. إنى معكما بالنصرة والقوة والكفاية والرحمة، واليد ستكون لكما، والسلطان سيكون لكما دون غيركما، فأنا أسمع ما تقولون وما يقال لكم، وأبصر ما يبصرون وما تبصرون أنتم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 16 الى 19] فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) ويقال في القصة: إن موسى وهارون كانا يترددان على باب فرعون سنة كاملة ولم يجدا طريقا إليه: ثم بعد سنة عرضا الرسالة عليه، فقابلهما بالتكذيب، وكان من القصة ما كان.. وقال فرعون لمّا رأى موسى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 20 الى 21] قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) فلم يكن لموسى- عليه السلام- جواب إلا الإقرار والاعتراف، فقال: «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» قال: كل ذلك قد كان، وفررت منكم لمّا خفتكم، فأكرمنى الله بالنبوة، وبعثني رسولا إليكم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 ويقال: لم يجحد حقّ تربيته، والإحسان إليه في الظاهر، ولكن بيّن أنه إذا أمر الله بشىء وجب اتباع أمره. ولكن إذا كانت تربية المخلوقين توجب حقّا فتربية الله أولى بأن يعظّم العبد قدرها «1» . قوله: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» : يجوز حمله على ظاهره، وأنه خاف منهم على نفسه. والفرار- عند عدم الطاقة- غير مذموم عند كلّ أحد «2» . ويقال: فررت منكم لمّا خفت أن تنزل بكم عقوبة من الله لشؤم شرككم، أو من قول فرعون: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «3» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 22] وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) ذكر فرعون- من جملة ما عدّ على موسى من وجوه الإحسان إليه- أنه استحياه بين بنى إسرائيل، ودفع عنه القتل، فقال موسى: أو تلك نعمة تمنها عليّ؟ هل استعبادك لبنى إسرائيل يعدّ نعمة؟ إنّ ذلك ليس بنعمة، ولا لك فيها منّة» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 23] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) نظر اللعين بجهله، وسأل على النحو الذي يليق بغيّه فسأل بلفظ «ما» - و «ما» يستخبر بها عمّا لا يعقل، فقال: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» . ولكنّ موسى أعرض عن لفظه ومقتضاه، وأخبر عمّا يصحّ في وصفه تعالى فقال: [سورة الشعراء (26) : آية 24] قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) .   (1) هذه إشارة إلى قيمة تربية الشيوخ بالقياس إلى تربية الوالدين فالوالدان يربيان الأشباح والشيوخ يربون الأرواح. (2) نتذكر كيف فر القشيري نفسه من المشرق الإسلامى عند ما أحدقت به الأخطار، وهدد السلطان الجائر حياته وعقيدته، فلم تلن قناته، وهرب بعقيدته إلى حيث يسلم هو ورفاقه (أنظر مدخل الكتاب) . [ ..... ] (3) آية 38 سورة القصص. (4) لأن تعبيدهم وذبح أبنائهم هما سببا حصوله عنده وتربيته له، ولو تركهم لرباه أبواه شأن أي طفل.. فليس هنا نعمة ولا منة، لأن القصد كان إذلال أهله لا الإحسان إليهم أو إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فذكر صفته- سبحانه وتعالى- بأنّه إله ما في السماوات والأرض، فأخذ فى التعجب، وقال: [سورة الشعراء (26) : الآيات 25 الى 26] قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قال موسى: «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» فحاد فرعون عن سنن الاستقامة في الخطاب، وأخذ في السفاهة قائلا: [سورة الشعراء (26) : آية 27] قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) لأنه «1» يزعم أنّ هناك إلها غيره. ولم يكن في شىء مما يجرى من موسى- عليه السلام- أو مما يتعلّق به وصف جنون. ولم يشغل بمجاوبته في السفاهة فقال: [سورة الشعراء (26) : آية 28] قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) أي إن كنتم من جملة من له عقل وتمييز. فقال فرعون: [سورة الشعراء (26) : آية 29] قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) مضى فرعون يقول: لأفعلنّ، ولأصنعنّ ... إن اتخذت إلها غيرى. وجرى ما جرى ذكره وشرحه في غير موضع. ثم إنه أظهر معجزته بإلقاء العصا، وقلبها- سبحانه- ثعبانا كاد يلتقم دار فرعون بمن فيها، ووثب فرعون هاربا، واختفى تحت سريره، وهو ينتفض من الخوف، وتلطّخت بزّته «2» ، وافتضح في دعواه، واتضحت حالته، فاستغاث بموسى واستجاره، وأخذ موسى الثعبان فردّه الله عصا.   (1) أي موسى عليه السلام. (2) البزة الهيئة أو الشارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 ولمّا فارقه موسى- عليه السلام- تداركته الشقاوة، وأدركه شؤم الكفر، واستولى عليه الحرمان، فجمع قومه وكلّمهم في أمره، وأجمعوا كلّهم على أنه سحرهم. وبعد ظهور تلك الآية عاد إلى غيّه.. كما قيل: إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضّنى عاد إلى نكسه ثم إنه جمع السّحرة، واستعان بهم، فلمّا اجتمعوا قالوا: «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» . فنطقوا بخساسة همّتهم، فضمن لهم أجرهم. وإنّ من يعمل لغيره بأجرة ليس كمن يكون عمله لله. ومن لا يكون له ناصر إلّا بضمان الجعالة وبذل الرّشا فعن قريب سيخذل. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 42] قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قال فرعون: «وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ، ومن طلب القربة عند مخلوق فإنّ ما يصل إليه من الذّلّ يزيد على ما أمّله من العزّ في ذلك التّقرّب. والمقرّبون من الله أوّل من يدخل عليه يوم اللقاء، فهم أول من لهم وصول. والمقرّبون من الله لهم على الله دخلة، والناس بوصف الغفلة والخلق في أسر الحجبة. ثم لمّا اجتمع الناس، وجاء السّحرة بما موّهوا، التقمت عصا موسى جميع ما أتوا به، وعادت عصا، وتلاشت أعيان حبالهم «1» التي جاءوا بها، وكانت أوقارا، وألقى السحرة سجّدا، ولم يختلفوا «2» بتهديد فرعون إياهم بالقتل والصّلب والقطع، فأصبحوا وهم يقسمون بعزّة فرعون، ولم يمسوا حتى كانوا يقولون: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ «3» » . ثم لمّا ساعدهم التوفيق، وآمنوا بالله كان أهمّ أمورهم الاستغفار لما سلف من ذنوبهم، وهذه هي غاية همّه الأولياء، أن يستجيروا بالله، وأن يستعيذوا من عقوبة الله، فأعرفهم بالله أخوفهم من الله.   (1) يتصل ذلك برأى القشيري في المعجزة وأنها قد تكون قلب الأعيان، أما كرامة الولي فقد لا تكون كذلك، وهي مع ذلك متصلة بنبي الأمة التي يتبعها هذا الولي. (2) وردت (يختلفوا) والسياق يرفضها ويؤيد (يحتلفوا) كما هو واضح. (3) آية 72 سورة طه. ويقصد القشيري إلى أن يوضح أن العبرة بالخواتيم، وهو بهذا يحث- بطريق غير مباشر- على التوبة، وعدم القنوط من رحمة الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 ولمّا أمر الله موسى بإخراج بنى إسرائيل، وتبعهم فرعون بجمعه، وقال أصحاب موسى. [سورة الشعراء (26) : الآيات 61 الى 62] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فكان كما قال، إذ هداهم الله وأنجاهم، وأغرق فرعون وقومه وأقصاهم، وقد قال سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» «1» : ينجّيهم من كلّ بلاء، ويخصّهم بكل نعمة. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 74] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) عاتب «2» ابراهيم أباه وقومه، وطالبهم بالحجة على ما عابهم به وقال لم تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ، ولا يحسّ ولا يشعر؟ فلم يرجعوا في الجواب إلا إلى تقليدهم أسلافهم، وقالوا: على هذه الجملة وجدنا أسلافنا. فنطق إبراهيم- عليه السلام- بعد إقامة الحجة عليهم والإخبار عن قبيح صنيعهم بمدح مولاه والإغراق في وصفه، وقال: [سورة الشعراء (26) : الآيات 75 الى 77] قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) .   (1) آية 36 سورة التوبة. (2) ربما كانت (عاب) بدليل قوله بعد قليل (على ما عابهم) ، لكن السياق يلتم ب (عاتب) أكثر، إذ العتاب أليق بالنسبة للأب، كذلك فإن ابراهيم لم يكن يدرى في ذلك الوقت أن أباه لن يؤمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ذكرهم بأقلّ عبارة فلم يقل: فإنهم أعداء لى، بل وصفهم بالمصدر الذي يصلح أن يوصف به الواحد والجماعة فقال: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» . ثم قال: «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ، وهذا استثناء منقطع، وكأنه يضرب بلطف عن ذكرهم صفحا حتى يتوصّل إلى ذكر الله، ثم أخذ في شرح وصفه كأنه لا يكاد يسكت، إذ مضى يقول: والذي.. والذي.. والذي..، ومن أمارات المحبة كثرة ذكر محبوبك، والإعراض عن ذكر غيره، فتنزّه المحبين بتقلّبهم في رياض ذكر محبوبهم، والزهّاد يعددون أورادهم، وأرباب الحوائج يعددون مآربهم، فيطنبون في دعائهم، والمحبون يسهبون في الثناء على محبوبهم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 78] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) كان مهتديا، ولكنه يقصد بالهداية التي ذكرها فيما يستقبله من الوقت، أي: يهدينى إليه به، فإنّى محق في وجوده وليس لى خبر عنّى!. والقوم حين يكونون مستغرقين في نفوسهم لا يهتدون من نفوسهم إلى معبودهم، فيهديهم عنهم إلى ربهم، ويصيرون في نهايتهم مستهلكين في وجوده، فانين عن أوصافهم، وتصير معارفهم- التي كانت لهم- واهية ضعيفة، فيهديهم إليه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 79] وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) لم يشر إلى طعام معهود أو شراب مألوف ولكن أشار إلى استقلاله به من حيث المعرفة بدل استقلال غيره بطعامهم، وإلى شراب محبته الذي يقوم بدل استقلال غيره بشرابهم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 80] وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) لم يقل: وإذا أمرضنى لأنه حفظ أدب الخطاب.   (1) يشرح القشيري قول الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار. فيقول: أراد الواسطي بهذا أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه لأنهما من صفاته. (الرسالة ص 155) ويقول ذو النون: عرفت ربى ولولا ربى ما عرفت ربى (الرسالة ص 156) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 ويقال لم يكن ذلك مرضا معلوما، ولكنه أراد تمارضا، كما يتمارض الأحباب طمعا فى العيادة، قال بعضهم: إن كان يمنعك الوشاة زيارتى ... فادخل عليّ بعلّة العوّاد ويقول آخر: يودّ بأن يمشى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله ويقال ذلك الشفاء الذي أشار إليه الخليل هو أن يبعث إليه جبريل ويقول له: يقول لك مولاك ... كيف كنت البارحة؟ قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 81] وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) أضاف الموت إلى الله فالموت فوق المرض لأن الموت لهم غنيمة ونعمة إذ يصلون إليه «1» بأرواحهم. ويقال «يُمِيتُنِي» بإعراضه عنى وقت تعزّزه، «ثُمَّ يُحْيِينِ» بإقباله عليّ حين تفضّله. ويقال يميتنى عنى ويحيينى به. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 82] وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) خطيئة الأحباب شهودهم محنتهم، وتعنّيهم عند شدة البلاء عليهم، وشكواهم مما يمسّهم من برحاء الاشتياق، قال بعضهم: وإذا محاسنى- اللاتي أدلّ بها- كانت ذنوبى ... فقل لى: كيف أعتذر؟ قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 83] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) «هَبْ لِي حُكْماً» : على نفسى، فإنّ من لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره. «وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» : فأقوم بحقّك دون الرجوع إلى طلب الاستقلال بشىء دون حقك.   (1) (إليه) الضمير هنا يعود إلى محبوبهم- سبحانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 84] وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) فى التفاسير: «لِسانَ صِدْقٍ» : أي ثناء حسنا على لسان أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال لا أذكرك إلا بك، ولا أعرفك إلا بك. ويقال أن أذكرك ببيان آلائك «1» ، وأذكرك بعد قبض روحى إلى الأبد بذكر مسرمد. ويقال أذكرنى على لسان المخبرين عنك. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 86] وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) على لسان العلماء: قاله بعد يأسه من إيمان أبيه، وأمّا على لسان الإشارة فقد ذكره فى وقت غلبات البسط، ويتجاوز ذلك عنهم «2» . وليست إجابة العبد واجبا على الله في كل شىء، فإذا لم يجب فإنّ للعبد سلوة في ذكر أمثال هذا الخطاب، وهذا لا يهتدى إليه كلّ أحد. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 87] وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) أي لا تخجلنى بتذكيرى خلّتى، فإنّ شهود ما من العبد- عند أرباب القلوب وأصحاب الخصوص- أشدّ عقوبة «3» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 88 الى 89] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) قيل: «القلب السليم» اللديغ. وقيل هو الذي سلم من الضلالة ثم من البدعة ثم من الغفلة ثم من الغيبة ثم من الحجبة ثم من المضاجعة ثم من المساكنة ثم من الملاحظة. هذه كلها آفات «4» ، والأكابر سلموا منها، والأصاغر امتحنوا بها.   (1) وردت (الآية) ونرجح أن الناسخ قد أخطأ في النقل، فأثبتنا (آلائك) أي نعمك لأنها أقرب إلى السياق. (2) معنى هذا أن القشيري يرى اغتفار ما ينطق به الصوفي من أقوال وهو في حال الانمحاء. (3) لأن شهود ما من العبد معناه أن التوحيد مازال يشوبه كدر الغيرية. [ ..... ] (4) يفيد ذكر هذه الآفات على هذا النحو من الترتيب والدقة أجل فائدة عند دراسة المصطلح الصوفي- خصوصا وأن هذه المصطلحات لم ترد علىّ هذا النحو في الفصل الذي خصصه القشيري لهذا الموضوع في الرسالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 ويقال: «القلب السليم» الذي سلم من إرادة نفسه. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 91] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) «أُزْلِفَتِ» : أي قرّبت وأدنيت في الوقت، فإنّ ماهو آت قريب، وبالعين أحضرت. وكما تجرّ النار إلى المحشر بالسلاسل فلا يبعد إدناء الجنة من المتقين. «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» أظهرت فتؤكّد الحجّة على أرباب الجحود، ويعرضون على النار، وتعرض عليهم منازل الأشرار، فيكبكبون فيها أجمعين، ويأخذون يقرّون بذنوبهم، ومن جملتها ما أخبر أنهم يقولون: - [سورة الشعراء (26) : الآيات 97 الى 98] تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) ولا فضيحة أقبح ولا عيب فيهم أشنع مما يعترفون به على أنفسهم بقولهم: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» فإنّ أقبح أبواب الشّرك وأشنع أنواع الكفر وأقبح أحوالهم- التشبيه فى صفة المعبود. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 100 الى 101] فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فى بعض الأخبار «1» : يجىء- يوم القيامة- عبد يحاسب فتستوى حسناته وسيئاته ويحتاج إلى حسنة واحدة يرضى عنها خصومه، فيقول الله- سبحانه: عبدى.. بقيت لك حسنة واحدة، إن كانت أدخلتك الجنة.. أنظر.. وتطلّب من الناس لعلّ واحدا يهب لك حسنة واحدة. فيأتى العبد في الصفين، ويطلب من أبيه ثم من أمه ثم من أصحابه، ويقول لكلّ واحد في بابه فلا يجيبه أحد، فالكلّ يقول له: أنا اليوم فقير إلى حسنة واحدة، فيرجع إلى مكانه، فيسأله الحقّ- سبحانه: ماذا جئت به؟   (1) فى م (فى بعض الأحيان) والأصوب أن تكون (فى بعض الأخبار) كما في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فيقول: يا ربّ.. لم يعطنى أحد حسنة من حسناته. فيقول الله- سبحانه: عبدى.. ألم يكن لك صديق (فيّ) «1» ؟ فيتذكر العبد ويقول: فلان كان صديقا لى. فيدله الحقّ عليه، فيأتيه ويكلّمه في بابه، فيقول: بلى، لى عبادات كثيرة قبلها اليوم فقد وهبتك منها، فيسير هذا العبد ويجىء إلى موضعه، ويخبر ربّه بذلك، فيقول الله- سبحانه: قد قبلتها منه، ولن أنقص من حقّه شيئا، وقد غفرت لك وله، وهذا معنى قوله: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 111] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) ذكر قصة نوح وما لقى من قومه، وأنهم قالوا: - «قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟» إنّ أتباع كلّ رسول إنما هم الأضعفون، لكنهم- فى حكم الله- هم المتقدّمون الأكرمون. قال عليه السلام: «نصرت بضعفائكم» . وإنّ الله أغرق قومه لمّا أصرّوا واستكبروا. وكذلك فعل بمن ذكرتهم الآيات في هذه السورة من عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين.. كلّ منهم قابلوا رسلهم بالتكذيب، فدمّر الله عليهم أجمعين، ونصر رسوله على مقتضى سنّته الحميدة فيهم. وقد ذكر الله قصة كل واحد منهم ثم أعقبها بقوله: - [سورة الشعراء (26) : آية 122] وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) «الْعَزِيزُ» : القادر على استئصالهم، «الرَّحِيمُ» الذي أخّر العقوبة عنهم بإمهالهم، ولم يقطع الرزق مع قبح فعالهم.   (1) هكذا في م وص وهي صحيحة مقبولة في المعنى والسياق غير أننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (صديق وفيّ) حيث تقابل ما جاء في الآية (صديق حميم) فالبحث يومئذ يكون عن الصديق الوفى الحميم. م (2) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وهو «عزيز» لم يستضرّ بقبيح أعمالهم، ولو كانوا أجمعوا على طاعته لمّا تجمّل بأفعالهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 127] وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أخبر عن كل واحد من الأنبياء أنه قال: «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» ليعلم الكافة أنّ من عمل لله فلا ينبغى أن يطلب الأجر من غير الله. وفي هذا تنبيه للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء- أن يتأدّبوا بأنبيائهم، وألّا يطلبوا من الناس شيئا في بثّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم أنه من ارتفق في بثّ ما يذكّر به من الدّين وما يعظ به المسلمين فلا يبارك الله للناس فيما منه يسمعون، ولا للعلماء أيضا بركة فيما من الناس يأخذون، إنهم يبيعون دينهم بعرض يسير، ثم لا بركة لهم فيه، إذ لا يبتغون به الله، وسيحصلون على سخط الله. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 195] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) كلام الله «2» العزيز منزّل على قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى الحقيقة بسفارة جبريل عليه السلام. والكلام من الله غير منفصل، وبغير الله غير متصل.. وهو- على الحقيقة لا على المجاز- منزّل. ومعناه أن جبريل- عليه السلام- كان على السماء. فسمع من الربّ، وحفظ، ونزل، وبلّغ الرسول. فمرّة كان يدخل عليه حالة تأخذه عنه «3» عند   (1) لأن الله- سبحانه- لا يلحقه زين بطاعة ولا شين بمعصية. (2) ينبغى الاهتمام برأى القشيري هنا عند بحث قضية «خلق القرآن» ، ومدى النظرة إلى ما بين دفّى المصحف، ومقارنة ذلك (بكلام) الله إلى موسى عند الشجرة.. موضوع هام ناقشه القشيري في كتابه (شكاية أهل السنة) . (3) تأمل كيف ينظر الصوفية إلى حالة المصطفى (ص) عند تلقى الوحى على أنها حالة عرفانية، فالعرفان لا يتم إلا عند الامتحاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 نزول الوحى عليه. ثم يورد جبريل ذلك على قلبه. ومرة كان يتمثل له الملك فيسمعه. والرسول- صلوات الله عليه- يحفظه ويؤدّيه. والله- سبحانه ضمن له أنه سيقرؤه حتى لا ينساه «1» . فكان يجمع الله الحفظ في قلبه. ويسهّل له القراءة عند لفظه. ولمّا عجز الناس بأجمعهم عن معارضته مع تحدّيه إياهم بالإتيان بمثله.. علم صدقه في أنّه من قبل الله. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 196] وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) جميع ما في هذا الكتاب من الأخبار والقصص، وما في صفة الله من استحقاق جلاله- موافق لما في الكتب المنزّلة من قبل الله قبله، فمهما عارضوه فإنه كما قال جلّ شأنه: [سورة الشعراء (26) : الآيات 198 الى 201] وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) «2» ثم أخبر أنه لو نزّل هذا الكتاب بغير لسانهم وبلغة غير لغتهم لم يهتدوا إلى ذلك، ولقالوا: لو كان بلساننا لعرفناه ولآمنّا به، فأزاح عنهم العلّة، وأكّد عليهم الحجّة. ثم أخبر عن صادق علمه بهم، وسابق حكمه بالشقاوة عليهم، وهو أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب في القيامة، حين لا ينفعهم الإيمان ولا الندامة. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 205 الى 209] أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) إن أرخينا لهم المدّة، وأمهلناهم أزمنة كثيرة- وهم بوصف الغفلة- فما الذي كان ينفعهم إذا أخذهم العذاب بغتة؟!. ثم أخبر أنه لم يهلك أهل قرية إلّا بعد أن جاءهم النذير وأظهر لهم البينات، فإذا أصرّوا على كفرهم عذّبهم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 212] إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) .   (1) يشير بذلك إلى قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» آية 6 سورة الأعلى. (2) آية 42 سورة فصلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وجدوا السمع- الذي هو الإدراك- ولكن عدموا الفهم، فلم يستجيبوا لما دعوا إليه. فعند ذلك استوجبوا من الله سوء العاقبة. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 214] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وذلك تعريف له أنهم لا تنفعهم قرابتهم منه، ولا تقبل شفاعته- إن لم يؤمنوا- فيهم. فليس هذا الأمر من حيث النّسب، فهذا نوح لمّا كفر ابنه لم تنفعه بنوّته، وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام لما كفر أبوه لم تنفعه أبوّته، وهذا محمّد- عليه الصلاة والسلام- كثير من أقاربه كانوا أشدّ الناس عليه في العداوة فلم تنفعهم قرابتهم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 215] وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) ألن جانبك وقاربهم في الصحبة، واسحب ذيل التجاوز على ما يبدر منهم من التقصير، واحتمل منهم سوء الأحوال، وعاشرهم بجميل الأخلاق، وتحمّل عنهم كلّهم، وارحمهم كلّهم، فإن مرضوا فعدهم، وإن حرموك فأعطهم، وإن ظلموك فتجاوز عنهم، وإن قصّروا في حقى فاعف عنهم، واشفع لهم، واستغفر لهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 216] فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) لا تفعل مثل فعلهم، وكل حسابهم إلينا إلا فيما أمرناك بأن تقيم فيه عليهم حدّا، فعند ذلك لا تأخذك رأفة تمنعك من إقامة حدّنا عليهم. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 217] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) انقطع إلينا، واعتصم بنا، وتوسّل إلينا بنا، وكن على الدوام بنا، فإذا قلت فقل بنا، وإذا صلت فصل بنا، واشهد بقلبك- وهو في قبضتنا- تتحقق بأنك بنا ولنا. توكّل على «الْعَزِيزِ» تجد العزّة بتوكلك عليه في الدارين، فإنّ العزيز من وثق بالعزيز.   (1) تصلح هذه الإشارة لتكون دستورا فى (الصحبة) بصفة عامة. وللقشيرى فصل في الرسالة في هذا الخصوص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 «الرَّحِيمِ» الذي يقرّب من تقرّب إليه، ويجزل البرّ لمن توسّل به إليه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 218] الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخلق، فإنّ من علم أنه بمشهد من الحقّ راعى دقائق أحواله، وخفايا أموره مع الحقّ «2» . قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 219] وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) هوّن عليه معاناة مشاقّ العبادة بإخباره برؤيته. ولا مشقّة لمن يعلم أنّه بمرأى من مولاه، وإنّ حمل الجبال الرواسي على شفر «3» جفن العين ليهون عند من يشاهد ربّه «4» . ويقال «تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» بين أصحابك، فهم نجوم وأنت بينهم بدر، أو هم بدور وأنت بينهم شمس، أو هم شموس وأنت بينهم شمس الشموس. ويقال: تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين الذين عرفوا الله، فسجدوا له دون من لم يعرفوه. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 220] إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) «السَّمِيعُ» لأنين المحبين، «الْعَلِيمُ» بحنين العارفين. «السَّمِيعُ» لأنين المذنبين، «الْعَلِيمُ» بأحوال المطيعين.   (1) هذه الإشارة نموذج طيب لعبقرية القشيري عند صياغة (وصاياه) للمريدين من الناحيتين الصوفية والأدبية. (2) يقال إنه لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية، ومعهم قوال، فاستأذنوا ذا النون أن يقول بين يديه شيئا، فأذن له، فابتدأ يقول، فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض. ثم قام رجل من القوم يتواجد، فقال له ذو النون: «الذي يراك حين تقوم» فجلس الرجل. ويعلق الشيخ الدقاق على هذه القصة بأن ذا النون كان صاحب إشراف على هذا الرجل، وكان الرجل صاحب إنصاف حين قبل منه ذلك فرجع وقعد (الرسالة ص 170) . (3) شفر الجفن- حرفه الذي ينبت عليه الهدب. (الوسيط) . (4) يربط النسفي بين هذه الآية وبين الآيتين السابقة واللاحقة، فالمعنى عنده: أنه سبحانه (يراك حين تقوم) متهجدا، ويرى (تقلبك) فى المصلين يرى ما كنت تفعل في جوف الليل من قيامك للتهجد، وتقلبك في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ولتعلم كيف كانوا يعملون لآخرتهم. وهو (سميع) لما تقوله، (عليم) بما تنويه وبما تعمله، وبذلك هوّن عليه معاناة كل مشقة حيث أخبر برؤيته له في كل ما يقوم به. (تفسير النسفي ج 3 ص 199) ط عيسى الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) بيّن أن الشياطين تتنزّل على الكفار والكهنة «1» فتوحى إليهم بوساوسهم الباطلة. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : الآيات 224 الى 226] وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) لمّا ذكر الوحى وما يأتى به الملائكة من قبل الله ذكر ما يوسوس به الشياطين إلى أوليائه، وألحق بهم الشعراء الذين في الباطل يهيمون، وفي أعراض الناس يقعون، وفي التشبيهات- عن حدّ الاستقامة- يخرجون، ويعدون من أنفسهم بما لا يوفون، وسبيل الكذب يسلكون. قوله جل ذكره: [سورة الشعراء (26) : آية 227] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) فيكون شعره خاليا من هذه الوجوه المعلولة المذمومة «2» ، وهذا كما قيل: الشعر كلام إنسان فحسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه. قوله جل ذكره: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» . سيعلم الذين ظلموا سوء ما عملوا، ويندمون على ما أسلفوا، ويصدقون بما كذّبوا.   (1) من أمثال سطيح وطليحة ومسيلمة. وإذا كان محمد (ص) يشم الأفاكين ويذمهم.. فكيف تنزل الشياطين عليه؟! [ ..... ] (2) من أمثال عبد الله بن رواحه وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضى الله عنهم، فشعرهم غلبت عليه الحكمة والموعظة والزهد، والدعوة إلى الفضيلة، ومؤازرة الدين الجديد، ورفع لواء التوحيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 السورة التي يذكر فيها النمل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم عزيز قصده العاصي لطلب التخفيف فصار وزره مغفورا، اسم كريم قصده العابد لطلب التضعيف فصار أجره موفورا، اسم جليل أمّه الوليّ لطلب التشريف فصار سعيه مشكورا، اسم عزيز إن تعرّض الفقير لوجوده محقته العزّة، وطوّحته السّطوة، فصار كأن لم يكن شيئا مذكورا. جلّت الأحدية.. فأنّى بالوصول! وتقدّست الصمدية.. فمن ذا الذي عليها يقف «1» ؟. «كَلَّا.. إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» «2» : وكم باسطين إلى وصلنا ... أكفّهمو.. لم ينالوا نصيبا! قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيّب أمل من أمّل لطفى. بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى-. طلب القاصدين مقابل بلطفي، وسعى العاملين مشكور بعطفى «3» .   (1) التوحيد- فى نظر القشيري- هو أعلى درجات العرفان، وهذا التوحيد العرفانى- متأثرا التوحيد الإسلامى الأصيل- لا يشوبه كدر ولا تعقيد ولا تداخل ولا حلول ولا امتزاج. فعرفان الصوفي مهما عظم لا يتعدى كونه (عرفانا بنعت التعالي في شهود أفعال الحق، فأمّا الوقوف على حقيقة الإنية فقد جلّت الصمدية عن إشراف عرفان عليها) تفسير بسملة سورة الجمعة «من هذا المجلد» . (2) آية 54 سورة المدثر. (3) غير خاف على القارئ أن يلحط تردد حرفى الطاء والسين في كلمات الأسطر الثلاثة، كأنما القشيري يريدنا أن نتفهم دقائق (طس) من بعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 «تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» : هذه دلالات كرمنا، وأمارات فضلنا وشواهد برّنا، نبيّن لأوليائنا صدق وعدنا، وتحقق للأصفياء حفظ عهدنا. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 2] هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) هذه الآيات وهذا الكتاب بيان وشفاء، ونور وضياء، وبشرى ودليل لمن حققنا لهم الإيمان، وأكّدنا لهم الضمان، وكفلنا لهم الإحسان. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) يديمون المواصلات، ويستقيمون في آداب المناجاة ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم الزكاة، بما يقومون في حقوق المسلمين أحسن مقام، وينوبون عن ضعفائهم أحسن مناب. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 4] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أغشيناهم فهم لا يبصرون، وعمّينا عليهم المسالك فهم عن الطريقة المثلى يعدلون، أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يتردّون. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 5] أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) «سُوءُ الْعَذابِ» أن يجد الآلام ولا يجد التسلّى بمعرفة المسلّى، ويحمل البلاء ولا يحمل عنه ثقله وعذابه شهود المبلى.. وذلك للكفار، فأمّا المؤمنون فيخفّف عنهم العذاب في الآخرة حسن رجائهم في الله، ثم تضرّعهم إلى الله، ثم فضل الله معهم بالتخفيف في حال البلاء ثم ما وقع عليهم من الغشي والإفاقة- كما في الخبر- إلى وقت إخراجهم من النار. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 6] وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 أي أن الذي أكرمك بإنزال القرآن عليك هو الذي بحفظك عن الأسواء والأعداء وصنوف البلاء. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 7] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجها إلى مصر، ودجا عليه الليل، وأخذ امرأته الطّلق وهبّت الرياح الباردة، ولم يور الزّند، وضاق على موسى الأمر، واستبهم الوقت، وتشتتت به الهمة، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى نارا من بعيد، فقال لأهله: امكثوا إنّى أبصرت نارا. وفي القصة: إنه تشتت أغنامه، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعه فشردت، فقالت امرأته: كيف تتركنا وتمضى والوادي مسبع؟!. فقال: امكثوا.. فإنى لأجلكم أمضى وأتعرف أمر هذه النار، لعلّى آتيكم منها إمّا بقبس أو شعلة، أو بخبر عن قوم نزول عليها تكون لنا بهم استعانة، ومن جهتهم انتفاع. وبدت لعينه تلك النار قريبة، فكان يمشى نحوها، وهي تتباعد حتى قرب منها، فرأى شجرة رطبة خضراء تشتعل كلّها من أولها إلى آخرها، وهي نار مضيئة، فجمع خشيبات وأراد أن يقتبس منها، فعند ذلك سمع النداء من الله لا من الشجرة كما توهّم المخالفون من أهل البدع. وحصل الإجماع أنّ موسى سمع تلك الليلة كلام الله، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة، ولأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء في الشجرة «1» . وإلا فنحن نجوّز أن يخلق الله نداء فى الشجرة ويكون تعريفا، ولكن حينئذ يكون المتكلم بذلك الشجرة.   (1) أي أنه على هذا الرأى كلام غير مخلوق، لأن كلام الله صفته، وصفته- سبحانه- غير مخلوقة.. وهذا هو نفس الرأى بالنسبة للقرآن، وهذا هو الجواب الذي دحض به السلف زعم الجهمية حينما أرادوا أن يثبتوا أن القرآن مخلوق، لأن القرآن شىء، «والله خالق كل شىء» (انظر مدارج السالكين لابن القيم ج 1 ص 222) فيكون النداء الذي سمع من الشجرة كالكلام الذي بين دفتى المصحف.. كلاهما كلام الله- على الحقيقة، ولكن من حيث التجوز في التعبير يقال (فى الشجرة) و (فى المصحف) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 ولا ينكر في الجواز أن يكون الله أسمع موسى كلامه بإسماع خلقه له، وخلق كلاما فى الشجرة أيضا، فموسى سمع كلامه القديم وسمع كلاما مخلوقا في الشجرة ... وهذا من طريق العقل جائز. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 8] فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) أي بورك من هو في طلب النار ومن هو حول النار «1» . ومعنى بورك أي لحقته البركة أو أصابته البركة.. والبركة الزيادة والنّماء في الخير. والدعاء من القديم- سبحانه- بهذا يكون تحقيقا له وتيسيرا به. قوله جل ذكره [سورة النمل (27) : آية 9] يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) الذي يخاطبك «أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ» فى استحقاق جلالى، «الْحَكِيمُ» فى جميع أفعالى. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 10] وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) في آية أخرى بيّن أنه سأله، وقال له على وجه التقرير: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» وأجابه بقوله: «هِيَ عَصايَ» وذكر بعض ما له فيها من المآرب والمنافع، فقال الله: «وَأَلْقِ عَصاكَ» ، وذلك لأنه أراد أن يريه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمال اليقين. وألقاها موسى فقلبها الله ثعبانا، أولا حية صغيرة ثم صارت حية كبيرة، فأوجس في نفسه موسى خيفة وولّى مدبرا هاربا، وكان خوفه من أن يسلّطها عليه لمّا كان عارفا بأن الله يعذّب من يشاء بما يشاء، فقال له الحقّ: «يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» . أي لا ينبغى لهم أن يخافوا.   (1) يرى النسفي أن (من) فى مكان النار هم الملائكة، و (من حولها) هو موسى. (النسفي ح 3 ص 202) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 [سورة النمل (27) : آية 11] إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وهذا يدلّ على جواز الذّنب على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط ترك الإصرار. فأمّا من لا يجيز عليهم الذنوب فيحمل هذا على ما قبل النبوة «1» . فلمّا رأى موسى انقلاب العصا علم أنّ الحقّ هو الذي يكاشفه بذلك. ويقال: كيف علم موسى- عليه السلام- أنّ الذي سمعه كلام الله؟. والجواب أنه بتعريف منه إياه، ويجوز أن يكون ذلك العلم ضروريا فيه، ويجوز أن يكون كسبيا، ويكون الدليل له الذي به علم صدقه في قوله: «إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ» هو ما ظهر على يده- فى الوقت- من المعجزة، من قلب العصا، وإخراج يده بيضاء «2» . قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 12] وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) من غير سوء أي برص. وفي القصة أن موسى عليه السلام ذكر اشتغال قلبه بحديث امرأته، وما أصابه تلك الليلة من الأحوال التي أوجبت انزعاجه، وقصده في طلب النار، فقال الله تعالى: إنا قد كفيناك ذلك الأمر، ووكلنا بامرأتك وأسبابك، فجمعنا أغنامك وثيرانك، وسلمت لك المرأة. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 13] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) .   (1) لا يستخدم فريق من الفقهاء تعبير (الذنب) بالنسبة للأنبياء عليهم السلام وإنما يطلق على ما يبدر منهم (فعل خلاف الأولى) تأدبا. والنبي- على الوجوب- معصوم، والولىّ محفوظ أي قد تقع منه هنات أو زلات ولكنه لا يصر على ما فعل (الرسالة ص 175) . (2) أي أن الأصل في المعجزة أنها دليل صدق النبي، فقد يستطيع السحرة والكهنة عمل أشياء عجيبة ولكنها لا تخرج عن كونها دليل مهارة أو ذكاء أو قدرة على الإيهام والانبهار. والنبي مأمور بإظهار المعجزة أما الولي فمأمور بإخفاء الكرامة (الرسالة ص 174) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 لم يظهر الله- سبحانه- آية على رسول من أنبيائه- عليهم السلام- إلّا كانت فى الوضوح بحيث لو وضعوا النظر فيها موضعه لتوصّلوا إلى حصول العلم وثلج الصدور، ولكنهم قصّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجحد. قال تعالى وقوله صدق: [سورة النمل (27) : آية 14] وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وكما يحصل من الكافر الجحد «1» تحصل للعاصى عند الإلمام ببعض الذنوب حالة يعلم فيها- بالقطع- أن ما يفعله غير جائز، وتتوالى على قلبه الخواطر الزاجرة الداعية له عن فعلها من غير أن يكون متغافلا عنها أو ناسيا لها، ثم يقدم على ذلك غير محتفل بها موافقة لشهوته. وهذا الجنس من المعاصي أكثرها شؤما، وأشدّها في العقوبة، وأبعدها عن الغفران. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 15] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) يقتضى حكم هذا الخطاب أنه أفردهما بجنس من العلم لم يشاركهما فيه أحد لأنه ذكره على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ويحتمل أنه كان بزيادة بيان لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو معرّض للشك فيه «2» .   (1) ليس حتما أن يكون جحد الجاحد بعد المعرفة لأن (جحد) بمعنى أنكر، وقد يكون الإنكار نتيجة جهل بالشيء، ولكن الواضح أن القشيري يتجه إلى توضيح أسوأ ألوان الجحود، وهو الذي يحدث بعد المعرفة، وقد أحسن القشيري حين قابل بين ذلك وبين أسوأ أحوال العاصي، وهي تلك التي يقدم فيها على المعصية وهو عليم بعاقبتها، ومع ذلك يعقد النية عليها، ويفعلها. (2) نعلم من مذهب القشيري أن البيان أرقى في المعراج العرفانى من البرهان، ونجد هنا سبب تفوق البيان على البرهان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 ويحتمل أن يكون علمهما بأحوال أمتهما على وجه الإشراف على ما كانوا يستسرون به، فيكون إخبارهما عن ذلك معجزة لهما. ويحتمل أن يكون قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» . ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادة لهما في البيان. وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات، فأخبر بأنهما شكرا الله على عظيم ما أنعم به عليهما «1» . قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 16] وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) ورث أباه في النبوة، وورثه في أن أقامه مقامه. قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» : وكان ذلك معجزة له، أظهرها لقومه ليعلموا بها صدق إخباره عن نبوته. ومن كان صاحب بصيرة وحضور قلب بالله يشهد الأشياء كلّها بالله ومن الله. ويكون مكاشفا بها من حيث التفهيم، فكأنه يسمع من كل شيء تعريفات الحقّ- سبحانه- للعبد مما لا نهاية له، وذلك موجود فيهم محكيّ عنهم. وكما أنّ ضرب الطّبل مثلا دليل يعرف- بالمواضعة- عند سماعه وقت الرحيل والنزول فالحقّ- سبحانه- يخصّ أهل الحضور بفنون التعريفات، من سماع الأصوات وشهود أحوال المرئيات في اختلافها، كما قيل: إذا المرء كانت له فكرة ... ففى كل شىء له عبرة قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 17] وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) .   (1) قال صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» والعلم نعمة تحتاج إلى الشكر، ويلزم أن يعتقد العالم أنه إن فضّل على كثير فقد فضل عليه كثير أيضا، وما أحسن قول عمر رضى الله عنه: كل الناس أفقه من عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 سخّر الله لسليمان- عليه السلام- الجنّ والطير، فكان الجنّ مكلّفين، والطير كانت مسخّرة إلا أنه كان عليها شرع، وكذلك الحيوانات التي كانت في وقته، حتى النمل كان سليمان يعرف. خطابهم وينفذ عليهم حكمه. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 18] حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) قيل إن سليمان استحضر أمير النمل الذي قال لقومه: «ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» وقال له: أما علمت أنّى معصوم، وأنّى لن أمكّن عسكرى من أن يطئوكم؟ فأخبره أمير النمل أنّه لا يعلم ذلك لأنه ليس بواجب أن يكون النمل عالما بعصمة سليمان. ولو قال: لعلكم أبيح لكم ذلك.. لكان هذا أيضا جائزا. وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان: إنى أحمل قومى على الزهد في الدنيا، وخشيت إن يروكم في ملككم أن يرغبوا فيها «1» ، فأمرتهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوّش عليهم زهدهم. ولئن صحّ هذا ففيه دليل على وجوب سياسة الكبار لمن هو في رعيتهم. وفي الآية دليل على حسن الاحتراز ممّا يخشى وقوعه، وأنّ ذلك مما تقتضيه عادة النّفس وما فطروا عليه من التمييز. ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان: ما الذي أعطاك الله من الكرامة؟. فقال: سخّر لى الريح. فقال: أما علمت أنّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أعطيت إلا الريح؟ «2» . وهكذا بيّنه الكبير على لسان الصغير!. قوله جلّ ذكره: [سورة النمل (27) : آية 19] فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) .   (1) الضمير فى (فيها) يعود على الدنيا. (2) أي أنه عطاء زائل لا مكث له ولا قرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 التبسّم من الملوك يندر لمراعاتهم حكم السياسة، وذلك يدلّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسّم، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حسن سياسته لرعيته. وفي القصة أنه استعرض جنده ليراهم كم هم، فعرضهم عليه، وكانوا يأتون فوجا فوجا، حتى مضى شهر وسليمان واقف ينظر إليهم معتبرا فلم ينتهوا، ومرّ سليمان عليه السلام. وفي القصة: أن عظيم النمل كان مثل البغل في عظم الجثة، وله خرطوم. والله أعلم. قوله جل ذكره: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» . في ذلك دليل على أن نظره إليهم كان نظر اعتبار، وأنه رأى تعريف الله إياه ذلك، وتنبيهه عليه من جملة نعمه التي يجب عليها الشكر. وفي قوله: «وَعَلى والِدَيَّ» دليل على أنّ شكر الشاكر لله لا يختص بما أنعم به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خصّ وعمّ من نعمه. قوله جلّ ذكره: «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» . سأل حسن العاقبة لأنّ الصالح من عباده من هو مختوم له بالسعادة. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 20] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) تطلّبه فلمّا لم يره تعرّف ما سبب تأخره وغيبته. ودلّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تخف عليه غيبة طير هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعة واحدة.. وهذا أحسن ما قيل. ثم تهدّده إن لم يكن له عذر بعذاب شديد، وذلك يدلّ على كمال سياسته وعدله فى مملكته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وقال قوم إنما عرف أن الهدهد يعرف أعماق الماء بإلهام خصّ به، وأنّ سليمان كان قد نزل منزلا ليس به ماء، فطلب الهدهد ليديهم إلى مواضع الماء، وهذا ممكن لأن في الهدهد كثرة. وغيبة واحد منها لا يحصل منها خلل- اللهم إلّا إن كان ذلك الواحد مخصوصا بمعرفة مواضع وأعماق الماء.. والله أعلم. وروى أن ابن عباس سئل عن ذلك، وأنه قيل له: إن كان الهدهد يرى الماء تحت التراب ويعرفه فكيف لا يرى الفخّ مخفيّا تحت التراب؟. فقال: إذا جاء القضاء عمى البصر. ويقال: إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مصطفة، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها، فوقع شعاع الشمس على الأرض، فنظر سليمان فرأى موضع الهدهد خاليا منه، فعرف بذلك غيبته.. وهذا أيضا ممكن، ويدل على كمال تفقّده، وكمال تيقّظه- كما ذكرنا. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 21] لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فى هذه الآية دليل على مقدار الجرم، وأنه لا عبرة بصغر الجثة وعظمها. وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شرع، وأنّ لهم من الله إلهاما وإعلاما وإن كان لا يعرف ذلك على وجه القطع. وتعيين «1» ذلك العذاب الشديد غير ممكن قطعا، إلا تجويزا واحتمالا. وعلى هذه الطريقة يحتمل كلّ ما قيل فيه. ويمكن أن يقال فإن وجد في شىء نقل فهو متّبع. وقد قيل هو نتف ريشه وإلقاؤه في الشمس.   (1) واضح هنا طريقة مناقشة القشيري لشىء لم يرد به النقل، وكيف يعطى النقل أهمية وتقديرا، فإذا لم يكن نقل فينبغى التجويز لا القطع. وواضح كذلك مدى استغلاله لهذا الموقف في توجيه كلامه للمريدين والطالبين بطريق غير مباشر. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وقيل يفرّق بينه وبين أليفه. وقيل يشتّت عليه وقته. وقيل يلزمه خدمة أقرانه. والأولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت، وألا يقطع بشىء دون غيره على وجه القطع. فمن العذاب الشديد أن يمنع حلاوة الخدمة فيجد ألم المشقة. ومن ذلك أن يقطع عنه حسن التولي لشأنه ويوكل إلى حوله ونفسه، ومن ذلك أن يمتحن بالحرص في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه. ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع «1» . ومن ذلك سلب القناعة، ومنه عدم الرضا بما يجرى. ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شىء من الخلق. ومن ذلك الحاجة إلى الأخسّة من الناس. ومن ذلك ذلّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم. ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر. ومن ذلك التباس طريق الرّشد. ومنه حسبان الباطل بصفة الحق، والتباس الحقّ في صورة الباطل. ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده. ومنه الفقر في الغربة. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 22 الى 23] فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) فلم يلبث الهدهد أن جاء، وعلم أن سليمان قد تهدّده، فقال: أحطت علما بما هو عليك خاف، «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» ثم ذكر حديث بلقيس، وأنها ملكتهم، وأن لها من المال والملك والسرير العظيم   (1) عاد القشيري إلى الآية نفسها في رسالته حيث يقول: وقيل في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا- يعنى لأسلبنه القناعة ولأبتلينّه بالطمع يعنى أسأل الله تعالى أن يفعل به ذلك (الرسالة- ص 82) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ما عدّه، فلم يتغير سليمان- عليه السلام- لذلك، ولم يستفزّه الطمع فيما سمع عن هذا كما يحدث من عادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما قال: [سورة النمل (27) : آية 24] وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) فعند ذلك غاظ هذا سليمان، وغضب في الله، و: [سورة النمل (27) : آية 27] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم فيجب التوقف فيه على حدّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يطرح بل يجب أن بتعرّف: هل هو صدق أم كذب؟ «1» ولمّا عرف سليمان هذا العذر ترك عقوبته وما توعّده به.. وكذلك سبيل الوالي فإنّ عدله يمنعه من الحيف على رعيته، ويقبل عذر من وجده في صورة المجرمين إذا صدق في اعتذاره. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 28] اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) فى الآية إشارة إلى أنه لا ينبغى للإنسان أن يذكر بين يدى الملوك كلّ كلمة، فإنه يجرّ العناء بذلك إلى نفسه وقد كان لسليمان من الخدم والحشم ومن يأتمر بأمره الكثير، ولكنه لم يستعمل واحدا في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال، فلزمه الخروج من عهدة ما قال. ويقال لمّا صدق فيما أخبر لملكه عوّض عليه فأهّل للسفارة والرسالة- على ضعف صورته «2» .   (1) يضاف هذا الرأى في أخبار الآحاد إلى مذهب القشيري في المسائل الحديثية والفقهية. (2) هنا إشارة بعيدة إلى الرسل والأولياء، ودحض لما يقال عنهم من التهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فمضى الهدهد، وألقى الكتاب إليها كما أمر، وانتحى إلى جانب ينتظر ماذا يفعلون وبماذا يجاب. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 31] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) «كِتابٌ كَرِيمٌ» الكرم نفى الدناءة، وقيل لأنه كان مختوما «1» ، وقيل لأنّ الرسول كان طيرا فعلمت أنّ من تكون الطير مسخّرة له لا بدّ أنه عظيم الشأن. وقيل: لأنه كان مصدّرا ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نفسه أولا ولم يقل: إنه من سليمان إلى فلانة. ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في الملك بل كان دعاء إلى الله: «أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» . ويقال أخذ الكتاب بمجامع قلبها، وقهرها فلم يكن لها جواب، فقالت: «إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ» فلمّا عرفت قدر الكتاب وصلت باحترامها إلى بقاء ملكها، ورزقت الإسلام وصحبة سليمان. ويقال إذا كان الكتاب كريما لما فيه من آية التسمية فالكريم من الصلاة ما لا يتجرّد عن التسمية، وإذا تجرّدت كان الأمر فيها بالعكس. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 32] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) «2» .   (1) يقال إنه طبعه بالمسك وختمه بخاتمه. قال صلى الله عليه وسلم: «كرم الكتاب ختمه» وقيل من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخفّ به. (2) (حتى تشهدون) بكسر النون، أما الفتح فلحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب لأن ما سبق «حتى» أسلوب طلبى، فالفعل ينصب بعدها بأن مضمرة. وأصله «تشهدونى» فحذفت النون الأولى للنصب، والياء لدلالة الكسرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أخذت في المشاورة كما تقتضيه الحال في الأمور العظام فإن الملك «1» لا ينبغى أن يكون مستبدا برأيه، ويجب أن يكون له قوم من أهل الرأى والبصيرة. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 33] قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) أجابوا على شرط الأدب، وقالوا: ليس منا إلّا بذل الوسع، وليس لنا إلّا إظهار النّصح، وما علينا إلا متابعة الأمر- وتمشية الأمر وإمضاؤه.. إليك. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 34] قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) ويقال إنّ: «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» من قولها. ويقال: تغيير الملوك «2» إذا دخلوا قرية- عن صفتها- معلوم، ثم ينظر.. فإن كان الداخل عادلا أزال سنّة الجور، وأثبت سنّة العدل، وإن كان الداخل جائرا أزال الحسن وأثبت الباطل. هذا معلوم فإنّ خراب البلاد بولاة السّوء، حيث يستولى أسافل الناس وأسقاطهم على الأعزة منهم، وكما قيل: يا دولة ليس فيها ... من المعالي شظيه زولى فما أنت إلّا ... على الكرام بليه وعمارة الدنيا بولاة الرّشد، يكسرون رقاب الغاغة، ويخلّصون الكرام من أسر السّفلة، (ويأخذ القوس باريها) «3» ، وتطلع شمس العدل من برج شرفها.. كذلك المعرفة   (1) نعلم من سيرة القشيري أنه كانت بينه وبين أصحاب السلطة في موطنه خلافات في الرأى، فهو هنا يغمز بما ينبغى أن يكون عليه صاحب السلطان من آداب، سواء في اختيار أعوانه، أو في قبول النصح والشورى. (2) كأنما القشيري ينفس عن نفسه مما قاساه في عهد السلطان طغرل ووزيره الكندري وكأنما يمجد ما ناله من الخير في عهد السلطان ألب أرسلان. ووزيره العظيم نظام الملك (انظر مدخل هذا الكتاب: المجلد الأول) (3) هكذا في م وهي في ص (فتأخذ النفوس بأزمتها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 والخصال المحمودة إذا باشرت قلب عبد أخرجت عنه الشهوات والمنى، وسفاسف الأخلاق من الحقد والحسد والشحّ وصغر الهمة.. وغير ذلك من الأوصاف الذميمة وتثبت بدلها من الأحوال العليّة والأوصاف المرضيّة ما به نظام العبد وتمام سعادته. ومتى استولت على قلب غاغة النّفس والخصال المذمومة أزالت عنه عمارته، وأبطلت نضارته، فتخرب أوطان الحقائق، وتتداعى مساكن الأوصاف الحميدة للأفول، وعند ذلك، يعظم البلاء وتتراكم المحن. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 35] وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمان بهدايا، ومن جملتها لبنة مصنوعة من الفضة وأخرى من الذهب. وأن الله أخبر سليمان بذلك، وأوحى إليه في معناه. وأمر سليمان الشياطين حتى بنوا بساحة منزله ميدانا، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللّبن المصنوع من الذهب والفضة من أوله إلى آخره. وأمر بأن توقف الدوابّ على ذلك وألا تنظّف آثارها من روث وغيره، وأن يترك موضعان للبنتين خاليين في ممرّ الدخول. وأقبل رسلها، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين، فلمّا رأوا الأمر، ووقعت أبصارهم على طريقهم، صغر في أعينهم ما كان معهم، وخجلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة.. كيف يتخلصون مما معهم؟. فلمّا رأوا موضع اللّبنتين فارغا ظنّوا أن ذلك سرق من بينها، فقالوا لو أظهرنا هذا نسبنا إلى أنّا سرقناهما من هذا الموضع، فطرحاهما في الموضع الخالي، ودخلا على سليمان: قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 36] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) أتهدوننى مالا؟! وهل مثلى يستمال بمثل هذه الأفعال؟ إنكم وأمثالكم تعاملون بمثل ما عوملتم «1» ! إرجع إليهم: -   (1) أي أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزدادون وبما يهدى إليكم لأن ذلك مبلغ همتكم- وحالى خلاف حالكم، فأنا- بما آتاني الله- غنى عن حظوظ الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 [سورة النمل (27) : آية 37] ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) فلمّا رجعوا إلى بلقيس، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وجه لها سوى الاستسلام والطاعة، فعزمت على المسير إلى خدمته، وأوحى الله إلى سليمان بذلك، وأنها خرجت مستسلمة، فقال: أيكم يأتينى بعرشها؟. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) بسط الله- سبحانه- ملك سليمان، وكان في ملكه الجنّ والإنس والشياطين الجنّ على جهة التسخير، والإنس على حكم الطوع، والشياطين وكانوا على أقسام. ولمّا قال: «أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟» قال عفريت من الجن- وكان أقواهم- «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» ، فلم يرغب سليمان في قوله لأنه بنى القول فيه على دعوى قوّته «1» . قوله جل ذكره: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» .   (1) هذه نظرة ملامتية تعنمد على النفور من كل دعاوى النفس والتظاهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 «الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» (قيل هو آصف) «1» وكان صاحب كرامة. وكرامات الأولياء ملتحقة بمعجزات الأنبياء، إذ لو لم يكن النبيّ صادقا في نبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يصدّقه ويكون من جملة أمته. ومعلوم أنه لا يكون في وسع البشر الإتيان بالعرش بهذه السرعة، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى. وقطع المسافة البعيدة في لحظة لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين: إمّا بأن يقدّم «2» الله المسافة بين (العرش وبين منزل سليمان) «3» ، وإمّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان. وأيّ واحد من القسمين كان- لم يكن إلّا من قبل الله، فالذى كان عنده علم من الكتاب دعا الله- سبحانه- واستجاب له في ذلك، وأحضر العرش، وأمر سليمان حتى غيّر صورته فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وأثبته على تركيب آخر غير ما كان عليه. ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله- سبحانه- والاعتراف بعظم نعمه، والاستحياء، والتواضع له، وقال: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» لا باستحقاق منى، ولا باستطاعة من غيرى، بل أحمد النعمة لربّى حيث جعل في قومى ومن أمتى من له الجاه عنده فاستجاب دعاءه. وحقيقة الشكر- على لسان العلماء- الاعتراف بنعمة المنعم على جهة الخضوع والأحسن أن يقال الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه، فيدخل في هذا شكر الله للعبد لأنه ثناء منه على العبد بذكر إحسان العبد، وشكر العبد ثناء على الله بذكر إحسانه.. إلّا إنّ إحسان الحقّ هو إنعامه، وإحسان العبد طاعته وخدمته لله، وما هو الحميد من أفعاله. فأمّا على طريق أهل المعاملة وبيان الإشارة: فالشكر صرف النعمة في وجه الخدمة.   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. (2) فى م (يعدم) بالعين، وإعدام المسافة أي جعلها في حكم العدم مقبول في المعنى، وينسجم مع جعل العرش في حكم العدم وإعادة خلقه من جديد.. وكذلك تقديم المسافة (بالقاف) مقبول حتى يصبح نقله من مكان إلى مكان قريب ميسورا، فالإعدام أو التقديم كلاهما مقبول لأن القدرة الإلهية تشملهما. (3) هكذا في م ولكنها في ص (بين القريتين) أي قرية سليمان وقرية بلقيس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 ويقال الشكر ألّا تستعين بنعمته على معاصيه. ويقال الشكر شهود المنعم من غير مساكنة إلى النعمة. ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر. ويقال أعظم الشكر الشكر على توفيق الشكر. ويقال الشكر على قسمين: شكر العوام على شهود المزيد، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» » ، وشكر الخواص يكون مجردا عن طلب المزيد، غير متعرض لمنال العوض. ويقال حقيقة الشكر قيد النعم وارتباطها لأنّ بالشكر بقاءها ودوامها. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) أراد سليمان أن يمتحنها وأن يختبر عقلها، فأمر بتغيير عرشها، فلمّا رأته: - «قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ» فاستدلّ بذلك على كمال عقلها، وكان ذلك أمرا ناقضا للعادة، فصار لها آية وعلامة على صحة نبوة سليمان- عليه السلام- وأسلمت: - «وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» كان ذلك امتحانا آخر لها. فقد أمر سليمان الشياطين أن يصنعوا من الزجاج شبه   (1) آية 7 سورة ابراهيم. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 طبق كبير صاف مضىء، ووضعه فوق بركة بها ماء كثير عميق، يرى الماء من أسفل الزجاج ولا يميّز بين الزجاج والماء، وأمرت أن تخوض تلك البركة، فكشفت عن ساقيها لأنها وصفت لسليمان بأنها جنّية النّسب، وأن رجليها كحوافر الدواب، فتقوّلوا عليها. ولمّا توهّمت أنها تخوض الماء كشفت عن ساقيها، فرأى سليمان رجليها صحيحين. وقيل لها: ِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ» : فصار ذلك أيضا سببا وموجبا ليقينها. وآمنت وتزوج بها سليمان عليه السلام. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) ذكر قصة ثمود، وقصة نبيّهم صالح عليه السلام، وما جرى بينه وبينهم من التكذيب، وطلبهم منه معجزة، وحديث الناقة وعقرها، وتبرمهم بالناقة بعد أن رأوا فيها من الفعل الذي كانت لهم فيه أعظم آية.. إلى قوله: [سورة النمل (27) : آية 50] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) ومكرهم ما أظهروا في الظاهر من موافقة صالح، وعقرهم الناقة خفية، وتوريك الذّنب على غير جارمه «1» ، والتبرّى من اختيارهم ذلك. وأمّا مكر الله فهو جزاؤهم على مكرهم بإخفاء ما أراد بهم من العقوبة عنهم، ثم إحلالها بهم بغتة. فالمكر من الله تخليته إياهم مع مكرهم بحيث لا يعصمهم، وتزيين ذلك في أعينهم، وتحبيب ذلك إليهم.. ولو شاء لعصمهم. ومن أليم مكره انتشار الصيت بالصلاح، والعمل في السّرّ بخلاف ما يتوهم بهم من الصلاح، وفي الآخرة لا يجوز في سوقها هذا النّقد! «2» .   (1) أي إلقاء الجرم على غير من اقترف الجرم. (2) جميل من القشيري تعبيره عن أسلوب (التعامل) بين الخلق والمخلوق مكرا بمكر بلفظة (النقد) .. وفي لآخرة لا يسرى هذا النقد، فلا يجدى مكرهم فتيلا لأن التعامل فى (سوق) الآخرة يكون على نحو آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 51 الى 52] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) أهلكهم ولم يغادر منهم أحدا: - «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» وفي الخبر: «لو كان الظلم بيتا في الجنة لسلّط الله عليه الخراب» فالنفوس إذا ظلمت بزلاتها خربت بلحوقها شؤم الذّلة حتى يتعود صاحبها الكسل، ويستوطن مركب الفشل، ويحرم التوفيق، ويتوالى عليه الخذلان وقسوة القلب وجحود العين «1» وانتفاء تعظيم الشريعة من القلب. وأصحاب القلوب إذا ظلموها بالغفلة ولم يحاولوا طردها عن قلوبهم.. خربت قلوبهم حتى تقسو بعد الرأفة، وتجف بعد الصفوة. فخراب النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة، وخراب القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة، وخراب الأرواح باستيلاء الحجبة والوقفة، وخراب الأسرار باستيلاء الغيبة والوحشة «2» . قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) ذكر قصة لوط وأمته، وما أصرّوا عليه من الفاحشة، وما أحلّ الله بهم من العقوبة، وإحلال العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القوم، وتخليص الحقّ لوطا من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بعثوا لإهلاكهم. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 59] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) .   (1) أي لا تكون مقرا للاعتبار. (2) هذه إشارة هامة توضح آفات الطريق في مراحله المختلفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 هم الذين سلّم عليهم في آزاله وهم في كتم العدم، وفي متناول علمه ومتعلق قدرته، ولم يكونوا أعيانا في العدم ولا أفادوا «1» ، فلمّا أظهرهم في الوجود سلّم عليهم بذلك السلام، ويسمعهم في الآخرة ذلك السلام. والذين سلّم عليهم هم الذين سلموا اليوم من الشكوك والشّبه، ومن فنون البدع، ومن وجوه الألم، ثم من فنون الزّلل وصنوف الخلل، ثم من الغيبة والحجبة وما ينافى دوام القربة. ويقال اصطفاهم، ثم هداهم، ثم آواهم، وسلّم عليهم قبل أن خلقهم وأبداهم، وبعد أن سلّم عليهم بودّه لقّاهم. ويقال: اصطفاهم بنور اليقين وحلّة الوصل وكمال العيش. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 60] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) فثمرات الظاهر غذاء النفوس، وثمرات الباطن والأسرار ضياء القلوب، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاء بقية فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبة والحجبة والنفرة والتهمة شظيّة. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 61] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) نفوس العابدين قرار طاعتهم، وقلوب العارفين قرار معرفتهم، وأرواح الواجدين قرار   (1) ربما يقصد القشيري أنهم- وقد كانوا في كتم العدم- لم تصدر عنهم طاعة تفيدهم في استحقاق إثابة لهم واستيجاب تسليم عليهم.. والمقصود- إن صحّ هذا الرأى- أن عمل الإنسان لا قيمة له بجانب الفضل الإلهى والقسمة السابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 محبتهم، وأسرار الموحّدين قرار مشاهدتهم «1» ، فى أسرارهم أنوار الوصلة وعيون القربة، وبها يسكن ظلما اشتياقهم وهيجان قلقهم واحتراقهم. «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» من الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. ويقال «جَعَلَ لَها رَواسِيَ» اليقين والتوكل. ويقال الرواسي في الأرض الأبدال والأولياء والأوتاد «2» بهم يديم إمساك الأرض، وببركاتهم يدفع عن أهلها البلاء. ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يهدون المسترشدين إلى الله. قوله جل ذكره: «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . «جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدهما صاحبه. ويقال بين العبودية وأحكامها، والحقيقة وأحكامها، فلو غلبت العبودية كانت جحدا للحقيقة، ولو غلبت الحقيقة العبودية كانت طيّا للشريعة. ويقال: ألسنة المريدين مقرّ ذكره، وأسماعهم محلّ الإدراك الموصّل إلى الفهم، والعيون مقر الاعتبار. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 62] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) فصل بين الإجابة وبين كشف السوء فالإجابة بالقول والكشف بالطّول، الإجابة بالكلام والكشف بالإنعام. ودعاء المضطر لا حجاب له، وكذلك دعاء المظلوم» ولكن لكلّ أجل كتاب» .   (1) هكذا في م وهي في ص (مساعدتهم) ويبدو أن الهاء التبست على الناسخ، فالمعروف أن الاسرار محل المشاهدة. (2) جاء في حلية الأولياء (ح 8 ص 367) حديث عن النبي (ص) : «خيار أمتى في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأبدال، كلما مات رجل أبدل الله عز وجل من الخمسمائة مكانه وأدخل من الأربعين مكانهم) . ويرى الجرجاني: أن الأبدال سبعة (التعريفات ص 37 ط مصر سنة 1938) ويرى ابن عساكر: أنهم 22 بالشام 18 بالعراق (تاريخ دمشق لابن عساكر ح 1 ص 278) . ويرى الهجويرى: أن الأوتاد أربعة يطوفون العالم بجملته كل ليلة (كشف المحجوب ص 269) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 ويقال للجناية: سراية فمن كان في الجناية مختارا فليس تسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف منه وهو مختار فيه، فأكثر الناس يتوهمون أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بدر منهم في حال اختيارهم. ومادام العبد يتوهم من نفسه شيئا من الحول والحيلة، ويرى لنفسه شيئا من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه- فليس بمضطر، فالمضطرّ يرى نفسه كالغريق في البحر، أو الضّالّ فى المتاهة، وهو يرى عنانه بيد سيّده، وزمامه في قبضته، فهو كالميت بين يدى غاسله، وهو لا يرى لنفسه استحقاقا للنجاة لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة «1» . ولا ينبغى للمضطر أن يستعين بأحد في أن يدعو له لأنّ الله وعد الإجابة له.. لا لمن يدعو له. ثم كما وعد المضطرّ الإجابة وكشف السوء وعده بقوله: - « ... وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» . فإنّ مع العسر يسرا، ولم يقل: للعسر إزالة، ولكن قال: مع العسر يسر فنهار اليسر حاصل بعد ظلام العسر. ثم قال: «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» لأنّ العبد إذا زال عسره، وكشف عنه ضرّه نسى ما كان فيه، وكما قال القائل: كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا   (1) إذا اطمأن العبد لنفسه، ولاحظ عمله فقد عنصرا هاما من عناصر السير فى هذا الطريق، وهو الإخلاص.. وفي ذلك يقول أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. ويرى أبو عثمان المغربي: أن إخلاص الخواص: هو ما يجرى عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية، ولا بها اعتداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 63] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) إذا أظلم الوقت على صاحبه في متعارض الخواطر عند استبهام وجه الصواب، وضاق الأمر بسبب وحشة التدبير وظلمات أحوال التجويز، والتحيّر عند طلب ترجيح بعض الخواطر على بعض بشواهد العقل.. فمن الذي يرشدكم لوجه الصواب بترك التدبير، وللاستسلام لحكم التقدير، وللخروج من ظلمات مجوّزات العقول إلى قضايا شهود التقدير، وتفويض الأمر إلى اختيار الحق، والاستسلام لما جرت به الأقسام، وسبقت به الأقدار؟. «.. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . من الذي يرسل رياح فضله بين يدى أنوار اختياره فيمحو آثار اختيار نفسك، ويعجّل بحسن الكفاية لك؟. ويقال: يرسل رياح التوكل فيطهّر القلوب من آثار الاختيار وأوضار التدبير، ثم يطلع شموس الرضا فيحصل برد الكفاية فوق المأمول في حال سكينة القلب.. أإله مع الله؟ «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» : من إحالة المقادير على الأسباب. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 64] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) يظهر ما يظهر بقدرته على مقتضى سابق حكمه، ويخصص ما تعلقت به مشيئته وحقّ فيه قوله، وسبق به قضاؤه وقدره. فإذا زال وانتفى وانعدم بعض ما يظهر ويخصص.. فمن الذي يعيده مثلما بدأه؟ ومن الذي يضيّق الرزق ويوسّعه؟ ومن الذي يقبض في بعض الأوقات على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 بعض الأشخاص؟ وفي وقت آخر من الذي يبسط على قوم آخرين؟. هل في قدرة أحد غير الله ذلك؟. إن توهمتم شيئا من ذلك فأوضحوا عنه حجّتكم. وإذ قد عجزتم.. فهلّا صدّقتم؟ وبالتوحيد أقررتم؟. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 65] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) «الْغَيْبَ» : ما لا يطّلع عليه أحد، وليس عليه للخلق دليل، وهو الذي يستأثر بعلمه الحقّ «1» ، وعلوم الخلق عنه متقاصرة، ثم ما يريد الله أن يخصّ قوما بعلمه أفردهم به. «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» : فإنه أخفى علم الساعة عن كل أحد. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 68 الى 66] «2» فهم في الجملة يشكّون فيه فلا ينفونه ولا بالقطع يجحدونه.. وهكذا حكم كلّ مريض القلب، فلا حياة له في الحقيقة، ولا راحة له من يأسه إذ هو من البعث في شكّ، ومن الحياة الثانية في استبعاد: - «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .   (1) هكذا في م وهي في ص (الخلق) وهي خطأ في النسخ إذ الحق هو الذي يستأثر بعلم الغيب. (2) يرى القرطبي أن القراءة هكذا والقراءة على (بل أدرك) معناهما واحد لأن أصل (ادّارك) تدارك وأدغمت الدال في التاء وجىء بألف الوصل (الجامع لأحكام القرآن ج 13 ص 226) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وعد آباؤنا بذلك من قبل، ثم لم يكن لهم تحقيق، وما نحن إلا مثلهم، وكانوا يسألون متى الساعة؟: [سورة النمل (27) : آية 71] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) فقال الحقّ: إنه عن قريب سيحل بهم ميقاته: - «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ «1» لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» . ثم قال جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 73] وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) لأنهم لا يميّزون بين محنهم ومنحهم. وعزيز من يعرف الفرق بين ما هو نعمة من الله له وبين ما هو محنة فإذا تقاصر علم العبد عمّا فيه صلاحه، فعسى أن يحب شيئا ويظنّه خيرا وبلاؤه فيه، وربّ شىء يظنّه العبد نعمة فيشكر عليها ويستديمها، وهي محنة له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صرّفها! وبعكس هذا كم من شىء يظنه الإنسان بخلاف ما هو به!. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 74] وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) لا تلتبس على الله أحوالهم فصادق يستوى ظاهره وباطنه يعلمه، ومنافق يخالف باطنه ظاهره يلبّس على الناس حاله.. وهو- سبحانه- يعلمه، وكافر يستوى في الجحد سرّه وعلنه يعلمه، وهو يجازى كلّا على ما علمه.. كيف لا.. وهو قدّره، وعلى ما عليه قضاه وقسمه؟:.   (1) من أردف أي تبع، وقال الفراء: ردف لكم أي دنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 75] وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) ما من شىء إلّا مثبت في اللوح المحفوظ حكمه، ماضية فيه مشيئته، متعلّق به علمه قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 78] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) وهم يخفون بعضا، وبعضا يظهرون، ومع ما يهوون يدورون. وفي هذه الآية تخصيص لهذه الأمة بأن حفظ الله كتابهم، وعصم من التغيير والتبديل ما به يدينون. وهذه نعمة عظيمة قليل منهم من عليهم يشكرون فالقرآن هدى ورحمة للمؤمنين، وليس ككتابهم الذي أخبر الصادق أنهم له محرّفون مبدّلون. «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» هو «الْعَزِيزُ» المعزّ للمؤمنين، «الْعَلِيمُ» بما يستحقه كلّ أحد من الثواب العظيم والعذاب الأليم. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 81] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) أي اجتهد في أداء فرضه، وثق بصدق وعده في نصره ورزقه، وكفايته وعونه. ولا يهولنّك ما يجرى على ظواهرهم من أذى يتصل منهم بك، فإنما ذلك كلّه بتسليطنا إن كان محذورا، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوبا. وإنك لعلى حقّ وضياء صدق، وهم على شكّ وظلمة شرك. قوله جل ذكره: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الذين أمات الله قلوبهم بالشرك، وأصمّهم عن سماع الحق- فليس في قدرتك أن تهديهم للرّشد أو تنقذهم من أسر الشكّ. «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكنك لا تهدى أحدا من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان، إذ ليست بقدرتك الإزالة أو الإمالة. أنت لا تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا، فلا يسمع منك إلّا من أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إلى الطريق. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 82] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) إذا حقّ الوعد بإقامة القيامة أوضحنا أشراطها في كلام الدّابة المخرجة من الأرض «1» . وغير ذلك من الآيات. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 83] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) وعند ذلك لا ينفع الإيمان ولا يقبل العذر: -   (1) فى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها (لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا زيادة من صحيح مسلم) طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» . ومن الأقوال في هذه الدابة: أنها فصيل ناقة صالح، ومنها أن هذه الدابة تكون إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، ومنها أنها تخرج من جبل الصفا بمكة بعد أن يتصدع ... إلى غير ذلك من الأقوال المنسوبة للصحابة والتابعين والمفسرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 [سورة النمل (27) : الآيات 85 الى 86] وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) ثم كرّر ذكر الليل والنهار واختلافهما: - «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» أي ليكون الليل وقت سكونهم، والنهار وقت طلب معاشهم. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 87] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) أخبر أن اليوم الذي ينفخ فيه في الصور هو يوم إزهاق الأرواح، وإخراجها عن الأجساد فمن روح ترقى إلى علّيين، ومن روح تذهب إلى سجّين. أولئك في حواصل طير تسرح فى الجنة تأوى بالليل إلى قناديل معلقة من تحت العرش صفتها التسبيح والرّوح والراحة، ولبعضها الشهود والرؤية ... على مقادير استحقاقهم لما كانوا عليه في دنياهم. وأمّا أرواح الكفار ففى النار تعذّب على مقادير أجرامهم. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 88] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) وكثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين، هم ساكنون بنفوسهم «1» سائحون في الملكوت بأسرارهم.. قيل: إن الإشارة اليوم إليهم. كما قالوا: العارف كائن بائن كائن مع الناس بظاهره، بائن عن جميع الخلق بسرائره.   (1) عرف الجنيد بسكونه وقلة اضطرابه عند السماع، فلما سئل في ذلك تلا: «وترى الجبال تحسبها جامده وهى .... » (اللمع للسراج ص 128) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 89 الى 90] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) يحتمل أن يكون «خَيْرٌ» هاهنا للمبالغة لأن الذي له في الآخرة من الثواب خير ممّا منه من القرب: ويحتمل فله نصيب خير أو عاقبة خير أو ثواب خير منها. وهم آمنون من فزع القيامة. ومن جاء بالسيئة: فكما أن حالهم اليوم من المطيعين بالعكس فحكمهم غدا فى الآخرة بالضدّ. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 92] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) أخبر أنه أمره بالدين الحنيفىّ، والتبرّى من الشّرك الجلىّ منه والخفىّ، وبملازمة الطريق السّويّ. وأخبر أنّ من اتبعه وصدّقه أوجب الحقّ ذمامه وحقّه. قوله جل ذكره: [سورة النمل (27) : آية 93] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) سيريكم- عن قريب- آياته، فطوبى لمن رجع قبل وفاته، والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت وفواته!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 سورة القصص قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله اسم عزيز من تعرض لجدواه يسّر له في دنياه وعقباه، اسم عزيز من اشتاق إلى لقياه استعذب فيه ما يلقاه من بلواه. ومن طلب غيره مؤنسا في دنياه أو عقباه «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) «الطاء» تشير إلى طهارة نفوس العابدين عن عبادة غير الله، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله، وطهارة أرواح الواجدين عن محبة غير الله، وطهارة أسرار الموحّدين عن شهود غير الله. «والسين» تشير إلى سرّ الله مع العاصين بالنجاة، ومع المطيعين بالدرجات، ومع المحبين بدوام المناجاة. «والميم» تشير إلى منّته على كافة المؤمنين بكفاية الأوقات والثبات فى سبيل الخيرات. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 3] نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) سماع قصة الحبيب من الحبيب يوجب سلوة القلب، وذهاب الكرب، وبهجة السّرّ، وثلج الفؤاد. وقد كرّر الحقّ ذكر قصة موسى تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم إفادة لزوائد في المذكور قوله في كل موضع يتكرر فيه. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 4] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 تكبّر فرعون بغير حقّ فأقماه بحقّ، وتجبّر بغير استحقاق فأذلّه الله باستحقاق واستيجاب، وجعل أهلها شيعا يذبّح أبناءهم «1» بعد ما استضعفهم، ويستحى نساءهم، وأفنى منهم من كان ( ... ) «2» ، وبالفساد حكم فيهم، والله لم يرض بترك إتلافهم. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 5 الى 6] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) نريد أن نمنّ على المستضعفين بالخلاص من أيديهم، وأن نجعلهم أئمة، بهم يهتدى الخلق، ومنهم يتعلم الناس سلوك طريق الصدق، ونبارك في أعمارهم، فيصيرون وارثين لأعمار من يناويهم، وتصير إليهم مساكنهم ومنازلهم فهم هداة وأعلام، وسادة وقادة بهم يقتدى وبنورهم يهتدى. «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» : نزيل عنهم الخوف، ونرزقهم البسطة والاقتدار، ونمد لهم فى الأجل. ونرى فرعون وهامان وقومهما ما كانوا يحذرون من زوال ملكهم على أيديهم وأنّ الحقّ يعطى- وإن كان عند الخلق أنّه يبطى. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 7] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) .   (1) كان سبب سلوكه هذا السبيل مع بنى إسرائيل أن الكهنة قالوا له ان مولودا يولد في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال له المنجمون ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك. قال الزجاج: العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل. [ ..... ] (2) مشتبهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 أي ألقينا في قلبها، وأوحينا إليها وحي إلهام، فاتّخذت خاطرها في ذلك، وجرى منها ذلك وهي مختارة باختيار أدخل عليها. لمّا وضعت أم موسى موسى كانت تخاف قتله، فإن فرعون قتل في ذلك اليوم كثيرا من الولدان المولودة لبنى إسرائيل، رجاء أن يقتل من رأى في النوم ما عبّر له أن ذهاب ملكه على يدى إسرائيلى.. فألقى الله في قلبها أن تفعل ذلك. ثم إنه ربّاه في حجره ذلك اليوم- ليعلم أنّ الأقدار لا تغالب. جعلت أم موسى موسى في تابوت، وألقته في نيل مصر، فجاء الماء به إلى بركة كان فرعون جالسا على حافتها، فأخذوه وحملوه إليه، وفتحوا رأس التابوت. فلمّا رآه فرعون أخذت رؤيته بمجامع قلبه، وكذلك تمكّن حبّه من قلب امرأة فرعون قال تعالى: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : «1» حيث خلق الله ملاحة في عينى موسى فكان من يقع عليه بصره لا يتمالك من حبّه. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 8 الى 10] فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) أخبر الله تعالى أنه كان عدوا لهم، وقالت امرأة فرعون: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . فلم يكن لهما ولد، وهم لا يشعرون إلى ماذا يئول أمره. «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .   (1) آية 39 سورة طه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 لمّا ألقته في الماء سكّن الله قلبها، وربط عليه، وألهمها الصبر، وأصبح فؤادها فارغا إن كادت لتبدى به من حيث ضعف «1» البشرية، ولكن الله ربط على قلبها. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 11] وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) أمرت أمّ موسى أخته أن تتبع أثره، وتنظر إلى ماذا يئول أمره، فلمّا وجدوه واستمكن حبّه من قلوبهم طلبوا من يرضعه: [سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 13] وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) أبى موسى قبول ثدى واحدة ممن عرض عليهن.. فمن بالغداة كانوا في اهتمام كيف يقتلونه أمسوا- وهم في جهدهم- كيف يغذّونه «2» ! فلمّا أعياهم أمره، قالت لهم أخته: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ؟» فقبلوا نصيحتها شفقة منهم عليه، وقالوا: نعم، فردّوه إلى أمّه «3» ، فلمّا وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فسرّوا بذلك، وكانوا يدعون أمّه حاضنة ومرضعة.. ولم يضرها، وكانوا يقولون عن فوعون: إنه أبوه.. ولم ينفعه ذلك «4» !   (1) هكذا في م، وقد أخطأ الناسخ في ص حين أضاف لفظة (الله) بعد (ضعف) . (2) هكذا في م، وفي ص (يعذبونه) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح. (3) هكذا في م، وفي ص (آمره) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح. (4) يقصد القشيري إلى شىء بعيد هو أن أحكام الناس ليست بالضرورة صائبة، وأن للأمور حقائق وجواهر وبواطن خافية، وأن أسماء الأشياء وظواهرها لا عبرة بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ولمّا أخذته أمّه علمت بتصديق الله ظنها، وسكن عن الانزعاج قلبها، وجرى من قصة فرعون ما جرى. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 14] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) لمّا كملت سنّة وتمّ عقله، واستوى كمال خصاله «آتَيْناهُ حُكْماً» : أي أتممنا له التحصيل، ووفّرنا له العلم، وبذلك جرت سنّتنا مع الأكابر والأنبياء. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 15] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) الآية. قيل: دخل المدينة في وقت الهاجرة، وتفرّق الناس، فوجد فيها رجلين يتخاصمان: أحدهما إسرائيليّ من شيعة موسى وعلى دينه، والآخر قبطيّ مخالف لهما، فاستغاث الإسرائيليّ بموسى على القبطي، فوكزه موسى ليدفعه عن الإسرائيلى، فمات الرجل بذلك الوكز، ولم يكن موسى يقصد قتله، فقال موسى: - «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» . فقد تمنّى موسى أن لو دفعه عنه بأيسر مما دفعه، ولم ينسب القتل إلى الشيطان «1» ، ولكنّ دفعه عنه بالغلظة نسبه إلى الشيطان بأن حمله على تلك الحدّة. وهكذا.. إذا أراد الله أمرا أجرى أسبابا ليحصل بها مراده، ولولا أنه أراد فتنة موسى لما قبض روح الرجل بمثل تلك الوكزة، فقد يضرب الرجل الكثير من الضّرب والسياط ثم لا يموت فموت القبطي بوكزة اجراء لما قضاه وأراده.   (1) يتصل ذلك برأى القشيري: أن الشيطان ليس بيده شىء لأنه لو كان بيده شىء لأمسك على الهداية نفسه، وكل عمل الشيطان أنه يوسوس في صدور الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 16] قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) تاب موسى عمّا جرى على يده، واستغفر ربّه، وأخبر الله أنه غفر له، ولا عتاب «1» بعد المغفرة. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 17] قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) قال موسى ربّ بما أنعمت عليّ من توفيقك لى بالتوبة «2» فلن أعود بعد ذلك إلى مثل ما سلف منى. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 19] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) أصبح في المدينة خائفا على نفسه من فرعون لأنه كان يدّعى أنه يحكم بالعدل، وخاف موسى أن ينسبه في قتل القبطيّ إلى العمد والقصد. فهو «يَتَرَقَّبُ» علم فرعون وأن يخبر بذلك في وقته.   (1) هكذا في النسختين ولا نستبعد أن تكون (عقاب) بالقاف فالسياق يحتملها أيضا وإن كانت (عتاب) أليق بمقام النبوة. (2) حقيقة التوبة أن يتوب الله عليك أولا، ويهيىء لك أسباب التوفيق لذلك، فإذا شكرت فاشكر له، فعملك لا يكفى ولا يغنى عن فضل الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وقيل «خائِفاً» من الله مما جرى منه. ويقال «خائِفاً» على قومه حلول العذاب بهم. وقيل «يَتَرَقَّبُ» نصرة الله إياه. ويقال «يَتَرَقَّبُ» مؤنسا يأنس به. فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصم إنسانا آخر، ويستعين به ليعينه، فهمّ موسى بأن يعين صاحبه، فقال الذي يخاصمه: «يا مُوسى، أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟» : قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لمّا قصد منعه عن صاحبه استدلّ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنّ موسى هو الذي قتل القبطيّ بالأمس، فأمسك موسى عن هذا الرجل. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 20 الى 21] وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) جاء اسرائيليّ من معارف موسى يسعى، وقال إن القوم يريدون قتلك، وأنا واقف على تدبيرهم وقد أرادوا إعلام فرعون.. فاخرج من هذا البلد، إنى لك من الناصحين. «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» خرج «1» من مصر «خائِفاً» أن يقتفوا أثره، «يَتَرَقَّبُ» أن يدركه الطلب، وقيل «يَتَرَقَّبُ» الكفاية والنصرة من الله، ودعا الله فقال: «نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 22] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) .   (1) ربما يذكرنا موقف موسى بقضية هامة في الطريق الصوفي هى «السفر» : وضرورته أو عدمها، وقد اختلف المشايخ في أمره (الرسالة ص 143) ، ويرى القشيري ضرورة السفر. إن نبا المكان واشتد البلاء. (الرسالة ص 202) وهو نفسه غادر بلاده عند إطباق المحنة عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 توجّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصد إلى مدين أو غيره، بل خرج على الفتوح «1» ، وتوجّه بقلبه إلى ربّه ينتظر أن يهديه ربّه إلى النحو الذي هو خير له، فقال: عسى ربى أن يهدينى إلى أرشد سبيل لى. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 25] وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) لمّا وافى مدين شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماء فى الحياض، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية. وكان شعيب النبيّ عليه السلام قد كفّ بصره لكثرة بكائه ففى القصة أنه بكى فذهب بصره، ثم ردّ الله عليه بصره فبكى، فردّ الله بصره فبكى حتى ذهب بصره، فأوحى الله إليه: لم تبكى يا شعيب..؟ إن كان بكاؤك لخوف النار فقد أمنتك، وإن كان لأجل الجنة فقد أتحتها لك. فقال: ربّ.. إنما أبكى شوقا إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أخدمتك نبيّى وكليمى عشر حجج. وكانت لشعيب أغنام، ولم يكن لديه أجير، فكانت بنتاه تسوقان الغنم مكان الرعاة، ولم يكن لهما قدرة «2» على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضوا «3» فإن بقيت في الحوض بقية من الماء استقت بنات شعيب.   (1) وهكذا سفر الأكابر. (2) هكذا في ص وهي في م (قوة) . (3) من الجائز أن تكون في الأصل (انفضوا) بالفاء فالسياق يحتملها بدليل قوله فيما بعد (فلما انصرف الرعاة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 فلمّا وافى موسى ذلك اليوم وشاهد ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رقّ قلبه لهما وقال: ما خطبكما؟ فقالتا: «لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» وليس لدينا أجير. فلمّا انصرف الرعاة سقى لهما، ثم تولّى إلى ظلّ جدار بعد ذلك. كان الجوع قد أصابه خلال سفره، ولم يكن قد تعوّد قط الرحلة والغربة، ولم يكن معه مال، فدعا الله: «فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» . قيل طلب قوة تزيل جوعه، وقيل طلب حالا يستقلّ بها. والأحسن أن يقال جاع فطلب كسرة يسدّ بها رمقه- والمعرفة توجب سؤال ما تحتاج إليه من الله قليلا أو كثيرا «1» . فلمّا انصرفت ابنتا شعيب خرج شعيب إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية لميسّها بيديه فوجد أثر الزيادة في تلك الكرّة، فسألهما فذكرتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فقال شعيب: إذا هو جائع. وبعث إحداهما لتدعوه: - «فجاءته إحداهما تمشى على استحياء قالت إنّ أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين» قيل إنما استحيت لأنها كانت تخاطب من لم يكن لها محرما «2» . وقيل لمّا دعته للضيافة تكلمت مستحيية- فالكريم يستحى من الضيافة. ويقال لم تطب نفس شعيب لمّا أحسن موسى إليه وأنه «3» لم يكافئه- وإن كان موسى   (1) لاحظ كيف طبق القشيري (أدب السؤال) ومتى يجب؟ وكيف يجب؟ على موقف موسى الغريب المسافر الجائع المتعب، وهذه الإشارة موجهة من بعين إلى أرباب الطريق. [ ..... ] (2) المحرم من الرجال والنساء الذي يحرم التزوج به لرحمه وقرابته. (3) الضمير فى (وأنه) يعود على شعيب كما هو واضح من السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 لم يرد مكافأة منهم «فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» : لم يقل: فلما جاءه قدّم السّفرة «1» بل قال: وقصّ عليه القصص.. وهذا طرف من قصته. ويقال: ورد بظاهره ماء مدين، وورد بقلبه موارد الأنس والرّوح. والموارد مختلفة فموارد القلب رياض البسط بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطفة، وموارد الأرواح مشاهد الأرواح فيكاشفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساس بالنّفس، وموارد الأسرار ساحات التوحيد.. وعند ذلك الولاية لله فلا نفس ولا حسّ، ولا قلب ولا أنس.. استهلاك في الصمدية وفناء بالكلية!. ويقال كانت الأجنبية والبعد عن المحرميّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراض والسكون عن سؤالهما.. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسّرّ استنطقه حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل: أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب ويقال: لمّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيام بأمرهما ليعلم أنّ من تفقّد أمر الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤهم. ويقال من كمال البلاء على موسى أنّه وافى الناس وكان جائعا، وكان مقتضى الرّفق أن يطعموه، ولكنه قبض القلوب عنه، واستقبله من موجبات حكم الوقت أن يعمل عمل أربعين رجلا لأن الصخرة التي نحّاها عن رأس البئر- وحده- كان ينقلها أربعون رجلا، فلمّا عمل عمل أربعين رجلا، تولّى إلى الظّلّ، وقال: إن رأيت أن تطعمنى بعد مقاساة اللتيا والتي.. فذلك فضلك!. قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسان أحلى من ذلك. وسنّة الشكوى أن تكون إليه لا منك.. بل منه إليه «2» .   (1) السفرة طعام يصنع للمسافر، أو مائدة وما عليها من طعام. (2) لأنك بلا أنت، فبالضرورة ليس منك شكوى، فعل الحقيقة لا وجود إلا له، فاتركه ممسكا بعنانك، واستسلم لما يختار، ولن يكون إلا الخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 ويقال: تولّى إلى ظلّ الأنس وروح البسط واستقلال السّرّ بحقيقة الوجود. ويقال قال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» : فزدنى فقرا فإنّ فقرى إليك يوجب استعانتى بك «1» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 26] قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) كان شعيب عليه السلام يحتاج إلى أجير، ولكن لا يسكن قلبه إلى أحد، فلمّا رأى موسى، وسمع من ابنته وصفه بالقوة والأمانة سأل: عرفت قوّته.. فكيف عرفت أمانته؟ فقالت: كنت أمشى قدّامه فأخّرنى عنه في الطريق قائلا: سيرى ورائي واهدينى، لئلا يقع بصره عليّ.. فقال شعيب: [سورة القصص (28) : آية 27] قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) فرغب موسى وتزوجها على صداق أن يعمل عشر حجج لشعيب. وفي القصة أن شعيبا قال لموسى: ادخل هذا البيت وأخرج مما فيه من العصيّ عصا، وكان البيت مظلما، فدخل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال: إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيّ إلى نبيّ. إذ يقال: إنه لما هبط آدم إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السّباع، فأنزل عليه الله عصا، وأمره جبريل أن يردّ السباع عن نفسه بتلك العصا.   (1) إظهار الضعف آية العبودية فالدعاء هنا ليس من قبيل الشكوى، ولكنه تعبير عن ضعف العبد أمام عظمة الربوبية، فكأنه نوع من التعبد (راجع قصة أيوب إذ نادى ربه .... ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وتوارث الأنبياء واحدا بعد الآخر تلك العصا، فلمّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب: ردّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخرج عصا أخرى، ففعل غير مرة، ولم تحصل كلّ مرة فى يده إلا تلك العصا، فلمّا تكرّر ذلك علم شعيب أنّ له شأنا فأعطاه إياها، وفي القصة: أنه في اليوم الأول ساق غنمه، وقال له شعيب: إنّ طريقك يتشعب شعبين: على أحدهما كلا كثير.. فلا تسلكه في الرعي فإنّ فيه ثعبانا، واسلك الشّعب الآخر. فلمّا بلغ موسى مفرق الطريقين، تفرّقت أغنامه ولم تطاوعه، وسامت في الشّعب الكثير الكلأ، فتبعها، ووقع عليه النوم، فلمّا انتبه رأى الثعبان مقتولا، فإن العصا قتلته، ولمّا انصرف أخبر شعيبا بذلك فسرّ به. وهكذا كان يرى موسى في عصاه آيات كثيرة، ولذا قال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 29] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) مضت عشر حجج، وأراد موسى الخروج إلى مصر، فحمل ابنه شعيب، وسار بأهله متوجّها إلى مصر. فكان أهله في تسييره وكان هو في تسيير الحقّ، ولمّا ظهر ما ظهر بامرأته من أمر الطّلق استصعب عليه الوقت، وبينا هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا- أي أبصر ورأى- فكأنه يشير إلى رؤية فيها نوع أنس: وإنّ الله إذا أراد أمرا أجرى ما يليق به، ولو لم تقع تلك الحالة لم يخرج موسى عندها بإيناس النار، وقد توهّم- أول الأمر- أنّ ما يستقبله في ذلك الوقت من جملة البلايا، ولكنه كان في الحقيقة سبب تحقيق النبوة. فلولا أسرار التقدير- التي لا يهتدى إليها الخلق- لما قال لأهله: «امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ويقال: ألاح له نارا ثم لوّح له نورا، ثم بدا ما بدا، ولا كان المقصود النّار ولا النور وإنما سماع نداء: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 30] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) الآية أخفى تعيين قدم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال: «مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ» ، ثم قال: «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» ثم قال «مِنَ الشَّجَرَةِ» . وأخلق بأن تكون تلك البقعة مباركة، فعندها سمع خطاب مولاه بلا واسطة وأعزّ الأماكن في العالم مشهد الأحباب: وإنى لأهوى الدار ما يستعزنى ... لها الود إلا أنها من دياركا ويقال: كم قدم وطئت لك البقعة، ولكن لم يسمع أصحابها بها شيئا!. وكم ليلة جنّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة!. ويقال: شتّان بين شجرة وشجرة شجرة آدم عندها ظهور محنته وفتنته، وشجرة موسى وعندها افتتاح نبوّته ورسالته!. ويقال: لم يأت بالتفصيل نوع تلك الشجرة «1» ، ولا يدرى ما الذي كانت تثمره، بل هي شجرة الوصلة وثمرتها القربة، وأصلها في أرض المحبة وفرعها باسق في سماء الصفوة، وأوراقها الزلفة، وأزهارها تنفتق عن نسيم الرّوح والبهجة: فلمّا سمع «2» موسى تغيّر عليه الحال ففى القصة: أنه غشى عليه، وأرسل الله إليه الملائكة ليروّحوه بمراوح الأنس، وهذا كان في ابتداء الأمر، والمبتدئ مرفوق به. وفي المرة الأخرى خرّ موسى صعقا، وكان يفيق والملائكة تقول له: يا ابن الحيض. أمثلك من يسأل الرؤية؟!   (1) قيل هي شجرة العليق وقيل العوسج والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد (القرطبي) . (2) معروف أن السماع عند الصوفية يصحبه- وخصوصا لدى المبتدئين- تأثيرات عضوية ونفسية حادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وكذا الحديث والقصة «1» فى البداية لطف وفي النهاية عنف، فى الأول ختل وفي الآخر قتل، كما قيل: فلمّا دارت الصهباء «2» ... دعا بالنّطع والسيف كذا من يشرب الراح ... مع التّنّين في الصيف «3» قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 31] وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) يا موسى.. اخلع نعليك والق عصاك، وأقم عندنا هذه الليلة، فلقد تعبت في الطريق- وذلك إن لم يكن في النقل والآثار فهو مما يليق بتلك الحال. يا موسى.. كيف كنت في الطريق؟ كيف صعّدت وكيف صوّبت «4» وكيف شرّقت وكيف غرّبت؟ ما كنت في الطريق وحدك يا موسى! أحصينا خطاك- فقد أحصينا كلّ شىء عددا. يا موسى.. تعبت فاسترح، وبعد ما جئت فلا تبرح- كذلك العبد غدا إذا قطع المسافة في القيامة، وتبوّأ منزله من الجنة فأقوام إذا دخلوها رجعوا إلى منازلهم تم يوم اللقاء يستحضرون، وآخرون يمضون من الطريق إلى بساط الزلفة، وكذا العبد أو الخادم إذا دخل بلد سلطانه. يبتدئ أولا بخدمة السّدّة العليّة ثم بعدها ينصرف إلى منزله. وكذلك اليوم أمرنا «5» إذا أصبحنا كلّ يوم: ألا نشتغل بشىء حتى نفتتح النهار بالخطاب مع الحقّ قبل أن نخاطب المخلوق، نحضر بساط الخدمة- أي الصلاة- بل نحضر بساط الدنوّ والقربة، قال تعالى: «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» «6» : فالمصلّى مناج ربّه. ولو علم المصلّى من   (1) يقصد حديث الحب وقصته (2) الرواية الصحيحة «فلما دارت الكأس» . (3) البيتان من المقطعة التي أنشدها الحلاج وهو يواجه مصرعه، وأولها: نديمى غير منسوب ... إلى شىء من الخوف (طبقات الشعراني ح 1 ص 120) (4) هكذا في م وهى في ص (ضربت) ، وضرب في الأرض أي جال وسار، وقد أثبتنا (صوّبت) لتتلاءم مع الأفعال المضعفة طبقا لما نعرف من حرص القشيري على الموسيقى اللفظية. (5) من هذا نفهم أن القشيري يكتب كتابه أو يمليه من أجل الصوفية، فضمير المتكلمين يدل على نوع من التخصيص. (6) آية 19 سورة العلق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 يناجى ما التفت أي لم يخرج عن صلاته ولم يلتفت يمينا وشمالا في التسليم الذي هو التحليل «1» . قوله جل ذكره: «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» . عند ما انقلبت العصا حيّة ولّى موسى مدبرا ولم يعقب، وكان موضع ذلك أن يقول: حديث أوّله تسليط ثعبان! من ذا يطيق أوّله؟!. فقيل له: لا تخف يا موسى إن الذي يقدر أن يقلب العصا حية يقدر أن يخلق لك منها السلامة: «يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» : ليس المقصود من هذا أنت، إنما أثبت هذا لأسلطه على عدوّك، فهذه معجزتك إلى قومك، وآيتك على عدوّك. ويقال: شتان بين نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- وبين موسى عليه السلام رجع من سماع الخطاب وأتى بثعبان سلّطه على عدوّه، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- رجع بعد ما أسرى به إلى السماء، وأوحى إليه ما أوحى- ليوافى أمّته بالصلاة التي هي المناجاة، وقيل له: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 32] اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قيل له: اسلك يدك في جيبك لأنّ المدرعة التي كانت عليه لم يكن لها كم. وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغى على المرء للوصول إلى مراده ومقصوده أن يتشمّر، وأن يجدّ،   (1) التحليل: الإباحة، والمقصود هنا أنه عقيب التسليم يحل له أن يخاطب الخلق وأن يشتغل بشىء بعد ما تمت مناجاته مع الحق، تلك المناجاة التي يؤثر القشيري دوامها واستمرارها. ومعلوم أن الصوفية إذا أنهوا صلاتهم يستمرون في الذكر والتأمل دون حدود. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وأن يخرج يده من كمّه. وإنه قال لموسى: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء، وألق عصاك نجعلها ثعبانا، بلا ضربك بها، وبلا استعمالك لها يا موسى: الأمر بنا لا بك، وأنا لا أنت. «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» : يا موسى، فى وصف خضوعك تجدنى، وبتبرّيك عن حولك وقوّتك تصل إليّ. قوله جل ذكره [سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) : تعلّل بكلّ وجه رجاء أن يعافى من مشقة التبليغ ومقاساة البلاء لأنه علم أنّ النبوة فيها مشقة، فلم يجد الرّخصة والإعفاء ممّا كلّف، وأجاب سؤله في أخيه حيث سأله أن يجعل له ردءا، وضمن لهما النصرة. ثم إنهما لمّا أتيا فرعون قابلهما بالتكذيب والجحد «1» ، ورماهما بالخطأ والكذب والسحر «2» ، وجاوباه «3» بالحجة، ودعواه إلى سواء المحجّة، فأبى إلّا الجحد. قوله جل ذكره [سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 40] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) ادّعى الانفراد بالإلهية فزاد في ضلاله على عبدة الأصنام الذين جعلوا أصنامهم شركاء، ثم قال لهامان: «فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» وكان هذا من زيادة ضلاله،   (1) (والجحد) موجودة في م وغير موجودة في ص. (2) (والسحر) موجودة في ص وغير موجودة في م. (3) هكذا في م وهي في ص (وحارباه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 حيث توهّم أن المعبود من جهة فوق، وأنه يمكن الوصول إليه. ولعمرى لو كان في جهة لأمكن تقدير الوصول إليه وتجويزه!. «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» أبى إلا أن يدوم جحوده، وعنوده، فأغرقه الله في البحر، كما أغرق قلبه في بحر الكفر. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 41] وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) لا لشرفهم جعلهم أئمة ولكن لسبب تلفهم قدّمهم في الخزي والهوان على كلّ أمة، ولكن لم يرشدوا إلّا إلى الضلال. ولم يدلّوا الخلق إلّا على المحال، وما حصلوا إلا على سوء الحال، وما ذاقوا إلا خزى الوبال. أفاضوا على متّبعيهم من ظلمات قلوبهم فافتضحوا فى خسّة «1» مطلوبهم. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 42] وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) كانوا في الدنيا مبعدين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طرد إلى طرد، ومن هجر إلى بعد، ومن فراق إلى احتراق. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 43] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)   (1) هكذا في م وهي في ص (خيبة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب، وأطيب المساكن ما كانت زينتها بفقد الرّقباء وغيبتهم، فلمّا أهلك الله فرعون وقومه، وأورث بنى إسرائيل أموالهم وديارهم، ومحا عن جميعها آثارهم- طاب لهم العيش وطلعت عليهم شموس السعادة. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 44] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) لم تكن حاضرا فتعرف ذلك مشاهدة، ولكنهم رأوا أنّ إخبارك عنهم بحيث لا يكذبك كتابهم. وبالضرورة عرفوا حالك، وكيف أنّك لم تعلم هذا من أحد، ولا قرأته من كتاب، لأنّك أمّيّ لا تحسن القراءة، وإذا فليس إخبارك إلا بتعريفنا إياك، واطلاعنا لك على ذلك. ويقال: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ» : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى، وكلّمناه، وخاطبناه في بابك وباب أمّتك، ولم تقدح غيبتكم في الحال، وكونى لكم خير من كونكم لكم. ويقال: لمّا خاطب موسى وكلّمه سأله موسى: إنّى أرى في التوراة أمّة صفتهم كذا وكذا.. من هم؟ وسأل عن أوصاف كثيرة، وعن الجميع كان يجاب بأنّها أمة أحمد «1» ، فاشتاق موسى إلى لقائنا، فقال له: إنه ليس اليوم وقت ظهورهم، فإن شئت أسمعتك كلامهم، فأراد أن يسمع كلامنا، فنادانا وقال: يا أمة أحمد..، فأجاب الكلّ من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم ولم يدركهم «2» . والغنيّ إذا سأله فقير وأجابه لا يرضى بأن   (1) هكذا في ص وهي في م (أمة محمد) ، ونحسب أن الأرجح أن تكون أحمد طبقا للآية «ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد» (2) تنسب هذه الرواية إلى وهب (القرطبي ح 13 ص 292) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 يردّه من غير إحسان إليه. (وفي رواية عن ابن عباس) «1» أن الله قال: «يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعونى وأعطيتكم قبل أن تسألونى، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى، ورحمتكم قبل أن تسترحمونى» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 45] وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) «2» ومما كان موسى عليه السلام يتلوه عليهم من الآيات ذكر نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالجميل. وذكر أمته بحسن الثناء عليهم، فنحن في الوجود محدث مخلوق وفي ذكره متعلق لا باستفتاح. ولم نكن في العدم أعيانا، ولا أشياء، ولكنا كنا في متعلق القدرة ومتناول العلم والمشيئة. وذكرنا في الخطاب الأزليّ والكلام الصمديّ والقول الأبديّ. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 46] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) ما طلبه موسى لأمته جعلناه لأمتك، وكما نادينا موسى- وهو في الوجود والظهور- ناديناكم وأنتم في كتم العدم، أنشدوا: كن لى كما كنت ... فى حال لم أكن قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 48] وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)   (1) أضفنا ما بين قوسين من عندنا لنكتب الرواية بكاملها فهى ناقصة في المتن. (2) ثاويا «مقيما.. قال المجاج: فبات حيث يدخل الثوى: أي الضيف المقيم» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 تمنوا في زمان الفترة أن يبعث الله إليهم رسولا ليهتدوا به، ووعدوا من أنفسهم الإيمان والإجابة، فلمّا أتاهم الرسول كذّبوه، وقالوا: هلّا خصّ بمثل معجزات موسى في الظهور، وكان ذلك منهم خطأ، واقتراحا في غير موضع الحاجة، وتحكّما بعد إزاحة العلّة: وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا ثم قال: أفلا تذكرون كيف كفروا بموسى وأخيه ورموهما بالسحر؟. وقال: إن ارتبتم أنّ هذا الكتاب من عند الله فأتوا بكتاب مثله، واستعينوا بشركائكم. ومن وقته إلى يومنا هذا لم يأت أحد بسورة مثله، وإلى القيامة لا يأتون بكتاب مثله. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 51] وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) أتبعنا رسولا بعد رسول، وأردفنا كتابا بعد كتاب، فما ازدادوا إلا كفرا وثبورا، وجحدا وعتوا.. فلا إلى الحقّ رجعوا، ولا إلى الاستقامة جنحوا. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 52] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) من أكحلنا بصيرتهم بنور الهداية صدّقوا بمقتضى مساعدة العناية، ومن أعميناه عن شهود التحقيق ولم تساعده لطائف التوفيق انتكس في غوايته، وانهمك في ضلالته. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 53 الى 54] وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 إذا سمعوا دعوتنا قابلوها بالتصديق، وانقادوا بحسن الاستسلام، فلا جرم يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا على الأوامر وصبروا على المحارم في عاجلهم وآجلهم، مرة في الآخرة وهي المثوبة وأخرى في الدنيا وهي لطائف القربة. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 55] وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) «اللَّغْوَ» : ما يلهى عن الله. ويقال «اللَّغْوَ» ما لا يوجب وسيلة عند الله، ويقال ما لا يكون بالحقّ للحقّ، ويقال هو ما صدر عن قلب غافل، ويقال هو ما يوجب سماعه السّهو. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 56] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) «1» الهداية في الحقيقة إمالة القلب من الباطل إلى الحقّ، وذلك من خصائص قدرة الحقّ- سبحانه- وتطلق الهداية بمعنى الدعاء إلى الحق- توسّعا، وذلك جائز بل واجب فى صفته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: «وإنك تهدى إلى صراط مستقيم» . ويقال: لك شرف النبوّة، ومنزلة الرسالة، وجمال السفارة، والمقام المحمود، والحوض المورود، (وأنت سيد ولد آدم.. ولكنك لا تهدى من أحببت فخصائص الربوبية لا تصلح) «2» لمن وصفه البشرية. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 57] وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)   (1) قال ابو إسحاق الزجاج: أجمع المفسرون أن هذه الآية نزلت في أبى طالب حين أبى أن ينطق الشهادة وقال: أنا على ملة عبد المطلب فقال الرسول (ص) : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك (أسباب النزول للواحدى ص 228) (2) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 قالوا نخاف الأعراب على أنفسنا إن صدّقناك، وآمنّا بك، (لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم) «1» فقال الله تعالى: وكيف تخافونهم وترون الله أظفركم على عدوّكم، وحكمنا بتعظيم بيتكم، وجعلنا مكة تجبى إليها ثمرات كل شىء من أقطار الدنيا؟ ويقال من قام بحقّ الله- سبحانه- سخّر له الكون بجملته، ومن اشتغل برعاية سرّه لله، وقام بحقّ الله، واستفرغ أوقاته في عبادة الله مكّن من التصرّف بهمته في مملكة الله فالخلق مسخّر له، والوقت طوع أمره، والحقّ- سبحانه- متول «2» أيامه وأعماله يحقّق ظنّه، ولا يضيّع حقّه. أمّا الذي لا يطيعه فيهلك في أودية ضلاله، ويتيه «3» فى مفازات خزيه، ويبوء بوزر هواه. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 58] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أحوالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، فخرّوا في أودية الصغار على أذقانهم، وأذاقهم الله من كاسات الهوان ما كسر خمار بطرهم فأماكنهم منهم خالية، وسقوفها عليهم خاوية، وغربان الدمار فيها ناعية.   (1) ما بين القوسين غير موجود في النص، ولكنها تتمه لسبب نزول الآية كما أورده الواحدي، حيث ذكر أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن عبد مناف الذي قال النبي (ص) : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن يمنعنا من اتباعك أنا نخاف .... إلخ (أسباب النزول الواحدي ص 228) . (2) ومن هذا المنطلق يصدر القشيري رأيه فى (الولاية) وما يتصل بها من (الكرامة) . (3) هكذا في الأصل وهي تحمل معنيين: التكبّر، والضلال في الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 59] وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» : بالتكليف يأمرهم. ويأمر التكوين- على ما يريد- يقفهم. وهو- سبحانه- يبعث الرسل إنذارا ويعمى السّبل عليهم اقتدارا يوضّح الحجة بحيث لا شبهة، ولكنه لا يهدى إلا من سبقت له السعادة بحكم القسمة. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 60] وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) الدنيا حلوة خضرة، ولكنها في التحقيق مرّة مذرة «1» ، فبشرها يوهم أنها صفو ولكن من وراء صفوها حسو «2» ، وما عند الله خير وأبقى. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 61] أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) «3» الدنيا سموم حنظلها تتلو طعوم عسلها، وتلف ما يحصل من شربها يغلب لطف ما يظهر   (1) مذرت البيضة مذرا فسدت، فهى مذرة، ومذرت معدته أي خبثت وفسدت (الوسيط) . [ ..... ] (2) يقال يوم كحسو الطائر أي قصير جدا، ونوم كحسو الطائر أي قليل متقطع. (3) عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في على وحمزة وأبى جهل. وقال السدى: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة وقيل نزلت في النبي (ص) وأبى جهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 من أربها، وليس من أكرم بوجدان نعيم عقباه كمن منى بالوقوع في جحيم دنياه قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 63] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) إنما يكون ذلك على جهة التهويل وإبطال كيد أهل التضليل.. وإلّا فمن أين لهم الجواب فضلا عن الصواب! والذي يسألهم هو الذي على ما شاء جعلهم فما ورد فعل إلا على فعله، وما صدر ما صدر إلا من أصله. وإذ تبرّأ بعضهم من بعض بيّن أنه لم يكن للأصنام استحقاق العبودية، ولا لأحد من النفي والإثبات بالإيجاد والإحداث ذرّة أو منه شظيّة.. كلا بل هو الواحد القهار. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 65] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) يسألهم سؤال هيبة فلا يبقى لهم تمييز، ولا قوة عقل، ولا مكنة جواب، قال جلّ ذكره: [سورة القصص (28) : آية 66] فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) إذ استولت عليهم الحيرة، واستمكن منهم الدهش فلا نطق ولا عقل ولا تمييز ولا فهم. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 67 الى 68] فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 يختار ما يشاء ومن يشاء من جملة ما يخلق. ومن ليس إليه شىء من الخلق. فما له والاختيار؟! الاختيار للحقّ استحقاق عزّ يوجب أن يكون ذلك له، لأنّه لو لم ينفّذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العزّ، فمن بقي عن مراده لا يكون إلّا ذليلا فالاختيار للحقّ نعت عزّ، والاختيار للخلق صفة نقص ونعت بلاء وقصور فاختيار العبد غير مبارك عليه لأنّه صفة هو غير مستحقّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح في نفسه، قال قائلهم: ومعال إذا ادّعاها سواه ... لزمته جناية السّرّاق والطينة إذا ادّعت ما هو صفة الحقّ أظهرت رعونتها، فما للإنسان والاختيار؟! وما للمملوك والملك؟! وما للعبيد والتصدّر في دست «1» الملوك؟! قال تعالى: «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» «2» قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 69] وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) ولم لا وقد قال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ؟ فالعلم- الذي لا يعزب عنه معلوم- نعت من لم يزل، والإبداع من العدم إلى الوجود يتفرّد بالقدرة عليه لم يزل. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 70] وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» : توحّد بعزّ هيبته، وتفرّد بجلال ربوبيته، لا شبيه يساويه،   (1) هكذا في م وهي الصواب، أما في ص فقد وردت (درس) وهي خطأ في النسخ. (2) واضح من مذهب القشيري شىء هام جدا أنه يقف عند (ويختار) وتكون (ما) فى هذه الحالة نافية، وهو بهذا ينسجم مع مذهب أهل السنة في أن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد. أما الزمخشري فيرى (ما كان لهم الخيرة) بيانا لقوله (ويختار) ولهذا لم يدخل العاطف. ويرفض الطبري أن تكون (ما) نافية لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ويرد عليه بأن (ما) تصلح لنفى الحال والاستقبال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 ولا نظير يضاهيه. «لَهُ الْحَمْدُ» استحقاقا على عطيّته، وله الشكر استيجابا على نعمته ففى الدنيا المحمود الله، وفي العقبى المشكور الله فالإحسان من الله لأن السلطان لله، والنعمة من الله لأنّ الرحمة لله، والنصرة من الله لأنّ القدرة لله. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 71] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) إن دامت ليالى الفترة فمن الذي يأتى بنهار التوبة غير الله؟ وإن دامت ليالى الطّلب فمن الذي يأتى بصبح الوجود غير الله؟ وإن دامت ليالى القبض فمن الذي يأتى بصبح البسط غير الله؟ وإن دام ليل الفراق فمن الذي يأتى بصبح الوصال غير الله؟ قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 72] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) إن دام في الوصلة نهاركم فأيّ سبيل للواشين إلى تنغيص سروركم؟ وإن دام نهار معاشكم ووقت اشتغالكم بحظوظكم فمن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه إلى الله إلا الله، وتستريحون من أشغالكم بالخلوة مع الله إلا الله «1» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 73] وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)   (1) منذ أشرقت على القشيري آية: «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ..» ولفظ الجلالة لا يكاد بغيب عنا في إشاراته، مما يدل- والله أعلم- على أن الرجل ذاكر أخذته حالة انمحاء فى المذكور.. وقد حرصنا أن نلفت نظر القارئ إلى هذا الملحظ ليشعر بالفرق بين المفسر التقليدى والمفسر الإشارى.. إن الكلمات هنا أشبه بالتسابيح الوافدة من عالم بعيد! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الأوقات ظروف لما يحصل فيها من الأفعال والأحوال فالظروف من الزمان متجانسة، وإنما الاختلاف راجع إلى أعيان ما يحصل فيها فليالى أهل الوصال سادات الليالى، وليالى أهل الفراق أسوأ الليالى فأهل القرب لياليهم قصار وكذلك أيامهم، وأرباب الفراق لياليهم طوال وكذلك جميع أوقاتهم في ليلهم ونهارهم، يقول قائلهم: والليالى إذا نأيت طوال ... وأراها إذا دنوت قصار وقال آخر: والليل أطول وقت حين أفقدها ... والليل أقصر وقت حين ألقاها وقال ثالث: يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وحول نلتقى فيه- قصير قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) كلا.. لا حجّة لهم، ولا جواب يعذرهم، ولا شفيع يرحمهم، ولا ناصر يعينهم. اشتهرت ضلالتهم، واتضحت للكافة جهالتهم فدام بهم عذاب الأبد، وحاق بهم وبال السّرمد. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 76] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) جاء في القصص أنه كان ابن عمّ موسى، وكان من أعبد بنى إسرائيل، وكان قد اعتزل الناس، وانفرد في صومعته يتعبّد، فتصوّر له إبليس في صورة بشر، وأخذ في الظاهر يتعبّد معه في صومعته حتى تعجّب قارون من كثرة عبادته، فقال له يوما: لسنا في شىء عيوننا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 على أيدى الناس حتى يدفعوا إلينا شيئا هو ضرورتنا، ولا بدّ لنا من أخذه، فقال له قارون: وكيف يجب أن نفعله؟ فقال له: أن ندخل في الأسبوع يوما السوق، ونكتسب، وننفق ذلك القدر في الأسبوع، فأجابه إليه. فكانا يحضران السوق في الأسبوع يوما، ثم قال له: لست أنا وأنت فى شىء، فقال: وما الذي يجب أن نعمله؟ فقال له: نكتسب في الأسبوع يوما لأنفسنا، ويوما نكتسب ونتصدّق به، فأجابه إليه. ثم قال له يوما آخر: لسنا في شىء، فقال: وما ذاك؟ قال: إن مرضنا أو وقع لنا شغل لا نملك قوت يوم، فقال: وما نفعل؟ قال: نكتسب في الأسبوع ثلاثة أيام يوما للنفقة ويوما للصدقة ويوما للادخار، فأجابه إليه.. فلمّا علم أن حبّ الدنيا استمكن من قلبه ودّعه، وقال: إنّى مفارقك.. فدم على ما أنت عليه، فصار من أمره وماله ما صار، وحمله حبّ الدنيا على جمعها، وحمله جمعها على حبّها، وحمله حبّها على البنى عليهم، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه، وكم وعظ بترك الفرح بوجود الدنيا، وبترك الاستمتاع بها! وكان لا يأبى إلّا ضلالا. ويقال خسف الله به الأرض بدعاء موسى عليه السلام، فقد كان موسى يقول: يا أرض خذيه.. وبينما كانت الأرض تخسف به كان يستعين بموسى بحقّ القرابة، ولكن موسى كان يقول: يا أرض خذيه. وفيما أوحى الله إلى موسى: لقد ناداك بحقّ القرابة وأنت تقول: يا أرض خذيه! وأنا أقول: يا عبد، نادنى فأنا أقرب منه إليك، ولكنه لم يقل. وفي القصة أنه كان يخسف به كل يوم بزيادة معلومة، فلمّا حبس الله يونس في بطن الحوت أمر الحوت أن يطوف به في البحار لئلا يضيق قلب يونس، حتى انتهى إلى قارون، فسأله قارون عن موسى وحاله، فأوحى الله إلى الملك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 لا تزد في خسفه لحرمة أنه سأل عن ابن عمه، ووصل به رحمه «1» قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 77] وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) وعظ من حرم القبول كمثل البذر في الأرض السّبخة ولذا لم ينفعه نصحهم إياه، ولم يكن للقبول فيه مساغ. «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» : ليس النصيب من الدنيا جمعها ولا منعها، إنما النصيب منها ما تكون فيه فائدة بحيث لا يعقب ندما، ولا يوجب في الآخرة عقوبة ويقال النصيب من الدنيا ما يحمل على طاعته بالنّفس، وعلى معرفته بالقلب، وعلى ذكره باللسان، وعلى مشاهدته بالسّرّ. «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» : إنما كان يكون منه حسنة لو آمن بالله لأنّ الكافر لا حسنة له. والآية تدل على أن لله على الكافر نعما دنيوية. والإحسان الذي أمر به إنفاق النعمة في وجوه الطاعة والخدمة، ومقابلته بالشكران لا بالكفران. ويقال الإحسان رؤية الفضل دون توهّم الاستحقاق. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 78] قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ما لا حظ أحد نفسه إلا هلك بإعجابه. ويقال السّمّ القاتل، والذي يطفئ السراج المضيء النظر إلى النّفس بعين الإثبات،   (1) الواقع أن القصص والأخبار والروايات التي تدور حول موضوعات سورة القصص كثيرة جدا، خصوصا عند ابن عباس ومدرسته، ولكن الملاحظ أن القشيري يختار منها- فى ظلال القرآن- عينات خاصة تحقق مقاصده البعيدة من أجل إبراز الموضوعات الصوفية سواء من ناحية الرياضات أو المجاهدات أو من ناحية الأذواق والأحوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وتوهّم أنّ منك شيئا من النفي أو الإثبات «1» . قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تمنّى من رآه ممّن كان في حبّ الدنيا ساواه أن يعطيه الله مثل ما أعطاه. أمّا من كان صاحيا عن خمار غفلته، متيقّظا بنور بصيرته فكان موقفهم: - «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» وبعد أن كان ما كان، وخسفنا به وبداره الأرض قال هؤلاء: «لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» منّ الله علينا فلم ننجرف في نهجه، ولم ننخرط في سلكه، وإذا لوقع بنا الهلاك. أمّا المتمنّون مكانه فقد ندموا، وأمّا الراضون بقسمته- سبحانه- فقد سلموا سلموا في العاجل إلى أن تظهر سعادتهم في الآجل. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 83] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) قيل «العلو في الدنيا» أن تتوهّم أنّ على البسيطة أحدا هو شرّ منك. و «الفساد» أن تتحرك لحظّ نفسك ونصيبك ولو بنفس أو خطوة.. وهذا للأكابر،   (1) هذه نظرة عامة نجدها عند جميع الصوفية ولكنها أصل هام في تعاليم أهل الملامة تترتب عليه مناهج فى السلوك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 فأمّا للأصاغر والعوام فتلك الدار الآخرة «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» كعلوّ فرعون «وَلا فَساداً» كفساد قارون «1» . ويقال الزهاد لا يريدون في الأرض علوّا، والعارفون لا يريدون في الآخرة والجنة علوّا. ويقال «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» للعبّاد والزّهاد، وهذه الرحمة الحاضرة لأرباب الافتقار والانكسار. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 84] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) ثواب الحسنة في التضعيف، وأمر السيئة بناؤه على التخفيف. والمؤمن- وإن كان صاحب كبائر- فسيئاته تقصر في جنب حسناته التي هي إيمانه ومعرفته. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 85] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) «لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» : فى الظاهر إلى مكة.. وكان يقول كثيرا: «الوطن الوطن» «2» ، فحقّق الله سؤله. وأمّا في السّرّ والإشارة فإنه «فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» أي يسّر لك قراءة القرآن، والمعاد هو الوصف الذي كانت عليه روحك قبل حلول شجّك «3» من ملادغات القرب ومطالعات الحقّ.   (1) أحسن القشيري إذ جعل وظيفة هذه الآية التعقيب على القصتين السابقتين فأبان تماسك الأسلوب القرآنى. (2) ولهذا يرى ابن عباس أن هذه الآية لا مكية ولا مدنية وإنما نزلت في الجحفة. (3) هكذا في النسختين، فإن صحت في النقل من الأصل فربما كان المقصود (ما أصابك من جراحات الحب) ، ويتأيد فهمنا بما يلى ذلك وربما كانت (شجنك) أي لوعة حبك- والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وقيل الذي ينصبك بأوصاف التفرقة بالتبليغ وبسط الشريعة لرادّك إلى عين الجمع بالتحقّق بالحقّ والفناء عن الخلق. ويقال إن الذي أقامك بشواهد العبودية فيما أثبتك به لرادّك إلى الفناء عنك بمحقك في وجود الحقيقة. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 86] وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) ما كنت تؤمّل محلّ النبوة وشرف الرسالة وتأهيل مخاطبتنا إليك، ولا ما أظهرنا عليك من أحوال الوجد وحقائق التوحيد. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 87] وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) لا يصدنّك بعد إذ أنزلت إليك الآيات ما وجدته بحكم الذّوب والشهود، والإدراك والوجود. لا تتداخلنّك تهمة التجويز وسؤالات العلماء بما يدّعون من أحكام العقول فما يدرك في شعاع الشمس لا يحكم ببطلانه خفاؤه في نور السراج. قوله جل ذكره: [سورة القصص (28) : آية 88] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) كلّ عمل باطل إلا ما كان لوجه الله وللتقرب به إلى الله. كلّ حيّ ميت إلا هو، قال تعالى: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ» : أي مات فكلّ شىء معدّ لجواز الهلاك والعدم، ولا يبقى إلا «وَجْهَهُ» : ووجهه صفة من صفاته لا تستقل إلا به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 فإذا يقى وجهه فمن شرط بقاء وجهه بقاء ذاته لأن الصفة لا تقوم إلا بموجود، ولا يكون هو باقيا إلا بوجود أوصافه الذاتية الواجبة له ففى بقاء وجهه بقاء ذاته وبقاء صفاته. وفائدة تخصيص الوجه بالذكر هنا أنه لا يعرف وجوب وجهه إلا بالخبر والنقل دون «1» العقل فخصّ الوجه بالذكر لأنّ في بقاء الوجه بقاء الحقّ بصفاته.   (1) هكذا في م أما في ص فهى (نور) ، وتأويل الوجه على أنه صفة فيه رد على المشبهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 السورة التي يذكر فيها العنكبوت قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله اسم يوجب حظوة العابدين وعدا، وسماعه يوجب سلوة الواجدين نقدا «1» . اسم من ذكره وصل إلى مثوبته في آجله، ومن سمعه «2» حظى بقربته في عاجله. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) «الألف» إشارة إلى تفرّده عن كل غير بوجه الغنى، وباحتياج كل شىء إليه كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرف. «واللام» تشير إلى معنى أنه ما من حرف إلا وفي آخره صورة تعويج ما، واللام أقرب الحروف شبها بالألف- فهى منتصبة القامة مثلها، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شىء ولكن اللام تتصل بغيرها- فلا جرم لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام. أمّا «الميم» فالإشارة فيه إلى الحرف «من» فمن الربّ الخلق، ومن العبد خدمة الحق، ومن الربّ الطّول والفضل ... «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا..» بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى، وهذا لا يكون، فقيمة كلّ أحد ببلواه، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه فعلى النفوس بلاء وهو   (1) النقد مكافاة في الدنيا وهي المواصلات والمكاشفات، والوعد مكافأة في الآخرة وهي الجنة. (2) المقصود بالسماع هنا ما يوجب الهيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل. وعلى القلوب بلاء وهو مطالبتها بالطلب والفكر الصادق بتطلّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم. وعلى الأرواح بلاء وهو التجرّد عن محبة كلّ أحد والتفرّد عن كل سبب، والتباعد عن كل المساكنة لشىء من المخلوقات. وعلى الأسرار بلاء وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلّى إلى أن تصير مستهلكا فيه. ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول فى أوان المشاهدات. وأشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجرى عليك مكر في أوقات غلبات شاهد الحقّ فيظن أنه الحق، ولا يدرى أنّه من الحقّ، وأنّه لا يقال إنّه الحقّ- وعزيز من يهتدى إلى ذلك «1» . قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 3] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) لم يخلهم من البلاء والمحن ليظهر صبرهم في البلاء أو ضدّه من الضجر، وشكرهم فى الرخاء أو ضدة من الكفر والبطر. وهم في البلاء ضروب: فمنهم من يصبر في حال البلاء، ويشكر في حال النّعماء.. وهذة صفة الصادقين. ومنهم من يضجّ ولا يصبر في البلاء، ولا يشكر في النعماء.. فهو من الكاذبين. ومنهم من يؤثر في حال الرخاء ألّا يستمتع بالعطاء، وبستروح إلى البلاء فيستعذب مقاساة الضّرّ والعناء.. وهذا أجلّهم. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 4] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) يرتكبون المخالفات ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة.. ساء حكمهم! فمتى ينجو من العذاب من ألقى جلباب التّقى؟! ويقال توهموا أنه لا حشر ولا نشر، ولا محاسبة ولا مطالبة. ويقال اغتروا بإمهالنا اليوم، وتوهّموا أنهم منّا قد أفتلوا، وظنوا أنهم قد أمنوا.   (1) يفيد هذا الكلام عند البحث في قضية الحلاج الذي قال وهو غائب في غلبات الشهود: «أنا الحق» [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئات أن جرى التقدير لهم بالسعادة، وأنّ ذلك يؤخر حكمنا.. كلا، فلا يشقى من جرت قستنا له بالسعادة، وهيهات أن يتحول من سبق له الحكم بالشقاوة! قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 5] مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) من خاف عذابه يوم الحساب فسيلقى يوم الحشر الأمان الموعود منّا لأهل الخوف اليوم. ومن أمّل الثواب يوم البعث فسوف يرى ثواب ما أسلفه من العمل. ومن زجّى عمره في رجاء لقائنا فسوف نبيح له النّظر إلينا، وسوف يتخلص من الغيبة والفرقة. «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين المحبين الوالهين. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 6] وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) من أحسن فنجاة نفسه طلبها، وسعادة حالة حصّلها. ومن أساء فعقوبة نفسه جلبها، وشقاوة جدّه اكتسبها. ويقال ثواب المطيعين إليهم مصروف، وعذاب العاصين عليهم موقوف.. والحقّ عزيز لا يلحقه بالوفاق زين، ولا يمسّه من الشّقاق شين.. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 7 الى 8] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) من رفع إلينا خطوة نال منّا خطوة، ومن ترك فينا شهوة وجد منّا صفوة، فنصيبهم من الخيرات موفور، وعملهم في الزلّات مغفور.. بذلك أجرينا سنّتنا، وهو متناول حكمنا وقضيتنا. قوله جل ذكره: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 أمر الله العباد برعاية حقّ الوالدين تنبيها على عظم حق التربية. وإذا كانت تربية الوالدين- وهي إن حسنت- فالى حدّ يوجب رعايتهما فما الظنّ برعاية حق الله تعالى، والإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصّه به من قبل ومن بعد؟! قوله جل ذكره: «وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . إن جاهداك على أن تشرك بالله فإياك أن تطيعهما، ولكن ردّ بلطف، وخالف برفق. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 9] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم، فإن المعهود من سنّتنا إلحاق الشكل بشكله، وإجراء المثل على حكم مثله. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) ... المحن تظهر جواهر الرجال، وهي تدلّ على قيمهم وأقدارهم فقدر كلّ أحد وقيمته يظهر عند محنته فمن كانت محنته من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها، أو كانت محنته بموت قريب من الناس، أو فقد حبيب من الخلق فحقير قدره، وكثير في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله فعزيز قدره، وقليل من كان مثله، فهم في العدد قليل ولكن في القدر والخطر جليل: وبقدر الوقوف في البلاء تظهر جواهر الرجال، وتصفو عن الخبث نفوسهم. والمؤمن من يكفّ الأذى، ويتحمل من الخلق الأذى، ويتشرب ولا يترشح بغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 شكوى ولا إظهار كالأرض يلقى عليها كلّ خبيث فتنبت كلّ خضرة وكل نزهة «1» . قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 11] وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممن تباكى قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 12] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) ضمنوا بما لم يفوا به، وأخلفوا فيما وعدوا فما حملوا من خطاياهم عنهم شيئا، بل زادوا على حمل نفوسهم فاحتقبوا وزر ما عملوا، وطولبوا بوزر ما به أمروا «2» ، فضاعف عليهم العقوبة، ولم يصل أحد من جهتهم إلى راحة، وما مواعيدهم للمسلمين إلا مواعيد عرقوب أخاه بيثرب. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 13] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وسيلحق بهؤلاء أصحاب الدعاوى والمتشبّهون بأهل الحقائق: من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضح الامتحان ما يدّعيه وقال تعالى: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» «3» .. وهيهات هيهات!   (1) القشيري هنا مستفيد من قول الجنيد: (الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح) الرسالة ص 139. (2) رأينا بناء (أمروا) المعلوم حتى يتضح أن وزرهم أشد نتيجة قولهم الذين آمنوا: (اتبعوا سبيلنا) فالداعى إلى السوء يحمل وزر نفسه ووزر من يقتدى به. ومن الجائز أن تبنى المجهول فتكون (أمروا) ولكن المعنى يكون أقل تأثيرا وأداء. (3) آية 111 سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) الآية ما زادهم طول مقامه فيهم إلا شكا في أمره، وجهلا بحاله، ومرية في صدقه، ولم يزدد نوح- عليه السلام- لهم إلّا نصحا، وفي الله إلا صبرا. ولقد عرّفه الله أنه لن يؤمن منهم إلا الشّر ذمة اليسيرة الذين كانوا قد آمنوا، وأمره باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحدا، وصدق وعده، ونصر عبده.. فلا تبديل لسنّته في نصرة دينه. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 16] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) كرّر ذكر ابراهيم في هذا الموضع، وكيف أقام على قومه الحجّة، وأرشدهم إلى سواء المحجة، ولكنهم أصروا على ما جحدوا، وتعصبوا لما من الأصنام عبدوا، وكادوا لابراهيم كيدا.. ولكن انقلب ذلك عليهم من الله مكرا بهم واستدراجا. ولم ينجع فيهم نصحه، ولا وجد منهم مساغا وعظه. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 17] إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) لا يدرى أيهما أقبح.. هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم- فيما تزعمون كذبا- عن هذه الجمادات؟ وهي لا تملك لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرا، ولا تملك لكم خيرا ولا شرا، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وبيّن أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق «1» فقال: «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ» لتصلوا إلى خير الدارين. وابتغاء الرزق من الله إدامة الصلاة فإن الصلاة استفتاح باب الرزق، قال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «2» ويقال ابتغاء الرزق بشهود موضع الفاقة فعند ذلك تتوجه الرغبة إلى الله تعالى فى استجلاب الرزق. وفي الآية تقديم لابتغاء الرزق على الأمر بالعبادة لأنه لا يمكنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر فبالقوة يمكنه أداء العبادة، وبالرزق يجد القوة، قالوا: إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... فمكروه ما يلقى يكون جزاؤه «وَاشْكُرُوا لَهُ» : حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته «3» . قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 18] وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) وبال التكذيب عائد على المكذّب، وليس على الرسول- بعد تبليغه الرسالة بحيث لا يكون فيه تقصير كى يكون مبيّنا- شىء آخر. وإلا يكون قد خرج عن عهدة الإلزام. وفيما حلّ بالمكذّبين من العقوبة ما ينبغى أن يكون عبرة لمن بعدهم. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 19] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)   (1) فالعبادة الخالصة علامتها أن تكون خالصة للمعبود بلا تطلع لعوض أو غرض والغيبة عن أي (وارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب) الرسالة ص 40. (2) آية 132 سورة طه. (3) عنى القشيري بتوضيح النسق في الأسلوب القرآنى حين ناقش ترتيب الكلام على نحو مقنع أخاذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 الذي داخلهم فيه الشّكّ كان بعث الخلق، فاحتجّ عليهم بما أراهم من إعادة فصول السّنة بعد تقضّيها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وبيّن أن جمع أجزاء المكلّفين بعد انقضاض البنية كإعادة فصول السنة فكما أن ذلك سائغ في قدرته غير مستنكر فكذلك بعث الخلق. وكما في فصول السنة تتكرر أحوال العبادة في الأحوال العامة المشتركة بين الكافة، وفي خواص أحوال المؤمنين من استيلاء شهوات النفوس، ثم زوالها، إلى موالاة الطاعات، ثم حصول الفترة، والعود إلى مثل الحالة الأولى، ثم بعد ذلك الانتباه بالتوبة.. كذلك تتكرر عليهم الأحوال. وأرباب القلوب تتعاقب أحوالهم في القبض والبسط ثم في الهيبة والأنس، ثم في التجلي والسّتر، ثم في البقاء والفناء، ثم في السكر «1» والصحو.. وأمثال هذا كثير. وفي هذا المعنى قوله: [سورة العنكبوت (29) : آية 20] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) وفي معنى تكرير الأحوال ما أنشدوا: كلّ نهر فيه ماء قد جرى ... فإليه الماء يوما سيعود قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 21] يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) أجناس ما يعذّب به عباده وأنواع ما يرجم به عباده.. لا نهاية لها ولا حصر فمن ذلك أنه يعذّب من يشاء بالخذلان، ويرحم من يشاء بالإيمان. يعذّب من يشاء بالجحود والعنود،   (1) وردت في ص (الشك) وفي م (السكر) والصواب هذه لأنها تلاثم السياق.. فالسكر والصحو حالان من أحوال الفناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 ويرحم من يشاء بالتوحيد والوجود. يعذب من يشاء بالحرص ويرحم من يشاء بالقناعة. يعذّب من يشاء بتفرقة الهمّ ويرحم من يشاء بجمع الهمّة. يعذب من يشاء بإلقائه في ظلمة التدبير، ويرحم من يشاء بإشهاده جريان التقدير. يعذب من يشاء بالاختيار من نفسه، ويرحم من يشاء برضاه بحكم ربّه. يعذب من يشاء بإعراضه عنه، ويرحم من يشاء بإقباله عليه. يعذب من يشاء بأن يكله ونفسه، ويرحم من يشاء بأن يقوم بحسن تولّيه. يعذب من يشاء بحبّ الدنيا ويمنعها عنه، ويرحم من يشاء بتزهيده فيها وبسطها عليه. يعذب من يشاء بأن يثبته في أوطان العادة، ويرحم من يشاء بأن يقيمه بأداء العبادة ... وأمثال هذا كثير. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 22] وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) نقلّب الجملة في القبضة، ونجرى عليهم أحكام التقدير: جحدوا أم وحّدوا، أقبلوا أم أعرضوا. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 23] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) تعجلت عقوبتهم بأن يئسوا من رحمته.. ولا عقوبة أشدّ من هذا. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 24] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) لمّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد، والسفاهة والتوبيخ، والله تعالى صرف عنه كيدهم، وكفاه مكرهم، وأفلج عليهم عليهم حجّته «1» ،   (1) أفلج الله عليهم حجته أي أظهرها وأثبتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وأظهر للكافة عجزهم، وأخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللّعن والطرد، وفنون الهوان والخزي. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 26] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) لا تصحّ الهجرة إلى الله إلّا بالتبرّى- بالكمال- بالقلب عن غير الله. والهجرة بالنّفس يسيرة بالإضافة إلى الهجرة بالقلب- وهي هجرة الخواص وهي الخروج عن أوطان التفرقة إلى ساحات الجمع. والجمع بين التعريج في أوطان التفرقة والكون في مشاهد الجمع متناف «1» . قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 27] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) لمّا لم يجب قومه، وبذل لهم النصح «2» ، ولم يدّخر عنهم شيئا من الشفقة- حقّق الله مراده في نسله، فوهب له أولاده، وبارك فيهم، وجعل في ذريته الكتاب والنبوة، واستخلصهم للخيرات حتى صلحت أعمالهم للقبول، وأحوالهم للإقبال عليها، ونفوسهم للقيام بعبادته، وأسرارهم لمشاهدته، وقلوبهم لمعرفته. «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» للدنوّ والزلفة والتخصيص بالقربة. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 29] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) .   (1) ما يكون كسبا للعبد وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع فإثبات الخلق من باب التفرقة وإثبات الحق من نعت الجمع (الرسالة ص 38) . (2) فى ص زاد الناسخ (فى أوطان) وهي غير موجودة في م والسياق يستغنى عنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 لامهم على خصلتهم الشنعاء، وما كانوا يتعاطونه على الله من الاجتراء، وما يضيّعونه من المعروف ويأتون من المنكر الذي جملته تخليته الفسّاق مع فسقهم، وترك القبض على أيديهم، وقلة الاحتشام من اطّلاع الناس على قبائح أعمالهم. ومن ذلك قلة احترام الشيوخ والأكابر، ومنها التسويف في التوبة، ومنها التفاخر بالزلّة. فما كان جوابهم إلا استعجال العقوبة، فحلّ بهم من ذلك ما أهلكهم وأهلك من شاركهم. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) التبس على إبراهيم أمرهم فظنّهم أضيافا فتكلّف لهم تقديم العجل الحنيذ جريا على سنّته فى إكرام الضيف. فلما أخبروه مقصودهم من إهلاك قوم لوط تكلّم في باب لوط ... إلى أن قالوا: إنّا منجّوه. وكان ذلك دليلا على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط- وإن كان بريئا- لم يكن ظلما إذ لو كان قبيحا لما كان إبراهيم عليه السلام- مع وفرة علمه- يشكل عليه حتى كان يجادل عنه. بل لله أن يعذّب من يعذّب، ويعافى من يعافى «1» . قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 33] وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) لمّا أن رآهم لوط ضاق بهم قلبه لأنه لم يعلم أنهم ملائكة، فخاف عليهم من فساد قومه فكان ضيق قلبه لأجل الله- سبحانه، فأخبروه بأنهم ملائكة، وأنّ قومه لن يصلوا إليهم، فعند ذلك سكن قلبه، وزال ضيق صدره.   (1) أي أبرأه من العلل والبلايا وأصحّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 ويقال أقرب ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدّ عليه البلاء فعند ذلك يكون زوال البلاء، لأنه يصير مضطّرا، والله سبحانه وعد المضطرين وشيك الاجابة «1» . كذلك كان لوط في تلك الليلة، فقد ضاق بهم ذرعا ثم لم يلبث أن وجد الخلاص من ضيقه. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 35] وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) فمن أراد الاعتبار فله في قصتها عبرة. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) الآيات. ذكر قصة شعيب وقصة عاد وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون.. وكلهم نسج بعضهم على منوال بعض، وسلك مسلكهم، ولم يقبلوا النصح، ولم يبالوا بمخالفة رسلهم، ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاء لسنّته في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 41] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) العنكبوت يتخذ لنفسه بيتا، ولكن كلما زاد نسجا في بيته ازداد بعدا في الخروج منه فهو بينى ولكن على نفسه بينى.. كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجنى. وبيت العنكبوت أكثره في الزوايا من الجدران، كذلك الكافر أمره على التّقيّة «2» والكتمان، وأمّا المؤمن فظاهر المعاملة، لا يستر ولا يدخمس «3» .   (1) يشير إلى قوله تعالى: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ» آية 62 سورة النمل. (2) التقية عند بعض الفرق الإسلامية معناها إخفاء الحق ومصانعة الناس في غير دولتهم. (3) دخمس عليه لم يبيّن له ما يريد، ودخمس الشيء ستره. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وبيت العنكبوت أوهن البيوت لأنه بلا أساس ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أدون «1» دفع.. كذلك الكافر لا أصل لشأنه، ولا أساس لبنيانه، يرى شيئا ولكن بالتخييل، فأمّا في التحقيق.. فلا. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 43] وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) الكلّ يشتركون في سماع الأمثال، ولكن لا يصغى إليها من كان نفور القلب، كنود الحال، متعودا الكسل، معرّجا في أوطان الفشل. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 44] خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) «بِالْحَقِّ» : أي بالقول الحق والأمر الحق. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 45] اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) أي من شأن المؤمن وسبيله أن ينتهى عن الفحشاء والمنكر، أي على معنى ينبغى للمؤمن أن ينتهى عن الفحشاء والمنكر، كقوله: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي ينبغى للمؤمن أن يتوكل على الله، فإن قدّر أن واحدا منهم لا يتوكل فلا يخرج به ذلك عن الايمان- كذلك من لم ينته عن الفحشاء والمنكر فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة. ويقال بل الصلاة الحقيقة ما تكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر فإن لم يكن من العبد انتهاء فالصلاة ناهية على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل، ولكنه يصرّ ولا يطيع تلك الخواطر.   (1) أي على أضعف دفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 ويقال بل الصلاة الحقيقية ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر. فإن كان- وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها ويقال الفحشاء هي الدنيا، والمنكر هو النّفس. ويقال الفحشاء هي المعاصي، والمنكر هو الحظوظ. ويقال الفحشاء الأعمال، والمنكر حسبان النجاة بها، وقيل ملاحظته الأعواض عليها، والسرور والفرح بمدح الناس لها. ويقال الفحشاء رؤيتها، والمنكر طلب العوض عليها. «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» «1» : ذكر الله أكبر من ذكر المخلوقين لأن ذكره قديم وذكر الخلق محدث. ويقال ذكر العبد لله أكبر من ذكره للأشياء الأخرى لأن ذكره لله طاعة، وذكره لغيره لا يكون طاعة. ويقال ولذكر الله لك أكبر من ذكرك له. ويقال ذكره لك بالسعادة أكبر من ذكرك له بالعبادة. ويقال ذكر الله أكبر من أن تبقى معه وحشة. ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى للذاكر معه ذكر مخلوق. ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى للزّلة معلوما أو مرسوما. ويقال ذكر الله أكبر من أن يعيش أحد من المخلوقين بغيره. ويقال ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطانا فلحرمة ذكره زلّات الذاكر مغفورة، وعيوبه مستورة. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 46] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)   (1) رأى القشيري فى «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» ، ليس فيه كما يلحظ القارئ تقليل من قيمة الصلاة العادية التي وردت في الآية نفسها، كما قد يدعى بعض من يتهمون الصوفية بأنهم يرفعون «ذكرهم» ويخفضون قيمة «الصلاة» وبالتالى لأ يأبهون بها-.. وهذا- كما هو واضح- اتهام باطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 ينبغى أن يكون منك للخصم تبيين، وفي خطابك تليين، وفي قبول الحق إنصاف، واعتقاد النصرة- لما رآه صحيحا- بالحجة، وترك الميل إلى الشيء بالهوى. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 47] وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) يعنى أنهم على أنواع: فمرحومّ نظرنا إليه بالعناية، ومحروم وسمناه بالشقاوة. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 48] وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) أي تجرّد قلبك عن المعلومات، وتقدّس سرّك عن المرسومات، فصادفك من غير ممازجة طبع ومشاركة كسب وتكلف بشرية «1» ، فلما خلا قلبك وسرّك عن كل معلوم ومرسوم ورد عليك خطابنا وتفهيمنا غير مقرون بهما ما ليس منّا. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 49] بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) قلوب الخواص من العلماء بالله خزائن الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته فقانون «2» الحقائق قلوبهم، وكلّ شىء يطلب من موطنه   (1) أي أن هذه الآفات تلحق علوم الإنسان حينما لا تكون خالصة. (2) من معانى كلمة (القانون) طريق الشيء وأصله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 ومحله فالدرّ يطلب من الصدف لأن ذلك مسكنه، والشمس تطلب من البروج لأنها مطلعها، والشهد يطلب من النحل لأنه عشه. كذلك المعرفة «1» تطلب من قلوب خواصه لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ( ... ) «2» قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 51] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) خفيت عليهم حالتك- يا محمد- فطالبوك بإقامة الشواهد، وقالوا: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ ... » أولم يكفهم ما أوضحنا عليك من السبيل، وألحنا لك من الدليل يتلى عليهم ذلك، ولا يمكنهم معارضته ولا الإتيان بشىء من مثله؟! هذا هو الجحود وغاية الكنود! قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 52] قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) أنا على حقّ والله- سبحانه- يعلمه، وأنتم لستم على حق والله يعلمه. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 53] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) لولا أنى ضربت لكلّ شىء أجلا لعجّلت لهم ذلك، وليأتينّهم العذاب- حين يأتيهم- بغتة وفجأة.   (1) ورد في ص بعد كلمة المعرفة (وصف الحق) وربما كانت (بوصف الحق) وهي غير موجودة في م، ونرجح أنها موجودة في الأصل بدليل اقتران الضمير ب (خواصه) . (2) فى ص (توقع نسخة توحيده) وفي م (يرفع نسخة توحيده) وكلاهما غامض في الكتابة وإن كنا نستطيع أن نفهم أن التوحيد- وهو أقصى درجات المعرفة- محله قلوب الخواص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 55] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) وإذا أحاطت بهم في جهم سرادقات العذاب فلا صريخ لهم، كذلك- اليوم- من أحاط به العذاب من فوقه اللّعن ومن تحته الخسف، ومن حوله الخزي، ويلبس لباس الخذلان، ويوسم بكيّ الحرمان، ويسقى شراب القنوط، ويتوّج بتاج الخيبة، ويقيّد بقيد السّخط، ويغلّ بغلّ العداوة، فهم يسحبون في جهنم الفراق حكما، إلى أن يلقوا في جحيم الاحتراق عينا. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 56] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) الدنيا أوسع رقعة من أن يضيق بمريد مكان، فإذا نبا به منزل- لوجه من الوجوه- إمّا لمعلوم حصل، أو لقبول من الناس، أو جاه، أو لعلاقة أو لقريب أو لبلاء ضدّ، أو لوجه من الوجوه الضارة ... فسبيله أن يرتحل عن ذلك الموضع وينتقل إلى غيره، كما قالوا «1» : وإذا ما جفيت كنت حريّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسى وكذلك العارف إذا لم يوافق وقته مكان انتقل إلى غيره من الأماكن «2» . قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 57] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) إذا كان الأمر كذلك فالراحة معطوفة على تهوين الأمور فسبيل المؤمن أن يوطّن نفسه   (1) البحنرى في السينية. (2) تعبر هذه الفقرة عن رأى القشيري فيما يعرف عند الصوفية (بالسّفر) فهو يجيزه للعارف، أما بالنسبة للمريد فإنه يرى عدم السفر لأن ثبات المريد في مكان به ابتلاء هروب من مواجهة الابتلاء وذلك آية ضعف في الإرادة: (ومن آداب المريد بل من فرائض حاله أن يلازم موضع إرادته وألا يسافر قبل أن تقبله الطريق وقبل الوصول بالقلب إلى الرب، فإن السفر للمريد في غير وقتله سم قاتل (الرسالة ص 200) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 على الخروج مستعدا له، ثم إذا لم يحصل الأجل فلا يستعجل، وإذا حضر فلا يستثقل، ويكون بحكم الوقت، كما قالوا: لو قال لى مت متّ سمعا وطاعة ... وقلت لداعى الموت: أهلا ومرحبا قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 58 الى 60] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) هم- اليوم- فى غرف معارفهم على أسرّة وصلهم، متوّجون بتيجان سيادتهم، يسقون كاسات الوجد، ويجبرون في جنان القرب، وعدا كما قال: - «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» والصبر الوقوف مع الله بشرط سقوط الفكرة. الصبر العكوف في أوطان الوفاء، الصبر حبس النّفس على فطامها. الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس. الصبر صفة توجب معيّة الحقّ.. وأعزز بها! وأول الصبر تصبّر بتكلف، ثم صبر بسهولة، ثم اصطبار وهو ممزوج بالراحة، ثم تحقّق بوصف الرضا فيصير العبد فيه محمولا بعد أن كان متحمّلا. والتوكل انتظار مع استبشار، والتوكل سكون السّرّ إلى الله، التوكل استقلال بحقيقة التوكل فلا تتبرّم في الخلوة بانقطاع الأغيار عنك. التوكل إعراض القلب عن غير الربّ. قوله جل ذكره: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 «لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» أي لا تدخره، فمن لم يدخر رزقه في كيسه أو خزائنه فالله يرزقه من غير مقاساة تعب منه. ويقال «لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» المقصود بها الطيور والسباع إذ ليس لها معلوم، وليس لها بيت تجمع فيه القوت، وليس لها خازن ولا وكيل.. الله يرزقها وإياكم. ويقال إرادة الله في أن يستبقيك ولا يقبض روحك أقوى وأتمّ وأكبر من تعنّيك لأجل بقائك.. فلا ينبغى أن يكون اهتمامك بسبب عيشك أتمّ وأكبر من تدبير صانعك لأجل بقائك. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 61] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) إذا سئلوا عن الخالق أقروا بالله، وإذا سئلوا عن الرزاق لم يستقروا مع الله.. هذه مناقضة ظاهرة! قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 62] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) الرزق على قسمين: رزق الظواهر ومنه الطعام والشراب، ورزق السرائر ومنه الاستقلال بالمعاني بحيث لا يحصره تكلف الكلام، والناس فيهم مرزوق ومرفه عليه، وفيهم مرزوق ولكن مضيّق عليه. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 63] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 كما علموا أنّ حياة الأرض بعد موتها بالمطر من قبل الله فليعلموا أنّ حياة النفوس بعد موتها- عند النّشر والبعث- بقدرة الله. وكما علموا ذلك فليعلموا أنّ حياة الأوقات بعد نفرتها، وحياة القلوب بعد فترتها ... بماء الرحمة بالله. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 64] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) الدنيا كالأحلام، وعند الخروج منها انتباه من النوم. والآخرة هنالك العيش بكماله، والتخلص- من الوحشة- بتمامه ودوامه. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 65] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) الإخلاص تفريغ القلب عن الكلّ، والثقة بأن الإخلاص ليس إلا به- سبحانه، والتحقق بأنه لا يستكبر حالا في المحمودات ولا في المذمومات، فعند ذلك يعبدونه مخلصين له الدّين. وإذا توالت عليهم الضرورات، وانقطع عنه الرجاء أذعنوا الله متضرعين (فإذا كشف الضّرّ عنهم عادوا إلى الغفلة، ونسوا ما كانوا فيه من الحال كما قيل) «1» : إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسه قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 67] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) منّ عليهم بدفع المحن عنهم وكون الحرم آمنا. وذكّرهم عظيم إحسانه عليهم، ثم إعراضهم عن شكر ذلك.   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص، والسياق يتطلبه لأن الشاهد الشعرى الموجود فى النسختين يؤيد معناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 68] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) أي لا أحد أشدّ ظلما ممن افترى على الله الكذب، وعدل عن الصدق، وآثر البهتان ولم يتصرف بالتحقق، أولئك هم السّقّاط في الدنيا والآخرة. قوله جل ذكره: [سورة العنكبوت (29) : آية 69] وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) الذين زيّنوا ظواهرهم بالمجاهدات حسنت سرائرهم بالمشاهدات. الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف. الذين قاسوا فينا التعب من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات. ويقال الجهاد فيه: أولا بترك المحرّمات، ثم بترك الشّبهات، ثم بترك الفضلات، ثم بقطع العلاقات، والتنقّى من الشواغل في جميع الأوقات. ويقال بحفظ الحواسّ لله، وبعدّ الأنفاس مع الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 السورة التي يذكر فيها الروم قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . بسم الله اسم عزيز شفيع المذنبين جوده، بلاء المتهمين قصوده، ضياء الموحّدين عهوده. وسلوة المحزونين ذكره، وحرفة «1» الممتحنين شكره. اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وجبّار سناؤه بهاؤه، وبهاؤه علاؤه. العابدون حسبهم عطاؤه، والواجدون حسبهم بقاؤه «2» . قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) الإشارة فى «الألف» إلى أنه ألف صحبتنا من عرف عظمتنا، وأنّه ألف بلاءنا من عرف كبرياءنا. والإشارة فى «اللام» إلى أنه لزم بابنا من ذاق محابّنا، ولزم بساطنا من شهد جمالنا. والإشارة فى «الميم» إلى أنه مكّن من قربنا من قام على خدمتنا، ومات على وفاتنا من تحقق بولائنا. قوله: «غُلِبَتِ الرُّومُ» : سرّ المسلمون بظفر الروم على العجم- وإن كان الكفر يجمعهم- إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية.. فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحزنه واهتمامه لدين الله؟   (1) الحرفة هنا معناها دأبه وديدنه (الوسيط) . (2) لأن بقاءهم به خلف لهم عن كل شىء، فكل شىء زائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 قوله جل ذكره: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» . «قَبْلُ» إذا أطلق انتظم الأزل، و «بَعْدُ» إذا أطلق دلّ على الأبد فالمعنى الأمر الأزليّ لله، والأمر الأبديّ لله لأنّ الرّبّ الأزليّ والسّيّد الأبديّ الله. لله الأمر يوم العرفان «1» ، ولله الأمر يوم الغفران. لله الأمر حين القسمة ولا حين، ولله الأمر عند النعمة وليس أي معين «2» . ويقال: لى الأمر «مِنْ قَبْلُ» وقد علمت ما تفعلون، فلا يمنعنى أحد من تحقيق عرفانكم، ولى الأمر «مِنْ بَعْدُ» وقد رأيت ما فعلتم، فلا يمنعنى أحد من غفرانكم. وقيل «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» بتحقيق ودّكم، ولله الأمر من بعد بحفظ عهدكم: إنى- على جفواتها- وبربّها ... وبكلّ متصل بها متوسل «3» «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» : اليوم إرجاف السرور وإنما ... يوم اللّقاء حقيقة الإرجاف اليوم ترح وغدا فرح، اليوم عبرة وغدا حبرة، اليوم أسف وغدا لطف، اليوم بكاء وغدا لقاء. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 6] وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)   (1) هكذا في م وهي في ص يوم (القربان) ، والمعرفة والقرب يجريان في هذه الحياة الدنيا، أما الغفران فهو في الآخرة يوم الحساب. (2) هكذا في وهي في ص: (ولله الأمر عند النقمة وليس في معسر) وهي غامضة في الكتابة والمعنى، وقد آثرنا ما جاء في م لوضوحه. (3) فى موضع آخر من هذا المجلد ...... نجد هذا البيت متبوعا بالبيت التالي (الذي فيه خبر إن) : لأحبها وأحب منزلها الذي ... نزلت به وأحب أهل المنزل [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 الكريم لا يخلف وعده لا سيما والصدق نعته. يقول المؤمنون: منا يوم الميثاق وعد بالطاعة، ومنه ذلك اليوم وعد بالجنة، فإن وقع في وعدنا تقصير لا يقع في وعده قصور. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 7] يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) استغراقهم في الاشتغال بالدنيا، وانهما كهم في تعليق القلب بها.. منعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كلّ امرئ علمه بالله ففى الأثر عن عليّ- رضى الله عنه- أنه قال: أهل الدنيا على غفلة من الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها فى غفلة عن الله. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 8] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) إنّ من نظر حقّ النظر، ووضع النظر موضعه أثمر له العلم واجبا، فإذا استبصر بنور اليقين أحكام الغائبات، وعلم موعوده الصادق في المستأنف- نجا عن كدّ التردد والتجويز «1» . فسبيل من صحا عقله ألا يجنح إلى التقصير فيما به كمال سكونه. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 9] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)   (1) التردد والتجويز آفتان تصيبان- فى نظر القشيري- العقل، بينما القلب والروح والسر وعين السر لا تصاب بهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 سير النفوس في أقطار الأرض ومنا كها لأداء العبادات، وسير القلوب بجولان الفكر فى جميع المخلوقات، وغايته الظّفر بحقائق العلوم التي توجب ثلج الصدر- ثم تلك العلوم على درجات. وسير الأرواح في ميادين الغيب بنعت خرق سرادقات الملكوت، وقصاراه الوصول إلى محلّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأسرار بالترقي عن الحدثان «1» بأسرها، والتحقق أولا بالصفات، ثم بالخمود بالكلية عمّا سوى الحقّ» . قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 10] ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) من زرع الشوك لم يحصد الورد، ومن استنبت الحشيش لم يقطف الثمار، ومن سلك طريق الغيّ لم يحلل بساحة الرشد. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 11] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) يبدأ الخلق على ما يشاء، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 12] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) شهودهم ما جحدوه في الدنيا عيانا، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعا «3» هو الذي يفتت أكبادهم، وبه تتمّ محنتهم. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 13] وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) .   (1) المقصود بالحدثان المخلوقات إذ لها أول وابتداء ولها آخر وانتهاء. (2) انظر بخصوص هذا الترقي صقحة 486 (المجلد الأول من هذا الكتاب) . (3) لأن معرفتهم العينية تقطع كل شك كان يراودهم في الحياة الدنيا، فلا مجال يومئذ لأمل زائف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 تغلب العداوة من بعض على بعض. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 14] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فريق منهم أهل الوصلة، وفريق هم أهل الفرقة. فريق للجنة والمنّة، وفريق للعذاب والمحنة. فريق في السعير، وفريق في السرور. فريق في الثواب، وفريق في العذاب. فريق في الفراق، وفريق في التلاقي. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 15] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) فهم في رياض وغياض [سورة الروم (30) : آية 16] وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فهم في بوار وهلاك. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 18] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) من كان صباحه لله بورك له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله: وإنّ صباحا نلتقى في مسائه ... صباح على قلب الغريب حبيب شتّان بين عبد صباحه مفتتح بعبادته ومساؤه مختتم بطاعته، وبين عبد صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحه مفتتح بعزيز قربته! ويقال الآية تتضمن الأمر بتسبيحه في هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس «1» ،   (1) قيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال: نعم وتلا هذه الآية. ف (حين تمسون) صلاة المغرب والعشاء، (وحين) تصبحون صلاة الفجر، (وعشيا) صلاة العصر، (وحين تظهرون) صلاة الظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وإرادة الحقّ من أوليائه بأن يجددوا العهد في اليوم والليلة خمس مرات فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 19] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» : الطير من البيض، والحيوان من النّطفة. و «يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» : البيض من الطير، والنطفة من الحيوان. والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. ويظهر أوقاتا من بين أوقات كالقبض من بين أوقات البسط، والبسط من بين أوقات القبض. «وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» : يحييها بالمطر، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء كذلك يوم النشور يحيى الخلق بعد الموت. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 20] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) خلق آدم من التراب، ثم من آدم الذّرّية. فذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم. ويقال الأصل تربة ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة، القيمة لما منه لا لأعيان المخلوقات. اصطفى واختار الكعبة فهى أفضل من الجنة الجنة جواهر ويواقيت، والبيت حجر! ولكن البيت مختاره وهذا المختار حجر! واختار الإنسان، وهذا المختار مدر! والغنيّ غنيّ لذاته، غنيّ عن كلّ غير من رسم وأثر. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 21] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 ردّ المثل إلى المثل، وربط الشكل بالشكل، وجعل سكون البعض إلى البعض، ولكنّ ذلك للأشباح والصّور، أمّا الأرواح فصحبتها للأشباح كره لا طوع «1» . وأمّا الأسرار فمعتقة لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 22] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) خلق السماوات في علوّها والأرض في دنوّها هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها. وهذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها. ومن آياته اختلاف لغات أهل الأرض، واختلاف تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء. وإنّ اختصاص كلّ شىء منها بحكم- شاهد عدل، ودليل صدق على أنها تناجى أفكار المتيقظين، وتنادى على أنفسها.. أنها جميعها من تقدير العزيز العليم. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 23] وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) غلبة النوم بغير اختيار صاحبه ثم انتباهه من غير اكتساب له بوسعه يدلّ على موته وبعثه بعد ذلك وقت نشوره. ثم في حال منامه يرى ما يسرّه وما يضرّه، وعلى أوصاف كثيرة أمره.. كذلك الميت في قبره.. الله أعلم كيف حاله في أمره، وما يلقاه من خيره وشرّه، ونفعه وضرّه؟   (1) فكرة اغتراب الروح عن مصدرها الأصيل، ولبثها في داخل البدن، ذلك القفص المادي أو السجن الترابي- تحتل اهتماما كبيرا عند شعراء الصوفية (أنظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» فصل الفطرية) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 24] وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) يلقى في القلوب من الرجاء والتوقع في الأمور، ثم يختلف بهم الحال فمن عبد يحصل مقصوده، ومن آخر لا يتفق مراده. والأحوال اللطيفة كالبروق، وقالوا: إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار «1» ، فاللوائح في أوائل العلوم، واللوامع من حيث الفهوم، والطوالع من حيث المعارف «2» ، والشوارق من حيث التوحيد. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 25] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) يفنى هذه الأدوار، ويغيّر هذه الأطوار، ويبدّل أحوالا غير هذه الأحوال إماتة ثم إحياء، وإعادة وقبلها إبداء، وقبر ثم نشر، ومعاتبة في القبر ثم محاسبة بعد النّشر. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) له ذلك ملكا، ومنه تلك الأشياء بدءا، وبه إيجادا، وإليه رجوعا. قوله جل ذكره: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .   (1) يتفق موقف القشيري من هذه المصطلحات هنا مع ما ذكره فى «الرسالة» وإن كان قد زاد عليها هنا (متوع النهار) . (2) نفهم من هذا أن القشيري يرى هذا الترتيب: العلم ثم الفهم ثم المعرفة أو العرفان، ونفهم أن التوحيد أعلى درجات العرفان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» أي في ظنّكم وتقديركم «1» . وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحقّ لا تجوز. «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى» : له الصفة العليا في الوجود بحقّ القدم، وفي الجود بنعت الكرم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النصرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلّق، وفي الحكم بوجوب التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية «2» بحكم النفوذ، وفي الجبروت بعين العزّ والجلال، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 28] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) أي إذا كان لكم مماليك لا ترضون بالمساواة بينكم وبينهم، وأنتم متشاكلون «3» بكلّ وجه- إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فما تقولون في الذي لم يزل، ولا يزال كما لم يزل؟. هل يجوز أن يقدّر في وصفه أن يساويه عبيده؟ وهل يجوز أن يكون مملوكه شريكه؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 29] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) .   (1) معنى هذه العبارة: حسب ظنكم وتقديركم الإعادة أسهل من الإنشاء.. فلم أنكرتم الإعادة؟ فضلا عن أنه ليس عند الله سهل ولا عسير. (2) القضية: هى قضاء الله. (3) متشاكلون معناها: متشابهون ومتساوون ولا فرق في الجوهرية بينكم وبينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 أشدّ الظلم متابعة الهوى لأنه قريب من الشّرك، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «1» . فمن اتّبع هواه خالف رضا مولاه فهو بوضعه الشيء غير موضعه صار ظالما، كما أنّ العاصي بوضعه المعصية موضع الطاعة ظالم.. كذلك هذا بمتابعة هواه بدلا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متماديا. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 30] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) أخلص قصدك إلى الله، واحفظ عهدك مع الله، وأفرد عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله. «حَنِيفاً» : أي مستقيما في دينه، مائلا إليه، معرضا عن غيره «2» . والزم «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي أثبتهم عليها قبل أن يوجد منهم فعل ولا كسب، ولا شرك ولا كفر، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان. فاعرف بهذه الجملة، ثم افعل ما أمرت به، واحذر ما نهيت عنه. فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي اعرف واعلم أن فطرة الله التي فطر الناس عليها: تجرّدهم عن أفعالهم، ثم اتصافهم بما يكسبون- وإن كان هذا أيضا بتقدير الله «3» . وعلى هذا تكون «فِطْرَتَ» الله منصوبة بإضمار اعلم- كما قلنا.   (1) آية 23 سورة الجاثية. (2) فكلمة «حنيف» من الأضداد. (3) يذكرنا هذا بتفسير أبى طالب المكي لقول رابعة «أحبك حبين..» فالحب الأول فطرى تفضل الله به، والحب الثاني عانته هي بكسبها ولكنها حتى في هذا الحب الكسبي لا فضل لها، ولذلك استدركت: فلا الحمد في ذا ولا ذاك لى ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا أنظر (قوت القلوب المكي ح 2 ص 56 وماتلاها) وانظر أيضا كتابنا (نشأة التصوف الإسلامى) ط دار المعارف. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 سبحانه فطر كلّ أحد على ما علم أنه يكون في السعادة أو الشقاوة، ولا تبديل لحكمه، ولا تحويل لما عليه فطره. فمن علم أنه يكون سعيدا أراد سعادته وأخبر عن سعادته، وخلقه في حكمه سعيدا. ومن علم شقاوته أراد أن يكون شقيا وأخبر عن شقاوته وخلقه فى حكمه شقيا.. ولا تبديل لحكمه، هذا هو الدين المستقيم والحقّ الصحيح «1» قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 31] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) أي راجعين إلى الله بالكلية من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفاقه، منحرفين بكل وجه عن خلافه، متقّين صغير الإثم وكبيره، قليله وكثيره، مؤثرين يسير وفاقه وعسيره، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهرا، متحققين بمراعاة فضائلها سرا. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 32] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) أقاموا في دنياهم في خمار الغفلة، وعناد الجهل والفترة فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وتموّلوا من كيس غيرهم، وظنوا أنهم على شىء. فإذا انكشف ضباب وقتهم، وانقشع سحاب جحدهم.. انقلب فرحهم ترحا، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة، ولم يعرّجوا إلّا في أوطان الجهالة. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 33] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) .   (1) نحسب أن القشيري قد حاول إيضاح مشكلة هامة من مشاكل علم الكلام، فليست الجبرية عنده بناقضة لحرية الإنسان واختياره، ما دامت الأمور كلها مرتبطة بعلم الله الذي سبق كل شىء، وبفضل الله الذي فطر على ما علم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومسّتهم البليّة رجعوا إلى الله بأجمعهم مستعينين، وبلطفه مستجيرين، وعن محنتهم مستكشفين «1» . فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم: إذا فريق منهم- لا كلّهم- بل فريق منهم بربهم يشركون يعودون إلى عاداتهم المذمومة فى الكفران، ويقابلون إحسانه بالنسيان، هؤلاء ليس لهم عهد ولا وفاء، ولا فى مودتهم صفاء. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 34] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أي عن قريب سيحدث بهم مثلما أصابهم، ثم إنهم يعودون إلى التضرع، ويأخذون فيما كانوا عليه بدءا من التخشع، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 35] أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) بين أنهم بنوا على غير أصل طريقهم، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم، وعلى غير شرع من الله أو حجة أو بيان أسّسوا مذاهبهم. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 36] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) تستميلهم طوارق أحوالهم فإن كانت نعمة فإلى فرح، وإن كانت شدة فإلى قنوط وترح.. وليس وصف الأكابر كذلك قال تعالى: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» «2» .   (1) أي راجين كشف الغمة عنهم. (2) آية 23 سورة الحديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 37] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) الإشارة فيها إلى أن العبد لا يعلّق قلبه إلا بالله لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إلا بالله، وما يسرّهم ليس وجوده إلا من الله، فالبسط الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله، فالواجب لزوم عقوة «1» الأسرار، وقطع الأفكار عن الأغيار. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 38] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) القرابة على قسمين: قرابة النسب وقرابة الدّين، وقرابة الدين أمسّ، وبالمواساة أحقّ وإذا كان الرجل مشتغلا بالعبادة، غير متفرّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمان بحاله، وإشراف على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقدر ما يمكنهم، مما يكون له عون على الطاعة وفراغ القلب من كل علة فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقّه آكد، وتفقّده أوجب. «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» : المريد هو الذي يؤثر حقّ الله على حظّ نفسه فإيثار المريد وجه الله أتمّ من مراعاته حال نفسه، فهمّته في الإحسان إلى ذوى القربى والمساكين تتقدم على نظره لنفسه وعياله وما يهمه من خاصته. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 39] وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجه الله، وألا تستخدم الفقير لما تبرّه به من رافقة «2» ،   (1) العقوة الموضع المتسع أمام الدار. (2) الرافقة الرفق واللطف، تقول: أولاه رافقة (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 بل أفضل الصدقة على ذى رحم كاشح «1» حتى يكون إعطاؤه لله مجردا عن كل نصيب لك فيه، فهؤلاء هم الذين يضاعف أجرهم: قهرهم لأنفسهم حيث يخالفونها، وفوزهم بالعوض من قبل الله. ثم الزكاة هي التطهير، وتطهير المال معلوم ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة، وأصناف المال وأوصافه. وزكاة البدن وزكاة القلب وزكاة السّرّ.. كلّ ذلك يجب القيام به. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 40] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) «ثُمَّ» حرف يقتضى التراخي وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خلقه إياك أن يرزقك كنت في ضعف أحوالك ابتداء ما خلقك، فأنبتك وأحياك من غير حاجة لك إلى رزق فإلى أن خرجت من بطن أمّك: إمّا أن كان يغنيك عن الرزق وأنت جنين فى بطن الأم ولم يكن لك أكل ولا شرب، وإمّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق- إن حقّ ما قالوا: إن الجنين يتغذّى بدم الطمث. وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فيسّر لك أسباب الأكل والشرب من لبن الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق اللسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بسقوط شهواتكم، ويميتكم عن شواهدكم. «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» بحياة قلوبكم ثم بأن يحييكم بربّكم.   (1) كاشح أي مبغض. وربما كان خير مثل التصدق على ذى رحم مبغض، ما حدث من أبى بكر حينما امتنع عن تقديم الزكاة لمسطح على أثر قيامه بدوره المعروف في قصة الإفك، فعوتب أبو بكر في ذلك ونزلت فيه «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى» آية 22 سورة النور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 ويقال: من الأرزاق ما هو وجود الأرزاق ومنها ما هو شهود الرزاق. ويقال: لا مكنة لك في تبديل خلقك، وكذلك لا قدرة لك على تعسّر رزقك، فالموسّع عليه رزقه- بفضله سبحانه.. لا بمناقب نفسه، والمقترّ عليه رزقه بحكمه سبحانه.. لا بمعايب نفسه. «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أى من الأصنام أو توهمتموهم من جملة الأنام.. من يفعل شيئا من ذلك؟ «سُبْحانَهُ وَتَعالى» تنزيها له وتقديسا. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) الإشارة من البرّ إلى النّفس، ومن البحر إلى القلب. وفساد البرّ بأكل الحرام وارتكاب المحظورات، وفساد البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشّرّ والفسق.. وغير ذلك. وعقد الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب، كما أنّ العزم على الخيرات قبل فعلها من أعظم الخيرات. ومن جملة الفساد التأويلات بغير حقّ، والانحطاط إلى الرّخص في غير قيام بجد، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء من الله تعالى. «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» : بعض الذي عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب، وعدم التأسّف على مافاته من الحقّ. قوله جل ذكره: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 «سِيرُوا» بالاعتبار، واطلبوا الحقّ بنعت الأفكار. «فَانْظُرُوا» كيف كانت حال من تقدّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حكمكم في جميع الأحوال. «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» كانوا أكثرهم عددا، ولكن كانوا في التحقيق أقلّهم وزنا وقدرا. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 43] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) أخلص قصدك وصدق عزمك للدين القيّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. فمن لم يتأدب بمن هو لسان وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتمّ من ربحه، ونقصانه أعم من نفعه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 46] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) يرسل رياح الرجاء على قلوب العباد فتكنس عن قلوبهم غبار الخوف وغثاء اليأس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بساط الجهد، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياح البسط على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض، وينشر فيها إرادة الوصال. ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء، ويبشرها بدوام الوصال.. فذلك ارتياح به ولكن بعد اجتياح عنك.   (1) يرى كبار الصوفية- والقشيري منهم- أن التأدب يشيخ أمر ضرورى في الطريق الصوفي كى يكبح جماح المريد، ويهديه إلى ربه عند رعونة نفسه، ويبعد به عن الزهو عند ما تلوح له بوادر الكشوفات، ويشير عليه بالسفر إن دعت الحاجة إلى ذلك ... ونحو هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) أرسلنا من قبلك رسلا إلى عبادنا، فمن قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومن عارضهم بالجحود أذقناهم عذاب الخلود، فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشوّشنا عليهم ما أمّلوا، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا. َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى رقيناهم فوق رقابهم، وخرّبنا أوطان أعدائهم، وهدّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانهم، وعطّلنا عنهم ديارهم، ومحونا بقهر التدمير آثارهم، فظلّت شموسهم كاسفة، ومكيدة قهرنا لهم بأجمعهم خاسفة. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 48] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) يرسل رياح عطفه وجوده مبشرات بوصله وجوده، ثم يمطر جود غيبه على على أسرارهم بلطفه، ويطوى بساط الحشمة عن ساحات قربه، ويضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه، وينشر عليهم أزهار أنسه، ثم يتجلّى لهم بحقائق قدسه، ويسقيهم بيده شراب حبّه، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم- لا بهم- ولكن بنفسه، فالعبارات عن ذلك خرس، والإشارات دونها طمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 50] فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) يحيى الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجىء الأمطار ليخرج زرعها وثمارها، ويحيى النفوس بعد نفرتها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الرّفاق بصادق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، ويحيى القلوب بعد غفلتها بأنوار المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحسن المراعاة، ويهتدى بأنوار أهلها أهل العسر من أصحاب الإرادات، ويحيى الأرواح بعد حجبتها- بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسها عن برج السعادة، ويتصل بمشامّ أسرار الكافة نسيم ما يفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحب نفس إلا حظى منه بنصيب، ويحيى الأسرار- وقد تكون لها وقفة في بعض الحالات- فتنتفى بالكلية آثار الغيرية، ولا يبقى في الدار ديّار ولا من سكانها آثار فسطوات الحقائق لا تثبت لها ذرّة من صفات الخلائق، هنالك الولاية لله.. سقط الماء والقطرة، وطاحت الرسوم والجملة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 51] وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) إذا انسدّت البصيرة عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات.. كذلك من حقّت عليهم الشقاوة جرّته إلى نفسها- وإن تبوّأ الجنة منزلا. قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) من فقد الحياة الأصلية لم يعش بالرّقى والتمائم، وإذا كان في السريرة طرش عن سماع الحقيقة فسمع الظاهر لا يفيده آكد الحجّة. وكما لا يسمع «2» الصّمّ الدعاء فكذلك لا يمكنه أن يهدى العمى عن ضلالتهم.   (1) أي انتفت آثار البشرية، وصار العبد مستهلكا بالكلية. (2) الفاعل ضمير مستتر تقديره «هو» يعود على الرسول صلوات الله عليه، فإن الخطاب في الآية الكريمة موجه إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : آية 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية «1» ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم: آخر الأمر ما ترى ... القبر واللحد والثرى كذلك في ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية في نعت التردد والحيرة في الطلب، ثم بعد قوة الوصل في ضعف التوحيد. ويقال أولا ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله، ثم قوة البيان في حال العرفان لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود لأن الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر. ويقال «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» : أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة، قال صلى الله عليه وسلم: «أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» «2» . قوله جل ذكره: [سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 60] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) إنما كان ذلك لأحد أمرين: إمّا لأنهم كانوا أمواتا.. والميت لا إحساس له، أو لأنهم عدّوا ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يرون ذلك اليوم يسيرا. وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لبثهم تحت الأرض. وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جحدهم على موجب جهلهم، ثم لا يسمع عذرهم، ولا يدفع ضرّهم.   (1) الطفولية الطفولة. (2) رواه الترمذي وابن ماجه عن أبى سعيد الخدري والحاكم، وقال صحيح الإسناد. ورواه الطبراني بسند رجال ثقات عن عبادة بن الصامت. وادعى ابن الجوزي وابن تيمية أنه موضوع، وأبطل ذلك الحافظ بن حجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهما كهم في غيّهم، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم. ثم ختم السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم. «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 السورة التي يذكر فيها لقمان قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من سمعها أقرّ أنّه لا يسمع مثلها، ومن عرفها أنف أن يسمع غيرها. كلمة من سمعها طابت قصّته، وزالت بكل وجه غصّته، وتمّت من النّعم في الدنيا والعقبى حصّته، وزهد في دنياه من غير رغبة في عقباه لأنّها- وإن جلّت- غير مولاه «1» كلمة من سمعها لم يرغب في عمارة فنائه، ولم يتحشم «2» سرعة وفائه. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) الألف تشير إلى آلائه، واللام تشير إلى لطفه وعطائه، والميم تشير إلى مجده وسنائه فبآلائه يرفع الجحد عن قلوب أوليائه، وبلطفه وعطائه يثبت المحبة في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه. «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» : المحروس عن التغيير والتبديل. [سورة لقمان (31) : الآيات 3 الى 4] هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) هو هدى وبيان، ورحمة وبرهان للمحسنين العارفين بالله، والمقيمين عبادة الله كأنهم   (1) فالحب الخالص منتف عن الغيرية. (2) لم يتحشم أي: لم يتجنب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 ينظرون إلى الله. وشرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، ومطيعهم وعاصيهم. «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» : يأتون بشرائطها في الظاهر من ستر العورة، وتقديم الطهارة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت، والوقوف في مكان طاهر. وفي الباطن يأتون بشرائطها من طهارة السّرّ عن العلائق، وستر عورة الباطن بتنقيته عن العيوب، لأنها مهما تكن فالله يراها فإذا أردت ألا يرى الله عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. والوقوف في مكان طاهر، وهو وقوف القلب على الحدّ الذي أذنت في الوقوف فيه مما لا تكون دعوى بلا تحقيق، ورحم الله من وقف عند حدّه. والمعرفة بدخول الوقت فتعلم وقت التذلّل والاستكانة، وتميز بينه وبين وقت السرور والبسط، وتستقبل القبلة بنفسك، وتعلّق قلبك بالله من غير تخصيص بقطر أو مكان. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الذين يقومون بشرط صلاتهم وحقّ آداب عبادتهم هم الذين اهتدوا فى الدنيا والعقبى فسلموا ونجوا. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 6] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) «لَهْوَ الْحَدِيثِ» : ما يشغل عن ذكر الله «1» ، ويحجب عن الله سماعه. ويقال: هو لغو الظاهر الموجب سهو الضمائر، وهو ما يكون خوضا في الباطل، وأخذا بما لا يعنيك.   (1) اعتاد كثير من المفسرين أن يفسروا اللهو هنا (بالغناء) ، لأجل هذا نلفت النظر إلى عدم صرف القشيري المعنى في هذا الاتجاه، لأننا نعلم من مذهبه أنه لا يرى بأسا في سماع الغناء ولكن بشرط أن يحرك الوجدان نحو غاية سامية في السماع، وألا يبعث فيها الهوى والمجون، وألا يكون مصحوبا بشىء محرّم. (أنظر كتابنا: الإمام القشيري ونزعته في التصوف) ط مؤسسة الحلبي. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 7] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) المفترق بهمّه، والمتشتّت بقلبه لا تزيده كثرة الوعظ إلا نفورا ونبوّا فسماعه كلا سماع، ووعظه هباء وضياع، كما قيل: إذا أنا عاتبت الملول فإنما ... أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) «آمَنُوا» : صدّقوا «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : تحقّقوا فاتصاف تحقيقهم راجع إلى تصديقهم، فنجوا وسلموا فهم في راحاتهم مقيمون، دائمون لا يبرحون. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 10] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) أمسك السماوات بقدرته بغير عماد، وحفظها لا إلى سناد أو مشدودة إلى أوتاد، بل بحكم الله وبتقديره، ومشيئته وتدبيره. «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ..» فى الظاهر الجبال، وفي الحقيقة الأبدال والأوتاد الذين هم غياث الخلق، بهم يقيهم، وبهم يصرف البلاء عن قريبهم وقاصيهم. «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً..» المطر من سماء الظاهر في رياض الخضرة ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوّ والحضرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 11] هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأرونى ماذا خلق الذين عبدتم من دونه في أرضه وسمائه؟ قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) «الْحِكْمَةَ» الإصابة في العقل والعقد والنطق. ويقال «الْحِكْمَةَ» متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث همة النفس. ويقال «الْحِكْمَةَ» ألا تكون تحت سلطان الهوى. ويقال «الْحِكْمَةَ» الكون بحكم من له الحكم. ويقال «الْحِكْمَةَ» معرفة قدر نفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجا عن كسائك. ويقال «الْحِكْمَةَ» ألا تستعصى على من تعلم أنك لا تقاومه. «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» : حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرّبّ. فهو مقلوب قولهم: كشرت عن أنيابها الداية فيقال شكر وكشر مثل جذب وجبذ. ويقال الشكر تحققك بعجزك عن شكره. ويقال الشكر ما به يحصل كمال استلذاذ النعمة. ويقال الشكر فضلة تظهر على اللسان من امتلاء القلب بالسرور فينطلق بمدح المشكور. ويقال الشكر نعت كلّ غنىّ كما أن الكفران وصف كلّ لئيم. ويقال الشكر قرع باب الزيادة «1» . ويقال الشكر قيد الإنعام. ويقال الشكر قصة يميلها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال. «وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» «2» : لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 13] وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .   (1) إشارة إلى قوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» آية 7 سورة ابراهيم. (2) آية 40 سورة النمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 الشّرك على ضربين: جلىّ وخفيّ فالجلىّ عبادة الأصنام، والخفىّ حسبان شىء من الحدثان من الأنام. ويقال الشّرك إثبات غير مع شهود الغيب. ويقال الشرك ظلم على القلب، والمعاصي ظلم على النفس، وظلم النفوس معرّض للغفران، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 14] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) أوجب الله شكر نفسه وشكر الوالدين. ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما، وألا يكتفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما علم أنّ شكر الحقّ لا يكفى فيه مجرّد القول ما لم تكن فيه موافقه العقل وذلك بالتزام الطاعة، واستعمال النعمة في وجه الطاعة دون صرفها في الزّلّة فشكر الحقّ بالتعظيم والتكبير، وشكر الوالدين بالإنفاق والتوفير. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 15] وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) إن جاهداك على أن تشرك بالله، أو تسعى بما هو زلة في أمر الله- فلا تطعهما، ولكن عاشرهما بالجميل تخشين في تليين، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرج، وانفرد بسرّك لله، «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» : وهو المنيب إليه حقا من غير أن تبقى بقية في النفس. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 16] يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 إذا كانت ذرة أو أقل من ذلك وسبقت بها القسمة فلا محالة تصل إلى المقسوم له بغير مرية.. «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» : عالم بدقائق الأمور وخفاياها. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 17] يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغه أن يكون بامتناعك بنفسك عما تنهى عنه، واشتغالك واتصافك بنفسك بما تأمر به غيرك، ومن لا حكم له على نفسه لا ينفذ حكمه على غيره. والمعروف الذي يجب الأمر به هو ما يوصّل العبد إلى الله، والمنكر الذي يجب النهى عنه هو ما يشغل العبد عن الله. «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» تنبيه على أنّ من قام لله بحقّ امتحن في الله فسبيله أن يصبر لله- فإنّ من صبر لله لا يخسر على الله. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 18] وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) يعنى لا تتكبر على الناس، وطالعهم من حيث النسبة والتحقق بأنك بمشهد من مولاك. ومن علم أنّ مولاه ينظر إليه لا يتكبر ولا يتطاول بل يتخاضع ويتضاءل. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 19] وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) كن فانيا عن شواهدك، مصطلما عن صولتك، مأخوذا عن حولك وقوتك، منتشقا «1» مما استولى عليك من كشوفات سرّك.   (1) (انتشق) الماء وغيره: جذب منه بالنّفس في أنفه، ورجل نشق إذا دخل في أمر لا يكاد يخلص منه (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» : فى الإشارة هو الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحقّ. وقالوا: إنه الصوفيّ يتكلم قبل أوانه. ويقال إنما ينهق الحمار عند رؤية الشيطان فلذلك كان صوته أنكر الأصوات. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 20] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) أثبت في كل شىء منها نفعا لكم، فالسماء لتكون لكم سقفا، والأرض لتكون لكم فراشا، والشمس لتكون لكم سراجا، والقمر لتعلموا به عدد السنين والحساب، والنجوم لتهتدوا بها. «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» : الإسباغ ما يفضل عن قدرة الحاجة ولا تحتاج معه إلى الزيادة. قوله: «نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» : تكلموا فيه فأكثروا. فالظاهرة وجود النعمة، والباطنة شهود المنعم. والظاهرة الدنيوية، والباطنة الدينية. والظاهرة حسن الخلق، والباطنة حسن الخلق. الظاهرة نفس بلا زلّة، والباطنة قلب بلا غفلة. الظاهرة العطاء، والباطنة الرضاء. الظاهرة في الأموال ونمائها، والباطنة في الأحوال وصفائها. الظاهرة النعمة، والباطنة العصمة. الظاهرة توفيق الطاعات، والباطنة قبولها. الظاهرة تسوية الخلق، والباطنة تصفية الخلق. الظاهرة صحبة الصالحين، والباطنة حفظ حرمتهم. الظاهرة الزهد في الدنيا، والباطنة الاكتفاء بالمولى من الدنيا والعقبى «1» . الظاهرة الزهد، والباطنة الوجد. الظاهرة توفيق   (1) هذه أعلى درجات الزهد، وهي تهمنا ونحن نؤرخ للتطور التأريخي الذي حدث عند ما تطور الزهد إلى تصوف (أنظر كتابنا نشأة التصوف الإسلامى (ط دار المعارف) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 المجاهدة والباطنة تحقيق المشاهدة. الظاهرة وظائف النّفس، والباطنة لطائف القلب. الظاهرة اشتغالك بنفسك عن الخلق، والباطنة اشتغالك بربّك عن نفسك. الظاهرة طلبه، الباطنة وجوده «1» . الظاهرة أن تصل إليه، الباطنة أن تبقى معه. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 23] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) لم يتخطوا منهم ولا من أمثالهم، ولم يهتدوا إلى محوّل أحوالهم. فأمّا من سمت نفسه، وخلص في الله قصده فقد استمسك بالعروة الوثقى، وسلك المحجّة المثلى: - «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» وعلى العكس: - «وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . إلينا إيابهم، ومنّا عذابهم، وعلينا حسابهم. ولئن سألتهم عن خالقهم لأقرّوا، ولكن إذا عادوا إلى غيّهم نقضوا وأصروا. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 26] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) لله ما في السماوات والأرض ملكا، ويحرى فيهم حكمه حقّا، وإليه مرجعهم حتما.   (1) الوجود مرحلة تأتى بعد التواجد والوجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 27] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) لو أنّ ما في الأرض من الأشجار أقلام والبحار كانت مدادا، وبمقدار ما يقابله تنفق القراطيس، ويتكلّف الكتّاب حتى تتكسر الأقلام، وتفنى البحار، وتستوفى القراطيس، وتفنى أعمار الكتّاب.. ما نفدت معانى مالنا معك من الكلام، والذي نسمعك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبد الأبد، والأبديّ من الوصف لا يتناهى. ويقال إن كان لك معكم كلام كثير فما عندكم ينفذ وما عند الله باق: صحائف عندى للعتاب طويتها ستنشر يوما والعتاب يطول قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 28] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) إيجاد القليل أو الكثير عليه وعنده سيّان فلا من الكثير مشقة وعسر، ولا من القليل راحة ويسر، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: «كُنْ فَيَكُونُ» «1» يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته، لا بمزاولة جهد، ولا باستفراغ وسع، ولا بدعاء خاطر، ولا بطروء غرض. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 30] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) «اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» : الكائن الموجود، محقّ الحقّ «2» ، وما يدعون من دونه الباطل: من العدم ظهر ومعه جواز العدم «3» .   (1) آية 82 سورة يس. (2) فى ص جاء بعدها (وما يدعونه هو التلاوة) ويقول مجاهد، إنه الشيطان. ويقال: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان.. (3) شغلت قضية (الحق والباطل) أصحاب وحدة الوجود. ورأى القشيري هنا يصلح عند المقارنة بين أرباب وحدة الشهود وأرباب وحدة الوجود في شأن هذين الاصطلاحين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 31] أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) فى الظاهر سلامتهم في السفينة، وفي الباطن سلامتهم من حدثان الكون، ونجاتهم في سفائن العصمة في بحار القدرة. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ» وقوف لا ينهزم من البلايا، شكور على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسى البلايا والعطايا. قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 32] وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحار إلى سواحل السلامة، فإذا جاد الحقّ بتحقيق مناهم عادوا إلى رأس خطاياهم: وكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا ... أحباءنا: كم تجهلون ونحلم! قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 33] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) يخوّفهم مرة بأفعاله فيقول: «اتَّقُوا يَوْماً» ، ومرة بصفاته فيقول: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ومرة بذاته فيقول: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 قوله جل ذكره: [سورة لقمان (31) : آية 34] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) يتفرّد بعلم القيامة، ويعلم ما في الأرحام ذكورها وإناثها، شقيها وسعيدها، وحسنها وقبيحها ويعلم متى ينزّل الغيث، وكم قطرة ينزلها، وبأى بقعة يمطرها. «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «1» . ما تدرى نفس ماذا تكسب غدا من خير وشر، ووفاق وشقاق، وما تدرى نفس بأى أرض تموت أتدرك مرادها أم يفوت؟.   (1) قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبى مرسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 سورة السّجدة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كلمة سماعها ربيع الجميع، من العاصي والمطيع، والشريف والوضيع. من أصغى إليها بسمع الخضوع ترك طيّب الهجوع، ومن أصغى إليها بسمع المحابّ ترك لذيذ الطعام والشراب. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الإشارة من الألف إلى أنه ألف المحبون قربتى فلا يصبرون عنى، وألف العارفون تمجيدى فلا يستأنسون بغيري. والإشارة في اللام إلى لقائى المدّخر لأحبّائى، فلا أبالى أقاموا على ولائى أم قصّروا فى وفائى. والإشارة في الميم: أي ترك أوليائى مرادهم لمرادى.. فلذلك آثرتهم على جميع عبادى. «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» : إذا تعذّر لقاء الأحباب فأعزّ شىء على الأحباب كتاب الأحباب أنزلت على أحبابى كتابى، وحملت إليهم الرسالة خطابى، ولا عليهم إن قرع أسماعهم عتابى، فهم في أمان من عذابى. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 3] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) الذي لكم منا حقيقة، وإن التبس على الأعداء فليس يضيركم، ولا عليكم، فإنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 صحبة الجيب مع الحبيب ألذّها ما كان مقرونا بفقد الرقيب. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 4] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) وتلك الأيام خلقها من خلق غير الأيام، فليس من شرط المخلوق ولا من ضرورته أن يخلقه في وقت إذ الوقت مخلوق في غير الوقت «1» . وكما يستغنى في كونه مخلوقا عن الوقت استغنى الوقت عن الوقت. «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ليس للعرش من هذا الحديث إلا هذا الخبر استوى على العرش ولكن القديم ليس له حدّ، استوى على العرش لكن لا يجوز عليه القرب بالذات ولا البعد، واستوى على العرش ولكنه أشدّ الأشياء تعطّشا إلى شظية من الوصال لو كان للعرش حياة؟، ولكنّ العرش جماد.. وأنّى يكون للجماد مراد؟! استوى على العرش لكنه صمد بلا ندّ، أحد بلا حدّ. «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» : إذا لم يرد بكم خيرا فلا سماء عنه تظلّكم، ولا أرض بغير رضاه تقلّكم، ولا بالجواهر أحد يناصركم، ولا أحد- إذا لم يعن بشأنكم في الدنيا والآخرة- ينظر إليكم. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 6] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) خاطب الخلق- على مقدار أفهامهم ويجوز لهم- عن الحقائق التي اعتادوا في تخاطبهم. «ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» «الْعَزِيزُ» مع المطيعين «الرَّحِيمُ» على العاصين. «الْعَزِيزُ» للمطيعين ليكسر صولتهم «الرَّحِيمُ» للعاصين ليرفع زلّتهم.   (1) لأن الزمان سرمد لا يرتبط بالوقت ولا يقتطع به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : الآيات 7 الى 8] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) أحسن صورة كلّ أحد فالعرش ياقوتة حمراء، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وجبريل طاووس الملائكة، والحور العين- كما في الخبر- فى جمالها وأشكالها، والجنان- كما في الأخبار ونص القرآن. فإذا انتهى إلى الإنسان قال: «خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» «1» .. كل هذا ولكن: وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري خلق الإنسان من طين ولكن «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «2» ، وخلق الإنسان من طين ولكن: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «3» ، وخلق الإنسان من طين ولكن «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ! قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 10] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) لو كانت لهم ذرّة من العرفان، وشمّة من الاشتياق، ونسمة من المحبة لما تعصّبوا كلّ هذا التعصب في إنكار جواز الرجوع إلى الله ولكن قال: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 11] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) لولا غفلة قلوبهم وإلا لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت فإنّ ملك الموت لا أثر منه في أحد، ولا له تصرفات في نفسه، وما يحصل من التوفّى فمن خصائص قدرة   (1) آية 54 سورة المائدة. (2) آية 152 سورة البقرة. (3) آية 8 سورة البينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الحق. ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ فخاطبهم على مقدار فهمهم، وعلّق بالأغيار قلوبهم، وكلّ يخاطب بما يحتمل على قدر قوّته وضعفه. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 12] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) ملكتهم الدهشة وغلبتهم الخجلة، فاعتذروا حين لا عذر، واعترفوا ولا حين اعتراف. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 13] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) لو «1» شئنا لسهّلنا سبيل الاستدلال، وأدمنا التوفيق لكلّ أحد، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلّقت بإدناء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطّان، كما أردنا أن يكون للجنّة سكان، ولأنّا علمنا يوم خلقنا الجنّة أنه يسكنها قوم، ويوم خلقنا النار أنه ينزلها قوم، فمن المحال أن نريد ألا يقع معلومنا، ولو لم يحصل لم يكن علما، ولو لم يكن ذلك علما لم نكن إلها ... ومن المحال أن نريد ألا نكون إلها. ويقال: من لم يتسلّط عليه من يحبه لم يجر في ملكه ما يكرهه. ويقال: يا مسكين أفنيت عمرك في الكدّ والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيّرت صفتك، وأكثرت مجاهدتك.. فما تفعل في قضائى كيف تبدّله؟ وما تصنع في مشيئتى بأيّ وسع تردّها؟ وفي معناه أنشدوا: شكا إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد حيران لو شئت اهتدى ... ظمان لو شئت ورد   (1) هذه الإشارة المستوحاة من الآية تمثل أقصى درجات الجبرية في مذهب هذا الباحث الصوفي، ولكن القارئ لا يعزب عنه أن يجدها جبرية ممتزجة بالحب.. ويكفى أنها مرتبطة بمشيئة الخالق. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 14] فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) قاس من الهوان ما استوجبته بعصيانك، واخلد في دار الخزي لما أسلفته من كفرانك. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 15] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) التصديق والتكذيب ضدان- والضدان لا يجتمعان التكذيب هو جحود واستكبار، والتصديق هو سجود وتحقيق، فمن اتّصف بأحد القسمين امّحى عنه الثاني. «خَرُّوا سُجَّداً» : سجدوا بظواهرهم في المحراب، وفي سرائرهم على تراب الخضوع وبساط الخشوع بنعت الذبول وحكم الخمود. ويقال: كيف يستكبر من لا يجد كمال راحته ولا حقيقة أنسه إلا في تذلله بين يدى معبوده، ولا يؤثر آجل جحيمه على نعيمه، ولا شقاءه على شفائه؟! قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 16] تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فى الظاهر: عن الفراش قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد، وفي الباطن: تتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قدّر النفس، وتوّهم المقام- فإن ذلك بجملته حجاب عن الحقيقة، وهو للعبد سمّ قاتل- فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم. ويفارقون مالفهم، ويهجرون في الله معارفهم. والليل زمان الأحباب، قال تعالى: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» : يعنى عن كلّ شغل وحديث سوى حديث محبوبكم. والنهار زمان أهل الدنيا، قال تعالى: «وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» ، أولئك قال لهم: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ» : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم، واشتغلوا بحرفتكم. وأما الأحباب فالليل لهم إمّا في طرب التلاقي وإما في حرب الفراق، فإن كانوا في أنس القربة فليلهم أقصر من لحظة، كما قالوا: زارنى من هويت بعد بعاد ... بوصال مجدّد ووداد ليلة كاد يلتقى طرفاها ... قصرا وهى ليلة الميعاد وكما قالوا: وليلة زين ليالى الدهر ... قابلت فيها بدرها ببدر لم تستبن عن شقق وفجر ... حتى تولّت وهي بكر الدهر وأمّا إن كان الوقت وقت مقاساة فرقة وانفراد بكربة فليلهم طويل، كما قالوا: كم ليلة فيك لا صباح لها ... أفنيتها قابضا على كبدى قد غصّت العين بالدموع وقد ... وضعت خدى على بنان يدى قوله: «يدعون ربهم خوفا وطمعا» : قوم خوفا من العذاب وطمعا في الثواب، وآخرون خوفا من الفراق وطمعا في التلاقي، وآخرون خوفا من المكر وطمعا في الوصل. «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» : يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به فإن طهّرنا أحوالهم عن الكدورات حضروا بأحوال مقدّسة، وإن دنّسّنا أوقاتهم بالآفات شهدوا بحالات مدنّسة، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» فالعبد إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سيّده: يفديك بالروح صبّ لو يكون له ... أعزّ من روحه شىء فداك به قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 17] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 إنما تقرّ عينك برؤية من تحبه، أو ما تحبه فطالب قلبك وراع حالك: فيحصل اليوم سرورك، وكذلك غدا.. وعلى ذلك تحشر ففى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» . ثم إنّ وصف ما قال الله سبحانه إنه لا يعلمه أحد- محال، اللهم أن يقال: إنها حال عزيزة، وصفة جليلة. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 18] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) «1» أفمن كان في حال الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسى وباله؟ أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعانى مشقة الكلفة؟ أفمن هو في روح إقبالنا عليه كمن هو في محنة إعراضنا عنه؟ أفمن بقي معنا كمن بقي عنّا؟ أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالى الكفران ووحشة العصيان؟ أفمن أيّد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان! قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : الآيات 19 الى 20] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) «الَّذِينَ آمَنُوا» : صدّقوا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : بما حققّوا- فلهم حسن الحال، وحميد المآل وجزيل المنال، وأما الذين كدّوا وجحدوا، وفي معاملاتهم أساءوا   (1) عن ابن عباس: أن الوليد بن عقبة قال لعل بن أبى طالب: أنا أحدّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال عليّ: اسكت فإنما أنت فاسق ... فنزلت الآية (الواحدي ص 236) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وأفسدوا، فقصاراهم الخزي والهوان، وفنون من المحن وألوان ... كلما راموا من محنتهم خلاصا ازدادوا فيها انتكاسا، وكلما أمّلوا نجاة جرّعوا وزيدوا يأسا. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 21] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) قوم عذابهم الأدنى محن الدنيا، والعذاب الأكبر لهم عقوبة العنبي. وقوم العذاب الأدنى لهم فترة تتداخلهم في عبادتهم، والعذاب الأكبر لهم قسوة في قلوبهم تصيبهم. وقوم العذاب الأدنى لهم وقفة في سلوكهم تنيبهم، والعذاب الأكبر لهم حجبة عن مشاهدهم تنالهم، قال قائلهم: أدّبتنى بانصراف قلبك عنّى ... فانظر إليّ فقد أحسنت تأديبى «1» ويقال العذاب الأدنى الخذلان في الزلة، والأكبر الهجران في الوصلة. ويقال العذاب الأدنى تكدّر مشاربهم بعد صفوها، كما قالوا: لقد كان ما بينى زمانا وبينه ... كما بين ريح المسك والعنبر الورد ويقال العذاب الأكبر لهم تطاول أيام الغياب من غير تبين آخر لها، كما قيل: تطاول نأينا يا نور حتى ... كأن نسجت عليه العنكبوت قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 22] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) إذا نبّه العبد بأنواع الزّجر، وحرّك- لتركه حدود الوقاق- بصنوف من التأديب   (1) الشطر الأول غير موزون، والشطر الثاني من البسيط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 ثم لم يرتدع عن فعله، واغترّ بطول سلامته، وأمن من هواجم مكره، وخفايا سرّه.. أخذه بغتة بحيث لا يجد خرجة من أخذته، قال تعالى: «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» «1» قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 23] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) فلا تكن في مرية من لقائه غدا لنا ورؤيته لنا «2» . «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» : وهذا محمد صلى الله عليه وسلم جعل رحمة للعالمين. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 24] وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) لمّا صبروا على طلبنا سعدوا بوجودنا، وتعدّى مانالوا من أفضالنا إلى متبعيهم، وانبسط شعاع شموسهم على جميع أهلهم فهم للخلق هداة، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 25] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) يحكم بينهم، وعند ذلك يتبين المردود من المقبول، والمهجور من الموصول، والرضى من   (1) آية 65 سورة المؤمنون. (2) صرف القشيري الرؤية واللقاء إلى موسى عليه السلام، وأنه سيلقى ربه ويراه. بينما يرى قتادة أن المقصود: فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه- أي محمد- فيها، كما لقيته ليلة الإسراء. وعن الحسن: فلا تكن- يا محمد- فى شك من أنك ستلقى ما لقيه من التكذيب والأذى، فالهاء عائدة على محذوف. وقيل إن الكلام متصل بقوله تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت» ... فلا تكن في مرية من لقائه، وجاءت «ولقد آتينا موسى» اعتراضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 الغوي، والعدو من الوليّ ... فكم من بهجة دامت هنالك! وكم من مهجة ذابت عند ذلك! قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 26] أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أو لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حبرة فصاروا عبرة، كانوا في سرور فآلوا إلى ثبور فجميع ديارهم ومزارهم صارت لأغيارهم، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا فى ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وكما قيل: نعمة كانت على قو ... م زمانا تم بانت هكذا النعمة والإح ... سان مذ كان وكانت قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 27] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) «1» الإشارة فيه: تسقى حدائق وصلهم بعد جفاف عودها، وزوال المأنوس من معهودها، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله، حاكيا بحاله حال حصوله. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 29] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) .   (1) يقول الزمخشري (الجرز) الأرض التي جزر نباتها أي قطع، إما لعدم الماء وإما لأنه رعى وأزيل، ولا يقال التي لا تنبت كالسباخ جرز، ويدل عليه قوله تعالى «فنخرج به زرعا» . وقال عكرمة: هى الأرض الظمأى. ويحاول بعضهم أن يطلقها على مكان بعينه (ابن عباس: أرض باليمن) ومجاهد: (أرض النيل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 استبعدوا يوم التلاقي وجحدوه، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله جل ذكره: [سورة السجده (32) : آية 30] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) أعرض عنهم باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا. «وَانْتَظِرْ» زوائد وصلنا، وعوائد لطفنا. «إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» هواجم مقتنا وخفايا مكرنا.. وعن قريب يجد كلّ منتظره محتضرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 سورة الأحزاب قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله شهود وجوده يوجب لك تلفا في تلف، ووجود جوده يوجب لك شرفا فى شرف، ففى تلفك يكون (هو) «1» عنك الخلف، وفي شرفك تصل إلى كلّ لطف. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) يا أيها المشرّف حالا، المفخّم قدرا منّا، المعلّى رتبة من قبلنا.. يا أيها المرقّى إلى أعلى الرّتب بأسنى القرب.. يا أيها المخبّر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلّغ خطابنا إلى أحبابنا ... اتق الله أن تلاحظ غيرا معنا، أو تساكن شيئا من دوننا، أو تثبت أحدا سوانا، أو تتوهّم شظية من الحدثان من سوانا. «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ» إشفاقا منك عليهم، وطمعا في إيمانهم بنا لو وافقتهم في شىء أرادوه منك «2» . والتقوى رقيب على قلوب أوليائه يمنعهم في أنفاسهم، وسكناتهم، وحركاتهم أن ينظروا إلى غيره- أو يثبتوا معه غيره- إلا منصوبا لقدرته، مصرّفا بمشيئته، نافذا فيه حكم قضيته.   (1) وضعنا (هو) من عندنا ليتضح المعنى كما نفهم من أسلوب القشيري في مثل هذا المجال. (2) يقال نزلت هذه الآية حينما دخل أبو سفيان وأبو جهل وأبو الأعور السلمى على النبي (ص) بعد قتال أحد، وطلبوا الأمان، وقالوا للرسول: «أرفض ذكر آلهتنا، وقل إن لها شفاعة ومنعة وندعك وربك» فشق على النبي (ص) قولهم، فقال عمر بن الخطاب- وكان بصحبة النبي: ائذن لى يا رسول الله في قتلهم، فقال النبي: إنى قد أعطيتهم الأمان ... وأمر بإخراجهم من المدينة. (الواحدي ص 36) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 التقوى لجام يكبحك عمّا لا يجوز، زمام يقودك إلى ما تحب، سوط يسوقك إلى ما أمرت به، شاخص يحملك على القيام بحقّ الله، حرز يعصمك من توصل أعدائك إليك، عوذة تشفيك من داء الخطأ. التقوى وسيلة إلى ساحات كرمه، ذريعة تتوسل بها إلى عقوة جوده. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 2] وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) اتبع ولا تبتدع، واقتد بما نأمرك به، ولا تهتد باختيارك غير ما نختار لك، ولا تعرّج في أوطان الكسل، ولا تجنحّ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بك. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 3] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) انسلخ عن إمابك، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغل عن حسبانك معنا، واحذر ذهابك عنا، ولا تقصّر في خطابك معنا. ويقال التوكل تحقّق ثم تخلّق ثم توثق ثم تملق تحقق في العقيدة، وتخلق بإقامة الشريعة، وتوثق بالمقسوم من القضية، وتملّق بين يديه بحسن العبودية. ويقال التوكل تحقّق وتعلق وتخلق: تحقّق بالله وتعلّق بالله ثم تخلق بأوامر الله. ويقال التوكل استواء القلب في العدم والوجود. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 4] ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) القلب إذا اشتغل بشىء شغل عما سواه، فالمشتغل بما من العدم منفصل عمن له القدم، وللتصل بقلبه بمن نعته القدم مشتغل عمّا من العدم.. والليل والنهار لا يجتمعان، والغيب والغير لا يلتقيان. «وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» . اللائي تظاهرتم «1» منهن لسن أمهاتكم، والذين تبنيتم ليسوا بأبنائكم، وإن الذي صرتم إليه من افترائكم، وما نسبتم إلينا من آرائكم فذلك مردود عليكم، غير مقبول منكم، وإن أمسكتم عنه بعد البيان نجوتم، وإن تماديتم بعد ما أعلمتم أطلت المحنة عليكم. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 5] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) راعوا أنسابهم، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّة في الدّين تجمعكم، وقرابة الدّين والشكلية أولى من قرابة النّسب، كما قالوا: وقالوا قريب من أب وعمومة ... فقلت: وإخوان الصفاء الأقارب نناسبهم شكلا وعلما وألفة ... وإن باعدتهم في الأصول المناسب قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)   (1) يعنى أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وسيأتى تفصيل ذلك في سورة المجادلة (المجلد الثالث.) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 الإشارة من هذا: تقديم سنته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلق به مناك، وإيثار من تتوسل به سببا ونسبا على أعزّتك ومن والاك. «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» : ليكن الأجانب منك على جانب، ولتكن صلتك بالأقارب. وصلة الرحم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار، ولكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتى المكروه والمحبوب: أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أشباحنا بشام «1» أو خراسان قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 7] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) أخذ ميثاق النبيين وقت استخراج الذرية من صلب آدم- فهو الميثاق الأول، وكذلك ميثاق الكلّ. ثم عند بعث كلّ رسول ونبوّة كلّ نبيّ أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، وقد استخلص الله سبحانه نبيّنا عليه السلام، فأسمعه كلامه- بلا واسطة- ليلة المعراج. وكذلك موسى عليه السلام- أخذ الميثاق منه بلا واسطة ولكن كان لنبينا- صلى الله عليه وسلم- زيادة حال فقد كان له مع سماع الخطاب كشف الرؤية «2» . ثم أخذ المواثيق من العبّاد بقلوبهم وأسرارهم بما يخصهم من خطابه، فلكلّ من الأنبياء والأولياء والأكابر على ما يؤهلهم له، قال صلى الله عليه وسلم «لقد كان في الأمم   (1) هكذا في ص وهي في م (بعراق) (2) فى كتاب الرؤية الكبير يرى الأشعري جواز ذلك، أما القشيري: فبينما يشير هنا إلى ذلك إذ به كما سيأتى فى بسملة سورة البروج يقول: «بسم الله اسم لم يره بصر إلّا واحد، وهو أيضا مختلف فيه» المجلد الثالث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 محدّثون فإن يكن في أمتى فعمر» وغير عمر مشارك لعمر في خواص كثيرة، وذلك شىء يتمّ بينهم وبين ربّهم. قوله جلّ ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 8] لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يسألهم سؤال تشريف لا سؤال تعنيف، وسؤال إيجاب لا سؤال عتاب. والصدق ألّا يكون في أحوالك شوب ولا في اعتقادك ريب، ولا في أعمالك عيب. ويقال من أمارات الصدق في المعاملة وجود الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق. والصدق في الأحوال تصفيتها من غير مداخلة إعجاب. والصدق في الأقوال سلامتها من المعاريض فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس التباعد عن التلبيس، وفيما بينك وبين الله بإدامة التبرّى من الحول والقوة، ومواصلة الاستعانة «1» ، وحفظ العهود معه على الدوام. والصدق في التوكل عدم الانزعاج عند الفقد، وزوال الاستبشار بالوجود «2» . والصدق في الأمر بالمعروف التحرّز من قليل المداهنة وكثيرها، وألا تترك ذلك لفزع أو لطمع، وأن تشرب مما تسفى، وتتصف بما تأمر، وتنهى (نفسك) «3» عما تزجر. ويقال الصدق أن يهتدى إليك كلّ أحد، ويكون عليك فيما تقول وتظهر اعتماد. ويقال الصدق ألا تجنح إلى التأويلات «4» .   (1) هكذا في ص وهي في م (الاستغاثة) وكلاهما مقبول في السياق. (2) هكذا في ص وم وربما كلتت (الموجود) إذ نحسب أن مقصد القشيري أن تكون راضيا إذا فقدت أو وجدت، وفي ذلك يقول عبد الله بن خفيف: القناعة ترك التشوف إلى المفقود والاستغناء (بالموجود) الرسالة ص 81 والشاكر الذي يشكر على (الموجود) والشكور الذي يشكر على المفقود (الرسالة ص 89) . ومع ذلك فقد وردت (الوجود) فى قول النوري: الصوفي نعته السكون عند العدم والإيثار عند الوجود ... فالوجود بهذا المعنى ضد العدم أي وجود الأشياء وفقدانها. ولكننا نفضل أن يقتصر اصطلاح (الوجود) على الدرجة القصوى بعد التواجد والوجد، وهو للحق. (الرسالة ص 36 و 37) وأنظر أيضا تفسير القشيري للآية 39 سورة سبأ (فى هذا المجلد) (3) وضعنا (نفسك) من عندنا ليتضح المعنى. (4) معروف أن القشيري يكره التأويلات المؤدية إلى الاسترخاص بالنسبة للصوفية. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) ذكر نعمة الله مقابلتها بالشكر، ولو تذكرت ما دفع عنك فيما سلف لهانت عليك مقاساة البلاء في الحال، ولو تذكرت ما أولاك في الماضي لقربت من قلبك الثقة في إيصال ما تؤمّله في المستقبل. ومن جملة ما ذكّرهم به: «1» «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... » كم بلاء صرفه عن العبد وهو لم يشعر! وكم شغل كان يقصده فصدّه عنه ولم يعلم! وكم أمر عوّقه والعبد يضجّ وهو-- (سبحانه) - يعلم أن في تيسيره له هلاك العبد فمنعه منه رحمة به، والعبد يتّهم ويضيق صدره بذلك! قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 الى 11] إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) أحاط بهم سرادق البلاء، وأحدق بهم عسكر العدوّ، واستسلموا للاجتياح، وبلغت القلوب الحناجر، وتقسّمت الظنون، وداخلتهم كوامن الارتياب، وبدا في سويدائهم جولان الشكّ. «هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» ثم أزال عنهم جملتها، وقشع عنهم شدّتها، فانجاب عنهم سحابها، وتفرّقت عن قلوبهم همومها، وتفجّرت ينابيع سكينتهم.   (1) يوضح القشيري هنا ما يسمى عنده (نعم المنع) وهي صنف آخر يختلف عن (نعم المنح) ، والعبد- لقصر نظره- يشكر على هذه، وتخفى عليه تلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 12] وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) صرّحوا بالتكذيب- لما انطوت عليه قلوبهم- حين وجدوا للمقال مجالا. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 13] وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) تواصوا فيما بينهم بالفرار عند ما سوّلت لهم شياطينهم من وشك ظفر الأعداء. قوله: «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ ... » : يتعلّلون «1» بانكشاف بيوتهم وضياع مخلّفاتهم، ويكذبون فيما أظهروه عذرا، وهم لم يحملهم على فعلهم غير جبنهم وقلة يقينهم. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 15] وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) ولكن لما عزم الأمر، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدق، ولم يذكروا أنهم سيسألون عن عهدهم، ويعاقبون على ما أسلفوه من ذنبهم. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 16] قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) لأنّ الآجال لا تأخير لها ولا تقديم عليها، وكما قالوا: «إنّ الهارب عمّا هو كائن في كفّ الطالب يتقلب» . «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» : فإنّ ما يدّخره العبد عن الله من مال أو جاه أو نفيس أو قريب لا يبارك له فيه، ولا يجد به منعة، ولا يرزق منة غبطة.   (1) يغمز القشيري هنا- من بعيد- بالمتعللين في الطريق بعلل الاسترخاص ودعاوى النفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 17] قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) من الذي يحقق لكم من دونه مرجوّا؟ ومن الذي يصرف عنكم دونه عدوّا؟. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) هم الذين كانوا يمتنعون بأنفسهم عن نصرة النبي عليه السلام، ويمنعون غيرهم ليكون جمعهم أكثر وكيدهم أخفى، وهم لا يعلمون أنّ الله يطلع رسوله عليه السلام عليهم ثم ذكر وصفهم فقال: - «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» إذا جاء الخوف طاشت من الرعب عقولهم، وطاحت بصائرهم، وتعطلت عن النصرة جميع أعضائهم. وإذا ذهب الخوف زيّنوا كلامهم، وقدّموا خداعهم، واحتالوا في أحقاد خستهم ... أولئك هذه صفاتهم لم يباشر الإيمان قلوبهم، ولا صدقوا فيما أظهروا من ادعائهم واستسلامهم. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 20] يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا، ويخافون من عودهم، ويفزعون من ظلّ أنفسهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 إذا وقعوا على آثارهم، ولو اتفق هجوم الأعداء عليكم ما كانوا إلا في حرز سيوفهم ودرية «1» رماحهم. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 21] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) «كانَ» صلة ومعناها: لكم في رسول الله أسوة حسنة، به قدوتكم، ويجب عليكم متابعته فيما يرسمه لكم. وأقوال الرسول (ض) وأفعاله على الوجوب إلى أن يقوم دليل التخصيص، فأما أحواله فلا سبيل لأحد إلى الإشراف عليها، فإن ظهر شىء من ذلك بإخباره أو بدلالة أقواله وأفعاله عليه فإن كان ذلك مكتسبا من قبله فيلحق في الظاهر بالوجوب بأفعاله وأقواله، وإن كان غير مكتسب له فهى خصوصية له لا ينبغى لأحد أن يتعرّض لمقابلته لاختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بعلوّ رتبته «2» . قوله جلّ ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 22] وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) كما أنّ المنافقين اضطربت عقائدهم عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين ازدادوا ثقة، وعلى الأعداء جرأة، ولحكم الله استسلاما، ومن الله قوة. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 23] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) شكر صنيعهم في المراس، ومدح يقينهم عند شهود البأس، وسماهم رجالا إثباتا   (1) الدرية ما يستتر به الصائد من الصيد فيرميه إذا أمكنه. (2) يفيد هذا الكلام في توضيح نظرة هذا الباحث إلى السنّة كمصدر أساسى من مصادر التشريع، فالسّنّة أقوال وأفعال وأحوال، منها ما يصلح العموم، ومنها ما يختص به الرسول نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 لخصوصية رتبتهم «1» ، وتمييزا لهم من بين أشكالهم بعلوّ الحالة والمنزلة، فمنهم من خرج من دنياه على صدقه «2» ، ومنهم من ينتظر حكم الله في الحياة والممات، ولم يزيغوا عن عهدهم، ولم يراوغوا في مراعاة حدّهم فحقيقة الصدق حفظ العهد وترك مجاوزة الحدّ. ويقال: الصدق استواء الجهر والسّرّ. ويقال: هو الثبات عند ما يكون الأمر جدّا. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 24] لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) فى الدنيا يجزى الصادقين بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية، وفي الآخرة بجميل الثواب وجزيل المآب والخلود في النعيم المقيم والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم.. «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» على الوجه الذي سبق به العلم، وتعلّقت به المشيئة. ويقال: إذا لم يجزم بعقوبة المنافق وعلّق القول فيه بالرجاء فبالحريّ ألا يخيّب المؤمن فى رجائه. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 25] وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) لم يشمت بالمسلمين عدوّا، ولم يوصّل إليهم من كيدهم سوءا، ووضع كيدهم في نحورهم، واجتثّهم من أصولهم، وبيّن بذلك جواهر صدقهم وغير صدقهم، وشكر من استوجب شكره من جملتهم، وفضح من استحقّ الذمّ من المدلسين منهم.   (1) «من المؤمنين رجال..» : عن أنس أنها نزلت في عمه أنس بن النضير الذي أبلى يوم أحد بلاء عظيما، حتى قتل وبه ثمانون جراحة بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم.. رواه البخاري عن بندار، ومسلم عن محمد بن حاتم. (2) «فمنهم من قضى نحبه» نزلت في طلحة بن عبيد الذي ثبت بجانب الرسول يوم أحد حتى دعا له الرسول (ص) : اللهم أوجب لطلحة الجنة. (الواحدي ص 238) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 [سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) إنّ الحقّ- سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفي أوفى.. فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلهم، وأذلّ متعزّزهم، وكفاهم بكلّ وجه أمرهم، ومكّنهم من قتلهم وأسرهم ونهب أموالهم، وسبى ذراربهم. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) لم يرد أن يكون قلب أحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شغل، أو يعود إلى أحد منه أذى أو تعب، فخيّر- صلى الله عليه وسلم- نساءه «1» ، ووفق الله سبحانه عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- حتى أخبرت عن صدق «2» قلبها، وكمال دينها ويقينها، (وبما هو المنتظر من أصلها وتربيتها) «3» ، والباقي جرين على منهاجها، ونسجن على منوالها. قوله جلّ ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31] يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)   (1) يقال إنه قال لعائشة: إنى ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك، ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. فرؤى الفرح في وجهه صلى الله عليه وسلم. (2) هكذا في م وهي في ص (كذب) وهي خطا قطعا. (3) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة، ولذا فضل حدّ الأحرار على العبيد وتقليل ذلك من أمارات النقص فلما كانت منزلتهن في الشرف تزيد على منزلة جميع النساء ضاعف عقوبتهن على أجرامهن، وضاعف ثوابهن على طاعاتهن. وقال: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» . ثم قال: [سورة الأحزاب (33) : آية 32] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) نهاهن عن التبذّل، وأمرهنّ بمراعاة حرمة الرسول (ص) ، والتصاون عن تطمّع المنافقين في ملاينتهن. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 33] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) «الرِّجْسَ» : الأفعال الخبيثة والأخلاق الدنيئة فالأفعال الخبيثة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما قلّ وما جلّ. والأخلاق الدنيئة الأهواء والبدع كالبخل والشحّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وقطع الرّحم، ويريد بهم الأخلاق الكريمة كالجود والإيثار والسخاء وصلة الرّحم، ويديم لهم التوفيق والعصمة والتسديد، ويطهرهم من الذنوب والعيوب. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 34] وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إذ كرن عظيم النعمة وجليل الحالة التي تجرى في بيوتكن من نزول الوحى ومجىء الملائكة، وحرمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- والنور الذي يقتبس في الآفاق، ونور الشمس الذي ينبسط على العالم، فاعرفن «1» هذه النعمة، وارعين هذه الحرمة. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) الإسلام هو الاستسلام، والإخلاص، والمبالغة في المجاهدة والمكابدة. «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... » الإيمان هو التصديق وهو مجمع الطاعات، ويقال هو التصديق والتحقيق، ويقال هو انتسام الحقيقة في القلب. ويقال هو حياة القلب أولا بالعقل، ولقوم بالعلم، ولآخرين، بالفهم عن الله، ولآخرين بالتوحيد، ولآخرين بالمعرفة، ولآخرين إيمانهم حياة قلوبهم بالله. «وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ... » القنوت طول العبادة. «وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ... » فى عهودهم وعقودهم ورعاية حدودهم.   (1) عرف هنا بمعنى ذكر الفضل.. وبهذه المناسبة أكشف للقارىء عن شىء حيرنى دهرا طويلا حينما كنت أقرأ فائية ابن الفارض التي أولها: قلبى يحدثنى بأنك متلغى ... روحى فداك عرفت أم لم تعرف فطالما أزعجنى الشطر التالي من هذا البيت لأنى كنت أربط بين عرف وبين علم. فكنت أسائل لغمى كيف يخاطب ابن الفارض ربه على هذا النحو؟ حق اهتديت الى أن المعنى: التي سأفتديك بروحى حتى ولو ثلفت فى ذلك، وسأبق عليه، سواء ذكرت لى ما أصنع، واحتسبته.. أم لم تفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ..» على الخصال الحميدة، وعن الصفات الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية. «وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ..» . الخشوع إطراق السريرة عند بواده الحقيقة. «وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ..» بأموالهم وأنفسهم حتى لا يكون لهم مع أحد خصومة فيما نالوا منهم، أو قالوا فيهم «1» «وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ..» المسكين عمّا لا يجوز في الشريعة والطريقة. «وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ..» فى الظاهر عن الحرام، وفي الإشارة عن جميع الآثام. «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ..» بألسنتهم وقلوبهم وفي عموم أحوالهم لا يفترون، ولا يتداخلهم نسيان. «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» . فهؤلاء لهم جميل الحسنى، وجزيل العقبى. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 36] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) الافتيات عليه في أمره والاعتراض عليه في حكمه وترك الانقياد لإشارته.. قرع لباب الشّرك فمن لم يمسك عنه سريعا وقع في وهدته. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 37] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)   (1) وهذا من أمارات الفتوّة (أنظر الرسالة ص 113) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 أنعم الله عليه بأن ذكره وأفرده من بين الصحابة باسمه. ويقال: أنعم الله عليه بإقبالك عليه وتبنّيك له. ويقال: بأن أعتقته، ويقال: بالإيمان والمعرفة. وأنعمت عليه بالعتق وبأن تبنّيته. «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» إقامة للشريعة مع علمك بأن الأمر في العاقبة إلى ماذا يئول فإنّ الله أطلعك عليه، وقلت له: «اتَّقِ..» . قوله: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» : أي لم تظهر لهم أنّ الله عرّفك ما يكون من الأمر فى المستأنف. «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ..» من ميلك ومحبتك لها لا على وجه لا يحلّ. «وَتَخْشَى النَّاسَ..» أي وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة من قصة زيد، وكانت تلك الخشية إشفاقا منك عليهم، ورحمة بهم. ويقال: وتستحى من الناس- والله أحقّ أن تستحى منه. ويقال: تخشى الناس ألا يطيقوا سماع هذه الحالة ولا يقووا على تحمّلها، فربما يخطر ببالهم ما ينفى عنهم وسعهم.. «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها..» لكى لا يكون عليك حرج، ولكى لا يكون على المؤمنين حرج في الزواج بزوجات أدعيائهم، فإنما ذلك يحرّم في الابن إذا كان من الصّلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 [سورة الأحزاب (33) : آية 38] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) لا يعارض ولا يناقض، ولا يردّ ولا يجحد. وما كان على النبيّ من حرج بوجه لكونه معصوما. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 39] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) «وَيَخْشَوْنَهُ» : علما منهم بأنه لا يصيب أحدا ضرر ولا محذور ولا مكروه إلا بتقديره فيفردونه بالخشية إذ علموا أنه لا شىء لأحد من دونه. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 40] ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) لم يكن مضافا إلى ولد فله عليكم شفقة الآباء.. ولكن ليس بأبيكم. ويقال نسبه ظاهر.. ولكن إنما يعرف بي لا بنسبه فقلّما يقال: محمد بن عبد الله، ولكن إلى أبد الأبد يقال: محمد رسول الله. وشعار الإيمان وكلمة التوحيد- بعد لا إله إلا الله- محمد رسول الله. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 42] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) الإشارة فيه أحبّوا الله لأنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحبّ شيئا. أكثر من ذكره» فيجب أن تقول: الله، ثم لا تنس الله بعد ذكرك الله. ويقال: اذكروا الله بقلوبكم فإنّ الذكر الذي تمكن استدامته ذكر القلب فأمّا ذكر اللسان فإدامته مسرمدا كالمتعذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» : التسبيح من قبيل الذكر، ولكنه ذكره بلفظين لئلا تعتريك سآمة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 43] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) الصلاة في الأصل الدعاء «2» فصلاته- سبحانه- دعاؤه لنا بالتقريب، وصلاة الملائكة دعاؤهم إليه لنا: بالغفران للعاصى، وبالإحسان للمطيع. ويقال الصلاة من الله بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الشفاعة. «لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» : من الظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ويقال ليخرجكم من الظلمات إلى النور أي يعصمكم من الضلال بروح الوصال. ويقال ليخرجكم من ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير. ويقال ليخرجكم من ظلمات نفوسكم إلى أنوار البصائر في قلوبكم. ويقال ليخرجكم من أسباب التفرقة إلى شهود عين التوفيق، والتحقق بأوصاف الجمع. ويقال يصونكم من الشّرك، ويثبتكم بشواهد الإيمان. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 44] تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) التحية إذا قرنت بالرؤية، واللقاء إذا قرن بالتحية فلا يكون ذلك إلا بمعنى رؤية البصر. والسلام خطاب يفاتح به الملوك إخبارا عن علوّ شأنهم ورتبتهم، فإلقاؤه حاصل وخطابه   (1) هذه لفتة هامة تهم البلاغيين. (2) يوضح القشيري هنا ما يسمى عنه (نعم المنع) ، وهي صنف آخر يختلف عن (نعم المنح) ، والعبد-- لقصر نظره- يشكر على هذه، وتخفى عليه تلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 مسموع، ولا يكون ذلك إلا برؤية البصر «1» . «أَجْراً كَرِيماً» : الكرم نفى الدناءة، وكريما أي حسنا. وفي الإشارة أجرهم موفور على عمل يسير فإنّ الكريم لا يستقصى عند البيع والشراء فى الأعداد، وذلك تعريف بالإحسان السابق في وقت غيبتك «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 47] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) يا أيها المشرّف من قبلنا إنّا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا، وشاهدا تبشّر بمتابعتنا، وتحذّر من مخالفة أمرنا، وتعلم الناس مواضع الخوف منّا، وداعيا إلينا بنا، وسراجا يستضيئون به، وشمسا بنبسط شعاعها على جميع من صدّقك، وآمن بك، فلا يصل إلينا إلّا من اتّبعك وخدمك، وصدّقك وقدّمك. «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بفضلنا معهم، ونيلهم طولنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومن لم تؤثر فيه بركة إيمانه بك فلا قدر له عندنا. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 48] وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) لا توافق من أعرضنا عنه، وأضللنا به من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشّقاق. وتوكل على الله بدوام الانقطاع إليه، وكفى بالله وكيلا. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)   (1) يضاف هذا الكلام إلى المبدأ الذي يتحمس له القشيري وهو الرؤية العيانية للحق في الآخرة. [ ..... ] (2) يقصد القشيري: أولئك الذين أحسن الله إليهم في سابق علمه، وهم مازالوا في كتم العدم- على حد تعبيره في مواضع مناظرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 إذا آثرتم فراقهنّ فتمتّعوهن ليكون لهن عنكم تذكرة في أيام الفرقة في أوائلها إلى أن تتوطّن نفوسهن على الفرقة. «وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» : لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئا تخلّفتم به معهن، فلا تجمعوا عليهن الفراق بالحال والإضرار من جهة المال. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 51] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) وسّعنا الأمر عليك في باب النكاح بكم شئت فإنك مأمون من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن، ومن الحيف عليهن. والتّوسعة في باب النكاح تدلّ على الفضيلة كالحرّ والعبد. «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ... » «مَنْ تَشاءُ» : على ما تتعلّق به إرادتك، ويقع عليه اختيارك، فلا حرج عليك ولا جناح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 [سورة الأحزاب (33) : آية 52] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) لما اخترتهنّ أثبت الله لهن حرمة، فقال: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» فكما اخترنك فلا تختر عليهن امرأة أخرى تطبيبا لقلوبهن، ونوعا للمعادلة بينه وبينهن، وهذا يدل على كرمه- والحفاظ كرم ودين «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) الآية. أمرهم بحفظ الأدب في الاستئذان، ومراعاة الوقت، ووجوب الاحترام فإذا أذن لكم فادخلوا على وجه الأدب، وحفظ أحكام تلك الحضرة، وإذا انتهت حوائجكم فاخرجوا، ولا تتغافلوا عنكم، ولا يمنعنّكم حسن خلقه من حفظ الأدب، ولا يحملنّكم فرط احتشامه على إبرامه «2» . «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» : حسن خلقه- صلى الله عليه وسلم- جرّهم إلى المباسطة معه، حتى أنزل الله هذه الآية. «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» : نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبيّن أن البشر بشر- وإن كانوا من الصحابة، فقال: «ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ»   (1) ضبطناها هكذا (دين) بفتح الدال وتسكين الياء فبها يستقيم المعنى ويقوى السياق. (2) أي إضجاره وإملاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 فلا ينبغى لأحد أن يأمن نفسه- ولهذا يشدّد الأمر في الشريعة بألا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمة. «وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» «1» . وهذا من خصائصه- صلى الله عليه وسلم، وفي هذا شبه رخصة لمن يلاحظ شيئا من هذا، فيهتم بالاتصال من له ميل إليهنّ بغيرهن بعد وفاته- وإن كان التحرّز عنه- وعن أمثال هذا من ترك الحظوظ- أتمّ وأعلى. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 54] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) حفظ القلب مع الله، ومراعاة الأمر- بينه وبين الله- على الصّحة في دوام الأوقات لا يقوى عليه إلا الخواصّ من أهل الحضور. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 55] لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) الآية. لما نزلت آية الحجاب شقّ عليهن وعلى النسوان وعلى الرجال في الاستتار، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية للرخصة في نظر هؤلاء إلى النساء، ورؤية النساء لهم على تفصيل الشريعة.   (1) يستند القرطبي إلى رواية نقلها أبو نصر عبد الرحمن القشيري- ابن القشيري صاحب هذا الكتاب- عن ابن عباس الذي يقول: قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع الرسول على حراء- فى نفسه- لو توفى الرسول لتزوجت عائشة، وهي بنت عمى. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله. ولكن هذا الرجل ندم على ما حدثت به نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وكفّر بالتصدق وعتق الرقيق. (القرطبي ج 14 ص 228) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 56] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) أراد الله- سبحانه- أن تكون للأمة عنده- صلى الله عليه وسلّم- يد خدمة كما له بالشفاعة عليهم يد نعمة، فأمرهم بالصلاة عليه، ثم كافأ- سبحانه عنه فقال صلى الله عليه وسلم: من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه عشر مرات. وفي هذا إشارة إلى أن العبد لا يستغنى عن الزيادة من الله في وقت من الأوقات إذ لا رتبة فوق رتبة الرسول، وقد احتاج إلى زيادة صلوات الأمّة عليه. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يؤذون الله ورسوله بعمل المعاصي التي يستحقون بها العقوبة، ويؤذون أولياءه. ولمّا قال: من يطع الرسول فقد أطاع الله، فكذلك من آذى رسوله وأنبياءه عليهم السلام والمؤمنين فقد آذاه، ومعناه تخصيص حالتهم وإثبات رتبتهم. ثم ذكر قوله: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ..» وذكر عقوبتهم، فجعل إيذاء الرسول مقرونا بما ذكر من إيذاء الله، ثم ذكر إيذاء المؤمنين، ويدلّ ذلك على أن رتبة المؤمنين دون رتبة الرسول صلى الله عليه وسلم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)   (1) فى هذا رد ضمنى على من يدعى الوصول، ويجهر بأن لواء الأنبياء يعقد له في معاريجه، وأن الأنبياء أدنى من الأولياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 هذا تنبيه لهن على حفظ الحرمة وإثبات الرّتبة، وصيانة لهن، وأمر لهن بالتصاون والتعفّف. وقرن بذلك تهديده للمنافقين في تعاطيهم ما كان يشغل قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم من الإرجاف في المدينة: - «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» . إنهم لم يمتنعوا عن الإرجاف وأمثال ذلك لأجرينا معهم سنّتنا في التدمير على من سلف من الكفار «1» . ثم ذكر مسألة القوم عن قيام الساعة وتكذيبهم ذلك، ثم استعجالهم قيامها من غير استعداد لها، ثم أخبر بصعوبة العقوبة التي علم أنه يعذّبهم بها، وما يقع عليهم من الندامة على ما فرّطوا. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 69] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) نسبوه إلى الأدرة «2» ، وأنّ به عيبا في الخلقة، ولكنه كان رجلا حييّا، وكان إذا اغتسل لا يتجرّد (من ثوبه) «3» ، فتوهموا به ذلك. وذات يوم خلا ليفسله، ووضع ثيابه   (1) هكذا في م وهى في ص (الكبائر) . (2) الأدرة (على وزن الغرفة) - انتفاخ الخصية، والآدر- المصاب بذلك. (3) ما بين قوسين من عندنا ليتضح السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 على حجر فأمشى الله الحجر بثيابه، وموسى يعدو خلفه حتى توسّط بنى إسرائيل، وشاهدو خلقته سليمة، فوقف الحجر، وأخذ موسى ثيابه ولبسها «1» ، وهذا معنى قوله: «فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» فى القدر والمنزلة. والوجاهة النافعة ما كان عند الله لا عند الناس، فقبول الناس لا عبرة به ولا خطر له، ولا سيما العوام فإنهم يقبلون بلا شىء، ويردّون بلا شىء قال قائلهم: إن كنت عندك يا مولاى مطرحا ... فعند غيرك محمول على الحدق وقالوا: فإن أك في شراركم قليلا ... فإنى في خياركم كثير قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) القول السديد كلمة الإخلاص، وهي الشهادتان عن ضمير صادق. ويقال سداد أقوالكم سداد أعمالكم، ولقد هوّن عليكم الأمر فمن رضى بالقالة- وهي الشهادة بأن ترك الشّرك- وقالها بصدق أصلح الله له أعماله الدنيوية من الخلل، وغفر له في الآخرة الزّلل أي حصلت له سعادة الدارين. ويقال ذكر «أَعْمالَكُمْ» بالجمع «2» ، وقدّمها على الغفران لأنه ما لم يصلح لك في حالك أعمالك وإن لم يكفك ما أهمّك من أشغالك.. لم تتفرغ إلى حديث آخرتك. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 72] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)   (1) هذه رواية ابن عباس.. وفي رواية أخرى: اتهم بقتل أخيه هارون. (2) أي أن الله بفضله ينظر منك إلى القليل فيعتبره كثيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 هنا إضمار أي: أهل السماوات والأرض والجبال. وقيل أحياها وأعقلها، وهو كقوله: «ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» «1» . «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها» : أي أبين أن تخنّ فيها، «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» : أي خان فيها. وهم مراتب: فالكفار خانوا في الأصل الأمانة- وهي المعرفة- فكفروا. ومن دونهم خانوا بالمعاصي، وبعضهم أشدّ وبعضهم أهون، وكلّ احتقب من الوزر مقداره. ويقال «فَأَبَيْنَ» إباء إشفاق لا إباء استكبار، واستعفين ... فعفا عنهن، وأعفاهن من حملها. «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» : قبلها ثم ما رعوها حقّ رعايتها.. كلّ بقدره. «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» بصعوبة حمل الأمانة في الحال، والعقوبة التي عليها في المآل. وقوم قالوا عرض الأمانة على السماوات والأرض وعرضها على الإنسان، فهن استعفين وهؤلاء «2» لم يستعفوا ولم يراعوا. ويقال: الأمانة القيام بالواجبات أصولها وفروعها. ويقال: الأمانة التوحيد عقدا وحفظ الحدود جهدا. ويقال: لمّا حمل آدم الأمانة وأولاده قال تعالى: «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» «3» .. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ويقال حمل الإنسان بالله لا بنفسه. ويقال ظلم نفسه حيث لم يشفق مما أشفقت منه السماوات والأرضون. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. ويقال كاشف السماوات والأرض بوصف الربوبية والعظمة فأشفقوا، وكاشف آدم   (1) آية 11 سورة فصلت. (2) الإنسان هنا اسم جنس. (3) آية 70 سورة الإسراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وذرّيته بوصف اللطف فقبلوا وحملوا، وفي حال بقاء العبد بالله يحمل السماوات والأرض بشعرة من جفنه. ويقال كانت السماوات والأرض أصحاب الجثت والمبانى فأشفقوا من حمل الأمانة. والحمل إنما تحمله القلوب. وآدم كان صاحب معنى فحمل، وأنشدوا: حملت جبال الحكم فوقى وإننى ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف ويقال لما عرض الحقّ الأمانة على الخلق علّق آدم بها همّته، فصرف بهمته جميع المخلوقات عنها، فلمّا أبوا وأشفقوا حملها الإنسان طوعا لا كرها. قوله جل ذكره: [سورة الأحزاب (33) : آية 73] لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) اللام فى «لِيُعَذِّبَ» للصيرورة والعاقبة أي صارت عاقبة هذا الأمر عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والتجاوز (تمّت السورة) «1» قد يقال: المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات والعاصون من المؤمنين والمؤمنات ورد ذكرهم.. فأين العابدون وذكرهم؟ ولكنهم في جملة من مضى ذكرهم، وليسوا في المشركين ولا في المنافقين، فلا محالة فى جملة العاصين الذين تاب عليهم. فيا أيها العاصي، كنت تحذر أن يخرجك العابدون من جملتهم، فاشهد الجبّار- فى هذا الخطاب- كيف أدرجك في جملتهم «2» ؟!   (1) هكذا في الأصل، وهذه أول مرة يستدرك بها المصنف شيئا عقب خاتمة سورة. [ ..... ] (2) هذا الاستدراك لافت للنظر من حيث يدل على رحابة صدر الصوفية، وشدة حرصهم على فتح أبواب الأمل أمام العصاة الراغبين في التوبة، «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 سورة سبأ قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بسم الله كلمة سلّابة غلّابة، نهّابة وهابة تسلب القلوب.. ولكن لا كل قلب، وتغلب الألباب ولكن ليس كل لب، وتنهب الأرواح ولكن من الأحباب، وتهب الارتياح.. ولكن لقوم مخصوصين من الطلّاب. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه، ومدحه لنفسه إخبار عن جلاله، واستحقاقه لنعوت عزّه وجماله، فهو في الأزل حامد لنفسه محمود، وواحد موجود، فى الآزال معبود، وبالطلبات مقصود. «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» : الملك لا يكون بالشركة فلا ملك إلا الله. وإن أجرى هذا الاسم على مخلوق فالزنجيّ لا يتغير لونه وإنّ سمّى كافورا! «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» من الذين أعتقهم، وفي النعمة أغرقهم. «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتخليد قوم في الجنة، وتأبيد قوم في النار. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 2] يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» من الحبّ تحت الأرض، والماء يرسب فيها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 والأشياء التي تلقى عليها، والناس يقبرون في الأرض. «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والأزهار، والموتى يبعثون. «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من القطر والملك، والبركة والرزق، والحكم «وَما يَعْرُجُ فِيها» من الصحف، وحوائج الناس: وهمم الأولياء. «وَهُوَ الرَّحِيمُ» بعباده، «الْغَفُورُ» لجميع المذنبين من المسلمين. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 3] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) كرّر في القرآن تكذيبهم بالساعة، واستبعادهم لذلك، والردّ عليهم. وأخبر عن سابق علمه بهم، وأنه لا يخرج شىء من معلوماته عن علمه، فأثبت علمه بكل شىء وشموله لكل شىء.. لأنه لو لم يكن له علم لكان نقصا، ولأنه لو خرج معلوم واحد عن علمه لكان بقدرته نقص، والنقص- بأى وصف كان- لا يجوز في صفته بحال. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 4 الى 9] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) الآيات.. المحسنون منهم يجازيهم بالخيرات المتصلة، والكافرون منهم يكافئهم على كفرهم بالعقوبات غير منفصلة. ويرى الذين أوتوا العلم كتابك الذي أتيت به حقا وصدقا. والذين كفروا قال بعضهم لبعض: إنّهم يرون أن هذا الذي تقول به من النشر والحساب والبعث كذب، أو أنّ بك جنّة، ثم أقام عليهم حجة التجويز بما أجرى به سنّته في الخلق والإبداع.. فما زادهم ذلك إلا جحودا، وما قابلوه إلا عنودا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) «داوُدَ» اسم أعجمى، وقيل سمى داود لأنه داوى (جرحه، ورد في القصة أنه قال في إحدى مناجاته: يا رب، إنى أرى في التوراة ما أعطيت لأوليائك وأنبيائك من الرتب فأعطنيها) «1» فقال: إنى ابتليتهم فصبروا، فقال: إنى أصبر على بلائك، فأعطنى ما أعطيتهم، فأبلاه، فوقف، فأعطاه ما أعطاهم. «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» : تكلموا في هذا الفضل فمنهم من أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير: «أَوِّبِي مَعَهُ» ، وكذلك الجبال، وكان في ذلك تنفيس في وقت حزنه وبكائه. وقيل ذلك الفضل رجوعه إلى الله- فى حال ما وقع له «2» - بالتنصل والاعتذار. ويقال هو شهوده موضع ضرورته وأنه لا يصلح أمره غيره. ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حتى كان ليرغب في متابعته من يسمع إليه «3» . ويقال حلاوة صوته فى المناجاة. ويقال حسن خلقه مع أمته الذين اتبعوه، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل ... قوله: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» أمر الجبال والطير بمجاوبته حتى خرج إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسه. ويقال أوحى الله له: يا داود، كانت تلك الزّلّة مباركة عليك! فقال. يا رب، وكيف؟ فقال: كنت تجىء قبلها (كما يجىء المطيعون والآن) «4» تجىء كما يجىء أهل الذنوب!   (1) ما بين القوسين ساقط من ص موجود في م. (2) يشير القشيري بذلك إلى قصة داود مع زوجة أوريا، وكيف تاب وأناب. (3) يقول القرطبي: كان قد أعطى من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكانت الجبال تتجاوب صداه، والماء الجاري ينقطع جريه. ويضيف القرطبي: «أيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج أي ثار وتحرّك، وقوى بمساعدة الجبال والطير. (4) موجودة في ص وغير موجودة في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 يا داود، إن أنين المذنبين أحبّ إلى من صراخ العابدين! ويقال، كان داود يقول. اللهم لا تغفر للخاطئين، غيرة منه وصلابة في الدين ... فلما وقع له ما وقع كان يقول. اللهم اغفر للمذنبين، فعسى أن تغفر لداود فيما بينهم. ويقال لمّا تاب الله عليه، واجتمع الإنس والجنّ والطير بمجلسه، ورفع صوته، وأداره فى حنكه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقالوا: الصوت صوت داود والحال ليست تلك! فأوحى الله إليه هذه وحشة الزّلة، وتلك كانت أنس الطاعة.. فكان داود يبكى وينوح ويصيح والطير والجبال معه. ويقال ليس كلّ من صاح وراءه معنى «1» ، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير ... «أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً» . ألان له الحديد، وجعل ذلك معجزة له، وجعل فيه توسعة رزقه، ليجد في ذلك مكسبا، ليقطع طمعه عن أمته في ارتفاقه بهم ليبارك لهم في اتّباعه «2» . قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) أي آتينا سليمان الريح أي سخّر ناها له، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر وبالرواح مسيرة شهر. وفي القصة أنه لا حظ يوما ملكه، فمال الريح ببساطه، فقال سليمان للريح: استو، فقالت الريح: استو أنت، فما دمت مستويا بقلبك كنت مستويا بك، فلما ملت ملت. «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ»   (1) هذه غمزة بمن يتظاهرون بالتواجد في مجالس السماع الصوفية، إذ ينبغى الصدق ليتحول التواجد إلى وجد ثم إلى وجود. (2) هذا تنبيه لمن يتصدر منزلة الإمامة: ألا يرتفق، وألا يطلب عوضا، وألا يطمع في الذين يتبعونه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 أي وآتيناه ذلك، فكانت الشياطين مسخّرة له، يعملون ما يشاء من الأشياء التي ذكرها سبحانه. قوله جل ذكره: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «1» . أي اعملوا يا آل داود للشكر، فقوله: «شُكْراً» منصوب لأنه مفعول له. ويقال شكرا منصوب لأنه مفعول به مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» «2» . وقد مضى طرف من القول في الشكر. والشكور كثير الشكر، والأصل في الشكر الزيادة، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها، ودابة شكور إذا أظهرت من السّمن فوق ما تعطى من العلف فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثاله وأضرابه. وإذا كان الناس يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء. والشاكر يشكر على البذل، والشكور على المنع «3» ... فكيف بالبذل؟ والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه وماله، والشاكر ببعض هذه. ويقال فى «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» قليل من يأخذ النعمة منى ولا يحملها على الأسباب فلا يشكر الوسائط ويشكرنى. والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويجدون الخير من قبله ثم يتقلدون المنّة من غير الله، ويشكرون غير الله. قوله جل ذكره: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» .   (1) يقول السهروردي في عوارفه: «فى أخبار داود عليه السلام: إلهى كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتنى. (عوارف المعارف ص 344) » (2) آية 4 سورة المؤمنين. (3) وردت العبارة في الرسالة هكذا: الشاكر يشكر عند البذل والشكور عند المطل (الرسالة ص 89) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 كان سليمان- عليه السلام- يتكىء على عصاه وقتما قبض، وبقي على ذلك الوصف مدة، والشياطين كانوا مسخّرين يعملون ما أمرهم به، ويتصرفون على الوجه الذي رسم لهم، وينتهون عمّا زجرهم، فقد كانوا يتوهمّون أنه حيّ. ثم إنّ الأرضة «1» أكلت عصاه فخرّ سليمان فعلم الشياطين عندئذ أنه مات، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة، وانفكّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير وهكذا الملك الذي يقوم ملكه بغيره، ويكون استمساكه بعصا.. فإنه إذا سقط سقط بسقوطه، ومن قام بغيره زال بزواله. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 15] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) كانوا في رغد من العيش وسلامة الحال ورفاهته، فأمروا بالصبر على العافية والشكر على النعمة، وهذا أمر سهل يسير، ولكنهم أعرضوا عن الوفاق، وكفروا بالنعمة، وضيّعوا الشكر، فبدّلوا وبدّل بهم الحال، كما قالوا: تبدلت وتبدلنا يا حسرة لمن ... ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 16] فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال، واتصال من التوفيق، وطرب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكب زلّة أو يسىء أدبا أو يتبع شهوة، ولا يعرف قدر ما هو به، فيتغير عليه الحال فلا وقت ولا حال، ولا طرب ولا وصال يظلم عليه النهار وقد كانت لياليه مضيئة، كما قلنا «2» :   (1) الأرضة- دودة تأكل الخشب. (2) هكذا في ولكنها في ص: كما قالوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 ما زلت أختال في زمان وحال ... حتى أمنت الزمان مكره حال عليّ الصدود حتى ... لم تبق مما شهدت ذرّة قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 17 الى 19] ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) ما عوملوا إلا بما استوجبوا، ولا سقوا إلّا ممّا ثبطوا «1» ، وما وقعوا إلّا في الوهدة التي حفروا، وما قتلوا إلا بالسيف الذي صنعوا! «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى..» : ما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم، والإصرار على غيهم وطغيانهم. «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» فرّقناهم تفريقا حتى اتخذهم الناس مثلا مضروبا يقولون. ذهبوا أيدى سبأ، وتفرّقوا أيادى سبأ. وفي قصتهم آيات لكل صبّار على العاقبة، شكور على النعمة. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) . صدّق عليهم إبليس ظنّه- وإن كان لا يملك لنفسه أمرا، فإبليس مسلّط على أتباعه   (1) ثبط- حمق في عمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 من الجنّ والإنس، وليس به من الإضلال شىء، ولو أمكنه أن يضرّ غيره لأمكنه أن يمسك على الهداية نفسه، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» » . «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» : يهدى من يشاء ويضل من يشاء. ثم أخبر- سبحانه وتعالى- أنه بملكه متفرّد، وفي الألوهية متوحّد، وعن الأضداد والأنداد متعزّز، وأنهم لا يملكون مثقال ذرّة، ولا مقياس حبّة، وليس منهم نصير، ولا شريك ولا ظهير، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن الملائكة في السماء بوصف الهيبة فزعون، وفي الموقف الذي أثبتهم الحقّ واقفون، لا يفترون عن عبادته ولا يعضون. ثم قال جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 24] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) لم يقل أحد- مع شركه- إنه يحيل في الرزق على أحد غيره، فكما لا شريك له فى الرزق ولا شريك له في الخلق فلا شريك له في استحقاق العبادة والتعظيم. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 25 الى 26] قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) ولا تسألون عما أجرمنا ولا نحن نسأل عن إجرامكم.. ويوم الجمع يحاسب الله كلّا على أعماله، ويطالب كلا بشأنه، لا يؤاخذ أحدا بعمل غيره، وكلّ يعطى كتابه، ويطلب الله من كلّ واحد حسابه. وقد أجرى الله سنّته بأن يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم بغير ما يعاملهم فى حال افتراقهم. فللاجتماع أثر كبير في الشريعة، وللصلاة بالجماعة أثر مخصوص. وقد عاتب الله- سبحانه- الذين يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومدح من لا يتفرّق إلا عن استئذان.   (1) آية 65 سورة الإسراء. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية: «قُلْ يَجْمَعُ ... » قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 27] قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، هو لك، تملكه وما ملك «1» ، لانهما كهم فى ضلالتهم. وبعد تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تقدر، ولا تسمع ولا تبصر، وقعت لهم شهة استحقاقها العبادة، فإذا طولبوا بالحجة لم يذكروا غير أنهم يقلدون أسلافهم ... وهذا هو الضلال البعيد والخسران المبين. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 28] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) أرسلناك مؤيّدا بالمعجزات، مشرّفا بجميع الصفات، سيدا في الأرضين والسماوات، ظاهرا لأهل الإيمان، مستورا عن بصائر أهل الكفران- وإن كنت ظاهرا لهم من حيث العيان، قال تعالى: «وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «2» قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) لكثرة ما يقولون هذا كرّره الله في كتابه خبرا عنهم، والجواب إن لكم ميعاد يوم، وفي هذا الميعاد لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 31] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)   (1) وردت التلبية مضطربة الكتابة وقد صححناها طبقا لما جاء في المحبر لابن حبيب. (2) آية 198 سورة الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 لو رأيتهم يومذاك لرأيت منظرا فظيعا يرجع بعضهم إلى بعض القول، ويحيل بعضهم على بعض الجرم يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، وينكر الذين استكبروا ويقولون: بل أنتم اتبعتمونا.. وهكذا أصحاب الزلات الأخلاء في الفساد، قال تعالى: «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «1» . وكذلك الجوارح والأعضاء غدا يشهد بعضها على بعض فاليد تقول للجملة أخذت، والعين تقول أبصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة، ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لا عتبروا، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقوا.. ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) أي قابلوا رسلنا بالتكذيب، وصبر رسلنا.. وماذا على هؤلاء الكفار لو آمنوا بهم؟ فهم لنجاتهم أرسلوا، ولصلاحهم دعوا وبلّغوا، ولو وافقوهم لسعدوا.. ولكنّ أقساما سبقت، وأحكاما حقت، والله غالب على أمره. «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي بصائر مفتوحة لقوم، وأخرى مسدودة لقوم.   (1) آية 67 سورة الزخرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 37] وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال والأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة والأحوال الصافية والأنفاس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة، فأولئك لهم جزاء الضعف: يضاعف على ما كان لمن تقدمهم من الأمم «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» من تكدر الصفوة والإخراج من الجنة. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 38] وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقّ الله في السرّ، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 39] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) من الخلف في الدنيا الرضا بالعدم والفقد، وهو أتمّ من السرور بالموجود «1» ومن ذلك الأنس بالله في الخلوة ولا يكون ذلك إلا مع التجريد. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 40] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قوم كانوا يعبدون الملائكة فيختبرهم عنهم فيتبرأون منهم وينزّهون الله ويسبحونه،   (1) استعمل القشيري هنا كلمة (الموجود) بالميم وكان المفروض حسب السياق أن يستعمل (الوجود) ، وبهذا يتأيد رأينا في هامش سابق أن من الخير قصر اصطلاح (الوجود) على الوجود الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 فيفتضح هؤلاء- والافتضاح عند السؤال من شديد العقوبة، وفي بعض الأخبار: أن غدا من يسألهم الحقّ فيقع عليهم من الخجل ما يجعلهم يقولون: عذّبنا ربنا بما شئت من ألوان العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال! قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 42] فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) الإشارة في هذا أنّ من علق قلبه بالأغيار وظنّ صلاح حاله بالاحتيال «1» والاستعانة بالأمثال والأشكال ينزع الله الرحمة من قلوبهم ويتركهم، ويشوش أحوالهم، فلا لهم من الأمثال والأشكال معونة. ولا لهم من عقولهم في أمورهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، وإن رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم، ويقول لهم: ذوقوا وبال ما به استوجبتم هذه العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 43] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) الحكماء، والأولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دلوا الناس على الله. قال بعض إخوان السوء- مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا «2» لمريد: ما هذا؟ من الذي يطيق كل هذا؟ ربما لا تتمّم الطريق! لا بد من الدنيا ما دمت تعيش! ... وأمثال ذلك، حتى يميل هذا المسكين عند قبول النصح، وربما كان له هذا من خواطره الدنية ... فيهلك ويضلّ.   (1) الاحتيال هنا معناه الاعتماد على جهده الإنسانى، وتفريغ الوسع فيه دون التعويل على فضل الله ومنته، فالواجب إسقاط التدبير والاعتماد على التقدير. (2) يشبههم القشيري في موضع آخر بمن كان يعوق المجاهدين قبيل القتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 44] وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة يعارضون أصحاب القلوب فيما يجرى من الأمور، بما تشوّش إليهم نفوسهم، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مقتضى تفرقة قلوبهم- على قياس ما يقع لهم- من غير استناد إلى إلهام، أو اعتماد على تقدير من الله وإفهام. وأهل الحقائق- الذين هم لسان الوقت- إذا قالوا شيئا أو أطلقوا حديثا، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام، أو كان مستنطقا فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم «1» . وأصحاب الغفلة ليس لهم إيمان بذلك، فإذا سمعوا شيئا منه عارضوهم فيهلكون، فسبيل هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا، ثم الأيام «2» تجيب أولئك. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 46] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) يقول: إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسول فأنعموا النظر.. هل ترون فيه آثار ما رميتوه به؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم.. قلتم إنه ساحر- فأين آثار السحر   (1) انظر ص 348 من المجلد الثاني من هذا الكتاب. وقد يظن أن هذا محل طعن فيما يصدر عن المعارف من أقوال وأحوال، والواقع أن مرد عجز العارف عن إقامة الحجة إلى أن ما ينثال عليه من كشوفات ليس من تدبيره أو احتياله، ولا نتيجة مهارته أو ذكائه ... وإلا كان مطلوبا منه أن يسوق حجة أو يقدم برهانا.. إنما هي أنوار إلهية تنبجس في عالمه الباطن.. وليست تجربة الإمام الغزالي إلا نموذجا للعارف الذي نهل من العلوم العقلية قدرا عظيما، ولكن ذلك لم يهدىء سورة غليله، ولم يقده إلى الراحة والسكينة.. حتى قيض الله له في علوم القوم ما شفاه وكفاه (انظر الصفحات الأولى من: «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي) . (2) هكذا في م وهي في ص (الأنام) ونحن نرجح (الأيام) على معنى أن الدهر كفيل بتوضيح الحقيقة- وإن خفيت زمنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 على أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم إنه شاعر- فمن أي قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم إنه مجنون- فأى جنون ظهر منه؟ وإذ قد عجزتم عن ذلك ... فهلّا عرفتم أنه صادق؟! قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 48] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) يقذف بالحقّ على باطل أهل الغفلة فتزول حيلهم، ويظهر عجزهم. ويقذف بالحقّ على أحوال أهل الخلاف فيضمحل اجتراؤهم، ويحيق بهم شؤم معاصيهم. ويقذف بالحقّ- إذا حضر أصحاب المعاني- على ظلمات أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتهم، ويفضحهم في الحال، ويفضح عوارهم. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 49] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) الباطل على ممرّ الأيام لا يزيد إلا زهوقا، والحقّ على ممرّ الأيام لا يزداد إلا قوة وظهورا. قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 50] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) إن كنت مهتديا فبربّى لا بجهدي. وإن كنت عندكم من أهل الضلال فوبال ضلالتى عائد عليّ، ولن يضرّكم ذلك. فانظروا أنتم إلى أنفسكم.. أين وقعتم؟ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتمونى؟ لا في الحال تخسرون، ولا في أنفسكم تتعبون، ولا في جاهكم تنقصون. وما أخبركم به عن نقص أصنامكم فبالضرورة «1» أنتم تعلمون! فما لكم لا تبصرون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟   (1) أي لا جدال في أنكم تجدونها لا تنفع ولا تضر ولا تستطيع أن تدفع عنها مكروها، فهى لا تليق بتأليه ولا تقديس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 52] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) أي لو رأيت ذلك لرأيت منظرا فظيعا، وأمرا عظيما إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال. «وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» إذا تابوا- وقد أغلقت الأبواب، وندموا- وقد تقطّعت الأسباب.. فليس إلا الحسرات والندم، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يستفق من غفلته يتجاوز عنه مرة، ويعفى عنه كرّة، فإذا استمكنت منه القسوة وتجاوز سوء الأدب حدّ الغفلة، وزاد على مقدار الكثيرة «1» .. يحصل له من الحقّ ردّ، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يسمع له دعاء، ولا يرحم له بكاء، كما قيل: فخلّ سبيل العين بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوع قوله جل ذكره: [سورة سبإ (34) : آية 54] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) التوبة يشتهونها في آخر الأمر وقد فات الوقت، والخصم يريد إرضاءه فيستحيى أن يذكر فى ذلك الوقت، وينسدّ لسانه ويعتقل فلا يمكنه أن يفصح بما في قلبه، ويودّ أن لو كان بينه وبين ما أسلفه بعد بعيد، ويتمنى أن يطيع فلا تساعده القوة، ويتمنى أن يكون له- قبل خروجه من الدنيا- نفس.. ثم لا يتفق.   (1) فى رأى القشيري: الثلاثة- آخر حد القلة، وأول حد الكثرة-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 سورة فاطر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يوجب روحا لمن كان يشاهد الإتقان، ويوجب لوحا لمن كان بوصف البيان فالرّوح من وجود الإحسان، واللوح من شهود السلطان، وكلّ مصيب، ولكلّ من الحقّ نصيب. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) استحق المدح والثناء على انفراده «1» بالقدرة على خلق السماوات والأرض. «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» : تعرّف إلى العباد بأفعاله، وندبهم إلى الاعتبار بها، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينة كالسموات والأرض وغيرها، ومنها ما سبيل الإيمان به الخبر والنقل- لا بدليل العقل- والملائكة من ذلك فلا نتحقق كيفيّة صورهم وأجنحتهم، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته، وصدق كلمته. قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» : قيل الخلق الحسن، وقيل الصوت الحسن، وقيل الصوت الحسن وقيل ملاحة العينين، وقيل الكياسة في الخيرة «2» ، وقيل الفصاحة في المنطق، وقيل الفهم عن الله، ويقال السخاء والجود، ويقال الرضا بالتقدير، ويقال علو الهمة، ويقال التواضع، ويقال العفة عند الفقر، ويقال الظرف في الشمائل، ويقال أن تكون محببّا إلى القلوب، ويقال خفة الروح، ويقال سلامة الصدر من الشرور، ويقال المعرفة بالله بلا تأمّل   (1) هكذا في م. وهي في ص (إرشاده) . (2) اسم من الاختيار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 برهان «1» ، ويقال الشوق إلى الله، ويقال التعطّف على الخلق بجملتهم، ويقال تحرّر القلوب من رقّ الحدثان بجملته، ويقال ألا يطلب لنفسه منزلة في الدارين «2» . قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 2] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) الموسّع عليه رزقه لا يضيّق عليه غير الله، والمحروم لا يوسّع عليه غير الله. ويقال: ما يلج في قلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضياء يقهره. ويقال: ما يلزم قلوب أوليائه من اليقين فلا مزيل له، وما يغلق على قلوب الأعداء من أبواب الذكر فلا فاتح له غيره- سبحانه. ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له، والذي يمنعه عن أعدائه- بما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا ميّسر له من دونه. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 3] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) من ذكر النّعمة فصاحب عبادة، ونائل زيادة، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة، ونائل زيادة.. ولكن فرق بين زيادة وزيادة ذلك زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه: اليوم سرّا بسرّ من حيث المشاهدة، وغدا جهرا بجهر من حيث المعاينة. والنعمة على قسمين «3» : ما دفع عنه من المحن، وما نفع به من المنن فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة.   (1) من اختاره الله لمعرفته لا يتركه يتعنّى في الأدلة والبراهين بعد اجتيازه مرحلة البداية المصححة بالعقل. بل يفك أسره من هذه القيود لينطلق في رحلة العرفان بالقلب، ثم الروح، ثم السر، ثم عين السر. (2) يرى الزمخشري أن الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق وميزة فيه.. وتلك أمور لا يحيط بها وصف. [ ..... ] (3) مرة أخرى يعود القشيري إلى ذكر نعم الدفع، ونعم النفع، وواضح أن الذكر والشكر لا زمان على الدوام.. هذا هو المقصد الذي يطمح إليه القشيري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ..؟» وفائدة هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد في طلب شىء، ولم يتذلل في ارتفاق لمخلوق، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله «1» ، ومن توّهم شىء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يخلص في توكله وتفويضه. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 4] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) هذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتسهيل للصبر عليه فإذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثلما استقبله، وأنّهم صبروا وأنّ الله كفاهم، فهو يسلك سبيلهم ويقتدى بهم، وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، بينما أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم «2» . والعوامّ أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء «3» المتقشفين، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 5] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)   (1) فالواجب إسقاط التدبير وشهود التقدير- كما قلنا في الهامش منذ قليل. (2) لجأ «ملامتية» نيسابور إلى هذا الستر، واكتفوا بعلم الله بأسرار هم وصلاح باطنهم، ولم يأبهوا بالمخلوقين. بل رغبة في تأكيد علاقتهم بالله، وإمعانا في إخفاء حقائقهم كانوا يقومون بأشياء تستوجب الملامة.. نقول ذلك رغبة في توضيح أن أفكار هذا المذهب كانت معروفة في مدينة نيسابور موطن القشيري، كما كان السلمى جد أبى عبد الرحمن صديقه الحميم واحدا من رواد هذا المذهب وأئمته. (3) القراء جماعة من قراء القرآن ظهروا منذ عهد مبكر (ولازموا الأعمدة في الليل يتهجدون، حتى إذا جاء النهار استقوا الماء واحتطبوا للنبى وكانوا في صحبته (ابن سعد ح 3 ق 1 ص 36، 37) ، ولكن اللفظة أطلقت فيما بعد بصفة عامة على (الذين يزورون عن الدنيا ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح والزهد والتأمل) ابن سعد ج 6 ص 255. (ويقال تقرى بتسهيل الهمزة أي تنسك) (أمالى القالي ح 3 ص 47) .. ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة تنقية هذا اللون من التعبد من كل الأغراض والأمراض حيث يقول: «يا أيها الناس إنه أتى على حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد خيل إلى أن أقواما يقرءون القرآن يريدون به ما عند الله، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وبأعمالكم» البيان والتبيين ح 3 ص 138. ولكن يبدو أن الزمن قد فعل فعله في خروج طوائف من القراء عن هذا الخط ... الأمر الذي جعل القشيري- وقد عاش في القرنين الرابع والخامس- يتحفظ في الحكم عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وعد الله حقّ في كل ما أخبر به أنه يكون، فوعده في القيامة حقّ، ووعده لمن أطاعه بكفاية الأمور والسلامة حقّ، ووعده للمطيعين في الآخرة بوجود الكرامة حقّ، وللعاصين بالندامة حقّ، فإذا علم العبد ذلك استعدّ للموت، ولم يهتم بالرزق، فيكفيه الله شغله، فينشط العبد في استكثار الطاعة ثقة بالوعد، ولا يلمّ بالمخالفات خوفا من الوعيد. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 6] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) عداوة الشيطان بدوام مخالفته فإنّ من الناس من يعاونه بالقول ولكن يوافقه بالفعل، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربّ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة، والشيطان لا يفتر في عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة فيبرز لك عدوّك فإنه أبدا متمكّن لك. «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ» وحزبه هم المعرضون عن الله، المشتغلون بغير الله، الغافلون عن لله. ودليل هذا الخطاب: إن الشيطان عدوّكم فأبغضوه واتخذوه عدوا، وأنا وليّكم وحبيبكم فأحبّونى وارضوا بي حبيبا. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 7] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) الذين كفروا لهم عذاب معجل وعذاب مؤجّل، فمعجّله تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم ووقاحة همّتهم حتى أنهم يرضون بأن يكون الصنم معبودهم. وأمّا عذاب الآخرة فهو ما لا تخفى على مسلم- على الجملة- صعوبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وأمّا «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فلهم مغفرة أي ستر لذنوبهم اليوم، ولولا ذلك لا فتضحوا، ولولا ذلك لهلكوا. «وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» : والأجر الكبير اليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة، وما يناله في القلب من زوائد اليقين وخصائص الأحوال. وفي الآخرة: تحقيق السّؤل ونيل ما فوق المأمول. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 8] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) معنى الآية: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن ليس كذلك؟ لا يستويان! ومعنى «زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» أن الكافر يتوهّم أنّ عمله حسن، قال تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «1» . ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ويحوّش «2» حطامها، ولا يفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كما لها فلقد زين له سوء عمله (والذي يتبع شهواته ويبيع مؤبّد راحاته فى الجنة بساعة فلقد زين له سوء عمله) «3» . وإن الذي يؤثر على ربّه شيئا من المخلوقات لهو من جملتهم. والذي يتوهّم أنه إذا وجد نجاته ودرجاته في الجنة- وأنّ هذا يكفيه ... فقد زيّن له سوء عمله حيث يتغافل عن حلاوة المناجاة. والذي هو في صحبة حظوظه ولا يؤثر حقوق الله فلقد زين له سوء عمله فرآه حسنا. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» : يعنى إذا عرفت حقّ «4» التقدير، وعلمت أنهم سقطوا من عين الله، ودعوتهم جهرا، وبذلت لهم نصحا، فاستجابتهم ليست لك، فلا تجعل على قلبك من ذلك مشقة ولا عناء.   (1) آية 104 سورة الكهف. (2) حوش المال ونحوه- جمعه وادخره (الوسيط) . (3) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. (4) هكذا في م وهي في ص (سرّ) التقدير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 9] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) أجرى سنّته بأنه يظهر فضله في إحياء الأرض بالتدريج فأولا يرسل الرياح ثم يأتى بالسحاب، ثم يوجّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد له تخصيصا كيف يشاء، ويمطر هناك كيف يشاء. كذلك إذا أراد إحياء قلب عبد بما يسقيه وينزل عليه من أمطار عنايته، فيرسل أولا رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشىء فيها سحب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يجود بمطر ينبت في القلب أزهار البسط، وأنوار «1» الرّوح، فيطيب لصاحبه العيش إلى أن تتمّ لطائف الأنس. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 10] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) من كان يريد العزة بنفسه فليعلم أنّ العزة بجملتها لله، فليس للمخلوق شىء من العزّة. ويقال من كان يريد العزة لنفسه فلله العزّة جميعا، أي فليطلبها من الله، وفي آية أخرى أثبت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وقال هاهنا «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» ووجه الجمع بينهما أن عزّ الربوبية لله وصفا، وعزّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلا من الله ولطفا فإذا العزّة لله جميعا. وعزّه سبحانه- قدرته. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يقهر فيكون من صفات فعله على أول القولين.. ومن صفات ذاته على القول الآخر. ويقال العزيز هو الذي لا يوصل إليه من قولهم: أرض عزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه. ويقال العزيز الذي لا مثل له من قولهم: عزّ الطعام في اليد، فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.   (1) أنوار هنا جمع نورة وهي الزهرة البيضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» : الكلم الطيب هو الصادر عن عقيدة طيبة- يعنى الشهادتين- عن إخلاص. وأراد به صعود قبول لأنّ حقيقة الصعود في اللغة بمعنى الخروج- ولا يجوز في صفة الكلام «1» . «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» : أي يقبله. ويقال العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. ويقال الكلم الطيب ما يكون موافقا للسّنّة، ويقال هو ما يشهد بصحّته الإذن والتوقيف. ويقال هو نطق القلب بالثناء على ما يستوجبه الربّ. ويقال هو ما يكون دعاء للمسلمين. ويقال ما يتجرد حقّا للحقّ ولا يكون فيه حظّ للعبد. ويقال ما هو مستخرج من العبد وهو فيه مفقود «2» . ويقال هو بيان التنصّل وكلمة الاستغفار. ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يطلب عليه عوض قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» . أي يقلب عليهم مكرهم فما يتوهمونه من خير لهم يقلبه محنة عليهم. ويقال: تخليته إياهم ومكرهم «3» - مع قدرته على عصمتهم، وكونه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 11] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بحالتهم، ثم إن ما يتّخذ من الطين سريع التغيّر، قليل   (1) لأن الخروج يقتضى محلا.. والألوهية تتنزه عنه. (2) أي ما يصدر عن العبد وهو مأخوذ مستلب عن نفسه- من المعارف. (3) نصبنا الراء فى (ومكرهم) لتكون مفعولا معه فهكذا نفهم السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 القوة في المكث، لكنه يقبل الانجبار بالماء إذ تنجبر به طينته فإذا جاد الحقّ عليه بماء الجود أعاده بعد انكساره بالذنوب «1» . وإذا كان لا يخفى عليه- سبحانه- شىء من أحوالهم في ابتداء خلقتهم، فمن يبال أن يخلق من يعلم أنه يعصى فلا يبالى أن يغفر لمن رآه يعصى «2» . قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 12] وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) لا تستوى الحالتان: هذه إقبال على الله، واشتغال بطاعته، واستقلال بمعرفته.. وهذه إعراض عن الله، وانقباض عن عبادته، واعتراض- على الله- فى قسمته وقبضته. هذه سبب وصاله، وهذه سبب هجره وانفصاله، وفي كلّ واحدة من الحالتين يعيش أهلها، ويزجى أصحابها وقتها. ولا يستوى الوقتان: هذا بسط وصاحبه في روح، وهذا قبض وصاحبه في نوح. هذا خوف وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاء وصاحبه في ارتياح. هذا فرق وصاحبه بوصف العبودية، وهذا جمع وصاحبه في شهود الربوبية. «وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» : كذلك كلّ يتقرّب فى حالته لربّه ويتزيّن على بابه، وهو حليته التي بها يتحلى من طرب أو حرب، من شرف أو تلف.   (1) عرض القشيري فيما سبق لهذه النقطة عند ما تحدث عن خلق آدم وإبليس، وكيف أن ماء العناية جبر آدم حين أظهر العذر فاجتباه ربه وتاب عليه، وكيف أن الماء أطفأ نار إبليس فأنظره إلى يوم يبعثون، ليدل القشيري بذلك على أن الطين أفضل من النار، وأن إبليس أخطأ في دعوى أفضليته على آدم. (2) أي أن معصية العبد من العبد عملا- وفي هذا إثبات لحرية الإنسان واختياره- وإن كانت من الله علما ... وهو من قبل ومن بعد غافر الذنب وقابل التوب. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 13] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) تغلب النّفس مرة على القلب، ويغلب القلب مرة على النّفس. وكذلك القبض والبسط فقد يستويان، ومرة يغلب القبض على البسط، ومرة يغلب البسط على القبض، وكذلك الصحو والسّكر، وكذلك الفناء والبقاء. وسخّر شموس التوحيد وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهاره على القلوب. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» : فأرونى شظية من النفي أو الإثبات لما تدعونه من دونه! وإذ لم يمكنكم ذلك.. فهلّا أقررتم، وفي عبادته أخلصتم، وعن الأصنام تبرّأتم؟. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 14] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) إن استعنتم بأصنامكم لا يعينوكم، وإن دعوتموهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا- على جهة ضرب المثل- لا يستجببون لكم لأنهم لا يملكون نفع أنفسهم.. فكيف يملكون نفع غيرهم؟! «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» : لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت، ولكن لا ينفعهم الإيمان بعد زوال التكليف. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 15] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) الفقر على ضربين: فقر الخلقة وفقر الصفة فأمّا فقر الخلقة فهو عامّ لكلّ أحد فكلّ مخلوق مفتقر إلى خالقه، فهو قد حصل من العدم، فهو مفتقر إليه ليبديه وينشيه، ثم بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 ذلك مفتقر- فى حال بقائه إليه- ليديمه ويقيه. فالله- سبحانه- غنيّ، والعبد فقير العبد فقير بعينه والله غنيّ بعينه «1» . وأمّا فقر الصفة فهو التجرّد ففقر العوام التجرّد من المال، وفقر الخواص التجرد من الأعلال ليسلم لهم الفقر. والفقر على أقسام: فقر إلى الله، وفقر إلى شىء هو من الله معلوم أو مرسوم وغير ذلك. ومن افتقر إلى شىء استغنى بوجود ذلك الشيء فالفقير إلى الله هو الغنيّ بالله، والافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله، فالمفتقر إلى الله مستغن بالله، والمستغنى بالله مفتقر إلى الله «2» . ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخضوع، ومن آفات الغنى امتزاجه بالتكبّر. وشرف العبد في فقره، وكذلك ذلّه في توهمه أنه غنيّ: - وإذا تذلّلت الرّقاب تقرّبا ... منّا إليك فعزّها في ذلّها «3» ومن الفقر المذموم، أن يستر الحقّ على صاحبه مواضع فقره إلى ربّه، ومن الفقر المحمود أن يشهده الحقّ مواضع فقره إليه. ومن شرط الفقير المخلص ألا يملك شيئا ويملك كلّ شىء. ويقال: الفقير الصادق الذي لا يملكه شىء «4» . ومن آداب الفقير الصادق إظهار التّشكّر عند كمال التكسّر. ومن آداب الفقر كمال المعنى وزوال الدعوى. ويقال الشكر على البلوى والبعد عن الشكوى.   (1) أي أن العبد- كذات مستقلة- فقير لأنه مخلوق يحتاج إلى خالقه، والحق- كذات مستقلة- غنى لأنه خالق فهو في غير حاجة إلى مخلوقه. (2) من أقوال الجنيد في هذا الصدد وقد سئل عن الافتقار إلى الله: أهو أتم أم الاستغناء بالله قال: إذا صح الافتقار إلى الله فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أتم لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى (الرسالة ص 135) . (3) من أقوالهم في هذا الصدد: لو علم أبناء الملوك ما نحن فيه من عز لجالدونا عليه. (4) أي لا يكون أسيرا لغرض أو لعرض، فتلك آفة الدنيا والنفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وحقيقة الفقر المحمود تجرّد السّرّ عن المعلولات وإفراد القلب بالله. ويقال: الفقر المحمود العيش مع الله براحة الفراغ على سرمد الوقت من غير استكراه شىء منه بكلّ وجه. قوله: «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» : الإشارة منه أن يعطى حتى يحمد. ويقال الغنىّ إذا أظهر غناه لأحد فإمّا للمفاخرة أو للمكاثرة- وجلّ قدر الحقّ عن ذلك- وإمّا ليجود ويتفضّل على أحد. ويقال: لا يقول لنا أنتم الفقراء للإزراء بنا- فإنّ كرمه يتقدّس عن ذلك- وإنما المقصود أنه إذا قال: والله الغنى، وأنتم الفقراء أنه يجود علينا. ويقال إذا لم تدّع ما هو صفته- من استحقاق الغنى- أولاك ما يغنيك، وأعطاك فوق ما يكفيك. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : الآيات 16 الى 17] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) عرّفك أنه غنيّ عنك، وأشهدك موضع فقرك إليه، وأنه لا بدّ لك منه، فما القصد من هذا إلا إرادته لإكرامك وإيوائك في كنف إنعامه. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 18] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) كلّ مطالب بعمله، وكلّ محاسب عن ديوانه، ولكلّ معه شأن، وله مع كلّ أحد شأن. ومن العبادات ما تجرى فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجرى النيابة فلو أن عبدا عاصيا منهمكا في غوايته فاتته صلاة مفروضة، فلو قضى عنه ألف ولىّ وألف صفيّ تلك الصلاة الواحدة عن كل ركعة ألف ركعة لم تقبل منه إلّا أن يجىء هو: معاذ الله أن نأخذ إلا ممّن وجدنا متاعنا عنده! فعتابك لا يحرى مع غيرك، والخطاب الذي معك لا يسمعه غيرك: فسر أو أقم وقف عليك محبتى ... مكانك من قلبى عليك مصون «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» . الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة، والخشية هي المخافة فمعنى الآية، لا ينفع التخويف إلّا لمن صاحب الخوف- وطير السماء على أشكالها تقع. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 22] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) كما لا يستوى الأعمى والبصير لا تستوى الظلمات والنور، ولا يستوى الظلّ والحرور، ولا الأحياء والأموات.. وكذلك لا يستوى الموصول بنا والمشغول عنّا، والمجذوب إلينا، والمحجوب عنّا، ولا يستوى من اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوى من أشهدناه حقّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذكرنا: أحبابنا شتان: واف وناقض ولا يستوى قطّ محبّ وباغض قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : الآيات 23 الى 24] إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) أي وما من أمة ممن كانوا من قبلك إلّا بعثنا فيهم نذيرا، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافة بالحقّ. «بَشِيراً وَنَذِيراً» : تضمنت الآية بيان أنه لم يخل زمانا ولا قوما من شرع. وفي وقته صلى الله عليه وسلم أفرده بأن أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 [سورة فاطر (35) : آية 25] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سنّتهم مع كلّ نبىّ، وإن أصرّوا على سنّتهم في الغيّ فلن تجد لسنّة الله تبديلا في الانتقام والخزي. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) بيّن في هذه الآية وأمثالها أن تخصيص الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقان الفعل وإحكامه شهادة على علم الصانع وإعلامه. وكذلك أيضا «مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ» : بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت منشها بنعت الجلال. قوله جل ذكره: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» . «إِنَّما» كلمة تحقيق تجرى من وجه مجرى التحديد أي التخصيص والقصر، فمن فقد العلم بالله فلا خشية له من الله. والفرق بين الخشية والرهبة أنّ الرهبة خوف يوجب هرب صاحبه فيجرى في هربه، والخشية إذا حصلت كبحت جماح صاحبها فيبقى مع الله، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة «1» . والخوف قضية الإيمان، قال تعالى: «وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «2» فالخشية قضية العلم، والهيبة توجب المعرفة.   (1) يفيد هذا الكلام في التفرقة بينهما عند بحث المصطلح الصوفي. (2) آية 175 سورة آل عمران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 ويقال خشية العلماء من تقصيرهم في أداء حقّه. ويقال من استحيائهم من اطلاع الحق. ويقال حذرا من أن يحصل لهم سوء أدب وترك احترام، وانبساط في غير وقته بإطلاق لفظ، أو ترخّص بترك الأولى. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 29] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) الذين يستغرق جميع أوقاتهم قيامهم بذكر الله وبحقّه، وإتيانهم بأنواع العبادات وصنوف القرب فلهم القدر الأجلّ من التقريب، والنصيب الأوفر من الترحيب. وأما الذين أحوالهم بالضدّ فمنالهم على العكس. أولئك هم الأولياء الأعزّة، وهؤلاء هم الأعداء الأذلّة. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 31] وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ما عرّفناك- من اختيارنا لك وتخصيصنا إياك، وتقديمنا لك على الكافة- فعلى ما أخبرناك، وأنشدوا: لا أبتغى بدلا سواك خليلة ... فثقى بقولي والكرام ثقات قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 32] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) «أَوْرَثْنَا» : أي أعطينا الكتاب- أي القرآن- الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاء بلفظ الإرث توسّعا. «اصْطَفَيْنا» : أي اخترنا. ثم ذكر أقسامهم، وفي الخبر أنه لمّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام: «أمتى وربّ الكعبة» ثلاث مرات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وفي الآية وجوه من الإشارة: فمنها أنه لمّا ذكر هذا بلفظ الميراث فالميراث يقتضى صحة النّسب على وجه مخصوص، فمن لا سبب له فلا نسب له، ولا ميراث له. ومحلّ النّسب هاهنا المعرفة، ومحلّ السبب الطاعة. وإن قيل محلّ النّسب فضله، ومحل السبب فعلك «1» .. فهو وجه. ويصحّ أن يقال محلّ النسب اختياره لك بدءا ومحلّ السبب إحسانه لك تاليا. ويقال أهل النسب على أقسام: - الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق. ويقال جميع وجوه التملّك لا بدّ فيها من فعل للعبد كالبيع، أمّا ما يملك بالهبة فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك: والوصية لا تستحقّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لا بدّ من قبول أهل السّهمان، والميراث لا يكون فيه شىء من جهة الوارث وفعله، والنّسب ليس من جملة أفعاله. ويقال الميراث يستحقّ بوجهين: بالفرض والتعصيب، والتعصيب أقوى من الفرض لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعصبة «2» . «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» : تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأفضل، وأرادوا به من ظلم نفسه لكثرة ما حمّلها من الطاعة. والأكثرون: إنّ السابق هو الأفضل، وقالوا: التقديم في الذكر لا يقتضى التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة «3» . ويقال قرن باسم الظالم قرينة وهي قوله: «لِنَفْسِهِ» ، وقرن باسم السابق قرينة وهي قوله:   (1) فالنسب وهبى والفعل كسبى كما أن المعرفة وهبية والطاعة كسية وإن كان الصوفية يرون أن الكسب والاجتلاب والتصرف والتكلف كلها لا تتم إلا بفضل من الله (أنظر شرح المكي لأبيات رابعة المبدوءة ب «أحبك حبين ... » فى قوت القلوب» . وهذا المعنى واضح هنا أيضا في تفسير القشيري. (2) العصبة واحدة العصب، وعصبة الرجل (فى الفرائض) من ليست له فريضة مسماة في الميراث، وإنما يأخذ ما أبقى ذو والفروض. أنظر رأى القشيري في تفضيل التعصيب على الفرض (المجلد الأول من هذا الكتاب ص 317) (3) على نحو ما يذكره البلاغيون في ذكر الخاص بعد العام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 «بِإِذْنِ اللَّهِ» فالظالم كانت له زلّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رفع زلّته بقوله: لنفسه، والسابق كسر صولته بقوله: بإذن الله. كأنه قال: يا ظالم ارفع رأسك، ظلمت ولكن على نفسك، ويا سابق اخفض «1» رأسك سبقت- ولكن بإذن الله. ويقال إنّ العزيز إذا رأى ظالما قصمه، والكريم إذا رأى مظلوما أخذ بيده، كأنه قال: يا ظالم، إن كان كونك ظالما يوجب قهرك، فكونك مظلوما يوجب الأخذ بيدك «2» . ويقال الظالم من غلبت زلّاته، والمقتصد من استوت حالاته، والسابق من زادت حسناته. ويقال الظالم من زهد في دنياه، والمقتصد من رغب في عقباه، والسابق من آثر على الدارين مولاه. ويقال الظالم من نجم كوكب عقله، والمقتصد من طلع بدر علمه، والسابق من ذرّت «3» شمس معرفته. ويقال الظالم من طلبه، والمقتصد من وجده، والسابق من بقي معه. ويقال الظالم من ترك المعصية، والمقتصد من ترك الغفلة، والسابق من ترك العلاقة «4» . ويقال الظالم من جاد بماله، والمقتصد من لم يبخل بنفسه، والسابق من جاد بروحه. ويقال الظالم من له علم اليقين، والمقتصد من له عين اليقين، والسابق من له حق اليقين. ويقال الظالم صاحب المودة، والمقتصد صاحب الخلّة، والسابق صاحب المحبة. ويقال الظالم يترك الحرام، والمقتصد يترك الشّبهة، والسابق يترك الفضل «5» فى الجملة.   (1) وردت في ص (احفظ) والسياق يتطلب (اخفض) رأسك فما سبقت إليه ليس إلا بإذن الله. (2) فآية كرم المولى سبحانه أنه ينظر إلى الظالم على أنه مظلوم مظلوم من قبل نفسه التي دعته إلى أن يظلم غيره .... ولعمرى إنها غاية الكرم كما يتصورها هذا الصوفي الجليل. (3) ذرت الشمس ذروا أي ظهرت أول شروقها (الوسيط) . (4) أي العلاقة بالدنيا والنفس وما يتصل بهما. (5) الفضل هنا معناه ما زاد عن الحاجة الضرورية اتقاء للحرام والشبهة، يقول سهل التّسترى: «إذا كان الحلال في التدين هو ما لا يعصى الله فيه فإن الحلال عند الصوفي مالا ينسى الله فيه» . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 ويقال الظالم صاحب سخاء، والمقتصد صاحب جود، والسابق صاحب إيثار «1» . ويقال الظالم صاحب رجاء، والمقتصد صاحب بسط، والسابق صاحب أنس. ويقال الظالم صاحب خوف، والمقتصد صاحب خشية، والسابق صاحب هيبة. ويقال الظالم له المغفرة، والمقتصد له الرحمة والرضوان، والسابق له القربة والمحبة. ويقال الظالم صاحب الدنيا، والمقتصد طالب العقبى، والسابق طالب المولى. ويقال الظالم طالب النجاة، والمقتصد طالب الدرجات، والسابق صاحب المناجاة. ويقال الظالم أمن من العقوبة، والمقتصد فاز بالمثوبة، والسابق متحقق بالقربة. ويقال الظالم مضروب بسوط الحرص، مقتول بسيف الرغبة، مضطجع على باب الحسرة. والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الأسف، مضطجع على باب الجود. والسابق مضروب بسوط التواجد، مقتول بسيف المحبة، مضطجع على باب الاشتياق. ويقال الظالم صاحب التوكل، والمقتصد صاحب التسليم، والسابق صاحب التفويض. ويقال الظالم صاحب تواجد، والمقتصد صاحب وجد، والسابق صاحب وجود. ويقال الظالم صاحب المحاضرة، والمقتصد صاحب المكاشفة، والسابق صاحب المشاهدة. ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة، والمقتصد يراه في كل يوم مرة، والسابق غير محجوب عنه البتة. ويقال الظالم مجذوب إلى فعله الذي هو فضله، والمقتصد مكاشف بوصفه الذي هو عزّه، والسابق المستهلك في حقّه الذي هو وجوده. قوله: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» لأنه ذكر الظالم مع السابق «2» . قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 33] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)   (1) يفيد هذا التقسيم في بحث لغوى عن ترتيب: السخاء والجود والإيثار. (2) أعجب القرطبي بمنهج الصوفية في تفسير «الظالم والمقتصد والسابق» على هذا النحو فأورد طائفة كبيرة من أقوالهم استغرقت نحو صفحة ونصف الصفحة (ح 14 ص 348) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 نبّه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله، وليس في الفضل تمييز. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 34] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) تحققوا بحقائق الرضا، والحزن سمّى حزنا لخزونة «1» الوقت على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضا واستبشار. ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوء الأدب. ويقال هو سياسة النفس. «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ» للعصاة، «شَكُورٌ» للمطيعين. قدّم ما للعاصين رفقا بهم لضعف أحوالهم «2» . قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 35] الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) «دارَ الْمُقامَةِ» : أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجا. «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» : إذا أرادوا أن يروا «3» مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة، بل في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاما، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقة أو تحديق مقلة في جهة «4» يرونه كماهم بلا كيفية. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)   (1) حزن المكان حزونة أي حزن أي خشن وغلظ، وحزن الرجل اغتم. (2) يتجلى هنا ما يتمتع به هذا الصوفي من نزعة الأمل وفتح الباب أمام العصاة. (3) يضاف هذا الرأى إلى موضوع «رؤية الله في الآخرة» كما يتصوره القشيري. (4) هكذا في م وهي في ص (وجهة) وكلاهما صحيح إذ المقصود تنزيه من يرونه- سبحانه- عن التقيد بالمكانية.. جلت الصمدية عن التقيد بمحل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 لا حياة يتمتعّون بها، ولا موت يستريحون به، وهم مقيمون في العذاب والحجاب، لا يفتر عنهم العذاب، ولا ترفع عنهم العقوبة. «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» ، فيقال لهم أو لم نعمركم ... ؟ أما جاءكم النذير قبل أن تبلغوا زمان المشيب؟ ويقال: ألم تستوفوا مدة الإمهال في النظر؟ «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» : الرسل، ويقال ضعف الشيخوخة، ويقال سقوط السّنّ، ويقال تقوّس الظّهر. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 38] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) أي عالم بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين. عالم بمن يريد بالناس السوء وبمن يحسن بالله الظنّ. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 39] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) أهل كلّ عصر خليف عمن تقدمهم فمن قوم هم لسلفهم حمال «1» ، ومن قوم هم أراذل وأنذال فالأفاضل زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة. وقد قالوا:   (1) الحمال الدية أو الغرامة يحملها قوم عن قوم (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 يوم وحسب الدهر من أجله ... حيّا غد والتفت الأمس قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 40] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) كرّر إشهادهم عجز أصنامهم، ونقص من اتخذوهم آلهة من أوثانهم ليسفّه بذلك آراءهم، ولينبّههم إلى ذميم أحوالهم وأفعالهم، وخسّة هممهم، ونقصان عقولهم. ثم أخبر أنهم لا يأتون بشىء مما به يطالبون، وليس لهم صواب عمّا يسألون. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 41] إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) أمسكها بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتّبهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإفنائهما يساهمه، ولا شريك في وجودهما ونظامهما يقاسمه. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) ليس لقولهم تحقيق، ولا لعهدهم وضمانهم توثيق، وما يعدون من أنفسهم فصريح زور، وما يوهمون من وفائهم فصرف تغرير.. وكذلك المريد في أوان نشاطه تمنيه نفسه م (14) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فتظاهر أمام من تقدّمه حالا بانه عاهد الله، وأنه أكد عقده مع الله.. فإذا عضّته شهوته، وأراد الشيطان أن يكذبه صرعه بكيده، وأركسه في هوة غيّه، ومنية نفسه فيسودّ وجهه، وتذهب عند الله وجاهته «1» . قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 44] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) فى الجملة ما خاب له وليّ، وما ربح له عدوّ، ولا ينال الحقيقة من انعكس قصده، بل يرتدّ عليه كيده وهو سبحانه يدمّر على أعدائه تدميرا، ويوسع لأوليائه فضلا كبيرا. قوله جل ذكره: [سورة فاطر (35) : آية 45] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) لو عجّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تف أعمارهم القليلة به، وما اتسعت أيامهم القصيرة له، فأخّر ذلك ليوم الحشر.. فإنّه طويل. والله على كل شىء قدير، وبأمور عباده خبير بصير.   (1) هكذا في م وهي في ص (ماء وجهه) أي حياؤه، وقد آثرنا ما جاء في م لملاءتها السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 سورة يس قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» آية افتتح بها خطابه فمن علمها أجزل ثوابه، ومن عرفها أكثر إيجابه، ومن أكبر قدرها أكرم مآبه. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) يقال معناه: يا سيد. ويقال: الياء تشير إلى يوم الميثاق، والسين تشير إلى سرّه مع الأحباب فيقال بحقّ يوم الميثاق وسرّى مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم: - «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي إنّك- يا محمد لمن المرسلين، وإنّك لعلى صراط مستقيم. «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» أي هذا الكتاب تنزيل (العزيز) : المتكبر الغنى عن طاعة المطيعين، (الرحيم) : المتفضّل على عباده المؤمنين. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 6] لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) أي خصصناك بهذا القرآن، وأنزلنا عليك هذا الفرقان لتنذر به قوما حصلوا في أيام الفترة، وانقرض أسلافهم على هذه الصّفة. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 7] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 أي حقّ القول بالعقوبة على أكثرهم لأنهم أصرّوا على جحدهم، وانهمكوا في جهلهم، فالمعلوم منهم والمحكوم عليهم أنّهم لا يؤمنون «1» . قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 8 الى 9] إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) سنجرّهم إلى هوانهم وصغرهم، وسنذيقهم وبال أمرهم. «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» أغرقناهم اليوم في بحار الضلالة، وأحطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنغرقهم فى النار والأنكال، ونضيّق عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال. «فَأَغْشَيْناهُمْ» : أعميناهم اليوم عن شهود الحجّة، ونلبّس عليهم في الآخرة سبيل المحجّة، فيتعثّرون في وهدات جهنم داخرين، ويبقون في حرقاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نقطع عنهم ما به يعذّبون «2» ، ولا نرحمهم مما منه يشكون تمادى بهم حرمان الكفر، وأحاطت بهم سرادقات الشقاء، ووقعت عليهم السّمة بالفراق. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 10] وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) مهجور الحقّ لا يصله أحد، ومردود الحقّ لا يقبله أحد. والذي قصمته المشيئة وأقمته القضية لا تنجع فيه النصيحة.   (1) أريد أن أنبه دائما إلى أن الجبرية عند الشيخ لا تتعارض مع الحرية الإنسانية، فالإنسان حسرّ فيما يفعل ولكن في دائرة ما حددته له القضية السابقة التي ترتبط بالعلم الإلهى السابق للإبداء والإنشاء.. نحن نعلم ما حسدث ولكن العلم الإلهى يسجل بدءا كل ما سيحدث. (2) من هذا نفهم أن القشيري لا يؤمن بأبدية الجنة وحسب، بل يؤمن بأبدية النار أيضا.. على خلاف جهم الذي يرى أن حركاتهم تتناهى، فهما ليستا أبديتين- كما قلنا من قبل. وعلى خلاف ابن القيم الذي يرى أبدية الجنة فقط حيث بستوقفه الاستثناء في قوله تعالى «لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك» فيقول: إذا فعذابها ينقطع (حادى الأرواح ص 263 وشفاه الغليل ص 262) ولكن يردّ على ابن القيم أن المقصود في الآية هم عصاة المؤمنين وليس الكفار الذين هم- طبقا لنصوص كثيرة- خالدون فيها أبدا «لا يجدون وليا ولا نصيرا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 [سورة يس (36) : آية 11] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) أي إنما ينتفع بإنذارك من اتّبع الذّكر فإنّ إنذارك- وإن كان عاما في الكلّ وللكلّ- فإنّ الذين كفروا على غيّهم يصرّون.. ألا ساء ما يحكمون، وإن كانوا لا يعلمون قبح ما يفعلون. أمّا الذين اتبعوا الذكر، واستبصروا، وانتفعوا بالذي سمعوه منك، وبه عملوا- فقد استوجبوا أن تبشّرهم فبشّرهم، وأخبرهم على وجه يظهر السرور بمضمون خبرك عليهم. «وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» : كبير وافر على أعمالهم- وإن كان فيها خلل. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 12] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) نحيى قلوبا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدّموا. «وَآثارَهُمْ» : خطاهم إلى المساجد «1» ، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وترقرق دموعهم على عرصات خدودهم، وتصاعد أنفاسهم. «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» أثبتنا تفصيله في اللوح المحفوظ.. لا لتناسينا لها- وكيف وقد أحصينا كل شىء عددا؟ - ولكننا أحببنا إثبات آثار أحبائنا في المكنون من كتابنا. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 13] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) انقرض زمانهم، ونسى أوانهم وشأنهم! ولكننا نتذكر أحوالهم بعد فوات أوقاتهم، ولا نرضى بألا يجرى بين أحبائنا وعلى ألسنة أوليائنا ذكر الغائبين والماضين، وهذا مخلوق يقول في صفة مخلوق:   (1) قال أبو سعيد الخدري: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله الآية، وقال لهم النبيّ (ص) : «إن آثاركم تكتب فسلم تنتقلون» أسباب النزول للواحدى ص 245. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 إذا نسى الناس إخوانهم ... وخان المودّة خلّانها فعندى لإخوانى الغائبين ... صحائف ذكرك عنوانها قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 16 الى 18] قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قال الرسل: «رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» وليس علمنا إلّا بما أمرنا به من التبليغ والإنذار. «قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» لنرجمنّكم، ولنصنعنّ، ولنفعلنّ ... فأجابهم الرسل: إنكم لجهلكم ولجحدكم سوف تلقون ما توعدون. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 20 الى 21] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) فى القصة أنه جاء من قرية فسّماها مدينة، وقال من أقصى المدينة، ولم يكن أقصاها وأدناها ليتفاوتا بكثير، ولكنه- سبحانه- أجرى سنّته في استكثار القليل من فعل عبده إذا كان يرضاه، ويستنزر الكثير من فضله إذا بذله وأعطاه. «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً..» فأبلغ الوعظ وصدق النّصح.. ولكن كما قالوا: وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصّح فلمّا صدق في حاله، وصبر على ما لقى من قومه، ورجع إلى التوبة، لقّاه حسن أفضاله، وآواه إلى كنف إقباله، ووجد ما وعده ربّه من لطف أفضاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 [سورة يس (36) : الآيات 26 الى 27] قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) تمنّى أن يعلم قومه حاله، فحقّق الله مناه، وأخبر عن حاله، وأنزل به خطابه، وعرف قومه ذلك. وإنما تمنّى وأراد ذلك إشفاقا عليهم، ليعملوا مثلما عمل ليجدوا مثلما وجد. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 28 الى 29] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) ما كانت إلا قضية منّا بعقوبتهم، وتغييرا لما كانوا به من السلامة إلى وصف البلاء. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 30] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) إن لم يتحسّروا هم اليوم فلهم موضع التحسّر وذلك لانخراطهم في سلك واحد من التكذيب ومخالفة الرسل، ومناوءة أوليائه- سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 31 الى 32] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) ألم يروا ما فعلنا بمن قبلهم من القرون الماضية، وما عاملنا به الأمم الخالية، فلم يرجع إليهم أحد، فكلّهم في قبضة القدرة، ولم يفتنا أحد، ولم يكن لواحد منهم علينا عون ولا مدد، ولا عن حكمنا ملتحد قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 33] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) لمّا كان أمر البعث أعظم شبههم، وكثر فيه إنكارهم كان تكرار الله سبحانه لحديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 البعث، وقد ضرب- سبحانه- المثل له بإحياء الأرض بالنبات في الكثير من الآيات. والعجب ممّن ينكر علوم الأصول ويقول ليس في الكتاب عليها دليل! وكيف يشكل ذلك وأكثر ما في القرآن من الآيات يحت على سبيل الاستدلال، وتحكيم أدلة العقول «1» ؟ ولكن يهدى الله لنوره من يشاء. ولو أنهم أنصفوا من أنفسهم، واشتغلوا بأهم شىء عندهم لما ضيّعوا أصول الدّين، ولكنهم رضوا فيها بالتقليد، وادّعوا في الفروع رتبة الإمامة والتصدّر.. ويقال في معناه: يا من تصدّر في دست الإمامة فى ... مسائل الفقه إملاء وتدريسا غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ... شيّدت فرعا وما مهّدت تأسيسا! قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 36] سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) تنبّه هذه الاية على التفكّر في بديع صنعه فقال: تنزيها لمن خلق الأشياء المتشاكلة فى الأجزاء والأعضاء، من النبات، ومن أنفسهم، ومن الأشياء الأخرى التي لا يعلمون تفصيلها، كيف جعل أوصافها في الطعوم والروائح، فى الشكل والهيئة، فى اختلاف الأشجار فى أوراقها وفنون أغصانها وجذوعها وأصناف أنوارها وأزهارها، واختلاف أشكال تمارها فى تفرّقها واجتماعها، ثم ما نيط بها من الانتفاع على مجرى العادة مما يسميه قوم: الطبائع فى الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، واختلاف الأحداث التي يخلقها الله عقيب شراب هذه الأدوية وتناول هذه الأطعمة على مجرى العادة من التأثيرات التي تحصل في الأبدان. ثم اختلاف صور هذه الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، فالأوقات متجانسة، والأزمان متماثلة، والجواهر متشاكلة.. وهذه الأحكام مختلفة، ولولا تخصيص حكم لكل شىء بما اختصّ به لم يكن تخصيص بغير ذلك أولى منه. وإنّ من كحّل الله عيون بصيرته بيمن التعريف، وقرن أوقاته بالتوفيق، وأتم نظره، ولم يصده مانع.. فما أقوى في المسائل حجّته! وما أوضح فى السلوك نهجه!.   (1) فى هذا ردّ على من يتهم الصوفية بمجافاتهم للعقل والعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 إنّها لأقسام سبقت على من شاءه الحقّ بما شاء. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 37] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) نبطل ضوء النهار بهجوم الليل عليه، وتزيل ظلام الليل بهجوم النهار عليه، كذلك نهار الوجود يدخل على ليالى التوقف، ويقود بيد كرمه عصا من عمى عن سلوك رشده فيهديه إلى سواء الطريق. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 38 الى 40] وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) على ترتيب معلوم لا يتفاوت في فصول السنة، وكل يوم لها مشرق جديد ولها مغرب جديد.. وكل هذا بتقدير العزيز العليم. «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الإشارة منه أن العبد في أوان الطلب رقيق الحال، ضعيف، مختصر الفهم.. ثم يفكّر حتى تزداد بصيرته ... إنه كالقمر يصير كاملا، ثم يتناقص، ويدنو من الشمس قليلا قليلا، وكلّما ازداد من الشمس دنوّا ازداد في نفسه نقصانا حتى يتلاشى ويختفى ولا يرى ... ثم يبعد عن الشمس فلا يزال يتباعد ويتباعد حتى يعود بدرا- من الذي يصرّفه في ذلك إلّا أنه تقدير العزيز العليم؟ وشبيه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته، صاحب تمكين غير متلوّن «1» ، يشرق من برج سعادته دائما، لا يأخذه كسوف، ولا يستره سحاب. وشبيه القمر عبد تتلون أحواله في تنقله فهو في حال من البسط يترقّى إلى حدّ الوصال، ثم يردّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته، ثم يجود الحقّ- سبحانه- فيوفّقه لرجوعه عن فترته،   (1) سبق أن أوضحنا الفرق بين حالى التلوين والتمكين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وإفاقته عن سكرته، فلا يزال يصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال، ويرزق صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال.. كذلك حاله إلى أن يحقّ له بالمقسوم ارتحاله، كما قالوا: ما كنت أشكو ما على بدني ... من كثرة التلوين من بدّته «1» وأنشدوا: كلّ يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 41 الى 42] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) الإشارة فيه إلى حمل الخلق في سفينة السلامة في بحار التقدير عند تلاطم أمواجها بفنون من التغيير والتأثير. فكم من عبد غرق في اشتغاله في ليله ونهاره، لا يستريح لحظة من كدّ أفعاله ومقاساة التعب في أعماله، وجمع ماله. فجرّه ذلك إلى نسيان عاقبته ومآله، واستيلاء شغله بولده وعياله على فكره وباله- وما سعيه إلّا في وباله! وكم من عبد غرق في لجّة هواه، فجرّته مناه إلى تحمّل بلواه، وخسيس من أمر مطلوبه ومبتغاه.. ثم لا يصل قط إلى منتهاه، خسر دنياه وعقباه، وبقي عن مولاه! ومن أمثال هذا وذاك ما لا يحصى، وعلى عقل من فكّر واعتبر لا يخفى. أمّا إذا حفظ عبدا في سفينة العناية أفرده- سبحانة- بالتحرّر من رقّ خسائس الأمور، وشغله بظاهره بالقيام بحقّه، وأكرمه في سرائره بفراغ القلب مع ربّه، ورقّاه إلى ما قال: «أنا جليس من ذكرنى» .. وقل في علوّ شأن من هذه صفته.. ولا حرج! قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 43 الى 44] وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) .   (1) البدة النصيب والقسمة (اللسان) . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 لولا جوده وفضله لحلّ بهم من البلاء ما حلّ بأمثالهم، لكنه بحسن الأفضال، يحفظهم فى جميع الأحوال. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) الآيات هذه صفات من سيّبهم «1» فى أودية الخذلان، ووسمهم بسمة الحرمان، وأصمّهم عن سماع الرّشد، وصدّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آية في الزّجر إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها على دوام انقباضهم، وإذا أمروا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنّ الله رازق الأنام، وإن يشأ نظر إليهم بالإنعام: - «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» ثم قال جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 48 الى 50] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) يستعجلون هجوم الساعة، ويستبطئون قيام القيامة- لا عن تصديق يريحهم من شكّهم، أو عن خوف يمنعهم عن غيّهم، ولكن تكذيبا لدعوة الرسل، وإنكارا لصحة النبوة، واستبعادا للنشر والحشر. ويوم القيامة هم في العذاب محضرون، ولا يكشف عنهم، ولا ينصرون. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 51 الى 54] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)   (1) سيبه تركه وخلّاه يسيب حيث شاء (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 يموتون قهرا، ويحشرون جبرا، ويلقون أمرا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. «قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا «1» مِنْ مَرْقَدِنا؟» يموتون على جهل، لا يعرفون ربّهم، ويبعثون على مثل حالهم، لا يعرفون من بعثهم، ويعدون ما كانوا فيه في قبورهم من العقوبة الشديدة- بالإضافة إلى ما سيلقون من الآلام الجديدة- نوما ورقادا، وسيطئون من الفراق المبرح والاحتراق العظيم الضخم مهادا، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغسّاقا، ولقد عوملوا بذلك استحقاقا: فقد قال جل ذكره: - «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 57] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) إنما يضاف العبد إلى ما كان الغالب عليه ذكره والآخذ بمجامع قلبه، فصاحب الدنيا من فى أسرها، وأصحاب الجنة من هم طلّابها والساعون لها والعاملون لنيلها قال تعالى مخبرا عن أقوالهم وأخوالهم: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» «2» . وهذه الأحوال- وإن جلّت منهم ولهم- فهى بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البله» «3» ومن كان في الدنيا عن الدنيا حرّا فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حرا، والله يختص برحمته من يشاء. وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين، فيقول لهم: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ»   (1) سقطت (بعثنا) من الناسخ في ص. (2) آية 61 سورة الصافات. (3) جاء في اللسان أن الأبله من تغلب عليه سلامة الصدر، وحسن الظنّ بالناس لأنه يغفل أمر دنياه، ويقبل على آخرته ويشغل نفسه بها، قال صلى الله عليه وسلم «أكثر أهل الجنة البله» فهم أكياس في أمر الآخرة (اللسان ح 19 ص 477) ط بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وهم أهل الحضرة والدنو، لا تشغلهم الجنة عن أنس القربة، وراحات الوصلة، والفراغ للرؤية «1» ويقال: لو علموا عمّن شغلوا لما تهنّأوا بما شغلوا. ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ..» كأنه يخاطبهم مخاطبة المعاينة إجلالا لهم كما يقال: الشيخ يفعل كذا، ويراد به: أنت تفعل كذا. ويقال: إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار، ولم يدخلوا الجنة بعد لعصيانهم فيقول الحق: عبدى.. أهل النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنك لأنهم في لذّاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم فليس لك اليوم إلا نحن! وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم، وذلك من أتمّ الأشغال، وهي أشغال مؤنسة مريحة لا متعبة موحشة. ويقال: الحقّ لا يتعلّق به حقّ ولا باطل فلا تنافى بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم، وشهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مشغولون مستديمون لمعرفته بأى حالة هم، ولا يقدح اشتغالهم- باستيفاء حظوظهم- فى معارفهم. ويقال شغل نفوسهم بشهواتها «2» حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبة من إحساس النّفس الذي هو أصعب الرّقباء، ولا شىء أعلى من رؤية الحبيب مع فقد الرقيب. قوله جل ذكره: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» .   (1) هكذا فى م وهي في ص (لله وبه) ، وقد آثرنا (الرؤية) متأثرين برواية القرطبي عن الثعلبي والقشيري-- ابن المصنف- حيث تقول هذه الرواية: «فينظر إليهم الحق وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ماداموا ينظرون إليه» القرطبي ح 15 ص 45. (2) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى. وفي الخبر عن أبى سعيد الخدري قال (ص) : «إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا» . ذكر ابن عباس: كلما أتى الرجل من أهل الجنة الحوراء وجدها بكرا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، ولا يكون بينهما منى، منه أو منها. (القرطبي ح 15 ص 45) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 «أَزْواجُهُمْ» : قيل أشكالهم في الحال والمنزلة، كقوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ» «1» وقيل حظاياهم «2» من زوجاتهم. «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ» : أي نصيب أنفسهم. ويقال الإشارة فيها إلى راحات الوقت دون حظوظ النفس. «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» : ما يريدون، ويقال تسلم لهم دواعيهم، والدعوى- إذا كانت بغير حقّ- معلولة. قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 58] سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) يسمعون كلامه وسلامه بلا واسطة، وأكّد ذلك بقوله: «قَوْلًا» . وبقوله: «مِنْ رَبٍّ» ليعلم أنه ليس سلاما على لسان سفير. «مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» . والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال ما يسلّم عليهم لتكمل لهم النعمة. ويقال الرحمة في ذلك الوقت أن ينقّيهم في حال سماع السلام وحال اللقاء لئلا يصحبهم دهش، ولا تلحقهم حيرة. ويقال إنما قال: «مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» ليكون للعصاة من المؤمنين فيه نفس، ولرجائهم مساغ فإن الذي يحتاج إلى الرحمة العاصي. ويقال: قال ذلك ليعلم العبد أنه لم يصل إليه بفعله واستحقاقه، وإنما وصل إليه برحمة ربه. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 59] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) غيبة الرقيب أتمّ نعمة، وإبعاد العدوّ «3» من أجلّ العوارف «4» فالأولياء في إيجاب القربة، والأعداء في العذاب والحجبة.   (1) آية 22 سورة الصافات. (2) جمع حظية وهي المرأة التي تفضل على غيرها في المحبة. (3) يقول قتادة فى «امتازوا» إنها بمعنى عزلوا عن كل خير. (4) العوارف جمع عارفة وهي الفضل والإحسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 60 الى 61] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) لو كان هذا القول من مخلوق إلى مخلوق لكان شبه اعتذار أي لقد نصحتكم ووعظتكم، ومن هذا حذّرتكم، وكم أوصلت لكم القول، وذكّرتكم فلم تقبلوا وعظي، ولم تعملوا بأمرى، فأنتم خالفتم، وعلى أنفسكم ظلمتم، وبذلك سبقت القضية منّا لكم. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 65] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) اليوم سخّر الله أعضاء بدن الإنسان بعضها لبعض، وغدا ينقض هذه العادة، فتخرج بمض الأعضاء على بعض، وتجرى بينها الخصومة والنزاع فأمّا الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة، وأمّا العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم بعض أعضائهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضا بالإحسان، وكما قيل: بينى وبينك يا ظلوم الموقف ... والحاكم العدل الجواد المنصف وفي بعض الأخبار المروية المسندة أنّ عبدا تشهد عليه أعضاؤه بالزّلّة فيتطاير شعره من جفن عينيه، فيستأذن بالشهادة له فيقول الحق: تكلمى يا شعرة جفن عبدى واحتجّى عن عبدى، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادى مناد: هذا عتيق الله بشعرة. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 68] وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) ؟ يردّه إذا استوى شبابه وقوّته إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان إلى أن يبلغ أرذل العمر في السن فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء، كما قيل: طوى العصران ما نشراه منى ... وأبلى جدنى نشر وطيّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 أرانى كلّ يوم في انتقاص ... ولا يبقى مع النقصان شيّ هذا في الجثث والمبانى دون الأحوال والمعاني فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حدّ الخرف «1» فيختلّ رأيه وعقله. وأهل الحقائق تشيب ذوائبهم ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها، وطراوة جدّتها. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 69] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) كلامه صلى الله عليه وسلم كان خارجا عن أوزان الشّعر، والذي أتاهم به من القرآن لم يكن من أنواع الشعر، ولا من طرق الخطباء. تحيّر القوم في بابه ولم تكتحل بصائرهم بكحل التوحيد فعموا عن شهود الحقائق. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 75] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) ذكر عظيم منّته عليهم، وجميل نعمته لديهم بما سخر لهم من الأنعام التي ينتفعون بها بوجوه الانتفاع. ولفظ «أَيْدِينا» توسّع. أي مما عملنا وخلقنا، وذلك أنهم ينتفعون بركوبها وبأكل لحومها وشحومها، وبشرب ألبانها، وبالحمل عليها، وقطع المسافات بها، ثم بأصوافها وأوبارها وشعرها ثم بعظم بعضها.. فطالبهم بالشكر عليها، ووصفهم بالتقصير في شكرهم. ثم أظهر- ما إذا كان في صفة المخلوقين لكان شكاية- أنهم مع كل هذه الوجوه من الإحسان: - [سورة يس (36) : آية 76] فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)   (1) الخرف فساد العقل من الكبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 اكتفوا بأمثالهم «1» معبودات لهم، ثم سلّى نبيّه- صلى الله عليه وسلم بأن قال له: - «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» وإذا علم العبد أنّه بمرأى من الحقّ هان عليه ما يقاسيه، ولا سيما إذا كان في الله. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 77] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) أي شددنا أسرهم، وجمعنا نشرهم، وسوّينا أعضاءهم، وركّببنا أجزاءهم، وأودعناهم العقل والتمييز.. ثم إنه «خَصِيمٌ مُبِينٌ» : ينازعنا في خطابه، ويعترض علينا في أحكامنا بزعمه واستصوابه، وكما قيل: أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلمّا اشتدّ ساعده رمانى قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : الآيات 78 الى 81] «2» وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) مهّد لهم سبيل الاستدلال، وقال إن الإعادة في معنى الإبداء، فأى إشكال بقي في جواز الإعادة في الانتهاء؟ وإنّ الذي قدر على خلق النار في الأغصان الرّطبة من المرخ والعفار «3» قادر على خلق الحياة في الرّمة البالية، ثم زاد في البيان بأن قال: إن القدرة على مثل الشيء   (1) أي أمثالهم من المخلوقين والمخلوقات. (2) نزلت حين سأل أبى بن خلف الجمحي رسول الله (ص) وقد جاءه بعظم حائل قائلا: يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم، ويبعثك ويدخلك في النار. (أسباب النزول للواحدى ص 246) . (3) المرخ شجر طويل ليس له ورق ولا شوك، سريع الورى، يقتدح به. والعفار الجوز المأكول. وفي المثل: «فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار» (الوسيط) . م (15) لطائف الإشارات- ح 3 [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 كالقدرة عليه لاستوائهما بكلّ وجه، وإنه يحيى النفوس بعد موتها في العرصة كما يحى الإنسان من النطفة، والطير «1» من البيضة، ويحيى القلوب بالعرفان لأهل الإيمان كما يميت نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 82] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) «إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بخلقه وقدرته. وأخبرنا أنه تتعلّق بالمكوّن كلمته على ما يجب في صفته، وسيّان عنده خلق الكثير في كثرته والقليل في قلّته. قوله جل ذكره: [سورة يس (36) : آية 83] فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) أي بقدرته ظهور كلّ شىء: فلا يحدث شىء- قلّ أو كثر- إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شىء إلا بإبقائه، فمنه ظهور ما يحدث، وإليه مصير ما يخلق   (1) وردت (والطين) والصواب أن تكون (والطير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 سورة الصّافّات قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة إذا استولت على قلب أزالت عنه أولا من الدارين أربه، ثم ألزمت على وجه التبعية حربه، ثم شرّفت من حيث الهمة طلبه. قوله جل ذكره: [ سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) افتتح الله هذه السورة بالقسم بالصافات، وهم الملائكة المصطفّة في السماء وفي الهواء، وفي أماكنهم على ما أمرهم الحق- سبحانه- من المكان يلازموته، والأمر يعانقون يسبّحونه ويقدّسونه، وبما يأمرهم به يطيعونه. «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» عطفهم على ما تقدّم بحرف الفاء وهم الملائكة الذين يزجرون السحاب. ويقال يزجرون الناس عن المعاصي. ويقال هي الخواطر الزاجرة عن المناهي. «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» يقال «الصَّافَّاتِ» الطيور المصطفّة في السماء، «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» الملائكة يتلون كتاب الله، ويتلون الوحى على الأنبياء عليهم السلام. «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» هذا هو المقسوم عليه. أخبر أنه سبحانه واحد في ملكه، وذلك لأنهم تعجّبوا أن يقوم الواحد بجميع أحوال العالم. ومعنى كونه واحدا تفرّده في حقّه عن القسمة، وتقدّسه في وجوده عن الشبيه، وتنزّهه فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 ملكه عن الشريك واحد في جلاله، واحد في استحقاق جماله، واحد في أفعاله، واحد في كبريائه بنعت علائه، ووصف سنائه. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 5] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) مالك السماوات والأرض وما بينهما، وخالقهما، وأكساب العباد داخلة في هذا «1» . «وَرَبُّ الْمَشارِقِ» مشارق النجوم والشمس والقمر، ومشارق القلوب بشموسها وأقمارها ونجومها. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 7] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) زيّن السماء الدنيا بالنجوم، وقلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال، وحفظ السماوات بأن جعل النجوم للشياطين رجوما، وكذلك زيّن القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قرب منها الشيطان رجمها بنجوم معارفهم. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 10] إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يلقى إليهم شيئا من وساوسه تذكّروا، فإذا هم مبصرون، ورجعوا.. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا «2» » . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 11] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)   (1) هذا الرأى على جانب كبير من الأهمية من الوجهة الكلامية، وخلق أكساب العباد من الله حكما وعلما، لأن الإرادة الإنسانية لا يمكن أن تخرج عن نطاق الحكم والعلم الإلهين- هكذا أو قفنا القشيري في مواضع مختلفة. (2) آية 201 سورة الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 عرّفهم عجزهم عن الإثبات، وضعفهم في كل حال، ثم ذكرهم نسبتهم أنها إلى الطين اللازب «1» . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 12] بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) حقيقة التعجب تغير النفس مما لم تجر العادة بحدوث مثله. وتقرأ «2» «عَجِبْتَ» بالفتح خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم- وبالضم فكأن الحقّ يقول ذلك من قبل نفسه بل عجبت، ويقال ذلك بمعنى إكبار ذلك الشيء، إما في القدر، أو الإكثار في الذمّ أو في المدح. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 13] وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) إذا ذكروا بآياته يعرضون عن الإيمان بها والتفكّر فيها، ويقولون: ليس هذا الذي أتى به محمد إلا سحرا ظاهرا. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 16 الى 19] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) قالوا: أئذا متنا، تفرّقت أجزاؤنا، وصرنا رميما.. أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون يبعثون كذلك؟ قالوه على جهة الاستبعاد فالمعرفة لهم مفقودة، والبصائر لهم مسدودة، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة. «قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ» قل لهم يا محمد نعم، وعلى وصف الصغر ما يبعثكم، وبزجرة واحدة يحشركم، بعد أن يقيم القيامة على جميعكم.   (1) لازب أي لاصق لصق بعضه ببعض، أو لازق يلتزق بما أصابه، وقال مجاهد والضحاك هو المنتن (القرطبي) ح 15 ص 68، 69. (2) بالفتح قراءة أهل المدينة وأبى عمرو وعاصم. وبالضم قرامة عبد الله بن مسعود، والكوفين إلا عاصما. والذين ينكرون الضم يرون أن الله لا يعجب من شىء، ولكن تخريج القشيري لذلك يكاد يكون سائغا، وقد اختاره بعض الأئمة كالبيهقى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 [سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 21] وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) دعوا بالويل على أنفسهم! ويقال لهم: هذا يوم الفصل الذي كنتم تكذبون به، وقد عاينتموه اليوم. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 27] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) أراد بأزواجهم قرناءهم وأشكالهم ومن عمل مثل أعمالهم، ومن أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير.. وكذلك في هذه الطريقة: من أعان صاحب فترة في فترته، أو صاحب زلة على زلته- كان مشاركا له في عقوبته، واستحقاق طرده وإهانته. قوله: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» : مقام السؤال مقام صعب قوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك فالذين تسألهم الملائكة أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف، وأقوام لهم أعمال لا تصلح للكشف، وهم قسمان: الخواصّ يسترهم الحقّ عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة، وأقوام هم أرباب الزلات يرحمهم الله فلا يفضحهم، ثم إنهم يكونون في بعض أحوالهم بنعت الهيبة، وفي بعض أحوالهم بنعت البسط والقربة، وفي الخبر: «أن قوما يسترهم بيده ويقول تذكر غدا ربك» وهؤلاء أصحاب الخصوص في التحقيق: فأما الأغيار والأجانب والكفار فيقال لهم: «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «1» ، فإذا قرءوا كتابهم يقال لهم. من عمل هذا؟ وما جزاؤه؟ فيقولون: جزاؤه النار. فيقال لهم: أدخلوها بحكمكم. ثم يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزع عليهم:   (1) آية 14 سورة الإسراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يورّك بعضهم الذنب على بعض فهذا يتبرأ من صاحبه، وصاحبه يتبرأ منه، إلى أن يحكم الله عليهم بالخزي والهوان، ويجمعهم في اللعن والإبعاد. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 33 الى 34] فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) يشتركون في العذاب ولكن تتفاوت أنصباؤهم، كما أنهم يشتركون في الزّلة ولكن تختلف مقادير زلاتهم. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 35] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) احتجابهم بقلوبهم أوقعهم في وهدة عذابهم ذلك لأنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته. ولو عرفوه لافتخروا بعبوديته قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» «1» ، وقال: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» «2» فإنّ من عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته، قال قائلهم. ويظهر في الهوى عزّ الموالي ... فيلزمنى له ذلّ العبيد قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 36 الى 38] وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) .   (1) آية 206 سورة الأعراف. (2) آية 173 سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 لمّا لم يحتشموا من وصفه- سبحانه- بما لا يليق بحلاله لم يبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 39 الى 42] وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) الاستثناء راجع إلى قوله: إنكم لذائقوا العذاب الأليم ويقال الإخلاص إفراد الحقّ- سبحانه- بالعبودية، والذي يشوب عمله رياء فليس بمخلص. ويقال: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وفي الخبر: يا معاذ، أخلص العمل يكفيك القليل منه. ويقال: الإخلاص فقد رؤية الأشخاص «1» . ويقال: هو أن يلاحظ محل الاختصاص. ويقال: هو أن تنظر إلى نفسك بعين الانتقاص. قوله جل ذكره: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ لهم رزق معلوم لأوقات معينة، وفي وقت الرسول عليه السلام من كان له رزق معلوم كان من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة فلهم في الآخرة رزق معلوم لأبشارهم ولأسرارهم، فالأغنياء لهم رزق معلوم لأنفسهم «2» ، والفقراء «3» لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. فواكه وهم مكرمون: من ذلك ورود الرسول عليهم من قبل الله في كل وقت، وكذلك اليوم الخطاب وارد من الله على قلوب الخواص في كل وقت بكلّ أمر.   (1) أي لا يكون هناك حساب للمخلوقين. (2) رزق النفوس لأغنياء الأموال. (3) وزرق القلوب لأرباب الأحوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 [سورة الصافات (37) : الآيات 43 الى 46] فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) يستأنس بعضهم برؤية بعض، ويستروح بعضهم إلى لقاء بعض. «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» شراب يوجب لهم الطّرب ولا وحشة هناك، شرابا يحضرهم ولا يسكرهم، لأنه قال: [سورة الصافات (37) : الآيات 47 الى 49] لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فلا تغتال عقولهم، ولا تزيل حشمتهم، ولا ترفع عنهم هيبتهم فقوم يشربون وهم بوصف الستر، وآخرون يسقون في الحضور- وهم على نعت القرب. «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» لا ينظرن إلى غير الوليّ «1» ، ثم الوليّ قد ينظر إليهن، وفيهم من لا ينظر إليهن: جننّا بليلى وهي جنّت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 55] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) يتذاكرون فيما بينهم، ويذكرون من معارفهم من لا يؤمن بالله، وما آمن به المؤمنون فيخلق الله لهم إطلاعا عليه وهم في النار يحترقون. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 56 الى 57] قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)   (1) المقصود به هنا الزوج، أي نساء قد قعسرن طرفهن على أزواجهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 نطق الوليّ بالحقّ ولكنه لم يصرّح يعين التوحيد إذ جعل الفضل واسطة، والأولى أن يقول: ولولا ربى لكنت من المحضرين «1» . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61] إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) يقال: بل الملائكة يقولون لهم هذا، ويقال: الحقّ- سبحانه- إذا أراهم مقامهم في الجنة يقول لهم: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» . ويقال إن كان العابد يقول هذا، أو يقال له هذا إذا ظهرت الجنة فإنه إذا بدت شظية من الحقائق وتباشير الوصلة، أو ذرّة من نسيم القربة فبالحريّ أن يقول القائلون: لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح. على مثل سلمى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من سلمى على اليأس طاويا وهاهنا تضيق العبارات، وتتقاصر الإشارات. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 62] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) ذكر صفة هوان الأعداء، وما هم به من صفة المذلة والعذاب في النار من أكل الضريع، ومن شراب الزقوم التي هي في قبح صورة الشياطين، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ... إلى آخر القصة. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 76] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)   (1) أي نطق بعين الفرق ولو كان بعين الجمع لقال: «ولولا ربى ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 لمّا أصابه من الأذى من قومه حين كذّبوه، ولم يسمعوا منه ما كان يقول من حديثنا.. رجع إلينا، فخاطبنا وخاطبناه، وكلمنا وكلمناه، ونادانا فناديناه، وكان لنا فكّنا له، وأجابنا فأجبناه.. فلنعم المجيب كان لنا ولنعم المجيبون كنّا له! «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» : شتان بين كرب نوح وبين كرب أهله! وما يبكون مثل أخى ولكن ... أعزّى النّفس عنه بالتأسى قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 77] وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) لأنّ الناس كلهم من أولاد نوح، فإنّ من كان معه في السفينة لم يتناسلوا «1» [سورة الصافات (37) : آية 78] وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) يريد به قول الناس عنه إلى يوم القيامة. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 84] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) يعنى أنّ إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام في التوحيد- وإن اختلفا في فروع شرعيهما. «بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» : لا آفة فيه. ويقال لديغ من المحبة. ويقال: سليم من محبة الأغيار. ويقال سليم من حظوظ نفسه وإرادته. ويقال: مستسلم لله في قضائه واختياره. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 85 الى 87] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) سألهم على جهة الإنكار عليهم، والتنبيه لهم على موضع غلطتهم. «فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ؟»   (1) قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 إذا لقيتموه- وقد عبدتم غيره.. فما الذي تقولون له؟ وكيف بكم في مقام الخجلة مما بين أيديكم وإن كنتم اليوم- غافلين عنه؟ قوله جلّ ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 89] فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) قيل أراد «إلى» النجوم فأقام «فِي» مقام «إلى» «1» . «إِنِّي سَقِيمٌ» : كانت تأتيه الحمىّ في وقت معلوم، فقال: قرب الوقت الذي أسقم فيه من أخذ الحمىّ إياى، فكأنه تعلل بذلك ليتأخر عنهم عند ذهابهم إلى عيدهم لتمشية ما كان في نفسه من كسر الأصنام. ويقال كان ذلك من جملة المعاريض. وقيل أرى من نفسه موافقة قولهم في القول بالنجوم لأنهم كانوا يقولون بالنجوم، فتأخر بهذا السبب عنهم «2» . وكان إبراهيم في زمان النبوة فلا يبعد أنّ الله- عزّ وجلّ- قد عرّفه بطريق الوحى أنه يخلق- سبحانه- باختياره أفعالا عند حركات الكواكب. ثم لمّا ذهبوا إلى عيدهم كسّر أصنامهم، فلمّا رجعوا قالوا ما قالوا، وأجابهم بما أجابهم به إلى قوله: [سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98] قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) ردّ الله كيدهم إلى نحورهم. وقد تعرّض له جبريل- عليه السلام- وهو في   (1) ربما نعترض على هذا ... فمع تسليمنا بجواز نيابة حروف الجر بعضها عن بعض إلا أننا نرى أن استعمال «فى» أدق ... فالمقصود من أن ابراهيم «نظر فى» النجوم أنه تأمل وتفكر. بينما لا تؤدى «نظر إلى» أكثر من التطلع بالعين وفرق بين التأمل بالفكر والبصيرة وبين التطلع بالبصر- والله أعلم. (2) أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا، فنظر إلى نجم طالع وقال: إن هذا يطلع مع سقمى- وكان علم النجوم مستعملا عندهم- فأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه. وذلك أنهم كانوا أهل وعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم (القرطبي ص 92 ج 15) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 الهواء وقد رمى من المنجنيق فعرض عليه نفسه قائلا: هل من حاجة؟ فأجاب: أمّا إليك.. فلا! قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 99] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) يقال إنه طلب هداية مخصوصة لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لما ذهب إلى ربّه. ويحتمل أنه كان صاحب هداية في الحال وطلب الهداية في الاستقبال أي زيادة في الهداية، ويقال طلب الهداية على كيفية مراعاة الأدب في الحضور، ويقال طلب الهداية إلى نفسه لأنه فقد فيه قلبه ونفسه فقال سيهدينى إلىّ لأقوم بحقّ عبوديته فإن المستهلك في حقائق الجمع لا يصحّ منه أداء العبادة إلّا بأن يردّ إلى حالة التفرقة والتمييز. ومعنى «إِلى رَبِّي» أي إلى المكان الذي يعبد فيه ربى. ويقال أخبر عن إبراهيم أنه قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي» : فأخبر عن قوله. وأخبر عن موسى فقال: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» ، فأخبر عن صفته لا عن قوله.. وقال في صفة نبينا صلى الله عليه وسلّم: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ... » [فأخبر عن ذاته سبحانه «1» ] وفصل بين هذه المقامات فإبراهيم كان بعين الفرق، وموسى بعين الجمع ونبينا كان بعين جمع الجمع. قوله جلّ ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 100 الى 101] رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) لمّا قال «حَلِيمٍ» نبّه على أنه سيلقى من البلاء ما يحتاج إلى الحلم في تحمله..   (1) ما بين القوسين من عندنا أضفناه للتوضيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 102] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» إشارة إلى وقت توطين القلب على الولد، رأى إبراهيم- عليه السلام- أنه يؤمر بذبح ابنه إسماعيل «1» ليلة التروية، وسميت كذلك لأنه كان يروّى فى ذلك طول يومه. هل هو حقّ أم لا «2» ؟. ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فعرف أن رؤياه حق، فسمى يوم عرفة. وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات «3» : أن اذبح ابنك، فقال لإسماعيل: «يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» فقال إسماعيل: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكون لها تأويل، فإن كان هذا أمرا فافعل بمقتضاه، وإن كان لها تأويل فتثبت «4» ، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقت ولكن لا يمكنك تلافيه. ويقال بل قال: أترك حديث الرؤيا واحمله على الأمر، واحمل الأمر على الوجوب، ثم احمله على الفور ولا تقصّر. ويقال قال له: إن كان يطيب قلبك بأن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبى أن يذبحنى أبى لأجل الله.   (1) اختلف الناس في الذبيح فقال قوم إنه إسحاق وآخرون إنه إسماعيل. وفريق ثالث يقول: الله أعلم به. «وعن الأصمعى أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعى. أين عزب عنك عقلك! ومنى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة» . اه أما إسحق فكان ببيت المقدس. (2) مع أن ابراهيم أخذ يتساءل بينه وبين نفسه عن ذلك إلا أنه من الثابت أن الرسل يأتيهم الوحى أيقاظا ورقودا، فقلوبهم لا تنام، قال صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» . (3) لأجل ذلك سميت الأيام الثلاثة على التوالي يو التروية ويوم عرفة ويوم النحر. (4) هكذا في م وهي في ص (قبلت) ونحن نرجح (فتثبت) بدليل ما بعدها لأنه بعد الذبح يكون قد قضى الأمر. ويأسى ابراهيم إن كان ذلك غير المراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 ويقال قال إسماعيل لأبيه: أنت خليل الله وتنام.. ألم تعلم أن الخليل إذا نام عن خليله يؤمر بذبح ابنه؟ مالك يا أبت والنوم؟ ويقال في القصة: إنه رآه ذات يوم راكبا على فرس أشهب فاستحسنه، ونظر إليه قلبه، فأمر بذبحه، فلمّا أخرجه عن قلبه، واستسلم لذبحه ظهر الفداء، وقيل له كان المقصود من هذا فراغ قلبك عنه. ويقال في القصة: أمر إسماعيل أباه أن يشدّ يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسّه ألم الذّبح فيعاتب، ثم لمّا همّ بذبحه قال: افتح القيد عنى حتى لا يقال لى: أمشدود اليد جئتنى؟ وإنى لن أتحرك: ولو بيد الحبيب سقيت سمّا ... لكان السّمّ من يده يطيب ويقال أيهما كان أشدّ بلاء؟ قيل: إسماعيل لأنه وجد الذّبح من يد أبيه، ولم يتعوّد من يده إلا التربية بالجميل، وكان البلاء عليه أشدّ لأنه لم يتوقع منه ذلك. ويقال بل كان إبراهيم أشدّ بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ويعيش بعده. «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فلم يأت إسماعيل بالدعوى «1» بل تأدّب بلفظ الاستنشاء. ويقال لو قال إسماعيل إمّا لا تقل: «يا بُنَيَّ» بهذه اللطافة، وإمّا لا تقل: «أَنِّي أَذْبَحُكَ» فإنّ الجمع بينهما عجيب! قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 103 الى 107] فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) قيل في التفاسير إنه كان يمرّ بالسكين على حلقه والسكين لا يقطع، فتعجّب ابراهيم، فنودى: يا إبراهيم كان المقصود من هذا استسلامكما. ويقال إن الله ستر عليهما علم ما أريد منهما في حال البلاء، وإنما كشف عنهما بعد مضىّ وقت المحنة لئلا يبطل معنى الابتلاء ... وهكذا يكون الأمر عند البلاء تنسدّ الوجوه   (1) أي دعوى النفس بالمكنة دون تقديم المشيئة الإلهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 فى الحال وكذلك كانت حالة النبيّ صلى الله عليه وسلم في حال حديث الإفك، وكذلك حالة أيوب عليه السلام وإنما يتبيّن الأمر بعد ظهور آخر المحنة وزوالها، وإلّا لم تكن حينئذ محنة [إلّا أنه يكون في حال البلاء إسبال يولى مع مخامرة المحنة] » ولكن مع استعجام الحال واستبهامه، إذ لو كشف الأمر على صاحبه لم يكن حينئذ بلاء قال تعالى: - «إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قيل كان فداء الذبيح يربّى في الجنة قبله بأربعين خريفا. والناس فى «الْبَلاءُ» على أقسام: فبلاء مستعصب وذلك صفة العوام، وبلاء مستعذب وذلك صفة من يستعذبون بلاياهم، كأنهم لا ييأسون حتى إذا قتلوا. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 112] وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وكلّ هذا بعد البلاء قال تعالى: «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 118] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) منّ عليهما بالنبوة، وبالنجاة من فرعون وقومه، وبنصرته عليهم. «وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ» يعنى التوراة. «وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» بالتبري عن الحوّل والقوة، وشهود عين التوحيد. «وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ» . ثم قال جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 123] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) «إِلْياسَ» : قيل هو إدريس، وقيل غيره، وكان بالشام، واسم صنمهم «بعل» ،   (1) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 ومدينتهم بعلبك.. أنذر قومه فكذّبوه، ووعظهم فما صدّقوه، فأهلك قومه. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 133] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) مضت قصته وكيف نجّى أهله إلا امرأته التي شاركتهم في عصيانهم، فحقّ العذاب عليها مثلما عليهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 146] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) فكان في أول أمره يطلب الاستعفاء من النبوة، ولكن لم يعف، ثم استقبله ما استقبله، فلم يلبث حتى رأى نفسه في بطن الحوت في الظلمة: - «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» أي بما يلام عليه، والحقّ- سبحانه- منزّه عن الحيف في حكمه إذ الخلق خلقه، ثم الله راعى حقّ تعبّده، وحفظ ذمام ما سلف له في أداء حقّه فقال: - «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» فإن كرم العهد فينا من الإيمان، وهو منّا من جملة الإحسان، «فالمؤمن قد أخذ من الله خلقا حسنا» - بذلك ورد الخبر. «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ» «سَقِيمٌ» : فى ضعف من الحال لما أثّر من كونه قضى وقتا في بطن الحوت. «وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ» لتظلّه، فإنه كان في الصحراء وشماع الشمس كان يضرّه، وقيّض له الله ظبية ذات ولد كانت تجيء فيرضع من لبنها، فكأنّ الحقّ أعاده إلى حال الطفولية. ثم إنه رحمه، ورجع إلى قومه، فأكرموه وآمنوا به، وكان الله قد كشف عنهم العذاب، لأنهم حينما خرج يونس من بينهم ندموا وتضرّعوا إلى الله لمّا رأوا أوائل العذاب قد أظلّتهم،   (1) تلاحظ أن القشيري يمر سريعا إزاء قصص الأنبياء هنا لأنه توقف طويلا عند كل منها في مواضع سبقت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 فكشف الله عنهم العذاب، وآمنوا بالله، وكانوا يقولون: لو رأينا يونس لو قرّناه، وعظّمناه، فرجع يونس إليهم بعد نجاته من بطن الحوت، فاستقبله قومه، وأدخلوه بلدهم مسكّرّما. ويقال: الذّنب والجرم كانا من قومه، فهم قد توعّدوا بالعذاب. وأمّا يونس فلم يكن قد أذنب ولا ألمّ بمحظور، وخرج من بينهم، وكشف الله العذاب عنهم، وسلموا.. واستقبل يونس ما استقبله بل أنه قاسى اللتيا والتي بعد نجاته ويا عجبا من سرّ تقديره! فقد جاء في القصة أن الله سبحانه- أوحى إلى يونس بعد نجاته أن قل لفلان الفخّار حتى يكسر الجرار التي عملها في هذه السنة كلّها! فقال يونس: يا رب، إنه قطع مدة في إنجاز ذلك، فكيف آمره بأن يكسرها كلّها؟ فقال له: يا يونس، يرقّ قلبك لخزّاف يتلف عمل سنة.. وتريدنى أن أهلك مائة ألف من عبادى؟! يا يونس، إنك لم تخلقهم، ولو خلقتهم لرحمتهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 149] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) لمّا قالوا في صفة الملائكة إنهم بنات الله بيّن الله قبح قولهم، فقال: سلهم من أين قالوا؟ وبأى حجّة حكموا بما زعموا؟ وأي شبهة داخلتهم. ثم إنهم كانوا يستنكفون من البنات، ويؤثرون البنين عليهن.. ومع كفرهم وقبيح قولهم وصفوا القديم- سبحانه- بما استنكفوا منه لأنفسهم! قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) .   (1) تتجلى براعة القشيري في التقاط نماذج من القصص تخدم فكرته العامة بخصوص تأميل العصاة، وإفساح باب التوبة أمامهم ... على عكس بعض الباحثين الذين لا يهمهم إلا التخويف والتبشيع، والتهويل والإقناط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 [أي ما أنتم بفاتنين من الناس إلّا من أغويته بحكمي، فبه ضلّوا لا بإضلالكم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : آية 164] وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) الملائكة لهم مقام معلوم لا يتخطّون مقامهم، ولا يتعدّون حدّهم، والأولياء لهم مقام] «2» مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحدا، والأنبياء لهم مقام مشهور مؤيّد بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخلق قدوة فأمرهم على الشّهر، وأمر الأولياء على السّتر. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 173] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) أي سبقت كلمتنا لهم بالسعادة، وتقدّم حكمنا لهم بالولاية والرعاية، فهم من قبلنا منصورون: - «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» من نصره لا يغلب، ومن قهره لا يغلب. وجنده الذين نصبهم لنشر دينه، وأقامهم لنصر الحقّ وتبيينه ... من أراد إذلالهم فعلى أذقانه يخرّ، وفي حبل هلاكه ينجرّ. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 174 الى 177] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) تولّ عنهم- يا محمد- إلى أن تنقضى آجالهم، وتنتهى أحوالهم. وانتظر انقضاء أيامهم، فإنه سينصرم حديثهم وشيكا: - «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» .   (1) فى هذا الرأى رد على القدرية كما هو واضح. (2) ما بين القوسين الكبيرين جاء في م وسقط في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وإنما قال ذلك فيما كانوا يتمنون قيام الساعة، وكانوا يستعجلون ذلك لفرط جهلهم، ثم لقلة تصديقهم. فإذا نزل العذاب بساحتهم، وأناخ البلاء بعقوتهم فساء صباحهم. فتولّ عنهم فعن قريب سيحصل ما منه يحذرون. قوله جل ذكره: [سورة الصافات (37) : الآيات 180 الى 182] سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) «سُبْحانَ رَبِّكَ» : تقديسا له، وسلام على أنبيائنا، «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ» : أي هو المحمود على ما ساء أم سرّ، نفع أم ضرّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 سورة ص قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . اسم عزيز اعترفت المعارف بالقصور عن إدراكه، اسم جليل تقنّعت العلوم خجلا من الطمع في إحاطته، اسم كريم صغرت الحوائج عند ساحات جوده، اسم رحيم تلاشت قطرات زلّات عباده في تلاطم أمواج رحمته. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) الصّاد مفتاح اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع.. أقسم بهذه الأشياء وبالقرآن. وجواب القسم: «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ» . ويقال: أقسم بصفاء مودة أحبابه والقرآن ذى الذكر أي: ذى الشرف.. وشرفه أنه ليس بمخلوق «1» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 2] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) فى صلابة ظاهرة، وعداوة بيّنة، وإعراض عن البحث للأدلة، والسّرّ للشواهد. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 3] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) بادوا حين هجم البلاء مستغيثين، وقد فات وقت الإشكاء والإجابة. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 4] وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) عجبوا أن جاءهم منذر منهم، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتات آلهة، وهذه مناقضة ظاهرة. فلمّا تحيّروا في شأن أنبيائهم رموهم بالسحر، وقسّموا فيهم القول.   (1) وهذا رأى أهل السّنّة بخلاف ما براه المعتزلة. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 5] أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم، وبعدوا عن ذلك تجويزا، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما، فلا عرفوا الإله ولا معنى الإلهية فإنّ الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، ثم إنّ ذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين، وكلّ أمر جرى ثبوت سقوطه فهو مطروح باطل. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 6] وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) إذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم. قوله جلّ ذكره: [سورة ص (38) : آية 7] ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) ركنوا إلى السوء والعادة، وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلالة، واستناموا إلى التقليد والهوادة. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 8] أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أي لو استبصروا في دينهم لما أقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم، ولولا أنّا أدمنا لهم العوافي لما تفرّغوا إلى طغيانهم «1» .   (1) قال تعالى: الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وقال تعالى: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» تلك هي الحكمة الإلهية في إمهالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 [سورة ص (38) : آية 9] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أي: هؤلاء الكفار الذين عارضوا أو نازعوا، وكذّبوا واحتجّوا.. أعندهم شىء من هذه الأشياء؟ أم هل هم يقدرون على شىء من هذه الأشياء فيفعلوا ما أرادوا، ويعطوا من شاءوا، أو يرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحى على من أرادوا؟ [سورة ص (38) : آية 11] جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) بل هم جند من الأحزاب المتحزبين. كلّهم عجزة لا يقدرون على ذلك، مهزومون. شبّههم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين فإن هؤلاء الكفار ليس معهم حجّة، ولا لهم قوة، ولا لأصنامهم أيضا من النفع والضر مكنة، ولا في الردّ والدفع عن أنفسهم قدرة. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 13] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) الآيات. ذكر هؤلاء الأقوام في هذا الموضع على الجمع، وفي غير هذا الموضع على الإفراد «1» ، وفي كل موضع فائدة زائدة في الفصاحة والإفادة بكل وجه. ثم قال: [سورة ص (38) : آية 14] إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) أي ما كان منهم أحد إلّا كذّب الرسل فحقّت العقوبة عليه، واستوجب العذاب. ثم قال: [سورة ص (38) : آية 15] وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) أي ليسوا ينتظرون إلا القيامة، وما هي إلا صيحة واحدة، وإذا قامت فإنها لا تسكن.   (1) المقصود بالجمع والإفراد هنا الجملة والتفصيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 16] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصبر- يا محمد- على ما يقولون، فإنه لن تطول مدّتهم، ولن نمدّ- فى مقاساتك أذاهم- لبثك ومكثك، وعن قريب سينزل الله نصره، ويصدق لك بالتحقيق وعده. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 17] اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) «ذَا الْأَيْدِ» أي ذا القوة، ولم تكن قوّته قوة نفس، وإنما كانت قوته قوة فعل كان يصوم يوما ويفطر يوما- وهو أشدّ الصوم، وكان قويا في دين الله بنفسه وقلبه وهمته. «أَوَّابٌ» رجّاع «1» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 18 الى 19] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) «2» كان داود يسبّح، والجبال تسبّح، وكان داود يفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيص له بالكرامة والمعجزة. وكذلك الطير كانت تجتمع له فتسبّح الله، وداود كان يعرف تسبيح الطير وكلّ من تحّقق بحاله ساعده كلّ شىء كان بقربه، ويصير غير جنسه بحكمه، وفي معناه أنشدوا: ربّ ورقاء هتوف بالضّحى ... ذات شجو صرخت في فنن ذكرت إلفا ودهرا صالحا ... وبكت شوقا فهاجت حزنى فبكائى ربّما أرّقها ... وبكاها ربما أرّقنى ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمنى غير أنى بالجوى أعرفها ... وهي أيضا بالجوى تعرفنى   (1) من (آب) يثوب إذا رجع، فكان داود رجّاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به (القرطبي ج 15 ص 159) . (2) يرى ابن عباس أن (الإشراق) معناه صلاة الضحى إذ هي بعد طلوع الشمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 20] وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) أي قوّينا ملكه بأنصاره، وفي التفسير: كان يحفظ ملكه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قوله جل ذكره: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» . أي شددنا ملكه بنصرنا له «1» ودفعنا البلاء عنه. ويقال شددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية. ويقال شددنا ملكه بقبض أيدى الظّلمة. ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين. ويقال شددنا ملكه بأن رأى النصرة منّا، وتبرّأ من حوله وقوّته. ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلّونه على ما فيه صلاح ملكه. ويقال بتيقّظه وحسن سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلّ أحد. ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات. «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» : أي أعطيناه الرّشد والصواب، والفهم والإصابة. ويقال العلم بنفسه وكيفية سياسة أمته. ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإحكام الرأى والتدبّر. ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار. وأمّا «فَصْلَ الْخِطابِ» فهو الحكم بالحق، وقيل: البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر. ويقال: القضاء بين الخصوم.   (1) يغمز القشيري هنا بأصحاب السلطان الذين لا يحسنون سياسة الرعية ولا اختيار الوزراء والأعوان ... ونحن نعلم أنه ابتلى في عهد طغرل بمحنة كبرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 22] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) .. الآيات أرسل الله إلى داود عليه السلام ملكين من السماء على صورة رجلين فتحا كما إليه تنبيها له على ما كان منه من تزوّجه بامرأة أوريا، وكان ترك ذلك أولى- هذا على طريق من رأى تنزيه الأنبياء عليهم السلام من جميع الذنوب. وأمّا من جوّز عليهم الصغائر فقال: هذا من جملته. وكنّى الخصمان باسم النعجة عن النساء. وكان داود عليه السلام قال لله سبحانه وتعالى: إنّى لأجد في التوراة أنّك أعطيت الأنبياء الرّتب فأعطنيها، فقال: إنهم صبروا فيما ابتليتهم به، فوعد داود من نفسه الصبر إذا ابتلاه طمعا في نيل الدرجات، فأخبر الله تعالى أنه يبتليه يوم كذا، فجعل داود ذلك اليوم يوم عبادة، واختلى في بيته، وأمر حرّاسه ألا يؤذيه أحد بالدخول عليه، وأغلق على نفسه الباب، وأخذ يصلّى زمانا، ويقرأ التوراة زمانا يتعبّد. أغلق على نفسه الباب ولكن لم يمكنه غلق باب السماء. وأمر حرسه أن يدفعوا عنه الناس وكانوا ثلاثين ألف رجل- ويقال أربعة آلاف- ولكن لم يمكنهم أن يدفعوا عنه حكم القضاء، ولقد قال الحكماء: الهارب مما هو كائن في كفّ الطالب يتقلب. وكانت في البيت كوّة يدخل منها الضوء، فدخل طير صغير من الذهب، ووقع قريبا منه، وكان لداود ابن صغير فهمّ أن يأخذه ليدفعه إلى ابنه «1» ، فتباعد عنه. وجاء في التفاسير: أنه كان إبليس، قد تصوّر له في صورة طير، فتبعه داود، ولم يزل الطائر يتباعد قليلا قليلا، وداود يتبعه حتى خرج من الكوة، ونظر داود في إثره فوقع بصره على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردة، فعاد إلى قلبه منها شىء، فكان هذا السبب. ويقال لم يرع الاهتمام بسبب ولده حتى فعل به ما فعل، وفي ذلك لأولى الأبصار عبرة «2» .   (1) نقل القرطبي هذه الرواية منسوبة إلى القشيري ج 15 ص 182. (2) يحاول القشيري في تلمسه لسبب محنة داود أن يوضح المريدين أنه حتى الأكابر قد تحل بهم البلوى نتيجة المساكنة إلى غيره، فيغار الحق عليهم وينزل بهم من الأمر ما يردهم إلى الحق ... وذلك فضل الله سبحانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 ويقال لم يكن أوريا قد تزوّج بها بعد، وقد كان خطبها، وأجابته في التزوج به، فخطب داود على خطبته. وقيل بل كانت امرأته وسأله أن ينزل عنها، فنزل على أمره وتزوجها. وقيل بل أرسل أوريا إلى قتال الأعداء فقتل وتزوّج بها. فلمّا تسوّر الخصمان عليه، وقيل دخلا من سور المحراب أي أعلاه ولذلك: - «فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» نحن خصمان ظلم بعضنا بعضا، فاحكم بيننا بالعدل: [سورة ص (38) : آية 23] إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) «أَكْفِلْنِيها» أي انزل عنها حتى أكفلها أنا، «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» . أي غلبنى، فقال داود: [سورة ص (38) : آية 24] قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فضحك أحدهما في وجه صاحبه، وصعد إلى السماء بين يديه، فعلم داود عند ذلك أنه تنبيه له وعتاب فيما سلف منه، وظنّ واستيقن أنه جاءته الفتنة الموعودة: أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه من السجود إلا (للصلاة) «1» المكتوبة عليه، وأخذ يبكى حتى نبت العشب من دموعه، ولم يأكل ولم   (1) (الصلاة) غير واردة في النسختين وقد استعنا بالقرطبي في هذه التكملة (ج 15 ص 185) وقد وجدناها- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 يشرب في تلك المدة، حتى أوحى الله إليه بالمغفرة، فقال: يا رب، فكيف بحديث الخصم؟ فقال: إنى استوهبتك «1» منه، وقال تعالى: [سورة ص (38) : آية 25] فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) إن له عندنا لقربة وحسن رجوع، وقيل: كان لا يشرب الماء إلا ممزوجا بدموعه. ويقال لمّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وجد المغفرة والتجاوز.. وهكذا من رجع في أوائل الشدائد إلى الله فالله يكفيه مما ينوبه، وكذلك من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربّك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربّك «2» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 26] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) «جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» أي بعد من تقدّمك من الأنبياء عليهم السلام. وقيل حاكما من قبلى لتحكم بين عبادى بالحقّ، وأوصاه بألا يتبع في الحكم هواه تنبيها على أنّ أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى. ولما ذكر الله هذه القصة أعقبها بقوله: [سورة ص (38) : آية 27] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)   - ضرورية لنوضح كيف أن التعبد الفائق الذي يمارسه الخاصة لا يمنع من رجوعهم في حال الفرق الثاني إلى أن يقوموا بالتعبد الذي تفرضه الشريعة. وربما كان ذلك مقصد القشيري من اختيار هذه الرواية ... والواقع أن القشيري يجيد اختيار الشواهد من القصص والأخبار، واضعا في الاعتبار خدمة التصوف وأهله. (1) أي استوهبتك منه بثواب الجنة (القرطبي ج 15 ص 185) . (2) هكذا يفتح القشيري أبواب الأمل أمام العصاة، ويدفع عنهم القنوط من رحمة الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 «باطِلًا» أي وأنا مبطل في خلقهما، بل كان لى ما فعلت وأنا فيه محقّ. ويقال ما خلقتهما للبطلان بل لأمرهما بالحقّ. ثم أخبر أنه لا يجعل المفسدين كالمحسنين قط، ثم قال: [سورة ص (38) : آية 29] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) «1» «مُبارَكٌ» وهو القرآن، ومبارك أي كبير النّفع، ويقال مبارك أي دائم باق لا ينسخه كتاب من قولهم برك الطير على الماء. ويقال مبارك لمن آمن به وصدّق. ثم إنه بيّن أنّ البركة في تدبّره والتفكّر في معانيه. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 30] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) «نِعْمَ الْعَبْدُ» لأنه كان أوّابا إلى الله، راجعا إليه في جميع الأحوال فى النعمة بالشكر، وفي المحنة بالصبر. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 31] إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) «الصَّافِناتُ» جمع صافنة وهي القائمة، وفي التفاسير هي التي تقوم على ثلاث قوائم إذ ترفع إحدى اليدين على سنبكها «2» . وجاء في التفاسير أن سليمان كان قد غزا أهل   (1) فى الآلوسى أن عليا قرأ «ليتدبروا» بتاء بعد الياء، وكذا فى «البحر» لأبى حيان. (2) السنبك طرف الحافر، والصفون في اللغة إدامة القيام، قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوا مقعده من النار» وقال الشاعر: ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا (اللسان: مادة صفن) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 دمشق، وأصابها منهم «1» ، وقيل ورثها عن أبيه داود وكان قد أصابها من العمالقة «2» ، وقيل كانت خيلا لها أجنحة خرجت من البحر «3» . وفي بعض التفاسير عرض عليه عشرون ألف فرص فشغلته عن بعض أذكاره لله. «بِالْعَشِيِّ» : فى آخر النهار، وقيل كان ذلك صلاة العصر «4» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 32 الى 33] فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) قيل أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها بعد أن فرغ من صلاته. وقيل عرقبها (ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار) «5» ، وقيل وضع عليها الكىّ فسبّلها «6» . وإيش ما كان فكلّ ذلك كان جائزا في شرعه. قوله جل ذكره: «فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» «7» . أي لصقت بالأرض لحبّ المال. ويقال لمّا سبّل هذه الأفراس عوّضه «8» الله- سبحانه- بأن سخّر له الريح، وهذا أبلغ، وكلّ من ترك شيئا لله لم يخسر على الله. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 34] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) .   (1) هذه رواية الكلبي. [ ..... ] (2) هذه رواية مقاتل. (3) هذه رواية الحسن والضحاك. (4) ينقل القرطبي عن أبى نصر القشيري بن عبد الكريم القشيري قوله: ما كان في ذلك الوقت صلاة ظهر ولا صلاة عصر وإنما كانت تلك الصلاة نافلة، وشغل عنها ثم تذكرها. (5) ما بين القوسين زيادة أضفناها، اقتبسناها من القرطبي من الموضع نفسه حتى يتضح المعنى الذي يتجه إليه القشيري (ج 15 ص 196) . (6) سبل الشيء أي أباحه وجعله في سبيل الله. (7) اختلف في التي «توارت بالحجاب» فقيل هي الشمس، وقيل هي الخيل وقد استعرضها حتى توارت الجهاد. (8) هكذا في م وهي في ص (عرضه) بالراء والصحيح ما أثبتناه عن م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 اختلف الناس في هذه الفتنة ومنها أنه كانت له مائة امرأة فقال: لأطوفنّ على هؤلاء فيولد من كل واحدة منهن غلام يقاتل في سبيل الله» «1» ولم يقل إن شاء الله، ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق مولود، فألقته على كرسيّه، فاستغفر ربه من ترك الاستنشاء، وكان ذلك ترك ما هو الأولى. وقيل كان له ابن، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه، فهمّوا بقتله، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطين، فمات الولد، وألقته الريح على كرسيه ميتا. فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء، وكان الأولى به التوكل وترك الاستعانة بالريح. وقيل في التفاسير: إنه تزوج بامرأة «2» كانت زوجة ملك قهره سليمان، وسباها، فقالت له: إن أذنت لى أن اتّخذ تمثالا على صورة لأبى لأتسلّى بنظري إليه؟ فأذن لها، فكانت (تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يوما) ، وكانت تعبده سرّا، فعوقب عليه «3» . وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت من أحبّ نسائه إليه، وكان إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه ودفعه إليها، وهي على باب الخلاء، فإذا خرج استردّه. وجاء يوما شيطان يقال له «صخر» على صورة سليمان وقال لامرأته: ادفعي إليّ الخاتم فدفعته، ولبسه، وقعد على كرسيه، يمشّى أموره- إلا التصرف في نسائه- فقد منعه الله عن ذلك. فلمّا خرج سليمان طالب المرأة بالخاتم، فقالت: الساعة دفعته إليك. فظنّ أنه فتن، وكان إذا أخبر الناس أنه سليمان لا يصدّقونه، فخرج (هاربا إلى ساحل البحر) ، وأصابته شدائد، وحمل سمك الصيادين بأجرة حتى يجد قوتا. ولما اتهم (بنو إسرائيل) الشيطان (واستنكروا حكمه) نشروا التوراة بين يديه،   (1) فى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال: «قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتى بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفسى محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» . (2) هذه المرأة- كما يقول الزمخشري- هى «جرادة ابنة ملك جزيرة في البحر يقال لها صيدون. (3) وكانت عقوبته حرمانه من ملكه أربعين يوما- هى مدة عبادة الصنم في بيته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 ففرّ ورمى بالخاتم في البحر، وطار في الهواء. ولمّا أذن الله ردّ ملك سليمان إليه، ابتلعت سمكة خاتمه، ووقعت في حبال الصيادين، ودفعوها إلى سليمان في أجرته، فلمّا شقّ بطنها ورأى خاتمه لبسه، وسجد له الملاحون، وعاد إلى سرير ملكه «1» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 35] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) أي ملكا لا يسلبه أحد منى بعد هذا كما سلب منى في هذه المرة. وقيل أراد انفراده به ليكون معجزة له على قومه. وقيل أراد أنه لا ينبغى لأحد من بعدي أن يسأل الملك، بل يجب أن يكل أمره إلى الله فى اختياره له. ويقال لم يقصد الأنبياء، ولكن قال لا ينبغى من بعدي لأحد من الملوك. وإنما سأل الملك لسياسة الناس، وإنصاف بعضهم من بعض، والقيام بحقّ الله، ولم يسأله لأجل ميله إلى الدنيا.. وهو كقول يوسف: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» «2» . ويقال لم يطلب الملك الظاهر، وإنما أراد به أن يملك نفسه، فإن الملك- على الحقيقة- من يملك نفسه، ومن ملك نفسه لم يتّبع هواه. ويقال أراد به كل حاله في شهود ربّه حتى لا يرى معه غيره. ويقال سأل القناعة التي لا يبقى معها اختيار. ويقال علم أن سرّ نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- ألا يلاحظ الدنيا ولا ملكها   (1) تلاحظ أن القشيري- وإن تجنب الوقوع في كثير من الروايات السخيفة مثل اجتماع سليمان بالنساء فى حيضهن، ومثل قضائه في الناس بغير الحق ونحو ذلك- إلا أنه لم يستطع التخلص من الروايات المتأثرة بالإسرائيليات لأننا لا نستطيع أن نتصور وقوع نبى كسليمان أو كداود في مثل هذه المزالق التي لا ينحدر إليها نبى. (2) آية 55 سورة يوسف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فقال: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» لا لأنه بخل به على نبيّنا صلى الله عليه وسلم ولكن لعلمه أنه لا ينظر إلى ذلك. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 36] فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) شكر الله سعيه، وسخّر له الريح بدلا من الأفراس فلا يحتاج في إمساكها إلى العلف والمؤن. [سورة ص (38) : الآيات 37 الى 39] وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) كما سخّرنا له الشياطين. ثم قال: «هذا عَطاؤُنا..» أي فأعط أو أمسك، واحفظ وليس عليك حساب. والمشي في الهواء للأولياء، وقطع المسافات البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعا في هذه الأمة- وإن لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين. وإظهاره على خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفه يدلّ على أن مقامه- صلى الله عليه وسلم- أشرف «1» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 41] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) أي بما كان يوسوس إليه بتذكيره إياه ما كان به من البليّة، وقيل لما كان قال (أي الشيطان) لامرأته: اسجدي لى حتى أردّ عليكم ما سلبتكم. ويقال إن سبب ابتلائه أنه استعان به مظلوم فلم ينصره.. فابتلى. ويقال استضاف الناس يوما فلمّا جاءه ابن فقير منعه من الدخول.   (1) من مبادئ نظرية القشيري في الكرامة: أن كرامة الولي فرع لمعجزة النبي الذي ينتمى الولي إلى أمته، فكل شرف للولى هو في الأصل شرف للنبى وآية حظوته ورتبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 ويقال كان يغزو ملكا كافرا، وكان لأيوب غنم في ولايته، فداهنه لأجل غنمه فى القتال. ويقال حسده إبليس، فقال: لئن سلّطتنى عليه لم يشكر لك. ويقال كان له سبع بنات وثلاثة بنين في مكتب واحد، فجرّ الشيطان الاسطوانة فانهدم البيت عليهم. ويقال لبث أيوب في البلاء ثمانى عشرة سنة، وقيل أربعين سنة، وقيل «1» سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 42] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) «2» لمّا أراد الله كشف البلاء عنه قال له: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» ، فركض، فظهرت عين ماء بارد فاغتسل به، فعاد إليه جماله وكماله. وقيل الأولى كانت عينا حارة والثانية باردة، واغتسل، وردّ الله لحمه وشعره وبشره، وأحيا أولاده وأهله، وقيل بل يردّهم إليه في الجنة فى الآخرة. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 44] وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) الضّغث الحزمة من القضبان، وقيل كانت مائة، وأمر بأن يضرب بها دفعة على امرأته لئلا يحنث في يمينه، فإنه كان قد حلف أن يضربها مائة خشبة إن صحّ (أنها أخطأت) . فشكر   (1) الرواية الأخيرة منسوبة إلى ابن عباس. [ ..... ] (2) رفض أبو الفرج الجوزي احتجاج بعض المتصوفة بهذه الآية على إباحة الرقص. والواقع أن ذلك يمنح القشيري تقديرا خاصا لأنه لو كان يؤيد ذلك الاحتجاج لقال به، بل لم يشر إليه، كما لم يشر عند الآية التي سبقت في هذه السورة: «ردوها على فطفق ... » إلى ما يحتج به بعض المتصوفة من تمزيق الخرقة وتقطيع الثياب، فهذه في رأيه استدلالات فاسدة يلجأ إليها الطغام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 الله لها لبراءة ساحتها، وصبرها على خدمته. وسبب يمينه أنه لما قال لها إبليس: اسجدي لى أخبرت أيوب بذلك، فغاظه حيث سمعت من إبليس ذلك وظنّت أنه صادق. وقيل باعث ذوائبها برغيفين حملتهما إليه فتوهّم في ذلك ريبة، وكان أيوب يتعلّق بذوائبها (إذا أراد القيام) . وقيل رابه شىء منها فحلف (أن يضربها بعد شفائه) . «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً..» : والصبر ألا تعترض على التقدير. ويقال الصبر الوقوف تحت الحكم. ويقال التلذّذ بالبلاء، واستعذابه دون استصعابه. ويقال الصبر الوقوف مع الله بحسن الأدب. ولم ينف قوله «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» اسم الصبر عنه لأنّ ذلك لم يكن على وجه الشكوى، ولأنه كان مرة واحدة، وقد وقف الكثير من الوقت ولم يقل مسّنى الضّرّ فكان الحكم للغالب. «نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» لم يشغله البلاء عن المبلى. ونعم العبد لأنه خرج من البلاء على الوجه الذي دخل فيه. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 47] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) «أُولِي الْأَيْدِي» : أي القوة «1» . «وَالْأَبْصارِ» أي البصائر. «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ» : أي بفضيلة خالصة وهي ذكر الجنة والنار، أو بدعاء الناس إلى الجنة والهرب من النار. ويقال بسلامة القلب من ذكر الدارين فلا يكون العمل على ملاحظة جزاء. ويقال تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكرى الدار، «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 48] وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)   (1) يرى الطبري أن (الأيدى هنا معناها: النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا الخير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 «وَذَا الْكِفْلِ» : قيل كان تكفّل لله بعمل رجل صالح مات في وقته، وقيل كفل مائة من بنى إسرائيل هربوا من أمير لهم ظالم، فكان ينفق عليهم. ويقال كان اليسع وذو الكفل أخوين. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 49] هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) أي هذا القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء والقصص. ويقال إنّه شرف لك لأنه معجزة تدل على صدقك، وإن للذين يتّقون المعاصي لحسن المنقلب. [سورة ص (38) : الآيات 50 الى 52] جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) أي إذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالترحاب «1» والتبجيل. متكئين فيها على أرائكهم، يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب على ما يشتهون، وعندهم حور عين قاصرات الطّرف عن غير أزواجهن، «أَتْرابٌ» : لدات مستويات في الحسن والجمال والشكل. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 53] هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) لشرّ مرجع ومنقلب وهي جهنم يدخلونها فيبقون معذّبين فيها، وبئس المكان ذلك! [سورة ص (38) : آية 57] هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) «حَمِيمٌ» : هو الماء الحار، و «غَسَّاقٌ» هو عصارة أهل النار «2» ، ويقال هو زمهرير جهنم «3» .   (1) هكذا في م وهي في ص (بالإيجاب) ونحن نؤثر (بالترحاب) لتقابل ما يقال لأهل النار فيما بعد (لا مرحبا بهم) (2) هذا قول محمد بن كعب. (3) هذا قول ابن عباس. وقال عبد الله بن عمرو: هو قيح غليظ نتن. وقال قتاده: هو ما يسيل من فروج الزناة، ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح. وقال آخرون إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره (القرطبي ح 15 ص 222) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 [سورة ص (38) : آية 58] وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) أي فنون أخرى من مثل ذلك العذاب. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 59 الى 61] هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) هؤلاء قوم يقتحمون النار معكم وهم أتباعكم، ويقول الأتباع للمتبوعين: لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا بأمركم فوافقناكم، ويقولون: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ فيقال لهم كلّكم فيها، ولن يفتر العذاب عنكم. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 62 الى 63] وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) ؟. يقول الكفار عند ما يدخلون النار: ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم في الدنيا من الأشرار والمستضعفين.. فلسنا نراهم هاهنا؟ أهم ليسوا هنا أم زاغت عنهم أبصارنا؟ يقوله أبو جهل وأصحابه يعنون بلالا والمستضعفين، فيعرّفون بأنهم في الفردوس، فتزداد حسراتهم. [سورة ص (38) : آية 64] إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) أي إن مخاصمة أهل النار في النار لحقّ. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 65] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) قل يا محمد: إنما أنا منذر مخوّف، مبلّغ رسالة ربى، وما من إله إلا الله الواحد الذي لا شريك له. [سورة ص (38) : الآيات 67 الى 70] قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 أي الذي أتيتكم به من الأخبار عن القيامة والحشر، والجنة والنار، وما أخبرتكم به عن نبوّتى وصدقى هو نبأ عظيم، وأنتم أعرضتم عنه. وما كان لى من علم بالملأ الأعلى واختصامهم فيه لولا أنّ الله عرّفنى، وإلا ما كنت علمته. والملأ الأعلى قوم من الملائكة في السماء العليا، واختصامهم كان في شأن آدم حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وقد ورد في الخبر: «أن جبريل سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الاختصام فقال: لا أدرى. فقال جبريل: فى الكفارات والدرجات فالكفارات إسباغ الوضوء فى السّبرات «1» ، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» «2» . وإنما اختلفوا في بيان الأجر وكمية الفضيلة فيها- فيجتهدون ويقولون إن هذا أفضل من هذا، ولكنهم في الأصل لا يجحدون. .. وهذا إنما يوحى إليّ وأنا منذر مبين. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : آية 71] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) إخباره الملائكة بذلك إنما يدلّ على تفخيم شأن آدم لأنه خلق ما خلق من الكونين «3» ،   (1) السبرات جمع سبرة بسكون الباء وهي الغداة الباردة. (2) روى الخبر أبو الأشهب عن الحسن هكذا: «سألنى ربى فقال: يا محمد، فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات والدرجات، قال: ما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات .... » أخرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس، وقال فيه حديث غريب. وعن معاذ بن جبل أيضا وقال: حديث حسن صحيح. (3) هكذا في م وهى في ص (المكذبين) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 والجنة والنار، والعرش والكرسي، والملائكة، ولم يقل في صفة شىء منها ما قال في صفة آدم وأولاده. ولم يأمر بالسجود لأحد ولا لشىء إلا لآدم، وسبحان الله! خلق أعزّ خلقه من أذلّ شىء وأخسّه وهو التراب والطين. [سورة ص (38) : الآيات 72 الى 74] فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) روح آدم- وإن كانت مخلوقة- فلها شرف على الأرواح لإفرادها بالذكر، فلمّا سوّى خلق آدم، وركّب فيه الروح جلّله بأنوار التخصيص، فوقعت هيبته على الملائكة، فسجدوا لأمره، وظهرت لإبليس شقاوته، ووقع- بامتناعه- فى اللعنة. [سورة ص (38) : الآيات 75 الى 76] قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) من هنا وقع في الغلط توهّم أنّ التفضيل من حيث البنية والجوهرية، ولم يعلم أن التفضيل من حيث القسمة دون الخلقة. ويقال ما أودع الله- سبحانه- عند آدم لم يوجد عند غيره، ففيه ظهرت الخصوصية. قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 77 الى 78] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قال فاخرج من الجنة، ومن الصورة التي كنت فيها، ومن الحالة التي كنت عليها، «فَإِنَّكَ رَجِيمٌ» مرميّ باللّعن منى، وبالشّهب من السماء، وبالرجوم من قلوب الأولياء إن تعرّضت لهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 79 الى 81] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) من كمال شقاوته أنه جرى على لسانه «1» ، وتعلّقت إرادته بسؤال إنظاره، فازداد إلى القيامة في سبب عقوبته، فأنظره الله، وأجابه، لأنه بلسانه سأل تمام شقاوته. [سورة ص (38) : الآيات 82 الى 83] قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ولو عرف عزّته لما أقسم بها على مخالفته. ويقال تجاسره في مخاطبة الحقّ- حيث أصرّ على الخلاف وأقسم عليه- أقبح وأولى فى استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم «2» . قوله جل ذكره: [سورة ص (38) : الآيات 84 الى 86] قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) وختم الله سبحانه السورة بخطابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: [سورة ص (38) : الآيات 87 الى 88] إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)   (1) فى هذه الإشارة دقة تحتاج إلى تأمل، فقول القشيري «جرى على لسانه» تفيد أن مأساة إبليس ترجع إلى مشيئة عليا، وإن كان ظاهر اللفظ أنه بلسانه اختار طريقه، وبإرادته سعى إلى إنظاره. وهكذا يغمز القشيري بمن يحاولون نسبة الحرية للإنسان- مع أن الحرية وبال ونكال. ويذكّرنا هذا الموقف بقولة ابن عربى فى (شجرة الكون) عند شرح «كن فيكون» أن فى «كن» كل شىء فى الكاف كمال الدين والكفر، وفي النون النعمة والنقمة ... فالله خالق كل شىء حين خاطب الكون: «كن» (2) فى هذه الإشارة لفتة إلى مقصد بعيد: أن الوقوع في الذنب أمر قبيح ولكن الإصرار على الذنب أقبح. وهذا حث للعصاة على الإقلاع عن المعاصي، وعدم اليأس من رحمة الله. وتطالعنا سماحة القشيري في هذا الخصوص فى مواضع مختلفة من هذا الكتاب، وكذلك أنظر باب «التوبة» فى الرسالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 ما جئتكم من حيث أنا «1» ، ولا باختياري، وإنما أرسلت إليكم. «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» يعنى القرآن، عظة لكم. «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» وعلم صدقه بعد ما استمرت شريعته، فإن مثل ذلك إذا كان باطلا لا يدوم «2» .   (1) أي من طرفى أو من جهتى. (2) أي أن دوام الشريعة وخلودها من آيات صحتها وصدقها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 سورة الزمر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة سماعها يوجب للقلوب شفاءها، وللأرواح ضياءها، وللأسرار سناءها وعلاءها. كلمة من سمعها بسمع العلم ازداد بصيرة على بصيرة، ثم بلطائف من التعريف غير محصورة. ومن سمعها بسمع الوجد ظلّت ألبابه مبهورة، وأسراره بقهر الكشوفات منشورة. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) أي هذا كتاب عزيز نزل من ربّ عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة عزيزة بأمر عزيز. وفي ورود الرسول به من الحبيب الأول نزهة لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، وارتياح عند قراءة فصولها. وكتاب موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى، وكتاب نبيّنا صلى الله عليه وسلم نزل به الروح الأمين على قلب المصطفى صلوات الله عليه.. وفصل بين من يكون كتاب ربّه مكتوبا في ألواحه، وبين من يكون خطاب ربّه محفوظا في قلبه، وكذلك أمته، قال تعالى: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «1» » . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 2] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أي أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق، وأنا محقّ في إنزاله.   (1) آية 49 سورة العنكبوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع. وتكون بالنّفس والقلب والروح فالتى بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقّى عن طلب الاختصاص «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 3] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) الدين الخالص ما تكون جملته لله فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد، اللهم أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لما صحّ أن يكون في العالم مخلص. «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ... » أي الذين عبدوا الأصنام قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» ، ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بأمره ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فردّ الله عليهم. وفي هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت، وما يعقد بينه وبين الله من عقود ثم لا يفى بها.. فكل ذلك اتباع هوى، قال تعالى: «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «2» » . قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ لا تهديهم اليوم لدينه، ولا في الآخرة إلى ثوابه. والإشارة فيه إلى تهديد من يتعرّض لغير مقامه، ويدّعى شيئا ليس بصادق فيه، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده. وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدّى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.   (1) تصلح هذه الفقرة لتوضيح درجات العبادة ودرجات الإخلاص، والآفات التي تلحق كل درجة منها، وكيفية التنقى عن هذه الآفات- وبمعنى آخر فإنها تهمنا عند ما نبحث أصول ما أطلقنا عليه: علم النفس الصوفي. [ ..... ] (2) آية 27 سورة الحديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 4] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خاطبهم على قدر عقولهم وعقائدهم حيث قالوا: المسيح ابن الله، وعزيز ولد الله فقال: لو أراد أن يتّخذ ولدا للتبنّى والكرامة لاختار من الملائكة الذين هم منزّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخلق. ثم أخبر عن تقدّسه عن ذلك فقال: «سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» تنزيها له عن اتخاذ الأولاد.. لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نعته، ولا بالتبنى لتقدّسه عن الجنسية والمحالات، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد إذ لو كان ذلك فكيف كان يكون حكمه؟ كقوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» » . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 5] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) أي خلقهما وهو محقّ في خلقهما. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل في الزيادة والنقصان، وسخّر الشمس والقمر. وقد مضى فيما تقدم اختلاف أحوال العبد في القبض والبسط، والجمع والفرق، والأخذ والرد، والصحو والسّكر، ونجوم العقل وأقمار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالى الشّكّ والجحد ونهار الوصل، وليالى الهجر والفراق وكيفية اختلافها، وزيادتها ونقصانها. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ «الْعَزِيزُ» المتعزّز على المحبين، «الْغَفَّارُ» للمذنبين.   (1) آية 22 سورة الأنبياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 6] خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» يعنى آدم وحواء. «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» أي خلق لكم، «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» فمن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المواشي اثنين. «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» : أي يصوّركم، ويركّب أحوالكم. «فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» : ظلمة البطن، وظلمة الرّحم، وظلمة المشيمة «1» . ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم. ويقال بيّن آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خلقتك- من قطرتين- أمشاجا متشاكلة الأجزاء، مختلفة الصّور في الأعضاء، سخّر بعضها محالّ للصفات الحميدة كالعلم والقدرة والحياة.. وغير ذلك من أحوال القلوب، وسخّر بعضها محالّ للحواس كالسمع والبصر والشّمّ وغيرها. ويقال هذه كلها نعم أنعم الله بها علينا فذكّرنا بها- والنفوس مجبولة، وكذلك القلوب على حبّ من أحسن إليها- استجلابا لمحبتنا له. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ... » «2» أي إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو ربّكم.   (1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (البشيمة) والظلمات الثلاث التي أوردها القشيري على هذا النحو قالها ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم (القرطبي ج 15 ص 236) . (2) يبدو أن القشيري منذ هذه اللحظة وحتى الاية الكريمة التالية انتابته حالة من حالات الذكر، فجاءت كلماته أشبه بالتسبيح والنجوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 أي: أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صوّرتكم فأحسنت صوركم، وأنا الذي أسبغت عليكم إنعامى، وخصعتكم بجميل إكرامى، وأغرقتكم في بحار أفضالى، وعرفتكم استحقاق جمالى وجلالى، وهديتم إلى توحيدى، وألزمتكم رعاية حدودى ... فما لكم لا تنقطعون بالكلية إليّ؟ ولا ترجون ما وعدتكم لديّ؟ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليّ؟ قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 7] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) إن أعرضتم وأبيتم، وفي جحودكم تماديتم.. فما نفتقر إليكم إذ نحن أغنياء عنكم، ولكنّى لا أرضى لكم أن تبقوا عنى! يا مسكين ... أنت إن لم تكن لى فأنا عنك غنيّ، وأنا إن لم أكن لك فمن تكون أنت؟ ومن يكون لك؟ من الذي يحسن إليك؟ من الذي ينظر إليك؟ من الذي يرحمك؟ من الذي ينثر التراب على جراحك؟ من الذي يهتم بشأنك؟ بمن تسلو إذا بقيت عنّى؟ من الذي يبيعك رغيفا بمثاقيل ذهب؟!. عبدى.. أنا لا أرضى ألا تكون لى وأنت ترضى بألا تكون لى! يا قليل الوفاء، يا كثير التجنّى! إن أطعتنى شكرتك، وإن ذكرتنى ذكرتك، وإن خطوت لأجلى خطوة ملأت السماوات والأرضين من شكرك: لو علمنا أنّ الزيارة حقّ ... لفرشنا الخدود أرضا لترضى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 8] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) إذا مسّه ضرّ خشع وخضع، وإلى قربه فزع، وتملّق بين يديه وتضرع. فإذا أزال عنه ضرّه، وكفاه أمره، وأصلح شغله نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أندادا، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويشرك بمعبوده. هذه صفته ... فسحقا له وبعدا، ولسوف يلقى عذابا وخزيا. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 9] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) «1» «قانِتاً» : القنوت هو القيام، وقيل طول القيام. والمراد هو الذي يقوم بحقوق الطاعة أوقات الليل والنهار أي في جميع الأوقات. والهمزة للاستفهام أي أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟ أمن هو قانت كالكافر الذي جرى ذكره؟ أي ليس كذلك. ويقال القنوت القيام بآداب الخدمة ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير. «يَحْذَرُ» العذاب الموعود في الآخرة، «وَيَرْجُوا» الثواب الموعود. وأراد بالحذر الخوف. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ   (1) قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وقال ابن عمر: نزلت في عثمان بن عفان. وقال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر. (اسباب النزول للواحدى ص 247) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 أي هل يستويان؟ هذا في أعلى الفضائل وهذا في سوء الرذائل! «الَّذِينَ يَعْلَمُونَ» : العلم فى وصف المخلوق على ضربين: مجلوب مكتسب للعبد، وموهوب من قبل الربّ. ويقال مصنوع وموضوع. ويقال علم برهان وعلم بيان فالعلوم الدينية كلّها برهانية إلّا ما يحصل بشرط الإلهام. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 10] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) أطيعوه واحذروا مخالفة أمره. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا» بأداء الطاعات، (والإحسان هو الإتيان بجميع وجوه الإمكان) «1» . «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» : أي لا تتعلّلوا بأذى الأعداء إن نبا بكم منزل فتعلّلكم بمعاداة قوم ومنعهم إياكم- لا يسمع، فأرض الله واسعة، فاخرجوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتكم «2» . «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» . والصبر حبس النّفس على ما تكرهه. ويقال هو تجرّع كاسات التقدير من غير استكراه ولا تعبيس. ويقال هو التهدّف «3» لسهام البلاء. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 12] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)   (1) تأخر ما بين قوسين فجاء بعد (السهام البلاء) فوضعناه في هذا المكان لأنه يوضح المقصود بتوضيح «أحسنوا» . (2) يقول القشيري في إحدى وصاياه للمريدين حاثا على السفر: «إن ابتلى مريد بجاه أو معلوم أو صحبة حدث أو ميل إلى امرأة أو استنامة إلى معلوم وليس هناك شيخ يدله على ما به يتخلص من ذلك فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع ليشوش على نفسه تلك الحالة» (الرسالة ص 202) . (3) التهدف- الدنو والاستقبال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 مضى القول في معنى الإخلاص. وفي الخبر: إن الله يقول: «الإخلاص سرّ بين الله وعبده» «1» . ويقال الإخلاص لا يفسده الشيطان، ولا يطّلع علية الملكان. «أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ..» أمرت لأن أكون أول المسلمين في وقتى وفي شرعى. والإسلام الانقياد لله بكل وجه. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 13] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) أخاف أصناف العذاب التي تحصل في ذلك اليوم. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 14 الى 15] قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) هذا غاية الزجر والتهديد، ثم بيّن أن ذلك غاية الخسران، وهو الخزي والهوان. والخاسر- على الحقيقة- من خسر دنياه بمتابعة الهوى، وخسر عقباه بارتكابه ما الربّ عنه نهى، وخسر مولاه فلم يستح منه فيما رأى. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 16] لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) أحاط بهم سرادقها فهم لا يخرجون منها، ولا يفترون عنها. كما أنهم اليوم في جهنم   (1) أخطأ الناسخ في ص إذ جعلها (ستر) بالتاء والصواب هى (سر) ، وقد ورد الخبر في الرسالة هكذا: أخبر النبي (ص) عن جبريل عن الله سبحانه أنه قال: «الإخلاص سر من سرى استودعته قلب من أحببته من عبادى» (الرسالة ص 104) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 عقائدهم يستديم حجابهم، ولا ينقطع عنهم عقابهم «1» . «ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ... » إن خفت اليوم كفيت خوف ذلك اليوم وإلّا فبين يديك عقبة كوود. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 17] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) «2» طاغوت كلّ إنسان نفسه وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضا مولاه. وعبادة النّفس بموافقة الهوى- وقليل من لا يعبد هواه، ويجتنب حديث النّفس. «وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» : أي رجعوا إليه في كل شىء. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 18] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) «3» «يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» يقتضى أن يكون الاستماع لكل شىء، ولكن الاتباع يكون للأحسن. «أَحْسَنَهُ» : وفيه قولان أحدهما أن يكون بمعنى الحسن ولا تكون الهمزة للمبالغة، كما يقال ملك أعزّ أي عزيز. والثاني: والأحسن على المبالغة، والحسن ما كان مأذونا فيه في صفة الخلق ويعلم ذلك بشهادة العلم «4» ، والأحسن هو الأولى والأصوب. ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصا له. ويقال من عرف الله لا يسمع إلا بالله.   (1) إن استيلاء الحب على قلب الصوفي يجعله ينظر إلى العقوبة في الآخرة على أنها أقل تعذيبا إذا قيست بعذاب الهجر والنأى، أو على حد تعبيرهم جهنم الاحتراق أخف من جهنم الفراق.. ولهم في ذلك أقوال جريئة كثيرة (انظر كتابنا: نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف ص 248) . (2) قال ابن زيد: نزلت هذه الآية في ثلاثة أنفار كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، وهم زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي (الواحدي ص 247) . (3) نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعيد بن زيد وسعد بن أبى وقاص وكان استماعهم لأبى بكر وهو يخبرهم بإيمانه (الواحدي ص 247، 248) . (4) استخدم القشيري هذا المفهوم في تأييد وترخيص «السماع» بالمعنى الصوفي (الرسالة ص 166) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 ويقال إن للعبد دواعى من باطنه هي هواجس النفس ووساوس الشيطان وخواطر الملك وخطاب الحقّ يلقى في الرّوع فوساوس الشيطان تدعو إلى المعاصي، وهواجس النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النّفس وأنّ لها في شىء نصيبا، وخواطر الملك تدعو إلى الطاعات والقرب، وخطاب الحقّ في حقائق التوحيد. «أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» : - أولئك الذين هداهم الله لتوحيده، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 19] أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) ؟ الذين حقّت عليهم كلمة العذاب فريقان: فريق حقت عليهم كلمة بعذابهم في النار، وفريق حقت عليهم كلمة العذاب بالحجاب اليوم، فهم اليوم لا يخرجون عن حجاب قلوبهم، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان- وإن كانوا من أهل الإيمان» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 20] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) وعد المطيعين بالجنّة- ولا محالة لا يخلف، ووعد التائبين بالمغفرة- ولا محالة يغفر لهم، ووعد المريدين بالوجود والوصول- وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالة مصدق وعده. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)   (1) (عقولهم غير معقولة) أي غير حبيسة أو ممنوعة عن الإدراك وتصحيح الإيمان، فهذه هي المهمة الأساسية العقل في نظر المصنف- كما نوهنا بذلك. وربما كانت في الأصل (مقفولة) فيها أيضا يستقيم المعنى. [ ..... ] (2) نعلم أن كثيرين في أوساط أهل السّتّة يعارضون العديد من مسائل التصوف، ومن أمثالهم ابن تيميه وابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 أخبر أنه ينزل من السماء المطر فيخرج به الزرع فيخضرّ، ثم يأخذ في الجفاف، ثم يصير هشيما ... والإشارة من هذا إلى الإنسان، يكون طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم. ويقال إن الزّرع ما لم يأخذ في الجفاف لا يؤخذ منه الحبّ، فالحبّ هو المقصود منه.. كذلك الإنسان ما لم يحصل من نفسه وصول لا يكون له قدر ولا قيمة. ويقال إن كون المؤمن بقوة عقله يوجب استفادة له بعلمه إلى أن يبدو منه كمال يمكّن من أنوار بصيرته، ثم إذا بدت لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة. فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، قالوا: فلمّا استبان الصبح أدرج «1» ضوءه ... بأنواره أنوار تلك الكواكب قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 22] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) جواب هذا الخطاب محذوف ... أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن ليس كذلك؟ لمّا نزلت هذه الآية سئل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الشرح المذكور فيها، فقال: «ذلك نور يقذف فى القلب، فقيل: وهل لذلك أمارة؟   (1) أدرج الشيء أي أفناه (الوسيط) . والمقصود أن أنوار مصابيح المعرفة الإنسانية تتلاشى وتفنى عند سطوع شمس الحقيقة. وقد وردت في ص 43 من الرسالة (أدرك) والصواب في نظرنا (أدرج) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 قال: نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله «1» » . والنور الذي من قبله- سبحانه- نور الّلوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلى الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد.. وعند ذلك فلا وجد ولا فقد «2» ، ولا قرب «3» ولا بعد ... كلّا بل هو الله الواحد القهار «4» . «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «5» : أي الصلبة قلوبهم، لم تقرعها خواطر التعريف فبقيت على نكرة الجحد.. أولئك في الضلالة الباقية، والجهالة الدائمة.. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) «6»   (1) أورد الغزالي هذا الخبر في منقذه، وشرح مهمة هذا النور بأنه الذي يطلب منه الكشف: وأنه ينبجس من النور الإلهى (المنقذ من الضلال ط القاهرة ص 255) . (2) هكذا في م وهي في ص (قصد) بالصاد وهي خطأ في النسخ، فالوجد يقابله الفقد. (3) فى ص (ولا فرق) والصواب أن تكون (ولا قرب) لتقابل (ولا بعد) لأنه لو قال (ولا فرق) لكان قد قال (ولا جمع) مع أن الموقف هنا موقف (جمع) .. والمقصود اختفاء تقلبات التلوين، والوصول إلى مرتبة التمكين، أي الوصول إلى حال (جمع الجمع) . (4) تفيد هذه الفقرة في فهم كثير من المصطلحات، وهذه أول مرة نصادف للقشيرى عبارة (بظهور الذات) لأنه في مواضع كثيرة يلح على أن المشاهدة (للصفات كالجمال أو الجلال أو ... إلخ) أما (الذات) فقد جلّت الصمدية- كما يقول- عن أن يستشرف منها مخلوق. (5) نزلت في أبى لهب وأولاده الذين قست قلوبهم عن ذكر الله. (الواحدي ص 248) واختار الطبري القول بأن (من) فى الآية بمعنى (عن) أي قست قلوبهم عن ذكر الله. (6) قال سعد بن أبى وقاص: قال أصحاب رسول الله (ص) : لو حدّثتنا.. فانزل الله عزّ وجل «الله نزّل أحسن الحديث» فقالوا: لو قصصت علينا.. فنزل «نحن نقص عليك أحسن القصص» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 «أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» لأنه غير مخلوق «1» «كِتاباً مُتَشابِهاً» فى الإعجاز والبلاغة. «مَثانِيَ» : يثنى فيها الحكم ولا يملّ بتكرار القراءة، ويشتمل على نوعين: الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد. «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» إذا سمعوا آيات الوعيد. «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» إذا سمعوا آيات الوعد. ويقال: تقشعر وتلين بالخوف والرجاء، ويقال بالقبض والبسط، ويقال بالهيبة والأنس، ويقال بالتجلّى والاستتار «2» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 24] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) أي فمن يتقى بوجهه سوء العذاب كمن ليس كذلك؟ وقيل إنّ الكافر يلقى النار أوّل ما يلقاها بوجهه لأنه يرمى فيها منكوسا. فأمّا المؤمن فيوقى ذلك وإنما يلقّى النضرة والسرور والكرامة فوجهه ضاحك مستبشر. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 25] كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) .   (1) سمّى القرآن حديثا لأن الرسول (ص) كان يحدّث به أصحابه وقومه، وهو كقوله: «فبأى حديث بعده يؤمنون» وقوله: «أفمن هذا الحديث تعجبون» ويخطّىء أهل السّنّة من يستند في أن القرآن مخلوق إلى أن «الحديث» من الحدوث فالكلام محدث فقالوا: الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الله وصفاته الحسنى. (2) يستفيد الصوفية من هذه الآية في تدعيم نظريتهم فى «السماع» والتأثرات النفسية والعضوية الناجمة عن تقلب الأحوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 أشدّ العذاب ما يكون بغتة، كما أنّ أتمّ السرور ما يكون فلتة. ومن الهجران والفراق ما يكون بغتة غير متوقع، وهو أنكى للفؤاد وأشدّ وأوجع تأثيرا في القلب، وفي معناه قلنا: فبتّ بخير والدّنى مطمئنة ... وأصبحت يوما والزمان تقلّبا وأتمّ السرور وأعظمه تأثيرا ما يكون فجأة، قال قائلهم: بينما خاطر المنى بالتلاقى ... سابح في فؤاده وفؤادى جمع الله بيننا فالتقينا هكذا صدفة بلا ميعاد قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) أي أوضحنا لهم الآيات، ووقفناهم على حقائق الأشياء. «غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» : فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 29] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) مثّل الكافر ومعبوديه يعبد اشترك فيه متنازعون. «فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» : فالصنم يدعى فيه قوم وقوم آخرون فهذا يقول: أنا صنعته، وذلك يقول: أنا استعملته، وثالث يقول: أنا عبدته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 أمّا المؤمن فهو خالص لله عزّ وجلّ، يشبه «عبدا سلما لرجل» أي ذا سلامة من التنازع والاختلاف. ويقال «رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» تتجاذبه أشغال الدّنيا، شغل الولد وشغل العيال، وغير ذلك من الأشغال المختلفة والخواطر المشتّتة. أمّا المؤمن فهو خالص لله ليس لأحد فيه نصيب ولا للدنيا معه سبب إذ ليس منها شىء، ولا للرضوان معه شغل «1» ، إذ ليس له طاعات يدلّ بها، وعلى الجملة فهو خالص لله، قال تعالى لموسى: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» «2» أي أبقيتك لى حتى لا تصلح لغيرى. «الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» : الثناء له، وهو مستحقّ لصفات الجلال. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 31] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) نعاه- عليه السلام- إليه. ونعى المسلمين إليهم ففزعوا بأجمعهم من ماثمهم «3» ، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث. ومن لم يتفرّغ من مآثم نفسه وأنواع همومه، فليس له من هذا الحديث «4» شمّة، فإذا فرغ قلبه من حديث نفسه، وعن الكون بجملته فحينئذ يجد الخير من ربّه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم:   (1) لقيت الجنة من كبار الشيوخ مواقف لا يخلو التعبير عنها- عند من لا يفقهونها- الكثير من الاستغراب، من ذلك ما يقوله أبو يزيد البسطامي: ما الجنة؟ لعبة صبيان! ويقول: الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكلّ من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه فهو محجوب. (2) آية 41 سورة طه. (3) هكذا في ص وهي مقبولة لتناسب الخصومة التي سيترتب عليها في الآخرة الاختصام. (4) يقصد حديث الفناء عن كل أرب وسيب، أي الفناء بالمعنى الصوفي. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 كتابى إليكم بعد موتى بليلة ... ولم أدر أنى بعد موتى أكتب قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 32] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) الإشارة فيه إلى من أشار إلى أشياء لم يبلغها، وادّعى وجود أشياء لم يذق شيئا منها، قال تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» » . ويقال: لا بل هؤلاء هم الكفار، وأمّا المدّعى الذي لم يبلغ ما يدّعيه فليس يكذب على ربّه إنما يكذب على نفسه حيث ادّعى لها أحوالا لم يذقها ولم يجدها، فأمّا غير المتحقق الذي يكذب على الله فهو الجاحد والمبتدع الذي يقول في صفة الحقّ- سبحانه- ما يتقدّس ويتعالى عنه «2» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 34] وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) الذي جاء بالصدق في أفعاله من حيث الإخلاص، وفي أحواله من حيث الصدق، وفي أسراره من حيث الحقيقة. «ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» : الإحسان- كما جاء في الخبر- أن تعبد الله كأنك تراه. فمن كانت- اليوم- مشاهدته على الدوام كانت رؤيته غدا على الدوام، ومن لا فلا «3» .   (1) آية 60 من هذه السورة. (2) وإلى أمثال هؤلاء أشار القشيري في مستهل رسالته قائلا «.. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادّعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية وزالت عنهم أحكام البشرية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا ... » الرسالة ص 3. (3) روى مسلم عن جابر ويبعث كل عبد على مامات عليه» 6/ 457 فيض القدير للمناوى «ومن كان مجالة لقى الله عليها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 35] لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) من لا يكون مؤمنا فليس من أهل هذه الجملة. ومن كان معه إيمان: فإذا كفّر عنه أسوأ ما عمله فأسوأ أعماله كبائره فإن غفرت يجزهم بأحسن أعمالهم. وأحسن أعمال المؤمن الإيمان والمعرفة، فإن كان الإيمان مؤقتا كان ثوابه مؤقتا، وإن كان الإيمان على الدوام فثوابه على الدوام. ثم أحسن الأعمال عليها أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية فيجب أن تكون على الدوام «1» - وهذا استدلال قوى. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) استفهام والمراد منه التقرير فالله كاف عبده اليوم في عرفانه بتصحيح إيمانه ومنع الشّرك عنه، وغدا في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايته تامة وسلامته عامة. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 38] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قرّر عليهم علوّ صفاته، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرّوا بذلك، ثم طالبهم بذكر صفات الأصنام التي عبدوها من دونه، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية، والبعد عن الحياة والعلم والقدرة والتمكّن من الخلق، فيقول: كيف أشركتم به هذه الأشياء؟ وهلّا استحييتم من إطلاق أمثال ذلك في صفته؟.   (1) «فيجب أن تكون الرؤية على الدوام» نلاحظ إلحاح القشيري على هذا الرأى في خاتمة تفسيره للآية السابقة وفي هذه الآية، ولهذا الرأى أهميته في مسألتين: خلود الجنة والرؤية.. مسألتان كان حولهما جدل كثير أشرنا إلى بعضه في تعليقات سابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 قل- يا محمد- حسبى الله، عليه يتوكل المتوكلون كافيّ الله المتفرّد بالجلال، القادر على ما يشاء، المتفضّل عليّ بما يشاء. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) سوف ينكشف ربحنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جواب لكم، ونعذّبكم فلا شفيع لكم، وندمّر عليكم فلا صريخ لكم. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 41] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) من أحسن فإحسانه إلى نفسه اكتسبه «1» ، ومن أساء فبلاؤه على نفسه جلبه- والحقّ غنيّ عن التجمّل بطاعة من أقبل والتنقّص بزلّة من أعرض. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 42] اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) يقبض الأرواح «2» حين موتها، والتي لم تمت من النفوس في حال نومها، فإذا نامت   (1) (اكتسبه) موجودة في م وسقطت في ص. (2) واضح هنا أن القشيري لا يكاد يميز بين (النفس) و (الروح) مع أنه في الرسالة ص 48 يميز بينهما فيقول (يحتمل أن تكون النفس لطيفة مودعة في القالب) - البدن وهي محل الأخلاق المعلولة (موجودة في الرسالة خطأ المعلومة) كما أن الروح لطيفة في القالب هي محل الأخلاق المحمودة.. والجميع إنسان واحد، وكونهما بصفة- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 فيقبض أرواحها «1» . وقبض الأرواح في حال الموت بإخراج اللطيفة التي في البدن وهي الروح، ويخلق بدل الاستشعار والعلم الغفلة والغيبة في محالّ الإحساس والإدراك. ثم إذا قبض الأرواح عند الموت خلق في الأجزاء الموت بدل الحياة، والموت ينافى الإحساس والعلم. وإذا ردّ الأرواح بعد النوم إلى الأجساد خلق الإدراك في محل الاستشعار فيصير الإنسان متيقظا، وقبض الله الأرواح في حال النوم وردت به الأخبار، وذلك على مراتب فإنّ روحا تقبض على الطهارة ترفع إلى العرش وتسجد لله تعالى، وتكون لها تعريفات، ومعها مخاطبات «والله أعلم» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 43] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) أي أنهم- وإن اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم لا بتعريف من قبل الله أو إخبار- فإنّ الله تعالى لا يقبل الشفاعة من أحد إلّا إذا أذن بها، وإنّ الذي يقولونه إنما هو افتراء على الله. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 45] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)   اللطافة في الصورة ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة» ثم يعود بعد قليل متحدثا عن الروح فيقول: الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة فمنهم من يقول إنها الحياة، ومنهم من يقول إنها أعيان مودعة في القالب (اللطائف ح 2 ص 367) وفي تقديرنا أن المسألة ذات جانبين: فإذا نظرنا إلى الموضوع خارج دائرة التصوف فالروح والنفس بمعنى واحد متصل بالحياة، وقبضهما معناه موت البدن بدليل ما ورد عن الرسول (ص) ، فهو مرة يقول (كما في حديث أم سلمة) : دخل رسول الله (ص) على أبى سلمة وقد شق (- انفتح) بصره فأغمضه ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وفي مرة أخرى يقول (ص) فى حديث صحيح خرجه ابن ماجه: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجى أيتها النفس الطيبة ... » وفي صحيح مسلم: قال «ص» : «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها» . أما الجانب الآخر للمسألة فهو كونهما مصطلحين صوفيين فالنفس محل المعلولات والروح محل المحمودات.. وذلك ركن هام في مذهب القشيري لم يتخل عنه في كتاب من كتبه، كما هو مذهب كثيرين من المتصوفة. (1) قبض الروح عند النوم معناه ترقيها (الرسالة ص 48) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 اشمأزّت قلوب الذين جحدوا ولم تسكن نفوسهم إلى التوحيد، وإذا ذكر الذين من دونه استأنسوا إلى سماعه: [سورة الزمر (39) : آية 46] قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) - علّمه- صلى الله عليه وسلم- كيف يثنى عليه- سبحانه «1» . وتشتمل الآية على الإشارة إلى بيان ما ينبغى من التنصّل والتذلّل، وابتغاء العفو والتفضّل، وتحقيق الالتجاء بحسن التوكل. ثم أخبر عن أحوالهم في الآخرة فقال: [سورة الزمر (39) : آية 47] وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) لا فتدوا به.. ولكن لا يقبل منهم، واليوم لو تصدّقوا بمثقال ذرة لقبل منهم. كما أنهم لو بكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم، ولكنهم بدمعة واحدة- اليوم- يمحى الكثير من دواوينهم. قوله جل ذكره: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فى سماع هذه الآية حرات لأصحاب الانتباه.   (1) فى صحيح مسلم: أن عائشة سئلت بأى شىء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السماوات والأرض. .. يختلفون» ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» . وقال سعيد بن جبير: إنى لأعرف آية ما قرأها أحد قط وسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قوله تعالى: «قل اللهم فاطر ...... يختلفون» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وفي بعض الأخبار أن قوما من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار [فإذا وافوها يقول لهم مالك: من أنتم؟ إن الذين جاءوا قبلكم من أهل النار وجوهم كانت مسودّة، وعيونهم «1» ] كانت مزرقّة.. وأنتم لستم بتلك الصفة، فيقولون: ونحن لم نتوقع أن نلقاك، وإنما انتظرنا شيئا آخر! قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «2» . [سورة الزمر (39) : آية 48] وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) حاق بهم وبال استهزائهم وجزاء مكرهم. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 51] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) فى حال الضّرّ يتبرّءون من الاستحقاق والحول والقوة، فإذا كشف عنهم البلاء وقعوا فى مغاليطهم، وقالوا: إنما أوتينا هذا باستحقاق منّا، قال تعالى: «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» ولكنهم لم يعلموا، ثم أخبر أن الذين من قبلهم مثل هذا قالوا وحسبوا، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم، فأصابهم شؤم ما قالوا، وهؤلاء سيصيبهم أيضا مثل ما أصاب أولئك. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 52] أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) .   (1) ما بين القوسين مستدرك في هامش الورقة 496 من النسخة ص (2) عن مجاهد قال: إنهم عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقيل عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا. أما القشيري فيصرفها إلى المؤمنين العصاة، وواضح أنه يميز بين حالة ورودهم إلى النار، وورود الكفار، فهؤلاء على التأبيد وأولئك إلى حين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 أو لم يروا كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق: فمن موسّع عليه رزقه، ومن مضيّق عليه، وليس لواحد منهم شىء ممّا خصّ به من التقليل أو التكثير. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 53] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) «1» التسمية ب «يا عِبادِيَ» مدح «2» ، والوصف بأنهم «أَسْرَفُوا» ذم. فلمّا قال: «يا عِبادِيَ» طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية، فرفعوا رءوسهم، ونكّس العصاة رءوسهم وقالوا: من نحن.. حتى يقول لنا هذا؟! فقال تعالى: «الَّذِينَ أَسْرَفُوا» فانقلب الحال فهؤلاء الذين نكّسوا رءوسهم انتعشوا وزالت ذلّتهم، والذين رفعوا رءوسهم أطرقوا وزالت صولتهم «3» . ثم أزال الأعجوبة عن القسمة بما قوّى رجاءهم بقوله: «عَلى أَنْفُسِهِمْ» يعنى إن أسرفت فعلى نفسك أسرفت. «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» : بعد ما قطعت اختلافك إلى بابنا فلا ترفع قلبك عنّا. «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» الألف واللام فى «الذُّنُوبَ» للاستغراق والعموم، والذنوب جمع ذنب، وجاءت «جَمِيعاً» للتأكيد فكأنه قال: أغفر ولا أترك، وأعفو ولا أبقى.   (1) أورد الواحدي في أسباب النزول عدة اقوال بشأن من نزلت فيهم هذه الآية الكريمة، ومن هذه الروايات: عن ابن عباس قال: نزلت في أهل مكة حين قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله. وقال ابن عمر: نزلت في عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فتركوا دينهم. ويروى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة. (الواحدي ص 248، 249) . (2) يقول الدقاق: ليس شىء أشرف من العبودية، وقد سمى بها الحق نبيه (ص) فقال: سبحان الذي أسرى بعبده، وقال: فأوحى إلى عبده ما أوحى- ولو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. (الرسالة ص 100) . (3) راجع ما قاله القشيري في قصة داود: (إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربك) . ويقول على بن أبى طالب: ما في القرآن أوسع من هذه الآية. ويقول عبد الله ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ويقال إن كانت لكم جناية كثيرة عميمة فلى بشأنكم عناية قديمة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 55] وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) الإنابة الرجوع بالكلية. وقيل الفرق بين الإنابة وبين التوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة، وصاحب الإنابة يرجع استحياء لكرمه «2» . «وَأَسْلِمُوا لَهُ» : وأخلصوا في طاعتكم، والإسلام- الذي هو بعد الإنابة- أن يعلم أنّ نجاته بفضله لا بإنابته فبفضله يصل إلى إنابته.. لا بإنابته يصل إلى فضله. «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ» قبل الفراق. ويقال هو أن يفوته وقت الرجوع بشهود الناس ثم لا ينصرف عن ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 56 الى 58] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) يقال هذا في أقوام يرون أمثالهم تقدموا عليهم في أحوالهم، فيتذكرون ما سلف من تقصيرهم، ويرون ما وفّق إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة.   (1) واضح أن القشيري يحاول بطرق شتى أن يفتح كل أبواب الأمل أمام اليائسين، فمهما كانت الذنوب كثيرة فعفو الله أكبر وأشمل، وبدا أن النص القرآنى يحتمل كل المحاولات التي يبذلها القشيري بسماحته الصوفية الأصيلة. (2) ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله في هذا الخصوص: «أولها توبة وأوسطها إنابة وآخرها أوبة» . ثم يعلق على ذلك قائلا: فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر- لا لرغبة في ثواب أو رهبة من عقاب- فهو صاحب أوبة. ويقال التوبة صفة المؤمنين (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) ، والإنابة صفة الأولياء والمقربين (وجاء بقلب منيب) ، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين (نعم العبد إنه أواب) الرسالة ص 50. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 أو يقول: لو أنّ الله هدانى لكنت كذا، ويقول آخر: لو أنّ لى كرّة فأكون كذا، فيقول الحقّ- سبحانه: [سورة الزمر (39) : آية 59] بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) فذق من العذاب ما على جرمك استوجبت. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 60] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) هؤلاء الذين ادّعوا أحوالا ولم يصدقوا فيها، وأظهروا المحبة لله ولم يتحققوا بها، وكفاهم افتضاحا بذلك! وأنشدوا: ولمّا ادّعيت الحبّ قالت كذبتنى ... فمالى أرى الأعضاء منك كواسيا؟! فما الحبّ حتى تنزف العين بالبكا ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا «1» قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 61] وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) كما وقاهم- اليوم- عن المخالفات، حماهم- غدا- من العقوبات، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين اليوم عصمة، وغدا نعمة. اليوم عناية وغدا حماية وكفاية. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 62] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) .   (1) ورد الشاهد الشعرى في الرسالة ص 160 هكذا: البيت الأول مطابق، والثاني هكذا ومتبوعا بثالث: - فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكى بها وتناجيا وقد أورده صاحب اللمع على هذا النحو (اللمع ص 321) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 تدخل أكساب العباد في هذه الجملة، ولا يدخل كلامه فيه لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ولا صفاته «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 63] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) «مَقالِيدُ» أي مفاتيح، والمراد منه أنه قادر على جميع المقدورات، فما يريد أن يوجده أوجده. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 64] قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) أي متى يكون لكم طمع في أن أعبد غيره.. وبتوحيده ربّانى، وبتفريده غذانى، وبشراب حبّه سقانى؟! «2» . قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : الآيات 65 الى 66] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) لئن لا حظت غيرى، وأثبت معى في الإبداع سواى أحبطت عملك، وأبطلت سعيك، بل الله- يا محمد- فاعبد، وكن من جملة عبادى الشاكرين. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 67] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) .   (1) هذه إشارة خطيرة في شأن الموضوعات الكلامية المصلة بالفعل الإنسانى، وبمسألة خلق القرآن (أنظر كتابنا: الإمام القشيري: تصوفه وأدبه ط مؤسسة الحلبي للنشر) . (2) هذه هي التربية التي عناها القشيري في موضع سابق حين قال: «ليس الاعتبار بالتربة بل بالتربية» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 ما عرفوه حقّ معرفته «1» ، وما وصفوه حقّ وصفه، وما عظّموه حقّ تعظيمه فمن اتصف بتمثيل، أو جنح إلى تعطيل «2» حاد عن السّنّة المثلى وانحرف عن الطريقة الحسنى. وصفوا الحقّ بالأعضاء، وتوهّموا في نعته الأجزاء، فما قدروه حقّ قدره فالخلق في قبضة قدرته، والسماوات مطويات بيمينه، ويمينه قدرته «3» . ولأنه أقسم أن يفنى السماوات ويطويها فهو قادر على ذلك. «سُبْحانَهُ وَتَعالى» تنزيها له عما أشركوا في وصفه. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 68] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) فى النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تحشرون، والنفختان متجانستان ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح، وفي الأخرى حياة النفوس ليعلم أن النفخة لا تعمل شيئا لعينها «4» ، وإنما الجبّار بقدرته يخلق ما يشاء. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 69] وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)   (1) أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم بلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع والأرضين على أصبع والشجرة على أصبع والثرى على أصبع! فضحك رسول الله (ص) حتى بدت نواجذه، فأنزل الله تعالى: «وما قدروا الله حق قدره» (الواحدي ص 250) . (2) (التعطيل على ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع- سبحانه- عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.. ومن هذا شرك طائفة أهل وحده الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ولا مخلوق (الجواب الكافي ص 90 لابن القيم ط التقدم) . (3) نحسب أن من دواعى التأويل أن الله سبحانه وتعالى قد يخاطبنا عن ذاته وصفاته بما نتخاطب به فيما بيننا حتى نفهم، والآية تشير إلى ذلك في وضوح فقد عبر عن قدرته مرة بالقبضة ومرة باليمين، ومعنى هذا أن الله يقدر على قبض الأرض وجميع ما فيها قدرة أحدنا على ما يحمل بأصبعه. (4) كلام القشيري عن تجانس النفختين واختلاف تأثيريهما، ثم كلامه بعد قليل عن تجانس السوقين واختلاف وجهتيهما.. مقصود منه- كما نظن- أن القياس الإنسانى ليس دائما على صواب، مثال ذلك قوله تعالى: «مطويات بيمينه» ، ونسبة الوجه واليد والعين.. ونحو ذلك لله سبحانه ليس بالضرورة أن يكون على نحو ما يفهم الإنسان من هذه الماديات، فالكلمة هي الكلمة.. ولكن شتان بين الدلالة هنا والدلالة هناك.. والله أعلم بمقصود القشيري.. ولكن هكذا نظن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 نور يخلقه في القيامة فتشرق القيامة به، وذلك عند تكوير الشمس وانكدار النجوم، ويستضىء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفّار يبقون في الظلمات، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم. ويقال اليوم إشراق، وغدا إشراق، اليوم إشراق القلب بحضوره، وغدا إشراق الأرض بنور ربها. ويقال غدا أنوار التولّى للمؤمنين، واليوم أنوار التجلّى للعارفين. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 70] وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) إن كان خيرا فخير، وإن كان غير خير فغير خير. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 71] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) الكفار يساقون إلى النار عنفا، والمؤمنون يساقون إلى الجنة لطفا فالسّوق يجمع الجنسين.. ولكن شتان بين سوق وسوق!. فإذا جاء الكفار قابلهم خزنة النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب فلا تكريم ولا تعظيم، ولا سؤال ولا استقبال.. بل خزى وهوان، ومن كل جنس من العذاب ألوان. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 73] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 سوّق ولكن بغير تعب ولا نصب، سوق ولكن بروح وطرب. «زُمَراً» جماعات، وهؤلاء هم عوامّ أهل الجنة، وفوق هؤلاء: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «1» وفوقهم من قال فيهم: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» «2» وفرق بين من يساق إلى الجنة، وبين من تقرّب منه الجنة.. هؤلاء الظالمون، والآخرون المقتصدون، والآخرون السابقون «3» . «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ... » وإذا وافوا الجنة تكون الأبواب مفتّحة لئلا يصيبهم نصب الانتظار. ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج أن يساق، ولعلّ هؤلاء لا رغبة لهم في الجنة بكثير فلهم معه في الطريق قول «طِبْتُمْ» أي أنهم يساقون إلى الجنة بلطف دون عنف. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 74] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) صدقنا وعده بإدخالنا الجنة، وإكمال المنّة. «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» أي أرض الجنة نَتَبَوَّأُ منها حَيْثُ نَشاءُ. وهؤلاء قوم مخصوصون، والذين هم قوم «الغرف» أقوام آخرون. قوله جل ذكره: [سورة الزمر (39) : آية 75] وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) يسبّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات.. هذا هو عمل الملائكة الذين من حول العرش. وقضى بين أهل الجنة وأهل النار بالحقّ، لهؤلاء دركات ولأولئك درجات.. إلى غير ذلك من فنون الحالات. وقضى بين الملائكة أيضا في مقاماتهم على ما أراده الحقّ في عباداتهم.   (1) آية 85 سورة مريم. (2) آية 31 سورة ق. (3) إشارة إلى الآية: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» (آية 33 سورة فاطر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 سورة المؤمن «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من تحقّق بها شرف من الحقّ مناله، وصفت عنده أحواله، وخلع على نفسه رداء الأفضال، وألبس قلبه جلال الإقبال، وأفرد روحه بروح لطف الجمال، واستخلص سرّه بكشف وصف الجلال. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) أي حمّ أمر كائن «2» . ويقال «الحاء» إشارة إلى حلمه، «والميم» إشارة إلى مجده أي: بحلمي ومجدى لا أخلّد في النار من آمن بي. ويقال هذه الحروف (مفاتح أسمائه) «3» . [سورة غافر (40) : آية 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)   (1) تسمى سورة غافر، وسورة الطّمول، وسورة المؤمن لقوله تعالى فيها: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ» (السيوطي: الإتقان ح 1 ص 54) . (2) أي قضى ووقع، قال كعب بن مالك: فلمّا تلاقيناهم ودارت بنا الرّحى ... وليس لأمر حمّه الله مدفع أو تكون بمعنى قرب كما قال الشاعر قد حمّ يوى فسرّ قوم ... قوم بهم غفلة ونوم [ ..... ] (3) ما بين القوسين سقط من ص، وهي موجودة في م. عن أنس أن أعرابيا سأل النبي (ص) ما حم؟ فإنا لا نعرفها في لساننا، فقال النبي (ص) : «بده أسماء وفواتح سور» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 «الْعَزِيزِ» : المعزّ لأوليائه، «الْعَلِيمِ» بما كان ويكون منهم، فلا يمنعه علمه بما سلف منهم عن قضائه. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 3] غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) كتاب معنون بقبول توبته لعباده علم أنّ العاصي منكسر القلب فأزال عنه الانكسار بأن قدّم نصيبه، فقدّم اسمه على قبول التوبة. فسكّن نفوسهم وقلوبهم باسمين يوجبان الرجاء وهما قوله: «غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ» . ثم عقبهما بقوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» ثم لم يرض حتى قال بعدئذ «ذِي الطَّوْلِ» . فيقابل قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» قوله: «ذِي الطَّوْلِ» . (ويقال: غافر الذنب لمن أصرّ واجترم، وقابل التوب لمن أقرّ وندم، شديد العقاب لمن جحد وعند، ذى الطول لمن عرف ووحد) «1» . ويقال غافر الذنب للظالمين، وقابل التوب للمقتصدين، شديد العقاب للمشركين، ذى الطول للسابقين. ويقال: سنّة الله أنه إذا خوّف العباد باسم أو لفظ تدارك قلوبهم بأن يبشّرهم باسمين أو بوصفين «2» . «إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» : وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 4] ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) .   (1) ما بين القوسين بأجمعه ساقط من ص وموجود في م. (2) وهذه آية كرمه سبحانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 إذا ظهر البرهان واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان. فأمّا أهل الكفر فلهم على الجمود إصرار، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف ... وكذلك من لا يحترمون أولياء الله، ويصرّون على إنكارهم، ويعترضون عليهم بقلوبهم، ويجادلون في جحد الكرامات، وما يخصّ الله به عباده من الآيات ... فهؤلاء لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم، وسيفتضحون كثيرا. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 5] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) كذلك من انقرض من الكفار كان تكذيب الرّسل دأبهم، ولكنّ الله- سبحانه- انتقم منهم، وعلى كفرهم اخترمهم. والمنكر لهذا الطريق «1» يدين بإنكاره، ويتقرّب إلى الله به، ويعد وقيعته في أولياء الله من جملة إحسانه وخيراته، ولكن الله- سبحانه- يعذبهم في العاجل بتخليتهم فيما هم فيه، وصدّ قلوبهم عن هذه المعاني، وحرمانهم منها. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 6] وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) إذا انختم على عبد حكم الله بشقاوته فلا تنفعه كثرة ما يورد عليه من النّصح.. والله على أمره غالب.. ومن أسرته يد الشقاوة فلا يخلّصه من مخالها جهد ولا سعاية. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 7] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)   (1) يقصد الطريق الصوفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 حملة العرش من حول العرش من خواص الملائكة «1» ، مأمورون بالتسبيح لله، ثم بالاستغفار للعاصين- لأنّ الاستغفار للذنب والتوبة إنما تحصل من الذنب- ويجتهدون في الدعاء لهم على نحو ما في هذه الآية وما بعدها فيدعون لهم بالنجاة، ثم برفع الدرجات، ويحيلون الأمر في كل ذلك على رحمة الله. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 9] وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» : فلئن سلّط عليك أراذل من خلقه- وهم الشياطين- فلقد قيّض بالشفاعة أفاضل من خلقه ومن الملائكة المقرّبين قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) أشدّ العقوبات التي يوصلها الحقّ إليهم آثار سخطه وغضبه، وأجلّ النّعم   (1) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله (ص) : «أذن لى أن أحدّث عن مسلك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ذكره البيهقي، وقال: هو أعظم المخلوقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 التي يغروهم بها آثار رضاه عنهم. فإذا عرف الكافر في الآخرة أنّ ربّه عليه غضبان فلا شىء أصعب على قلبه من ذلك لأنه علم أنه لا بكاء ينفعه، ولا عناء يزيل عنه ما هو فيه ويدفعه، ولا يسمع له تضرّع، ولا ترجى له حيلة. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 11] قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) الإماتة الأولى إماتتهم في الدنيا ثم في القبر يحييهم، ثم يميتهم فهى الإماتة الثانية. والإحياء الأول في القبر والثاني عند النشر «1» . «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» : أقروا بذنوبهم- ولكن في وقت لا ينفعهم الإقرار. «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» مما نحن فيه من العقوبة، وإنما يقولون ذلك حين لا ينفعهم الندم والإقرار. فيقال لهم: [سورة غافر (40) : آية 12] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) - أي تصدّقوا المشركين لكفرهم. [وهؤلاء إماتتهم محصورة، فأمّا أهل المحبة فلهم في كلّ وقت حياة وموت، قال قائلهم: أموت إذا فقدتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت! فإنّ الحقّ- سبحانه- يردّد أبدا الخواصّ من عباده بين الفناء والبقاء،   (1) هذا الرأى يذهب إليه السّدّى أيضا، وإنما إحياؤهم في القبور للمسألة، ومن هذا استدل العلماء على سؤال القبر. واستدل من الآية كذلك على إحياء الأجساد، لأن الروح- عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح- لا تموت ولا تتغير ولا تفسد، فلو كان الثواب والعقاب للروح- دون الجسد- فما معنى الإحياء والإماتة؟ ويذهب ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك إلى أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم. ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا، ثم أحياهم البعث والقيامة، فهاتان حياتان وموتتان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 والحياة والموت، والمحو والإثبات] «1» . قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 13] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) يريهم آيات فضله فيما يلاطفهم، ويريهم آيات قهره فيما يكاشفهم، ويريهم آيات عفوه إذا تنصّلوا «2» ، وآيات جوده إذا توسّلوا، وآيات جلاله إذا هابوا فغابوا، وآيات جماله إذا آبوا واستجابوا. «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» لأبدانكم وهو توفيق المجاهدات، ولقلوبكم وهو تحقيق المشاهدات، (ولأسراركم وهو فنون المواصلات والزيادات) «3» . «وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» : يرجع من العادة إلى العبادة، ومن الشّكّ إلى اليقين، ومن الخلق إلى الحقّ، ومن الجهل إلى العلم، ومن النّكرة إلى العرفان. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 14] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) شرط الدعاء تقديم المعرفة لتعرف من الذي تدعوه، ثم تدعو بما تحتاج إليه ممّا لا بدّ لك منه، ثم تنظر هل أعطاك ما تطلب وأنت لا تدرى؟ والواجب ألا تطلب شيئا تكون فيه مخالفة لأمره، وأن تتباعد عن سؤالك الأشياء الدّنيّة والدنيوية، وأن ترضى بما يختاره لك مولاك. ومن الإخلاص في الدعاء ألا ترى الإجابة إلّا منه، وألا ترى لنفسك استحقاقا إلا بفضله، وأن تعلم أنه إن بقيت في سؤالك عن مطلوبك- الذي هو حظّك- لا تبق عن عبادة ربّك- التي هي حقّه فإنّ الدعاء مخّ العبادة، ومن الإخلاص في الدعاء أن   (1) فالموت بالقبض والفناء والمحو، والحياة بالبسط والبقاء والإثبات. ونحسب أن الكلام الموجود بين القوسين الكبيرين يتصل بالآية السابقة نظرا لتلاؤم تقليب الأحوال مع الإماتة والإحياء وكنا نريد أن نضعه في مكانه حسبما رأينا لولا أنه موضوع هنا في م وص. ويبدو أن القشيري اعتبر الآيتين كيانا عضويا واحدا، فجاءت الإشارة منها جميعا. (2) أي تنصلوا من ذنوبهم. (3) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 تكون في حال الاضطرار لما لا يكون ابتداؤه جرما لك، وتكون ضرورتك لسراية جنايتك. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 15] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) رافع الدرجات للعصاة بالنجاة «1» ، وللمطيعين بالمثوبات، وللأصفياء والأولياء بالكرامات، ولذوى الحاجات بالكفايات، وللعارفين بتنقيبهم عن جميع أنواع الإرادات. ويقال درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا فيرفع درجاتهم عن النظر إلى الكونين دون المساكنة إلهما. وأمّا المحبون فيرفع درجاتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئا غير رضاء محبوبهم «2» . «ذُو الْعَرْشِ» : ذو الملك الرفيع. ويقال العرش الذي هو قبلة الدعاء، خلقه أرفع المخلوقات وأعظمها جثة «3» . «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» روح بها ضياء أبدانهم- وهو سلطان عقولهم، وروح بهاء ضياء قلوبهم- وهو شفاء علومهم، وروح بها ضياء أرواحهم   (1) واضح أن القشيري لا يكاد يترك فرصة دون أن يفتح أبواب الأمل أمام العصاة حتى لا يقنطوا من رحمة الله.. وهذا نابع من سياحته الصوفية الأصيلة. (2) هنا نلاحظ أن القشيري جعل المحب أعلى درجة من العارف- مع أن العرفان الذي غايته التوحيد- هو أعلى مراتب الطريق الصوفي. ولكن نظرا لأن الحب والفناء والمعرفة كلها من الحب وإلى الحب فكثيرا ما نجد كتاب التصوف كالقشيرى والغزالي وغيرهما لا يتقيدون تقيدا حرفيا بهذا الترتيب الذي يفيد في الدراسة فقط، وقد تناولنا هذه النقطة بالتفصيل في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف» فى مقدمة باب «المذاقات» . (3) نلاحظ أن القشيري هنا يصف (العرش) مرة بأنه الملك أو قبلة الدعاء ثم يعود فيقول ( .... وأعظمها جثة) بمعنى أن يجرد العرش مرة من المادية ثم يعود ليخلع عليه النسبة المادية، فإذا كان ذلك بقصد مخاطبة الناس على قدر فهومهم- كما قلنا من قبل فهذا جائز.. ولكن الواقع أن القشيري يعبر عن شىء من الاضطراب الذي أصاب الأشاعرة إزاء المتشابهات، وهو أمر تحدثنا عنه بالتفصيل في كتابنا (لإمام القشيري- تصوفه وأدبه) ... ولعل خير ما انتهى إليه الرازي قوله «حاصل مذهب السلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله منها شىء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله، ولا يجوز الخوض في تفسيرها» (أساس التقديس للرازى ط الكردي ص 223) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 - والذي هو للرّوح روح- بقاؤهم بالله. ويقال: روح هو روح إلهام، وروح هو روح إعلام، وروح هو روح إكرام. ويقال: روح النبوة، وروح الرسالة، وروح الولاية، وروح المعرفة. ويقال: روح بها بقاء الخلق، وروح بها ضياء الحق. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 16] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) يعلم الحاصل الموجود، ويعلم المعدوم المفقود، والذي كان والذي يكون، والذي لا يكون مما علم أنه لا يجوز أن يكون، والذي جاز أن يكون أن لو كان كيف كان يكون. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لا يتقيد ملكه بيوم، ولا يختصّ ملكه بوقت، ولكنّ دعاوى الخلق- اليوم- لا أصل لها إذ غدا تنقطع تلك الدعاوى وترتفع تلك الأوهام. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 17] الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) يجازيهم على أعمالهم بالجنان، وعلى أحوالهم بالرضوان، وعلى أنفاسهم بالقربة، وعلى محبتهم بالرؤية. ويجازى المذنبين على توبتهم بالغفران، وعلى بكائهم بالضياء والشفاء. «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» : أي أنه يستحيل تقدير الظلم منه، وكل ما يفعل فله أن يفعله. «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» مع عباده لا يشغله شأن عن شأن، وسريع الحساب مع أوليائه في الحال يطالبهم بالصغير والكبير، والنقير والقطمير. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 18] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 قيامه الكلّ مؤجلّة، وقيامة المحبين معجّلة فلهم في كلّ نفس قيامة من العقاب والعذاب والثواب، والبعاد والاقتراب، وما لم يكن لهم في حساب «1» ، وتشهد عليهم الأعضاء فالدمع يشهد، وخفقان القلب ينطق، والنحول يخبر، واللون يفصح ... والعبد يستر ولكن البلاء يظهر: يا من تغيّر صورتى لمّا بدا ... لجميع ما ظنّوا بنا تصديقا «2» وأنشدوا: لى في محبته شهود أربع ... وشهود كلّ قضية اثنان ذوبان جسمى وارتعاد مفاصلى ... وخفوق قلبى واعتقال لسانى وقلوبهم- إذا أزف الرحيل بلغت الحناجر، وعيونهم شرقت بدموعها إذا نودى بالرحيل وشدّت الرواحل. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 19] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) فحائنة أعين المحبين استحسانهم شيئا، ولهذا قالوا: يا قرّة العين: سل عينى هل اكتحلت ... بمنظر حسن مذ غبت عن بصرى؟ ولذلك قالوا: فعينى إذا استحسنت غيركم ... أمرت السّهاد بتعذيبها   (1) أي وما لم يخطر لهم ببال. (2) معنى الشاهد الشعرى فيما نظن: يا أيها الذي تتغير صورتى عند تجليه عليّ، فينكشف أمرى رغم محاولتى ستر حالى، وبذا تصدق ظنون العاذلين واللائمين. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 ومن خائنة أعينهم أن تأخذهم السّنة والسّبات في أوقات المناجاة وقد جاء في قصة داود عليه السلام: كذب من ادّعى محبتى، فإذا جنّة الليل نام عنّى! ومن خائنة أعين العارفين أن يكون لهم خبر بقلوبهم عمّا تقع عليه عيونهم. ومن خائنة أعين الموحّدين أن تخرج منها قطرة دمع تأسّفا على مخلوق يفوت في الدنيا والآخرة، ولا على أنفسهم. ومن خائنة أعين المحبين النظر إلى غير المحبوب بأى وجه كان، ففى الخبر: «حبّك الشىء يعمى ويضم» . «وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» : فالحقّ به خبير «1» . قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 20] وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) يقضى للأجانب بالبعاد، ولأهل الوصال بالوداد، ويقضى يوم القدوم بعزل عمال الصدود، وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح فلا غرابة أن يذبح الفراق على رأس سكّة «2» الأحباب في صورة شخص منكر ويصلب على جذوع العبرة لينظر إليه أهل الحضرة. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 21] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21)   (1) كان عبد الله بن أبى سرح يكتب الوحى لرسول الله (ص) ثم ارتد ولحق بالمشركين فأمر رسول الله (ص) بقتله يوم فتح مكة. ويروى أنه لما جىء به إلى الرسول (ص) بعد ما اطمأن أهل مكة، وطلب عثمان رضى الله عنه له الأمان صمت الرسول طويلا ثم قال: «نعم» ، فلما انصرف قال الرسول (ص) لمن حوله: «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مأت إلى يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا تكون له خائنة أعين» (2) السكة الطريق المستوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 أو لم يسيروا في أقطار الأرض بنفوسهم، ويطوفوا مشارقها ومغاربها ليعتبروا بها فيزهدوا فيها؟ أو لم يسيروا بقلوبهم في الملكوت بجولان الفكر ليشهدوا أنوار التجلّى فيستبصروا بها؟ أو لم يسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ليستهلكوا في سلطان الحقائق، وليتخّلصوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 22] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) إن بنى من أهل السلوك قاصد لم يصل إلى مقصوده فليعلم أنّ موجب حجبه اعتراض خامر قلبه على بعض شيوخه في بعض أوقاته فإنّ الشيوخ بمحلّ السفراء للمريدين. وفي الخبر: «الشيخ في قومه كالنبىّ في أمته» «1» . قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 24] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) أكرم خلقه في وقته كان موسى عليه السلام، وأخسّ خلقه وأذلّهم في حكمه وأشدّهم كفرا كان فرعون فما قال أحد غيره: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «2» . فبعث الله- أخصّ عباده إلى أخسّ عباده، فقابله بالتكذيب، ونسبه إلى السّحر،   (1) يقول السهروردي في عوارفه: «وأخلاق المشايخ مهذبة بحسن الاقتداء برسول الله (ص) وهم أحق الناس بإحياء سنته في كل ما أمر وندب وأنكر وأوجب (ص 293) عوارف المعارف، وفي موضع آخر يقول: «فليعلم المريد أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض ما لو كان في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ص 285. (2) آية 38 سورة القصص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وأنّبه بكل أنواع التأنيب. ثم لم يعجّل الله عقوبته، وأمهله إلى أن أوصل إليه شقوته- إنه سبحانه حليم بعباده. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 25] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) عزم على إهلاكه وإهلاك قومه، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله، ولكن كان كما قال الله: «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» ، لأنه إذا حفر أحد لوليّ من أولياء الله تعالى حفرة ما وقع فيها غير حافرها ... بذلك أجرى الحقّ سنّته. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 27] وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» أي ليستعن بربه، وإنى أخاف أن يبدّل دينكم، وأخاف أن يفسد فى الأرض، وكان المفسد هو فرعون، وهو كما قيل في المثل: «رمتنى بدائها وانسلّت» . ولكن كادله له الكيد، والكائد لا يتخلص من كيده. فاستعاذ موسى بربه، وانتدب في الردّ عليهم مؤمن بالله وبموسى كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه: [سورة غافر (40) : آية 28] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) - م (20) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 نصحهم واحتجّ عليهم فلم ينجع فيهم نصح ولا قول. وكم كرّر ذلك المؤمن من آل فرعون القول وأعاد لهم النّصح! فلم يستمعوا له، وكان كما قيل: وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصّح قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 34] وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) بيّن أنّ تكذيبهم كتكذيب آبائهم وأسلافهم من قبل، وكما أهلك أولئك قديما كذلك يفعل بهؤلاء. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) السبب ما يتوصّل به إلى الشيء أي لعلّى أصل إلى السماء فأطّلع إلى إله موسى. ولو لم يكن من المضاهاة بين من قال إن المعبود في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفى به خزيا لمذهبهم «1» . وقد غلط فرعون حين توهّم أنّ المعبود في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيبا فى طلبه من السماء. قوله جل ذكره: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» . أخبر أنّ اعتقاده بأنّ المعبود في السماء خطأ، وأنّه بذلك مصدود عن سبيل الله. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 39] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)   (1) هنا يغمز القشيري بالمشبهة غمزة قاسية (انظر ص 345 من هذا المجلد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 أصرّ على دعائه لهم وأصرّوا على جحودهم وعنودهم. [سورة غافر (40) : آية 40] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» : فى المقدار لا في الصفة لأن الأولى سيئة، والمكافأة من الله عليها حسنة وليست بسئة. «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» يعنى في الحال «1» ، لأنّ من لا يكون مؤمنا في الحال لا يكون منه العمل الصالح، «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» : أي رزقا مؤبّدا مخّلدا، لا يخرجون من الجنة ولا ممّا هم عليه من المآل. [سورة غافر (40) : آية 41] وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) وهذا كلّه من قول مؤمن آل فرعون، يقوله على جهة الاحتجاج لقومه، ويلزمهم الحجة به. [سورة غافر (40) : آية 42] تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به من غير علم لى بصحة قولكم، وأنا أدعوكم إلى الله وإلى ما أوضحه بالبرهان، وأقيم عليه البيان.   (1) فى الحال هنا معناها في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 [سورة غافر (40) : آية 43] لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) لا جرم أنّ ما تدعوننى إليه باطل فليس لتلك الأصنام حياة ولا علم ولا قدرة، وهي لا تنفع ولا تضرّ. ولقد علمنا- بقول الذين ظهر صدقهم بالمعجزات- كذبكم فيما تقولون. [سورة غافر (40) : آية 44] فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) أفوض أمرى إلى الله، وأتوكل عليه، ولا أخاف منكم، ولا من كيدكم. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 46] فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) والآية تدلّ على عذاب القبر «1» . ويقال إنّ أرواح الكفار في حواصل طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا إلى يوم القيامة حيث تدخل النار «2» . «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» : أي يا آل فرعون أدخلوا أشدّ العذاب، فنصبه على النداء المضاف. ويقرأ «أَدْخِلُوا» على الأمر «3» .   (1) بدليل قوله تعالى فيما بعد عن عذاب الآخرة: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» وممن استنتج هذه النتيجة مجاهد وعكرمه ومقاتل ومحمد بن كعب. (2) أي هذا دأبها في الدنيا تذهب في الغداة أفواجا بيضا صغارا ثم تعود في العشاء سودا قد احترقت رياشها (الأوزاعى- والنص عند القرطبي ح 15 ص 319) (3) فيكون الأمر عندئذ لملائكة العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 «أَشَدَّ الْعَذابِ» : أي أصعبه، وأصعب عذاب للكفار في النار يأسهم من الخروج عنها. أمّا العصاة من المؤمنين فأشدّ عذابهم في النار إذا علموا أن هذا يوم لقاء المؤمنين، فإذا عرفوا ذلك فذلك اليوم أشدّ أيام عذابهم. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 48] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) يقول الضعفاء للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، ويقول لهم المستكبرون: أنتم وافقتمونا باختياركم «1» فمحاجة بعضهم لبعض تزيد في غيظ قلوبهم، فكما يعذّبون بنفوسهم يعذبون بضيق صدورهم وببغض بعضهم لبعض. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 49 الى 50] وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) وهذه أيضا من أمارات الأجنبية، فهم يدخلون واسطة بينهم وبين ربّهم «2» . ثم إن الله ينزع الرحمة عن قلوب الملائكة كى لا يستشفعوا لهم.   (1) لإحظ هنا كيف يحرص القشيري على إبراز عنصر الاختيار لدى الإنسان، مع معرفتنا السابقة بأنه ينادى بأن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد، وقد حاول أن يوفق بين الاتجاهين فقال: يجرى هذا من العبد فعلا ومن الله حكما. (2) من ذلك نفهم أن القشيري لا يرى بالواسطة عند الدعاء، بل ينبغى أن تدعو الله مباشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 51] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) ننصرهم بالآيات وفنون التعريفات حتى يعرفوا ويشهدوا أن الظّفر وضدّه من الله، والخير والشرّ من الله. ويقال ننصرهم على أعدائهم بكيد خفّى ولطف غير مرئيّ، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون ننصرهم في الدنيا بالمعرفة «1» وباليقين بأنّ الكائنات من الله، وننصرهم فى الآخرة بأن يشهدوا ذلك، ويعرفوا- بالاضطرار «2» - أنّ التأثير من الله، وغاية النصرة أن يقتل الناصر عدوّ من ينصره، فإذا أراد حتفه «3» تحقّق بأن لا عدوّ على الحقيقة، وأنّ الخلق أشباح تجرى عليهم أحكام القدرة فالوليّ لا عدوّ له، ولا صديق له إلا الله، قال تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» «4» . قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 52] يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) دليل الخطاب أن المؤمنين ينفعهم تنصّلهم، ولهم من الله الرحمة، ولهم حسن الدار، وما بقي من هذه الدنيا إلا اليسير قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 54] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) مضى طرف من البيان في قصة موسى.   (1) فى ص (بالمغفرة) والملاثم للسياق (بالمعرفة واليقين) كما جاء في م. (2) أي تكون معرفة ضرورية، ونحن نعلم من مذهب القشيري أن المعرفة في الابتداء كسبية (من العبد) وفي الانتهاء ضرورية (من الرب) . (3) فى ص (حققه) والملائم للسياق أنه يريه (حتف) عدوه. [ ..... ] (4) آية 257 سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 55] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) الصبر في انتظار الموعود من الحقّ على حسب الإيمان والتصديق فمن كان تصديقه ويقينه أتمّ وأقوى كان صبره أتمّ وأوفى. «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» : وهو- سبحانه- يعطى وإن توهّم العبد أنه يبطى. ويقال الصبر على قسمين: صبر على العافية، وصبر على البلاء، والصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء، فصبر الرجال على العافية وهو أتمّ الصبر «1» . «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» . وفي هذا دليل على أنه كانت له ذنوب، ولم يكن جميع استغفاره لأمته لأنه قال في موضع آخر «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» «2» وهنا لم يذكر ذلك. ويمكن حمل الذّنب على ما كان قبل النبوة إذ يجوز أن يكون العبد قد تاب من الزّلّة ثم يجب عليه الاستغفار منها كلما ذكرها، فإن تجديد التوبة يجب كما يجب أصل التوبة «3» . قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) «بِغَيْرِ سُلْطانٍ» : أي بغير حجة. «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ» أي ليس في صدورهم إلا كبر يمنعهم عن الانقياد للحق، ويبقون به عن الله، ولا يصلون إلى مرادهم.   (1) لأن قوة الإنسان قد تنسيه ذكر المنعم فيصبر عنه- وهذا جفاء، ولكن ضعف الإنسان في البلاء يدعوه إلى الصبر في الله، قال قائلهم: والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود (2) آية 19 سورة محمد. (3) تفيد هذه الآراء عند بحث قضية كلامية هى: عصمة الأنبياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 57] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) أي خلق السماوات والأرض أكبر من بعثهم وخلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا رميما فالقوم كانوا يقرّون بخلق السماوات والأرض، وينكرون أمر البعث. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 58] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) أراد به: ما يستوى المؤمن والكافر، ولا المربوط بشهوته كالمبسوط بصفوته، ولا المجذوب بقربته كالمحجوب بعقوبته، ولا المرقى إلى مشاهدته كالمبقّى في شاهده، ولا المجدود «1» بسعادته كالمردود لشقاوته. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 59] إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) إنّ ميقات الحساب لكائن وإن وقعت المدة في أوانه «2» . قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 60] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) معناه: أدعونى أستجب لكم إن شئت لأنه قال في آية أخرى: «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» «3» .   (1) جدّ فهو مجدود أي كان له حظ. (2) أي إن وقت الحساب لكائن مهما طالت المدة بيننا وبين وقت حصوله. (3) آية 41 سورة الأنعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 ويقال ادعوني بشرط الدعاء، وشرط الدعاء الأكل من الحلال إذ يقال الدعاء مفتاحه الحاجة، وأسبابه اللقمة الحلال. ويقال كلّ من دعاه استجاب له إمّا بما يشاء له، أو بشىء آخر هو خير له منه. ويقال الكافر ليس يدعوه لأنه إنما يدعو من له شريك، وهو لا شريك له. ويقال: إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو الله ويسأله شيئا. إلا أعطاه في الدنيا، فأما في الآخرة فيقول له: هذا ما طلبته في الدنيا، وقد ادخرته لك لهذا اليوم حتى ليتمنى العبد أنه ليته لم يعط شيئا في الدنيا قط. ويقال أدعونى بالطاعات استجب لكم بالثواب والدرجات. ويقال أدعونى بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة. ويقال ادعوني بالتنصل أستجب لكم بالتفضّل. ويقال ادعوني بحسب الطاقة أستحب لكم بكشف الفاقة ويقال ادعوني بالسؤال أستجب لكم بالنّوال والأفضال. «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي..» أي يستكبرون عن دعائى، سيدخلون جهنم صاغرين. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 62] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) ... الآيات سكون الناس في الليل على أقسام: أهل الغفلة يسكنون إلى غفلتهم، وأهل المحة يسكنون بحكم وصلتهم، وشتّان بين سكون غفلة وسكون وصلة! قوم يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقوم يسكنون إلى حلاوة أعمالهم لبسطهم واستقلالهم، وقوم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم وأولئك أصحاب الاشقاق ... أبدا في الاحتراق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» الذي جعل سكونكم معه، وانزعاجكم له، واشتياقكم إليه، ومحبتكم فيه، وانقطاعكم إليه. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 64] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) «صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» : خلق العرش والكرسيّ والسماوات والأرضين وجميع المخلوقات ولم يقل هذا الخطاب، وإنما قال لنا: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» وليس الحسن ما يستحسنه الناس بل الحسن ما يستحسنه الحبيب: ما حطك الواشون عن رتبة ... عندى ولا ضرّك مغتاب كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- عليك عندى بالذي عابوا لم يقل للشموس في علائها، ولا للأقمار في ضيائها: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» . ولمّا انتهى إلينا قال ذلك، وقال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «1» ويقال إن الواشين قبّحوا صورتكم عندنا «2» ، بل الملائكة كتبوا في صحائفكم قبيح ما ارتكبتم.. ومولاكم أحسن صوركم، بأن محا من ديوانكم الزّلّات، وأثبت بدلا منها الحسنات، قال تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» «3» ، وقال: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «4» . قوله جل ذكره: «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» . ليس الطيب ما تستطيبه النفس إنما الطيب ما يستطيبه القلب، فالخبز   (1) آية 4 سورة التين. (2) ربما يقصد القشيري بذلك إبليس الذي استعلى بكونه مخلوقا من نار على آدم المخلوق من الطين. (3) آية 39 سورة الرعد. (4) آية 70 سورة الفرقان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 القفار أطيب للفقير الشاكر من الحلواء للغنىّ المتسخّط. ورزق النفوس الطعام والشراب، ورزق القلوب لذاذات الطاعات. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 65] هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) «هُوَ الْحَيُّ» : الذي لا يموت، ولا فضله يفوت، فادعوه بلسان القوت، وذلك عليه لا يفوت. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 66] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) قل- يا محمد- إنى نهيت عن عبادة ما تدعون من دون الله أي أمرت بالتبرّى عمّا عبدتم، والإعراض عمّا به اشتغلتم، والاستسلام للذى خلقنى، وبالنبوة استخصّني. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 68] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) فمن تربة إلى قطرة ومن قطرة إلى علقة.. ثم من بطون أمهاتكم إلى ظهوركم في دنياكم.. ثم من حال كونكم طفلا ثم شابا ثم شيخا.. وهو الذي يحيى ويميت، ثم يبعث في أخرى الدارين. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 69] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 فى آيات الله يتبلّدون فلا حجة يوردون، ولا عذاب عن أنفسهم يردّون، سيعلمون حين لا ينفعهم علمهم، ويعتذرون حين لا يسمع عذرهم، وذلك عند ما: [سورة غافر (40) : الآيات 71 الى 76] إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) .. الآيات. يسحبون في النار والأغلال في أعناقهم، ثم يذاقون ألوان العذاب.. فإذا أقرّوا بكفرهم وذنوبهم يقال لهم: أدخلوا أبواب جهم خالدين فيها، فبئس مثواهم ومصيرهم، وساء ذهابهم ومسيرهم. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : آية 77] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) كن بقلبك فارغا عنهم، وانظر من بعد إلى ما يفعل بهم، واستيقن بأنه لا بقاء لجولة باطلهم.. فإن لقيت بعض ما نتوعدهم به وإلّا فلا تك في ريب من مقاساتهم ذلك بعد. ثم أكّد تسليته إياه وتجديد تصبيره وتعريفه بقوله: [سورة غافر (40) : آية 78] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 قصصنا عليك قصص بعضهم، ولم نخبرك عن قصص الآخرين. ولم يكن في وسع أحد الإتيان بمعجزة إلا إذا أظهرنا نحن عليه ما أردنا إذا ما أردنا. فكذلك إن طالبوك بآية فقد أظهرنا عليك من الآيات ما أزحنا به العذر، وأوضحنا صحّة الأمر.. وما اقترحوه ... فإن شئنا أظهرنا، وإن شئنا تركنا. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) ذكّرهم عظيم إنعامه بتسخير الأنعام فقال جعلها لكم لتنتفعوا بها بالركوب والحمل والعمل، ولتستقوا ألبانها، ولتأكلوا لحومها وشحومها، ولتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وأشعارها، ولتقطعوا مسافة بعيدة عليها ... فعلى الأنعام وفي الفلك تنتقلون من صقع إلى صقع.. وأنا الذي يسّرت لكم هذا، وأنا الذي ألهمتكم الانتفاع به فثقوا في ذلك واعرفوه. قوله جل ذكره: [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) .. الآيات أمرهم بالاعتبار بمن كانوا قبلهم كانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا، فانجرّوا في حبال آمالهم، فوقعوا في وهدة غرورهم، وما بقي الحقّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 عن مراده فيهم، واغتروا بسلامتهم في مدّة ما أرخينا لهم عنان إمهالهم، ثم فاجأناهم بالعقوبة، فلم يعجزوا لله في مراده منهم. فلمّا رأوا شدّة البأس، ووقعوا في مذلّة الخيبة واليأس تمنّوا أن لو أعيدوا إلى الدنيا من الرأس.. فقابلهم الله بالخيبة «1» وخرطهم في سلك من أبادهم من أهل الشّرك والسّخط.   (1) لأن التوبة لا تكون بعد حصول العلم الضروري ورؤية العذاب، فإن أوانها يكون قد انقضى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 سورة فصلت قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» أفلج من عرف «بِسْمِ اللَّهِ» ، وما ربح من بقي عن «بِسْمِ اللَّهِ» . من صحب لسانه «بِسْمِ اللَّهِ» وصحب جنانه «بِسْمِ اللَّهِ» كفى له شفيعا «بِسْمِ اللَّهِ» إلى من يعيذنا بذكر «بِسْمِ اللَّهِ» . قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) بحقي وحياتى، ومجدى في صفاتى وذاتى.. هذا تنزيل من الرحمن الرحيم. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 3] كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بينّت آياته ودلالاته. «قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» : الدليل منصوب للكافة ولكنّ الاستبصار به للعالمين- دون المعرضين الجاحدين. [سورة فصلت (41) : آية 4] بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) «بَشِيراً» : لمن اخترناهم واصطفيناهم. «وَنَذِيراً» : لمن أقميناهم، وعن شهود آياتنا أعميناهم. «فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ..» عند دعائنا إياهم، فهم مثبتون فيما أردناهم، وعلى ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 (الوصف) «1» علمناهم «2» قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 5] وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قالوا ذلك على الاستهانة والاستهزاء، ولو قالوه عن بصيرة لكان ذلك منهم توحيدا «3» ، فمنوا بالمقت لما فقدوا من تحقيق القلب. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 7] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إنما أنا بشر مثلكم في الصورة والبنية، والذات والخلقة. والفرقان بينى وبينكم أنّه يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فالخصوصية من قبله لا من قبلى، ولقد بقيت فيكم عمرا، ولقيتمونى دهرا.. فما عثرتم منى على غير صواب، ولا وجدتم في قولى شوب كذاب. وأمرى إليكم أن استقيموا في طاعته، واستسلموا لأمره.. وطوبى لمن أجاب، والويل لمن أصرّ وعاب!.   (1) سقطت (الوصف) من ص وهي موجودة في م. (2) روى أن قريشا اختارت عتبة بن ربيعة كى يعرض على النبي (ص) أن يكف عن سب آلهتها وتسفيه أحلامها مقابل رياسة أو مال.. إلخ وظل يتحدث، فى ذلك حتى انتهى، وعندئذ سأله النبي (ص) : أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم.. فقال: اسمع.. بسم الله الرّحمن الرّحيم. حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت .... » إلى قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فوثب عتبة، ووضع يده على فم النبي وناشده ليسكتن ... ثم مضى إلى قريش فأنبأها بما سمع، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، لأن ما سمعه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر.. ثم أردف: ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لا يكذب.. [ ..... ] (3) لأنه يكون حينئذ اعترافا منهم بوجود غطاء من ظلمة البشرية يحجبهم عن حقيقة الأحدية، ويكون اعترافهم بقصورهم بداية لاستمدادهم لفضل من الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) «آمَنُوا» : شاهدوا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : لازموا بساط العبودية. «آمَنُوا» : شهدوا الحضرة، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : وقفوا بالباب. «آمَنُوا» : حضروا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : بعد ما حضروا لم ينصرفوا. «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» : غير منقوص «1» فأجر النفوس الجنة، وأجر القلوب الرضا بالله، وأجر الأرواح الاستئناس بالله، وأجر الأسرار دوام المشاهدة لله. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 9] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) خلق الزمان ولم يكن قبله زمان، وخلق المكان، ولم يكن قبله مكان فالحقّ- سبحانه- كان ولا مكان ولا زمان فهو عزيز لا يدركه المكان، ولا يملكه الزمان. «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً» .. وكيف يكون الذي لم يكن ثم حصل «2» ندّا للذى لم يزل.. ولا يزال كما لم يزل؟ ذلك ربّ العالمين. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 10] وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) الجبال أوتاد الأرض في الصورة، والأولياء أوتاد ورواس للأرض في الحقيقة.   (1) يقال مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذى الإصبع: إنى لعمرك ما بابى بذي غلق ... على الصديق ولا خيرى بمنون وقيل نزلت الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون. (2) الذي لم يكن ثم حصل هو الحادث، المخلوق من العدم.. كيف يكون ندا للقديم الأزلى السرمدي؟! م (21) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 «وَبارَكَ فِيها» : البركة الزيادة.. فيأتيهم المطر ببركات الأولياء، ويندفع عنهم البلاء ببركات الأولياء. «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» : وجعلها مختلفة في الطّعم والصورة والمقدار. وأرزاق القلوب والسرائر كما مضى ذكره فيما تقدم. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 11] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) «اسْتَوى» أي قصد، وقيل فعل فعلا هو الذي يعلم تعيينه «1» . ويقال رتّب أقطارها، وركّب فيها نجومها وأزهارها. «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» : هذا على ضرب المثل أي لا يتعسّر عليه شىء مما خلقه، فله من خلقه ما أراده. وقيل بل أحياهما وأعقلهما وأنطقهما فقالتا ذلك. وجعل نفوس العابدين أرضا لطاعته وعبادته، وجعل قلوبهم فلكا لنجوم علمه وشموس معرفته. وأوتاد النفوس الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. وفي القلوب ضياء العرفان، وشموس التوحيد، ونجوم العلوم والعقول والنفوس. والقلوب بيده يصرّفها على ما أراد من أحكامه. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 12] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) .   (1) تقول الغرب: فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض (النسفي ح 4 ص 89) . ومن قال إنه صفة ذاتية زائدة تكون على معنى استوى في الأزل بصفاته (القرطبي ح 15 ص 343) وعلى الرأى الأول يكون الاستواء من صفات الفعل وعلى الثاني يكون من صفات الذات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 زيّن السماء الدنيا بمصابيح، وزيّن وجه الأرض بمصابيح هي قلوب الأحباب فأهل السماء إذا نظروا إلى قلوب الأولياء بالليل فذلك متنزههم كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء استأنسوا برؤية الكواكب. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 13] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) أي أخبر المكذّبين لك أنّ لكم سلفا.. فإن سلكتم طريقهم في العناد، وأبيتم إلّا الإصرار ألحقناكم بأمثالكم. [سورة فصلت (41) : آية 15] فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) ركنوا إلى قوة نفوسهم فخانتهم قواهم، واستمكنت منهم بلواهم. [سورة فصلت (41) : آية 16] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) «1» فلم يغادر منهم أحدا. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 18] وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) .   (1) فى قراءة أبى عمرو «نحسات» وبإسكان الحاء على أنها جمع المصدر «نحس» مستدلا بقوله تعالى: «فى يوم نحس مستمر» ولو كان صفة لم يضف اليوم إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 قيل إنهم في الابتداء آمنوا وصدّقوا، ثم ارتدّوا وكذّبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم فى الاستئصال. «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا..» : منهم من نجّاهم من غير أن رأوا النار فعبروا القنطرة ولم يعلموا، وقوم كالبرق الخاطف وهم أعلاهم، وقوم كالراكض.. وهم أيضا من الأكابر، وقوم على الصراط يسقطون ويردّهم الملائكة على الصراط. فبعد وبعد.. قوم بعد ما دخلوا النار فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ثم إلى ركبتيه ثم إلى حقويه «1» ، فإذا ما بلغت النار القلب قال الحقّ لها: (لا تحرقى قلبه) «2» فإنه محترق فيّ. وقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا «3» فصاروا حمما «4» : قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 23] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)   (1) الحقو الخصر. (2) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م. (3) أمحش الخر أو النار جلده أي أحرقه وقشره عن اللحم. ويقال هذه سنة أمحشت كل شىء إذا كانت جدبة. (4) الحمم الفحم أو الرماد.. وكل ما احترق من النار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 شهدت عليهم أجزاؤهم، ولم يكن في حسابهم أن الله سينطقها وهو الذي أنطق كلّ شىء، ولم يدر بخلدهم ما استقبلهم من المصير الأليم. «ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ ... » : وكذا من قعد في وصف الأقوال، ووسم موضعه، وحكم لنفسه أنه مقدّم بلده. فلا يسمع منه إلا ببرهان ودليل من حاله، فإن خالف الحال قوله فلا يعتمد عليه بعد ذلك «1» . والظنّ بالله إذا كان جميلا فلعمرى يقابل بالتحقيق، أمّا إذا كان نتيجة الغرور وغير مأذون به في الشرع فإنه يردى صاحبه. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 24] فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) فإن يصبروا على موضع الخسف فسينقلبون إلى النار. وإن يستعتبوا- فعلى ما قال- فما هم بمعتبين «2» . [سورة فصلت (41) : آية 25] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) إذا أراد الله بعبد خيرا قيّض له قرناء خير يعينونه على الطاعات، ويحملونه عليها، ويدعونه إليها. وإذا كانوا إخوان سوء حملوه على المخالفات، ودعوه إليها.. ومن ذلك الشيطان فإنه مقيّض مسلّط على الإنسان يوسوس إليه بالمخالفات.. وشرّ من ذلك النّفس. فإنها بئس القرين!! فهى تدعو العبد- اليوم- إلى ما فيه هلاكه، وتشهد عليه غدا بفعل الزلّة. فالنفس- وشرّ قرين للمرء نفسه- والشياطين وشياطين الإنس.. كلها تزيّن لهم   (1) يعود القشيري بعد قليل إلى هذا المعنى نفسه حين يتحدث عمن يكلفون بالقالة دون صفاء الحالة. (2) أي أن النار مثوى لهم في الحالين، ولا مهرب لهم منها فلا صبرهم بنافع، ولا طلب الرضا عنهم بنافع، ولا بد لهم من النار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 «ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» من طول الأمل، «وَما خَلْفَهُمْ» من نسيان الزّلل، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 26] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) استولى على قلوبهم الجحد والإنكار، ودام على العداوة فيهم الإصرار فاحتالوا بكل وجه، وتواصوا فيما بينهم بألا يستمعوا لهذا القرآن لأنه يغلب القلوب، ويسلب العقول، وكل من استمع إليه صبا إليه. وقالوا: إذا أخذ محمد في القرآن فأكثروا عند قراءته اللّغو واللغط حتى يقع في السهو والغلط. ولم يعلموا أن الذي نوّر قلبه بالإيمان، وأيّد بالفهم، وأمدّ بالنصرة، وكوشف بسماع السّرّ من الغيب هو الذي يسمع ويؤمن. والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمان قلبه، ولا يباشر السماع سرّه «1» . قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 27] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) اليوم بإدامة الحرمان الذي هو الفراق، وغدا بالتخليد في النار التي هي الاحتراق. [سورة فصلت (41) : آية 28] ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) لهم فيها الخزي والهوان بلا انقطاع ولا انصرام. [سورة فصلت (41) : آية 29] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)   (1) إذا تذكرنا أن السر أعلى من القلب ومن الروح عرفنا أن «السماع» عند الشيخ ذو مرتبة عالية على عكس ما يظنه المغرضون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 من الجنّ إبليس. ومن الإنس قابيل بن آدم فهو أول من سنّ المعصية (حين قتل أخاه) «1» . «نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا» هذه الإرادة وهذا التمني زيادة في عقوبتهم أيضا لأنهم يتأذون بتلك الإرادة وهذا التمني فهم يجدون أنه لا نفع لهم من ذلك إذ لن يجابوا في شىء، ولن يمنع عنهم العذاب. ويفيد هذا الإخبار عنهم عن وقوع التبرّى فيما بينهم، فبعضهم يتبرأ من بعض، كما يفيد بأن الندم في غير وقته لا جدوى منه. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 30] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) «ثُمَّ» استقاموا: ثم حرف يقتضى التراخي، فهو لا يدل على أنهم في الحال لا يكونون مستقيمين، ولكن معناه استقاموا في الحال، ثم استقاموا في المآل بأن استداموا إيمانهم إلى وقت خروجهم من الدنيا، وهو آخر أحوال كونهم مكلّفين. ويقال: قالوا بشرط الاستجابة أولا، ثم استبصروا بموجب الحجة، ولم يثبتوا على وصف التقليد، ولم يكتفوا بالقالة دون صفاء الحالة. «اسْتَقامُوا» : الاستقامة هي الثبات على شرائط الإيمان بجملتها من غير إخلال بشىء من أقسامها. ويقال: هم على قسمين:   (1) زيادة من عندنا للتوضيح وليست موجودة بالمتن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 مستقيم (فى أصول) «1» التوحيد والمعرفة.. وهذه صفة جميع المؤمنين «2» . ومستقيم في الفروع من غير عصيان.. وهؤلاء مختلفون فمنهم.. ومنهم، ومنهم. «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» : الذين لهم البشارة هم كل من استقام في التوحيد، ولم يشرك.. فله الأمان من الخلود «3» . ويقال: من كان له أصل الاستقامة أمن «4» من الخلود في النار، ومن له كمال الاستقامة أمن من الوعيد من غير أن يلحقة سوء بحال.. ثم الاستقامة لهم على حسب أحوالهم فمستقيم في عهده. ومستقيم في عقده، ومستقيم في جهده ومراعاة حدّه، ومستقيم فى عقده وجهده وحدّه وحبّه وودّه.. وهذا أتمّهم. ويقال: استقاموا على دوام الشهود وعلى انفراد القلب بالله. ويقال: استقاموا في تصفية العقد ثم في توفية العهد ثم في صحة القصد بدوام الوجد. ويقال: استقاموا بأقوالهم ثم بأعمالهم، ثم بصفاء أحوالهم في وقتهم وفي مآلهم. ويقال: أقاموا على طاعته، واستقاموا في معرفته، وهاموا في محبته، وقاموا بشرائط خدمته. ويقال: استقامة الزاهد ألا يرجع إلى الدنيا، وألا يمنعه الجاه بين الناس عن الله. واستقامة العارف ألا يشوب معرفته حظّ في الدارين فيحجبه عن مولاه. واستقامة العابد ألا يعود إلى فترته واتباع شهوته، ولا يتداخله رياء وتصنّع. واستقامة «5» المحبّ ألا يكون له أرب من محبوبه، بل يكتفى من عطائه ببقائه، ومن مقتضى جوده بدوام عزّه ووجوده. «أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا» : إنما يكون الخوف في المستقبل من الوقت، من حلول مكروه أو فوات محبوب، فالملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون، وكل محذور لهم لا يكون.   (1) هكذا في م وهي في ص (على أصل) وهي مقبولة حسب قوله تعالى في موضع آخر (استقاموا على الطريقة) ولكننا آثرنا (فى أصول) لتنسجم مع الفروع. [ ..... ] (2) عن أنس قال: لمّا نزلت هذه الآية قال النبي (ص) : «هم أمتى ورب الكعبة» . (3) أي التخليد في النار.. ويقصد بهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين. (4) لاحظ الربط بين الأمن والأمان من ناحية والإيمان من ناحية أخرى. (5) أي أن مجرد ذكر المحب لله (الباقي) يكفيه عن تذكر أي عطاء أو منع، فحسبه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 والحزن من حزونة الوقت، ومن كان راضيا بما يجرى فلا حزن له في عيشه. والملائكة يبشرونهم بأنهم لا حزونة في أحوالهم، وإنما هم في الرّوح والراحة. «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» : أي بحسن المآب، وبما وعد الله من جميل الثواب. والذي هو موعود للأولياء بسفارة الملك موجود اليوم لخواص عباده بعطاء الملك فلا يكون لأحدهم مطالعة في المستقبل من حاله بل يكون بحكم الوقت فلا يكون له خوف لأن الخوف- كما قلنا من قبل- ينشأ من تطلع إلى المستقبل إمّا من زوال محبوب أو حصول مكروه، وإن الذي بصفة الرضا «1» لا حزونة في حاله ووقته. ويمكن القول: «أَلَّا تَخافُوا» من العذاب، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما خلفتم من الأسباب، «وَأَبْشِرُوا» بحسن الثواب في المآب. ويقال: «أَلَّا تَخافُوا» من عزل الولاية، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما أسفلتم من الجناية، «وَأَبْشِرُوا» بحسن العناية في البداية. ويقال: «أَلَّا تَخافُوا» مما أسلفتم، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما خلّفتم، «وَأَبْشِرُوا» بالجنة التي لها تكلفتم. ويقال: «أَلَّا تَخافُوا» المذلّة، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما أسلفتم من الزلّة، «وَأَبْشِرُوا» بدوام الوصلة. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 31 الى 32] نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) الولاية من الله بمعنى المحبة، وتكون بمعنى النصرة.   (1) هذا من أدق الشروح لمعنى «الرضا» الذي كما نعرف من مذهب القشيري مرحلة انتقال من المقامات إلى الأحوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وهذا الخطاب يحتمل أن يكون من قبل الملائكة الذين تنزلوا عليهم، ويحتمل أن يكون ابتداء خطاب من الله. والنصرة تصدر من المحبة فلو لم تكن المحبة الأزلية لم تحصل النصرة في الحال. ويقال: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بتحقيق المعرفة، «وَفِي الْآخِرَةِ» بتحصيل المغفرة. ويقال «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بالعناية، «وَفِي الْآخِرَةِ» بحسن الكفاية وجميل الرعاية. «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بالمشاهدة، «وَفِي الْآخِرَةِ» بالمعاينة. فى الدنيا بالرضاء بالقضاء، وفي الآخرة باللقاء في دار البقاء. فى الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالغفران. فى الدنيا بالمحبة، وفي الآخرة بالقربة. «وَلَكُمْ فِيها» أي في الجنة «ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ» : الولاية نقد، وتحصيل الشهوات وعد، فمن يشتغل بنقده قلّما يشتغل بوعده «1» . «وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» : أي ما تريدون، وتدعون الله ليعطيكم. «نُزُلًا» : أي فضلا وعطاء، وتقدمة لما يستديم إلى الأبد من فنون الأفضال ووجوه المبارّ «2» .   (1) تفيد هذه الإشارة الممتعة حقا في توضيح الفكرة الصوفية الشائعة التي تقول إن العبادة الحقة هي المجردة عن الطمع في الثواب والخوف من العقاب.. وهي عند القشيري من أمارات الولاية والمحبة الصافية.. ويمعن بعض الصوفية في ذلك فيدفعهم طلب الله لذاته إلى القول: أريدك لا أريدك للثواب ... ولكنى أريدك للعقاب فكل مآربى قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدى بالعذاب (2) فتكون (نزلا) منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا. وقيل: على الحال. وقيل هو جمع نازل أي لكم ما تدعون نازلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 «مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» : وفي ذلك مساغ لآمال المذنبين لأنهم هم الذين يحتاجون إلى المغفرة، ولولا رحمته لما وصلوا إلى مغفرته. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 33] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) أي لا أحد أحسن قولا منه، ويكون المراد منه النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون جميع الأنبياء عليهم السلام. ويقال هم المؤمنون. ويقال هم الأئمة الذين يدعون الناس إلى الله. وقيل هم المؤذنون. ويقال الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء بالله وترك طلب العوض من الله، ويكل أمره إلى الله، ويرضى من الله بقسمة الله. «وَعَمِلَ صالِحاً» : أي كما يدعو الخلق إلى الله يأتى بما يدعوهم إليه. ويقال هم الذين عرفوا طريق الله، ثم سلكوا طريق الله، ثم دعوا الناس إلى الله. ويقال بل سلكوا طريق الله فبسلوكهم وبمنازلاتهم عرفوا الطريق إلى الله، ثم دعوا الخلق إليه بعد ما عرفوا الطريق إليه. «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» : المسلمون لحكمه هم الراضون بقضائه وتقديره. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 34] وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ادفع بالخصلة التي هي أحسن السيئة يعنى بالعفو عن المكافأة، وبالتجاوز والصفح عن الزلة، وترك الانتصاف «1» . «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» يشبه الوليّ الحميم- ولم يصر وليا مخلصا.. وهذا من جملة حسن الأدب في الخدمة في حقّ صحبتك مع الله تحلم مع عباده لأجله.   (1) هذه الأوصاف التي ذكرها القشيري من أمارات الفتوة- كما ورد في الفصل الذي عقده لها فى «رسالته» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 ومن جملة حسن الخلق في الصحبة مع الخلق ألا تنتقم لنفسك، وأن تعفو عن خصمك. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 35] وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) لا يقوم بحق هذه الأخلاق إلّا من أكرم بتوفيق الصبر، ورقّى عن سفساف الشيم إلى معالى الأخلاق. ولا يصل أحسن الدرجات إلا من صبر على مقاساة الشدائد. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 36] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) إذا اتصلت بقلبك نزغات الشيطان فبادر بذكر ربّك، وارجع إليه قبل أية خطوة «1» .. فإنك إن لم تخالف أول هاجس من هواجس الشيطان صار فكرة، ثم بعد ذلك يحصل العزم على ما يدعو إليه الشيطان.. فإذا لم تتدارك ذلك تجرى الزلّة، وإذا لم تتدارك ذلك بحسن الرّجعى صار فسقا.. وبتمادي الوقت تصبح في خطر كل آفة. ولا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة وصدق الاستغاثة وبذلك ينجو من الشيطان، وقد قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» «2» فكلما ازداد العبد في تبرّيه من حوله وقوته «3» ، وأخلص بين يدى الله بتضرعه واستعانته واستعاذته زاد الله في حفظه، ودفع الشيطان عنه. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 37] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) .   (1) هكذا في م وهي في ص (خطرة) بالراء، ونحن لا نرفض ذلك إذ يقول القشيري في رسالته ص 46: «الخواطر خطاب يرد على الضمائر وقد يكون الخاطر بإلقاء مسلك، وأو بإلقاء الشيطان، وقد يكون حديث النفس» .. ويقول في نفس الموضع: كل خاطر لا يشهد الظاهر فهو باطل. (2) آية 65 سورة الإسراء. (3) لانه كلما ازداد في ذلك ازدادت عبوديته، فدخل في زمرة «عبادى» الذين ليس الشيطان عليهم سلطان وبهذا الفهم يتأيد السياق ويتماسك في ظل الشاهد القرآنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 أوضح الآيات، وألاح البينات، وأزاح علّة من رام الوصول. واختلاف الليل والنهار، ودوران الشمس والقمر من جملة أمارات قدرته، ودلالات توحيده. «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ» فى علائها، «وَلا لِلْقَمَرِ» فى ضيائه، «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ» فقد غار «1» عليك أن تسجد لغيره. والشمس- وإن علت، والقمر- وإن حسن.. فلأجلك خلقناهما، فلا تسجد لهما، واسجد لنا. ويقال: خلق الملائكة- ومع كثرة عبادتهم، ومع تقدمهم في الطاعة- قال لهم: اسجدوا لآدم، وحين امتنع واحد منهم لعن إلى الأبد. وقال لأولاد آدم العصاة المذنبين: «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ... » فشتّان ما هما!! والحقّ- سبحانه وتعالى- يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر.. وأنت لأجل كلّ حظّ خسيس تنقل قدمك إلى كلّ أحد وتدخل بمحياك على كلّ أحد!! قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 38] فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) «2» أي إن ترفّع الكفار فلا خلل لأن الحقّ غنىّ عن كل أحد، ثم إن الملائكة- الذين هم سكان الآخرة- يسجدون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون من عبادته.   (1) يقول القشيري في رسالته ص 126 «الغيرة كراهية مشاركة الغير، وإذا وصف الحق سبحانه بالغيرة فمعناه أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده» . (2) هذه آية سجدة، واختلف في موضع السجود منها.. فقال مالك إن موضعه «إن كنتم إياه تعبدون» «لأنه متصل بالأمر» .. وقال الشافعي إنه: «وهم لا يسأمون» لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. وقد تضمنت الآية صلاة الكسوف، وذلك أن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم.. فصلّى النبي (ص) صلاة الكسوف (القرطبي ح 15 ص 364) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 39] وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) الأرض تكون جدبة يابسة في الشتاء، فإذا نزل عليها المطر اهتزت بالنبات واخضرّت وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألّمت به من الذنوب أقبل عليها الحق سبحانه، فظهرت فيها بركات الندم، وعفا عن أربابها ما قصروا في صدق القدم. وكذلك إذا وقعت للعبد فترة في معاملاته، أو غيبة عن بساط طاعاته، ثم تغمّده الحقّ- سبحانه- بما يدخل عليه من التذكر تظهر في القلب أنوار الوفاق، فيعود إلى مألوف مقامه، ويرجع عود سداده غضّا طريا، ويصير شجر وفاقه- بعد ما أصابته الجدوبة- بماء العناية مستقيا. وكذلك إذا بدت لأهل العرفان وقفة، أو حدثت لهم من جرّاء سوء أدب بدر منهم حجبة ثم نظر الحقّ- سبحانه- إليهم بالرعاية.. اهتزّت رياض أنسهم، واخضرّت مشاهد قربهم، وانهزمت وفود وقفتهم. «إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» : إن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء النفوس بالحشر والنشر. وكذلك هو قادر على إحياء القلوب بنور العناية بعد الفترة والحجبة. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 40] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) سيلقون من العذاب ما يستوجبونه.. فليعملوا ما شاءوا.. فليسوا يسعون إلّا في ذمهم، وليسوا يمشون إلا إلى هلاكهم بأقدامهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 41] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) الجواب محذوف ومعناه: بقوا عنّا، ووقعوا في هوانهم وشقوا إلى الأبد. «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ» : كتاب عزيز لا مثل له حيث قد عجزوا عن الإتيان بمثله. كتاب عزيز غالب لشبه المبتدعين والكفار. عزيز لا يقدر على معارضته أحد.. من قولهم أرض عزاز «1» . كتاب عزيز لأنه كلام ربّ عزيز إلى رسول عزيز بسفارة ملك عزيز إلى أمّة عزيزة. كتاب عزيز على المؤمنين لأنه كتاب حبيبهم.. وكتاب الحبيب إلى الحبيب عزيز. [سورة فصلت (41) : آية 42] لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) أي لا ينقضه كتاب آخر لا مما تقدّمه من الكتب، ولا مما يأتى من بعده.. أي لا كتاب بعده، ولا نسخ له. ويقال لا يدفع «2» معناه لفظه، ولا يخالف لفظه معناه.. ويقال لا يقدر أحد أن يأتى بمثله. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 43] ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) أصول التوحيد لا تختلف بالشرائع فجوهرها في الأحكام واحد: هو أنه تجب موافقة أوامره، واجتناب مزاجره. ثم إن الله تعالى قال في كل كتاب، وشرع لكل أمة أن يعرفوا   (1) الأرض العزاز الأرض الصلبة السريعة السيل (الوسيط) . [ ..... ] (2) دفع الشيء نحمّاه وأزاله، قال تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 أنه للمطيعين مثيب، وللكافرين ذو عذاب شديد. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 44] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) أخبر أنه أزاح العلّة لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة، وصحة الشريعة. ثم وصف الكتاب بأنه شفاء للمؤمنين، وسبب شقاء للكافرين. وهو شفاء للعلماء حيث استراحوا به عن كدّ الفكر وتحيّر الخواطر. وهو شفاء لضيق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته، والتلذّد بالتفكّر فيه. وهو شفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق لما به من لطف المواجيد. وهو شفاء لقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق، وآثار خطاب الرب العزيز. «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» : هم لا يسمعون بقلوبهم من الحق، ولا يستجيبون.. بقوا في ظلمات الجحد والجهل. «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» : لا يزدادون على مر الأيام إلا ضلالا. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 45] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) آتينا موسى التوراة، وأرسلناه إلى قومه، فاختلفوا في أمره.. فمن كحّلنا سرّه بنور التوحيد صدّقه، ومن أعميناه عن مواقع البيان قابله بالتكذيب وجحده. «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي أن عقوبتهم في النار بعد قيام القيامة لعجّلنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 استئصالهم، ولأذقناهم في الحال وبالهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 46] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) «فَلِنَفْسِهِ» لأن النفع عائد إليه. ومن عمل عملا سيئا فإنما ظلم نفسه، وأساء إليها لأنه هو الذي يقاسى ضرّه ويلاقى شرّه. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 47] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) لمّا استعجلوا وقالوا: متى تقوم هذه القيامة التي يتوعّدنا بها؟ قال الله تعالى: إنّ علم القيامة ينفرد به الحقّ فلا يعلمه غيره، فكما لا يعلم أحد ما الذي يخرج من الأشجار من الثمار، وما الذي تنطوى عليه أرحام النساء من أولادها ذكورا وإناثا، وما هم عليه من أوصاف الخلقة، وما يحصل من الحيوانات من نتاجها- فلا يعلم هذه الأشياء إلا الله- فكذلك لا يعلم أحد متى تقوم القيامة. «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي..» : يتبرءون من شركائهم، ولكن في وقت لا تنفعهم كثرة ندمهم وبكائهم. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : آية 49] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) .   (1) فى موضع سبق أوضح القشيري أنه ربما كان من أسباب الحكمة الإلهية في تأخير عقوبة أمة النبي «ص» - كما حدث للأمم السابقة- هو تأخير العذاب بسبب ما يخرج من أصلابهم من المؤمنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 لا يملّ الإنسان من إرادة النفع والسلامة، وإن مسّه الشرّ فيئوس لا يرجو زواله لعدم علمه بربه، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إليه. [سورة فصلت (41) : آية 50] وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) لئن كشفنا عنه البلاء، وأوجبنا له الرجاء لادّعاه استحقاقا أو اتفاقا، وما اعتقد أن ذلك منّا فضل وإيجاب. ويقول: لو كان لى حشر ونشر لكان لى من الله لطف وخير، وغدا يعلم الأمر، وأنه بخلاف ما توهّم.. وذلك عند ما نذيقه ما يستوجبه من عذاب. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 51 الى 52] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) هو لا يميز بين البلاء والعطاء فكثير مما يتوهمه عطاء هو مكر واستدراج.. وهو يستديمه. وكثير مما هو فضل وصرف «1» وعطاء يظنه من البلاء فيعافه «2» ويكرهه. ويقال إذا أنعمنا عليه صاحبه بالبطر، وإذا أبليناه قابله بالضجر. ويقال إذا أنعمنا عليه أعجب بنفسه، وتكبّر مختالا في زهوه، لا يشكر ربّه، ولا يذكر فضله، ويتباعد عن بساط طاعته.   (1) صرف الله المكاره صرفا أي أبعدها. (2) فى م (فيعافيه) وهي خطأ في النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 والمستغنى عنّا يهيم على وجهه، وإذا مسّه الشرّ فذو دعاء كثير، وتضرّع عريض، وابتهال شديد، واستكشاف «1» دائم. ثم إذا كشفنا عنه ذلك فله إلى عتوّه ونبوّه عود، ولسوء طريقته في الجحود إعادة. قوله جل ذكره: [سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54] سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) «سَنُرِيهِمْ» : السين للاستقبال أي سيظهر لهم من الآيات، ومن الأحداث التي تجرى فى أحوال العالم، وما سيحلّ بهم من اختلاف الأمور ما يتبيّن لهم من خلاله أنّ هذا الدّين حقّ، وأنّ هذا الكتاب حقّ، وأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- حقّ، وأن المجرى لهذه الآيات والأحداث والأمور والمنشئ له هو الحقّ- سبحانه. ومن تلك الآيات ما كان من قهر الكفار، وعلوّ الإسلام، وتلاشى أعداء الدين. ويقال من تلك الآيات في الأفاق اختلاف أحكام الأعين مع اتفاق جواهرها في التجانس.. وهذه آيات حدوث العالم، واقتضاء المحدث لصفاته. «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» : من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف ما يمكنهم إدراكه. ويقال: «فِي الْآفاقِ» للعلماء، «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» لأهل المعرفة مما يجدونه من العقاب إذا ألمّوا بذنب، ومن الثواب إذا أخلصوا في طاعة. وكذلك ما يحصل لهم من اختلاف الأحوال من قبض وبسط، وجمع وفرق، وحجب   (1) الاستكشاف والاستصراف طلب كشف الغمّة وصرفها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 وجذب.. وما يجدونه بالضرورة فى معاملاتهم ومنازلاتهم «1» . «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» : هو الكافي، ولكنهم- أي الكفار- فى مرية من لقاء ربهم في القيامة. والإشارة فيه: أن العوامّ لفى شك من تجويز ما يكاشف به أهل الحضور من تعريفات السرّ. «أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» : عالم لا يخفى عليه شىء.   (1) يتفق هذا مع ما يذهب إليه جمهور الصوفية حين يميزون الأحوال والمقامات، فالأحوال مواهب من الحق، والمقامات مكاسب للعبد- وإن كانت هذه المكاسب تتم هي الأخرى بفضل الله وعونه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 سورة الشّورى قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» سلوة العاصين في سماع رحمة الله، وحظوة العابدين في رجائهم نعمة الله، وراحة الفقراء فى رضاهم بقسمة الله.. لكل من حاله نصيب، وكلّ في متنفسّه مصيب. قوله جل ذكره: [ سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) الحاء مفتاح اسمه: حليم وحافظ وحكيم، والميم مفتاح اسمه: ملك وماجد ومجيد ومنّان ومؤمن ومهيمن، والعين مفتاح اسمه: عالم وعدل وعال، والعين مفتاح اسمه: سيّد وسميع وسريع الحساب، والقاف مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدير وقدوس «1» . [سورة الشورى (42) : آية 3] كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) أقسم بهذه الأسماء وهذه الحروف إنه كما أوحى إلى الذين من قبلك كذلك يوحى إليك العزيز الحكيم، كما أوحى إليهم العزيز الحكيم. [سورة الشورى (42) : آية 4] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) له ما في السماوات وما في الأرض ملكا. «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» : علوّه وعظمته استحقاقه لأوصاف المجد أي وجوب أن يكون بصفات المجد والجلال.   (1) ربما يتأيد اتجاه القشيري في تفسير هذه الحروف المقطعة هنا بالأسماء والأوصاف الإلهية بختام الآيات التالية بالعزيز الحكيم والعلى العظيم والغفور الرحيم.. كأن هذا هو المناخ الذي توحى به افتتاحية السورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 5] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) أي تكاد السماوات تتشقق من عظمة من فوقهن وهو الله تعالى، والفوقية هنا فوقية رتبة «1» وذلك من شدة هيبتهن من الله. ويقال من ثقل الملائكة الذين هم فوق السماوات لكثرتهم. وفي الخبر: «أطت «2» السماء أطا وحق لها أن تئط ما من موضع قدم في السماوات إلا وعليه قائم أو راكع أو ساجد» . ويقال إنه على عادة العرب إذا أخبروا عن شىء قالوا كادت السماوات تنشقّ له.. وهنا لقبح قول المشركين ولجرأتهم على الله تعالى، ولعظم قولهم كادت السماوات تنشقّ.. قال تعالى: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» «3» وعلى هذا التأويل: «يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ» أي إلى أسفلهن، أي تتفطر جملتها «4» . ومع أنّ أولاد آدم بهذه الصفة إلا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم لا يفترون، ويستغفرون لمن في الأرض.. ثم قال: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» : أي يغفر لهم مع كثرة عصيانهم. وفي الوقت الذي يرتكب فيه الكفار هذا الجرم العظيم بسبب شركهم فإنه- سبحانه- لا يقطع رزقه ونفعه عنهم- وإن كان يريد أن يعذّبهم في الآخرة. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 6] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)   (1) لجأ القشيري إلى التأويل كى يتفادى نسبة المكانية إلى الألوهية. (2) أطّ الظّهر- صوّت من ثقل الحمل (الوسيط) . (3) آيات 89، 90، 91 سورة مريم. (4) يقول النسفي: كان القياس أن يقال يتفطرن من نحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل: كدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. (النسفي ح 4 ص 100) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 المشركون اتخذوا الشياطين أولياء من دونه، وذلك بموافقتهم لها فيما توسوس به إليهم. وليس يخفى على الله أمرهم، وسيعذبهم بما يستوجبونه. ولست- يا محمد- بمسلّط عليهم. وفي الإشارة: كلّ من يعمل بمتابعة هواه ويترك لله حدّا أو ينقض له عهدا فهو يتخذ الشياطين أولياء، والله يعلمه، ولا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه.. ثم إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 7] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) أنزلنا عليك قرآنا يتلى بلغة العرب لتخوّف به أهل مكة والذين حولها. وجميع العالم محدق بالكعبة ومكة لأنها سرّة الأرض. «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» : تنذرهم بيوم القيامة. والإنذار الإعلام بموضع المخافة. ويوم الجمع- وهو اليوم الذي يجمع فيه الخلق كلّهم، ويجمع بين المرء وعمله، وبين الجسد وروحه «1» ، وبين المرء وشكله في الخير والشرّ- لا شكّ في كونه. وفي ذلك اليوم فريق يبعث إلى الجنة وفريق يحصل في السعير. وكما أنهم اليوم فريقان فريق في راحة الطاعات وحلاوة العبادات، وفريق في ظلمة الشّرك وعقوبة الجحد.. فكذلك غدا فريق هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء والبلاء. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : الآيات 8 الى 9] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) إن أراد أن يجمعهم كلّهم على الهدى والرشاد لم يكن مانع.. وإذا لا زين لهم. ولو شاء   (1) من هذا نفهم أن القشيري يؤمن بالبعث الكامل أي بعودة الجسد والروح معا إلى الحياة مرة أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 أن يجمعهم كلّهم على الفساد والعناد لم يكن دافع- وإذا لاشين منه. وحيث خلقهم مختلفين- على ما أراد- فلا مبالاة بهم.. إنه إله واحد جبّار غير مأمور، متول جميع الأمور من الخير والشر، والنفع والضر. هو الذي يحيى النفوس والقلوب اليوم وغدا، ويميت النفوس والقلوب اليوم وغدا «1» .. وهو على كل شىء قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 10] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) «فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» : أي إلى كتاب الله، وسنّة نبّيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأئمة، وشواهد القياس. والعبرة بهذه الأشياء فهى قانون الشريعة، وجملتها من كتاب الله فإنّ الكتاب هو الذي يدلّ على صحة هذه الجملة «2» . ويقال: إذا لم تهتدوا إلى شىء وتعارضت منكم الخواطر فدعوا تدبيركم، والتجئوا إلى ظلّ شهود تقديره، وانتظروا ما ينبغى لكم أن تفعلوه بحكم تيسيره «3» . ويقال إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم لا تدرون أبا لسعادة جرى حكمكم أم بالشقاوة مضى اسمكم؟ فكلوا الأمر فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله دون التفكّر فيما ليس لكم سبيل إلى علمه عن عواقبكم. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 11] فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) خلق لكم من أنفسكم «أزواجا: أي أشكالا فخلق حواء من آدم وخلق   (1) الإحياء والإماتة اليوم مرتبطان بالمعاني الصوفية من صفاء وكدورة ونحو ذلك. (2) هذا ردّ على من يتهمون الصوفية بعدم الاحتفال بالمصادر الأساسية للشريعة، فضلا عن أننا نشعر باهتمامهم بالجانب العقلي حين يبرزون «القياس» كمصدر من مصادر التشريع. [ ..... ] (3) وهذا المصدر الأخير خاصة بالسادة الأولياء الأصفياء- يهمنا أمره حين ندرس مصادر الفقه الصوفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 - بسبب بقاء التناسل- جميع الحيوانات أجناسا. «يَذْرَؤُكُمْ» : يكثر خلقكم. «فِيهِ» الهاء تعود إلى البطن أي في البطن، وقيل: فى الرّحم، وقيل: فى التزويج «1» . «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» : لأنه فاطر السماوات والأرض، ولأنه لا مثل يضارعه، ولا شكل يشاكله. والكاف في ليس «كَمِثْلِهِ» صلة أي ليس مثله شىء. ويقال: لفظ «مثل» صلة ومعناه ليس كهو شىء. ويقال معناه ليس له مثل إذ لو كان له مثل لكان كمثله شىء وهو هو، فلما قال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» فمعناه ليس له مثل، والحقّ لا شيبه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أحكامه. وقد وقع قوم في تشبيه ذاته بذات المخلوقين فوصفوه بالحدّ والنهاية والكون في المكان، وأقبح قولا منهم من وصفوه بالجوارح والآلات فظنوا أن بصره في حدقة، وسمعه في عضو، وقدرته في يد.. إلى غير ذلك. وقوم قاسوا حكمه على حكم عباده فقالوا: ما يكون من الخلق قبيحا فمنه قبيح، وما يكون من الخلق حسنا فمنه حسن!! وهؤلاء كلهم أصحاب التشبيه- والحقّ مستحقّ للتنزيه دون التشبيه، مستحق للتوحيد دون التحديد، مستحق للتحصيل دون التعطيل والتمثيل. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 12] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) «مَقالِيدُ» أي مفاتيح، والمفاتيح للخزائن، وخزائنه مقدوراته. وكما أن في الموجودات معادن مختلفة فكذلك القلوب معادن جواهر الأحوال فبعض القلوب معادن المعرفة، وبعضها معادن المحبة، وبعضها للشوق، ويعضها للأنس.. وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والرضا. وفائدة التعريف بأن المقاليد له: أن يقطع العبد أفكاره عن الخلق، ويتوجّه   (1) يقول النسفي: اختير «فيه» على «به» لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع أو المعدن للبث والتكثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 فى طلب ما يريد من الله الذي «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» ، والذي هو «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» : يوسّع ويضيّق أرزاق النفوس وأرزاق القلوب حسبما شاء وحكم وعلم. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 13] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) «شَرَعَ» : أي بيّن وأظهر. «مِنَ الدِّينِ» أراد به أصول الدين فإنها لا تختلف في جميع الشرائع، وأمّا الفروع فمختلفة، فالآية تدلّ على مسائل أحكامها في جميع الشرائع واحدة. ثم بيّن ذلك بقوله: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» .. وفي القصة أن تحريم البنات والأخوات إنما شرع في زمان نوح عليه السلام. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 14] وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) يعنى أنهم أصرّوا على باطلهم بعد وضوح البيان وظهور البرهان حين لا عذر ولا شكّ «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» .. وهو أنه حكم بتأخير العقوبة إلى يوم القيامة لعجّل لهم ما يتمنونه. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 15] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 أي ادع إلى هذا القرآن، وإلى الدين الحنيفي، واستقم في الدعاء، وفي الطاعة. أمر الكلّ من الخلق بالاستقامة، وأفرده بذكر التزام الاستقامة. ويقال: الألف والسين والتاء في الاستقامة للسؤال والرغبة أي سل منى أن أقيمك، «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» : أمرت بالعدل في القضية، وبأن أعلم أنّ الله إله الجميع، وأنّه يحاسب غدا كلّا بعمله، وبأن الحجة لله على خلقه، وبأن الحاجة لهم إلى مولاهم. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 16] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) يجادلون في الله من بعد ما استجيب لدعاء محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر على المشركين. حجّة هؤلاء الكفار داحضة عند ربهم لأنهم يحتجون بالباطل، وهم من الله مستوجبون للعنة والعقاب «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 17] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) أنزل الكتاب، وأنزل الحكم بالميزان أي بالحق. ويقال ألهمهم وزن الأشياء بالميزان، ومراعاة العدل في الأحوال. «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» : يزجرهم عن طول الأمل، وينبههم إلى انتظار هجوم الأجل.   (1) سماها حجة حسب زعمهم- وإن كانت شبهة في حقيقة أمرها. ومن أمثلة حجج أهل الكتاب أنهم كانوا يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم وأولى بالحق.. وكل هذه الحجج داحضة بعد ما دخل الناس في الإسلام، وتركوا الجاهلية وآثامها، استجابة لدعاء الرسول: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن نعبد في الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 18] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) المؤمنون يؤمنون بالبعث وما بعده من أحكام الآخرة، ويكلون أمورهم إلى الله فلا يتمنون الموت حذر الابتلاء، ولكن إذا ورد الموت لم يكرهوه، وكانوا مستعدين له «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 19] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) «لَطِيفٌ» «2» أي عالم بدقائق الأمور وغوامضها. واللطيف هو الملطف المحسن.. وكلاهما في وصفه صحيح. واللطف في الحقيقة قدرة الطاعة، وما يكون سبب إحسانه للعبد اليوم هو لطف منه به. وأكثر ما يستعمل اللطف- فى وصفه- فى الإحسان بالأمور الدينية. ويقال: خاطب العابدين بقوله: «لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» : أي يعلم غوامض أحوالهم من دقيق الرياء والتصنّع لئلا يعجبوا بأحوالهم وأعمالهم. وخاطب العصاة بقوله: «لَطِيفٌ» : لئلا ييأسوا من إحسانه. ويقال: خاطب الأغنياء بقوله: «لَطِيفٌ» : ليعلموا أنه يعلم دقائق معاملاتهم في جمع المال من غير وجهه بنوع تأويل، وخاطب الفقراء. بقوله: «لَطِيفٌ» أي أنه محسن يرزق من يشاء. ويقال: سماع قوله: «اللَّهُ» يوجب الهيبة والفزع، وسماع «لَطِيفٌ» يوجب السكون   (1) لأن الموت يقربهم من اللقاء.. لقاء المحبوب. (2) تضاف أقوال القشيري هنا فى «اللطيف» إلى ما ذكره في كتاب التحبير في التذكير (تحقيق بسيونى) وما ذكره في كتاب: شرح أسماء الله الحسنى (تحقيق الحلواني) صدر بالقاهرة سنة 1969 ص 176 وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 والطمأنينة. فسماع قوله: «اللَّهُ» أوجب لهم تهويلا، وسماع قوله: «لَطِيفٌ» أوجب لهم تأميلا. ويقال: اللطيف من يعطى قدر الكفاية وفوق ما يحتاج العبد إليه. ويقال: من لطفه بالعبد علمه بأنه لطيف، ولولا لطفه لما عرف أنه لطيف. ويقال: من لطفه أنه أعطاه فوق الكفاية، وكلفّه دون الطاقة. ويقال: من لطفه بالعبد إبهام عاقبته عليه لأنه لو علم سعادته لاتّكل عليه، وأقلّ عمله. ولو علم شقاوته لأيس ولترك عمله.. فأراده أن يستكثر في الوقت من الطاعة. ويقال: من لطفه بالعبد إخفاء أجله عنه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ويقال: من لطفه بالعبد أنه ينسيه ما عمله في الدنيا من الزّلة لئلا يتنغّص عليه العيش فى الجنة. ويقال: اللطيف من نوّر الأسرار «1» ، وحفظ على عبده ما أودع قلبه من الأسرار «2» ، وغفر له ما عمل من ذنوب في الإعلان والإسرار. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 20] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ» : نزده- اليوم- فى الطاعات توفيقا، وفي المعارف وصفاء الحالات تحقيقا. ونزده في الآخرة ثوابا واقترابا وفنون نجاة وصنوف درجات. «وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» : مكتفيا به نؤته منها ما يريد، وليس له في الآخرة نصيب.   (1) هذه (الأسرار) جمع السر وهو الملكة الباطنية التي تعلو الروح- كما نعرف من المذهب العرفانى للقشيرى. (2) وأما (الأسرار) الثانية فهى جمع السر كما نعرفه- بمعنى الشأن الخفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 21] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) «ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» : أي ليس ذلك مما أمر به، وإنما هو افتراء منهم. «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ» .. أي ما سبق به الحكم بتأخير العقوبة إلى القيامة.. [سورة الشورى (42) : آية 22] تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) إذا حصل الإجرام فإلى وقت ما لا يعذّبهم الله في الغالب، ولكنه لا محالة يعذبهم وربما يثبت ذلك لبعض أصحاب القلوب فيتأسفون، ويعلمون أنّ ذلك من الله لهم معجّلّ قد أصابهم، أمّا الكفار.. فغدا يشفقون مما يقع بهم عند ما يقرءونه في كتابهم، لأنّ العذاب- لا محالة- واقع بهم. «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ» : فى الدنيا جنان الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأنس في أوقات الخلوة. وفي الآخرة في روضات الجنة: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» : إن أرادوا دوام اللطف دام لهم، وإن أرادوا تمام الكشف كان لهم.. ذلك هو الفضل الكبير. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 23] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) ذلك الذي يبشّر الله عباده قد مضى ذكره في القرآن متفرقا من أوصاف الجنة وأطايبها، وما وعد الله من المثوبة.. ونحو ذلك. «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» . قل- يا محمد- لا أسألكم عليه أجرا. من بشّر أحدا بالخير طلب عليه أجرا، ولكنّ الله- وقد بشّر المؤمنين على لسان نبيّه بما لهم من الكرامات الأبدية- لم يطلب عليه أجرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 فالله- سبحانه- لا يطلب عوضا، وكذلك نبيّه- صلى الله عليه وسلم- لا يسأل أجرا فإن المؤمن قد أخذ من الله خلقا حسنا.. فمتى يطلب الرسول منهم أجرا؟! وهو- صلوات الله عليه- يشفع لكلّ من آمن به، والله- سبحانه- يعطى الثواب لكل من آمن به. «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» : أراد أن تثبت مودتك في القربى فتودّ من يتقرّب إلى الله فى طاعته «1» . «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» . تضعيف الثواب في الآخرة للواحد من عشرة إلى سبعمائة.. هذه هي الزيادة. ويقال: الزيادة هي زيادة التوفيق في الدنيا. ويقال: إذا أتى زيادة في المجاهدة تفضّلنا بزيادة.. وهي تحقيق المشاهدة. ويقال من يقترف حسنة الوظائف «2» نزد له فيها حسن اللطائف. ويقال: تلك الزيادة لا يصل إليها العبد بوسعه فهى مما لا يدخل تحت طوق «3» البشر. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 24] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) أي أنّك إن افتريته ختم الله على قلبك، ولكنك لم تكذب على ربّك. ومعنى الآية أنّ الله يتصرّف في عباده بما يشاء: من إبعاد وتقريب، وإدناء وتبعيد «4» .   (1) استغلت هذه الآية الكريمة استغلالا عقديا وسياسيا في عصور متأخرة خصوصا من جانب المتشيعين لعلى كرم الله وجهه وبيته.. وواضح أن القشيري أطلق القرابة على كل من يتقرب إلى الله بالطاعة فهى عنده قرابة في الله، وربما كان ذلك نتيجة سنيته وحرصه على سنيته. (أنظر مدخل اللطائف ح 1 ص 25) . (2) المقصود بالوظائف أداء العبادات والتزام آداب الشريعة. (3) فى ص وردت (طرق) بالراء وهي خطأ في النسخ. (4) يقول مجاهد: «يختم على قلبك» أي يربط عليه بالصبر على أذاهم واتهامهم له بالافتراء والكذب لئلا تدخله شقة بسبب تكذيبهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 25] وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» الألف واللام للجنس مطلقا، وهي هنا للعهد أي تلك السيئات التي تكفى التوبة المذكورة في الشريعة لقبولها فإنه يعفو عنها إذا شاء «1» . «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» : من الأعمال على اختلافها «2» . وهو «الَّذِي» ..: الذي من الأسماء الموصولة التي لا يتم معناها إلا بصلة، فهو قد تعرّف إلى عباده على جهة المدح لنفسه بأنه يقبل توبة العبد فالزّلّة- وإن كانت توجب للعبد ذميم الصّفة- فإنّ قبولها يوجب للحقّ حميد الاسم. ويقال: قوله: «عِبادِهِ» اسم يقتضى الخصوصية (لأنه أضافه إلى نفسه) «3» حتى تمنّى كثير من الشيوخ أن يحاسبه حساب الأولين والآخرين لعلّه يقول له: عبدى. ولكن ما طلبوه فيما قالوه موجود فى «التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» وإذا فلا ينبغى لهم أن يتمنوا كذلك، وعليهم أن أن يتوبوا لكى يصلوا إلى ذلك. ويقال لمّا كان حديث العفو عن السيئات ذكرها على الجمع والتصريح «4» فقال: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» . ثم لمّا كان حديث التهديد قال: «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» فذكره على التلويح فلم يقل: ويعلم زلّتك- بل قال ويعلم «ما» تفعلون، وتدخل في ذلك الطاعة والزّلة جميعا «5» . قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 26] وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)   (1) يشير القشيري إلى الآية الكريمة «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» . (2) ويدخل في ذلك- كما سيأتى بعد قليل- المعاصي والطاعات. (3) ما بين القوسين إضافة من عندنا طبقا لما نعرفه من أسلوب القشيري في مثل هذا الموضع. [ ..... ] (4) هكذا في م وهي في ص (والتضرع) وهي خطأ في النسخ لعدم ملامتها السياق فالتصريح يقابل «التلويح» المذكور فيما بعد. (5) فى هذه الإشارة وما تلاها يبدو انفتاح باب الأمل أمام العصاة، وكيف يحثهم هذا الإمام الجليل على التوبة الآملة والرجاء الوطيد في رحمة الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 (أي إذا دعوه استجاب لهم) «1» بعظيم الثواب في الآخرة. «وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» : يقول المفسرون من أهل السّنّة في هذه الزيادة إنها الرؤية. ذكر التوبة وأهلها، وذكر العاصين بوصفهم، ثم ذكر المطيعين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فلمّا وصل إلى الزيادة- التي هي الرؤية- قال: «وَيَزِيدُهُمْ» على الجمع والكناية «2» إذا تلمت مذكورات رجعت إليها جميعا فيكون المعنى أن الطاعات في مقابلها الدرجات، وتكون بمقدارها في الزيادة والنقصان، وأمّا الرؤية فسبيلها الزيادة والفضل.. والفضل ليس فيه تمييز. ويقال: لمّا ذكر أنّ التائبين تقبل توبتهم، ومن لم يتب غفر زلّته «3» ، وأنّ المطيعين لهم الجنة.. فلربما خطر ببال أحد: وإذا فهذه النار لمن هى؟! فقال جل ذكره: «وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» . فالعصاة من المؤمنين لهم عذاب.. أمّا الكافرون فلهم عذاب شديد لأنّ دليل الخطاب يقتضى هذا وذاك يقتضى أن المؤمنين لهم عذاب.. ولكن ليس بشديد، وأمّا عذاب الكافرين فشديد. ويقال: إن لم يتب العبد خوفا من النار، ولا طمعا في الجنة لكان من حقّه أن يتوب ليقبل الحقّ- سبحانه. ويقال إن العاصي يكون أبدا منكسر القلب، فإذا علم أن الله يقبل الطاعة من المطيعين يتمنى أن ليت له طاعة ميسّرة ليقبلها، فيقول الحقّ: عبدى، إن لم تكن لك طاعة تصلح للقبول فلك توبة إن أتيت بها تصلح لقبولها. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 27] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)   (1) ما بين القوسين زيادة من عندنا وجدناها ضرورية لتوضيح العبارة. (2) يقصد القشيري بالكناية الضمير فى «ويزيدهم» . (3) لأنه ربط ذلك بمشيئته- سبحانه- فقال «ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 هذا الخطاب في الظاهر يشبه الاعتذار في تخاطب الآدميين. والمعنى: أننى لم أبسط عليك أيها الفقير في الدنيا لما كان لى من العلم أننى لو قسمت عليك الدنيا لطغيت، ولسعيت فى الأرض بالفساد. ويقال: قوله: «وَلكِنْ..» : لكن كلمة استدراك، فالمعنى: لم أوسّع عليك الرزق بمقدار ما تريد ولم أمنع عنك (الكلّ) «1» لأنّ أنزّل بقدر ما أشاء. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 28] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) الله- سبحانه محيى القلوب فكما أنه «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» ، فبعدما أصابت الأرض جدوبة، وأبطأ نزول الغيث، وقنط الناس من مجىء المطر، وأشرف الوقت على حدّ الفوات ينزّل الله بفضله الغيث، ويحيى الأرض بعد قنوط أهلها.. فكذلك العبد إذا ذبل غصن وقته، وتكدّر صفو ودّه، (وكسفت) «2» شمس أنسه، (وبعد) «3» عن الحضرة وساحات القرب عهده فلربما ينظر إليه الحقّ برحمته فينزل على سرّه أمطار الرحمة، ويعود عوده طريّا، وينبت في مشاهد أنسه وردا جنيّا.. وأنشدوا: إن راعنى منك الصدود ... فلعلّ أيامى تعود ولعلّ عهدك باللّوى ... يحيا فقد تحيا العهود والغصن ييبس تارة ... وتراه مخضرّا يميد قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 29] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)   (1) هكذا في م، وهي في ص (الكيل) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح من السياق. (2) هكذا في ص، وهي في م (كشفت) بالشين وهي خطأ في النسخ كما هو واضح. (3) سقطت في ص وموجودة في م والسياق يتطلبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 جعل الله في كلّ شىء من المخلوقات دلالة على توحّده في جلاله، وتفرّده بنعت كبريائه وجماله «1» . «وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» : والإشارة منها أنّ الحقّ- سبحانه- يغار على أوليائه أن يسكن بعضهم بقلبه إلى بعض فأبدا يبدّد شملهم، ولا تكاد الجماعة من أهل القلوب تتفق في موضع واحد إلا نادرا، وذلك لمدة يسيرة.. كما قالوا: رمى الدهر بالفتيان حتى كأنّهم ... بأكناف أطراف السماء نجوم وفي بعض الأحايين قد يتفضّل الحقّ عليهم فتدنو بهم الديار، ويحصل بينهم- فى الظاهر- اجتماع والتقاء، فيكون في ذلك الوقت قد نظر الحقّ- سبحانه- بفضله إلى أنّ في اجتماعهم بركات لحياة العالم. وهذا- وإن كان نادرا- فإنه على جمعهم- إذا يشاء- قدير. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 30] وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) إذا تحقّق العبد بهذه الآية فإنه إذا أصابته شظية أو حالة مما يسوءه، وعلم أن ذلك جزاء له، وعقاب على ما بدر منه من سوء الأدب لاستحيى بخجلته من فعله، ولشغله ذلك عن رؤية الناس، فلا يحاول أن ينتقم منهم أو يكافئهم أو يدعو عليهم، وإنما يشغله تلافى ما بدر منه من سوء الفعل عن محاولة الانتصاف لنفسه ممن يتسلّط عليه من الخلق.. تاركا الأمر كلّه لربّه. ويقال: إذا كثرت الأسباب من البلايا على العبد، وتوالى عليه ذلك.. فليفكّر فى أفعاله للذمومة.. كم يحصل منه حتى يبلغ جزاء ما يفعله- مع العفو الكثير- هذا المبلغ؟! فعند ذلك يزداد حزنه وتأسّفه لعلمه بكثرة ذنوبه ومعاصيه.   (1) سبق أن نبا القشيري إلى توحيد القالة وتوحيد الدلالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 32] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) يريد بها السفن التي تجرى في البحار يرسل الله الريح فتسيّرها مرة، ويسكّنها أخرى، وما يريهم خلال ذلك من الهلاك أو السلامة.. وهو بهذا يحثّهم على التفكّر والتنبّه دائما. والإشارة في هذا إلى إمساك الناس «1» فى خلال فترة الوقت عن الأنواء المختلفة، وحفظهم في إيواء السلامة، فالواجب الشكر في كل حالة، وإذا خلص الشكر استوجب جزيل المزيد. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 36] فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) يعنى أنّ الراحات في الدنيا لا تصفو، ومن المشائب لا تخلو. وإن اتفق وجود البعض منها في أحايين فإنها سريعة (الزوال) «2» ، (وشيكة) «3» الارتحال. «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الموعود «خَيْرٌ» من هذا القليل الموجود. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 37] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) «كَبائِرَ الْإِثْمِ» : الشرك. و «الْفَواحِشَ» : ما دون ذلك من الزلّات. فإذا تركوها لا يتجرّعون كاسات الغضب بل تسكن لديهم سورة النّفس لأنهم يتوكلون على ربهم فى عموم الأحوال. [سورة الشورى (42) : آية 38] وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)   (1) المقصود بإمساك الناس هنا حفظ الله سبحانه وتعالى لهم. (2) وردت (العذاب) فى ص وهي خطأ في النسخ. (3) وردت (وسكية) فى ص وهي خطأ في النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 «اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» : فيما دعاهم إليه وما أمرهم به من فنون الطاعات فهؤلاء هم الذين لهم حسن الثواب وحميد المآب. والمستجيب لربّه هو الذي لا يبقى له نفس إلا على موافقة رضاه «1» ، ولا تبقى منه لنفسه بقية. «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» : لا يستبدّ أحدهم برأيه لأنه يتّهم أمره ورأيه أبدا «2» . ثم إذا أراد القطع بشىء يتوكل على الله. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 39] وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) «الْبَغْيُ» : الظلم، فيعلم أحدهم أن الظلم الذي أصابه هو من قبل نفسه، فينتصر على الظالم وهو نفسه بأن يكبح عنانها عن الركض في ميدان المخالفات. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 40] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) (يعنى لا تجاوزوا حدّ ما جنى الجاني عليكم في المكافأة أو الانتقام) «3» . «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» : من عفا عن الجاني، وأصلح ما بينه وبين الله- أصلح الله ما بينه وبين الناس. «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» : فالذى للعبد من الله وعلى الله، وعند الله خير مما يعمله باختياره. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : الآيات 41 الى 42] وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) .   (1) هذا ما يعرف عند الصوفية بمراعاة الأنفاس. (2) هذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية. [ ..... ] (3) ما بين القوسين سقط في ص وموجود في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 علم الله أن الكلّ من عباده لا يجد التحرر من أحكام النّفس، ولا يتمكن من محاسن الخلق فرخّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط- وإن كان الأولى بهم الصفح والعفو. «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ..» : السبيل بالملامة لمن جاوز الحدّ، (وعدا الطّور) «1» ، وأتى غير المأذون له من الفعل.. فهؤلاء لهم عذاب أليم. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 43] وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر- بالتجاوز عن الخصم- ولم تبق لنفسه عليه دعوى، بل يبرىء خصمه من كل دعوى، فى الدنيا والعقبى.. فذلك من عزم الأمور. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) إنّ الذين أضلّهم الله، وأعمى أبصارهم وبصائرهم، وأوقعهم في كدّ عقوبتهم، وحرمهم برد الرضا لحكم ربّهم ليس لهم وليّ من دون الله، ولا مانع لهم من عذابه. وتراهم إذا رأوا العذاب يطلبون منه النجاة فلا ينالونها. وتراهم يعرضون على النار وهم خاشعون من الذّلّ لا تنفعهم ندامة، ولا تسمع منهم دعوة، ويعيّرهم المؤمنون بما ذكّروهم به فلا يسمعون، فاليوم لا ناصر ينصرهم، ولا راحم يرحمهم. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 47] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) الاستجابة لله الوفاء بعهده، والقيام بحقّه، والرجوع عن مخالفته إلى موافقته، والاستسلام   (1) فى ص (وعد) وهي خطأ في النسخ. ويقال عدا وتعدى الطور أي جاوز حدّه وقدره (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 فى كل وقت لحكمه. والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح. وعن قريب سيغلق الباب على القلب بغتة، ويؤخذ فلتة. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 48] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) فإن أعرضوا عن الإجابة فليس عليك إلا تبليغ الرسالة، ثم نحن أعلم بما نعاملهم به. «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» . إذا أذقنا الإنسان منّا رفاهية ونعمة فرح بتلك الحالة، وقابلها بالبطر، وتوصّل بتمام عافيته إلى المخالفة، وجعل السلامة ذريعة للمخالفة. وإن أصابته فتنة وبلية، ومسّته مصيبة ورزية فإنه كفور بنعمائنا، جحود لآياتنا. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) «1» ... يهب لمن يشاء الذكور، ولمن يشاء الإناث، ولمن يشاء الجنين، ويجعل من يشاء عقيما، فلا اعتراض عليه في تقديره، ولا افتيات في اختياره، فهو أولى بعباده من عباده. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : آية 51] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) لله بحقّ ملكه أن يفعل ما يشاء، ويعطى من يشاء من عباده ما يشاء، ولكن أجرى   (1) يرى النسفي أنه قدم الإناث على الذكور هنا ليوضح أنه فاعل لما يشاؤه لا لما يشاء الإنسان، فكان تقديم الإناث اللاتي من جملة مالا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم. ح 4 ص 111. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 العادة وحكم بأنه لا يفعل إلا ما ورد في هذه الآية فلم يكلّم أحدا إلا بالوحى، أو من وراء حجاب يعنى وهو لا يرى الحقّ، فالمحجوب هو العبد لا الرب، والحجاب أن يخلق فى محل الرؤية ضد الرؤية.. تعالى الله عن أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام المحدودة التي يسبل عليها ستر. إنه «عَلِيٌّ» : فى شأنه وقدره، «حَكِيمٌ» : فى أفعاله. قوله جل ذكره: [سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) أي ذلك مثلما أوحينا إليك «رُوحاً» من أمرنا يعنى القرآن سمّاه روحا لأنه من آمن به صار به قلبه حيّا. ويقال «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» : أي جبريل عليه السلام، ويسمى جبريل روح القدس. «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ..» : ما كنت تدرى قبل هذا ما القرآن، «وَلَا الْإِيمانُ» : أي تفصيل هذه الشرائع. «وَلكِنْ جَعَلْناهُ» : أي القرآن «نُوراً» نهدى به من نشاء من عبادنا المؤمنين. «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» : لأن منه ابتداء الأمور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 سورة الزّخرف قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم «الله: اسم عزيز من وثق بجوده وكرمه لم يعلّق بغيره صواعد هممه، ولم يقف على سدّة مخلوق بقدمه في ابتغاء كرمه. اسم عزيز من عوّده خفايا لطفه «1» لم يتذلّل «2» فى طلب شىء من غيره، ولم يرجع إلى غيره في شرّه وخيره. قوله جل ذكره: [ سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) الحاء تدل على حياته والميم على مجده.. وهذا قسم ومعناه: وحياتى ومجدى وهذا القرآن إنّ الذي أخبرت عن رحمتى بعبادي المؤمنين حق وصدق. وجعلناه قرآنا عربيا ليتيسّر عليكم فهم معناه. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 4] وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) «فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا» : أي أنه مكتوب في اللّوح المحفوظ. «لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» لعليّ القدر، حكيم الوصف لا تبديل له ولا تحويل. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 5] أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) أي أننا لا نفعل ذلك (فيكون معنى الاستفهام) «3» أفنقطع عنكم خطابنا وتعريفنا   (1) هكذا في م وهي في ص (خفاء حكمه) . وقد آثرنا الأولى لأنها أكثر تدعيما للسياق. (2) هكذا في م وهي في ص (لم تبدلل) وواضح الخطأ الناسخ. (3) ما بين القوسين إضافة من عندنا ليتماسك السياق. والاستفهام في الآية يفيد الإنكار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 إن أسرفتم في خلافكم؟ لا ... إننا لا نرفع التكليف بأن خالفتم، ولا نهجركم- بقطع الكلام عنكم- إن أسرقتم. وفي هذا إشارة لطيفة وهو أنه لا يقطع الكلام- اليوم- عمّن تمادى في عصيانه، وأسرف في أكثر شانه. فأحرى أنّ من لم يقصّر في إيمانه- وإن تلطّخ بعصيانه، ولم يدخل خلل في عرفانه- ألا يمنع عنه لطائف غفرانه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 7] وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) ما أتاهم من رسول فقابلوه بالتصديق، بل كذّب به الأكثرون وجحدوا، وعلى غيّهم أصرّوا ... [سورة الزخرف (43) : آية 8] فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) أي لم يعجزنا أحد منهم، ولم نغادر منهم أحدا، وانتقمنا من الذين أساءوا. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 9] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) كانوا يقرّون بأنّ الله خالقهم، وأنّه خلق السماوات والأرض، وإنما جحدوا حديث الأنبياء، وحديث البعث وجوازه. [سورة الزخرف (43) : آية 10] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) كما جعل الأرض قرارا لأشباحهم جعل الأشباح قرارا لأرواحهم فالخلق سكّان الأرض، فإذا انتهت المدة- مدة كون النفوس على الأرض- حكم الله بخرابها.. كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكليّة قضى الله بخرابها.   (1) هكذا تتجلى نزعة الأمل والتفاؤل عند هذا الصوفي حيث يحاول في إشارته أن يبين كيف أن رحمة الله تمتد لتشمل المؤمنين العصاة حتى من أسرف منهم على نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 11] وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) يعنى كما يحيى الأرض بالمطر يحيى القلوب بحسن النّظر. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 12] وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) أي الأصناف من الخلق «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» كذلك جنّس عليكم الأحوال كلها فمن رغبة في الخيرات إلى رهبة مما توعدّكم به من العقوبات. ومن خوف يحملكم على ترك الزلّات إلى رجاء يبعثكم على فعل الطاعات طمعا فى المثوبات.. وغير ذلك من فنون الصفات [سورة الزخرف (43) : آية 13] لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) يعنى الفلك والأنعام.. «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» مطيعين، وكما سخّر لهم الفلك في البحر، والدوابّ للركوب، وأعظم عليهم المنة بذلك فكذلك (سهّل للمؤمنين مركب التوفيق فحملهم عليه إلى بساط الطاعة) «1» ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة فحملهم عليه إلى عرصات الجود، وسهّل للعارفين مركب الهمم فأناخوا بعقوة العزّة. وعند ذلك محطّ الكافة إذ لم تخرق سرادقات العزّة همّة مخلوق: سواء كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا أو وليّا مكرّما، فعند سطوات العزّة يتلاشى كلّ مخلوق، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق «2» .   (1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م فأثبتناه في هذا الموضع لأن مرتبة المؤمنين عامة تليها مرتبة المريدين وهي خاصة، ثم العارفين وهم خواص الخواص. (2) يرتبط ذلك بمذهب القشيري فى «الفناء» ، وكيف أن الصمدية تجل عن الاستشراف.. ناهيك بما يزعمه آخرون من حلول واتحاد.. وغير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 15] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) هم الذين قالوا: الملائكة بنات الله فجعلوا البنات لله جزءا على التخصيص من جملة مخلوقاته.. تعسا لهم في قولهم ذلك وخزيا «1» !! فردّ عليهم ذلك قائلا: [سورة الزخرف (43) : آية 16] أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) قال لهم على جهة التوبيخ، وعابهم بما قالوا إذ- على حدّ قولهم- كيف يؤثرهم بالبنين ويجعل لنفسه البنات؟! ففى قولهم ضلال إذ حكموا للقديم بالولد. وفيه جهل إذ حكموا له بالبنات ولهم بالبنين- وهم يستنكفون من البنات.. ثم.. أي عيب في البنات؟ ثم.. كيف يحكمون بأن الملائكة إناث- وهم لم يشاهدوا خلقتهم؟ كلّ ذلك كان منهم خطأ محظورا. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 20] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) إنما قالوا ذلك استهزاء واستبعادا لا إيمانا وإخلاصا، فقال تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» ولو علموا ذلك وقالوه على وجه التصديق لم يكن ذلك منهم معلولا. ثم قال: [سورة الزخرف (43) : آية 21] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أي ليس كذلك، حتى أخبر أنهم ركنوا إلى تقليد لا يفضى إلى العلم، فقال: [سورة الزخرف (43) : آية 22] بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)   (1) في م (وحزنا) وهي غير ملائمة- كما هو واضح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 فنحن نقتدى بهم، ثم قال: [سورة الزخرف (43) : آية 23] وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) سلكوا طريق هؤلاء في التقليد لأسلافهم، ولاستنامة إلى ما اعتادوه من السّيرة والعادة. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 24 الى 25] قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) فلم ينجع فيهم قوله، ولم ينفعهم وعظه، وأصرّوا على تكذيبهم، فانتقم الحقّ- سبحانه- منهم كما فعل بالذين من قبلهم. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) أخبر أنّ إبراهيم لمّا دعا أباه وقومه إلى الله وتوحيده أبوا إلّا تكذيبه فتبرّأ منهم بأجمعهم، وجعل الله كلمة التوحيد باقية في عقبه وقومه. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 29] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) أرخينا عنان إمهالهم مدة، ثم كان أمرهم «1» أن انتصرنا منهم، ودمّرناهم أجمعين. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 31] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)   (1) هكذا في ص وهي في م (آخرهم) وهي مقبولة في السياق على معنى (آخر أمرهم) أو (آخر شأنهم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 إمّا أبى مسعود الثقفي «1» أو أبى جهل، وهذا أيضا من فرط جهلهم. [سورة الزخرف (43) : آية 32] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) أهم يقسمون- يا محمد- رحمة ربك في التخصيص بالنبوة؟ أيكون اختيار الله- سبحانه- على مقتضى هواهم؟ بئس ما يحكمون! «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ ..... » فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم .... فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء؟! ..... والإشارة من هذا: أن الحقّ- سبحانه- لم يجعل قسمة السعادة والشقاوة إلى أحد، وإنما المردود من ردّه بحكمه وقضائه وقدره، والمقبول- من جملة عباده- من أراده وقبله ... لا لعلّة أو سبب، وليس الردّ أو القبول لأمر مكتسب «2» ... ثم إنه قسم لبعض عباده النعمة والغنى، وللبعض القلّة والفقر، وجعل لكلّ واحد منهم سكنا يسكنون إليه يستقلون به فللأغنياء وجود الإنعام وجزيل الأقسام.. فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهود المنعم والقسّام.. فحمدوا وافتخروا. الأغنياء وحدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله: «نَحْنُ» فاشتغلوا «3» .   (1) هو أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، وأبو جهل من مكة فالقريتان هما الطائف ومكة. وروى أن الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانه قريش- كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقا لنزل عليّ أو على أبى مسعود. (2) مرة أخرى ينبه القشيري إلى أن المعول عليه في الأمر فضل الله وقسمته، ولهذا الرأى شأنه في مسألة الثواب والعقاب التي اتخذها المعتزلة وسيلة من وسائل تبرير الحرية الإنسانية- كما نبهنا إلى ذلك في هوامش كثيرة من الكتاب. (3) أي (اشتغلوا) بالله وطاعته دون غاية غيريه أو مطمع زائل. ونحن لا نستبعد أنها قد تكون في الأصل (فاستقلوا) فهذا هو تعبير الشيخ المألوف في مثل هذا السياق. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: أما ترضون أن يرجع الناس بالغنى وأنتم ترجعون بالنبي إلى أهليكم؟ «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا..» : لو كانت المقادير متساوية لتعطلّت المعايش، ولبقى كلّ عند حاله فجعل بعضهم مخصوصين بالرّفه والمال، وآخرين مخصوصين بالفقر ورقة الحال.. حتى احتاج الفقير في جبر حاجته إلى أن يعمل للغنيّ كى يرتفق من جهته بأجرته فيصلح بذلك أمر الغنيّ والفقير جميعا. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 33] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) معنى الآية أنه ليس للدنيا عندنا خطر فالذى يبقى عنّا لو صببنا عليه الدنيا بحذافيرها لم يكن ذلك جبرانا لمصيبته. ولولا فتنة قلوب المؤمنين لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج من فضة، وكذلك ما يكون شبيها بهذا. ولو فعلنا.. لم يكن لما أعطيناه خطر لأنّ الدنيا بأسرها ليس لها عندنا خطر. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 36] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) من لم يعرف قدر الخلوة مع الله فحاد عن ذكره، وأخلد إلى الخواطر الرديّة قيّض الله له من يشغله عن الله- وهذا جزاء من ترك الأدب في الخلوة. وإذا اشتغل العبد في خلوته بربّه.. فلو تعرّض له من يشغله عن ربه صرفه الحق عنه بأى وجه كان، وصرف دواعيه عن مفاتحته بما يشغله عن الله. ويقال: أصعب الشياطين نفسك والعبد إذا لم يعرف خطر فراغ قلبه، واتّبع شهوته، وفتح ذلك الباب على نفسه بقي في يد هواه أسيرا لا يكاد يتخلّص عنه إلا بعد مدّة. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 37 الى 39] وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 الذي سوّلت له نفسه أمرا يتوهّم أنه على صواب، ثم يحمل صاحبه على موافقته في باطله، ويدّعى أنه على حقّ. وهو بهذا يضر بنفسه ويضر بغيره. ثم إذا ما انكشف- غدا- الغطاء تبيّن صاحبه خيانته، وندم على صحبته، ويقول: «يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» «1» و «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» . ولكنّ هذه الندامة لا تنفع حينئذ لأنّ الوقت يكون قد فات، لهذا قال تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 40] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) هذا الاستفهام فيه معنى النفي أي أنه ليس يمكنك هداية من سددنا بصيرته، ولبّسنا عليه رشده، ومن صببنا في مسامع فهمه رصاص الشقاء والحرمان.. فكيف يمكنك إسماعه؟! قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 41] فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) يعنى: إن انقضى أجلك ولم يتفق لك شهود ما نتوعّدهم به فلا تتوهّم أنّ صدق كلامنا يشوبه مين «2» ، فإنّ ما أخبرناك عنه- لا محالة- سيكون. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 42] أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) أثبته على حدّ الخوف «3» والرجاء، ووقفه على وصف التجويز لاستبداده «4» - سبحانه   (1) آية 28 سورة الفرقان. (2) في م (مبين) وهي خطأ في النسخ إذ الصواب (المين) أي الكذب. (3) فى ص (الحزن) : لكننا آثرنا عليها ما جاء في م فالخوف- لا الحزن- يقابل الرجاء في المصطلح الصوفي (أنظر رسالة القشيري ص 35) . (4) استبد بالأمر- انفرد به (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 بعلم الغيب. والمقصود كذلك أن يكون كلّ أحد بالنسبة لأمر الله من جملة نظارة التقدير- فالله يفعل ما يريد. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 43] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) اجتهد من غير تقصير وتوكّل على الله من غير فتور، وقف حيثما أمرت، وثق بأنك على صراط مستقيم. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 44] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) أي إنّ هذا القرآن لذكر لك أي شرف لك، وحسن صيت، واستحقاق منزلة. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 45] وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) حشر أرواح الأنبياء- عليهم السلام- ليلة الإسراء، وقيل له- صلى الله عليه وسلم: سلهم: هل أمرنا أحدا بعبادة غيرنا؟ فلم يشكّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ولم يسأل «1» ويقال: الخطاب له، والمراد به غيره.. فمن يرتاب في ذلك؟ (ويقال: المراد منه سل أقوامهم، لكى إذا قالوا إن الله لم يأمر بذلك كان هذا أبلغ في إبرام الحجة عليهم) «2» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 50] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) كرّر قصة موسى غير مرة في القرآن، وأعادها هنا مجملة أرسلناه بدلائلنا، أرسلناه بحجة ظاهرة قاهرة، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط، فقوبل بالهزء والضحك   (1) عن ابن عباس أنه قال: «لا أسأل قد اكتفيت» وعنه أيضا: أنه لم يسأل لأنه كان أعلم بالله منهم. (2) ما بين القوسين ساقط في ص وموجود في م، والمقصود بها: اسأل مؤمنى أهل الكتابين التوراة والإنجيل- وعلى هذا الرأى جمهور من المفسرين منهم مجاهد والضحاك وقتادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 والتكذيب. ومع أنّ الله سبحانه لم يجر عليه من البيّنات شيئا إلا كان أوضح مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله. فلمّا عضّهم الأمر قالوا: يا أيها الساحر، ادع لنا ربّك ليكشف عنّا البليّة لنؤمن بك، فدعا موسى.. فكشف الله عنهم، فعادوا إلى كفرهم، ونقضوا عهدهم. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 51] وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) تعزّز بملك مصر، وجرى النيل بأمره! وكان في ذلك هلاكه ليعلم أنّ من تعزّز بشىء من دون الله فحتفه وهلاكه في ذلك الشيء. [سورة الزخرف (43) : آية 52] أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) استصغر موسى وحديثه، وعابه بالفقر.. فسلّطه الله عليه، وكان هلاكه بيديه، فما استصغر أحد أحدا إلا سلّطه الله عليه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 54] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) أطاعوه طاعة الرهبة، وطاعة الرهبة لا تكون مخلصة، وإنما تكون الطاعة صادقة إذا صدرت عن الرغبة. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 55] فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) «آسَفُونا» أغضبونا، وإنما أراد أغضبوا أولياءنا، فانتقمنا منهم. وهذا له أصل في باب   (1) يحاول القشيري أن يغمز بأولئك الذين يتعرضون للأولياء والعارفين، وكيف أن الحق- سبحانه- يتولى عنهم ردّ كيد الكائدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 الجمع «1» حيث أضاف إيسافهم لأوليائه إلى نفسه.. وفي الخبر: أنه يقول: «مرضت فلم تعدنى «2» . وقال في قصة ابراهيم عليه: «يَأْتُوكَ رِجالًا..» «3» وقال في قصة نبيّنا- صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» «4» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 57] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وضرب المثل بعيسى هو قوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» «5» خلق عيسى بلا أب كما خلق آدم بلا أبوين. فجحدوا بهذه الآية. وقيل هو قوله: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» «6» ، فقالوا: رضينا بأن نكون في النار مع عيسى وعزيز والملائكة، وليس لهم في الآية موضع ذكر لأنه سبحانه قال: «وَما» تعبدون، ولم يقل «ومن» تعبدون «7» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 58] وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) ما ضربوه لك إلا جدلا: وذلك أنهم قالوا: إن قال آلهتكم خير فقد أقرّ بأنها معبودة، وإن قال: عيسى خير من آلهتكم فقد أقرّ بأن عيسى يصلح لأن يعبد، وإن قال: ليس واحد منهم   (1) عند ما يضاف الفعل إلى الحق يكون المعنى منصرفا إلى حال الجمع، وعند ما ينسب إلى الخلق يكون منصرفا إلى حال الفرق، مثلما أوضح القشيري هنا، ومثلما أوضح عند قوله تعالى: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» . (2) أصل الحديث: أنه تعالى يقول: «يا ابن آدم، مرضت فلم تعدنى، واستسقيتك فلم تسقنى، واستطعمتك فلم تطعمنى» القرطبي: ج 20، ص 55. (3) آية 27 سورة الحج. والخطاب في الآية لابرهيم في مقام الفرق، ولنبينا في مقام الجمع. (4) آية 80 سورة النساء. (5) آية 59 سورة آل عمران. (6) آية 98 سورة الأنبياء. (7) لأن «من» للعاقل و «ما» لغير العاقل فالمقصود الأصنام. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 خيرا فقد نفى ذلك عن عيسى عليه السلام. هم راموا بهذا الكلام أن يجادلوه، ولم يكن سؤالهم للاستفادة. فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم: أن عيسى عليه السلام خير من آلهتكم ولكنه لا يستحق أن يعبد إذ ليس كلّ ما هو خير من الأصنام بمستحق أن يكون معبودا من دون الله. وهكذا بيّن الله- سبحانه- لنبيّه أنهم قوم جدلون «1» ، وأنّ حجتهم داحضة عند ربهم قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 59 الى 60] إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) فليس عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوّة. «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» ولو شئنا لأنزلنا ملائكة من السماء حتى يكونوا سكّان الأرض بدلكم. ثم قال: [سورة الزخرف (43) : آية 61] وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» : يعنى به عيسى عليه السلام إذا أنزله من السماء فهو علامة للساعة، «فَلا تَمْتَرُنَّ» بنزوله بين يديّ القيامة «2» . [سورة الزخرف (43) : آية 62] وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) ولا يصدنكم الشيطان عن الإيمان بالساعة، وعن اتّباع الإيمان بهداى.   (1) سبب نزول هذه الآية وما سبقها تلك المناظرة التي حاول بها عبد الله بن الزبعرى السهمي أن يستهوى قريشا بإثارة اعتراضات باطلة، فأفحمه المنطق القرآنى، وأخرس لجاجه. يقول معروف الكرخي: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل (الروض الفائق، ج 1، ص 139) . (2) عن أبى هريرة- كما ثبت في صحيح مسلم وابن ماجه- قال قال رسول الله (ص) : لينزلن عيسى ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 63] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) ذكر مجىء عيسى عليه السلام أول مرة حيث أتى قومه بالشرائع الواضحة، ودعاهم إلى دين الله، ولكنهم تحزّبوا عليه «1» ، وإن الذين كفروا به لمستحقون للعقوبة. [سورة الزخرف (43) : آية 67] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) ما كان لغير الله فمآله إلى الضياع. والأخلاء الذين اصطحبوا على مقتضى الهوى بعضهم لبعض عدو يتبرّأ بعضهم من بعض، فلا ينفع أحد أحدا. وأمّا الأخلاء في الله فيشفع بعضهم في بعض، ويتكلم بعضهم في شأن بعض، أولئك هم المتقون الذين استثناهم الله بقوله: «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» . وشرط الخلّة «2» فى الله ألا يستعمل بعضهم بعضا في الأمور الدنيوية، ولا يرتفق بعضهم ببعض حتى تكون الصحبة خالصة لله لا لنصيب في الدنيا، ويكون قبول بعضهم بعض لأجل الله، ولا تجرى بينهم مداهنة، وبقدر ما يرى أحدهم في صاحبه من قبول لطريق الله يقبله، فإن علم منه شيئا لا يرضاه الله لا يرضى ذلك من صاحبه، فإذا عاد إلى تركه غاد هذا إلى مودته، وإلّا فلا ينبغى أن يساعده على معصيته، كما ينبغى أن يتقيه بقلبه، وألا يسكن إليه لغرض دنيوى أو لطمع أو لعوض. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 68] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) يقال لهم غدا: «يا عِبادِ «3» لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يلقاه أهل   (1) كان تحزبهم إلى فرق متعددة هم: اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية. (2) تضاف هذه الآراء إلى ما ذكره القشيري في رسالته في باب «الصحبة» . (3) بالياء في الوصل والوقف مدنى وشامى وأبو عمرو، وبفتح الياء أبوبكر، والباقون بحذف الياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 الجمع «1» من الأهوال، ولا أنتم تحزنون فيما قصّرتم من الأعمال ... أمّا الذنوب.. فقد غفرناها، وأمّا الأهوال ... فكفيناها، وأمّا المظالم.. فقضيناها. فإذا قال المنادى: هذا الخطاب يطمع الكلّ قالوا: نحن عباده، فإذا قال: [سورة الزخرف (43) : آية 69] الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) أيس الكفار، وقوى رجاء المسلمين «2» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 70] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) «3» فى رياض الجنة، وترتعون. ويقال: «تُحْبَرُونَ» من لذة السماع. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) العبّاد لهم فيها ما تشتهى أنفسهم لأنهم قاسوا في الدنيا- بحكم المجاهدات- الجوع والعطش، وتحمّلوا وجوه المشاقّ، فيجازون في الجنة بوجوه من الثواب. وأمّا أهل المعرفة والمحبّون فلهم ما يلذ أعينهم من النظر إلى الله «4» لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم وما عالجوه من الاحتراق لشدة غليلهم.   (1) يفسر النسفي أهل الجمع بأنهم أهل مكة (آية 45 سورة القمر) . (2) قريب مما ذكره القشيري ما أورده الحارث المحاسبى في رعابته: (ينادى المنادى يوم القيامة «يا عبادى لا خوف عليكم اليوم ... » فيرفع الخلائق وموسهم، ويقولون: نحن عباد الله. ثم ينادى الثانية: «الذين آمنوا ... » ثم ينادى الثالثة: «الذين آمنوا وكانوا يتقون» فينكس أهل الكبائر رءوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعى رءوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم) . (3) تحبرون أي تسرون سرورا يظهر حباره (أثره) على وجوهكم. (4) الجنة الحقيقية عند أرباب الأحوال رؤية الله، ورد في الخبر: أسألك لذة النظر إلى وجهك.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 72] وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) أي يقال لهم- والخطاب للمطيعين غدا-: أنتم يا أصحاب الإخلاص في أعمالكم والصدق في أحوالكم: [سورة الزخرف (43) : آية 73] لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) من الفاكهة الكثيرة تأكلون، وفي الأنس تتقبلون. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 75] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) هؤلاء هم الكفار المشركون، فهم أهل الخلود «1» ، لا يفتّر عنهم العذاب ولا يخفف. وأمّا أهل التوحيد: فقد يكون منهم قوم في النار. ولكن لا يخلدون فيها. ودليل الخطاب يقتضى أنه يفتّر عنهم العذاب. ورد فى الخبر الصحيح: أنه يميتهم الحقّ- سبحانه- إماتة إلى أن يخرجهم من النار- والميت لا يحسّ ولا يتألم «2» . «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» الإبلاس «3» من الخيبة، ويدل ذلك على أن المؤمنين لا يأس لهم فيها، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم يعدون أيامهم إلى أن ينتهى حسابهم. ولقد قال الشيوخ: إنّ حال المؤمن في النار- من وجه- أروح لقلبه من حاله في الدنيا فاليوم- خوف الهلاك، وغدا- يقين النجاة، وأنشدوا: عيب السلامة أنّ صاحبها ... متوقّع لقواصم الظّهر وفضيلة البلوى ترقّب أهلها ... - عقب الرجاء- مودة الدهر   (1) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري في أبدية النار، على خلاف ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن القوة الجسمانية متناهية فلا به من فنائها، ولأن دوام الإحراق مع بتاء الحياة خروج عن حكم العقل (انظر شرح المواقف، ج 8، ص 307 وشرح المقاصد، ج 2، ص 228. (2) روى أحمد في مسنده: «.. أماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجىء بهم بنائر بضائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قبل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فلون لبات الجنة.. (3) أبلس: سكت لمرئه وانقطاع حجته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 76] وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) هذا الخطاب يشبه كلمة العذر- وإن جلّ قدره- سبحانه- عن ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 77 الى 78] وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) لو قالوا: «يا مالِكُ» لعلّ أقوالهم «1» كانت أقرب إلى الإجابة، ولكنّ الأجنبية حالت بينهم وبين ذلك «2» ، فكان الجواب عليهم: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» فيها.. نصحتم فلم تنتصحوا، ولم تقبلوا القول في حينه، وكان أكثرهم للحق كارهين. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 79] أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) «3» بل أمورهم منتقضة عليهم فلا يتمشى لهم شىء مما دبّروه، ولا يرتفع لهم أمر على نحو ما قدّروه- وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 80] أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) إنما خوّفهم بسماع الملك، وبكتابتهم أعمالهم عليهم لغفلتهم عن الله- سبحانه، ولو كان لهم خير عن الله لما خوّفهم بغير الله، ومن علم أنّ أعماله تكتب عليه، وأنه يطالب بمقتضى ذلك- قلّ إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه.. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 81] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) .   (1) فى ص (أحوالكم) وقد آثرنا عليها (أقوالكم) التي في م كما يتضح من السياق القرآنى والسياق التفسيري. (2) يلفت القشيري نظرنا- من بعيد- إلى أن الدعاء ينبغى أن يتجه بالكلية إلى الرب سبحانه، وقد يكون لذلك أهميته في فكرة الاستشفاع بالوسيلة- كما يتصورها هذا الإمام. [ ..... ] (3) يقال إن الآية نزلت في تدبير الكائدين المكر بالنبي (ص) فى دار الندوة حين استقر أمرهم- حسب مشورة أبى جهل- على أن يبرز من كل قبيلة رجل، ثم يشتركون في قتله فتضعف المطالبة بدمه صلوات الله عليه. وكانت النتيجة أن قتلوا جميعا يوم بدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 أي إن كان في ضميركم وفي حكمكم وفي اعتقادكم أنّ للرحمن ولدا فأنا أوّل من يستنكف من هذه القالة. قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 82] سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) تنزّه الله تنزيها، وتقدّس تقديسا عمّا قالوه. وفي هذه الآيات وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة- فيما أخطأوا فيه من وصف المعبود- قصدا للردّ عليهم، وإخبارا بتقبيح أقوالهم، وبطلان مزاعمهم. ثم قال جلّ ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 83] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) إذ ليس يفوت أمرهم، وهم لا محالة سيلقون صغرهم. وفي هذا دليل على أنه لا ينبغى للعبد أن يغترّ بطول السلامة فإنّ العواقب غير مأمونة. قوله جل ذكره [سورة الزخرف (43) : آية 84] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) المعبود- فى السماء- الله، والمقصود- فى طلب الحوائج في الأرض- الله. أهل السماء لا يعبدون غير الله، وأهل الأرض لا يقضى حوائجهم غير الله. «وَهُوَ الْحَكِيمُ» فى إمهاله للعصاة، «الْعَلِيمُ» بأحوال العباد. [سورة الزخرف (43) : آية 85] وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) تعالى وتقدّس وتنزّه وتكبّر الذي له ملك السماوات والأرض. السماوات والأرض بقدرته تظهر.. لا هو بظهورها يتعزّز «1» .   (1) الصوفية يستدلون بالخالق على ما خلق، لأنه حاضر ومشهود، وهو قديم قامت به الحادثات.. يقول ابن عطاء الله السكندرى: «متى غبت حتى تكون الأكوان شاهدة عليك؟» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : آية 86] وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) أي شهد- اليوم- بالتوحيد، فيثبت له الحقّ حقّ الشفاعة. وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين شفاعتهم تكون غدا مقبولة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الزخرف (43) : الآيات 87 الى 89] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) فكيف لا يعتبرون؟ وكيف يتكبّرون عن طاعة الله. «وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي يعلم علم الساعة ويعلم «2» «قِيلِهِ يا رَبِّ» «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ.. أي أمهلهم، وقل لكم منى سلام.. ولكن سوف تعلمون عقوبة ما تستوجبون.   (1) واضح أن القشيري يصرف الآية إلى المسلمين عامة ويخرج المشركين، وتذهب بعض التفاسير إلى أن معنى «الذين من دونه» هم عيسى وعزيز والملائكة، فهم لا يملكون الشفاعة. (2) عاصم وحمزة يجران (قيله) على الإضافة وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب، والسبعة على النصب: ويعلم قيله ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 سورة الدّخان قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من ذكرها نال في الدنيا والعقبى بهجته، ومن عرفها بذل فى طلبها مهجته. كلمة إذا استولت على قلب عطّلته عن كلّ شغل، كلمة إذا واظب على ذكرها عبد أمّنته من كلّ هول. قوله جل ذكره: [ سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) الحاء تشير إلى حقّه والميم تشير إلى محبته. ومعناه: بحقي وبمحبتى لعبادى، وبكتابي العزيز إليهم: إنّى لا أعذّب أهل معرفتى بفرقتى «1» . قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 3 الى 4] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» : قيل هي ليلة القدر، وقيل هي النصف من شعبان وهي ليلة الصّك «2» . أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كلّ سنة بمقدار ما كان جبريل ينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم «3» . وسمّاها: «لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» لأنها ليلة افتتاح الوصلة. وأشدّ الليالى بركة ليلة يكون العبد فيها حاضرا بقلبه، مشاهدا لربّه، يتنعّم فيها بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة.   (1) يبدو أن القشيري لم يعتبر «إنا أنزلناه ... » جوابا للقسم، وإلى هذا يذهب بعض النحاة الذين يعتبرون ذلك صفة المقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جوابا القسم (انظر الجامع لأحكام القرآن القرطبي ج 16 ص 125) . (2) من أسماء هذه الليلة: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك. (3) أي على مدى ثلاث وعشرين سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وأحوال هذه الطائفة «1» فى لياليهم مختلفة، كما قالوا: لا أظلم الليل ولا ادّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تزول ليلى كما شاءت: قصير إذا ... جادت، وإن ضنّت فليلى طويل «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يكتب من أمّ الكتاب في هذه الليلة ما يحصل في السنة كلّها من أقسام الحوادث في الخير والشرّ، فى المحن والمنن، فى النصر والهزيمة، فى الخصب والقحط. ولهؤلاء القوم (يعنى الصوفية) أحوال من الخصب والجدب، والوصل والفصل، والوفاق والخلاف، والتوفيق والخذلان، والقبض والبسط.. فكم من عبد ينزل له الحكم والقضاء بالبعد والشقاء، وآخر ينزل حكمه بالرّفد والوفاء. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 5 الى 6] أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» : وهي الرسول- صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله عليه: «أنا رحمة مهداة» ويقال: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» رحمة لنفوس أوليائنا بالتوفيق، ولقلوبهم بالتحقيق. «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» : «السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين المحبين. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 7] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) مالك السماوات والأرضين، ومالك ما بينهما- وتدخل في ذلك أكساب العباد. وتملّكها بمعنى القدرة عليها، وإذا حصل مقدور في الوجود دلّ على أنه مفعوله لأن معنى الفعل مقدور وجد «2» .   (1) يقصد طائفة الصوفية. (2) لا حظ كيف يحاول القشيري أن يدخل في «وما بينهما» أفعال العباد، فحتى أكساب العباد- فى نظر هذا المتكلم داخلة- من حيث هي مقدورة- فى نطاق الخلق المنسوب إلى الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 8] لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) هذه الكلمة فيها نفى ما أثبتوه بجهلهم، وإثبات ما نفوه بجحدهم. «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» : مربّى «1» أصلكم ونسلكم. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 9] بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) اللّعب فعل يجرى على غير ترتيب تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا «2» على نظام مخصوص فوصف المنافق باللّعب وذلك لتردّده وتحيّره نتيجة شكّه في عقيدته. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 10] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) هذا من أشراط الساعة إذ يتقدم عليها «3» . وقيامة هؤلاء (يقصد الصوفية) معجّلة (أي تتم هنا في هذه الدنيا) فيومهم الذي تأتى السماء فيه بدخان مبين هو يوم غيبة الأحباب، وانسداد ما كان مفتوحا من الأبواب، أبواب الأنس بالأحباب وفي معناه قالوا: فما جانب الدنيا بسهل ولا الضّحى ... يطلق ولا ماء الحياة ببارد قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 11] يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) .   (1) لاحظ كيف يربط القشيري بين «التربية» و «الرب» . (2) سقطت (لا) من ص.. وهي ضرورية كما هو واضح من السياق، وهي موجودة في م، ولا تخفى على القارئ روعة الربط بين «اللعب» و «اللعاب» ، ومدى السخرية من دماغ المنافق وقد ماثلت فما تتحرك فيه الشكوك تحرّك اللعاب. (3) هناك اتجاهان في معنى «الدخان» فى هذه الآية: أحدهما أنه- كما يذكر القشيري أنه من أشراط الساعة، خرّج الثعلبي عن حذيفة أنه سأل النبي (ص) : «يا نبى الله، ما الدخان في هذه الآية؟ فقال: هو دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين ليلة ويوما، فأما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام، وأمّا الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنيه ودبره» . وأما الاتجاه الثاني فهو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي عليهم، وقد كشفه الله عنهم. ويؤيد ابن مسعود هذا القول الثاني بهذا الكشف، لأنه لو كان قبل يوم القيامة ما كشفه الله عن الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وعذاب هؤلاء (يقصد الصوفية) مقيم في الغالب، وهو عذاب مستعذب، أولئك يقولون: [سورة الدخان (44) : آية 12] رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) وهؤلاء يستزيدون- على العكس من الخلق- العذاب، وفي ذلك يقول قائلهم: فكلّ مآربى قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب «1» فهم يسألون البلاء والخلق يستكشفونه، ويقولون: أنت البلاء فكيف أرجو كشفه ... إنّ البلاء إذا فقدت بلائي قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 13] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) إن خالفوا دواعى قلوبهم من الخواطر «2» التي ترد من الحقّ عليهم عوقبوا- فى الوقت بما لا يتّسع لهم ويسعفهم، فاذا أخذوا في الاستغاثة «3» يقال لهم: أنّى لكم الذكرى وقد جاءكم الرسول «4» على قلوبكم فخالفتم؟! قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 15] إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) .   (1) البيت للحلاج مسبوق بهذا البيت: أريدك، لا أريدك للثواب ... ولكنى أريدك للعقاب (ديوان الحلاج المقطعة السابعة) (2) الخواطر من الحق، والهواجس والوساوس من الشيطان. [ ..... ] (3) هكذا في م وهي في ص (الاستعانة) وكلاهما مقبول في السياق. (4) الرسول هنا- لأن الحديث هنا عن الصوفية- مقصود به ما يرد على قلوبهم من لدن الحقّ من الكشوفات والمواصلات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 حيث نورثكم حزنا طويلا، ولا تجدون في ظلال انتقامنا مقيلا. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 24] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) فتنهم «1» بعد ما أصرّوا على جحودهم ولم يرجعوا إلى طريق الرشد من نفرة عنودهم «2» . «وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» : يطالبهم بازالة الظلم عن بنى إسرائيل، وأن يستبصروا، واستنفرهم لله، وأظهر الحجّة من قبل الله. «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» أمره بأن يسرى بعباده المؤمنين، وعرّفهم أنهم سينقذون، وأنّ عدوّهم «جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 28] كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) ما خلفوه من أحوالهم ومن رياشهم، وما تركوه من أسباب معاشهم استلبناه عنهم. «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ» وأسكنّا قوما آخرين في منازلهم ودورهم. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 29] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) لم يكن لهم من القدر والخطر ما يتحرك في العالم بسببهم ساكن، أو يسكن متحرك   (1) هكذا في ص وهي مقبولة في السياق إشارة إلى ما في الآية الكريمة: «ولقد فتنا ... » أما في م فهى (فثبتهم) وواضح فيها خطا الناسخ. (2) نفر الجلد: ورم وتجافي عن اللحم، ونفرت المرأة عن زوجها: أعرضت وصدّت، ونفر من الشيء: فزع منه وانقبض غير راض به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 فلا الخضراء بسببهم اغبرّت، ولا الغبراء لغيبتهم اخضرّت. لم يبق منهم عين ولا أثر، ولم يظهر من قبلهم على قلب أحد من عبادنا أثر. وكيف تبكى السماء لفقد من لم تستبشر به من قبل؟ بعكس المؤمن الذي تسرّ السماء بصعود عمله إليها، فإنها تبكى عند غيابه وفقده «1» . قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 32] وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) نجّاهم، وأقمى عدوّهم، وأهلكه. «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ... » أي علمنا ما يحتقبون من أوزارهم «2» ، فرفعنا- باختيارنا- من أقدارهم ما وضعه فعلهم وتدنسّهم بأوضارهم. ويقال: «عَلى عِلْمٍ» منا بأحوالهم أنهم يؤثرون أمرنا على كل شىء. ويقال: «عَلى عِلْمٍ» منا بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا. ويقال: «عَلى عِلْمٍ» منا بما نودع عندهم من أسرارنا، وما نكاشفهم به من حقائق حقّنا. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 33] وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) من مطالبته بالشكر عند الرخاء، والصبر عند الكدر والعناء «3» . قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 36] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)   (1) عن شريح الحضرمي: قال النبي (ص) : «ألا لا غربة على مؤمن، فما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» . (2) في ص (إنذارهم) والسياق يرفضها، والصواب ما في م. (3) لأن البلاء يكون بالنعمة والنقمة، قال تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 اقترح أبو جهل على النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يحيى لهم نفسا «1» : «لتخبرنا: هل أنت صادق أم لا؟» فأخبر الله- سبحانه- أنهم اقترحوا هذا بعد قيام الحجّة عليهم، وإظهار ما أزاح لهم من العذر: ثم قال جلّ ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 37] أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) «تُبَّعٍ» هو ملك لليمن، وكان مسلما، وكان في قومه كثرة، وأهلك الله سبحانه قومه على كثرة عددهم، وكمال قوّتهم. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 39] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) ما خلقناهما إلا بالحقّ، بالحكم الحقّ وبالأمر الحقّ ... «فأنا محقّ في خلقهما» : أي كان لى خلقهما. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)   (1) حدّد أبو جهل ذلك حين قال النبي: ابعث لنا- إن كنت صادقا- رجلا مثل قصيّ بن كلاب لنسأله عمّا يكون بعد الموت. وهذا القول من أبى جهل فيه ضعف لأن البعث يكون للجزاء لا للتكليف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 يومئذ لا يغنى ناصر عن ناصر ولا حميم عن حميم، ولا نسيب عن نسيب ... شيئا. ولا ينالهم نصر إلا من رحمه الله وبفضله ونعمته. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 46] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) «الْأَثِيمِ» مرتكب الذنوب. «المهل» : النحاس المذاب. «الْحَمِيمِ» : الماء الحار. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 47 الى 50] خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) ادفعوا به إلى وسط الحميم. ويقال له: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» : أنت كذلك عند قومك، ولكنك عندنا ذليل مهين. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 53] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) آمنين من المجن من جميع الوجوه، لباسهم من حرير، وفراشهم من سندس وإستبرق، «مُتَقابِلِينَ» : لا يبرحون ولا يبغون عنها حولا. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : آية 54] كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) تباح لهم صحبتهن، ولا يكون في الجنة عقد تزويج ولا طلاق، ويمكّن الوليّ بهذه الأوصاف من هذه الألطاف. ثم قد يختطف قوم من بين هذه الأسباب، فيتحررون عن هذه الجملة فكما أنهم في الدنيا مختطفون عن كلّ العلائق فإنهم في الآخرة تطمع الحور العين فى صحبتهم فيستلبهم الحقّ عن كلّ شىء. «1»   (1) الصوفية الخلّص يعبدون الله لا طمعا في جنة ولا خوفا من عذاب، فرؤية الله جنتهم، واحتجابه عنهم جهنهم الكبرى. ومبعث ذلك أنهم يحبون الله لذاته، وفي ذلك يقول قائلهم: إن ذا الحب لمن يفنى له ... لا لدار ذات لهو وطرف لا ولا الفردوس- لا يألفها ... لا ولا الحوراء من فوق غرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 الزاهد في الدنيا يحميه منها، والعارف في الجنة يحميه من الجنة. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 56 الى 57] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) الموتة الأولى هي بقبض أرواحهم في الدنيا، ويقيهم الله في الآخرة العذاب بفضله، وذلك هو الظّفر بالبغية، ونجاح السّؤل. قوله جل ذكره: [سورة الدخان (44) : الآيات 58 الى 59] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) يا محمد، ليتذكر به أهلك، فارتقب العواقب تر العجائب. إنهم يرتقبون، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 سورة الجاثية قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» باسم ملك لا يستظهر بجيشه، أحد لا يستمسك بعيشه «1» ، جبار ارتدى بكبريائه، قهّار اتصف بعزّ سنائه. «بِسْمِ اللَّهِ» باسم كريم صمد، لا يستغرق وجوده أمد، أبدىّ عظيم أحد، لا يوجد من دونه مفرّ ولا ملتحد. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) «الْعَزِيزِ» : فى جلاله، «الْحَكِيمِ» : فى أفعاله. «الْعَزِيزِ» : فى آزاله، «الْحَكِيمِ» : فى لطفه بالعبد بوصف إقباله. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 3] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) شواهد الربوبية لائحة، وأدلة الإلهية واضحة فمن صحا من سكرة الغفلة، ووضع سرّه في محالّ العبرة «2» حظى- لا محالة- بحقائق الوصلة. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 4] وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) .   (1) هكذا في ص، وفي م.. ولو صح أنها هكذا عن القشيري فربما كان قصده أن الله سبحانه- حى بدون عوامل استمساك تثبت هذه الحياة.. فهو حى لا بسبب أو عارض لأنه لا يفتقر إلى ذلك، أما المحدث فإنه يعتمد فى حياته على ما يحفظ حياته، وتزول هذه الحياة بزوال عوامل هذا الحفظ. (2) هكذا في م وهي في ص (بعزه) ونحن تؤثر الأولى لملاءمة الاعتبار لسياق التدبر في المخلوقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 إذا أنعم العبد نظره في استواء قدّه وقامته، واستكمال عقله وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب فى أجزائها وأعضائها.. ثم وقف على اختصاص وامتياز بنى آدم من بين البريّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان- عرف تخصّصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضائلهم، فاستيقن أن الله كرّمهم، وعلى كثير من المخلوقات قدّمهم. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 5] وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) جعل الله العلوم الدينية كسبية مصحّحة بالدلائل، محقّقة بالشواهد. فمن لم يستبصر بها زلّت قدمه عن الصراط المستقيم «1» ، ووقع في عذاب الجحيم فاليوم في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 6] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) فمن لا يؤمن بها فبأى حديث يؤمن؟ ومن أي أصل يستمد بعده؟ ومن أي بحر فى التحقيق يغترف؟ هيهات! ما بقي للإشكال في هذا مجال. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 8] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) .   (1) فى هذا ردّ على من يزعمون أن الصوفية يتنكرون العلوم الكسبية فهى كما هو واضح ذات أهمية قصوى في تثبيت الإيمان. هذا في الوقت الذي يقر القشيري بالعلوم الوهبية كما يتضح من الهامش رقم (2) فى الصفحة التالية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 كلّ صامت ناطق يصمت عن الكلام والقول وينطق بالبرهان في الحكم «1» . فمن استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد فاز بذخر الدارين، وتصدّى لعزّ المنزلين. ومن تصامم بحكم الغفلة وقع في وهدة الجهل، ووسم بكيّ الهجر. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 9] وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) قابله بالعناد، وتأوّله على ما يقع له من وجوه المراد من دون تصحيح بإسناد ... فهؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» : مذلّ. وقد يكاشف العبد من بواطن القلب بتعريفات لا يتداخله فيها ريب، ولا يتخالجه منها شكّ فيما هو به من حاله ... فإذا استهان بها وقع في ذلّ الحجبة وهوان الفرقة «2» . قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 10] مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) فعند هذه الفترة، وفي وقت هذه المحنة فلا عذر يقبل منهم، ولا خطاب يسمع عنهم، ولهم عذاب متصل، ولا يردّون إلى ما كانوا عليه من الكشف: فخلّ سبيل العين بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوع قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) عند ما يركبون البحر فلربما تسلم السفينة ولربما تغرق.   (1) يشير القشيري بذلك إلى أن كل شىء ناطق بالوحدانية ... إما نطق قالة- كما في حال الإنسان، وإما نطق دلالة- كما في حال الجمادات. (2) يشير القشيري بذلك إلى العلوم الوهبية، وضرورة اعتبارها رافدا هاما من روافد الإيمان الكشفى والتوحيد الشهودى. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 وكذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشى به رياح العناية، وأشرعة التوكل مرفوعة، والسّبل في بحر اليقين واضحة. وطالما تهب رياح السلامة فالسفينة ناجية. أمّا إن هبّت نكبات الفتنة فعندئذ لا يبقى بيد الملّاح شىء، والمقادير غالبة، وسرعان ما تبلغ قلوب أهل السفينة الحناجر. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 13] وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) «جَمِيعاً مِنْهُ» : كلّ ما خلق من وجوه الانتفاع بها- كلّه منه سبحانه فما من شىء من الأعيان الظاهرة إلّا- ومن وجه- للانسان به انتفاع.. وكلها منه سبحانه فالسماء لهم بناء، والأرض لهم مهاد.. إلى غير ذلك. ومن الغبن أن يستسخرك ما هو مسخّر لك! «1» وليتأمل العبد كلّ شىء.. كيف إن كان خلل في شىء منها ماذا يمكن أن يكون؟! فلولا الشمس.. كيف كان يمكن أن يتصرّف في النهار؟ «2» ولو لم يكن الليل كيف كان يسكن بالليل؟ ولو لم يكن القمر ... كيف كان يهتدى إلى الحساب والآجال؟ ... إلى غير ذلك من جميع المخلوقات. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 14] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) «3» ندبهم إلى حسن الخلق، وجميل العشرة، والتجاوز عن الجهل، والتنقى من كدورات البشرية. ومقتضيات الشّحّ.   (1) هذا الكلام ينصرف إلى الدنيا بأسرها.. فلا ينبغى أن يسترقك ما هو هبة لك. (2) بحثا عن معاشه. (3) يقال إن الآية نزلت بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهمّ أن يبطش به. ويقال نزلت فى عمر حينما أراد أن يبطش بغلام عبد الله بن أبيّ حين ذهب ليستقى فمنعه حتى ملئت قرب النبي وقرب أبى بكر، فلما بلغ ذلك عبد الله قال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فلما بلغ عمر ذلك اشتمل سيفه وأراد التوجه لقتله، فأنزل الله هذه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 وبيّن أنّ الله- سبحانه- لا يفوته أحد. فمن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءه، وكيف يدمّر أعداءه. فليصبر أياما قلائل ليعلم كيف صارت عواقبهم. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 15] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) من عمل صالحا فله مهناه، ومن ارتكب سيئة قاسى بلواه ... ثم مرجعه إلى مولاه. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 18] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) كرّر في غير موضع ذكر موسى وذكر بنى إسرائيل.. بعضه على الجملة وبعضه على التفصيل. وهنا أجمل في هذا الموضع، ثم عقبه حديث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فقال: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» أفردناك بلطائف فاعرفها، وسننّا لك طرائق فاسلكها، وأثبتنا لك حقائق فلا تتجاوزها، ولا تجنح إلى متابعة غيرك: [سورة الجاثية (45) : آية 19] إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) إن أراد بك نعمة فلا يمنعها أحد، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد. فلا تعلّق بمخلوق فكرك، ولا تتوجه بضميرك إلى شىء وثق بربّك، وتوكّل عليه. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 20] هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونها تهمة التجويز. ونظر الناس على مراتب «1» : فمن ناظر بنور نجومه «2» - وهو صاحب عقل،   (1) هكذا في م وهي في ص (مراكب) بكاف وهي خطأ من الناسخ. (2) هكذا في م وهي في ص (وما هو) وهي خطأ من الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 ومن ناظر بنور فراسته وهو صاحب ظنّ يقوّيه لوح- ولكنه من وراء السّرّ «1» ، ومن ناظر بيقين علم بحكم برهان وشرط فكر، ومن ناظر بعين إيمان بوصف اتّباع، ومن ناظر بنور بصيرة هو على نهار، وشمسه طالعة وسماؤه من السحاب «2» مصحية «3» . قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 21] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) أمن خفضناه في حضيض الضّعة كمن رفعناه إلى أعالى المنعة؟ أمن أخذنا بيده ورحمناه كمن داسه الخذلان فرجمناه؟ أمن وهبناه بسط وقت وأنس حال وروح لطف حتى خصصناه ورقيناه، ثم قرّبناه وأدنيناه كمن ترك جهده واستفراغ وسعه وإسبال دمعه واحتراق قلبه.. فما أنعشناه؟. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) من لم يسلك سبيل الاتباع، ولم يستوف أحكام الرياضة، ولم ينسلخ عن هواه بالكلّيه، ولم يؤدّبه إمام مقتدى فهو ينجرف في كل وهدة، ويهيم في كلّ ضلالة، ويضلّ فى كل فجّ، خسرانه أكثر من ربحه!! أولئك في ضلال بعيد يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم «4» ، زمامهم بيد هواهم، أولئك أهل «5» المكر.. استدرجوا وما يشعرون!.   (1) الفراسة مما يخلقه الله في قلب العبد من غير كسب منه، وهي من ثمرات الإيمان الكامل، وما يسميه القشيري هنا (لوحا) يسميه في موضع آخر (سواطع) أنوار تلمع في القلب تدرك بها المعاني (الرسالة ص 116) . ولمعرفة الفرق بين اللوائح واللوامع أنظر الرسالة ص 43. ويعرف الجنيد الفراسة فيقول: هى مصادفة الإصابة، ثم يذكر أنها موهبة كائنة دائمة (التعرف الكلاباذى ص 157) . (2) هكذا في م وهي في ص (الصحاب) بالصاد وواضح في ذلك خطأ الناسخ. (3) هذه الدرجة الأخيرة- كما هو واضح- أعلى درجات النظر لخلوها من الآفات. (4) لأن النفس محل المعلومات، فعملهم مرتهن بنفوسهم وأهوائهم. (5) هكذا فى (ص) وهي في م (أصل) وهي خطأ من الناسخ لأنهم «أهل» المكر إشارة إلى قوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : آية 24] وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) لم يعتبروا بما وجدوا عليه خلفهم وسلفهم، وأزجوا في البهيمية عيشهم وعمرهم، وأعفوا عن كدّ الفكرة قلوبهم ... فلا بالعلم استبصروا، ولا من التحقيق استمدوا. رأس مالهم الظنّ- وهم غافلون. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : الآيات 25 الى 28] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) طلبوا إحياء موتاهم، وسوف يرون ما استبعدوا. ثم أخبر أنّ ملك السماوات والأرض لله، وإذا أقام القيامة يحشر أصحاب البطلان، فإذا جاءهم يوم الخصام: [سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 34] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) كلّ بحسابه «1» مطالب ... فأمّا الذين آمنوا فلقد فازوا وسادوا، وأمّا الذين كفروا فهلكوا وبادوا «2» .. ويقال لهم: أأنتم الذين إذا قيل لكم حديث عقباكم كذّبتم مولاكم؟ فاليوم- كما نسيتمونا- ننساكم، والنار مأواكم. قوله جل ذكره: [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) لله الحمد على ما يبدى وينشى، ويحيى ويفنى، ويجرى ويمضى.. إذ الحكم لله، والكبرياء لله، والعظمة والسّناء لله، والرفعة والبهاء لله.   (1) هذا أيضا رأى يحيى بن سلام، وقيل «كتابها» المنزّل عليها لينظر هل عملوا بما فيه. وقيل: الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ. (2) هكذا في م، وهي في ص (ونادوا) وهي خطأ من الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 سورة الأحقاف قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة للقلوب سالبة، للعقول غالبة، للمطيعين واهبة، للعارفين ناهبة.. فالذين يهبهم فلهم لطفه، والذين ينهبهم فمن محقه فهو عنه خلفه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) حميت قلوب أهل عنايتى فصرفت عنها خواطر التجويز، وثبّتها في مشاهد اليقين بنور التحقيق فلاحت فيها شواهد البرهان فأضفنا إليها لطائف الإحسان فكمل منالها من عين الوصلة، وغذيناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة. «الْعَزِيزِ» : المعزّ للمؤمنين بإنزال الكتاب عليهم. «الْحَكِيمِ» ، المحكم لكتابه عن التبديل والتحويل. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 3] ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) الكافرون معرضون عن موضع الإنذار، مقيمون على حدّ الإصرار   (1) وفي ذلك يقول شاعرهم: ألست لى خلفا؟ كفى شرفا ... فما وراءك لى قصد ولا أمل ويقول أبو حمزة موضحا كيف أن هذا الموت في سبيل محبوبه عين الحياة: وتحيى محبا أنت في الحب حتفه ... وذا عجب.. كون الحياة مع الحتف! (اللمع السراج ص 325) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 4] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) أرونى.. أي أثر فيهم في الملك، أو القدرة على النفع والضر؟ إن كانت لكم حجّة فأظهروها، أو دلالة فبيّنوها.. وإذ قد عجزتم عن ذلك فهلّا رجعتم عن غيّكم وأقلعتم؟ قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 5] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) من أشدّ ضلالا ممّن عبد الجماد الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات؟ قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 6] وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) إذا حشر الناس للحساب وقعت العداوة بين الأصنام وعابديها. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 7] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) رموا رسلنا بالسّحر ثم بالافتراء والمكر.. قل- يا محمد- كفى بالله بينى وبينكم شهيدا أنتم أشركتم به، وأنا أخلصت له توحيدا. وما كنت بدعا من الرسل فلست بأول رسول أرسل، ولا بغير ما جاءوا به من أصول التوحيد جئت، إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد، والصدق في العبودية، والدعاء إلى محاسن الأخلاق. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 9] قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وهذا قبل أن نزل قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «1» . وفي الآية دليل على فساد قول أهل القدر والبدع حيث قالوا: «إيلام البرىء قبيح في العقل» . لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول: أعلم- قطعا- أنى رسول الله، وأنى معصوم.. فلا محالة يغفر لى، ولكنه قال: وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ليعلم أن الأمر أمره، والحكم حكمه، وله أن يفعل بعباده ما يريد «2» . قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 11] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) «3» تبيّن له أنه لا عذر لهم بحال، ولا أمان لهم من عقوبة الله. وما يستروحون إليه من حججهم عند أنفسهم كلّها- في التحقيق- باطل. وأخبر أن الكفار قالوا: لو كان هذا الذي يقوله   (1) آية (2) سورة الفتح وبنزولها نسخت هذه الآية، وزال فرح المشركين واليهود والمنافقين الذين كانوا يقولون: كيف نتبع نبيا لا يدرى ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به- وبنزول هذه الآية أرغم الله أنوفهم، وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله! وهنيئا لنا! [ ..... ] (2) القشيري ينكر أن يذهب البشر إلى التماس تعليلات للأفعال الإلهية لأن أفعال الله سبحانه لا تخضع للأغراض، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فهو يعود بالأمر كله إلى الحكمة والإرادة الإلهيتين، وطالما هما في غير نطاق الإنسانية فلا ينبغى إخضاعهما للمفاهيم الإنسانية من حسن وقبح، وخير وشر لأن هذه المفاهيم متأثرة بالمصلحة والغرض.. والله منزه عن ذلك، فله أن يفعل بعباده ما يشاء، وإذا كان رب الأسرة لا يقودها إلا إلى الخير فما ظنك برب البرية وخالق كل شىء؟! (3) هو عبد الله بن سلام عند الجمهور، ولهذا قيل إن هذه الآية مدنية لأن إسلامه كان بالمدينة. وروى أنه سأل النبي عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى: ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه.؟ فقال الرسول (ص) : أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد حوت، وأما الولد فاذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول الله حقا. (صحيح البخاري ح 2 ص 226) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 من الحشر والنشر حقّا لم تتقاصر رتبتنا عند الله عن رتبة أحد، ولتقدّمنا- فى الاستحقاق- على الكلّ. ولمّا لم يجدوا لهذا القول دليلا صرّحوا: «فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ» . ولقد بعث الله أنبياءه- عليهم السلام- وأنزل عليهم الكتب، وبيّن في كلّ كتاب، وعلى لسان كلّ رسول بأنه يبعث محمدا رسولا، ولكن القوم الذين في عصر نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كتموه، وحسدوه. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 13] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) مضى تفسير الاستقامة. وإنّ من خرج على الإيمان والاستقامة حظى بكلّ كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة. وقيل: السين فى «الاستقامة» سين الطّلب وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى الله تعالى فى أن يقيمه على الحق، ويثبّته على الصدق. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 15] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) .. أمر الإنسان برعاية حقّ والديه على جهة الاحترام، لما لهما عليه من حق التربية والإنعام، وإذا لم يحسن الإنسان حرمة من هو من جنسه فهو عن حسن مراعاة سيّده أبعد. ولو لم يكن فى هذا الباب إلا قوله- صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما» لكان ذلك كافيا. ورعاية حق الوالد من حيث الاحترام، ورعاية حق الأم من حيث الشفقة والإكرام. ووعد الله على برّ الوالدين قبول الطاعة بقوله جلّ ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) فقبول الطاعة وغفران الزّلّة مشروطان ببرّ الوالدين. وقد ذمّ الله- سبحانه- الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 يتصف في حقهما بالتأفّف، وفي ذلك تنبيه على ما وراء ذلك من أي تعنّف، وعلى أنّ الذي يسلك ذلك يكون من أهل الخسران، وبالتالى يكون ناقص الإيمان. وسبيل العبد في رعاية حق الوالدين أن يصلح ما بينه وبين الله، فحينئذ يصلح ما بينه وبين غيره- على العموم، وأهله- على الخصوص. وشرّ خصال الولد في رعاية حق والديه أن يتبرّم بطول حياتهما، ويتأذّى بما يحفظ من حقهما. وعن قريب يموت الأصل ويبقى النسل، ولا بدّ من أن يتبع النسل الأصل «1» ، وقد قالوا في هذا المعنى. رويدك إن الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين.. فانتظر الدهرا «2» قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 20] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) سبيل العبد ألا ينسى في كل حال معبوده، وأن يتذكر أنه معه في همّه وسروره، وفي مناجاته عند رخائه وبلائه. فإن اتفق أن حصل له أنس، وغلب عليه رجاء وبسط ثم هجم على قلبه قبض أو مسّه خوف.. فليخاطب ربّه حتى لا يكون من جملة من قيل له: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ... » قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 21] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) «3»   (1) أي أن أولاده سوف يعاملونه بالكيفية التي عامل بها أبويه. (2) إذا لا حظنا اهتمام القشيري هنا برعاية حقوق الأبوين، وإذا نذكرنا أنه في موضع آخر يرى أن حقوق الشيوخ والمربين لا تقل عن ذلك «لأن الوالدين يربون الأشباح، والشيوخ يربون الأرواح» علمنا أن هذه الإشارة موجهة إلى المريدين بنفس الدرجة الموجهة إلى العموم. (3) الأحقاف- ج حقف وهي رمال عظام معوجة لا تبلغ أن تكون جبالا. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمن الغرق. وهناك اختلاف في مكان ديار عاد يرجع إليه في كتب التفسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 أخبر بالشرح عن قصة هود وقومه عاد وما جرى بينهم من الخطاب، وتوجّه عليهم من العتاب، وأخذهم بأليم العذاب. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 26] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) فلم يغن عنهم ما آتيناهم ... وانظروا كيف أهلكناهم. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 29] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس. وإن قوما أتوه ليلة الجن «1» وآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم، وآمن قوم منهم فاليوم في الجن مؤمنون، وفيهم كافرون. «فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ... » الصيحة على الباب وفوق البساط غيبة ولهذا لما حضر الجنّ بساط خدمته- صلى الله عليه وسلم- تواصوا فيما بينهم بحفظ الأدب، وقالوا لما حضروا بساطه: «أَنْصِتُوا» ، فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون، والهيبة والوقار. والثوران أو الانزعاج يدل على غيبة أو قلّة تيقّظ أو نقصان اطلاع «2» . «فَلَمَّا قُضِيَ..» يعنى الوحى «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» وأخبروهم بما رأوه وسمعوه. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 31] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)   (1) حدث ابن مسعود عن هذه الليلة، وأبان كيف سمع- وقد كان وحده بصحبة النبي وهو يقرأ القرآن- لغطا وغمغمة، وشاهد أمثال النسور تهوى وتمشى في رفرفها ... إلخ. (2) هنا نجد القشيري ينصح بالكتمان ولا يرى الإفصاح، وقد سئل الجنيد في ذلك فأجاب: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (أنظر بحث هذه القضية في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» ط المعارف ص 229) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 يقال الإجابة على ضربين: إجابة لله، وإجابة للداعى فإجابة الداعي بشهود الواسطة- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وإجابة الله بالجهر إذا بلغته الرسالة على لسان السفير، وبالسّرّ إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب فمستجيب بنفسه ومستجيب بقلبه ومستجيب بروحه ومستجيب بسرّه. ومن توقف عن دعاء الداعي إيّاه، ولم يبادر بالاستجابة هجر فيما كان يخاطب به «1» . قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 33] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) الرؤية هنا بمعنى العلم. «وَلَمْ يَعْيَ» أي ولم يعجز ولم يضعف. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 34] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) ثم يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة: «أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا. قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ ... » جزاء لكم على كفركم. قوله جل ذكره: [سورة الأحقاف (46) : آية 35] فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)   (1) هكذا في م وهي في ص (يطالب به) وكلاهما مقبول في السياق فالدعاء خطاب ومطالبة للمدعو. م (26) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 أو لو الجد والصبر والحزم. وجاء في التفسير أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم. وقيل: هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام. وقيل: منهم يعقوب وأيوب ويونس. والصبر هو الوقوف لحكم الله، والثبات من غير بثّ ولا استكراه. قوله جل ذكره: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» . ويقال مدّة الخلق: من مبتدأ وقتهم إلى منتهى آجالهم بالإضافة إلى الأزليّة «1» كلحظة بل هي أقلّ إذ الأزل لا ابتداء له ولا انتهاء.. وأي خطر لما حصل في لحظة.. خيرا كان أو شرّا؟!   (1) بالإضافة إلى- بالنسبة إلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 سورة محمّد «صلى الله عليه وسلم» «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» من ذكر «بِسْمِ اللَّهِ» جلّت رتبته، ومن عرف «بِسْمِ اللَّهِ» صفت حالته، ومن أحبّ «بِسْمِ اللَّهِ» أشكلت قصته «2» ، ومن صحب «بِسْمِ اللَّهِ» امتحقت إنّيته «3» ، وتلاشت- بالكلية- جملته. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) «الَّذِينَ كَفَرُوا» : امتنعوا، وصدّوا فمنعوا فلأنهم امتنعوا عن سبيل الله استوجبوا الحجبة والغيبة. «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : أي أحبطها. «وَالَّذِينَ آمَنُوا ... » بما نزّل على محمد، «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ... »   (1) وتسمى عند بعض المفسرين «سورة القتال» . (2) الكلام في هذه النقطة كتير لا يتسع له هامش ضيق، ومن أراد أن يعرف كيف أن قصة المحبين الإلهيين مشكلة فيكفى أن يعلم أن قمة هذه القصة الوصول إلى التوحيد.. أن يختفى الموحّد في الموحّد فلا يكون هناك إلا واحد، إن تحدث فبالله، وإن تحرك فبالله. هو بين الناس كائن وعنهم بائن، يقضى عمره بين وجد وفقد ... (أنظر قصة هذا الحب بتفاصيلها الدقيقة في كتابنا: نشأة التصوف الإسلامى» باب الحب والفناء والمعرفة. (3) تلاشت آثار بشريته لا بشريته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 أصلح حالهم، فالكفر للأعمال محبط، والإيمان للتخليد «1» مسقط. ويقال: الذين اشتغلوا بطاعة الله، ولم يعملوا «2» شيئا مما خالف الله- فلا محالة- نقوم بكفاية اشتغالهم بالله. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 3] ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) أي يضرب أمثال هؤلاء لحسناتهم، وأمثال هؤلاء لسيئاتهم. ويكون اتباع الحقّ بموافقة السّنّة، ورعاية حقوق الله، وإيثار رضاه، والقيام بطاعته. ويكون اتباع الباطل بالابتداع، والعمل بالهوى، وإيثار الحظوظ، وارتكاب المعصية. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) إذا حصل الظّفر بالعدوّ فالعفو عنهم وترك المبالغة في التشديد عليهم- للندم موجب، وللفرصة تضييع بل الواجب إزهاق نفوسهم، واستئصال أصولهم، واقتلاع شجرهم من أصله. وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغى أن يبقى بعد انتفاش شوكها بقية من الحياة، فمن وضع عليها إصبعا بثّت سمّها فيه «3» . «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» ذلك إذا رجا المسلمون في ذلك غبطة أو فائدة مثل إفراج   (1) العذاب المؤيد. (2) هكذا في م وهي في ص (ولم يعلموا) وهي خطأ من الناسخ. [ ..... ] (3) ذلك لأن نفسك التي بين حنبيك هي أعدى أعدائك، وجهادها هو الجهاد الأكبر ... لأنها تقودك إلى دواعى الهوى، وفي ذلك عند الصوفية شرك خفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 الكفّار عن قوم من المسلمين، أو بسبب ما يؤخذ من الفداء.. وأمثال هذا، فحينئذ ذلك مسلّم على ما يراه الإمام «1» . كذلك حال المجاهدة مع النّفس: حيث يكون في إغفاء ساعة أو في إفطار يوم ترويح للنفس من الكدّ، وتقوية على الجهد فيما يستقبل من الأمر- فذلك مطلوب حسبما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد، أو فتوى لسان الوقت، أو فراسة صاحب المجاهدة «2» . قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ إذا قتل أحد في سبيل الحقّ توّلى ورثة المقتول بأحسن من تولية المقتول. وكذلك يرفع درجاته فيعظم ثوابه، ويكرم مآبه. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) نصرة الله من العبد نصرة دينه بإيضاح الدليل وتبيينه. ونصرة الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعداء الدين ببركات سعيه وهمّته. «وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» بإدامة التوفيق لئلا ينهزم من صولة أعداء الدين. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 8] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) .   (1) للإمام الحق في أن يقبل أو يمن أو يفادى أو يسترق. والرسول نفسه. قتل عقبة بن معيط والنضر ابن الحارث يوم بدر، وفادى سائر أسارى بدر، ومنّ على ثمامة الحنفي وهو أسير، ومن على سبى هوازن، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين.. هذه كلها ثابتة في الصحيح- وهذه الأربعة إليها مذهب الشافعي. (2) تهمنا هذه الفقرة إذا تذكرنا أن القشيري متشدد في الرخص، وقياس الرخصة هنا على آية القتال وعلى حرب المشركين وعل تصرف الإمام ... فيها دقة تحتاج إلى تدبر. ثم تهمنا في معرفة من الذي يمنح الرخصة للمريد؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 تعسا لهم: لعنا وطردا، وقمعا وبعدا! «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : هتك أستارهم، وأظهر للمؤمنين أسرارهم، وأخمد نارهم. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 10] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) وكيف أهلكهم وأبادهم وأقماهم؟ قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 11] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) المولى «1» هنا بمعنى الناصر «2» فالله ناصر للذين آمنوا، وأمّا الكافرون فلا ناصر لهم. أو المولى من الموالاة وهي ضد المعاداة، فيكون بمعنى المحب فهو مولى الذين آمنوا أي محبّهم، وأما الكافرون فلا يحبهم الله. ويقول تعالى في آية أخرى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» «3» . ويصح أن يقال إنّ هذه أرجى «4» آية في القرآن ذلك بأنه سبحانه يقول: «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: مولى الزهّاد والعبّاد وأصحاب الأوراد والاجتهاد فالمؤمن- وإن كان عاصيا- من جملة الذين آمنوا، (لا سيما و «آمَنُوا» فعل، والفعل لا عموم له) «5» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 12] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)   (1) تضاف أقوال القشيري هنا فى (المولى) إلى حديثه عن ذلك الاسم في كتاب «التحبير في التذكير» وإلى حديثه في (الولاية والولي) في مواضع متفرقة من مصنفاته. (2) جاءت (الناظر) في ص وهي خطأنى النسخ. (3) آية 257 سورة البقرة. (4) جاءت (أوحى) فى ص وهي خصأ في النسخ. (5) سقطت العبارة بين القوسين من ص وجاءت في م. والقشيري مستفيد من السياق القرآنى إذ عبّر عن الإيمان بالفعل وهو «آمَنُوا» وعبر عن الكفر بالاسم فقال: «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 مضى الكلام في هذه الآية. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ الأنعام تأكل من أي موضع بلا تمييز، وكذلك الكافر لا تمييز له بين الحلال والحرام. [كذلك الأنعام ليس لها وقت لأكلها بل في كل وقت تقتات وتأكل، وكذلك الكافر، وفي الخبر: «إنه يأكل في سبعة أمعاء» . أمّا المؤمن فيكتفى بالقليل كما في الخبر: «إن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه» ] «1» . ويقال: الأنعام تأكل على الغفلة فمن كان في حال أكله ناسيا ربّه فأكله كأكل الأنعام. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 13] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) «2» . «أَهْلَكْناهُمْ» : يعنى بها من أهلكهم من القرون الماضية في الأعصر الخالية. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 14] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) «البينة» : الضياء والحجّة، والاستبصار بواضح المحجة: فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم «3» فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يبصرون، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون.   (1) ما بين القوسين الكبيرين ساقط بتمامه من ص وثابت في م، وهذه الأخبار موجودة في الجامع الصغير ح 2 ص 153 وفي كتاب «الأطعمة» بالجزء الثالث من صحيح البخاري، «والأذكار» للنووى. وتكملة الخبر الأول: عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : يأكل المسلم في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء، وروى كذلك عن ابن عمر. (2) عن ابن عباس قال: لما خرج النبي (ص) من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت احب البلاد إليّ ولولا المشركون أهلك أخرجونى لما خرجت منك» فنزلت الآية- ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح. (3) هكذا في ص وهي في م (ثباتهم) ولكن ما في ص هو الأصوب لأننا نعرف من مذهب القشيري أن (البيان) للمعارفين والبرهان لأرباب العلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) كذلك اليوم شأن الأولياء، فلهم شراب الوفاء، ثم شراب الصفاء، ثم شراب الولاء، ثم شراب حال اللقاء. ولكلّ من هذه الأشربة عمل، ولصاحبه سكر وصحو فمن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد في أيام غيبته عن أحبابه: وما سرّ صدرى منذ شطّ بك النوى ... أنيس ولا كأس ولا متصرف ومن شرب كأس الصفاء خلص له عن كل شوب، فلا كدورة في عهده، وهو في كلّ وقت صاف عن نفسه، خال من مطالباته «1» ، قائم بلا شغل- فى الدنيا والآخرة- ولا أرب. ومن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار، ولم يغب بسرّه لحظة في ليل أو نهار. ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه فلم يطلب- مع بقائه- شيئا آخر من عطائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه «2» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 17] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)   (1) أي مطالبات الحظوظ حظوظ النفس. (2) تنبه إلى أهمية هذه الفقرة التي أطال فيها القشيري حديثه عن الأشربة حيث لم يتاولها بفصيل في رسالته عند بحث مصطلح السّكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 هم المنافقون الذين كرهوا ما أنزل الله لما فيه من افتضاحهم. «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» «اهْتَدَوْا» : بأنواع المجاهدات، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بأنوار المشاهدات. «اهْتَدَوْا» : بتأمل البرهان، ف «زادَهُمْ هُدىً» بروح البيان. «اهْتَدَوْا» : بعلم اليقين، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بحقّ اليقين. [ «اهْتَدَوْا» : بآداب المناجاة، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بالنجاة ورفع الدرجات. «اهْتَدَوْا» : إلى ما فيه من الحقّ ولم يختلفوا في أنه الحق، ف «زادَهُمْ هُدىً» بالاستقامة على طريق الحق] «1» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : الآيات 18 الى 19] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) كان عالما بأنه: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» فأمره بالثبات عليها قال (ص) : «أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم له «2» » . ويقال: كيف قيل له: «فَاعْلَمْ ... » ولم يقل: علمت، وإبراهيم قيل له: «أَسْلَمَ «3» ..» فقال: «أَسْلَمْتُ ... » ؟ فيجاب بأنّ إبراهيم لمّا قال: «أَسْلَمْتُ» ابتلى، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يقل: علمت فعوفى.   (1) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في ص وموجود في م. [ ..... ] (2) البخاري عن أنس: (والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له) والشيخان عن عائشة: (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية) . (3) آية 131 سورة البقرة: «قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وإبراهيم عليه السلام أتى بعده شرع كشف سرّه، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يأت بعده شرع. ويقال: نبيّنا صلى الله عليه وسلم أخبر الحقّ عنه بقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ «1» ... » والإيمان هو العلم- وإخبار الحقّ سبحانه عنه أتمّ من إخباره بنفسه عن نفسه: «عَلِمْتَ» . ويقال: فرق بين موسى عليه السلام لمّا احتاج إلى زيادة العلم فأحيل على الخضر، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم قال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «2» » ... فكم بين من أحيل في استزادة العلم على عبد وبين من أمر باستزادة العلم من الحق!!. ويقال لمّا قال له «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «3» » كان يأمره بالانقطاع إليه عن الخلق، ثم بالانقطاع منه- أي من الرسول- إليه.. أي إلى الحق سبحانه. والعبد إذا قال هذه الكلمة على سبيل العادة والغفلة عن الحقيقة- أي كان بصفة النسيان- فليس لقوله كثير قيمة كأن تقال عند التعجب من شىء.. فليس لهذا قدر. أمّا إذا قالها مخلصا فيها، ذاكرا لمعناها، متحققا بحقيقتها.. فإن كان بنفسه فهو في وطن التفرقة.. وعندهم «4» هذا من الشّرك الخفيّ، وإن قالها بحقّ فهو الإخلاص. فالعبد يعلم أولا ربّه بدليل وحجّة فعلمه بنفسه كسبيّ.. وهو أصل الأصول، وعليه ينبنى كل علم استدلالى «5» ! ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمه بنفسه لغلبات ذكر الله على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريا. ويقلّ إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ وكأنه غافل «6» عن نفسه أو ناس لنفسه.   (1) آية 285 سورة البقرة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» . (2) آية 114 سورة طه. (3) هنا يفرق القشيري بين التوحيد المنطوق باللسان، والتوحيد عند أرباب الحقيقة. (4) أي عند أرباب الحقائق، لأن أي شعور بالغيرية نتيجة عدم الإخلاص نقص في التوحيد. (5) من هذا يتضح أن الصوفية لا يهملون العقل تماما بل يحترمونه في مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان، ولكنهم لا يعولون عليه تماما في بقية معراجهم الروحي. وهذا رد حاسم على من ينكرون على الصوفية علاقتهم بالعقل والعلوم العقلية. (6) في ص (وكأنه قال) وهي خطأ من الناسخ كما هو واضح من السياق بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 ويقال: الذي على البحر يغلب عليه ما يأخذه من رؤية البحر، فإذا ركب البحر قويت هذه الحالة، حتى إذا غرق في البحر فلا إحساس له بشىء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك «1» . «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» : اى إذا علمت أنك علمت فاستغفر لذنبك من هذا فإن الحقّ- على جلال قدره- لا يعلمه غيره «2» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 20] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) كان المسلمون تضيق قلوبهم بتباطؤ الوحى، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحى بسرعة فقال تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ «3» وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» رأيت المنافقين يكرهون ذلك لما كان يشق عليهم من القتال، فكانوا يفتضحون عندئذ، وكانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم- بغاية الكراهة. ... فَأَوْلى لَهُمْ» .   (1) القشيري هنا مستفيد من شيخه أبى على الدقاق حين أوضح مراحل التواجد فالوجد فالوجود قائلا: «التواجد يوجب استيعاب العبد، والوجد يوجب استغراق العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد، فهو كن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق في البحر» الرسالة ص 37. (2) يذكرنا هذا بقول رابعة بعد ليال قضتها في الصلاة والاستغفار: «إن صلاتنا في حاجة إلى صلاة، واستغفارنا في حاجة إلى استغفار» كما يذكرنا بقول القشيري في موضع مماثل: « ... جلت الصمدية عن أن يستشرف من إدراكها بشر» ، وفي ذلك يقول أبو عبد الله الجلاء (ت 306 هـ) : كيفية المرء ليس المرء يدركها ... فكيف كيفية الجبار في القدم؟ هو الذي أحدث الأشياء مبتدعا ... فكيف يدركه مستحدث النسم؟ (شذرات الذهب ح 2 ص 249) . (3) قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهى محكمة. وقيل معناها مبينة غير متشابهة، لا نحتمل وجها إلا وجوب القتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 تهديد «1» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 21] طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) وهو قولهم: «لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ... » . ويقال: فأولى لهم طاعة منهم لله ولرسوله. «وقول معروف» بالإجابة لما أمروا به من الجهاد. ويقال: طاعة وقول معروف أمثل بهم. قوله جل ذكره «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» . إذا عزم الأمر- أي جدّ وفرض القتال- فالصدق والإجابة خير لهم من كذبهم ونفاقهم وتقاعدهم عن الجهاد. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 22] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أي فلعلكم إن أعرضتم عن الإيمان- بمحمد صلى الله عليه وسلم- ورجعتم إلى ما كنتم عليه أن تفسدوا في الأرض، وتسفكوا الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم، وتعودوا إلى جاهليتكم. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 23] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أصمّهم عن سماع الحقّ وقبوله بقلوبهم، وأعمى بصائرهم.   (1) يقول الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل الدّرّ يحلب من مردّ وقال الأصمعى معناها: قاربه ما يهلكه وأقشد: فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث وقال المبرد: يقال لمن همّ بالعطب: أولى لك! أي: قاربت العطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 24] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) أي إن تدّبروا القرآن أفضى بهم إلى العرفان، وأراحهم من ظلمة التحيّر. «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» : أقفل الحقّ عل قلوب الكفار فلا يداخلها زاجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب فالباب إذا كان مقفلا ... فكما لا ينخل فيه شىء لا يخرج منه شىء كذلك قلوب الكفار مقفلة، فلا الكفر الذي فيها يخرج، ولا الإيمان الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم. وأهل الشّرك والكفر قد سدّت بصائرهم وغطّيت أسرارهم، ولبّس عليهم وجه التحقيق. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) الذي يطلع فجر قلبه، ويتلألأ نور التوحيد فيه، ثم قبل متوع نهار إيمانه انكسفت شمس يومه، وأظلم نهار عرفانه، ودجا ليل شكّه، وغابت هجوم عقله ... فحدّث عن ظلماته ... ! ولاحرج! «1» [ذلك جزاؤهم على مما لأئهم مع المنافقين، وتظاهرهم ... فإذا توّفتهم الملائكة تتصل آلامهم، ولا تنقطع بعد ذلك عقوباتهم.] «2» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 29] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) . ليس الأمر كما توهّمموه، بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم، ولقد أخبر الرسول عنهم، وعرّفه أعيانهم.   (1) القشيري هنا يغمز بمن ينتمون إلى طريقة الصوفية ثم يفسخون عقدهم مع الله، ويتخلون عن طريق الإرادة بعد قطعهم مسافة قصيرة. (2) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في م وثابت في ص. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 30] وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) أي في معنى الخطاب، فالأسرّة تدلّ على السريرة، وما يخامر القلوب فعلى الوجوه يلوح أثره: لست ممن ليس يدرى ... ما هوان من كرامة إنّ للحبّ ... وللبغض على الوجه علامة والمؤمن ينظر بنور الفراسة «1» ، والعارف ينظر بنور التحقيق، والموحّد ينظر بالله فلا يستتر عليه شىء «2» . ويقال: بصائر الصديقين غير مغطّاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدوا كل خوخة غير خوخة أبى بكر» «3» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 31] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) بالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص، ويفتضح المماذق، وينكشف المنافق، فالذين آمنوا وأخلصوا نجوا وتخلصوا، والذين كفروا ونافقوا وقعوا «4» فى الهوان وأذلّوا، ووسموا بالشقاوة وقطعوا. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 33] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)   (1) هكذا في م وهي في ص (بعين الفراسة) . روى الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة، والترمذي من حديث أبى سعد، والطبراني وأبو نعيم والبزاز بسند صحيح عن أنس «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» . (2) يفيد هذا الكلام في ترتيب القوم: مؤمن ثم عارف ثم موحد فالموحدون أعلى درجات السائرين. (3) يقول القشيري في كتابه «المعراج» ص 72: (كان الصديق مخصوصا من البصيرة بما لم يخص به غيره قال (ص) : «سدوا كل خوخة غير خوخه أبى بكر» . وذلك لما فتحوا في المسجد من كل دار خوخة، والإشارة فيه أن الصديق ليس بممنوع من الإبصار بحال) . (4) سقطت (وقعوا) فى ص، وموجودة في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بالرياء والإعجاب والملاحظة. «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بالمساكنة إليها. «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» بطلب الأعواض عليها. «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بتوهمكم أنه يجب بها شىء دون فضل الله «1» . قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 35] فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي لا تميلوا إلى الصلح مع الكفار وأنتم الأعلون بالحجة «2» . أنتم الأعلون بالنصرة. قوله «وَاللَّهُ مَعَكُمْ» . أي بالنصرة ويقال: لا تضعفوا بقلوبكم، وقوموا بالله لأنكم- والله معكم- لا يخفى عليه شىء منكم، فهو على الدوام يراكم. ومن علم أنّ سيّده يراه يتحمل كلّ مشقة مشتغلا برؤيته: «وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» أي لا ينقصكم أجر أعمالكم. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 36] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) تجنبوا الشّرك والمعاصي حتى يفيكم أجوركم. والله لا يسألكم من أموالكم إلا اليسير منها وهو مقدار الزكاة «3» . [سورة محمد (47) : آية 37] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)   (1) هذه الإشارة موجهة إلى الذين يزعمون أن الطاعة توجب على الله الثواب. ويرى القشيري أنه لا وجوب على الله فكل شىء من فضله لأن طاعة العبد لا توجب لله زينا، ومعصيته لا تلحق به سبحانه شينا. والله «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» . (2) عند هذا الحد انتهت النسخة م، ولذا فإننا نعتمد على النسخة ص في بقية السورة، وهي مساحة كبيرة. (3) وهي على حد تعبير سفيان بن عيينه: غيض من فيض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 «الإحفاء» الإلحاح في المسألة ... وهذا إنما يقوله لمن لم يوق شحّ نفسه، فأمّا الإخوان ومن علت رتبتهم في باب حرية القلب فلا يسامحون في استيفاء ذرّة، ويطالبون ببذل الرّوح، والتزام الغرامات. قوله جل ذكره: [سورة محمد (47) : آية 38] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) البخل منع الواجب، وإذا بخل فإنما يبخل عن نفسه لأنه لو لم يفعل ذلك لحصل له الثراء- هكذا يظن. قوله جل ذكره: «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» . «غنى» بنفسه على قول، وغنيّ بوصفه على القول الثاني «1» . وغناه كونه لا تتقيد مراداته. أمّا العبد فهو فقير بنفسه لأنه لا يستغنى عن مولاه فى الابتداء منذ خلقه إلى الانتهاء، وهو في دوام الأوقات مفتقر إلى مولاه. والفقير الصادق من يشهد افتقاره إلى الله. وصدق الفقير في شهود فقره إلى الله. ومن افتقر إلى الله استغنى بالله، ومن افتقر إلى غير الله وقع في الذّلّ والهوان. ويقال: الله غنيّ عن طاعتكم، وأنتم الفقراء إلى رحمته. ويقال: الله غنيّ لا يحتاج إليكم، وأنتم الفقراء لأنكم لا بديل لكم عنه. قوله جل ذكره: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» . يستبدل قوما غيركم يكونون أشدّ منكم طاعة، وأصدق منكم وفاء فهو قادر على خلق أمثالكم ثم لا يكونون أمثالكم في العصيان والإعراض وترك الشكر والوفاء ... بل سيكونون خيرا منكم.   (1) أي يمكن أن تكون من صفات الذات أو من صفات الفعل انظر «الغني» فى كتاب «التحبير في التذكير» للإمام القشيري تحقيق د. بسيونى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 سورة الفتح قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» تشير إلى سموّه في أزله، وعلوّه في أبده وسموّه في أزله نفى البداية عنه بحقّ القدم، وعلوّه في أبده نفى الانتهاء عنه باستحالة العدم فمعرفة سموّه توجب للعبد سموّا، ومعرفة علوّه توجب للعبد علوّا «1» . قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) قضينا لك قضاء بيّنا، وحكمنا لك بتقوية دين الإسلام، والنصرة على عدوّك، وأكرمناك بفتح ما انغلق على قلب من هو غيرك- من قبلك- بتفصيل شرائع الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه. نزلت الآية في فتح مكة، ويقال في فتح الحديبية «2» . ويقال: هديناك إلى شرائع الإسلام، ويسّرنا لك أمور الدين. [سورة الفتح (48) : آية 2] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2)   (1) واضح أن مذهب القشيري في معرفة أسماء الله سبحانه لا يقتصر على المعرفة الكلامية النظرية بل يتجاوز ذلك إلى التأدب بها، والتخلق بأخلاق الله.. فالعمل مترتب على العلم (انظر مقدمتنا لكتاب التحبير في التذكير) . (2) يقال نزلت هذه السورة بين مكة والمدينة (رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور ابن مخرمة ومروان بن الحكم) وأنها نزلت في شأن الحديبية. (كذلك في البخاري في سماع قتادة عن أنس) . وقال الضحاك: «مبينا» أي بغير قتال. وقال مجاهد: كان فتح الحديبية آية عظيمة إذ نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية فقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة: غفر الله له ذنبه، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدى محله، وظهرت الروم على الفرس. م (27) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 كلا القسمين- المتقدّم والمتأخّر- كان قبل النبوة «1» . ويقال «ما تَقَدَّمَ» من ذنب آدم بحرمتك، «وَما تَأَخَّرَ» : من ذنوب أمّتك «2» . وإذا حمل على ترك الأولى «3» فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك، قبل النبوة وبعدها «4» . ولمّا نزلت هذه الآية قالوا: هنيئا لك! فأنزل الله تعالى: «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» .. ويقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يتم نعمته عليك بالنبوة، وبوفاء العاقبة، وببسط الشريعة، وبشفاعته لأمته، وبرؤية الله غدا، [وبإظهار دينه على الأديان، وبأنه سيد ولد آدم، وبأنه أقسم بحياته، وخصّه بالعيان] «5» . وبسماع كلامه سبحانه ليلة المعراج، وبأن بعثه إلى سائر الأمم.. وغير ذلك من مناقبه. «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» يثبتك على الصراط المستقيم، ويزيدك هداية على هداية، ويهدى بك الخلق إلى الحقّ. ويقال: يهديك صراطا مستقيما بترك حظّك. [سورة الفتح (48) : آية 3] وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)   (1) نصّ القشيري على «قبل النبوة» لأن الأنبياء معصومون من الذنب. (2) هذا أيضا قول عطاء الخراسانى. (3) ترك الأولى تعبير أدبى مهذب عن «الذنب» . ويقال: كان الذنب المتقدم على يوم بدر قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» . والذنب المتأخر كان يوم حنين حيث رمى جمرات فى وجوه المشركين قائلا: «شاهت الوجوه.. حم. لا ينصرون» . فانهزم القوم عن آخرهم، ولم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. وعند عودة النبي مع أصحابه قال لهم: لو لم أرمهم لم ينهزموا! فأنزل الله عز وجل: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. (4) روى الترمذي عن أنس أن النبي فرح بهذه الآية فرحا شديدا وقال: لقد أنزلت على آية أحب إلى ما على وجه الأرض» . [ ..... ] (5) ما بين القوسين الكبيرين موجود في ص وغير موجود في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 لا ذلّ فيه، وتكون غالبا لا يغلبك أحد. ويقال: ينصرك على هواك ونفسك، وينصرك بحسن خلقك ومقاساة الأذى من قومك. ويقال نصرا عزيزا: معزا لك ولمن آمن بك. وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوه من الأفضال أكرم بها نبيّه- صلى الله عليه وسلم- وخصّه بها من الفتح والظّفر على النّفس والعدو، وتيسير ما انغلق على غيره، والمغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة.. ولكلّ من هذه الأشياء خصائص عظيمة. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 4] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) .. السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج، فيرتقى القلب بوجودها عن حدّ الفكرة إلى روح اليقين وثلج الفؤاد، فتصير العلوم ضرورية «1» .. وهذا للخواصّ. فأمّا عوامّ المسلمين فالمراد منها: السكون والطمأنينة واليقين. ويقال: من أوصاف القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة. وفي التفاسير: السكينة ريح هفّافة. وقالوا: لها وجه كوجه الإنسان. وقيل لها جناحان. «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» أي يقينا مع يقينهم وسكونا مع سكونهم. تطلع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين. ثم تطلع شمس حقّ اليقين على بدر عين اليقين. «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» . «جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» : قيل: هى جميع القلوب الدالّة على وحدانية الله. ويقال: ملك السماوات والأرض وما به من قوّى تقهر أعداء الله.   (1) أي لا نعوذ كسبيه حيث لم يعد للإنسان من نفسه لنفسه شىء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 ويقال: هم أنصار دينه. ويقال: ما سلّطه الحقّ علي شىء فهو من جنوده، سواء سلّطه على وليّه في الشدة والرخاء، أو سلّطه على عدوّه في الراحة والبلاء. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 5] لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) يستر ذنوبهم ويحطها عنهم.. وذلك فوز عظيم، وهو الظّفر بالبغية «1» . وسؤل كلّ أحد ومأموله، ومبتغاه ومقصوده مختلف.. وقد وعد الجميع ظفرا به. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 6] وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم. و «ظَنَّ السَّوْءِ» : هو ما كان بغير الإذن ظنوا أنّ الله لا ينصر دينه ونبيّه عليه السلام. «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» : عاقبته تدور عليهم وتحيق بهم. «وَلَعَنَهُمْ» : أبعدهم عن فضله، وحقت فيهم كلمته، وما سبقت لهم- من الله سبحانه- قسمته. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 8] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) «أَرْسَلْناكَ شاهِداً» : على أمّتك يوم القيامة. ويقال: شاهدا على الرّسل والكتب. ويقال: شاهدا بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال: شاهدا لأمتك بتوحيدنا. «وَمُبَشِّراً» : لهم منّا بالثواب،. «وَنَذِيراً» للخلق زاجرا ومحذّرا من المعاصي والمخالفات.   (1) هكذا في م وهي في ص بالنعمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 ويقال: شاهدا من قبلنا، ومبشّرا بأمرنا، ونذيرا من لدنّا ولنا ومنا. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 9] لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) قرىء «1» : «ليؤمنوا» بالياء لأن ذكر المؤمنين جرى، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول، ويؤقروه: أي يعظّموا الرسول. وتسبّحوه: أي تسبّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلا «2» . وقرىء: «لِتُؤْمِنُوا» - بالتاء- أيها المؤمنون بالله ورسوله وتعزروه- على المخاطبة. وتعزيره يكون بإيثاره بكلّ وجه على نفسك، وتقديم حكمه على حكمك. وتوقيره يكون باتباع سنّته، والعلم بأنه سيّد بريّته «3» . قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سمرة «4» . وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث عثمان رضى الله عنه إلى قريش ليكلّمهم فأرجفوا بقتله. وأتى عروة بن مسعود «5» إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: جئت بأوشاب الناس لتفضّ بيضتك بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكأنّى بأصحابك   (1) قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبى عمرو ... وكذلك «يسبحوه» بالياء، والباقون بالتاء على الخطاب (2) ونلاحظ أن القشيري قد توقف قبل تسبحوه فجعلها بالتاء، وهناك من المفسرين من يرى ذلك أيضا (انظر القرطبي ح 16 ص 267) . (3) عزرت الرجل أي رددت عنه ونصرته وأيّدته- وهو من الأضداد- لأنه قد يأتى بمعنى أدّبته ولسته. (4) إشارة إلى قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» والسمرة: شجرة الطلح. (5) جاء في السيرة لابن إسحاق- 3 ص 778. بعد أن خرج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، فلما سمعت قريش بذلك استعدت لقتاله مع أنه لم يكن ينوى قتالا وتعاقبت السفراء بينه وبينهم، وكان كل سفير من قريش يذهب إلى النبي ثم يعود ليقنع قريش بحقيقة نية النبي ولكنهم كانوا لا يرضون بما جاء به، حتى جاء دور عروة بن مسعود الثقفي- وهو عند قريش غير متهم وقال للنبى «إن قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها أبدا عليهم عنوة. وحينما قال عروة: وايم الله لكأنى بهؤلاء- يريد أصحاب الرسول- قد انكشفوا عنك غدا. فانبرى أبوبكر قائلا: أنحن ننكشف عنه ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 قد انكشفوا عنك إذا مسّهم حرّ السلاح! فقال أبو بكر: أتظن أنّا نسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبايعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا وألا يهربوا «1» ، فأنزل الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» : أي عقدك عليهم هو عقد الله. قوله جل ذكره: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» . أي «يَدُ اللَّهِ» : فى المنة عليهم بالتوفيق والهداية «2» : «فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» بالوفاء حين بايعوك. ويقال: قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيّه صلى الله عليه وسلم فوق نصرهم لدين الله ولرسوله. وفي هذه الآية تصريح بعين الجمع «3» كما قال: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» قوله جل ذكره: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» أي عذاب النكث عائد عليه. «وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» . أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجرا عظيما. وإذا كان العبد بوصف إخلاصه، بعامل الله في شىء هو به متحقّق، وله بقلبه شاهد فإنّ الوسائط التي تظهرها أمارات التعريفات تجعله محوا في أسراره ... والحكم عندئذ راجع إلى الواحد- جلّ شأنه «4» .   (1) قال جابر بن عبد الله بايعنا رسول الله (ص) تحت الشجرة على الموت وعلى ألا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلّا جد بن قيس وكان مناففا اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم. (2) نلاحظ أن القشيري هنا يؤول اليد حتى ينفى عن الله الاتصاف بالجارحة. (3) أنت حين بايعت أو حين رميت فأنت من حيث الظاهر تقوم بعمل وأنت في حال الفرق، ولكن الحقيقة أنه لا فاعل إلا الله فمنه التوفيق والسداد والإصابة.. وهذا هو حال الجمع. وبمقدار ما يكون العبد في منزلة التمكين وبعيدا عن التلوين يكون دنوه من حال الجمع، التي بعدها حال جمع الجمع.. ونبينا صلى الله عليه وسلم كان عندها إذ هو صلوات الله عليه محمول لا متحمل اى بربه لا بنفسه. (4) أي إذا أفضى العبد بشىء من العرفان عندئذ فيكون نطقة وما يظهر عليه من الله وبالله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 11] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) لمّا قصد رسول الله عليه وسلم التوجه إلى الحديبية تخلّف قوم من الأعراب عنه. قيل: هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع، وقالوا: «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» وليس لنا من يقوم بشأننا وقالوا: انتظروا ماذا يكون فماهم في قريش إلّا أكلة رأس «1» . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه معتذرين بأنه لم يكن لهم أحد يقوم بأمورهم! وقالوا: استغفر لنا. فأطلعه الله- سبحانه- على كذبهم ونفاقهم وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصا، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» فضحهم. ويقال: ما شغل العبد عن الله شؤم عليه. ويقال: عذر المماذق وتوبة المنافق كلاهما ليس حقائق. قوله جل ذكره [سورة الفتح (48) : آية 12] بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) حسبتم أن لن يرجع الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى أهليهم أبدا، وزيّنت لكم الأمانى ألا يعودوا، وأنّ الله لن ينصرهم. «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» أي هالكين فاسدين.   (1) أي هم قليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 ويقال: إنّ العدوّ إذا لم يقدر أن يكيد بيده يتمنّى ما تتقاصر عنه مكنته، وتلك صفة كلّ عاجز، ونعت كلّ لئيم. ثم إن الله- سبحانه- بعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» » . ويقال: من العقوبات الشديدة التي يعاقب الله بها المبطل أن يتصّور شيئا يتمنّاه ويوطّن نفسه عليه لفرط جهله. ويلقى الحقّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسه أن ذلك كالكائن.. ثم يعذبه الله بامتناعه. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 13] وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وما هو آت فقريب.. وإنّ الله ليرخى عنان الظّلمة ثم لا يفلتون من عقابه.. وكيف- وفي الحقيقة- ما يحصل منهم هو الذي يجريه «2» عليهم؟ قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 14] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) يغفر- وليس له شريك يقول له: لا تفعل، ويعذّب من يشاء- وليس هناك مانع عن فعله يقول له: لا تفعل. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 15] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم الله خيبر،   (1) آية 43 سورة فاطر. [ ..... ] (2) هكذا في ص وهي في م (يحزيه) بالزاي وقد رجحنا (يجريه) أولا لاتصالها بمذهب القشيري وكون الله- على الحقيقة- فاعل كل شىء حتى أكساب العباد. وثانيا لأنها لو كانت بالزاي لقال: يجزيهم عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 وأنّ فيها سيظفر بأعدائه، فلمّا همّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يخرج معى إلى خيبر من خرج إلى الحديبية، والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا» فقال المتخلفون: إنما يقول المؤمنون ذلك حسدا لنا وليس هذا من قول الله! فأنزل الله تعالى ذلك لتكذيبهم، ولبيان حكمه ألا يستصحبهم فهم أهل طمع، وكانت عاقبتهم أنهم لم يجدوا مرادهم، وردّوا بالمذلة وافتضح أمرهم. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 16] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) جاء في التفاسير أنهم أهل اليمامة أصحاب مسيلمة- وقد دعاهم أبوبكر وحاربهم، فالآية تدل على إمامته ... وقيل هم أهل فارس- وقد دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم فالآية تدل على صحة إمامته. وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبى بكر. «1» «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» أولى شدّة. فإن أطعتم استوجبتم الثواب، وإن تخّلفتم استحققتم العقاب. ودلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح- كما كان لهؤلاء وأنشدوا: إذا فسد الإنسان بعد صلاحه ... فرجّ له عود الصلاح.. لعلّه قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 17] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)   (1) العبارات التي وردت في إثبات صحة الإمامين جاءت في م ولم ترد في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 هؤلاء أصحاب الأعذار.. رفع عنهم الحرج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين. وكذلك من كان له عذر في المجاهدة مع النفس.. فإنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما كما يحب أن تؤتى عزائمه «1» . قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 20] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) هذه بيعة الرضوان، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ... » . وكانوا ألفا وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة. وكانوا قصدوا دخول مكة، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجا لحرب، فقصده المشركون، ثم صالحوه على أن ينصرف هذا العام، ويقيم بها ثلاثا ثم يخرج، (وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام بتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا) «2» وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشر بذلك أصحابه، فلما صدهم المشركون خامر قلوبهم شىء، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمة حتى قال الصّدّيق: لم يقل العام! فسكنت قلوبهم بنزول الآية لأن الله سبحانه علم ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكك. فأنزل السكينة في قلوبهم،   (1) هذه لفتة هامة جدا، حيث لم نتعود من القشيري في سائر مصنفاته أن يستجيز الرخصة. وربما هو يتحدث هنا عن عامة المسلمين، ولكن حينما يتحدث عن الصوفية يعتبر اللجوء إلى الرخصة بمثابة فسخ عقد الإرادة (أنظر الرسالة ص 199) . (2) ما بين الأقواس تكملة من عندنا اعتمدنا فيها على المصادر المختلفة. أوردناها ليتضح الساق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 وثبّتهم باليقين. «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» هو فتح خيبر بعد مدة يسيرة، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرة من خيبر. وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة «1» . وفي الآية دليل على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطر مشكّكة، وفي الرّيب موقعة، ولكن لا عبرة بها فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا لازم التوحيد قلبه، وقارن التحقيق سرّه فلا يضرّه كيد الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» «2» . وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ويدخل في ذلك جميع ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجّل لكم هذه- يعنى خيبر «3» ، وقيل: الحديبية. «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» لما خرجوا من المدينة حرسهم الله، وحفظ عيالهم، وحمى بيضتهم حين هبّ اليهود «4» فى المدينة بعد خروج المسلمين، فمنعهم الله عنهم. أو يقال: كفّ أيدى الناس من أهل الحديبية. «وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» لتكون هذه آية للمؤمنين وعلامة يستدّلون بها على حراسة الله لهم. «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» : فى التوكل على الله والثقة به. ويقال: كفّ أيدى الناس عن العبد هو أن يرزقه من حيث لا يحتسب، لئلا يحتاج إلى أن يتكفّف الناس. ويقال: أن يرفع عنه أيدى الظّلمة.   (1) هذا أيضا قول ابن عباس ومجاهد. (2) آية 201 سورة الأعراف. (3) يرجح أنها خيبر، لأن الحديبية كان فيها صلح. (4) يرجح الطبري ذلك، لأن كف أيدى المشركين في الحديبية مذكور في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 ويقال: ألا تحمله المطالبة بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه فيأخذ من الأشياء- برخصة التأويل- ما ليس بطيّب «1» . قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 21] وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) قيل: فتح الروم وفارس «2» . وقيل: فتح مكة «3» . وكان الله على كل شىء قديرا: فلا تعلقوا بغيره قلوبكم. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 22] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) يعنى: خيبر وأسد وغطفان وغيرهم- لو قاتلوكم لانهزموا، ولا يجدون من دون الله ناصرا قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 23] سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) أي سنّة الله خذلانهم ولن تجد لسنة الله تحويلا. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 24] وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) قيل إن سبعين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله (فأخذناهم سلما فاستحييناهم) فأنزل الله هذه الآية في شأنهم «4» .   (1) مرة أخرى ننبه إلى إضافة هذا الكلام إلى موقف القشيري من الرخصة ومداها. (2) قال ابن عباس: هى أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبى ليل. (3) عن الحسن أيضا وقتادة، وقال عكرمة: حنين. (4) فى ص، وم (فأخذهم سلمان) ، وهما خطأ في النسخ، فالرواية عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس أن (ثمانين) رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي (ص) من جبل التنعيم متسلحين يريدون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 وقيل أخذ اثنى عشر رجلا من المشركين- بلا عهد- فمنّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» وقيل: هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين، وحصل ترامى الأحجار بينهم فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، فأنزل الله هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدى بعضهم عن بعض عن قدرة من المسلمين لا عن عجز فأما الكفار فكفّوا أيديهم رعبا وخوفا وأمّا المسلمون فنهيا من قبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين- أراد الله أن يخرجوا، أو لما علم أن قوما منهم يؤمنون. والإشارة فيه: أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يسلم الناس منك، وتسلم منهم. وإن الله يفعل بأوليائه ذلك، فلا من أحد عليهم حيف، ولا منهم على أحد حيف ولا حساب ولا مطالبة ولا صلح ولا معاتبة، ولا صداقة ولا عداوة.. وكذا من كان بالحق- وأنشدوا: فلم يبق لى وقت لذكر مخالف ... ولم يبق لى قلب لذكر موافق. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 25] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) «كَفَرُوا» وجحدوا، «وَصَدُّوكُمْ» ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية. «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً «2» » : أي منعوا الهدى أن يبلغ منحره، فمعكوفا حال من الهدى أي محبوسا.   - غرة (أن يصيبوه على غفلة) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم. (أي أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم (وقال ابن الأثير) السلم (بكسر السين وفتحها لغتان في الصلح) . وفي رواية قتادة أن النبي سألهم: «هل لكم على ذمة؟ (أي عهد) قالوا: لا، فأرسلهم فنزلت. وفي رواية الترمذي أنهم ثمانون رجلا هبطوا عليه عند صلاة الصبح، فأخذهم وأعتقهم. وذكر ابن هشام أنهم يسمّون العتقاء.. ومنهم معاوية وأبوه. (1) عن قتادة: أن المشركين رموا رجلا من أصحاب النبي يقال له زنيم بسهم فقتلوه، فبعث النبي خيلا فأتو باثنى عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي (ص) : هل لكم على ذمة؟ ... إلخ. [ ..... ] (2) فى البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (ص) معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر الرسول وحلق رأسه، فنحروا بنحره وحلقوا، وقد غضب الرسول ممن توقف عن ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق تلك السّنة سبعين بدنة. قوله جل ذكره: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «1» فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرّة منكم بغير علم لسلّطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم. وفي هذا تعريف للعبد بأن أمورا قد تنغلق وتتعسّر فيضيق قلب الإنسان.. ولله في ذلك سرّ، ولا يعدم ما يجرى من الأمر أن يكون خيرا للعبد وهو لا يدرى.. كما قالوا: كم مرة حفّت بك المكاره ... خير لك الله.. وأنت كاره قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 26] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) يعنى الأنفة «2» أي دفعتهم أنفة الجاهلية أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية، فأنزل الله سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحلم. «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» وهي كلمة التوحيد تصدر عن قلب صادق: فكلمة التقوى يكون معها الاتقاء من الشّرك.   (1) أن تطئوهم: بالقتل والإيقاع بهم. يقال وطئت القوم: أي أوقعت بهم. فجواب لولا محذوف والمعنى: ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكننا صنا من كان فيها يكتم وإيمانه. (2) هكذا في م وهي في ص (الإنية) وقد رجحنا الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 «وَكانُوا أَحَقَّ بِها» حسب سابق حكمه وقديم «1» علمه.. «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ويقال: الإلزام في الآية هو إلزام إكرام ولطف، لا إلزام إكراه وعنف وإلزام برّ لا إلزام جبر.. وكم باسطين إلى وصلنا ... أكفهمو ... لم ينالوا نصيبا! ويقال كلمة التقوى: التواصي بينهم بحفظ حق الله. ويقال: هى أن تكون لك حاجة فتسأل الله ولا تبديها للناس. ويقال: هى سؤالك من الله أن يحرسك من المطامع. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 27] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) أي صدقه «2» فى رؤياه ولم يكذبه صدقه فيما أراه «3» من دخول مكة «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأخبر أصحابه. فوطّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمّا كان من أمر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شىء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أذن الله في العام القابل، فأنزل الله: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» فكان ذلك تحقيقا لما أراه، فرؤياه صلوات الله عليه حق لأن رؤيا الأنبياء حق   (1) هكذا في ص وهي في م (وقدر) وقد رجحنا الأولى. (2) أي على حذف الجار كقوله تعالى: «صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» (3) إشارة إلى الرؤيا التي أراه إياها من دخوله وصحبه مكة آمنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 وكان في ذلك نوع امتحان لهم: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم من الحكمة في التأخير «1» . وقوله: «إِنْ شاءَ اللَّهُ» معناه إذ شاء الله كقوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وقيل. قالها على جهة تنبيههم إلى التأدّب بتقديم المشيئة في خطابهم «2» وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى: إن شاء الله آمنين أو غير آمنين. وقيل. يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلّهم أو دخول بعضهم فإن الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قوم. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 28] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين «3» فما من دين لقوم إلا ومنه في أيدى المسلمين سرّ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات. وقيل: ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام «4» . وقيل: فى القيامة حيث يظهر الإسلام على كل الأديان. وقيل: ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل. قوله جل ذكره: [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)   (1) قد تكون الحكمة في التأخير هو ما سيحدث لهم من الخير والصلاح والتفوق وكثرة العدد، فإنه عليه السلام رجع من هذا الموقف إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال وعدة ورجال أضعاف ما كان عليه في ذلك العام، وأقبل على مكة في أهبة وعدة. يدلك على ذلك أنهم كانوا عام الحديبية سنة ست عددهم ألف وأربعمائة، وكانوا بعده عشرة آلاف. (2) إشارة إلى قوله تعالى: «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» . (3) أي أن (الدين) فى الآية اسم جنس، أو اسم بمعنى المصدر، ويستوى فيه المفرد والجمع. (4) أي عند نزوله لا يبقى على وجه الأرض كافر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 «أَشِدَّاءُ» . جمع شديد، أي فيهم صلابة مع الكفار. «رُحَماءُ» . جمع رحيم، وصفهم بالرحمة والتوادّ فيما بينهم. « ... تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان. « ... سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» أي علامة التخشع التي على الصالحين. ويقال: هى في القيامة يوم تبيضّ وجوه، وأنهم يكونون غدا محجلين. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «1» ويقال في التفسير: «مَعَهُ» أبوبكر، و «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» عمر و «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» : عثمان، و «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» عليّ رضى الله عنهم «2» وقيل: الآية عامة في المؤمنين. «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» . هذا مثلهم في التوراة، وأمّا مثلهم في الإنجيل فكزرع «3» أخرج شطأه أي: فراخه.   (1) جاء في سنن ابن ماجة: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى قال «حدثنا ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته ... » وقال ابن العربي: هو مدسوس على وجه الغلط. (2) هكذا في م أما في ص فلم يرد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم سوى الجزء الأخير الخاص بعلى كرم الله وجهه، وقد يمكن لو تذكرنا ما جاء في هامش ص 425- أن نستنبط أن ناسخ ص- الذي هو فارسى الأصل كما قلنا فى مدخل الكتاب- ربما كان شيعيا. (3) فعل هذا يجوز الوقف على (التوراة) ثم يستأنف الكلام فيكون هناك مثلان. وقال مجاهد: هو مثل واحد. وعند النسفي: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (ح 4 ص 164) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 يقال: أشطأ الزرع إذا أخرج صغاره على جوانبه. «فَآزَرَهُ» أي عاونه. «فَاسْتَغْلَظَ» أي غلظ واستوى على سوقه وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرع الزرّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار شبّه النبي (صلى الله عليه وسلم) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ما ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين. فمن حمل الآية على الصحابة: فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» أي بأصحابه الكفار. ومن حمله على المسلمين ففيه حجّة على الإجماع، لأنّ من خالف الإجماع- فالله يغايظ به الكفار- فمخالف الإجماع كافر قوله جل ذكره: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» وعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجرا عظيما في الجنة فقوله: «مِنْهُمْ» للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 بسم الله الرّحمن الرّحيم [ «بِسْمِ اللَّهِ» : إخبار عن وجود الحقّ بنعت القدم. «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن بقائه بوصف العلاء والكرم. كاشف الأرواح بقوله: «بِسْمِ اللَّهِ» فهيمّها. وكاشف النفوس بقوله: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فتيّمها فالأرواح دهشى في كشف جلاله، والنفوس عطشى إلى لطف جماله] . عبد الكريم القشيري فى بسملة «الشمس» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 سورة الحجرات قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم كريم من تنصّل إليه من زلّاته تفضّل عليه بنجاته، ومن توسّل إليه بطاعاته تطوّل عليه بدرجاته. «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز من تقرّب إليه بمناجاته قابله بلطف أفضاله، ومن تحبّب إليه بإيمانه أقبل عليه بكشف جلاله وجماله. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» : شهادة للمنادى بالشّرف. «لا تُقَدِّمُوا» أمر بتحمّل الكلف. قدّم الإكرام بالشرف على الإلزام بالكلف أي لا تقدموا بحكمكم «بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» : أي لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله، أي لا تعملوا من ذات أنفسكم شيئا. ويقال: قفوا حيثما وقفتم، وافعلوا ما به أمرتم، وكونوا أصحاب الاقتداء والاتّباع ... لا أرباب الابتداء والابتداع. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 أمرهم بحفظ حرمته، ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته، وألّا ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم. وأنه إذا كان بخلقه يلاينهم فينبغى ألا يتبسّطوا معه متجاسرين، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به من تخلّقه عن حدودهم زائدين. ويقال: لا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 3] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) هم الذين تقع السكينة عليهم من هيبة حضرته، أولئك هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى بانتزاع حبّ الشهوات منها، فاتقوا سوء الأخلاق، وراعوا الأدب. ويقال: هم الذين انسلخوا من عادات البشرية. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) أي لو عرفوا قدرك لما تركوا حرمتك، والتزموا هيبتك. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيرا لهم «1» . أمّا أصحابه- صلوات الله عليه وسلامه- الذين يعرفون قدره فإنّ أحدهم- كما في الخبر: «كأنه يقرع بابه بالأظافر» .   (1) يقال: نزلت في قوم من بنى تميم منهم الأقرع بن حابس وسويد بن هاشم، ووكيع بن وكيع، وعيينة ابن حصن، وأن الأقرع نادى النبي (ص) من وراء حجرته أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمّنا شين. وكان ذلك وقت الظهيرة والنبي في راحته وبعض شئونه الخاصة. فاستيقظ وخرج لهم. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) دلّت الآية «1» على ترك السكون إلى خبر الفاسق إلى أن يظهر صدقه. وفي الآية إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمّام والمغتاب للناس. والآية تدلّ على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا. والفاسق هو الخارج عن الطاعة «2» . ويقال هو الخارج عن حدّ المروءة. ويقال: هو الذي ألقى جلباب الحياء. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : الآيات 7 الى 8] وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) أي لو وافقكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير مما تطلبون منه لوقعتم في العنت- وهو الفساد «3» . ولو قبل قول واحد (قبل وضوح الأمر) لأصابتكم من ذلك شدة. والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم ير في ذلك مصلحة لكم وللدين.   (1) يقال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبى معيط.. أرسله النبي (ص) ليجبى الصدقات من بنى المصطلق. فلما أبصروه تقدموا نحوه فهابهم فقد كانت بينه وبينهم إحنة.. فعاد من فوره إلى النبي وأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فلم يقنع النبي (ص) بما سمع وأرسل إليهم خالد بن الوليد ليتثبت من الأمر فأخبروه أنهم على إسلامهم، وأنهم كانوا خارجين إلى سفير النبي لإكرامه، واستيقن خالد من ذلك حين سمع أذانهم وصلاتهم.. فعاد إلى النبي وجلى حقيقة الأمر. (2) مشتق من فسقت الرطبة أي خرجت من قشرها، والفأرة من جحرها. (3) للعنت معان أخرى: فهو: الفجور والزنا- كما جاء في سورة النساء. وهو: الوقوع في أمر شاق كما جاء فى آخر سورة براءة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ» : الإسلام والطاعة والتوحيد، وزيّنها في قلوبكم. «وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ..» : هذا من تلوين الخطاب. وفي الآية دليل على صحة قول أهل الحقّ في القدر «1» ، وتخصيص المؤمنين بألطاف لا يشترك فيها الكفار. ولولا أنّه يوفّر الدواعي للطاعات لحصل التفريط والتقصير فى العبادات. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً: أي فعل هذا بكم فضلا منه ورحمة. والله عليم حكيم. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 9] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) «2» تدل الآية على أن المؤمن بفسقه- والفسق دون الكفر- لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين- لا محالة- فاسقة إذا اقتتلا. وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم حيث قال: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ... » . والإشارة فيه: أن النفس إذا ظلمت القلب بدعائه إلى شهواتها، واشتغالها في فسادها فيجب   (1) يقصد القشيري أن القائلين بأن الله سبحانه المتفرد بخلق ذوات العباد وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم و ... على صواب لأن الآية صريحة في خلق الأفعال فهو الذي حبّب إلى الإيمان والعكس. (2) يقال نزلت في ابن أبيّ حين وقف الرسول على مجلس به بعض الأنصار وهو على حمار فقال ابن أبى: حلّ سبيل حمارك فقد أذانا، فانبرى له عبد الله بن رواحة قائلا: والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك. وبعد أن مضى الرسول (ص) طال الخوض بينهما حتى استبّا وتجالدا، واشتبك الأوس والخزرج وتجالدوا بالعصى. وقيل بالأيدى والنعال والسعف، فرجع الرسول (ص) إليهم فأصلح بينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة. فإن استجابت إلى الطاعة يعفى عنها لأنها هي المطيّة إلى باب الله. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) إيقاع الصلح بين المتخاصمين من أوكد عزائم الدّين. وإذا كان ذلك واجبا فإنه يدل على عظم وزر الواشي والنّمام والمصدر في إفساد ذات البين. (ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صدق همة عبد في إصلاح ذات البين) «1» فإنه يرفع عنهم تلك العصبيّة «2» . فأما شرط الأخوة: فمن حقّ الأخوة في الدّين ألا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك، وألا تقصّر في تفقّد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك. ومن حقّه ألا تلجئه إلى الاعتذار لك بل تبسط عذره فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره عليك ومن حقه أن تتوب عنه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض. وإذا أشار عليك بشىء فلا تطالبه بالدليل عليه وإبراز الحجّة- كما قالوا: إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة حرب أم لأى مكان ومن حقّه أن تحفظ عهده القديم، وأن تراعى حقّه في أهله المتصلين به في المشهد والمغيب، وفي حال الحياة وبعد الممات «3» - كما قيل: وخليل إن لم يكن ... منصفا كنت منصفا   (1) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص. (2) هكذا في م وهي في ص المعصية ونحن نؤثر الأولى لملاءتها للسياق. (3) فى هذه الفقرة ما يدحض مزاعم الذين يقولون بأن الصوفية قوم انعزاليون، لا يفهمون معنى العلاقات الاجتماعية ولا يقدرونها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 تتحسّى له الأمر ... ين وكن ملاطفا إن يقل لك استو احترف ... ت رضى لا تكلّفا قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) نهى الله- سبحانه وتعالى- عن ازدراء الناس، وعن الغيبة، وعن الاستهانة بالحقوق، وعن ترك الاحترام. «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» : أي لا يعيبنّ بعضكم بعضا، كقوله: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «1» . ويقال: ما استصغر أحد أحدا إلا سلّط عليه. ولا ينبغى أن يعتبر بظاهر أحوال الناس فإنّ في الزوايا خبايا. والحقّ يستر أولياءه في حجاب الضّعة «2» وقد جاء في الخبر: «ربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه» «3» . قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)   (1) آية 29 سورة النساء. (2) الضعة هنا بمعنى خمول الذكر وانطفاء المنظر. (3) فى بعض الروايات بزيادة: «وإن البراء منهم» ، وعند مسلم بلفظ «ربّ أشعث أغبر مدفوع إلى الأبواب لو أقسم على الله لأبرّه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 النّفس لا تصدق، والقلب لا يكذب. والتمييز بين النفس والقلب مشكل ومن بقيت عليه من حظوظه بقيّة- وإن قلّت- فليس له أن يدّعى بيان القلب بل هو بنفسه مادام عليه شىء من نفسه، ويجب أن يتّهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره.. هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب. «كلّ الناس أفقه من عمر.. امرأة أفقه من عمر» . «وَلا تَجَسَّسُوا» . والعارف لا يتفرغ من شهود الحقّ إلى شهود الخلق.. فكيف يتفرغ إلى تجسّس أحوالهم؟ وهو لا يتفرغ إلى نفسه فكيف إلى غيره؟ «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» : لا تحصل الغيبة للخلق إلّا من الغيبة عن الحقّ. «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ... » جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية.. وأخسّ الكفّار وأقلّهم قدرا من يأكل الميتة.. وعزيز رؤية من لا يغتاب أحدا بين يديك. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) إنّا خلقناكم أجمعكم من آدم وحواء، ثم جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا لا لتكاثروا ولا لتنافسوا. فإذا كانت الأصول تربة ونطفة وعلقة ... فالتفاخر بماذا؟ أبا لحمأ المسنون؟ أم بالنطفة في قرار مكين؟ أم بما ينطوى عليه ظاهرك مما تعرفه؟! «1» وقد قيل:   (1) ربما نفهم من هذه العبارة ما يقصده القشيري في موضع آخر ماثل من سخرية بالإنسان وتحطيم لتجبره كأن يقول له: من أنت أيها الإنسان؟ أنت كنيف في قميص! ألا ترى إلى ريح إبطك إذا عرقت، وإلى ريح فمك إذا جعت!؟ ... ونحو ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 إنّ آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار أم بأفعالك التي هي بالرياء مشوبة؟ أم بأحوالك التي هي بالإعجاب مصحوبة؟ أم بمعاملاتك التي هي ملأى بالخيانة؟ «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ؟ أتقاكم أي أبعدكم عن نفسه، فالتقوى هي التحرّر من النفس وأطماعها وحظوظها. فأكرم العباد عند الله من كان أبعد عن نفسه وأقرب إلى الله تعالى. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 14] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) الإيمان هو حياة القلب، والقلب لا يحيا إلا بعد ذبح النّفس، والنفوس لا تموت ولكنها تغيب، ومع حضورها لا يتمّ خير، والاستسلام في الظاهر إسلام. وليس كلّ من استسلم ظاهرا مخلص في سرّه. «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» فى هذا دليل على أن محلّ الإيمان القلب. كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ومرض القلب والإيمان ضدان. [سورة الحجرات (49) : آية 15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) جعل الله الإيمان مشروطا بخصال ذكرها، ونصّ عليها بلفظ «إِنَّمَا» وهي للتحقيق الذي يقتضى طرد العكس فمن خرج عن هذه الشرائط التي جعلها للإيمان فمردود عليه قوله. والإيمان يوجب للعبد الأمان، فما لم يكن الإيمان موجبا للأمان فصاحبه بغيره أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 16] قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) تدل الآية على أنّ الوقوف «1» فى المسائل الدينية يعتبر واجبا فالأسامى منه تؤخذ، والأحكام منه تطلب، وأوامره متّيعة «2» . قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 17] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) من لاحظ شيئا من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركا، وإن رآها لنفسه كان مكرا فكيف يمن العبد بما هو شرك أو بما هو مكر؟! والذي يجب عليه قبول المنّة ... كيف يرى لنفسه على غيره منّة؟! هذا لعمرى فضيحة! بل المنّة لله فهو وليّ النعمة. ولا تكون المنة منة إلا إذا كان العبد صادقا في حاله، فأمّا إذا كان معلو لا في صفة من صفاته فهى محنة لصاحبها لا منّة. والمنّة تكدّر الصنيع إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمنّة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله. قوله جل ذكره: [سورة الحجرات (49) : آية 18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) .   (1) هكذا في م وهي بمعنى (التوقف) (والتوقيف) عند بعض الأمور، ولهذا فما جاء في ص وهو (التوفيق) خطأ في النسخ. (2) فالاتباع واجب والابتداع مرفوض- كما نهنا القشيري من قبل. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 ومن وقف هاهنا تكدّر عليه عيشه إذ ليس يدرى ما غيبه فيه، وفي معنى هذا قول القائل: أبكى.. وهل تدرين ما يبكينى؟ أبكى حذارا أن تفارقينى وتقطعى وصلي وتهجرينى «1»   (1) فى (اللمع) للسراج وتقطعى (حبلى) وتهجرينى (اللمع ص 305) وكلاهما صحيح في المعنى ملائم للوزن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 سورة ق «بِسْمِ اللَّهِ» اسم جبر أحوال من رحمه، متجبّر بكبريائه على من أقماه فقهره وحرمه. «بِسْمِ اللَّهِ» لطيف يعلم خفايا تصنّع العابدين، غافر لجلائل ذنوب العاصين. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ق مفتاح أسمائه: «قوى وقادر وقدير وقريب» .. أقسم بهذه الأسماء وبالقرآن المجيد. وجواب القسم محذوف ومعناه لتبعثنّ في القيامة. ويقال جوابه: «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» أي لقد علمنا. وحذفت اللام لمّا تطاول الخطاب. ويقال: جوابه قوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» . قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 2] بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) «مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» : هو محمد صلى الله عليه وسلم والتعجّب نوع من تعبير النّفس عن استبعادها لأمر خارج العادة لم يقع به علم من قبل. وقد مضى القول في إنكارهم للبعث واستبعادهم ذلك: [سورة ق (50) : آية 3] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) أي يبعد عندنا أن نبعث بعد ما متنا. فقال جل ذكره: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 [سورة ق (50) : آية 4] قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) فى هذا تسلية للعبد فإنه إذا وسّد التراب، وانصرف عنه الأصحاب، واضطرب لوفاته الأحباب. فمن يتفقّده ومن يتعهّده ... وهو في شفير قبره، وليس لهم منه شىء سوى ذكره، ولا أحد منهم يدرى ما الذي يقاسيه المسكين في حفرته؟ فيقول الحقّ- سبحانه: «قَدْ عَلِمْنا ... » ولعلّه يخبر الملائكة قائلا: عبدى الذي أخرجته من دنياه- ماذا بقي بينه من يهواه؟ هذه أجزاؤه قد تفرّقت، وهذه عظامه بليت، وهذه أعضاؤه قد تفتّتت! «وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» : وهو اللّوح المحفوظ أثبتنا فيه تفصيل أحوال الخلق من غير نسيان، وبيّنّا فيه كلّ ما يحتاج العبد إلى تذكّره. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 5] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) «مَرِيجٍ» أي مختلط وملتبس فهم يتردّدون في ظلمات تحيّرهم، ويضطربون في شكّهم. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 6] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) أولم يعتبروا؟ أولم يستدلّوا بما رفعنا فوقهم من السماء، رفعنا سمكها فسوّيناها، وأثبتنا فيها الكواكب وبها زيّناها، وأدرنا فيها شمسها وقمرها؟ أولم يروا كيف جلّسنا عينها ونوّعنا أثرها؟ [سورة ق (50) : آية 7] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) والأرض مددناها فجعلناها لهم مهادا، وجعلنا لها الجبال أوتادا، وأنبتنا فيها أشجارا وأزهارا وأنوارا.. كل ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 [سورة ق (50) : آية 8] تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) علامة ودلالة لكل من أناب إلينا، ورجع من شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا، ومن شهود صفاتنا إلى شهود حقّنا وذاتنا «1» . قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 9] وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) أنزلنا من السماء ماء مباركا كثير النفع والزيادة، فأنبتنا به «جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» : أي الذي يحصد- كما تقول: مسجد الجامع. الأجزاء متجانسة. ولكنّ أوصافها في الطعوم والروائح والألوان والهيئات والمقادير مختلفة. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : الآيات 10 الى 11] وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) والنخل باسقات: طويلات، لها طلع منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطّلع أو لما فيها من الثمار. وكيف جعلنا بعض الثمار متفرقة كالتفاح والكمثرى وغيرهما، وكيف جعلنا بعضها مجتمعة كالعنب والرطب وغيرهما.. كلّ ذلك جعلناه رزقا للعباد ولكى ينتفعوا به. « ... وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ» . وكما سقنا هذا الماء إلى بلدة جفّ نباتها، وكما فعلنا كلّ هذه الأشياء ونحن قادرون على ذلك- كذلك نجمعكم في الحشر والنشر، فليس بعثكم بأبعد من هذا. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)   (1) هذا الترتيب في منازل الشهود له أهمية في فهم المعراج الروحي عند هذا الإمام، وواضح منه أن أعلى درجات الشهود شهود الذات ... وذلك بشرائط سبقت الإشارة إليها في غير موضع من الكتاب، ولكننا مع ذلك لا نفسى أن القشيري- كما نعرف من منهجه- يرى الاستشراف من (الذات) من المحال، فقد جلت الصمدية عن الدرك واللحوق.. مهما سما العبد في معراجه الروحي. م (29) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 إنّا لم نعجز عن هؤلاء- الذين ذكر أسماءهم- وفيه تهديد لهم وتسلية للرسول. [سورة ق (50) : آية 15] أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) أي إنّا لم نعجز عن الخلق الأول.. فكيف نعجز عن الخلق الثاني- وهو الإعادة؟ لم يعتص علينا فعل شىء، ولم نتعب من شىء.. فكيف يشق علينا أمر البعث؟ أي ليس كذلك «1» . قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) نعلم ما توسوس به نفسه من شهوات تطلب استنفاذها، مثل التصنّع مع الخلق، وسوء الخلق، والحقد.. وغير ذلك من آفات النّفس التي تشوّش على القلب والوقت. «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» فحبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه، والمراد من ذلك العلم والقدرة، وأنه يسمع قولهم، ولا يشكل عليه شىء من أمرهم. وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وسكون وأنس قلب لقوم. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 17] إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) خوّفهم بشهود الملائكة وحضور الحفظة، وبكتابتهم عليهم أعمالهم، فهما قعيدا «2» كلّ   (1) فالاستفهام هنا للإنكار أو للنفى. (2) عبر عن المثنى بالمفرد للدلالة بواحد على الاثنين مثل قول الشاعر: رمانى بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل العلوي رمانى أي رمانى بأمر كنت منه بريثا وكان والدي منه بريثا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 أحد: ويقال: إذا كان العبد قاعدا فواحد عن يمينه يكتب خيراته، وواحد على يساره يكتب معاصيه، وإذا قام فواحد عند رأسه وواحد عند قدمه، وإذا كان ماشيا فواحد قائم بين يديه وآخر خلفه. ويقال: هما اثنان بالليل لكلّ واحد، واثنان بالنهار. ويقال: بل الذي يكتب الخيرات اليوم يكون غيره غدا، وأمّا الذي يكتب الشر والمعصية بالأمس فإنه يكون كاتبا للطاعة غدا حتى يشهد طاعتك. ويقال: بل الذي يكتب المعصية اثنان كل يوم اثنان آخران وكل ليلة اثنان آخران لئلا يعلم من مساويك إلا القليل منها، ويكون علم المعاصي متفرقا فيهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 19] وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) إذا أشرفت النّفس على الخروج من الدنيا فأحوالهم مختلفة فمنهم من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا يتبيّن إلا عند ذهاب الروح حاله. ومنهم من يكاشف قبل خروجه فيسكن روعه، ويحفظ عليه عقله «2» ، ويتم له حضوره وتمييزه، فيسلم الرّوح على مهل من غير استكراه ولا عبوس.. ومنهم، ومنهم.. وفي معناه يقول بعضهم: أنا إن متّ- والهوى حشو قلبى- فبداء الهوى يموت الكرام ثم قال جل ذكره: [سورة ق (50) : الآيات 20 الى 21] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) سائق يسوقها إمّا إلى الجنة أو إلى النار، وشهيد يشهد عليها بما فعلت من الخير والشرّ.   (1) واضح من ذلك مقدار ما يبعثه الصوفية في نفوس العصاة من تفاؤل ورجاء أملا في فتح باب التوبة (2) سقطت (عقله) من النسخة م، وموجودة في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 ويقال له: [سورة ق (50) : آية 22] لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) المؤمنون- اليوم بصرهم حديد يبصرون رشدهم ويحذرون شرّهم. والكافر يقال له غدا: «فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» أي: ها أنت علمت ما كنت فيه من التكذيب فاليوم لا يسمع منك خطاب، ولا يرفع عنك عذاب. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 23] وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) لا يخفى من أحوالهم شىء إلا ذكر، إن كان خيرا يجازون عليه، وإن كان غير خير يحاسبون عليه: إمّا برحمة منه فيغفر لهم وينجون، وإمّا على مقدار جرمهم يعذّبون. [سورة ق (50) : آية 25] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) منّاع للزكاة المفروضة. ويقال: يمنع فضل مائه وفضل كلئه عن المسلمين. ويقال: يمنع الناس من الخير والإحسان، ويسىء القول فيهما حتى يزهّد الناس فيهما. ويقال: المناع للخير هو المعوان على الشّرّ. ويقال: هو الذي قيل فيه: «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» «1» . «مُرِيبٍ» : أي يشكّك الناس في أمره لأنه غير مخلص، ويلبّس على الناس حاله لأنه منافق. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 27] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) يقول الملك من الحفظة الموكّل به: ما أعجلته على الزّلّة.   (1) آية 7 سورة الماعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 وإنما «1» كتبتها بعد ما فعلها- وذلك حين يقول الكافر: لم أفعل هذا، وإنما أعجلنى بالكتابة علىّ، فيقول الملك: ربّنا ما أعجلته.. ويقال: هو الشيطان المقرون به، وحين يلتقيان في جهنم يقول الشيطان: ما أكرهته على كفره، ولكنه فعل- باختياره- ما وسوست به إليه. فيقول جل ذكره: [سورة ق (50) : الآيات 28 الى 30] قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) لا تختصموا لديّ اليوم وقد أمرتكم بالرّشد ونهيتكم عن الغيّ. قوله جل ذكره: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» «2» «نَقُولُ لِجَهَنَّمَ» ، «وَتَقُولُ» : القول هنا على التوسّع لأنه لو كانت جهنم ممن يجيب لقالت ذلك بل يحييها حتى تقول ذلك. «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» : على جهة التغليظ، والاستزادة من الكفار. ويقال: بل تقول «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» : أي ليس فيّ زيادة كقوله عليه السلام لمّا قيل له: يوم فتح مكة: هل ترجع إلى دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل دارا؟! «3» أي لم يترك، فإن الله- تعالى- يملأ جهنم من الكفار والعصاة، فإذا ما أخرج العصاة من المؤمنين ازداد غيظ الكفار حتى تمتلئ بهم جهنم.   (1) هكذا في ص وهي في م (ما) والصواب ما أثبتنا. (2) عن قتادة عن أنس عن النبي (ص) قال: يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول قط قط. وفي رواية أبى هريرة: يقال لجهنم هل امتلأت وتقول: هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط (البخاري ح 3 ص 128) . (3) عن الزهري عن على بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل غدا؟ قال النبي (ص) : وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ثم قال: لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث الكافر المؤمن (البخاري ح 3 ص 42) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 31] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) يقال: إنّ الجنّة تقرّب من المتقين، كما أنّ النار تجرّ بالسلاسل إلى المحشر نحو المجرمين. ويقال: بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين حشرهم إليها.. وهم خواص الخواص. ويقال: هم ثلاثة أصناف: قوم يحشرون إلى الجنة مشاة وهم الذين قال فيهم: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً «1» » - وهم عوام المؤمنين «2» وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصوّرة لهم بصورة حيوان، وهم الذين قال فيهم جلّ وعلا: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «3» - وهؤلاء هم الخواص وأمّا خاص الخاص فهم الذين قال عنهم: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي تقرّب الجنة منهم وقوله: «غَيْرَ بَعِيدٍ» تأكيد لقوله: «وَأُزْلِفَتِ» . ويقال: «غير بعيد» : من العاصين تطييبا لقلوبهم. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 32] هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) الأوّاب: الراجع إلى الله في جميع أحواله. «حَفِيظٍ» : أي محافظ على أوقاته، (ويقال محافظ على حواسه في الله حافظ لأنفاسه مع الله) «4» . قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 33] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) الخشية من الرحمن هي الخشية من الفراق. (والخشية من الرحمن تكون مقرونة بالأنس ولذلك لم يقل: من خشى الجبّار ولا من خشى القهّار) «5» .   (1) آية 73 سورة الزمر. (2) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. (3) آية 85 سورة مريم. (4) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م. [ ..... ] (5) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 ويقال: الخشية من الله تقتضى العلم بأنه يفعل ما يشاء وأنه لا يسأل عمّا يفعل. ويقال: الخشية ألطف من الخوف، وكأنها قريبة من الهيبة «1» . «وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» : لم يقل بنفس مطيعة بل قال: بقلب منيب ليكون للعصاة في هذا أمل لأنهم- وإن قصّروا بنفوسهم وليس لهم صدق القدم- فلهم الأسف بقلوبهم وصدق النّدم. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 34] ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) أي يقال لهم: ادخلوها بسلامة من كل آفة، ووجود رضوان ولا يسخط عليكم الحقّ أبدا. ومنهم من يقول له الملك: ادخلوها بسلام، ومنهم من يقول له: لكم ما تشاءون فيها قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 35] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) لم يقل: «لهم ما يسئلون» بل قال: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» : فكلّ ما يخطر ببالهم فإنّ سؤلهم يتحقق لهم في الوهلة، وإذا كانوا اليوم يقولون: ما يشاء الله فإنّ لهم غدا منه الإحسان.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ «وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» : اتفق أهل التفسير على أنه الرؤية، والنظر إلى الله سبحانه «2» . وقوم يقولون: المزيد على الثواب في الجنة- ولا منافاة بينهما.   (1) يقول الدقاق شيخ القشيري: هي مراتب: الخوف والخشية والهيبة: فالخوف من شرط الإيمان «وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» والخشية من شرط العلم: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» . والهيبة من شرط المعرفة: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» . وقال أبو القاسم الحكيم: الخوف على ضربين: رهبة وخشية فصاحب الرهبة يلتجىء إلى الهرب إذا خاف وصاحب الخشية يلتجىء إلى الرب (الرسالة ص 65) . (2) أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار في الآخرة، وأنه يراه المؤمنون دون الكافرين لأن ذلك كرامة من الله تعالى لقوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» . وجوزّوا الرؤية بالعقل وأوجبوها بالسمع وإنما جاز في العقل لأنه موجود، وكل موجود تجوز رؤيته إذا وضع الله سبحانه فينا الرؤية له، ولو لم تكن الرؤية جائزة عليه لكان سؤال موسى عليه السلام: «أرنى أنظر إليك» جهلا وكفرا. وجاء السمع بوجوبه في مثل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 36] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) أي اعتبروا بالذين تقدّموكم انهمكوا في ضلالتهم، وأصرّوا، ولم يقلعوا.. فأهلكناهم وما أبقينا منهم أحدا. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 37] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) قيل: «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» : أي من كان له عقل. وقيل: قلب حاضر. ويقال قلب على الإحسان مقبل. ويقال: قلب غير قلّب. «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» : استمع إلى ما ينادى به ظاهره من الخلق وإلى ما يعود إلى سرّه من الحق «1» . ويقال: لمن كان له قلب صاح لم يسكر «2» من الغفلة. ويقال: قلب يعد أنفاسه مع الله. ويقال: قلب حيّ بنور الموافقة. ويقال: قلب غير معرض عن الاعتبار والاستبصار. ويقال: «القلب- كما في الخبر- بين إصبعين من أصابع الرحمن» : أي بين نعمتين وهما ما يدفعه عنه من البلاء، وما ينفعه به من النّعماء، فكلّ قلب منع الحقّ عنه الأوصاف الذميمة وألزمه النعوت الحميدة فهو الذي قال فيه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» . وفي الخبر: «إن لله أوانى ألا وهي القلوب، وأقربها من الله ما رقّ وصفا» شبّه القلوب بالأوانى فقلب الكافر منكوس لا يدخل فيه شىء، وقلب المنافق إناء مكسور، ما يلقى فيه من أوّله يخرج من أسفله، وقلب المؤمن إناء صحيح غير منكوس يدخل فيه الإيمان ويبقى.   - «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» . و «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» .. وقوله «ص» .. «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته يوم القيامة» . وأجمعوا على أنه لا يرى في الدنيا بالأبصار، ولكن بالقلوب لأن الدنيا دار فناء ولا يرى الباقي في الدار الفانية.. وهي على العموم رؤية بلا كيفية ولا إحاطة. (1) هكذا في م وهي في ص (الخلق) وهي خطأ في النسخ. (2) هكذا في م وهي في ص (يسكن) وهي خطأ في النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 ولكنّ هذه القلوب مختلفة فقلب ملطّخ بالانفعالات وفنون الآفات فالشراب الذي يلقى فيه يصحبه أثر، ويتلطخ به. وقلب صفا من الكدورات وهو أعلاها قدرا. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 38] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) وأنى يمسّه اللّغوب. وهو صمد لا يحدث في ذاته حادث؟! قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 39] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) إن تأذّ سمعك بما يقولون فيّ من الأشياء التي يتقدّس عنها نعتى فاصبر على ما يقولون، واستروح عن ذلك بتسبيحك لنا. [سورة ق (50) : آية 40] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) فالليل وقت الخلوة- والصفاء في الخلوة أتمّ وأصفى. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : الآيات 41 الى 42] وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) النداء من الحقّ- سبحانه- وارد عليهم، كما أنّ النجوى تحصل دائما بينهم. والنداء الذي يرد عليهم يكون بغتة ولا يكون للعبد في فعله اختيار. قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 43] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) إلينا مرجع الكلّ ومصيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 44] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) هذا يسير علينا: سواء خلقناهم جملة أو فرادى «1» قال تعالى: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» » . قوله جل ذكره: [سورة ق (50) : آية 45] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) ما أنت عليهم بمتسلّط تكرههم. وإنما يؤثّر التخويف والإنذار والتذكير في الخائفين، فأمّا من لا يخاف فلا ينجح فيه التخويف- وطير السماء على ألّافها تقع.   (1) هكذا في ص وهي في م (فردا) (2) آية 28 سورة لقمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 سورة الذّاريات قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة عزيزة من ذكرها عزّ لسانه، ومن عرفها اهتزّ بصحبتها جنانه «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة للألباب غلّابة، كلمة لأرواح المحبّين سلّابة. قوله جل ذكره: [ سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالذَّارِياتِ: أي الرياح الحاملات «وِقْراً» أي السحاب «فَالْجارِياتِ» أي السفن. «فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» أي الملائكة.. أقسم بربّ هذه الأشياء وبقدرته عليها. وجواب القسم: «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ..» والإشارة في هذه الأشياء أن من جملة الرياح. الرياح الصيحية «1» تحمل أنين المشتاقين إلى ساحات العزّة فيأتى نسيم القربة إلى مشامّ أسرار أهل المحبة.. فعندئذ يجدون راحة من غلبات اللوعة، وفي معناه أنشدوا: وإنى لأستهدى الرياح نسيمكم ... إذا أقبلت من أرضكم بهبوب وأسألها حمل السلام إليكمو ... فإن هي يوما بلّغت.. فأجيبى ومن السحاب ما يمطر بعتاب الغيبة، ويؤذن بهواجم النّوى والفرقة. فإذا عنّ لهم من ذلك شىء أبصروا ذلك بنور بصائرهم، فيأخذون في الابتهال، والتضرّع في السؤال استعاذة منها.. كما قالوا:   (1) إشارة إلى صيحاتهم عند اشتداد الوجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 أقول- وقد رأيت لها سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا وقد سحّت عزاليها «1» ببين ... حوالينا الصدود ولا علينا وكما قد يحمل الملّاح بعض الفقراء بلا أجرة طمعا في سلامة السفينة- فهؤلاء «2» يرجون أن يحملوا في فلك العناية «3» فى بحار «4» القدرة عند تلاطم الأمواج حول السفينة. ومن الملائكة من يتنزّل لتفقد أهل الوصلة، أو لتعزية أهل المصيبة، أو لأنواع من الأمور تتصل بأهل هذه القصة، فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم: هل عندهم خير عن فراقهم ووصالهم- كما قالوا: بربّكما يا صاحبيّ قفا بيا ... أسائلكم عن حالهم واسألانيا «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» : الحقّ- سبحانه- وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالرحمة، والأولياء بالقربة، والعارفين بالوصلة، ووعد أرباب المصائب بقوله: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «5» » وهم يتصدون لاستبطاء حسن الميعاد- والله رءوف بالعباد. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 8] وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) «ذاتِ الْحُبُكِ» أي ذات الطرائق الحسنة- وهذا قسم ثان، وجوابه: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» يعنى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فأحدهم يقول: إنه ساحر، وآخر يقول: مجنون، وثالث يقول: شاعر.. وغير ذلك.   (1) الأعزل من السحاب مالا مطر فيه (الوسيط ج 2 ص 605) . (2) يقصد الصوفية. (3) هكذا في ص وهي في م (الكفاية) . (4) هكذا في ص وهي في م (محال) . (5) إشارة إلى الآيتين 156، 157 من سورة البقرة. «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» : «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 والإشارة فيه إلى القسم بسماء التوحيد ذات الزينة بشمس العرفان، وقمر المحبة، ونجوم القرب.. إنكم في باب هذه الطريقة لفى قول مختلف فمن منكر يجحد الطريقة، ومن معترض يعترض على أهلها يتوهّم نقصانهم في القيام بحق الشريعة «1» ، ومن متعسّف «2» لا يخرج من ضيق حدود العبودية ولا يعرف خبرا عن تخصيص الحقّ أولياءه بالأحوال السنية، قال قائلهم: قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظنّ غيرتكم ... وصادق ليس يدرى. أنه صدقا قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 9] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) أي يصرف عنه من صرف، وذلك أنهم كانوا يصدّون الناس عنه «3» ويقولون: إنه لمجنون. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 11] قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) لعن الكذّابون الذين هم في غمرة الضلالة وظلمة الجهالة ساهون لاهون. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 12 الى 14] يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) يسألون أيان يوم القيامة؟ يستعجلون بها، فلأجل تكذيبهم بها كانت نفوسهم لا تسكن   (1) نلاحظ هنا حرص الإمام القشيري على أن أرباب الحقيقة لا يتنكرون بحال من الأحوال لأى حق من حقوق الشريعة. (2) هكذا في ص وهي في م (متقشف) التي هي خطأ في النسخ. (3) واضح أن القشيري يرى الضمير فى (عنه) التي في الآية عائدا إلى الرسول (ص) . ويعيده بعض المفسرين إلى القرآن أو إلى الدين أو إلى (ما توعدون) . ومعنى عبارة القشيري أنه يصرف عنه من صرفه في سابق علمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 إليها. ويوم هم على النار يحرقون ويعذّبون يقال لهم: قاسوا عقوبتكم، هذا الذي كنتم به تستعجلون. والإشارة فيه إلى الذين يكذبون في أعمالهم لما يتداخلهم من الرياء، ويكذبون في أحوالهم لما يتداخلهم من الإعجاب، ويكذبون على الله فيما يدّعونه من الأحوال.. قتلوا ولعنوا.. وسيلقون غبّ تلبيسهم بما يحرمون من اشتمام رائحة الصدق. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 16] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) فى عاجلهم في جنّات وصلهم وفي آجلهم في جنّات فضلهم فغدا درجات ونجاة، واليوم قربات ومناجاة، فما هو مؤجّل حظّ أنفسهم، وما هو معجّل حقّ ربّهم. هم آخذين اليوم ما آتاهم ربهم يأخذون نصيبهم منه بيد الشكر والحمد، وغدا يأخذون ما يعطيهم ربّهم في الجنة من فنون العطاء والرّفد. ومن كان اليوم آخذه بلا واسطة من حيث الإيمان والإتقان، وملاحظة القسمة في العطاء والحرمان. كان غدا آخذه بلا واسطة في الجنان عند اللقاء والعيان. «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» كانوا ولكنهم اليوم بانوا «1» ولكنهم بعد ما أعدناهم حصلوا واستبانوا.. فهم كما في الخبر: «أعبد الله كأنك تراه ... » «2» . قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 17 الى 18] كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) .   (1) العارف كائن بائن (هذا رأى يحيى بن معاذ: رسالة القشيري ص 157) والمعنى أنه وإن بدا بين الناس يشاركهم ويعاشرهم إلا أنه مشتغل عنهم بمعروفه لا يشغل عنه طرفة عين. (2) جاء في الحلية عن زيد بن أرقم: «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه نراك، وأحسب نفسك فى الموتى، واتق دعوة المظلوم» كذلك رواه الطبراني والبيهقي عن معاذ بلفظ: «أعبد الله ولا تشرك به شيئا واعمل كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 المعنى إمّا: كانوا قليلا وكانوا لا ينامون إلا بالليل (كقوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «1» أو: كان نومهم بالليل قليلا، أو:) «2» كانوا لا ينامون بالليل قليلا «3» . «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» : أخبر عنهم أنهم- مع تهجدهم ودعائهم- ينزلون أنفسهم في الأسحار منزلة العاصين، فيستغفرون استصغارا لقدرهم، واستحقارا لفعلهم. والليل.. للأحباب في أنس المناجاة، وللعصاة في طلب النجاة. والسّهر لهم في لياليهم دائما إمّا لفرط أسف أو لشدّة لهف، وإمّا لاشتياق أو لفراق- كما قالوا: كم ليلة فيك لاصباح لها ... أفنيتها قابضا على كبدى قد غصّت العين بالدموع وقد ... وضعت خدى على بنان يدى وإمّا لكمال أنس وطيب روح- كما قالوا: سقى الله عيشا قصيرا مضى ... زمان الهوى في الصبا والمجون لياليه تحكى انسداد لحاظ ... لعينى عند ارتداد الجفون قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 19] وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) السائل هو المتكفّف، والمحروم هو المتعفّف- ويقال هو الذي يحرم نفسه بترك السؤال.. هؤلاء هم الذين يعطون بشرط العلم «4» ، فأمّا أصحاب المروءة: فغير المستحق لمالهم أولى من المستحق «5» . وأما أهل الفترة فليس لهم مال حتى تتوجه عليهم مطالبة لأنهم أهل الإيثار- فى الوقت- لكلّ ما يفتح عليهم به.   (1) آية 13 سورة سبأ. (2) ما بين القوسين موجود في م وسقط في ص. (3) يقول النسفي: ولا يجوز أن تكون ما نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا تقول: زيدا ما ضربت (النسفي ح 4 ص 184) . (4) أي حسب شرائط الشريعة في الزكاة. (5) هكذا في م وهي مشطوبة بخط فوقها في ص ... والعبارة قد تبدو غامضة، وقد يكون مراد القشيري- إن صحت عنه العبارة هكذا- أن اهل المروءة لا يتقيدون في عطائهم بما تفرضه الشريعة للمستحقين وحسب فإن المستحق يأخذ ما هو حق له، وإنما يعطون دائما ويمنحون دائما بغض النظر عن استحقاق أو عدمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 22] وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) كما أنّ الأرض تحمل كلّ شىء فكذلك العارف يتحمّل كلّ أحد. ومن استثقل أحدا أو تبرّم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة، ولمطالعته الخلق بعين التفرقة- وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة. ومن الآيات التي في الأرض أنها يلقى عليها كلّ قذارة وقمامة- ومع ذلك تنبت كلّ زهر ونور.. كذلك العارف يتشرب كلّ ما يسقى من الجفاء، ولا يترشح إلّا بكل خلق علىّ وشيمة زكيّة «1» . ومن الآيات التي في الأرض (أنّ ما كان منها سبخا يترك ولا يعمّر لأنه لا يحتمل العمارة- كذلك الذي لا إيمان له بهذه الطريقة يهمل، فمقابلته بهذه الصفة) «2» كإلقاء البذر في الأرض السبخة. «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» : أي وفي أنفسكم أيضا آيات، فمنها وقاحتها في همتها «3» ، ووقاحتها في صفتها، ومنها دعاواها العريضة فيما ترى منها وبها، ومنها أحوالها المريضة حين تزعم أنّ ذرّة أو ( ... ) «4» بها أو منها. «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» : أي قسمة أرزاقكم في السماء، فالملائكة الموكّلون بالأرزاق ينزلون من السماء. ويقال: السماء هاهنا المطر، فبالمطر ينبت الحبّ والمرعى.   (1) يقول الجنيد: «الصوفى كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح» ، وقال أيضا: «إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر» (الرسالة ص 139) . (2) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص. (3) هكذا في م وهي في ض (صمتها) ويبدو أن الهاء اشتبهت على الناسخ. (4) مشتبهة في النسختين. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 ويقال: على رب السماء أرزاقكم لأنه ضمنها. ويقال: قوله: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» وهاهنا وقف ثم تبتدئ: «وَما تُوعَدُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 23] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) أي: إنّ البعث والنشر لحقّ. ويقال: إنّ نصرى لمحمد ولدينى، وللذى أتاكم به من الأحكام- لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون. كما يقال: هذا حقّ مثل ما أنك هاهنا. ويقال: معناه: «أنّ الله رازقكم» - هذا القول حقّ مثلما أنكم إذا سئلتم: من ربّكم؟ ومن خالقكم؟ قلتم: الله.. فكما أنكم تقولون: إن الله خالق- وهذا حقّ.. كذلك القول بأنّ الله رازق- هو أيضا حقّ. ويقال: كما أنّ نطقك لا يتكلم به غيرك فرزقك لا يأكله غيرك. ويقال: الفائدة والإشارة في هذه الآية أنه حال برزقك على السماء، ولا سبيل لك إلى العروج إلى السماء لتشتغل بما كلفك ولا تتعنّى في طلب مالا تصل إليه. ويقال: فى السماء رزقكم، وإلى السماء يرفع عملكم.. فإن أردت أن ينزل عليك رزقك فأصعد إلى السماء عملك- ولهذا قالوا: الصلاة قرع باب الرزق، وقال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «1» . قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 24] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)   (1) آية 132 سورة طه. م (30) لطائف الإشارات- ج 3 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 قيل في التفاسير: لم يكن قد أتاه خبرهم قبل نزول هذه الاية. وقيل: كان عددهم اثنى عشر ملكا. وقيل: جبريل وكان معه سبعة. وقيل: كانوا ثلاثة. وقوله: «الْمُكْرَمِينَ» قيل لقيامه- عليه السلام- بخدمتهم. وقيل: أكرم الضيف بطلاقة وجهه، والاستبشار بوفودهم. وقيل: لم يتكلّف إبراهيم لهم، وما اعتذر إليهم- وهذا هو إكرام الضيف- حتى لا تكون من المضيف عليه منّة فيحتاج الضيف إلى تحملها. ويقال: سمّاهم مكرمين لأن غير المدعوّ عند الكرام كريم. ويقال: ضيف الكرام لا يكون إلا كريما. ويقال: المكرمين عند الله. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 25] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) أي سلّمنا عليك (سلاما) فقال إبراهيم: لكم منى (سلام) . وقولهم: «سَلاماً» أي لك منّا سلام، لأنّ السلام: الأمان. «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» : أي أنتم قوم منكرون لأنه لم يكن يعرف مثلهم في الأضياف. ويقال: غرباء. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 26 الى 28] فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) أي عدل إليهم من حيث لا يعلمون «1» ، وكذلك يكون الروغان «2» .   (1) أي من حيث لا يعلم الأضياف. (2) وكذلك يكون روغان الكرام: خفية حتى لا يسبب لأضيافه الحرج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» فشواه، وقرّبه منهم وقال: «أَلا تَأْكُلُونَ؟» وحين امتنعوا عن الأكل: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ توهّم أنهم لصوص فقالوا له: «لا تَخَفْ» . «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» : أي بشّروه بالولد، وببقاء هذا الولد إلى أن يصير عليما والعليم مبالغة من العلم، وإنما يصير عليما بعد كبره. [سورة الذاريات (51) : آية 29] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) «فِي صَرَّةٍ» أي في صيحة شديدة، «فَصَكَّتْ وَجْهَها» أي فضربت وجهها بيدها كفعل النساء «وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» : أي أنا عجوز عقيم. وقيل: إنها يومها كانت ابنة ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة. [سورة الذاريات (51) : آية 30] قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) أي قلنا لك كما قال ربّك لنا، وأن نخبرك أنّ الله هو المحكم لأفعاله، «الْعَلِيمُ» الذي لا يخفى عليه شىء «1» [سورة الذاريات (51) : آية 31] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) سألهم: ما شأنكم؟ وما أمركم؟ وبماذا أرسلتم؟ [سورة الذاريات (51) : الآيات 32 الى 36] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)   (1) روى أن جبريل قال لها حين استبعدت: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 هم قوم لوط، ولم نجد فيها غير لوط ومن آمن به. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 37] وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) تركنا فيها علامة يعتبر بها الخائفون- دون القاسية قلوبهم «1» . قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 47] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) أي بحجة ظاهرة باهرة «2» . .... إلى قوله: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ: أي جعلنا بينها وبين الأرض سعة، و «إِنَّا لَقادِرُونَ» : على أن نزيد في تلك «3» السعة. [سورة الذاريات (51) : آية 48] وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) أي جعلناها مهادا لكم. ثم أثنى على نفسه قائلا: «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» . دلّ بهذا كلّه على كمال قدرته، وعلى تمام فضله ورحمته. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 49] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) أي صنفين في الحيوان كالذّكر والأنثى، وفي غير الحيوان كالحركة والسكون، والسواد والبياض، وأصناف المتضادات.   (1) قيل هي ماء أسود منتن. (2) هكذا في م وهي في ص (قاهرة) وكلاهما مقبول في السياق. (3) هكذا في م وهي في ص (سلك) والسياق لا يقبل هذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 50] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أي فارجعوا إلى الله- والإنسان بإحدى حالتين إمّا حالة رغبة في شىء، أو حالة رهبة من شىء، أو حال رجاء، أو حال خوف، أو حال جلب نفع أو رفع ضرّ.. وفي الحالتين ينبغى أن يكون فراره إلى الله فإنّ النافع والضارّ هو الله. ويقال: من صحّ فراره إلى الله صحّ قراره مع الله. ويقال: يجب على العبد أن يفرّ من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التّقى، ومن الشّكّ إلى اليقين، ومن الشيطان إلى الله. ويقال: يجب على العبد أن يفرّ من فعله- الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه- حيث قال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» إلى نفسه حيث قال: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» «1» : قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 51 الى 53] وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) أخوّفكم أليم عقوبته إن أشركتم به- فإنّه لا يغفر أن يشرك به. ثم بيّن أنه على ذلك جرت عادتهم في تكذيب الرّسل، كأنهم قد توصوا فيما بينهم بذلك. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 54] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) فأعرض عنهم فليست تلحقك- بسوء صنيعهم- ملامة «2» قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 55] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ذكّر العاصين عقوبتى ليرجعوا عن مخالفة أمرى، وذكّر المطيعين جزيل ثوابى ليزدادوا   (1) هنا استخدم القشيري ثقافته الكلامية فيما يتصل بصفات (الفعل) وصفات (الذات) (أنظر تقديمنا لكتاب التحبير في التذكير) . (2) هكذا في م وهي في ص (ملايه) وهي خطأ من الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 طاعة وعبادة، وذكّر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي، وذكّر الأغنياء ما أتحت «1» لهم من إحسانى وعطائى، وذكّر الفقراء ما أوجبت لهم من صرف الدنيا عنهم وأعددت لهم من لقائى. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 58] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) الذين اصطفيتهم في آزالى، وخصصتهم- اليوم- بحسن إقبالى، ووعدتهم جزيل أفضالى- ما خلقتهم إلّا ليعبدون. والذين سخطت عليهم في آزالى، وربطتهم- اليوم- بالخذلان فيما كلّفتهم من أعمالى، وخلقت النار لهم- بحكم إلهيتى ووجوب حكمى في سلطانى- ما خلقتهم إلا لعذابى وأنكالى، وما أعددت لهم من سلاسلى وأغلالى. ما أريد منهم أن يطعموا أو يرزقوا أحدا من عبادى فإنّ الرزّاق أنا. وما أريد أن يطعمون فإننى أنا الله «ذُو الْقُوَّةِ» : المتين القوى. قوله جل ذكره: [سورة الذاريات (51) : آية 59] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) لهم نصيب من العذاب مثل نصيب من سلف من أصحابهم من الكفار فلم استعجال العذاب- والعذاب لن يفوتهم؟. [سورة الذاريات (51) : آية 60] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) وهو يوم القيامة.   (1) هكذا في م وهي في ص (الحث) وهي غير ملائمة للسياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 سورة الطّور قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة ما استولت على قلب عارف إلّا تيّمته بكشف جلاله، وما استولت على قلب متأفّف إلّا أكرمته بلطف أفضاله.. فهى كلمة قهّارة للقلوب.. ولكن لا لكلّ قلب، مذهبة للكروب.. ولكن لا لكلّ كرب. قوله جل ذكره: [ سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) أقسم الله بهذه الأشياء (التي في مطلع السورة) ، وجواب القسم قوله: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ» . والطور هو الجبل الذي كلّم عليه موسى عليه السلام لأنه محلّ قدم الأحباب وقت سماع الخطاب. ولأنه الموضع الذي سمع فيه موسى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أمّته حتى نادانا ونحن في أصلاب آبائنا فقال: أعطيتكم قبل أن تسألونى «وَكِتابٍ مَسْطُورٍ» : مكتوب في المصاحف، وفي اللوح المحفوظ. وقيل: كتاب الملائكة في السماء يقرءون منه ما كان وما يكون. ويقال: ما كتب على نفسه من الرحمة لعباده. ويقال ما كتب من قوله: سبقت رحمتى غضبى «1» . ويقال: هو قوله: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «2» .   (1) فى الحديث أن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: «إن رحمتى سبقت غضبى» . (2) آية 105 سورة الأنبياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 ويقال: الكتاب المسطور فيه أعمال العباد يعطى لعباده بأيمانهم وشمائلهم يوم القيامة. «فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ» «1» : يرجع إلى ما ذكرنا من الكتاب. [سورة الطور (52) : آية 4] وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) فى السماء الرابعة «2» . ويقال: هو قلوب العابدين العارفين المعمورة بمحبته ومعرفته. ويقال: هى مواضع عباداتهم ومجالس خلواتهم. وقيل: الكعبة. [سورة الطور (52) : آية 5] وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) هى السماء. وقيل سماء هممهم في الملكوت. [سورة الطور (52) : الآيات 6 الى 7] وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) البحار المملوءة. أقسم بهذه الأشياء: إنّ عذابه لواقع. وعذابه في الظاهر ما توعّد به عباده العاصين، وفي الباطن الحجاب بعد الحضور، والستر بعد الكشف، والردّ بعد القبول. [سورة الطور (52) : آية 8] ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) إذا ردّ عبدا أبرم القضاء بردّه: إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكن ... إليه بوجه آخر- الدهر- تقبل قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 10] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) «تَمُورُ» : أي تدور بما فيها، وتسير الجبال عن أماكنها، فتسير سيرا. [سورة الطور (52) : الآيات 11 الى 12] فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)   (1) الرق هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه، منشور لا ختم عليه أو لائح. (2) يقابل الكعبة معمور بالملائكة. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 الويل كلمة تقولها العرب لمن وقع في الهلاك. «فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» : فى باطل التكذيب يخوضون. [سورة الطور (52) : الآيات 13 الى 15] يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) يوم يدفعون إلى النار دفعا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذّبون.. ثم يسألون: أهذا من قبيل السحر على ما قلتم أم غطّى على أبصاركم؟! قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 16] اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) والصبر على الجزاء في العاقبة لا قيمة له، لأنّ عذابهم عقوبة لهم: قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 18] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) المتقون في جنات ونعيم عاجلا وآجلا «1» . «فاكِهِينَ» أي معجبين بما آتاهم ربهم وما أعطاهم. ويقال: «فاكِهُونَ» : أي ذوو فاكهة: كقولهم رجل تامر أي ذو تمر، ولابن أي ذو لبن. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 19] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) قوم يصير لهم ذلك هنيئا بطعمه ولذّته، وقوم يصير هنيئا لهم سماع قولهم   (1) يشير القشيري إلى النعيم العاجل الذي هو الوصلة والقربة. فمن المعلوم أن الصوفية يسلكون طريقهم فى حياة وسطى فيها قيامة وحشر ونشر وثواب وعذاب، بما يشعرون من هجر ووصل، وخوف ورجاء. ونحو ذلك من الأحوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 عنه- سبحانه- هنيئا، وقوم يصير لهم ذلك هنيا ليّنا وهم بمشهد منه: فاشرب على وجهها كغرّتها ... مدامة في الكئوس كالشّرر [سورة الطور (52) : آية 20] مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) يظلّون في سرور وحبور، ونصيب من الأنس موفور. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 21] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) يكمل عليهم سرورهم بأن يلحق بهم ذرّياتهم فإنّ الانفراد بالنعمة عمّن القلب مشتغل به من الأهل والولد والذرية يوجب تنغص العيش. وكذلك كلّ من قلب الولىّ يلاحظه من صديق وقريب، ووليّ وخادم، قال تعالى فى قصة يوسف: «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» وفي هذا المعنى قالوا: إنّى على جفواتها- فبربّها ... وبكلّ متّصل بها متوسّل لأحبها، وأحبّ منزلها الذي ... نزلت به وأحب أهل المنزل «وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» أي ما أنقصنا من أجورهم من شىء بل وفينا ووفّرنا. وفي الابتداء نحن أولينا وزدنا على ما أعطينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» مطالب بعمله، يوفيّ عليه أجره بلا تأخير، وإن كان ذنبا فالكثير منه مغفور، كما أنه اليوم مستور. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 22 الى 23] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) أي لا يجرى بينهم باطل ولا يؤثمهم كما يجرى بين الشّرب «1» فى الدنيا، ولا يذهب الشّرب بعقولهم فيجرى بينهم ما يخرجهم عن حدّ الأدب والاستقامة. وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ومن المعلوم من يسقيهم، وهم بمشهد منه وعلى رؤية منه؟. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 24] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) والقوم عن الدار وعمّن في الدار مختطفون لاستيلاء ما يستغرقهم فالشراب يؤنسهم ولكن لا بمن يجانسهم «2» وإذا كان- اليوم- للعبد وهو في السجن في طول عمره ساعة «3» امتناع عن سماع خطاب الأغيار، وشهود واحد من المخلوقين- وإن كان ولدا عزيزا، أو أخا شفيقا- فمن المحال أن يظن أنه يردّ من الأعلى إلى الأدنى.. إن كان من أهل القبول والجنة، ومن المحال أن يظن أنه يكون غدا موسوما بالشقاوة. وإذا كان العبد في الدنيا يقاسى في غربته من مقاساة اللتيا والتي- فماذا يجب أن يقال إذا   (1) الشرب بالفتح القوم يشربون ويجتمعون على الشراب (الوسيط واللسان) . (2) هكذا في م وهي أقرب إلى الصواب مما جاء في ص (يجالسهم) باللام لأن السياق يتدعم بالأولى فالأنس الحاصل يومئذ بالحق لا بالخلق. (3) هذه محاولة طيبة يقدمها التفسير الإشارى عند بحث قضية التنعم في الآخرة ونفى الحسيات عن هذا المتنعم لأنه إذا تصورنا أن العبد في ساعة الفناء يكون محوا فيما يشهد، وأن ذلك يحدث في الدنيا.. فها بالك في الآخرة وهم ناظرون إلى ربهم؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 رجع إلى منزله؟ أيبقى على ما كان عليه في سفرته؟ أم يلقى غير ما كان يقاسى في سفرته، ويتجرع غير ما كان يسقى من كاسات كربته؟. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) لولا أنهم قالوا: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» لكانوا قد لا حظوا إشفاقهم، ولكن الحقّ- سبحانه- اختطفهم عن شهود إشفاقهم حيث أشهدهم منّته عليهم حتى قالوا: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» . قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 29] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أي أنهم يعلمون أنك ليست بك كهانة ولا جنون، وإنما قالوا ذلك على جهة التسفيه فالسّفيه يبسط لسانه فيمن يسبّه بما يعلم أنه منه برىء. [سورة الطور (52) : الآيات 30 الى 31] أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) نتربص به حوادث الأيام فإنّ مثل هذا لايدوم، وسيموت كما مات من قبله كهّان وشعراء. ويقال: قالوا: إنّ أباه مات شابا، ورجوا أن يموت كما مات أبوه، فقال تعالى: «قُلْ تَرَبَّصُوا ... » فإننا منتظرون، وجاء في التفسير أنّ جميعهم ماتوا. فلا ينبغى لأحد أن يؤمّل موت أحد. فقل من تكون هذه صنعته إلّا سبقته المنيّة- دون أن يدرك ما يتمنّاه من الأمنيّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 32] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أتأمرهم عقولهم «1» بهذا؟ أم تحملهم مجاوزة الحدّ في ضلالهم وطغيانهم على هذا؟ قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 33 الى 34] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) إذا كانوا يزعمون أنك تقول هذا القول «2» من ذات نفسك فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فيما رموك به! قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 38] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) كلّا ليس الأمر كذلك، بل الله هو الخالق وهم المخلوقون. أم هم الذين خلقوا السماوات والأرض؟ أم عندهم خزائن ربّك. - أي خزائن أرزاقه ومقدوراته؟ أم هم المسيطرون المتسلّطون على الناس؟. أم لهم سلّم يرتقون فيه فيستمعون ما يجرى في السماوات؟ فليأت مستمعهم بسلطان مبين. ثم إنه سفّه أحلامهم فقال: [سورة الطور (52) : الآيات 39 الى 43] أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) أم تسألهم على تبليغ الرسالة أجرا فهم مثقلون من الغرم والإلزام في المال (بحيث يزهدهم ذلك في اتباعك؟.   (1) كانت قريش يدعون أهل الأحلام والنّهى- فإسناد الأحلام إلى الكفار في الآية مجاز فيه سخرية منهم. (2) ما بين القوسين إضافة من جانبنا كى يتضح السياق- فالقشيرى كما هو واضح في آخر السورة لا يعطى سوى كلمات مقتضبة، وإنما يهتم بالجانب الإشارى- إن وجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون ذلك؟ أم يريدون كيدا «1» أي أن يمكروا بك مكرا فالذين كفروا هم المكيدون. أم لهم إله غير الله يفعل شيئا مما يفعل الله؟ تنزيها له عن ذلك!. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 44] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) أي إن رأوا قطعة من السماء ساقطة عليهم قالوا: إنه سحاب مركوم «2» ركم بعضه على بعض والمقصود أنهم مهما رأوا من الآيات لا يؤمنون. ولو فتحنا عليهم بابا من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، وليس هذا عيانا ولا مشاهدة. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : الآيات 45 الى 46] فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) أي فأعرض عنهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يموتون، يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا، ولا يمنعون من عذابنا. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 47] وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) دون يوم القيامة لهم عذاب القتل والسّبى، وما نزل بهم من الهوان والخزي يوم بدر وغيره «3» . «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» : أنّ الله ناصر لدينه. قوله جل ذكره: [سورة الطور (52) : آية 48] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) .   (1) يقال هو كيدهم للرسول وللمؤمنين بدار الندوة- وقد يقصد به الكفار أجمعين. (2) فى ص (مكروم) وهي خطأ في النسخ. (3) ويقال عذاب القبر لأنه يسبق القيامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 أنت بمرأى منّا، وفي نصرة منّا. «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» «1» : فى هذا تخفيف عليه وهو يقاسى الصبر. «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» . أي تقوم للصلاة المفروضة عليك. [سورة الطور (52) : آية 49] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) قيل: المغرب والعشاء وركعتا الفجر. وفي الآية دليل وإشارة إلى أنه أمره أن يذكره في كلّ وقت، وألا يخلو وقت من ذكره. والصبر لحكم الله شديد، ولكن إذا عرف اطلاع الربّ عليه سهل عليه ذلك وهان.   (1) التعبير بالجمع هنا قد يفيد زيادة الرعاية في حق المصطفى صلوات الله عليه، خصوصا إذا تذكرنا أنه سبحانه قال في حق موسى عليه السلام «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» فالتعبير في هذه الحالة بالمفرد، والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 سورة النّجم قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم حليم رحيم، يحلم «1» فيما يعلم، ويستر ما يبصر ويغفر «2» ، وعلى العقوبة يقدر، يرى ويخفى، ويعلم ولا يبدى. قوله جل ذكره: [ سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) والثريا إذا سقط وغرب. ويقال: هو جنس النجوم أقسم بها. (ويقال: هى الكواكب) «3» . ويقال: أقسم بنجوم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ويقال هي الكواكب التي ترمى بها الشياطين. ويقال أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من المعراج. ويقال: أقسم بضياء قلوب العارفين ونجوم عقول الطالبين. وجواب القسم قوله: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» : أي ما ضلّ عن التوحيد قط، «وَما غَوى» : الغىّ: نقيض الرّشد.. وفي هذا تخصيص للنبى صلى الله عليه وسلم حيث توليّ- سبحانه- الذّبّ عنه فيما رمى به، بخلاف ما قال لنوح عليه السلام وأذن له حتى قال: «لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ «4» » ، وهود قال: «لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ «5» » .. وغير ذلك، وموسى   (1) هكذا في م وهي في ص (يكلم) وواضح أنها خطأ من الناسخ. (2) هكذا في م وهي في ص (يضير) وهي خطأ من الناسخ. (3) موجود في م وساقط في ص. (4) آية 61 سورة الأعراف. [ ..... ] (5) آية 67 سورة الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 قال لفرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» «1» . وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» : معناه ما ضلّ صاحبكم، ولا غفل عن الشهود طرفة عين. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 3 الى 4] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) أي ما ينطق بالهوى، وما هذا القرآن إلا وحي يوحى. وفي هذا أيضا تخصيص له بالشهادة إذ قال لداود: «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى» «2» . وقال في صفة نبيّنا صلى الله عليه وسلم: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» . (ومتى ينطق عن الهوى وهو في محل النجوى؟ فى الظاهر مزموم بزمام التقوى، وفي السرائر في إيواء المولى، مصفّى عن كدورات البشرية، مرقّى إلى شهود الأحدية، مكاشف بجلال الصمدية، مختطف عنه بالكلّيّة، لم تبق منه إلا للحقّ بالحقّ بقية.. ومن كان بهذا النعت.. متى ينطق عن الهوى؟) «3» . قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 5 الى 7] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) أي جبريل عليه السلام. و «ذُو مِرَّةٍ» : أي ذو قوة وهو جبريل. «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» أي جبريل. [سورة النجم (53) : الآيات 8 الى 9] ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) دنا جبريل من محمد عليه السلام، فتدلّى جبريل: أي نزل من العلوّ إلى محمد. وقيل: «فَتَدَلَّى» تفيد الزيادة في القرب، وأنّ محمدا عليه السلام هو الذي دنا من ربّه دنوّ كرامة، وأنّ التدلّى هنا معناها السجود.   (1) آية 102 سورة الإسراء. (2) آية 26 سورة ص. (3) كل ما بين القوسين موجود في مكان آخر، وضعناه في مكانه الصحيح حتى يستقيم السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 ويقال: دنا محمد من ربّه بما أودع من لطائف المعرفة وزوائدها، فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه. «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» : فكان جبريل- وهو في صورته التي هو عليها- من محمد صلى الله عليه وسلم بحيث كان بينهما قدر قوسين أو أدنى. ويقال: كان بينه- صلى الله عليه وسلم- وبين الله قدر قوسين: أراد به دنوّ كرامة لا دنوّ مسافة. ويقال: كان من عادتهم إذا أرادوا تحقيق الألفة بينهم إلصاق أحدهم قوسه بقوس صاحبه عبارة عن «1» عقد الموالاة بينهما، وأنزل الله- سبحانه- هذا الخطاب على مقتضى معهودهم. ثم رفع الله هذا فقال: «أَوْ أَدْنى» أي بل أدنى. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 10] فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى. ويقال: أحمله أحمالا «2» لم يطلّع عليها أحد. ويقال: قال له: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ويقال: بشّره بالحوض والكوثر. ويقال: أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتّك. والأولى أن يقال: هذا الذي قالوه كله حسن، وغيره مما لم يطّلع أحد.. كله أيضا كان له في تلك الليلة وحده إذ رقّاه إلى ما رقّاه، ولقّاه بما لقّاه، وأدناه حيث لا دنوّ قبله ولا بعده، وأخذه عنه حيث لا غير، وأصحاه له في عين ما محاه عنه، وقال له ما قال.. دون أن يطّلع أحد على ما كان بينهما من السّرّ «3» .   (1) كما نقول في أسلوبنا الآن (تعبيرا عن..) (2) هكذا في ص وهي أصوب مما جاء في م (أجمله إجمالا) بالجيم فالسياق يرفضهما. (3) هذه الفقرة الأخيرة محاولة من جانب أرباب الحقيقة لفهم بعض جوانب في قصة الإسراء والمعراج. ومضمون كلام القشيري أننا لو كنا نستسيغ حدوث أحوال الكشوفات والمواصلات التي تتاح للأولياء العارفين.. فكيف لا نتقبلها بالنسبة للمصطفى عليه صلوات الله وسلامه؟ وبمعنى آخر: نجد التفسير الصوفي يبرز نفسه في قوة ونصاعة لتوضيح قضية من قضايا التدين، كانت موضع جدل في زمانها وبعد زمانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 11] ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) ما كذّب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من الآيات. وكذلك يقال: رأى ربّه تلك الليلة على الوصف الذي علمه قبل أن يراه «1» . قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 12] أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) أفتجادلونه على ما يرى؟ قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 15] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) أي جبريل رأى الله مرة أخرى حين كان محمد عند سدرة المنتهى وهي شجرة في الجنة، وهي منتهى الملائكة، وقيل: تنتهى إليها أرواح الشهداء. ويقال: تنتهى إليها أرواح الخلق، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى- وعندها «جَنَّةُ الْمَأْوى» وهي جنة من الجنان. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 16] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) يغشاها ما يغشاها من الملائكة ما الله أعلم به. وفي خبر: يغشاها رفرف طير خضر. ويقال: يغشاها فراش من ذهب.   (1) يقول القشيري في كتابه المعراج ص 94: «واختلفوا في رؤية الله سبحانه ليلة المعراج فقالت عائشة رضى الله عنها: إن النبي (ص) لم ير ربّه ليلة المعراج، ومن زعم أن محمدا رأى ربّه ليلة المعراج فقد أعظم على الله الفرية. وقال ابن عباس: إن نبينا (ص) رأى ربّه ليلة المعراج. ثم اختلفت الرواية عن ابن عباس ففى رواية أنه رآه بعين رأسه، وفي رواية أنه رآه بقلبه. وقال أهل التحقيق من أهل السّنّة: اختلافهم في هذه المسألة دليل على إجماعهم أن الحق سبحانه يجوز أن يرى لأنه لولا أنّهم كانوا متفقين على جواز الرؤية لم يكن لاختلافهم في الرؤية في تلك الليلة معنى. وقد رويت في هذا الباب أخبار، والله أعلم بصحتها، فإن صحّ ذلك فلها وجوه من التأويل، من ذلك ماءروى أنه قال: «رأيت ربى في أحسن صورة» - فهذا الخبر يحتمل وجوها منها: رأيت ربى وأنا في أحسن صورة يعنى في أكمل رتبة وأتم فضيلة، وأقوى ما كنت لم يصحبنى دهش، ولا رهقتنى حيرة. ويمكن أن تكون الرؤية بمعنى العلم، أي رأيت من قدرة الله تعالى ودلائل حكمته، ولم يشغلنى شهود الصور عن ذكر المصوّر، بل رأيت الفاعل في الفعل. وقيل: الصورة بمعنى الصفة، يقال: أرنى صورة هذا الأمر أي: صفته. و «فى» على معنى «على» أي رأيت ربى على أحسن صفة من جلالة وصفه وإفضاله معى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 ويقال: أعطى رسول الله (ص) عندها خواتيم البقرة، وغفر لمن مات من أمّته لا يشرك بالله شيئا. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 17] ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) ما مال- صلوات الله عليه وسلامه- ببصره عمّا أبيح له من النظر إلى الآيات، والاعتبار بدلائلها. فما جاوز حدّه، بل راعى شروط الأدب في الحضرة «1» . قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 18] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أي «الْآيَةَ» الكبرى، وحذف الآية.. وهي تلك التي رآها في هذه الليلة. ويقال: هى بقاؤه في حال لقائه ربّه بوصف الصّحو، وحفظه حتى رآه «2» . قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 22] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) هذه أصنام كانت العرب تعبدها فاللات صنم لثقيف، والعزّى شجرة لغطفان، ومناة صخرة لهذيل وخزاعة «3» . ومعنى الآية: أخبرونا.. هل لهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله من القدرة أن تفعل بعائذ بها ما فعلنا نحن لمحمد صلى الله عليه وسلم من الرّتب والتخصيص؟.   (1) قال أبو يزيد البسطامي: حفظ النبي (ص) طرفه في المسرى، فما زاغ البصر وما طغى، لعلمه بما يؤهل له من المشاهدة، فلم يشاهد في ذلك شيئا، ولم ير طرفه أحدا، ثم لما ردّ إلى محل التأديب نظر إلى الجنة والنار، والأنبياء والملائكة للإخبار عنها، وتأديب الخلق بها فالمقام الأول مقام خصوص والمقام الثاني مقام عموم. وقال رويم: لما أكرم عليه الصلاة والسلام بأعظم الشرف في المسرى عملت همّته عن الالتفات إلى الآيات والكرامات والجنة والنار فما زاغ البصر وما طغى أي ما أعار طرفه شيئا من الأكوان، ومن شاهد البحر استقلّ الأنهار والأودية. (2) سئل الشبلي: «كيف ثبت النبى (ص) فى المعراج للقاء والمخاطبة؟ فقال: إنه هيّىء لأمر فمكّن فيه» ويقارن القشيري في موضع آخر بين موسى عليه السلام إذ خرّ صعقا بمجرد سماع النداء وبين نبيّنا عليه الصلاة والسلام إذ ثبت في محل المشاهدة، ويضيف: إن موسى في حال التلوين، ومحمد في حال التمكين. (3) هذه الأصنام كلها مؤنثات.. وكانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 ثم وبّخهم فقال: أرأيتم كيف تختارون لأنفسكم البنين وتنسبون البنات إلى الله؟ تلك إذا قسمة ناقصة! قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 23] إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أنتم ابتدعتم هذه الأسماء من غير أن يكون الله أمركم بهذا، أو أذن لكم به. فأنتم تتبعون الظنّ، «وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» «1» «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» : فأعرضوا عنه، وكما أنّ ظنّ الكفار أوجب لهم الجهل والحيرة والحكم بالخطأ- فكذلك في هذه الطريقة «2» : من عرّج على أوصاف الظنّ لا يحظى «3» بشىء من الحقيقة فليس في هذا الحديث إلا القطع والتحقّق، فنهارهم قد متع «4» ، وشمسهم قد طلعت، وعلومهم أكثرها صارت ضرورية. أمّا الظنّ الجميل بالله فليس من هذا الباب، والتباس عاقبة الرجل عليه ليس «5» أيضا من هذه الجملة ذات الظن المعلول في الله، وفي صفاته وأحكامه. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 24] أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) أي ليس «6» للإنسان ما يتمنّاه فإنّه يتمنى طول الحياة والرفاهية وخصب العيش.. وما لا نهاية له، ولكنّ أحدا لا يبلغ ذلك بتمامه.   (1) آية 28 في السورة نفسها. (2) يقصد طريقة الصوفية. (3) فى م (يخطىء) وهي خطأ في النسخ [ ..... ] (4) فى ص (منع) بالنون وهي خطأ، فمتوع النهار من المصطلحات الصوفية التي زادها القشيري على (اللوائح والطوالع واللوامع) كما نوهنا من قبل. (5) هكذا في م وهي في ص (ليبين) وهي خطأ من الناسخ. (6) هى (أم) المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها للإنكار، أي للإنسان- يعنى الكافر- ما تمنى من شفاعة الأصنام، وغير ذلك من التمني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 ويقال: ما يتمنّاه الإنسان أن يرتفع مراده واجبا في كل شىء- وأن يرتفع مراد عبد واجبا في كل شىء ليس من صفات الخلق بل هو لله، الذي له ما يشاء: [سورة النجم (53) : آية 25] فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) له الآخرة والأولى خلقا وملكا، فهو الملك المالك صاحب الملك التام. فأمّا المخلوق فالنقص لازم للكلّ. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 26] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) وهذا ردّ عليهم حيث قالوا: إنّ الملائكة شفعاؤنا عند الله «1» . قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) هذه التّسمية من عندهم، وهم لا يتبعون فيها علما أو تحقيقا.. بل ظنّا- والظنّ لا يفيد شيئا. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 29 الى 30] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) أي أعرض عمّن أعرض عن القرآن والإيمان به وتدبّر معانيه، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.   (1) لا تنفع شفاعة أحد إلا إذا أذن الله.. فإذا كانت الملائكة مع كثرتها وقربها من الله لا تصلح الشفاعة إلا بإذن من الله- فكيف تصلح هذه الأصنام الشفاعة؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 ذلك مبلغهم من العلم وإنما رضوا بالدنيا لأنهم لم يعلموا حديث الآخرة، وإنّ ربّك عليم بالضالّ، عليم بالمهتدي ... وهو يجازى كلّا بما يستحق. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 31] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) يجزى الذين أساءوا بالعقوبات، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 32] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) الذنوب كلّها كبائر لأنها مخالفة لأمر الله، ولكنّ بعضها أكبر من بعض. ولا شىء أعظم من الشّرك. «وَالْفَواحِشَ» المعاصي. «إِلَّا اللَّمَمَ» : تكلموا فيه، وقالوا: إنه استثناء منقطع، واللمم ليس بإثم ولا من جملة الفواحش. ويقال: اللمم من جملة الفواحش ولكن فيها اشتباها- فأخبر أنه يغفرها. ويقال: اللمم هو أن يأتى المرء ذلك ثم يقلع عنه بالتوبة. وقال بعض السّلف: هو الوقعة من الزّنا تحصل مرة ثم لا يعود إليها، وكذلك شرب الخمر، والسرقة.. وغير ذلك، ثم لا يعود إليها. ويقال: هو أن يهم بالزّلّة ثم لا يفعلها. ويقال: هو النّظر. ويقال: ما لا حدّ عليه من المعاصي، وتكفّر عنه الصلوات. (والأصحّ أنه استثناء منقطع وأن اللمم ليس من جملة المعاصي) «1» . قوله جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» : يعنى خلق آدم. ويقال: تزكية النّفس من علامات كون المرء محجوبا عن الله لأنّ المجذوب إلى الغاية والمستغرق في شهود ربّه لا يزكّى نفسه «1» . «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» : لأنه أعلم بكم منكم. ويقال: من اعتقد أنّ على البسيطة أحدا شرّ منه فهو متكبّر. ويقال: المسلم يجب أن يكون بحيث يرى كلّ مسلم خيرا منه فإن رأى شيخا، قال: هو أكثر منّى طاعة وهو أفضل منّى، وإن رأى شابا قال: هو أفضل منى لأنه أقلّ منّى ذنبا. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 34] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أعرض عن الحقّ، وتصدّق بالقليل. «وَأَكْدى» أي قطع عطاءه. [سورة النجم (53) : آية 35] أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) «فَهُوَ يَرى» : فهو يعلم صحّة ذلك. يقال: هو المنافق الذي يعين على الجهاد قليلا ثم يقطع ذلك: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ» : فهو يرى حاله في الآخرة؟ [سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 37] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) .   (1) قارن ذلك بقول النسفي في ذكر المرء لطاعته: «.. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر» النسفي ج 4 ص 198. ونظن أن في عبارة النسفي شيئا يستحق التصويب: فالأولى أن يقال: وهذا إذا كان على سبيل الاعتراف بالنعمة- لا على سبيل الإعجاب أو الرياء- فإنه جائز.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 أم لم ينبّأ هذا الكافر بما في صحف موسى، وصحف إبراهيم الذي وفّى أي أتمّ ما طولب به في نفسه وماله وولده. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 38 الى 41] أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) الناس في سعيهم مختلفون فمن كان سعيه في طلب الدنيا خسرت صفقته، ومن كان سعيه في طلب الجنة ربحت صفقته، ومن كان سعيه في رياضة نفسه وصل إلى رضوان الله، ومن كان سعيه في الإرادة شكر الله سعيه ثم هداه إلى نفسه. وأمّا المذنب- فإذا كان سعيه في طلب غفرانه، وندم القلب على ما اسودّ من ديوانه، فسوف يجد من الله الثواب والقربة والكرامة والزلفة. ومن كان سعيه في عدّ أنفاسه مع الله لا يعرّج على تقصير، ولا يفرّط في مأمور فسيرى جزاء سعيه مشكورا في الدنيا والآخرة، ثم يشكره بأن يخاطبه في ذلك المعنى بإسماعه كلامه من غير واسطة: عبدى، سعيك مشكور، عبدى، ذنبك مغفور. «ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» : هو الجزاء الأكبر والأجلّ، جزاء غير مقطوع ولا ممنوع. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 42] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) إليه المرجع والمصير، فابتداء الأشياء من الله خلقا، وانتهاء الأشياء إلى الله مصيرا. ويقال: إذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فاسكتوا. ويقال: إذا وصل العبد إلى معرفة الله فليس بعده شىء إلا ألطافا من مال أو منال أو تحقيق آمال أو أحوال.. يجريها على مراده- وهي حظوظ للعباد. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 43] وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) أراد به الضحك والبكاء المتعارف عليهما بين الناس فهو الذي يجريه ويخلقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 ويقال: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر. ويقال: أضحك أهل الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار. ويقال: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا، وأضحك الكافر في الدنيا وأبكاه في الآخرة. ويقال: أضحكهم في الظاهر، وأبكاهم بقلوبهم. ويقال: أضحك المؤمن في الآخرة بغفرانه، وأبكى الكافر بهوانه. ويقال: أضحك قلوب العارفين بالرضا، وأبكى عيونهم بخوف الفراق. ويقال: أضحكهم برحمته، وأبكى الأعداء بسخطه. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 44] وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) أماته في الدنيا، وأحياه في القبر فالقبر إما للراحة وإما للإحساس بالعقوبة. ويقال: أماته في الدنيا، وأحياه في الحشر. ويقال: أمات نفوس الزاهدين بالمجاهدة، وأحيا قلوب العارفين بالمشاهدة. ويقال: أمات نفوسهم بالمعاملات، وأحيا قلوبهم بالمواصلات. ويقال: أماتها بالهيبة، وأحياها بالأنس. ويقال: بالاستتار، والتجلّى. ويقال: بالإعراض عنه، والإقبال عليه. ويقال: بالطاعة، والمعصية. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 45] وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) سماهما زوجين لازدواجهما عند خلقهما من النّطفة. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 48] وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) «أَغْنى» : أعطى الغنى، «أَقْنى» : أكثر القنية أي المال. وقيل «أَقْنى» : أي أحوجه إلى المال- فعلى هذا يكون المعنى: أنه خلق الغنى والفقر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 ويقال: «أَقْنى» أي أرضاه بما أعطاه «1» . ويقال: «أَغْنى» أي أقنع، «وَأَقْنى» : أي أرضى. [سورة النجم (53) : آية 49] وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) (الشّعرى: كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خزاعة تعبدها فأعلم الله أنه ربّ معبودهم هذا) «2» . [سورة النجم (53) : الآيات 50 الى 52] وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) عاد الأولى هم قوم هود، وعاد الأخرى هي إرم ذات العماد، كما أهلك ثمودا فما أبقى منهم أحدا. وأهلك من قبلهم قوم نوح الذين كانوا أظلم من غيرهم وأغوى لطول أعمارهم، وقوة أجسادهم. [سورة النجم (53) : الآيات 53 الى 54] وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) أي المخسوف بها، وهي قرى قوم لوط، قلبها جبريل عليهم، فهى مقلوبة معكوسة. وقوله: «أَهْوى» أي: أسقطها الله إلى الأرض بعد ما اقتلعها من أصلها، ثم عكسها وألقاها في الأرض، فغشاها ما غشاها من العذاب. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 55] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) فبأى آلاء ربك- أيها الإنسان- تتشكك؟ وقد ذكر هذا بعد ما عدّ إنعامه عليهم وإحسانه إليهم. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : آية 56] هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) .   (1) أننى: من معانيها أرضى- كما ورد في أكثر المعاجم. (2) ما بين القوسين إضافة من جانبنا اعتمادا على كتب التفاسير، وهي غير موجودة في نص القشيري. ولكننا أردنا إضافتها لنلفت النظر إلى خاطرة تراودنا.. أليس هناك ارتباط بين افتتاحية السورة «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» وبين هذه النهاية؟. عابدون ومعبودون يهوون ويتساقطون ويهلكون ... أبعد هذا أيها الإنسان تتشكك في أن هذا النذير صلوات الله عليه لم يأت بدعا؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 هو محمد صلى الله عليه وسلم، أرسلناه نذيرا كما أرسلنا الرّسل الآخرين. [سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 58] أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أي قربت القيامة. ولا يقدر أحد على إقامتها إلا الله، وإذا أقامها فلا يقدر أحد على ردّها وكشفها إلا الله. ويقال: إذا قامت قيامة هذه الطائفة- اليوم- فليس لها كاشف غيره. وقيامتهم تقوم فى اليوم غير مرّة. نقوم بالهجر والنّوى والفراق. قوله جل ذكره: [سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 61] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) أفمن هذا القرآن تعجبون، وتكونون في شكّ، وتستهزئون؟ [سورة النجم (53) : آية 62] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) : أي لاهون.. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا: فاسجدوا لله ولا تعبدوا سواه «1» .   (1) عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال: « ... فسجد رسول الله (ص) وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف» (البخاري ج 3 ص 130) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 سورة القمر «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : كلمة بها نور القلوب والأبصار، وبعرفانها يحصل سرور الأرواح والأسرار. كلمة تدلّ على جلاله- الذي هو استحقاقه لأوصافه. كلمة تدل على نعته الذي هو غاية أفضاله وألطافه. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) أجمع أهل التفسير على أنّ القمر قد انشقّ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن مسعود «2» : «رأيت حراء بين فلقتى القمر» ولم يوجد لابن مسعود مخالف في ذلك فقد روى أيضا عن أنس وابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم.. كلهم رووا هذا الخبر. وفيه إعجاز من وجهين: أحدهما رؤية من رأى ذلك، والثاني خفاء مثل ذلك على من لم يره لأنه لا ينكتم مثله في العادة فإذا خفى كان نقض العادة. وأهل مكة رأوا ذلك، وقالوا: إنّ محمدا قد سحر القمر. ومعنى «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» : أي ما بقي من الزمان إلى القيامة إلا قليل بالإضافة إلى ما مضى. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 2 الى 3] وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)   (1) يسميها البخاري: سورة «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» . (2) عن يحيى بن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبى معمر عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله (ص) : اشهدوا. وعن قتادة عن أنس قال: انشق القمر فرقتين. وعن مجاهد عن أبى معمر عن عبد الله قال: انشق القمر ونحن مع النبي (ص) فصار فرقتين. فقال لنا: اشهدوا اشهدوا. (البخاري ح 3 ص 130) . وقد جاء في النسفي: قال ابن مسعود رضى الله عنه «رأيت حراء بين فلقتى القمر» (النسفي ص 201) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 يعنى أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها، ولو نظروا لحصل لهم العلم واجبا. «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» : أي دائم قويّ شديد.. (ويقال إنهم قالوا: هذا ذاهب لا تبقى مدته) «1» فاستمر: أي ذهب. «وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» : التكذيب واتباع الهوى قريبان فإذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله يلبّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر «2» الرشد. أما اتباع الرضا فمقرون بالتصديق لأنّ الله ببركات اتباع الحقّ يفتح عين البصيرة فيحصل التصديق. وكلّ امرئ جرت له القسمة والتقدير فلا محالة يستقر له حصول ما قسم وقدّر له. «وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» : يستقر عمل المؤمن فتوجب له الجنة، ويستقر عمل الكافر فيجازى. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 5] وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) جاءهم من أخبار الأنبياء والأمم الذين من قبلهم والأزمنة الماضية ما يجب أن يحصل به الارتداع، ولكنّ الحقّ- سبحانه- أسبل على بصائرهم سجوف الجهل فعموا عن مواضع الرشد. «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ..» : بدل من (ما) فيما سبق: (ما فيه مزدجر) . والحكمة البالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها. «فَما تُغْنِ النُّذُرُ» : وأي شىء يغنى إنذار النذير وقد سبق التقدير لهم بالشقاء؟   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. (2) هكذا في ص. وهي في م (لا يستبشر) ، والأصوب ما أثبتنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 7] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» : هاهنا تمام الكلام- أي فأعرض عنهم، وهذا قبل الأمر بالقتال. ثم استأنف الكلام: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ... » والجواب: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» - أراد به يوم القيامة. ومعنى «نُكُرٍ» : أي شىء ينكرونه (بهوله وفظاعته) «1» وهو يوم البعث والحشر. وقوله: «خُشَّعاً» منصوب على الحال، أي يخرجون من الأجداث- وهي القبور- خاشعى الأبصار. [سورة القمر (54) : آية 8] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كأنهم كالجراد لكثرتهم وتفرقهم، «مُهْطِعِينَ» : أي مديمى النظر إلى الداعي- وهو إسرافيل. «يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» : لتوالى الشدائد التي فيه. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 11] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) كذب قوم نوح نبيّهم، وقالوا: إنه مجنون، وزجروه وشتموه. وقيل: «ازْدُجِرَ» : أي استطار عقله، أي قوم نوح قالوا له ذلك. فدعا ربّه فقال: إنى مغلوب أي بتسلّط قومى عليّ فلم يكن مغلوبا بالحجّة لأنّ الحجّة كانت عليهم، فقال نوح لله: اللهمّ فانتصر منهم أي انتقم.   (1) ما بين القوسين توضيح من جانبنا غير موجود في النص. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 ففتحنا أبواب السماء بماء منصبّ، وشققنا عيونا بالماء، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدّر في اللوح المحفوظ، وقدر عليه بإهلاكهم! وفي التفاسير: أن الماء الذي نبع من الأرض نضب. والماء الذي نزل من السماء هو البخار اليوم. [سورة القمر (54) : آية 13] وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) وحملنا نوحا على «ذاتِ أَلْواحٍ» أي سفينة، «وَدُسُرٍ» يعنى المسامير وهي جمع دسار أي مسمار. [سورة القمر (54) : آية 14] تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) «بِأَعْيُنِنا» : أي بمرأى منّا. وقيل: تجرى بأوليائنا. ويقال: بأعين ملائكتنا الذين وكلناهم لحفظهم. ويقال: بأعين الماء الذي أنبعناه من أوجه الأرض. «جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ» : أي الذين كفروا بنوح «1» . قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 15] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) جعلنا أمر السفينة علامة بيّنة لمن يعتبر بها. «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» : فهل منكم من يعتبر؟. أمرهم بالاعتبار بها «2» . قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 16] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) قالها على جهة التعظيم لأمره. وقد ذكر قصة نوح هنا على أفصح بيان وأقصر كلام وأتمّ معنى «3» .   (1) يرى بعض المفسرين أن (الذي كفر) هو نوح عليه السلام لأنه مكفور به، فكل نبى رحمة لأمته، فكان نوح رحمة مكفورة. (2) أي أن الاستفهام- بلغة البلاغيين- قد خرج عن معناه الأصلى إلى الأمر. (3) كأن القشيري يريد أن يوضح تعليلا (لتكرار) قصة نوح. ونحن نعلم أن القشيري لا يستريج تماما لفكرة القول بالتكرار في القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 وكان نوح- عليه السلام- أطول الأنبياء عمرا، وأشدّهم للبلاء مقاساة ثم إن الله- سبحانه- لما نجّى نوحا متّعه بعد هلاك قومه ومتع أولاده، فكلّ من على وجه الأرض من أولاد نوح عليه السلام. وفي هذا قوة لرجاء أهل الدين، إذا لقوا في دين الله محنة فإنّ الله يهلك- عن قريب- عدوّهم، ويمكّنهم من ديارهم وبلادهم، ويورثهم ما كان إليهم. وكذلك كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وسنة الله في جميع أهل الضلال أن يعزّ أولياءه بعد أن يزهق أعداءه. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 17] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) يسّرنا قراءته على ألسنة الناس، ويسّرنا علمه على قلوب قوم، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم، وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته. ويقال: كاشف الأرواح من قوم- بالقرآن- قبل إدخالها في الأجساد. «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» لهذا العهد الذي جرى لنا معه. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 20] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) كذّبوا هودا، فأرسلنا عليهم «رِيحاً صَرْصَراً» أي: باردة شديدة الهبوب، يسمع لها صوت. «فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» أي: فى يوم شؤم استمرّ فيه العذاب بهم، ودام ذلك فيهم ثمانية أيام وسبع ليال. وقيل: دائم الشؤم تنزع رياحه الناس عن حفرهم التي حفروها م (32) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 حتى صاروا كأنهم أسافل نخل منقطع. وقيل: كانت الريح تقتلع رءوسهم عن مناكبهم ثم تلقى بهم كأنهم أصول نخل قطعت رءوسها. [سورة القمر (54) : آية 22] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) هوّنا قراءته وحفظه فليس كتاب من كتب الله تعالى يقرأ ظاهرا إلّا القرآن. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 24] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) هم قوم صالح. وقد مضى القول فيه، وما كان من عقرهم للناقة.. إلى أن أرسل الله عليهم صيحة واحدة أوجبت هذا الهلاك، فصيّرهم كالهشيم، وهو اليابس من النبات، «الْمُحْتَظِرِ» : أي: المجعول في الحظيرة، أو الحاصل في الخطيرة «1» .. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 34 الى 37] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) فأرسلنا عليهم «حاصِباً» : أي: حجارة رموا بها. «كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ» : أي: جعلنا إنجاءهم في إهلاك أعدائهم. وهكذا نجزى من شكر فمثل هذا نعامل به من شكر نعمتنا. والشّكر على نعم الدفع أتمّ من الشكر على نعم النفع- ولا يعرف ذلك إلا كلّ موفّق كيّس. «فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ»   (1) يقصد القشيري أنها قد تقرأ بفتح الظاء وبكسرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 جاء جبريل ومسح بجناحه على وجوههم فعموا، ولم يهتدوا «1» للخروج- وكذلك أجرى سنّته في أوليائه أن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ثم يخلّصهم من كيدهم. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 45] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) أخبر أنه يفعل هذا بأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقّق ذلك يوم بدر، فصار ذلك من معجزاته صلوات الله عليه وسلامه «2» . قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 48] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) سحبهم على الوجوه أمارة لإذلالهم، ولو كان ذلك مرة واحدة لكانت عظيمة- فكيف وهو التأبيد والتخليد؟!. وكما أنّ أمارة الذّلّ تظهر على وجوههم فعلامة إعزاز المؤمنين وإكرامهم تظهر على وجوههم، قال تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» «3» . وقال: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «4» » . قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) أي بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ. ويقال: خلقناه بقدر ما علمنا وأردنا وأخبرنا. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 50] وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) أي إذا أردنا خلق شىء لا يتعسّر ولا يتعذّر علينا، نقول له: كن- فيكون   (1) هكذا في م وهي في ص (لم يتمكنوا) . (2) عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم- فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر (البخاري ج 3 ص 131) . (3) آية 22 سورة القيامة. (4) آية 24 سورة المطففين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 بقدرتنا. ولا يقتضى هذا استئناف «1» قول في ذلك الوقت ولكن استحقاق أن يقال لقوله القديم أن يكون أمرا لذلك المكون إنما يحصل في ذلك الوقت. «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» : أي كما أن هذا القدر عندكم (أي قدر ما يلمح أحدكم ببصره) لا تلحقكم به مشقة- كذلك عندنا: إذا أردنا نخلق شيئا- قل أو كثر، صغر أو كبر- لا تلحقنا فيه مشقة. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : آية 51] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) أي أهلكنا القرون التي كانت قبلكم فكلّهم أمثالكم من بنى آدم ... [سورة القمر (54) : آية 52] وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) فى اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يعمله «2» . وفي صحيفة الملائكة مكتوب. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.. [سورة القمر (54) : آية 53] وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) كلّ صغير من الخلق، وكلّ كبير من الخلق- تخترمه المنيّة. ويقال: كلّ صغير من الأعمال وكبير مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي ديوان الملائكة. وتعريف الناس عما يكتبه الملائكة هو على جهة التخويف لئلا يتجاسر العبد على الزّلّة إذا عرف المحاسبة عليها والمطالبة بها. قوله جل ذكره: [سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) .   (1) هكذا في م- وهى- فى ص (استيفاء) وكلاهما يمكن أن يتقبله السياق. على معنى أن قوله القديم «كُنْ» لا (يستأنف) عند خلق الحدث. وعلى معنى أنّه لا يشترط أن يستوفى خلق الحدث الأمر بكن اكتفاء بقوله القديم- والله أعلم. (2) هكذا في وهى ص أصوب في السياق من (يعلمه) التي جاءت في م لأن ما (فعلوه) التي في الآية تؤدى إلى ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 لهم بساتين وأنهار، والجمع إذا قوبل بالجمع فالآحاد تقابل بالآحاد. فظاهر هذا الخطاب يقتضى أن يكون لكل واحد من المتقين جنة ونهر. «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» : أي في مجلس صدق. «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» : أراد به عنديّة القربة والزلفة. ويقال: مقعد الصدق أي مكان الصدق، والصادق في عبادته من لا يتعبّد على ملاحظة الأطماع ومطالعة الأعواض. ويقال: من طلب الأعواض هتكته الأطماع، ومن صدق في العبوديّة تحرّر عن المقاصد الدّنيّة. ويقال: من اشتغل بالدنيا حجبته الدنيا عن الآخرة، ومن أسره نعيم الجنة حجب عن القيام بالحقيقة، ومن قام بالحقيقة شغل عن الكون بجملته «1» .   (1) أرباب الحقيقة لا تشغلهم فكرة الثواب والعقاب على النحو المألوف عند العابدين بنفوسهم. فجنّتهم الكبرى هي رؤيهم لمحبوبهم، ولهم في ذلك أقوال كثيرة شعر أو نثرا.. من ذلك: قول أبى على الروذبارى: من لم يكن بك فانيا عن حبه ... وعن الهوى والأنس بالأحباب أو تيمة صبابة جمعت له ... ما كان مفترقا من الأسباب فكأنه بين المراتب واقف ... لمنال حظّ أو لحسن مآب ويقول الجنيد: كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة. ويقول يحيى بن معاذ: إن ذا الحب لمن يفنى له ... لا لدار ذات لهو وطرف لا ولا الفردوس- لا يألفها- ... لا ولا الحوراء من فوق غرف ويقول أحدهم: كلهم يعبدون من خوف نار ... ويرون الجنان حظّا جزيلا ليس لى في الجنان النار رأى ... أنا لا أبتغى بحبي بديلا (انظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» ط المعارف ص 195، ص 196) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 سورة الرّحمن قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : إخبار عن عزّه وعظمته. «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن فضله ورحمته. فبشهود عظمته يكمل سرور الأرواح، وبوجود رحمته يحصل نعيم الأشباح. ولولا عظمته لما عبد الرحمن عابد ولولا رحمته لما أحبّ الرحمن واحد. قوله جل ذكره: [ سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) أي الرحمن الذي عرفه الموحّدون وجحده الكافرون هو الذي علّم القرآن. ويقال: الرحمن الذي رحمهم، وعن الشّرك عصمهم، وبالإيمان أكرمهم، وكلمة التقوى ألزمهم- هو الذي عرّفهم بالقرآن وعلّمهم. ويقال: انفرد الحقّ بتعليم القرآن لعباده. ويقال: أجرى الله تعالى سنّته أنه إذا أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم شيئا «1» أشرك أمّته فيه «2» على ما يليق بصفاتهم فلمّا قال له - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» «3» . قال لأمته: «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ» . ويقال: علّم الله آدم الأسماء كلّها ثم أمره بعرضها على الملائكة وذكر آدم ذلك لهم- قال تعالى: «أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» يا آدم، وعلّم (نبيّنا صلى الله عليه وسلم) «4»   (1) (شيئا) غير موجودة في م. وموجودة في ص- والسياق يقوى بها. (2) هكذا في ص وهي في م (فيه أمته) . (3) «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» آية 113 سورة النساء. [ ..... ] (4) ما بين القوسين إضافة من جانبنا ليتضح السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 المسلمين «1» القرآن فقال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، والمصلّى مناج ربّه» قال لآدم: أذكر ما علّمتك للملائكة. وقال لنا: ناجنى يا عبدى بما علّمتك «2» . وقد يلاطف مع أولاد الخدم بما لا يلاطف به آباؤهم. ويقال: لمّا علّم آدم أسماء المخلوقات قال له: أخبر الملائكة بذلك، وعلّمنا كلامه وأسماءه فقال: اقرؤوا علىّ وخاطبوا به معى. ويقال: علّم الأرواح القرآن- قبل تركيبها في الأجساد بلا واسطة «3» ، والصبيان إنما يعلّمون القرآن- فى حال صغرهم- قبل أن عرفت أرواحنا أحدا، أو سمعنا من أحد شيئا.. علّمنا أسماءه: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا ويقال: سقيا لأيام مضت- وهو يعلّمنا القرآن. ويقال: برحمته علّمهم القرآن فبرحمته وصلوا إلى القرآن- لا بقراءة القرآن يصلون إلى رحمته. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4] خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) «الْإِنْسانَ» : هاهنا جنس الناس علّمهم البيان حتى صاروا مميّزين «4» - فانفصلوا بالبيان عن جميع الحيوان. وعلّم كلّ قوم لسانهم الذي يتكلمون ويتخاطبون به. والبيان ما به تبين المعاني- وشرحه في مسائل الأصول. ويقال: لمّا قال أهل مكة إنما يعلّمه بشر ردّ الله- سبحانه- عليهم وقال: بل علّمه الله فالإنسان على هذا القول هو محمد صلى الله عليه وسلّم. وقيل هو آدم عليه السلام. ويقال: البيان الذي خصّ به الإنسان (عموما) يعرف به كيفية مخاطبة الأغيار من الأمثال والأشكال. وأمّا أهل الإيمان والمعرفة فبيانهم هو علمهم كيفية مخاطبة مولاهم- وبيان   (1) هكذا في م وهي في ص (المسلمون) وهي خطأ في النسخ. (2) أنظر كتابنا (البسملة بين أهل العبارة وأهل الإشارة) ورأينا في معنى (الرحمن) . (3) إشارة إلى يوم الذرّ. (4) بتشديد الياء وفتحها على معنى أن البيان علامة تميزهم عن سائر الحيوان، وبكسرها على معنى أن البيان. وسيلة انفرد بها الإنسان التعبير عمّا تكنه نفسه للتمييز بين الأشياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 العبيد مع الحقّ مختلف: فقوم يخاطبونه بلسانهم، وقوم بأنفاسهم، وقوم بدموعهم: دموع الفتى عمّا يحسّ تترجم ... وأشواقه تبدين ما هو يكتم وقوم بأنينهم وحنينهم: قل لى بألسنة التنفّس كيف أنت وكيف حالك؟ قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 5] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) يعنى يجرى أمرهما على حدّ معلوم من الحساب في زيادة الليل والنهار، وزيادة القمر ونقصانه، وتعرف بجريانهما الشهور والأيام والسنون والأعوام. وكذلك لهما حساب إذا انتهى ذلك الأجل.. فالشمس تكوّر والقمر ينكدر. وكذلك لشمس «1» المعارف وأقمار العلوم- فى طلوعها في أوج «2» القلوب والأسرار- فى حكمة الله حساب معلوم، يجريها على ما سبق به الحكم. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 6] وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) ويقال: النجم من الأشجار: ما ليس له ساق «3» ، والشجر: ماله ساق. ويقال: النجوم الطالعة والأشجار الثابتة «يَسْجُدانِ» سجود دلالة على إثبات الصانع بنعت استحقاقه للجلال. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 7] وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) سمك السماء وأعلاها، وعلى وصف الإتقان والإحكام بناها، والنجوم فيها أجراها، وبثّ فيها كواكبها، وحفظ عن الاختلال مناكبها، وأثبت على ما شاء مشارقها ومغاربها.. وخلق الميزان بين الناس ليعتبروا الإنصاف في المعاملات بينهم. ويقال: الميزان العدل. [سورة الرحمن (55) : آية 8] أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8)   (1) هكذا بالمفرد في م وهي في ص بالجمع (شموس) ونرجح أنها بالمفرد حسبما نعرف من أسلوب القشيري فشمس الحقائق واحدة إذا طلعت غطّى نورها أقمار العلوم. (2) هكذا في ص وهي أصوب مما جاء في م (روح) فلا معنى لهاهنا. (3) لأنه ينجم عن الأرض بلا ساق مثل البقول (النسفي ح 4 ص 207) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 احفظوا العدل في جميع الأمور فى حقوق الآدميين وفي حقوق الله، فيعتبر العدل، وترك الحيف ومجاوزة الحدّ في كل شىء ففى الأعمال يعتبر الإخلاص، وفي الأحوال الصدق، وفي الأنفاس الحقائق ومساواة الظاهر والباطن وترك المداهنة والخداع والمكر ودقائق الشّرك وخفايا النفاق وغوامض الجنايات. [سورة الرحمن (55) : آية 9] وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) (وأقيموا الوزن بالمكيال الذي تحبون أن تكالوا به، وعلى الوصف الذي ترجون أن تنالوا به مطعمكم ومشربكم دون تطفيف) «1» . قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : الآيات 10 الى 12] وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) خلق الأرض وجعلها مهادا ومثوى للأنام. ويقال: وضعها على الماء وبسط أقطارها، وأنبت أشجارها وأزهارها، وأجرى أنهارها وأغطش ليلها وأوضح نهارها. «فِيها فاكِهَةٌ ... » يعنى ألوان الفاكهة المختلفة في ألوانها وطعومها وروائحها ونفعها وضررها، وحرارتها وبرودتها.. وغير ذلك من اختلاف في حبّها وشجرها، وورقها ونورها. «وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» وأكمام النخل ليفها وما يغطّيها من السّعف. «وَالْحَبُّ» : حبّ الحنطة والشعير والعدس وغير ذلك من الحبوب. «ذُو الْعَصْفِ» : والعصف ورق الزرع «2»   (1) ما بين القوسين مضطرب في النص حاولنا تنظيمه ليعطى معنى. (2) قال الضحاك: العصف التين، وقال بعضهم العصف هو المأكول من الحب، والريحان النضيج الذي لم يؤكل. وقال أبو مالك: العصف أول ما ينبت تسميه النبط هبورا. وقال بعضهم: العصف ورق الحنطة. (البخاري ح 3 ص 131) . وسميت الرياح عواصف لأنها تأتى بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 «وَالرَّيْحانُ» الذي يشمّ.. ويقال: الرزق لأن العرب تقول: «خرجنا نطلب ريحان الله» ذكّرهم عظم منّته عليهم مما خلق من هذه الأشياء التي ينتفعون بها من مأكولات ومشمومات وغير ذلك. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 13] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) فبأى آلاء ربكما تجحدان؟ والآلاء النّعماء. والتثنية في الخطاب للمكلّفين من الجنّ والإنس. ويقال: هى على عادة العرب في قولهم: خليليّ، وقفا، وأرخلاها باغلام، وأزجراها باغلام. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 14] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) «الْإِنْسانَ» : يعنى آدم، والصلصال الطين اليابس الذي إذا حرّك صوّت كالفخار. ويقال: طين مخلوط بالرمل. ويقال: منتّن من قولهم صلّ وأصلّ إذا تغيّر. [سورة الرحمن (55) : آية 15] وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) المارج: هو اللهب المختلط بواد النار [سورة الرحمن (55) : آية 16] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) يذكّر الخلق من الجن والإنس كما سبق- وكرّر الله سبحانه هذه الآية في غير موضع على جهة التقرير بالنعمة على التفصيل، أي نعمة بعد نعمة. ووجه النعمة في خلق آدم من طين أنه رقاه إلى رتبته بعد أن خلقه من طين. ويقال ذكّر آدم نسبته وذكّرنا نسبتنا لئلا نعجب بأحوالنا. ويقال عرّفه قدره لئلا يتعدّى «1» طوره.   (1) هكذا في ص وهي في م (لا يعدو) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) «الْمَشْرِقَيْنِ» : مشرق الصيف ومشرق الشتاء وكذلك مغربيهما. ووجه النعمة في ذلك جريانهما على ترتيب واحد حتى يكمل انتفاع الخلق بهما. ويقال: مشرق القلب ومغربه، وشوارق القلب وغواربه إنما هي الأنوار والبصائر التي جرى ذكر بعضها فيما مضى. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 20] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) «بَرْزَخٌ» أي حاجز بقدرته لئلا يغلب أحدهما الآخر، أراد به البحر العذب والبحر الملح. ويقال: لا يبغيان على الناس ولا يغرقانهم. [سورة الرحمن (55) : آية 22] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) اللؤلؤ: كبار الدرّ، والمرجان: صغار الدّرّ. ويقال: المرجان النّسل. وفي الإشارة: خلق في القلوب بحرين: بحر الخوف وبحر الرجاء. ويقال القبض والبسط وقيل الهيبة «1» والأنس. يخرج منها اللؤلؤ والجواهر وهي الأحوال الصافية واللطائف المتوالية. ويقال: البحران. إشارة إلى النفس والقلب، فالقلب هو البحر العذب والنفس هي البحر الملح. فمن بحر القلب كلّ جوهر ثمين، وكلّ حالة لطيفة.. ومن النفس كل خلق ذميم «2» . والدرّ من أحد البحرين يخرج، ومن الثاني لا يكون إلا التمساح مما لا قدر له من سواكن القلب. «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» : يصون الحقّ هذا عن هذا، فلا يبغى هذا على هذا. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 24] وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) «الجوارى» : واحدها جارية، وهي السفينة.   (1) هكذا في م وهي الصواب أمّا في ص فهى (الهيبط) وهي خطأ في النسخ. (2) النفس عند الصوفية محلّ المملولات والقلب محل المحمودات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 «كَالْأَعْلامِ» : الجبال (له هذه السفن التي أنشئت وخلقت في البحر كأنها الجبال العالية) «1» . قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 27] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) كل من على وجه الأرض في حكم الفناء من حيث الجواز. ومن حيث الخبر: ستفنى الدنيا ومن عليها ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. و «الوجه» : صفة لله- سبحانه- لم يدلّ عليه العقل قطعا ودلّ عليه جوازا، وورد الخبر بكونه قطعا. ويقال: فى بقاء الوجه بقاء الذات، لأن الصفة لا تقوم بنفسها، ولا محالة شرطها قيامها بنفسه وذاته. وفائدة تخصيص الوجه «2» بالذكر أن ما عداه يعرف بالعقل، والوجه لا يعلم بالعقل، وإنما يعرف بالنقل والأخبار. و «يَبْقى» : وفي بقائه. سبحانه خلف عن كلّ تلف «3» ، وتسلية للمسلمين عمّا يصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 29] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) أهل السماوات يسألون أبدا المغفرة، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة، أي لا بدّ لأحد منه (سبحانه) . وفي السماوات والأرض من لا يسأله: وهم من قيل فيهم: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين «4» . ويقال: ليس كلّ من في السماوات والأرض يسألونه ممّا في السماوات والأرض ولكن: بين المحبين سرّ ليس يغشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه   (1) ما بين القوسين مستدرك في هامش الورقة بالنسخة ص. [ ..... ] (2) سقطت لفظة (الوجه) من النسخة م. (3) هكذا في م وهي في ص (تالف) وهي صحيحة ولكن السياق والموسيقى الداخلية تتأكد ب (تلف) . (4) «من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» رواه البخاري في التاريخ، والبزار فى المسند، والبيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» من إحياء وإماتة، وقبض قوم وبسط قوم.. وغير ذلك من فنون أقسام المخلوقات، وما يجريه عليها من اختلاف الصفات. وفي الآية ردّ على اليهود حيث قالوا: إنّ الله يستريح يوم السبت لا يفعل شيئا، فأخبر أنه كل يوم هو في شأن، ولو أخلى العالم لحظة من حفظه لتلاشى وبطل. (ومن شأنه أن يغفر ذنبا، ويستر عيبا، ويذهب كربا) «1» ، ويطيّب قلبا، ويقصى عبدا ويدنى عبدا ... إلى غير ذلك من فنون الأفعال. وله مع عباده كلّ ساعة برّ جديد، وسرّ «2» بينه وبين عبده- عن الرقباء- بعيد. ويقال: كل يوم هو في شأن سوق المقادير إلى أوقاتها. ويقال: كل يوم هو في شأن إظهار مستور وستر ظاهر، وإحضار غائب وتغييب حاضر. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 31] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) «3» أي للحساب يوم القيامة- وليس به اشتغال ... تعالى الله عن ذلك. ومعنى الآية: سنقصد لحسابكم. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 33] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) أقطار السماوات والأرض نواحيها. أي إن قدرتم أن تخرجوا من ملكه فاخرجوا.   (1) هذا الرأى أيضا لأبى الدرداء (البخاري ح 3 ص 131) . (2) هكذا في م، أما في ص فهى (يسر) وقد رجحنا الأولى لأن (السر) يكون بعيدا عن الرقباء. (3) (الثقلان) الإنس والجن سميّا بذلك لأنهما ثقلا الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 ثم قال: «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» . أي لا تصلون إلى موضع إلا وهناك سلطانى وملكى ولا تنفذون في قطر إلا وهناك عليكم حجة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 35] يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) أي فلا تنتقمان. والشواظ: اللهب من النار لا دخان معه. والنحاس: الصّفر «2» المذاب قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 37] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) ينفكّ بعضها عن بعض وتصير في لون الورد الأحمر. ويقال: بها الفرش الموردة كالدهان وهو جمع دهن. أي كدهن الزيت وهو دردى الزيت. ويقال: كما أن الوردة يتلّون لونها إذ تكون في الربيع إلى الصّفرة، فإذا اشتدت الوردة كانت حمراء، وبعد ذلك إلى الغبرة- فكذلك حال السماء تتلون من وصف إلى وصف فى القيامة. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 39] فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) أراد في بعض أحوال «3» القيامة لا يسألون، ويسألون في البعض ... فيوم القيامة طويل. ويقال: لمّا كانت لهم يومئذ علامات: فللكفار سواد الوجه وزرقة العين، وللمسلمين بياض الوجه وغير ذلك من العلامات- فالملائكة لا يحتاجون إلى سؤالهم: من أنتم؟ لأنهم يعرفون كلّا بسيماهم.   (1) هكذا في م وهي في ص (وجهه) . فإذا قبلنا (حجة) فيكون المعنى أنكم أينما توجهتم في بقاع السماوات والأرض فستجدون دائما برهانا على وحدانية الله، وشاهدا على ربوبيته. وإذا قبلنا (وجهه) فهى على معنى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ (وَجْهُ) اللَّهِ» . (2) الصفر- النحاس الأصفر. (3) أحوال القيامة هنا بمعنى مواطن القيامة في ذلك اليوم الطويل. وربما كانت (أهوال) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 ويقال: لا يسألون سؤالا يكون لهم ويسألون «1» سؤالا يكون عليهم «2» . قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 41] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) المؤمنون غرّ محجّلون، والكفّار سود الوجوه زرق العيون، فيعرف الملائكة هؤلاء فيأخذون بنواصيهم، ويجرّونهم مرة بها ومرة بأقدامهم ثم يلقونهم في النار، ويطرحونهم فى جهنم: [سورة الرحمن (55) : الآيات 43 الى 44] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) يقال لهم: هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون! «حَمِيمٍ» : ماء حارّ. «آنٍ» تناهى في النضج قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 46] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) يقال: لمن خاف قرب ربّه منه واطلاعه عليه. ويقال: لمن خاف وقوفه غدا بين يدى الله- جنتان، ولفظة التثنية هنا على العادة في قولهم: خليليّ ونحوه. وقيل: بل جنتان على الحقيقة، معجّلة في الدنيا من حلاوة الطاعة وروح «3» الوقت، ومؤجّلة في الآخرة وهي جنة الثواب. ثم هم مختلفون في جنات الدنيا على مقادير أحوالهم كما يختلفون في الآخرة على حسب درجاتهم. [سورة الرحمن (55) : الآيات 48 الى 50] ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) دلّ على أن الجنتين في الآخرة. والأفنان الأغصان. وهي جمع فنن.   (1) سقطت (ويسألون) هذه من م وموجودة في ص وهي ضرورية. (2) هذه المحاولات التي بذلها القشيري مقصود منها- حسبما نظن- التوفيق بين هذه الآية وبين آيات أخرى مثل: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» ومثل «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» . ومن قبيل هذه المحاولات قول قتادة: ختم الله على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. (3) هكذا في م وهي في ص (بروح) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 ويقال: ذواتا ألوان من كلّ صنف ولون تشتهيه النّفس والعين- وتكون جمع فن. «فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل. ويقال: عينان تجريان غدا لمن كان له- اليوم- عينان تجريان بالدموع. [سورة الرحمن (55) : آية 52] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) زوجان أي صنفان وضربان كالرطب واليابس، والعنب والزبيب. ويقال: إنها في نهاية الحسن والجودة. [سورة الرحمن (55) : آية 54] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) بطائنها من إستبرق فكيف بظهائرها؟. «والبطائن» : مايلى الأرض. «والاستبرق» : الديباج الغليظ. وإنما خاطبهم على قدر فهمهم إذ يقال إنه ليس في الجنة شىء مما يشبه ما في الدنيا، وإنما الخطاب مع الناس على قدر أفهامهم «1» . «وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» : أي ما يجتنى من ثمرها- إذا أرادوه- دنا إلى أفواههم فتناولوه من غير مشقّة تنالهم. وفي الخبر المسند: «من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله له شجرة في الجنة أصلها الذهب وفرعها الدر وطلعها كثدى الأبكار ألين من الزبد وأحلى من العسل، كلما أخذ منها شيئا عاد كما كان» - وذلك قوله: ودنا الجنتين دان. ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 56] فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) أي في الجنان حور قصرن عيونهن عن غير أزواجهن. وإذا كانت الزوجات قاصرات الطّرف عن غير أزواجهن فأولى بالعبد إذ رجا لقاءه- سبحانه- أن يقصر طرفه ويغضّه عن غير مباح.   (1) هذا رأى على جانب كبير من الأهمية يوضح مدى تصور القشيري لنعيم الجنة وابتعادها عن المحسات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 بل عن الكلّ ... إلى أن يلقاه. ويقال: من الأولياء من لا ينظر إليهن- وإن أبيح له ذلك لتحرّره عن الشهوات، ولعلوّ همته عن المخلوقات «1» - وأنشدوا: جننّا بليلى وهي جنّت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها ويقال: هنّ لمن قصرت يده عن الحرام والشبهة، وطرفه عن الرّيب. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» : لم يصحبهن غير الوليّ ولم يحزن غيره، وفي الخبر. اشتاقت الجنة لثلاثة «2» . [سورة الرحمن (55) : آية 58] كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) أي: فى صفاء الياقوت ولون المرجان. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 60] هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) يقال: الإحسان الأول من الله والثاني من العبد أي: هل جزاء من أحسنّا إليه بالنصرة إلّا أن يحسن لنا بالخدمة؟ وهل جزاء من أحسنّا إليه بالولاء إلا أن يحسن لنا بالوفاء؟. ويصح أن يكون الإحسان الأول من العبد والثاني من الله أي: هل جزاء من أحسن من حيث الطاعة إلا أن يحسن إليه من حيث القبول والثواب؟. وهل جزاء من أحسن من حيث الخدمة إلا أن يحسن إليه من حيث النعمة؟ ويصح أن يكون الإحسانان من الحقّ أي: هل جزاء من أحسنّا إليه في الابتداء إلا أن نحسن إليه في الانتهاء؟ وهل جزاء من فاتحناه باللّطف إلا أن نربى له في الفضل والعطف؟.   (1) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري في موضوع «الرخصة» . [ ..... ] (2) إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: على وعمار وسلمان. (الترمذي عن أنس، ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أبى ربيعة الأيادى. وقد حسّن الترمذي حديثه. قاله الحافظ الهيثمي) وترجح أن الموضع الصحيح للخبر هو بعد النص الشعرى السابق، ونرجح أيضا أن السبب في استشهاد القشيري بهذا الخبر هنا هو إثبات اشتياق الجنة لأهل الخصوص، بينما هؤلاء الزهاد الثلاثة لا أرب لهم في الدارين، لأنهم باقون بربّهم. م (33) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 ويصحّ أن يكون كلاهما من العبد أي: هل جزاء من آمن بنا إلّا أن يثبت في المستقبل على إيمانه؟ وهل جزاء من عقد معنا عقد الوفاء إلا أن يقوم بما يقتضيه بالتفصيل؟. ويقال: هل جزاء من بعد عن نفسه إلّا أن نقرّبه منّا؟ وهل جزاء من فنى عن نفسه إلّا أن يبقى بنا؟. وهل جزاء من رفع لنا خطوة إلّا أن نكافئه بكل خطوة ألف حظوة، وهل جزاء من حفظ لنا طرفه إلا أن نكرمه بلقائنا؟. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 64] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) هما جنتان غير هاتين اللتين ذكرتا جنتان أخريان. وليس يريد دونهما في الفضل، ولكن يريد «جَنَّتانِ» سواهما «1» . «مُدْهامَّتانِ» أي: خضراوان خضرة تضرب إلى السواد. فالدهمة السواد» والفعل منه ادهامّ والاسم منه مدهامّ، وللمؤنث مدهامّة، ولتثنية المؤنث مدهامتان. [سورة الرحمن (55) : آية 66] فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) والنّضخ فوران العين بالماء. [سورة الرحمن (55) : آية 68] فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) الأسماء متشابهة ... والعيون «3» فلا. [سورة الرحمن (55) : آية 70] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70)   (1) قارن ذلك برأى النسفي الذي يقول: هما جنتان من دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين وهما لمن دونهم من أصحاب اليمين وفي موضع آخر من الصفحة ذاتها يقول النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين لأن مدهامتان دون (ذواتا أفنان) ونضاختان دون (تجريان) وفاكهة (دون كل فاكهة) (النسفي ح 4 ص 213) . (2) هذا رأى الخليل أيضا. (3) ربما يقصد القشيري (والأعيان) فهذا هو الاصطلاح المألوف استعماله في علمى الفلسفة والكلام- بل إن القشيري نفسه يستعمله في مثل هذا الموضع. والمقصود أن القرآن يتحدث عن نعيم الجنة حسب أفهام الناس، ولكن الأعيان غير الأسماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 أي: حور خيّرات الأخلاق حسان الوجوه. واحدها خيّرة والجمع خيّرات وهذا هو الأصل ثم خفّف فصارت خيرات. [سورة الرحمن (55) : آية 72] حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) محبوسات على أزواجهن. وهنّ لمن هو مقصور الجوارح عن الزّلّات، مقصور القلب عن الغفلات، مقصور السّرّ عن مساكنة الأشكال والأعلال والأشباه والأمثال. وفي بعض التفاسير: أن الخيمة من درّة مجوفة فرسخ في فرسخ لها ألف باب «1» . ويقال: قصرت أنفسهن وقلوبهن وأبصارهن على أزواجهن. وفي الخبر: أنهن يقلن: نحن الناعمات «2» . فلا نبؤس، الخالدات فلا نبيد، الراضيات فلا نسخط. وفي خبر عن عائشة رضى الله عنها: أن المؤمنات أجبنهنّ: نحن المصليات وما صلّيتنّ، ونحن الصائمات وما صمتنّ، ونحن المتصدّقات وما تصدّقتنّ، قالت عائشة يغلبهن قوله. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «3» قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 76] مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) قيل: رياض الجنة، وقيل: المجالس، وقيل: الزرابيّ والوسائد- وهي خضر «وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ» : العبقري عند العرب كلّ ثوب موشّى. قوله جل ذكره: [سورة الرحمن (55) : آية 78] تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) مضى تفسيره.   (1) حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد: حدثنا أبو عمران الجونى عن أبى بكر بن عبد الله ابن قيس عن أبيه: أن رسول الله (ص) قال: إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون.. البخاري ح 3 ص 132. وذكر ابن جرير الطبري أن الخيمة لؤلؤة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (ح 27 ص 84) . (2) «نحن الناعمات فلا نبؤس أبدا، نحن الخالدات فلا نموت أبدا ... » رواه الترمذي عن على، وقال: حديث غريب. ورواه البيهقي وأبو نعيم عن أبى أوفى في صفة الجنة، وذكره السراج في اللمع ص 345. (3) الطمث: الجماع بالتدمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 سورة الواقعة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم جبّار من اعتنى بشأنه أحضره بإحسانه، فإن أبى إلّا تماديا في عصيانه حال بينه وبين اختياره «1» بقهر سلطانه، وإن لم يلازم هذه «2» الطاعة ألجأه بالبلاء فيأتيها باضطراره. اسم عزيز أزليّ، جبّار صمديّ، قهّار أحديّ، للمؤمنين وليّ، وبالعاصين حفيّ، ليس لجماله كفيّ، ولا في جلاله سميّ، لكنه «3» للعصاة من المؤمنين وليّ. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) إذا قامت القيامة لا يردّها شىء. «كاذِبَةٌ» هاهنا مصدر: كالعافية، والعاقبة، أي: هى حقّة لا يردها شىء، وليس فى وقوعها كذب. ويقال: إذا وقعت الواقعة فمن سلك منهاج الصحة والاستقامة وصل إلى السلامة ولقى الكرامة، ومن حاد عن نهج الاستقامة وقع في الندامة والغرامة، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممّن تباكى [سورة الواقعة (56) : آية 3] خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)   (1) هكذا في ص وهي في م (إحسانه) . (2) هكذا في م وهي في ص (شدة) الطاعة. (3) هكذا في م، وفي ص توجد كلمة غير واضحة الكتابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 «خافضة» : لأهل الشقاوة، «رافِعَةٌ» : لأهل الوفاق. «خافِضَةٌ» : لأصحاب الدعاوى، «رافِعَةٌ» : لأرباب المعاني. «خافِضَةٌ» : للنفوس، «رافِعَةٌ» : للقلوب. «خافِضَةٌ» : لأهل الشهوة، «رافِعَةٌ» : لأهل الصفوة. «خافِضَةٌ» : لمن جحد، «رافِعَةٌ» : لمن وحّد. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : آية 4] إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) حرّكت حركة شديدة. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 5 الى 6] وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) فتّتت فكانت كالهباء الذي يقع في الكوّة عند شعاع الشمس. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 10] فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» ؟ على جهة التفخيم لشأنهم والتعظيم لقدرهم، (وهم أصحاب اليمن والبركة والثواب) «1» . «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» : على جهة التعظيم والمبالغة في ذمّهم، وهم أصحاب الشؤم على أنفسهم ويقال: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا في جانب اليمين من آدم عليه السلام يوم الذّرّ، وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا على شماله.   (1) موجود في ص وغير موجود في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 ويقال: الذين يعطون الكتاب بأيمانهم، والذين يعطون الكتاب بشمائلهم. (ويقال: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين.. إلى الجنة، والذين يؤخذ بهم ذات الشمال.. إلى النار) «1» . «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» : وهم الصف الثالث. وهم السابقون إلى الخصال الحميدة، (والأفضال الجميلة) «2» . ويقال: السابقون إلى الهجرة. ويقال: إلى الإسلام. ويقال: إلى الصلوات الخمس. ويقال: السابقون بصدق القدم. ويقال: السابقون بعلوّ الهمم. ويقال: السابقون إلى كل خير. ويقال السابقون المتسارعون إلى التوبة من الذنوب فيتسارعون إلى النّدم إن لم يتسارعوا بصدق القدم. ويقال: الذين سبقت لهم من الله الحسنى فسبقوا إلى ما سبق إليه: [سورة الواقعة (56) : آية 11] أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ولم يقل: المتقرّبون، بل قال: أولئك المقرّبون- وهذا عين الجمع، فعلم الكافة أنهم بتقريب ربّهم سبقوا- لا بتقرّبهم «3» . [سورة الواقعة (56) : آية 12] فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) أي: فى الجنة «4» . ويقال: مقربون إلا من الجنة فمحال أن يكونوا في الجنة ثم يقرّبون من الجنة، وإنما يقرّبون إلى غير الجنة: يقرّبون من بساط القربة ... وأنّى بالبساط ولا بساط؟! مقربون.. ولكن من حيث الكرامة لا من حيث المسافة مقرّبة نفوسهم من الجنة وقلوبهم إلى الحقّ. مقرّبة قلوبهم من بساط المعرفة، وأرواحهم من ساحات الشهود- فالحقّ عزيز.. لا قرب ولا بعد، ولا فصل ولا وصل.   (1) موجودة في م وغير موجود في ص. (2) موجود في م وغير موجود في ص. (3) هذه إشارة إلى أن العمل الإنسانى- وحده- لا يعوّل عليه إذا قيس بالفضل الإلهى. [ ..... ] (4) يتحدث القشيري هنا في ضوء حالى الفرق والجمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 ويقال: مقربون ولكن من حظوظهم ونصيبهم. وأحوالهم- وإن صفت- فالحقّ وراء الوراء. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) الثّلة: الجماعة. ويقال: ثلة من الأولين الذين شاهدوا أنبياءهم وقليل من الآخرين الذين شاهدوا نبيّنا صلى الله عليه وسلم. ويقال: ثلّة من الأولين: من السلف وقليل من المتأخرين: من الأمة. [سورة الواقعة (56) : آية 15] «1» عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) أي منسوجة نسيج الدرع من الذهب. جاء في التفسير: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، إن أراد الجلوس عليه تواضع، وإن استوى عليه ارتفع. [سورة الواقعة (56) : آية 16] مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) أي لا يرى بعضهم قفا بعض. وصفهم بصفاء المودة وتهذّب الأخلاق. [سورة الواقعة (56) : آية 17] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) يطوف عليهم وهم مقيمون لا يبرحون ولدان في سنّ واحدة ... لا يهرمون. وقيل: مقرّطون (الخلدة. القرط) [سورة الواقعة (56) : الآيات 18 الى 20] بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) «بِأَكْوابٍ» جمع كوب وهي آنية بلا عروة ولا خرطوم، «وَأَبارِيقَ» : جمع إبريق وهو عكس الكوب (أي له خرطوم وعروة) . ولا صداع لهم في شربهم إياها، كما لا تذهب عقولهم بسببها. ولهم كذلك فاكهة مما يتخيرون، [سورة الواقعة (56) : الآيات 21 الى 24] وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، أي: المصون، جزاء بما كانوا يعملون.   (1) وضن الثوب نسجه بالجوهر، فهو واضن وهي واضنة والمفعول موضون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 25 الى 26] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) اللغو: الباطل من القول، والتأثيم: الإثم والهذيان ولا يسمعون إلا قيلا سلاما، وسلاما: نعت للقيل. [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 29] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ» : لا شوك فيه، [سورة الواقعة (56) : آية 30] وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) : والطلح شجر الموز، متراكم نضيد بعضه على بعض. «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» كما بين الإسفار «1» إلى طلوع الشمس «2» . وقيل: ممدود أي دائم. [سورة الواقعة (56) : الآيات 31 الى 37] وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) «وَماءٍ مَسْكُوبٍ» : جار لا يتعبون فيه. «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» : لا مقطوعة عنهم ولا ممنوعة منهم. «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» لهم. وقيل: أراد بها النساء «3» . «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي الحور العين. «عُرُباً» : جمع عروب «4» وهي الغنجة المتحببة إلى زوجها. ويقال عربا: أي متشهّيات إلى أزواجهن. «أَتْراباً» : جمع ترب، أي: هنّ على سنّ واحدة. [سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 40] لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» : أي خلقناهن لأصحاب اليمين. «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» : أي: ثلة من أولى هذه الأمة، وثلة من أخراها. [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 43] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) : والسّموم فيح جهنم وحرّها. والحميم: الماء الحار.   (1) طلوع الفجر أو الصبح. (2) سقطت (الشمس) من م. (3) لأن المرأة يكنى عنها بالفراش. (4) جاء عند البخاري: عروب مثل: صبور يسميها أهل مكة: العربة وأهل المدينة: الغنجة، وأهل العراق: الشّكلة (البخاري ح 3 ص 132) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 [سورة الواقعة (56) : الآيات 44 الى 47] لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) «وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ» ، وهو الدّخان الأسود. «لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» : لا بارد: أي لا راحة فيه. ولا كريم: ولا حسن لهم (حيث لا نفع فيه) . «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ» : أي: كانوا في الدنيا ممتّعين. «وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» أي الذّنب العظيم. «وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» أي: أنهم يكذّبون بالبعث. [سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 52] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) ثم يقال لهم: «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ» اليوم «لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» وجاء في التفسير: أن الزقوم شجرة في أسفل جهنم إذا طرح الكافر في جهنم لا يصل إليها إلا بعد أربعين خريفا. [سورة الواقعة (56) : آية 53] فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) [سورة الواقعة (56) : الآيات 54 الى 55] فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ» شراب لا تهنأون به «فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» : وهي الإبل العطاش. ويقال: الهيم أي الرّمل ينضب فيه كلّ ما يصبّ عليه. [سورة الواقعة (56) : الآيات 56 الى 57] هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) «هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» : يوم القيامة. قوله جل ذكره: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» نحن خلقناكم: يا أهل مكة- فهلّا آمنتم لتتخلصوا؟ توبّخون وتعاتبون ... واليوم تعتذرون! ولكن لا ينفعكم ذلك ولا يسمع منكم شىء. وإن أشدّ العقوبات عليهم يومئذ أنهم لا يتفرّغون من آلام نفوسهم وأوجاع أعضائهم إلى التحسّر على مافاتهم في حقّ الله. ويقال: أشدّ البلاء- اليوم- على قلوب هذه الطائفة «1» خوفهم من أن يشغلهم- غدا- بمقاساة آلامهم عن التحسّر على ما تكدّر عليهم من المشارب في هذا الطريق. وهذه محنة لا شىء أعظم على الأصحاب منها. وإنّ أصحاب القلوب- اليوم- يبتهلون إليه ويقولون: إن   (1) يقصد الصوفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 حرمتنا مشاهد الأنس فلا تشغلنا بلذّات تشغلنا عن التحسّر على ما فاتنا، ولا بآلام تشغلنا عن التأسّف على ما عدمنا منك. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 58 الى 59] أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) يقال: منى الرجل وأمنى. والمعنى: هل إذا باشرتم وأنزلتم وانعقد الولد ... أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ والخلق هاهنا: التصوير أي: أأنتم تجمعون صور المولود وتركّبون أعضاءه.. أم نحن؟ وهم كانوا يقرّون بالنشأة الأولى فاحتجّ بهذا (على جواز النشأة الأخرى عند البعث الذي كانوا ينكرونه. وهذه الآية أصل فى) «1» إثبات الصانع فإن أصل خلقة الإنسان من قطرتين: قطرة من صلب الأب وهو المنى وقطرة من تريبة الأم «2» ، وتجتمع القطرتان في الرّحم فيصير الولد. وينقسم الماء ان المختلطان إلى هذه الأجزاء التي هي أجزاء الإنسان من العظم والعصب والعرق والجلد والشّعر.. ثم يركبها على هذه الصور في الأعضاء الظاهرة وفي الأجزاء الباطنة حيث يشكّل كل عضو بشكل خاص، والعظام بكيفية خاصة.. إلى غير ذلك. وليس يخلو: إمّا أن يكون الأبوان يصنعانه- وذلك التقدير محال لتقاصر علمهما وقدرتهما عن ذلك وتمنّيهما الولد ثم لا يكون، وكراهتهما الولد ثم يكون! والنّطفة أو القطرة محال تقدير فعلها في نفسها على هذه الصورة لكونها من الأموات بعد، ولا علم لها ولا قدرة. أو من غير صانع.. وبالضرورة يعلم أنه لا يجوز. فلم يبق إلّا أن الصانع القديم الملك العليم هو الخالق «3» . قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 60 الى 61] نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) .   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. (2) تريبة الأم عظمة الصدر والجمع ترائب. (3) هذا نموذج طيب يصوّر طريقة القشيري متكلما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 يكون الموت في الوقت الذي يريده منكم من يموت طفلا ومنكم من يموت شابّا، ومنكم من يموت كهلا، وبعلل مختلفه وبأسباب متفاوتة وفي أوقات مختلفة. «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» فى تقديرنا فيقوتنا شىء ولسنا بعاجزين عن أن نخلق أمثالكم، ولا بعاجزين عن تبديل صوركم التي تعلمون إن أردنا مسخكم وتبديل صوركم فلا يمنعنا عن ذلك أحد. ويقال: وننشئكم فيما لا تعلمون من حكم السعادة والشقاوة «1» . قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : آية 62] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أي: أنتم أقررتم بالنشأة الأولى.. فهلّا تذكّرون لتعلموا جواز الإعادة إذ هي في معناها «2» . قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 64] أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) أي: إذا ألقيتم الحبّ في الأرض.. أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون؟ وكذلك وجوه الحكمة في إنبات الزّرع، وانقسام الحبّة الواحدة على الشجرة النابتة منها (فى قشرها ولحائها وجذعها وأغصانها وأوراقها وثمارها) «3» - كل هذا: [سورة الواقعة (56) : آية 65] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) لو نشاء لجعلناه حطاما يابسا بعد خضرته، فصرتم تتعجبون وتندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، ثم تقولون: [سورة الواقعة (56) : الآيات 66 الى 67] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أي: لملزمون غرامة ما أنفقنا في الزّرع، وقد صار ذلك غرما علينا- فالمغرم من ذهب إنفاقه بغير عوض.   (1) وضع هذا السطر في مكان تال بعد (فى معناها) فنقلناه إلى موصعه الصحيح. (2) أي أن الإعادة لا تفترق في شىء عن الخلق الأول. (3) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» بل نحن محرومون بعد أن ضاع منّا الرزق. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أأنتم أنزلتموه من السحاب.. أم نحن ننزله متى نشاء أنّى نشاء كما نشاء على من نشاء وعلى ما نشاء؟ ونحن الذين نجعله مختلفا في الوقت وفي المقدار وفي الكيفية، فى القلّة وفي الكثرة. ولو نشاء لجعلناه ملحا.. أفلا تشكرون عظيم نعمة الله- سبحانه- عليكم في تمكينكم من الانتفاع بهذه الأشياء التي خلقها لكم. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 71 الى 73] أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) ورى الزّند يرى فهو وار ... وأوراه يوريه أي يقدحه. يعنى: إذا قدحتم الزند.. أرأيتم كيف تظهر النار- فهل أنتم تخلقون ذلك؟ أأنتم أنشأتم شجرتها- يعنى المرخ والعفار «1» - أم نحن المنشئون؟ «نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً» : أي يمكن الاستدلال بها. «وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» : يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقواء أي: الأرض الخالية. فالمعنى: أن هذه النار «تَذْكِرَةً» يتذكّر بها الإنسان ما توعده به في الآخرة من نار جهنم، و «مَتاعاً» : يستمتع بها المسافر في سفره في وجوه الانتفاع المختلفة.   (1) المرخ: شجر ينفرش ويطول في السماء ليس له ورق ولا شوك، سريع الورى يتقدح به. والعفار: شجيرة من الفصيلة الأريكية لها ثمر لبّى أحمر، ويتخذ منها الزناد فيسرع الورى. وفي أمثال العرب: «فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار» . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : آية 74] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) أي: اسبح بفكرك في بحار عقلك، وغص بقوة التوحيد فيها تظفر بجواهر العلم، وإيّاك أن تقصّر في الغوص لسبب أو لآخر، وإياك أن تتداخلك الشّبه فيتلف رأس مالك ويخرج من يدك وهو دينك واعتقادك ... وإلّا غرقت في بحار الشّبه، وضللت. وهذه الآيات «1» التي عدّها الله- سبحانه- تمهّد لسلوك طريق الاستدلال، فكما فى الخبر «فكر ساعة خير من عبادة سنة» - وقد نبّه الله سبحانه بهذا إلى ضرورة التفكير. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) قيل: هى مواقع نجوم السماء. ويقال: مواقع نجوم القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم. «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» : والكرم نفى الدناءة- أي: أنه غير مخلوق «2» ويقال: هو «قرآن كريم» : لأنه يدل على مكارم الأخلاق. ويقال هو قرآن كريم لأنه من عند ربّ كريم على رسول كريم، على لسان ملك كريم. «فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ» : يقال: فى اللوح المحفوظ. ويقال: فى المصاحف. وهو محفوظ عن التبديل. «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» عن الأدناس والعيوب والمعاصي.   (1) إذا تدبرنا هذه الآيات ألفينا القرآن يخاطب العقل الإنسانى بالتدبر في ثلاثة أشياء: الغذاء والماء والنار، وبدون الثلاثة لا تقوم الحياة ولا تنتظم. (2) هذه إحدى الأفكار الخطيرة التي اشتجر حولها الخلاف بين الأشاعرة الذين يقولون: (القرآن غير مخلوق) وبين المعتزلة الذي يقولون: إنه مخلوق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 ويقال: هو خبر فيه معنى الأمر: أي لا ينبغى أن يمسّ المصحف إلا من كان متطهرا من الشّرك ومن الأحداث «1» . ويقال: لا يجد طعمه وبركته إلّا من آمن به. ويقال: لا يقربه إلّا الموحّدون، فأمّا الكفّار فيكرهون سماعه فلا يقربونه. وقرئ المطهّرون: أي الذين يطهّرون نفوسهم عن الذنوب والخلق الدّنيّ. ويقال: لا يمس خيره إلّا من طهّر يوم القسمة عن الشقاوة. ويقال: لا يفهم لطائفة إلّا من طهّر سرّه عن الكون «2» . ويقال: المطهّرون سرائرهم عن غيره. ويقال: إلا المحترمون له القائمون بحقّه. ويقال: إلا من طهّر بماء السعادة ثم بماء الرحمة «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» : أي منزّل من قبله- سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 82] أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) أبهذا القرآن أنتم تنافقون، وبه تكذّبون. «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ... » : كانوا إذ أمطروا يقولون: أمطرنا بنوء كذا. يقول: أتجعلون بدل إنعام الله عليكم بالمطر الكفران به، وتتوهمون أن المطر- الذي هو نعمة من الله- من الأنواء والكواكب؟!. ويقال: أتجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن التكذيب؟. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85] فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) .   (1) هى هنا جمع حدث أي النجاسة التي ترتفع بالوضوء أو الغسل أو التيمم. (2) لنتذكر أن هذا الكتاب الذي وضعه القشيري هو لفهم (لطائف الإشارات) القرآنية، ولندرك رأيه فى سمات هذا اللون من التفسير وأهله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 يخاطب أولياء الميت «1» فيقول: هلّا إذا بلغت روحه الحلقوم، وأنتم تنظرون إلى هذا المريض، رجعتم إلى الله تعالى، وتحققتم به؟ فنحن أقرب إليه منكم بالعلم والرؤية والقدرة ... ولكن لا تبصرون! ويقال: أقرب ما يكون العبد من الحقّ عند ما يتم استيلاء ذكره وشهوده عليه، فينتفى إحساس العبد بغيره، وعلى حسب انتفاء العلم والإحساس بالأغيار- حتى عن نفسه- يكون تحقّق العبد في سرّه حتى لا يرى غير الحقّ. فالقرب والبعد معناهما: أنّ العبد في أوان صحوه وأنه لم يؤخذ- بعد- عن نفسه فإذا أخذ عنه فلا يكون إلا الحق ... لأنه حينئذ لا قرب ولا بعد. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 87] فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) ليس لكم من أمر الموت شىء. «تَرْجِعُونَها» أي: تردّون الروح إلى الجسد. «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» : فى أنه لا بعث «2» . قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 89] فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) المقرّبون هم الذين قرّبهم الله بفضله، فلهم «فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ» . ويقال: الرّوح الاستراحة، والريحان الرزق. وقيل: الرّوح في القبر، والريحان: فى الجنة.   (1) فى م (البيت) وفي ص (الميت) وهذه هي الصواب. (2) نشعر أن تفسير القشيري هنا مقتضب، ويلزم التوضيح: ترتيب الآية هو: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين.. أمّا نحن فنحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت. أمّا أنتم.. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت والمبدئ المعيد؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 ويقال: لا يخرج مؤمن من الدنيا حتى يؤتى بريحان من رياحين الجنة فيشمه قبل خروج روحه، فالرّوح راحة عند الموت، والريحان في الآخرة. وقيل: كانت قراءة النبي (ص) «الروح» بضم الراء أي لهم فيها حياة دائمة. ويقال: الرّوح لقلوبهم، والريحان لنفوسهم، والجنّة لأبدانهم. ويقال: روح في الدنيا، وريحان في الجنة، وجنّة نعيم في الآخرة. ويقال: روح وريحان معجّلان، وجنة نعيم مؤجلة. ويقال: روح للعابدين، وريحان للعارفين، وجنّة نعيم لعوام المؤمنين. ويقال: روح نسيم القرب، وريحان كمال البسط، وجنة نعيم في محل المناحاة. ويقال: روح رؤية الله، وريحان سماع كلامه بلا واسطة، وجنة نعيم أن يدوم هذا ولا ينقطع. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 90 الى 91] وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أن نخبرك بسلامة أحوالهم. ويقال: سترى فيهم ما تحب من السلامة. ويقال: أمان لك في بابهم فلهم السلامة. ولا تشغل قلبك بهم ويقال: فسلام لك- أيها الإنسان- إنك من أصحاب اليمين، أو أيها الإنسان الذي من أصحاب اليمين. قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 92 الى 94] وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إن كان من المكذبين لله، الضالّين عن دين الله فله إقامة في الجحيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 قوله جل ذكره: [سورة الواقعة (56) : الآيات 95 الى 96] إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) هذا هو الحق اليقين الذي لا محالة حاصل. «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» أي قدّس الله عمّا لا يجوز في وصفه. ويقال: صلّ لله. ويقال: اشكر الله على عصمة أمّتك من الضّلال، وعلى توفيقهم فى اتّباع سنّتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 سورة الحديد قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . سماع بسم الله الرّحمن الرّحيم شراب يسقى به الحقّ- سبحانه وتعالى- قلوب أحبّائه، فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا انبسطوا «1» ، ثم لشهود حقّه «2» تعرّضوا، وبنسيم قربه استأنسوا «3» ، وعند الإحساس بهم غابوا.. فعقولهم تستغرق «4» فى لطفه، وقلوبهم تستهلك فى كشفه. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) التسبيح التقديس والتنزيه، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال، فيظفرون بجواهر التوحيد وينظمونها في عقود الإيمان، ويرصّعونها في أطواق الوصلة: وقوله «ما» فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المراد به «من» فى السماوات والأرض، يسجدون لله طوعا وكرها طوعا تسبيح طاعة وعبادة، وكرها تسبيح علامة ودلالة. وتحمل «ما» على ظاهرها فيكون المعنى: ما من مخلوق من عين أو أثر إلا ويدلّ على الصانع، وعلى إثبات جلاله، وعلى استحقاقه لنعوت كبريائه.   (1) انبسطوا أي: ذاقوا حال البسط. ويصل العارف إلى القبض والبسط بعد حال الرجاء والخوف. والمبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء، ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شىء بحال من الأحوال (الرسالة ص 35) . (2) شهود حق الله لا يتم إلا بعد اختفاء حظوظ العبد. (3) من الأنس. سئل الجنيد عنه فقال: هو ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة. وسئل ذو النون عنه فقال: هو انبساط المحب إلى المحبوب. وسئل الشبلي عنه فقال: هو حشتك منه (التعرف للكلاباذى ص 126، 127) . (4) ضبطناها هكذا مبنية للمجهول لأن المفروض أن شمس الحقيقة يستغرق نورها نجوم العقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 ويقال: يسبح لله ما في السماوات والأرض، كلّ واقف على الباب بشاهد الطّلب ... ولكنه- سبحانه عزيز «1» . ويقال: ما تقلّب أحد من جاحد أو ساجد إلا في قبضة العزيز الواحد، فما يصرّفهم إلا من خلقهم فمن مطيع ألبسه نطاق وفاقه- وذلك فضله، ومن عاص ربطه بمثقلة الخذلان- وذلك عدله. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» : العزيز: المعزّ لمن طلب الوصول، بل العزيز: المتقدّس عن كل وصول ... فما وصل من وصل إلا حظّه ونصيبه وصفته على ما يليق به. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 2] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) الملك مبالغة من الملك، وهو القدرة على الإبداع، ولا مالك إلا الله. وإذا قيل لغيره: مالك فعلى سبيل المجاز فالأحكام المتعلقة في الشريعة على ملك الناس صحيحة في الشرع، ولكنّ لفظ الملك فيها توسّع كما أن لفظ التيمم في استعمال التراب- عند عدم الماء- فى السفر مجاز، فالمسائل الشرعية في التيمم صحيحة، ولكن لفظ التيمم في ذلك مجاز. «يُحْيِي وَيُمِيتُ» : يحيى النفوس ويميتها. ويحيى القلوب بإقباله عليها، ويميتها بإعراضه عنها. ويقال: يحييها بنظره وتفضّله، ويميتها بقهره وتعزّزه. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 3] هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) «الْأَوَّلُ» : لاستحقاقه صفة القدم، و «الْآخِرُ» لاستحالة نعت العدم. و «الظَّاهِرُ» بالعلو والرفعة، و «الْباطِنُ» : بالعلم والحكمة. ويقال: «الْأَوَّلُ» فلا افتتاح لوجوده و «الْآخِرُ» فلا انقطاع لثبوته. «الظَّاهِرُ» فلا خفاء في جلال عزّه، «الْباطِنُ» فلا سبيل إلى إدراك حقّه. ويقال «الْأَوَّلُ» بلا ابتداء، و «الْآخِرُ» بلا انتهاء، و «الظَّاهِرُ» بلا خفاء، و «الْباطِنُ» بنعت العلاء وعزّ الكبرياء.   (1) أي حلّت الصمدية أن يستشرف من ذاتيتها أحد.. فكل واقف بالباب على البساط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 ويقال «الْأَوَّلُ» بالعناية، و «الْآخِرُ» بالهداية، و «الظَّاهِرُ» بالرعاية، و «الْباطِنُ» بالولاية. ويقال: «الْأَوَّلُ» بالخلق، و «الْآخِرُ» بالرزق، و «الظَّاهِرُ» بالإحياء، و «الْباطِنُ» بالإماتة والإفناء. قال تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» «1» . ويقال: «الْأَوَّلُ» لا بزمان، و «الْآخِرُ» لا بأوان، و «الظَّاهِرُ» بلا اقتراب، و «الْباطِنُ» بلا احتجاب. ويقال: «الْأَوَّلُ» بالوصلة، و «الْآخِرُ» بالخلّة، و «الظَّاهِرُ» بالأدلة، و «الْباطِنُ» بالبعد «2» عن مشابهة الجملة «3» . ويقال: «الْأَوَّلُ» بالتعريف، «وَالْآخِرُ» بالتكليف، «وَالظَّاهِرُ» بالتشريف «وَالْباطِنُ» بالتخفيف «4» ويقال: «الْأَوَّلُ» بالإعلام، «وَالْآخِرُ» بالإلزام، «وَالظَّاهِرُ» بالإنعام «وَالْباطِنُ» بالإكرام. ويقال: «الْأَوَّلُ» بأن اصطفاك «وَالْآخِرُ» بأن هداك، «وَالظَّاهِرُ» بأن رعاك، «وَالْباطِنُ» بأن كفاك. ويقال «5» : من كان الغالب عليه اسمه «الْأَوَّلُ» كانت فكرته في حديث سابقته: بماذا سمّاه مولاه؟ وما الذي أجرى له في سابق حكمه؟ أبسعادته أم بشقائه؟.   (1) آية 40 سورة الروم. (2) سقط- (بالبعد) فى النسخة م وموجودة في ص (3) المقصود (بالجملة) هنا جملة المخلوقات. [ ..... ] (4) هكذا في م وهي في ص (بالتحقيق) وهذه وإن كانت- صحيحة ألا أن السياق الموسيقى الذي جرى عليه المصنف يرجح (بالتخفيف) على معنى أنه علم ضعف عباده فلم يكلفهم فوق طاقتهم. (5) هذه الفقرة هامة في بيان أن الصوفية حينما يتصدون لدراسة الأسماء والصفات يهتمون بالآداب والسلوك وكيف يتخلّق الصوفي بأخلاق الله ويتأدب بأسمائه أنظر مقدمة كتاب التحبير في التذكير تحقيق بسيونى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 ومن كان الغالب على قلبه اسمه «الْآخِرُ» كانت فكرته فى: بماذا يختم له حاله؟ وإلام يصير ما له؟ أعلى التوحيد يخرج من دنياه أو- والعياذ بالله- فى النار غدا- مثواه؟ ومن كان الغالب على قلبه اسمه «الظَّاهِرُ» فاشتغاله بشكر ما يجرى في الحال من توفيق الإحسان وتحقيق الإيمان وجميل الكفاية وحسن الرعاية. ومن كان الغالب على قلبه اسمه «الْباطِنُ» كانت فكرته في استبهام أمره عليه فيتعثّر ولا يدرى.. أفضل ما يعامله به ربّه أم مكر ما يستدرجه به ربّه؟ ويقال: «الْأَوَّلُ» علم ما يفعله عباده ولم يمنعه علمه من تعريفهم، «وَالْآخِرُ» رأى ما عملوا ولم يمنعه ذلك من غفرانهم «وَالظَّاهِرُ» ليس يخفى عليه شىء من شأنهم، وليس يدع شيئا من إحسانهم «وَالْباطِنُ» يعلم ما ليس لهم به علم من خسرانهم ونقصانهم فيدفع «1» عنهم فنون محنهم وأحزانهم. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) مضى الكلام في ذلك. «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ» أي ما يدخل فيها من القطر، والكنوز، والبذور، والأموات الذين يدفنون فيها، «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات وانفجار العيون وما يستخرج من المعادن. «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» . من المطر والأرزاق. أو ما يأتى به الملائكة من القضاء والوحى. «وَما يَعْرُجُ فِيها» . أي وما يصعد إليها من الملائكة، وطاعات العباد، ودعوات الخلق، وصحف المكلّفين، وأرواح المؤمنين.   (1) هنا إشارة لنعم الدفع أو المنع التي لا يفطن إليها الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . «وَهُوَ مَعَكُمْ» بالعلم والقدرة. ويقال «1» : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» إذا دفن العبد فالله سبحانه يعلم ما الذي كان فى قلبه من إخلاص في توحيده، ووجوه أحزانه خسرانه، وشكّه وجحوده، وأوصافه المحمودة والمذمومة.. ونحو ذلك مما يخفى عليكم. «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوفات وفنون الأحوال العزيزة. «وَما يَعْرُجُ فِيها» من أنفاس الأولياء إذا تصاعدت، وحسراتهم إذا علت. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 6] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) مضى معناه. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 7] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) صدّقوا بالله ورسوله، وتصدّقوا «مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» بتمليككم ذلك وتصييره إليكم. والذين آمنوا منكم وتصدّقوا على الوجه الذي أمروا به لهم ثواب عظيم فإنّ ما تحويه الأيدى معرّض للزوال، فالسّعيد من قدّم في دنياه ماله في الآخرة عمارة حاله، والشقيّ من سار فيما له في الآخرة وبال مآله. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 8] وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) .   (1) هذه الفقرة استدراك أثبته القشيري متأخرا عن موضعه الأصل قليلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 أي شىء لكم في ترككم الإيمان بالله وبرسوله، وما أتاكم به من الحشر والنشر، وقد أزاح العلّة بأن ألاح لكم الحجّة، وقد أخذ ميثاقكم وقت الذّرّ، وأوجب عليكم ذلك بحكم الشّرع. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 9] هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) ليخرجكم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشكّ إلى نور اليقين. وكذلك يريهم في أنفسهم من الآيات بكشوفات السّرّ وما يحصل به التعريف مما يجدون فيه النفع والخير فيخرجهم من ظلمات التدبير «1» إلى سعة فضاء التفويض، وملاحظة فنون جريان المقادير. وكذلك إذا أرادت النّفس الجنوح إلى الرّخص والأخذ بالتخفيف «2» وما تكون عليه المطالبة بالأشقّ- فإن بادر إلى ما تدعوه الحقيقة إليه وجد في قلبه من النور ما يعلم به ظلمة هواجس النّفس «3» . قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 10] وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) ما في أيديكم ميراثه لله، وعن قريب سينقل إلى غيركم ولا تبقون بتطاول أحمالكم. وهو بهذا يحثهم على الصدقة والبدار إلى الطاعة وترك الإخلاد إلى الأمل.. ثم قال: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً   (1) أي ظلمات التدبير الإنسانى، والتعويل على النفس، فاعتماد الإنسان على تدبيره مجلبة لشقائه.. وأنيّ للطين أن يكون ذا تدبير؟! (2) هكذا في م وهي الصواب أما (التحقيق) التي في ص فهى خطأ في النسخ لأن الأسير خاص جنوح إلى (التخفيف) كما نعلم (3) يتفق هذا مع قول الرسول الكريم «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» . لا يستوى منكم من أنفق قبل فتح مكة والحديبية والذين أنفقوا من بعد ذلك. بل أولئك أعظم ثوابا وأعلى درجة من هؤلاء لأنّ حاجة الناس كانت أكثر إلى ذلك وكان ذلك أشقّ على أصحابه «1» . ثم قال: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» إلّا أنّ فضيلة السّبق لهم، ولهذا قالوا: السباق السباق قولا وفعلا ... حذّر النّفس حسرة المسبوق قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 11] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) المراد بالقرض الصدقة، وإنما ذكرها سبحانه كذلك تطييبا لقلوبهم، فكأن المتصدّق وهو يقرض شيئا كالذى يقطع شيئا من ماله ليدفعه إلى المستقرض. ويقال «يُقْرِضُ» أي يفعل فعلا حسنا، وأراد بالقرض الحسن هاهنا ما يكون من وجه حلال ثم عن طيب قلب، وصاحبه مخلص فيه، بلا رياء يشوبه، وبلا منّ على الفقير، ولا يكدّره تطويل الوعد، ولا ينتظر عليه كثرة الأعواض. ويقال: أن تقرضه وتقطع عن قلبك حبّ الدارين «2» ، ففى الخبر: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» «3» ومن لم يتحرّر من شىء فخروجه عنه تكلّف «4» .   (1) لأن الإسلام لم يكن بعد. قد عز واستمكن وانتشر في الأرجاء. (2) أي دون أن يكون قصدك على ما تفعل عوضا أو عرضا سواء في الدنيا أو في الآخرة إذ يكفى أن تعلم أي شرف لك أن: تقرض الله!! (3) حدث الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدا بمن تعول» البخاري ح 3 ص 191 (كتاب النفقات) . (4) هكذا في ص وهي في م «تكلف» كما أثبتنا لأن السياق يقتضى ذلك. وتوجد بعد (تكلف) عبارة منبهة فى الخط والمعنى، تشبه أن تكون: (وهو على من يصل إليه ربى به) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 12] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وهو نور يعطى للمؤمنين والمؤمنات بقدر أعمالهم الصالحة، ويكون لذلك النور مطارح شعاع يمشون فيها والنور يسعى بين أيديهم، ويحيط جميع جهاتهم. ويقال: «وَبِأَيْمانِهِمْ» كتبهم. «بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ» أي بشارتكم اليوم- من الله جنات. وكما أن لهم في العرضة هذا النور فاليوم لهم في قلوبهم وبواطنهم نور يمشون فيه، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن ينظر بنور الله» وقال تعالى: «فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «1» . وربما ينبسط ذلك النور على من يقرب منهم. وربما يقع من ذلك على القلوب قهرا- ولأوليائه- لا محالة- هذه الخصوصية. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 13] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) انتظرونا فنلحق بكم لنقتبس من نوركم. وذلك لأن المؤمنين والمنافقين يعطون كتبهم وهم في النور، فإذا مرّوا ... انطفأ النور أمام المنافقين وسبق المؤمنون، فيقول المنافقون للمؤمنين: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم. فيقول المؤمنون: «قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» أي إلى الدنيا وأخلصوا! - تعريفا لهم أنهم كانوا منافقين في الدنيا. ويقال: ارجعوا إلى حكم الأزل فاطلبوا «2» هذا من القسمة! - وهذا على جهة ضرب المثل والاستبعاد.   (1) آية 22 سورة الزمر. (2) هكذا في ص وهي في م (قاطلعوا) وقد آثرنا الأولى لأنها آكد في الاستبعاد- وهو المقصود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» . «بسور: وهو جبل أصحاب الأعراف، يستر بينهم وبين المنافقين، فالوجه الذي يلى المؤمن فيه الرحمة وفي الوجه الآخر العذاب. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 14] يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) ألم نكن معكم في الدنيا في أحكام الإيمان في المناكحة والمعاشرة؟. قالوا: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم ... «وَتَرَبَّصْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» . تربصتم عن الإخلاص، وشككتم، وغرّكم الشيطان، وركنتم إلى الدنيا. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 15] فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) النار مأواكم ومصيركم ومتقلبكم. وهى «مَوْلاكُمْ» أي هي أولى بكم، وبئس المصير! ويقال: مخالفة الضمائر والسرائر لا تنكتم بموافقة الظاهر «1» ، والأسرار لا تنكتم عند الاختبار قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)   (1) السياق حديث عن المنافقين وعن الكفار.. وأراد القشيري أن ينقل هذا السياق إلى الجو الصوفي فوجه تحذيره لأرباب الرياء والدعوى، أولئك الذين يظنون أنهم إن تصاهروا بالقيام بموافقة الشريعة وموافقة القوم فإن الأسرّة سريعا ما تكشف السريرة- على حد تعبير، فى موضع مماثل. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 ألم يحن للذين آمنوا أن تتواضع قلوبهم وتلين لذكر الله وللقرآن وما فيه من العبر؟ وألا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل؟ وأراد بهم اليهود، وكثير من اليهود فاسقون كافرون. وأراد بطول الأمد الفترة التي كانت بين موسى ونبيّنا صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم ملالة فقالوا: لو حدّثتنا. فأنزل الله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ... » فبعد مدّة قالوا: لو قصصت علينا! فأنزل الله تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ... » فبعد مدة قالوا: لو ذكّرتنا ووعظتنا! فأنزل الله تعالى هذه السورة. وفي هذه الآية ما يشبه الاستبطاء. وإن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفوة لا تجتمعان فإذا حصلت الشهوة رحلت الصفوة. وموجب القسوة هو انحراف القلب عن مراقبة الربّ. ويقال: موجب القسوة أوّله خطرة فإن لمّ تتدارك صارت فكرة وإن لّم تتدارك صارت عزيمة، فإن لم تتدارك جرت المخالفة، فإن لم تتدارك بالتلافى صارت قسوة وبعدئذ تصير طبعا ورينا «1» قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) يحيى الأرض بعد موتها بإنزال المطر عليها وإخراج النّبت منها.   (1) ران الثوب رينا أي تطبع وتدنّس، ورانت النفس أي خبثت وغشت. (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 ويحيى القلوب الميتة- بعد إعراض الحقّ عنها- بحسن إقباله عليها «1» . قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 18] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) أي المتصدقين والمتصدقات. «وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» : يعنى في النوافل. «يُضاعَفُ لَهُمْ» فى الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها.. إلى ما شاء الله «وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» : ثواب كبير حسن. والثواب الكريم أنّه لا يضن بأقصى الأجر على الطاعة- وإن قلّت. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 19] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) الصدّيقون: مبالغة في الصدق، والشهداء: الذين استشهدوا في سبيل الله، فالمؤمنون بمنزلة الصديقين والشهداء- لهم أجرهم في الجنة ونورهم في القيامة. «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» . والصدّيق من استوى ظاهره وباطنه. ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشقّ، ولا ينزل إلى الرّخص، ولا يجنح للتأويلات. والشهداء: الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة، «وَنُورُهُمْ» : ما كحل الحقّ به بصائرهم من أنوار التوحيد.   (1) كان المفروض أن تكون العبارة هكذا. (ويحى القلوب الميتة بعد إعراضه عنها) . فأستعمال (الحق) فى الإضافة مسألة لهم أرباب القلوب المتحققين الفانين عن الخلق الباقين بالحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 20] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) الحياة الدنيا معرّضة للزوال، غير لابثة ولا ماكثة، وهي في الحال شاغلة عن الله، مطمعة «1» وغير مشبعة، وتجرى على غير سنن الاستقامة كجريان لعب «2» الصبيان، فهى تلهى عن الصواب واستبصار الحقّ، وهي تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد. «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» . الكفار: الزّرّاع. هو في غاية الحسن ثم يهيج فتراه يأخذ في الجفاف، ثم ينتهى إلى أن يتحطّم ويتكسّر. «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ» . لأهله من الكفّار. «وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» . لأهله من المؤمنين. «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» . الدنيا حقيرة- وأحقر منها قدرا طالبها وأقلّ منه خطرا المزاحم فيها، فما هي إلا جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر. وأخس أهل الدنيا من بخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي التي تشغل العبد عن الآخرة!   (1) ربما كانت- (مطعمة) فى الأصل فقد نبدو الدنيا ذات قيمة ولكنها في الحقيقة عديمة القيمة. (2) فى النسختين (لعاب) الأطفال، ومع ذلك فقد آثرنا أن نثبت هنا (لعب) بالرغم من تحسنا لاستعمال (اللعاب) فى موضع سبق ذلك لأننا نرى إضافة اللعاب إلى الصبيان لا يزيد المعنى تأكيدا، فاللعاب ظاهرة فسيولوجية تجرى على غير نظام- وهذا هو المطلوب- عند الكبار والصفار على حدّ سواء، بينما إضافة اللعب إلى الصبيان تعطى المعنى المطلوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 21] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) أي سارعوا إلى عمل يوجب لكم مغفرة من ربّكم، وذلك العمل هو التوبة. «وَجَنَّةٍ عَرْضُها ... » ذكر عرضها ولم يذكر طولها فالطول على ما يوافيه العرض. «أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» : وفي هذا دليل على أنّ الجنة مخلوقة «1» . «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . وفي ذلك ردّ على من يقول: «إن الجنة مستحقّة على الطاعات، ويجب على الله إيصال العبد إليها» «2» .. لأن الفضل لا يكون واجبا. ويقال: لمّا سمعت أسرار المؤمنين «3» هذا الخطاب «4» ابتدرت الأرواح مقتضية المسارعة من الجوارح، وصارت الجوارح مستجيبة للمطالبة، مستبشرة برعاية حقوق الله لأنها علمت أن هذا الاستدعاء من جانب الحقّ سبحانه. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 22] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) المصيبة حصلة «5» تقع وتحصل. فيقول تعالى: لا يحصل في الأرض ولا في أنفسكم شىء   (1) هكذا أيضا يرى ابن القيم فى (اجتماع الجيوش الإسلامية ص 52) . والأشاعرة والسلف يرون ذلك ويرون أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وأنهما باقيتان. (2) هذا رأى المعتزلة الذين اعتبروا ذلك من مقتضيات العدل الإلهي. (3) هكذا في م وهي في ص (الموحدين) . (4) هكذا في ص وهي في م (الخطاة) وواضح فيها خطأ الناسخ لأن الأمر متعلق بالفعل (سابقوا ... ) (5) بمعنى حادث يحصل، وهي فى (خصلة) بالخاء والصواب حصلة. (انظر ما يقوله القشيري في سورة التغابن عند «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ» على معنى: (خصل الهم خصلا وخصلة) أي وقع بلزق الهدف أو أصابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ على الوجه الذي سبق به العلم، وحقّ فيه الحكم فقبل أن نخلق ذلك أثبتناه في اللوح المحفوظ. فكلّ ما حصل في الأرض من خصب أو جدب، من سعة أو ضيق، من فتنة أو استقامة وما حصل في النفوس من حزن أو سرور، من حياة أو موت كلّ ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل وقوعه بزمان طويل. وفي قوله: «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» دليل على أن أكساب العباد مخلوقة لله سبحانه. وللعبد فى العلم بأنّ ما يصيبه: من بسط وراحة وغير ذلك من واردات القلوب من الله- أشدّ السرور وأتمّ الأنس حيث علم أنه أفرد بذلك بظهر غيب منه، بل وهو في كنز العدم، ولهذا قالوا: سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبى للصبابة معهدا «1» قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 23] لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) عدم الفرحة بما آتاهم هو من صفات المتحررين من رقّ النّفس، فقيمة الرجال تتبين بتغيّرهم- فمن لم يتغير بما يرد عليه- مما لا يريده- من جفاء أو مكروه أو محنة فهو كامل، ومن لم يتغيّر بالمسارّ كما لا يتغير بالمضارّ، ولا يسرّه الوجود كما لا يحزنه العدم- فهو سيّد وقته «2» . ويقال: إذا أردت أن تعرف الرجل فاطلبه عند الموارد فالتغيّر علامة بقاء النّفس بأيّ وجه كان: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» .   (1) وهكذا نرى أن الجبرية عند الصوفية ترتبط بالمحبة القديمة، فالله البارئ الخالق للعبد من العدم.. لن يريد به إلا الخير ... وحتى لو أصاب العبد تلف ... فمرحبا به فهو تلف في سبيل المحبوب. (2) التغير من علامات التلوين، والثبات في المسار والمضار- عند تقلب الأحوال على العارف- من علامات التمكين. فسادات الوقت هم أهل التمكين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 فالاختيال من علامات بقاء النفس ورؤيتها «1» ، والفخر (ناتج) «2» عن رؤية ما به يفتخر. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 24] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) بخلوا بكتمان صفة نبيّنا صلى الله عليه وسلم وأمروا أتباعهم بذلك، وذلك لمّا خافوا من كساد سوقهم وبطلان رياستهم. «ومن يتولّ.. عن الإيمان، أو إعطاء الصّدقة «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . والبخل- على لسان العلم- منع الواجب «3» ، فأمّا على بيان هذه الطائفة «4» فقد قالوا: البخل رؤية قدر للأشياء، والبخيل الذي يعطى عند السؤال «5» ، وقيل: من كتب على خاتمه اسمه فهو بخيل «6» . قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) أي أرسلناهم مؤيّدين بالحجج اللائحة والبراهين الواضحة، وأزحنا العلّة لمن أراد سلوك الحجّة المثلى، ويسّرنا السبيل على من آثر اتّباع الهدى. وأنزلنا معهم الكتب المنزّلة، و «الْمِيزانَ» : أي الحكم بالقرآن، واعتبار العدل والتسوية بين الناس. «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» : فلا يظلم أحد أحدا.   (1) هكذا في ص وهي أصوب من (زينتها) التي في م، فرؤية النفس آفة يحذر منها أرباب الطريق- خاصة أهل الملامة. (2) إضافة من عندنا حتى يتضح السياق. (3) يقصد منع الزكاة المفروضة حسب علوم الشريعة. [ ..... ] (4) يقصد طائفة الصوفية. (5) أي لا ينظر حتى يسأله سائل، وإنما هو يعطى دائما دون انتظار لدعوة داع أو سؤال سائل. (6) لأنه ينبغى أن يكون مستعدا لاعضائه لغيره عند أي ظرف من الظروف، والمقصود أن يكون في العبد إيثار الفتيان (راجع فصل الفتوة في رسالة القشيري) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 قوله جل ذكره: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» . «أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» : أي خلقنا الحديد. ونصرة الله هي نصرة دينه، ونصرة الرسول باتّباع سنّته. «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» : أقوى من أن ينازعه شريك، أو يضارعه في الملك مليك، وأعزّ من أن يحتاج إلى ناصر. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) أي: أرسلنا نوحا، ومن بعده إبراهيم، وجعلنا من نسلهما النبوّة والكتاب. «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ» . أي: مستجيب. «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . خرجوا عن الطاعة. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 27] ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) أي: أرسلنا بعدهم عيسى ابن مريم. «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» . بيّن أنّه لم يأمرهم بالرهبانيّة «1» بل هم الذين ابتدعوها   (1) الرهبانية هى: الفعلة المنسوبة إلى الرّهبان وهو الخائف- صيغة فعلان من رهب مثل خشيان من خشى، وكانوا يفرون إلى الجبال والصحراوات ليخلصوا من الفتنة في دينهم، ويقطعون أنفسهم عن الزواج والنسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 ثم قال: «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» . هم الذين انفردوا بما عقدوه معنا (أن يقوموا بحقّنا) «1» «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا. «كِفْلَيْنِ» : أي نصيبين نصيبا على الإيمان بالله، وآخر على تصديقهم وإيمانهم بالرّسل. قوله جل ذكره: [سورة الحديد (57) : آية 29] لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ومعناه: يعلم أهل الكتاب، و «لا» صلة. أي: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شىء من فضل الله «2» ، فإن الفضل بيد الله. و «اليد» هنا بمعنى: القدرة، فالفضل بقدرة الله.   (1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م. (2) ونظيره قول ابن جنى فى «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» أي ليعلموا فهى مؤكدة قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى. (الإتقان للسيوطى ح 1 ص 171) ط الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 والإشارة في هذا: اتّقوا الله بحفظ الأدب معه، ولا تأمنوا مكره أن يسلبكم ما وهبكم من أوقاتكم. وكونوا على حذر من بغتات تقديره في تغيير ما أذاقكم من أنس محبته. واتّبعوا السّفراء والرّسل، وحافظوا عل اتّباعهم حتى يؤتيكم نصيبين من فضله: عصمة ونعمة فالعصمة من البقاء عنه، والنعمة هي البقاء به. ويقال: يؤتكم نصيبين: نصيبا من التوفيق في طلبه، ونصيبا من التحقيق في وجوده «1»   (1) (الوجود) هنا ليس معناه (ضد العدم) بل هو أعلى درجات الشهود، فالتواجد بداية، والوجد واسطة والوجود نهاية (انظر الرسالة ص 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 سورة المجادلة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من عرفها بذل الرّوح في طلبها- وإن لم يحظ بوصولها، كلمة من طلبها اكتفى بالطلب من «1» قبولها. كلمة جبّارة لا تنظر إلى كلّ أحد، كلمة قهّارة لا يوجد من دونها ملتحد. كلمة منها بلاء الأحباب- لكن بها شفاء الأحباب. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) لمّا صدقت «2» فى شكواها إلى الله وأيست من استكشاف ضرّها من غير الله أنزل الله في شأنها: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ..» . تضرّعت إلى الله، ورفعت قصّتها إلى الله، ونشرت غصّتها «3» بين يدى الله- فنظر إليها الله، وقال: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» . ويقال: صارت فرجة «4» ورخصة للمسلمين إلى القيامة في مسألة الظّهار «5» ، وليعلم العالمون أنّ أحدا لا يخسر على الله. وفي الخبر: أنها قالت: يا رسول الله، إنّ أوسا تزوّجنى شابّة غنية ذات أهل،   (1) وتقدير الكلام: اكتفى من القبول بالطلب، أي اكتفى أن يشرف بطلبها وعلى الله إتمام الفضل بالقبول وهذا أساس هام في منهج الطالبين والسالكين. (2) هى خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخى عبادة. (3) هكذا في ص وهي في م (قصتها) وقد آثرنا ما جاء في م لتلوين الكلام وخدمة السياق. (4) فى النسختين (فرحة) ولا بأس بها في المعنى ولكننا نشعر أن (فرجة) تدعم السياق على نحو آكد. (5) ظاهر امرأته ظهارا أي قال لها: أنت عليّ كظهر أمي أي أنت حرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 ومال كثير، فلما كبرت سنّى «1» ، وذهب مالى، وتفرّق أهلى جعلنى عليه كظهر أمّه، وقد ندم وندمت، وإنّ لى منه صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم- فى رواية-: ما أمرت بشىء في شأنك. وفي رواية أخرى أنه قال لها: بنت عنه (أي حرمت عليه) . فترددت إلى رسول الله (ص) فى ذلك، وشكت.. إلى أن أنزل الله حكم الظّهار. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) قول الذين يقولون لنسائهم- جريا على عادة أهل الشّرك- أنت عليّ كظهر أمي ... هذا شىء لم يحكم الله به ولا هذا الكلام في نفسه صدق، ولم يثبت فيه شرع، وإنما هو زور محض وكذب صرف. فعلم الكافة أن الحقائق بالتلبيس لا تتعزّز «2» والسّبب إذا لم يكن صحيحا فبالمعاودة لا يثبت فالمرأة لمّا سمعت من رسول الله (ص) قوله: بنت عنه- كان واجبا عليها السكون والصبر ولكنّ الضرورة أنطقتها وحملتها على المعاودة، وحصلت من ذلك مسألة: وهي أن كثيرا من الأشياء يحكم فيها ظاهر العلم بشىء ثم تغيّر الضرورة ذلك الحكم لصاحبها «3» . قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 3] وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)   (1) وفي رواية: خلا سنّى ونثرت بطني- أي كثر ولدي. (2) ربما كانت في الأصل (لا تتقرر) ومع ذلك فالمعنى هكذا مقبول. [ ..... ] (3) هذه غمزة رقيقة بأولئك المتشبثين بالظواهر، ودعوة إلى التريث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 الظّهار- وإن لم يكن له في الحقيقة أصل، ولا بتصحيحه نطق أو دلالة شرع، فإنه بعد ما رفع أمره إلى الرسول (ص) ولوّح بشىء ما، وقال فيه حكمه، لم يخل الله ذلك من بيان ساق به شرعه فقضى فيه بما انتظم جوانب الأمر كلّه. فارتفاع الأمر حتى وصوله إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والتحاكم لديه حمّل المتعدّى عناء فعلته، وأعاد للمرأة حقّها، وكان سبيلا لتحديد المسألة برمّتها.. وهكذا فإنّ كلّ صعب إلى زوال.. وكلّ ليلة- وإن طالت- فإلى إسفار «1» . قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 5] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) الذين يخالفون أمر الله ويتركون طاعة رسول الله أذلّوا وخذلوا، كما أذلّ الذين من قبلهم من الكفّار والعصاة. وقد أجرى الله سنّته بالانتقام من أهل الإجرام فمن ضيّع للرسول سنّة، وأحدث فى دينه بدعة انخرط في هذا السلك، ووقع في هذا الذّلّ. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 6] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) يقال: إذا حوسب أحد في القيامة على عمله تصور له ما فعله وتذكّره، حتى كأنه قائم فى تلك الحالة عن بساط الزّلّة، فيقع عليه من الخجل والنّدم ما ينسى في جنبه كلّ عقوبة.   (1) حدث تدخل من جانبنا في ترميم هذه الفقرة التي جاءت في النسختين منبهمة الكتابة والمعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 فسبيل المسلم ألا يحوم حول مخالفة أمر مولاه، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فلتكن زلّته على بال، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 7] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) معيّة الحقّ- سبحانه- وإن كانت على العموم بالعلم والرواية، وعلى الخصوص بالفضل والنصرة- فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثر عظيم، ولهم إلى أن ينتهى الأمر بهم إلى التولّه «1» فالوله فالهيمان في غمار سماع هذا عيش راغد. ويقال: أصحاب الكهف- وإن جلّت رتبتهم واختصت من بين الناس مرتبتهم- فالحقّ سبحانه يقول: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «2» ولمّا انتهى إلى هذه الآية قال: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ ... » فشتّان بين من رابعه كلبه وبين من رابعه ربّه!! ويقال: أهل التوحيد، وأصحاب العقول من أهل الأصول يقولون: الله واحد لا من طريق العدد «3» ، والحقّ يقول: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ... » ويقال: حيثما كنت فأنا معك إن كنت في المسجد فأنا معك، وإن كنت في المصطبة فأنا معك، إن طلب العلماء   (1) وردت التأويل في ص والتأول في م والصحيح- فى نظرنا- أن تكون التولّه فهو المنزلة التي تسبق الوله والهيمان. (2) آية 22 سورة الكهف. (3) الواحد على الحقيقة ليس عددا لأن العدد هو ما بلغ نصف مجموع حاشيتيه، وليس قبل الواحد شىء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 التأويل «1» وشوّشوا قلوب أولى المواجيد فلا بأس- فأنا معهم. إن حضرت المسجد فأنا معك بإسباغ النعمة ولكن وعدا، وإن أتيت المصطبة فأنا معك بالرحمة وإسبال ستر المغفرة ولكن نقدا. هبك تباعدت وخالفتنى ... تقدر أن تخرج عن لطفى؟! قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 8] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) آذوا قلوب المسلمين بما كانوا يتناجون به فيما بينهم «2» ، ولم تكن في تناجيهم فائدة إلا قصدهم بذلك شغل قلوب المؤمنين، ولم ينتهوا عنه لمّا نهوا عنه، وأصرّوا على ذلك ولم ينزجروا، فتوعّدهم الله على ذلك، وتكون عقوبتهم بأن تتغامز الملائكة في بابهم فيما بينهم، وحين يشاهدون ذلك تترجّم ظنونهم، ويتعذّبون بتقسّم قلوبهم، ثم لا ينكشف الحال لهم إلّا بما يزيدهم حزنا على حزن، وأسفا على أسف. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إنما قبح ذلك منهم وعظم الخطر لأنه تضمّن إفساد ذات البين، وخير الأمور ما عاد بإصلاح ذات البين، وبعكسه إذا كان الأمر بضدّه.   (1) «فإن حجج أهل هذه الطائفة أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب. والناس: إما أصحاب النقل والأثر، وإما أرباب العقل والفكر ... وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذى للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه موجود، فهم من أهل الوصال والناس أهل الاستدلال» الرسالة القشيرية ص 198 وانظر تذكرة الحفاظ للذهبى ح 4 ص 15. (2) كان اليهود والمنافقون يتغامزون فيما بينهم وبأينهم إغاظة للمؤمنين، وكانوا إذا أقبلوا على الرسول قالوا له: السام عليك يا محمد ... والسام هو الموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 10] إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) النجوى من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا. وإذا كانت المشاهدة غالبة، والقلوب حاضرة، والتوكل صحيحا والنظر من موضعه صائبا فلا تأثير لمثل هذه الحالات، وإنما هذا للضعفاء. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) «1» لكمال رحمته بهم وتمام رأفته عليهم، علّمهم مراعاة حسن الأدب بينهم فيما كان من أمور العادة (دون أحكام العبادة) «2» فى التفسّح في المجالس والنظام في حال الزّحمة والكثرة ... وأعزز بأقوام أمرهم بدقائق الأشياء بعد قيامهم بأصول الدين وتحقّقهم بأركانه! قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) «3» لمّا كان الإذن في النجوى مقرونا ببذل المال امتنعوا وتركوا، وبذلك ظهرت جواهر   (1) (انشزوا) أي: انهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا من مجلسه صلى الله عليه وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه، أو انهضوا إلى الصلاة، أو إلى الجهاد، أو إلى أعمال الخير. (2) هذه موجودة في م وغير موجودة في ص. (3) رخّص بعدئذ في المناجاة من غير صدقة. وقيل: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل: ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ.. ويحكى: أن عليا كرّم الله وجهه كان يتصدّق بدرهم كلّما ناجى الرسول- فى بداية الأمر ثم توقّف لمّا نسخت الآية، وأزيلت المؤاخذة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 الأخلاق ونقاوة الرجال- ولقد قال تعالى: «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) من وافق مغضوبا عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو الغضبان فمن تولّ مغضوبا عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هوانا وخسرانا. «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هذا وصف للمنافقين «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» أي وقاية وسترا ومن استتر بجنّة طاعته لتسلم له دنياه فإنّ سهام التقدير من ورائه تكشفه من حيث لا يشعر.. فلا دينه يبقى، ولا دنياه تسلم، ولقد قال تعالى: «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» «2» . قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 18] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) عقوبتهم الكبرى ظنّهم أنّ ما عملوا مع الخلق يتمشّى أيضا في معاملة الحقّ، ففرط الأجنبية وغاية الجهل أكبّتهم على مناخرهم في وهدة ندمهم.   (1) آية 37 سورة محمد. (2) آية 10 سورة آل عمران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 19] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إذا استحوذ الشيطان على عبد أنساه ذكر الله. والنّفس إذا استولت على إنسان أنسته الله. ولقد خسر حزب الشيطان، وأخسر منه من أعان نفسه- التي هي أعدى عدوّه، إلّا بأن يسعى في قهرها لعله ينجو من شرّها. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 20] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) من أرمته شقوته لم تنعشه قوّته، ومن قصمه التقدير لم يعصمه التدبير، ومن استهان بالدّين انخرط في سلك الأذلّين. قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 21] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) الذي ليس له إلا التدبير ... كيف تكون له مقاومة مع التقدير؟ «1» . قوله جل ذكره: [سورة المجادلة (58) : آية 22] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) من جنح إلى منحرف عن دينه، أو داهن مبتدعا في عهده نزع الله نور التوحيد من قلبه فهو في خيانته جائر على عقيدته، وسيذوق قريبا وبال أمره. «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» . خلق الله الإيمان في قلوب أوليائه وأثبته، ويقال: جعل قلوبهم مطرّزة باسمه ... وأعزز بحلّة لأسرار قوم طرازها اسم «الله» !!   (1) التدبير للخلق والتقدير للحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 سورة الحشر «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز- الكون بجملته في طلبه.. وهو عزيز. الشموس والأقمار والنجوم، والليل والنهار، وجميع ما خلق الله من الأعيان والآثار متنادية على أنفسها: نحن عبيده ... نحن عبيد من لم يزل.. نريد من لم يزل. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) قدّس الله ونزّهه كلّ شىء خلقه فكلّ ما خلقه جعله على وحدانيته دليلا، ولمن أراد أن يعرف إلهيته طريقا وسبيلا. أتقن «2» كلّ شىء وذلك دليل علمه وحكمته، ورتّب كلّ شىء، وذلك شاهد على مشيئته وإرادته. «وَهُوَ الْعَزِيزُ» فلا شبيه يساويه، ولا شريك له في الملك ينازعه ويضاهيه. «الْحَكِيمُ» الحاكم الذي لا يوجد في حكمه عيب، ولا يتوجّه عليه عتب «3» . قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 2] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) هم أهل النضير، وكانوا قد عاهدوا النبيّ (ص) ألّا يكونوا عليه، ثم بعد أحد نقضوا   (1) ويسميها ابن عباس سورة النضير (البخاري ح 3 ص 133) . [ ..... ] (2) هكذا في ص وهي في م (أيقن) وهي خطأ في النسخ. (3) هكذا في ص وهي في م (عيب) وهي خطأ في النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 العهد، وبايعوا أبا سفيان وأهل مكة، فأخبر الله تعالى رسوله بذلك، فبعث صلوات الله عليه إليهم محمد بن مسلمة، فأوهم أنه يشكو من الرسول في أخذ الصّدقة. وكان رئيسهم كعب ابن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة (غيلة) ، وغزاهم «1» رسول الله (ص) وأجلاهم عن حصونهم المنيعة وأخرجهم إلى الشام، وما كان المسلمون يتوقّعون الظّفر عليهم لكثرتهم، ولمنعة حصونهم. وظلّوا يهدمون دورهم بأيديهم ينقبون ليخرجوا، ويقطعون أشجارهم ليسدوا النقب، فسمّوا أول الحشر، لأنهم أول من أخرج من جزيرة العرب وحشر إلى الشام. قال جل ذكره: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» . كيف نصر المسلمين- مع قلّتهم- عليهم- مع كثرتهم. وكيف لم تمنعهم حصونهم إذا كانت الدائرة عليهم. وإذا أراد الله قهر عدوّ استنوق «2» أسده. ومن مواضع العبرة في ذلك ما قاله: «ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا» بحيث داخلتكم الرّيبة فى ذلك لفرط قوّتهم- فصانهم بذلك عن الإعجاب. ومن مواضع العبرة في ذلك أيضا ما قاله «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ» فلم يكن كما ظنّوه- ومن تقوّ بمخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره «3» ومذلّته. ومن الدلائل الناطقة ما ألقى في قلوبهم من الخوف والرّعب، ثم تخريبهم بيوتهم بأيديهم علامة ضعف أحوالهم، وبأيدى المؤمنين لقوة أحوالهم، فتمت لهم الغلبة عليهم والاستيلاء على ديارهم وإجلاؤهم. هذا كلّه لا بدّ أن يحصل به الاعتبار- والاعتبار أحد قوانين الشّرع. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره.   (1) حاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم وأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير واحد ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى أريحا وأذرعات بأرض الشام. (2) الألف والسين والتاء فيها للصيرورة أي صار ناقة والمقصود: تخاذل المتجبر وصغر شأنه. (3) الصّغار- الرضى بالمذلة والهوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 ويقال: يخرّبون بيوتهم بأيديهم، وقلوبهم باتّباع شهوات نفوسهم، ودينهم بما يمزجونه به من البدع. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 3] وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) لولا أن قضى الله عليهم أن يخرجوا لعذّبهم الله بالقتل والاستئصال «1» ، ثم في الآخرة لهم عذاب النار. [سورة الحشر (59) : آية 4] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ذلك بأنهم خالفوا أمر الله. والمشاقّة أن يتحول المرء إلى شقّ آخر. فالعاصى إذا انتقل من المطيعين إلى العاصين فقد شاقّ الله، ولمن شاقّ الله عذاب النار. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 5] ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) اللّينة: كلّ نوع من النخيل ما عدا العجوة والبرنيّ «2» . لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع بعض نخيل بنى النضير قالت اليهود: ما فائدة هذا؟!. فبقى المسلمون عن الجواب، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليوضّح أن ذلك بإذن الله. فانقطع الكلام. وفي هذا دليل على أن الشريعة غير معلّلة، وأنّ الأمر الشرعيّ إذا جاء بطل التعليل،   (1) هكذا في ص وهي في م (الاستبصار) وهي خطأ في النسخ. (2) واحدته البرنيّة، وهو نوع جيد من التمر مدوّر أحمر مشرب بصفرة. (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 وسكتت الألسنة عن المطالبة ب «لم؟» وخطور الاعتراض أو الاستقباح خروج عن حدّ العرفان. والشيوخ. قالوا: من قال لأستاذه وشيخه «1» : «لم؟» لا يفلح. وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر في قلبه جولان لا يجىء منه شىء. ومن لم يتجرّد قلبه من طلب التعليل، ولم يباشر حسن الرضا بكلّ ما يجرى واستحسان ما يبدو من الغيب لسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) يريد بذلك أموال بنى النضير «2» ، فقد كانت من جملة الفيء لا من الغنيمة فالفىء ما صار إلى المسلمين من أموال الكفّار من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب، وتدخل في جملته أموالهم إذا ماتوا وصارت إلى بيت المال. والغنيمة ما كانت بقتال وإيجاف خيل وركاب. وقد خصّ رسول الله (ص) بأموال هؤلاء فقراء المهاجرين، واستأثر لنفسه بما شاء، فطابت نفوس الأنصار بذلك، وشكر الله لهم. ذلك لأن تحرّر القلب من الأعواض والأملاك صفة السادة «3» والأكابر. ومن أسرته الأخطار وبقي في شحّ نفسه فهو في تضييقه وتدنيقه، وهو فى مصادقته ومعاملته ومطالبته مع الناس دائما يبحث في استيفاء حظوظه- وهذا ليس له من مذاقات هذه الطريقة «4» شىء.   (1) لاحظ كيف يوجّه القشيري إشارته إلى المريدين، وما ينبغى أن تكون عليه علاقتهم بشيوخهم. (2) عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر رضى الله عنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله (ص) مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (ص) خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (البخاري ح 3 ص 133) . (3) هكذا في ص وهي في م (السعادة) وهي خطأ من الناسخ. (4) يقصد طريقة الصوفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 وأهل الصفاء لم تبق عليهم من هذه الأشياء بقية، وأمّا من بقي عليه منها شىء فمترسّم «1» سوقيّ.. لا متحقّق صوفيّ. قوله جل ذكره: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هذا أصل من أصول وجوب متابعته، ولزوم طريقته وسيرته- وفي العلم تفصيله. والواجب على العبد عرض ما وقع له من الخواطر وما يكاشف به من الأحوال على العلم- فما لا يقبله الكتاب والسّنّة فهو في ضلال «2» . قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 8] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدار مائة رجل. «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» وهو الرزق «وَرِضْواناً» بالثواب في الآخرة. وينصرون دين الله، «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» : والفقير الصادق هو الذي يترك كلّ سبب وعلاقة، ويفرغ أوقاته لعبادة الله، ولا يعطف «3» بقلبه على شىء سوى الله، ويقف مع الحقّ راضيا بجريان حكمه فيه.   (1) هكذا في م وهي في ص (متوسّم) . وعلى الأول يكون المعنى أنه شخص تهمه الرسوم والأشكال، أما باطنه وحقيقته فغير رسمه، وعلى الثاني يكون المعنى أنه يكتفى من التصوف بالسّمة أي العلامة كالثوب مثلا.. وباطنه غير سليم. والربط بين الصفاء والتصوف- كما يتضح من العبارة- عنصر أساسى في مذهب القشيري. (انظر الرسالة باب التصوف) . (2) نحسب أنه ليس بعد هذا مجال للتخرص بأن الصوفية يجانبون الشريعة أو يقلّلون من قدرها. فمحصول خواطرهم، ومكاشفاتهم من خلال أحوالهم ... كل ذلك ينبغى ألا يكون مرفوضا من الشرع. ومحاولة عقد لقاء بين الحقيقة والشريعة عنصر أساسى آخر في مذهب القشيري- رحمه الله. (3) عطف يعطف هنا بمعنى مال وانحنى تجاه ناحية تاركا ناحية أخرى- وهذا هو أصل معنى اللفظة قبل أن تأخذ معانيها التوسعة. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 9] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) نزلت هذه الآية في الأنصار. «تَبَوَّؤُا الدَّارَ» أي سكنوا المدينة قبل المهاجرين.. «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» من أهل مكة. «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» مما خصّص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجة أو اختلال أحوال. «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . قيل نزلت الآية «1» فى رجل منهم أهديت له رأس شاة فطاف على سبعة أبيات حتى انتهى إلى الأول. وقيل نزلت في رجل منهم نزل به ضيف فقرّب منه الطعام وأطفأ السراج ليوهم ضيفه أنه يأكل، حتى يؤثر به الضيف على نفسه وعلى عياله، فأنزل الله الآية في شأنه «2» . ويقال: الكريم من بنى الدار لضيفانه وإخوانه (واللئيم من بناها لنفسه) «3» . وقيل: لم يقل الله: ومن يتّق شحّ نفسه بل قال: ومن يوق شحّ نفسه «4» . ويقال: صاحب الإيثار يؤثر الشبعان على نفسه- وهو جائع.   (1) حديث القشيري عنه وفيما بعد عن الإيثار يصلح أن يكون متمما للفصل الذي عقده في رسالته عن الفتوة ص 113. (2) هكذا في رواية أبى هريرة (البخاري ح 3 ص 113) . (3) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م. (4) فتقاه من الله لا من نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 ويقال: من ميّز بين شخص وشخص فليس بصاحب إيثار حتى يؤثر الجميع دون تمييز. ويقال: الإيثار أن ترى أنّ ما بأيدى الناس لهم، وأن ما يحصل في يدك ليس إلا كالوديعة والأمانة عندك تنتظر الإذن فيها. ويقال: من رأى لنفسه ملكا فليس من أهل الإيثار. ويقال: العابد يؤثر بدنياه غيره، والعارف يؤثر بالجنة غيره «1» . وعزيز من لا يطلب من الحقّ لنفسه شيئا: لا في الدنيا من جاه أو مال، ولا في الجنّة من الأفضال، ولا منه أيضا ذرّة من الإقبال والوصال وغير ذلك من الأحوال «2» . ... وهكذا وصف الفقير يكون بسقوط كلّ أرب. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 10] وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أي والذين هاجروا من بعدهم، ثم أجيال المؤمنين من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة.. كلّهم يترّحمون على السلف من المؤمنين الذين سبقوهم، ويسلكون طريق الشفقة على جميع المسلمين، ويستغفرون لهم، ويستجيرون من الله أن يجعل لأحد من المسلمين في قلوبهم غلّا أي حقدا. ومن «3» لا شفقة له على جميع المسلمين فليس له نصيب من الدّين. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 11] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)   (1) ومن قبيل ذلك ما يقوله له الحسين النوري (ت 295 هـ) : «اللهم إن يكن قد سبق في مشيئتك التي لا تتخلف أن تملأ النار من الناس أجمعين فإنك قادر على أن تملأها بي وحدي وأن تذهب بهم إلى الجنة» . (2) لأن الأحوال من الله، فهى من عين الجود، كما أن المقامات ببذل المجهود. (3) سقطت (ومن) من م وهي موجودة في ص، وهي ضرورية للسياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 يريد بهم منافقى المدينة ظاهروا بنى النضير وقريظة، وعاهدوهم على الموافقة بكلّ وجه، فأخبر الله- سبحانه- أنهم ليسوا كما قالوا وعاهدوا عليه، وأخبر أنّهم لا يتناصرون، وأنّهم يتخاذلون، ولئن ساعدوهم في بعض الحروب فإنهم يتخاذلون إن رأوهم ينهزمون أمام من يجاهدونهم. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 13] لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) أخبر- سبحانه- أن المسلمين أشدّ رهبة في صدورهم من الله «1» ، وذلك لقلّة يقينهم، وإعراض قلوبهم عن الله. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 14] لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) أخبر أنهم لا يجسرون على مقاتلة المسلمين إلّا مخاتلة، أو من وراء جدران. وإنما يشتدّ بأسهم فيما بينهم، أي إذا حارب بعضهم بعضا، فأمّا معكم ... فلا. «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» . اجتماع النفوس- مع تنافر القلوب واختلافها- أصل كلّ فساد، وموجب كلّ تخاذل، ومقتضى تجاسر العدوّ.   (1) والمعنى أنهم بنفاقهم يقولون: نحن نخاف الله، ولكنهم في الحقيقة يخافون منكم خوفا أشدّ من خوفهم من الله، وذلك لقلة يقينهم ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 واتفاق القلوب والاشتراك في الهمّة والتساوي في القصد يوجب كلّ ظفر وكلّ سعادة.. ولا يكون ذلك للأعداء قطّ فليس فيهم إلا اختلال كلّ حال، وانتقاض كلّ شمل. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 15] كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) مثل بنى قريظة كمثل بنى النضير «1» ذاق النضير وبال أمرهم قبل قريظة بسنة «2» وذاق قريظة بعدهم وبال أمرهم. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 16] كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) أي مثل هؤلاء المنافقين مع النضير- فى وعدهم بعضهم لبعض بالتناصر- كمثل الشيطان «إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ ... » . وكذلك أرباب الفترة وأصحاب الزّلّة وأصحاب الدعاوى.. هؤلاء كلّهم في درجة واحدة فى هذا الباب- وإن كان بينهم تفاوت- لا تنفع صحبتهم في الله قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» «3» وكلّ أحد- اليوم- يألف شكله فصاحب الدعوى إلى صاحب الدعوى، وصاحب المعنى إلى صاحب المعنى. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) .   (1) يرى النسفي أن: «مثلهم كمثل أهل بدر» (النسفي- ح 4 ص 243) . (2) وكان ذلك عقب مرجع النبي (ص) من الأحزاب ففى رواية عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما رجع النبي (ص) من الخندق، ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فاخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا- وأشار إلى بنى قريظة (البخاري ح 3 ص 23) . (3) آية 67 سورة الزخرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 التقوى الأولى على ذكر العقوبة في الحال والفكر في العمل خيره وشرّه «1» . والتقوى الثانية تقوى المراقبة والمحاسبة، ومن لا محاسبة له في أعماله ولا مراقبة له في أحواله.. فعن قريب سيفتضح «2» . وعلامة من نظر لغده أن يحسن مراعاة يومه ولا يكون كذلك إلّا إذا فكّر فيما عمله فى أمسه والناس في هذا على أقسام: مفكّر في أمسه: ما الذي قسم له في الأزل؟ وآخر مفكّر فى غده: ما الذي يلقاه؟؟ وثالث مستقل بوقته فيما يلزمه في هذا الوقت فهو مصطلم عن شاهده موصول بربّه، مندرج في مذكوره «3» لا يتطلّع لماضيه ولا لمستقبله، فتوقيت الوقت يشغله عن وقته «4» . قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 19] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) تركوا طاعته فتركهم في العذاب وهو الخذلال حتى لم يتوبوا.. أولئك هم الفاسقون» . قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 20] لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لا يستوى أهل الغفلة مع أهل الوصلة. وأصل كلّ آفة نسيان الربّ، ولولا النسيان لما حصل العصيان، والذي نسى أمر نفسه فهو الذي لا يجتهد في تحصيل توبته، ويسوّف فيما يلزمه به الوقت من طاعته.   (1) ويكون العبد فيها في مرحلة الغيبة (أي قبل السّكر) : فيما دام هناك وارد لثواب أو عقاب أو فكر فى حال أو مآل- فهذه في منازل السالكين دون المرحلة التالية. (2) تفيد هذه الإشارة في توضيح الفرق في الاصطلاح بين: المراقبة والمحاسبة. (3) لأن أقصى درجات الذكر أن يفنى الذاكر في المذكور، وقد اعتبرنا الأوصاف أسماء مفعول تعبيرا عن فناء الإرادة الإنسانية، وتجرد العبد من كل فعل في نفسه ولنفسه. [ ..... ] (4) ولهذا يقولون: الصوفىّ ابن وقته ومعناه أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال، قائم بما هو مطالب به فى الحين، مستسلم لما يبدوله من الغيب من غير اختيار له. ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت. (الرسالة ص 34) . (5) سيعود القشيري لاتمام إشارة هذه الآية بعد الآية التالية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 21] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) أي لو كان للجبل عقل وصلاح فكر وسرّ، وأنزلنا عليه هذا القرآن لخضع وخشع. ويجوز أن يكون على جهة ضرب المثل كما قال: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» «1» ويدل عليه أيضا قوله: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» : ليعقلوا ويهتدوا، أي بذلك أمرناهم، والمقصود بيان قسوة قلوبهم عند سماع القرآن. ويقال: ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إيّاهم بالقوة فقال: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ» لم يطق ولخشع- وهؤلاء خصصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابى «2» . قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 22] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) «الْغَيْبِ» : ما لا يعرف بالضرورة، ولا يعرف بالقياس من المعلومات «3» . ويقال: هو ما استأثر الحقّ بعلمه، ولم يجعل لأحد سبيلا إليه. «وَالشَّهادَةِ» : ما يعرفه الخلق. وفي الجملة: لا يعزب عن علمه معلوم.   (1) آية 90 سورة مريم. (2) يتصل هذا بموضوع السماع عند الصوفية، وقد عقد السراج له فصلا ممتعا فى «اللمع» ، ومن أقواله المتصلة بهذه النقطة الى أثارها القشيري يقول السراج: ألا ترى أحدهم يكون ساكنا فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق، وقد يكون من هو أقوى منه ساكنا في وجده لا يظهر منه شىء من ذلك (اللمع ص 375) ويجيب الجنيد حين سئل عن سكونه وقلة اضطرابه عند السماع: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) . (3) أي لا يعرف بالضرورة العقلية ولا بالقياس العقلي لأن العقل يستمد أحكامه من المحسات، والغيب بعيد عن المحسات، فلا سبيل للخلق إليه بوسائلهم المحدودة وحدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 23] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) الملك: ذو القدرة على الإيجاد. القدوس: المنزّه عن الآفة والنقص. السلام: ذو السلامة من النقائص، الذي يسلّم على أوليائه، والذي سلم المؤمنون من عذابه. المؤمن: الذي يصدق عبده في توحيده فيقول له: صدقت يا عبدى. والذي يصدّق نفسه في إخباره أي يعلم أنه صادق. ويكون بمعنى المصدق لوعده. ويكون بمعنى المخبر لعباده بأنه يؤمّنهم من عقوبته. المهيمن: الشاهد، وبمعنى الأمين، ويقال مؤيمن (مفيعل) من الأمن قلبت همزته هاء وهو من الأمان، ويقال بمعنى المؤمن. العزيز: الغالب الذي لا يغلب، والذي لا مثيل له، والمستحق لأوصاف الجلال، وبمعنى: المعزّ لعباده. والمنيع الذي لا يقدر عليه أحد. الجبّار: الذي لا تصل إليه الأيدى. أو بمعنى المصلح لأمورهم من: جبر الكسر. أو بمعنى القادر على تحصيل مراده «1» من خلقه على الوجه الذي يريده من: جبرته على الأمر وأجبرته. المتكبر: المتقدّس عن الآفات. قوله جل ذكره: [سورة الحشر (59) : آية 24] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .   (1) هكذا في م وهي في ص (مرات) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 هو المنشئ للأعيان والآثار. «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» : المسمّيات الحسان. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» : مضى معناهما، وقد استقصينا الكلام في معانى هذه الأسماء (فى كتابنا المسمّى: «البيان والأدلة في معانى أسماء الله تعالى» ) «1» .   (1) ما بين القوسين غير موجود في م وهو موجود في ص. وهذه أول مرة نعرف للقشيرى كتابا بهذا الاسم فلم يرد ذكره في كتب الفهارس والتراجم. وكنا نعلم حتى هذه اللحظة أن القشيري قد عالج دراسة الأسماء والصفات في كتابين فقط أولهما: التحبير في التذكير تحقيق بسيونى. والثاني: شرح أسماء الله الحسنى تحقيق الحلواني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 سورة الممتحنة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم ملك لا أصل لملكه عند حدث ولا نسل له، فعنه يرث. ملك لا يستظهر بجيش وعدد، ولا يتعزّز بقوم وعدد. ملك للخلق «1» بأجمعهم- لكنه اختار قوما- لا لينتفع بهم- بل لنفعهم، وردّ آخرين وأذلّهم بمنعهم ووضعهم: قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) «2» قال صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك «3» وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: «عاد نفسك فليس لى في المملكة منازع غيرها» . فمن عادى نفسه فقد قام بحقّ الله، ومن لم يعاد نفسه لحقته هذه الوصمة. وأصل الإيمان الموالاة والمعاداة في الله ومن جنح إلى الكفار أو إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم.   (1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الحق) وهي خطأ من الناسخ. (2) نزلت الآية في حاطب بن أبى بلتعة الذي بعث في السّرّ بكتاب مع امرأة يقال لها سارة إلى أهل مكة يحذّرهم فيه من استعداد النبي لهم والتهيؤ لقتالهم، فوضعت الكتاب في عقاص شعرها. ونزل جبريل على الرسول ليخبره بالأمر، فأرسل في إثرها فرسانه، فانتزعوا الكتاب منها. وحينما همّ عمر رضى الله عنه بضرب عنق حاطب قال الرسول: وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ ففاضت عينا عمر، ونزلت الآية. (3) ينظر الصوفية إلى النفس على أنها محلّ المعلولات (الرسالة ص 48) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 قوله جل ذكره: «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» . أنا أعلم «بِما أَخْفَيْتُمْ» من دقائق التصنّع وخفيّات الرياء. «وَما أَعْلَنْتُمْ» من التزيّن للناس. «بِما أَخْفَيْتُمْ» من الاستسرار بالزّلة، «وَما أَعْلَنْتُمْ» ، من الطاعة والبرّ. «بِما أَخْفَيْتُمْ» من الخيانة «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الأمانة. «بِما أَخْفَيْتُمْ» من الغلّ والغشّ للناس، «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الفضيحة للناس. «بِما أَخْفَيْتُمْ» من ارتكاب المحظورات، «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الأمر بالمعروف. «بِما أَخْفَيْتُمْ» من ترك الحشمة منى وقلة المبالاة باطّلاعى، وما أعلنتم من تعليم الناس ووعظهم. «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» فقد حاد عن طريق الدين، ووقع فى الكفر. قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 3] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) إن يظفروا بكم وصادفوكم يكونوا لكم أعداء، ولن تسلموا من أيديهم بالسوء ولا من ألسنتهم بالذمّ وذكر القبيح. «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» : ولن ينفعكم تودّدكم وتقرّبكم إليهم، ولا ما بينكم وبينهم من الأرحام. ثم عقوبة الآخرة تدرككم «1» .   (1) لأنكم حينئذ تكونون قد آثرتم قرابتكم بأعدائكم على حقوق الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 وكذلك صفة المخالف، ولا ينبغى للمرء أن يتعطّش إلى عشيرته- وإن داهنته في قالة، ولا أن ينخدع بتغريرها- وإن لا ينته في حالة قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 4] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) أي لكم قدوة حسنة بإبراهيم ومن قبله من الأنبياء حيث تبرّءوا من الكفار من أقوامهم فاقتدوا بهم.. إلّا استغفار إبراهيم لأبيه- وهو كافر- فلا تقتدوا به. ولا تستغفروا للكفار. وكان إبراهيم قد وعده أبوه أنه يؤمن فلذلك كان يستغفر له، فلمّا تبيّن له أنه لن يؤمن تبّرأ منه ويقال: كان منافقا.. ولم يعلم إبراهيم ذلك وقت استغفاره له. ويقال: يجوز أنه لم يعلم في ذلك الوقت أنّ الله لا يغفر للكفار. والفائدة في هذه الآية تخفيف الأمر على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتعريفهم أنّ من كانوا قبلهم حين كذّبوا بأنبيائهم أهلكهم الله، وأنهم صبروا، وأنه ينبغى لذلك أن يكون بالصبر أمرهم. قوله جل ذكره: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» . أخبر أنهم قالوا ذلك. ويصحّ أن يكون معناه: قولوا: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا» . وقد مضى القول في معنى التوكل والإنابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 5] رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) ربّنا لا تظفرهم بنا، ولا تقوّهم علينا. والإشارة في الآية: إلى الأمر بسنّة إبراهيم في السخاء وحسن الخلق والإخلاص والصدق والصبر وكلّ خصلة له ذكرها لنا. قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 7] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) وقفهم في مقتضى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ» عند حدّ التجويز ... لا حكما بالقطع، ولا دفع قلب باليأس.. ثم أمرهم بالاقتصاد في العداوة والولاية معهم بقلوبهم، وعرّفهم بوقوع الأمر حسب تقديره وقدرته، وجريان كلّ شىء على ما يريد لهم، وصدّق هذه الترجية بإيمان من آمن منهم عند فتح مكة، وكيف أسلم كثيرون، وحصل بينهم وبين المسلمين مودة أكيدة. قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9] لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) أمرهم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه، وأمّا من كان فيهم ذا خلق حسن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 أو كان منه للمسلمين وجه نفع أو رفق- فقد أمرهم بالملاينة معه. والمؤلفة قلوبهم شاهد لهذه الجملة، فإنّ الله يحب الرّفق في جميع الأمور «1» . قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمتحنهن باليمين، فيحلفن إنّهن لم يخرجن إلّا لله، ولم يخرجن مغايظة لأزواجهن، ولم يخرجن طمعا في مال. وفي الجملة: الامتحان طريق إلى المعرفة، وجواهر «2» الناس تتبيّن بالتجربة «3» . ومن أقدم على شىء من غير تجربة تحسّى كأس الندم. «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» «4» . لا توافقوا من خالف الحقّ في قليل أو كثير. قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) .   (1) قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف» . (2) هكذا في ص وهي في م (وجوابه) وهي خطأ في النسخ. (3) هكذا في ص وهي في م (المعرفة) . [ ..... ] (4) العصمة: ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر: جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 إذا جاءك النساء يبايعنك على الإسلام فطالبهنّ وشارطهنّ بهذه الأشياء. ترك الشّرك، وترك السرقة والزنا وقتل الأولاد والافتراء في إلحاق النّسب، وألا يعصينك في معروف فلا يخالفنك فيما تأمرهن به، ويدخل في ذلك ترك النياحة وشقّ الجيوب ونتف الشّعر عند المصيبة وتخميش «1» الوجوه والتبرّج وإظهار الزينة ... وغير ذلك مما هو من شعائر الدّين في الجملة. قوله جل ذكره: [سورة الممتحنة (60) : آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) الذين غضب الله عليهم هم الكفار. يئسوا من الآخرة كما يئس أصحاب القبور أن يعودوا إلى الدنيا ويبعثوا (بعد ما تبينوا سوء منقلبهم) . ويقال: كما يئس الكفار حين اعتقدوا أن الخلق لا يبعثون في القيامة «2» .   (1) خمش. أي جرح بشرته. (2) هكذا في م وهي في ص (الآخرة) وكلاهما صحيح في السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 سورة الصّف قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من وقفه الله لعرفانها لم يصبر عن ذكرها بلسانه ثم لا يفتر حتى يصل إلى المسمّى بها بجنانه: فى البداية بتأمّل برهانه لمعرفة سلطانه، ثم لا يزال يزيده في إحسانه حتى ينتهى في شأنه بالتحقق مما هو كعيانه. قوله جل ذكره: [ سورة الصف (61) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) من أراد أن يصفو له تسبيحه فليصفّ قلبه من آثار نفسه، ومن أراد أن يصفو له في الجنّة عيشه فليصفّ من أوضار ذنبه نفسه. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : الآيات 2 الى 3] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) جاء في التفاسير أنهم قالوا: لو علمنا ما فيه رضا الله لفعلنا ولو فيه كل جهد ... ثم لمّا كان يوم أحد لم يثبتوا، فنزلت هذه الآية في العتاب «1» . وفي الجملة: خلف الوعد مع كلّ أحد قبيح، ومع الله أقبح. ويقال إظهار التجلّد من غير شهود مواضع الفقر إلى الحقّ في كلّ نفس يؤذن بالبقاء عمّا حصل بالدعوى «2» ... والله يحب التبرّى من الحول والقوة.   (1) قال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيّه (ص) بثواب شهداء بدر قال بعض الصحابة: اللهم اشهد لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا ... ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بذلك. (2) أي بدعوى النّفس تسوّل له نفسه أن له في الأمر شيئا، وأن تدبيره هو الذي مكّن له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 ويقال: لم يتوعّد- سبحانه- زلّة بمثل ما على هذا حين قال: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» «1» . قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 4] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) المحبة توجب الإثار، وتقديم مراد حبيبك على مراد نفسك، وتقديم محبوب حبيبك على محبوب نفسك. فإذا كان الحقّ تعالى يحبّ من العبد أن يقاتل على الوجه الذي ذكره فمن لم يؤثر محبوب الله على محبوب نفسه- أي على سلامته- انسلخ من محبته لربّه، ومن خلا من محبة الله وقع في الشقّ الآخر، فى خسرانه. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 5] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) لمّا زاغوا بترك الحدّ أزاغ الله قلوبهم بنقض العهد. ويقال: لمّا زاغوا عن طريق الرّشد أزاغ الله قلوبهم بالصدّ والردّ والبعد عن الودّ. ويقال: لمّا زاغوا بظواهرهم أزاغ الله سرائرهم. ويقال: لمّا زاغوا عن خدمة الباب أزاغ الله قلوبهم عن التشوّق إلى البساط. ويقال: لمّا زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 6] وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)   (1) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) : «أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وقت (تمت وطالت) » قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: «هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرمون كتاب الله ولا يعلمون» . (ابو نعيم من حديث مالك بن دنيار عن ثمامة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 بشّر كلّ نبيّ قومه بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأفرد الله- سبحانه- عيسى بالذّكر فى هذا الموضع لأنه آخر نبيّ قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم: فبيّن بذلك أن البشارة به عمّت جميع الأنبياء واحدا بعد واحد حتى انتهت بعيسى عليه السلام. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 8] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) «1» فمن احتال لوهنه، أو رام وهيه انعكس عليه كيده، وانتقض عليه تدبيره. «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» : كما قالوا: ولله سرّ في علاه وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان كأنه قال: من تمنّى أن يطفئ نور الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاع الشمس بنفثه ونفخه فيه- وذلك من المحال. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 9] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) لمّا تقاعد قومه عن نصرته، وانبرى أعداؤه لتكذيبه، وجحدوا ما شاهدوه من صدقه قيّض الله له أنصارا من أمته هم: نزّاع القبائل، والآحاد الأفاضل، والسادات الأماثل، وأفراد المناقب- فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مهجهم، ولم يؤثروا عليه شيئا من كرائمهم، ووقوه   (1) حكى عطاء عن ابن عباس: أن الوحى حين أبطا على رسول الله (ص) أربعين يوما قال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود: أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره فحزن النبي (ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحى بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 بأرواحهم، (وأمدّهم الله سبحانه بتوفيقه كى ينصروا دينه، أولئك أقوام عجن الله بماء السعادة طينتهم، وخلق من نور التوحيد أرواحهم) «1» وأهلّهم يوم القيامة للسيادة على أضرابهم. ولقد أرسل الله نبيّه لدينه موضّحا، وبالحقّ مفصحا، ولتوحيده معلنا، ولجهده فى الدعاء إليه مستفرغا.. فأقرع بنصحه قلوبا نكرا، وبصّر بنور تبليغه عيونا عميا. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) سمّى الإيمان والجهاد تجارة لما في التجارة من الرّبح والخسران ونوع تكسّب من التاجر- وكذلك: فى الإيمان والجهاد ربح الجنّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الأمر بالضّدّ. وقوله: «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... » أي في ذلك جهادكم وإيمانكم واجتهادكم، وهو خير لكم. ثم بيّن الربح على تلك التجارة ما هو فقال: [سورة الصف (61) : آية 12] يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)   (1) حا بين القوسين ورد في م وسقط في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 قدّم ذكر أهمّ الأشياء- وهو المغفرة. ثم إذا فرغت القلوب عن العقوبة قال: «وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ... » فبعد ما ذكر الجنّة ونعيمها قال: «وَمَساكِنَ طَيِّبَةً» ، وبماذا تطيب تلك المساكن؟ لا تطيب إلّا برؤية الحقّ سبحانه، ولذلك قالوا: أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتمو عنها ونحن حضور! نحن في أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتمّ السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى ... أنكم غيّب ونحن حضور قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 13] وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) أي ولكم نعمة أخرى تحبونها: نصر من الله اليوم حفظ الإيمان وتثبيت الأقدام على صراط الاستقامة، وغدا على صراط القيامة. «وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» : الرؤية والزلفة. ويقال الشهود. ويقال: الوجود «1» أبد الأبد. «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» : بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل. قوله جل ذكره: [سورة الصف (61) : آية 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)   (1) لفظة (الوجود) بالمعنى الصوفي مقبولة هنا، ولكننا في ذات الوقت لا نستبعد أن تكون (الخلود) إشارة إلى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 أي كونوا أنصارا لدينه ورسوله كما أنّ عيسى لمّا استعان واستنصر الحواريين نصروه ... فانصروا محمدا إذا استنصركم. ثم أخبر أنّ طائفة من بنى إسرائيل آمنوا بعيسى فأكرموا، وطائفة كفروا فأذلّوا، وأظفر أولياء على أعدائه ... لكى يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الله سبحانه يظفر أولياءه على أعدائه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 سورة الجمعة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز إذا تجلّى لقلب عبد بوصف جماله تجمعت أفكاره على بساط جوده فلم يتفرّق بسواه «1» . ومن تجلّى لسرّه بنعت جلاله اندرجت جملته، واستهلك في وجوده فلم يشعر بكرائم دنياه ولا بعظائم عقباه.. وكم له من إنعام! وكم له من إحسان! وكما في أمثالهم: «جرى الوادي فطمّ على القريّ» «2» قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) تسبح في بحار توحيد الحقّ أسرار أهل التحقيق، وبحرهم بلا شاطىء فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح، فحازت أيديهم جواهر التفريد فرصّعوها في تاج العرفان كى يلبسوه يوم اللّقاء. «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . «الْمَلِكِ» : الملك المتفرّد باستحقاق الجبروت. «الْقُدُّوسِ» : المنزّه عن الدرك والوصول: فليس بيد الخلق إلّا عرفان الحقائق بنعت التعالي، والتأمل في شهود أفعاله، فأمّا الوقوف على حقيقة إنّيته- فقد جلّت الصمدية عن   (1) لاحظ هنا دقة استعمال الاصطلاحين (الجمع والفرق) . (2) القرى- مجرى الماء في الروضة والجمع: أقرية وأقراء وقريان، ويضرب المثل عند تجاوز الشيء حدّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 إشراف عليه، أو طمع إدراك في حال رؤيته، أو جواز إحاطة في العلم به ... فليس إلا قالة بلسان مستنطق، وحالة بشهود حقّ مستغرق «1» : وقلن لنا: نحن الأهلّة إنما ... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى «2» قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 2] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) جرّده عن كلّ تكلّف لتعلّم، وعن الاتصاف بتطلّب «3» .. ثم بعثه فيهم وأظهر عليه من الأوصاف ما فاق الجميع. فكما أيتمه في الابتداء عن أبيه وأمّه، ثم آواه بلطفه- وكان ذلك أبلغ وأتمّ- فإنه كذلك أفرده عن تكلّفه العلم- ولكن قال: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» «4» . وقال: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً» «5» ألبسه لباس العزّة، وتوّجه بتاج الكرامة، وخلع عليه حسن التولّى ... لتكون آثار البشرية عنه مندرجة «6» ، وأنوار الحقائق عليه لائحة. [سورة الجمعة (62) : آية 3] وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)   (1) هذه الفقرة التي كتبها القشيري عن (القدوس) على جانب كبير من الأهمية إذ هي توضح: أن الصوفي مهما ارتفع في معراجه الروحي لا يستشرف من (الذات) فقد جلّت الصمدية عن ذلك، وإنما هو يتحقق من شهود (الفعل) .. ولا شكّ أن أهل السنة المتشددين سيجدون في هذا النصّ ما يعطفهم نحو التصوف وأهله. (2) أي ولا نستضيف ... والمقصود أن السالكين طريق الله دائما على الدرب سائرون وأن الحق سبحانه لا وقوف على كنهه. (3) حتى ينتفى عنه سوء الظن في تعلّمه شيئا من الكتب السابقة، وأن ما يدعو إليه ثمرة قراءته. [ ..... ] (4) آية 113 سورة النساء. (5) آية 52 سورة الشورى. (6) هى هكذا في ص وفي م مشتبهة، والمقصود لتنطوى عنه آثار البشرية- لا البشرية نفسها- وتلوح عليه أنوار الحقائق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 أي بعثه في الأميين، وفي آخرين منهم وهم العجم، ومن يأتى.. إلى يوم القيامة فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافّة. قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 4] ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) يقصد به هنا النبوة، ويؤتيها «مَنْ يَشاءُ» وفي ذلك ردّ على من قال: إنها تستحقّ لكثرة طاعة الرسول- وردّ على من قال: إنها لتخصيصهم بطينتهم فالفضل ما لا يكون مستحقّا، والاستحقاق فرض «1» لا فضل. ويقال: «فَضْلُ اللَّهِ» هنا هو التوفيق حتى يؤمنوا به. ويقال: هو الأنس بالله، والعبد ينسى كلّ شىء إذا وجد الأنس. ويقال: قطع الأسباب، - بالجملة- فى استحقاق الفضل، إذ أحاله على المشيئة. قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 5] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» : ثم لم يعملوا بها. ويلحق بهؤلاء «2» فى الوعيد- من حيث الإشارة- الموسومون «3» بالتقليد في أي   (1) هكذا في ص وهي في م (فرد) وهي خطأ في النسخ إذ المقصود أنه منحه الاستحقاق فضلا منه لا (فرضا) عليه فلا وجوب على الله- كما نعرف من مذهب القشيري. (2) أي باليهود الذين لا فائدة لهم فيما يحملون من الكتب، فهى تبشر بمحمد، وهم يجحدون به. (3) هكذا في ص وهي في م (المؤمنون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 معنى شئت: فى علم الأصول، وممّا طريقه أدلة العقول، وفي هذه الطريقة «1» ممّا طريقه المنازلات. قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 7] قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) «2» هذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فصرف قلوبهم عن تمنّى الموت إلى هذه المدة دلّ على صدقه صلوات الله عليه «3» . ويقال: من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب فإذا كان لا يصل إلى لقائه إلا بالموت فتمنّيه- لا محالة- شرط، فأخبر أنهم لا يتنمونه أبدا.. وكان كما أخبر. قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 8] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الموت حتم مقضيّ. وفي الخبر: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» . والموت جسر والمقصد عند الله.. ومن لم يعش عفيفا فليمت ظريفا «4» .   (1) يقصد طريقة الصوفية. (2) أخطأ الناسخ في م وجعلها (آمنوا) . (3) والآية تؤكّد هذا مرتين باستعمال أسلوب إنشائى (فتمنوا) وأسلوب خبرى (ولا يتمنونه أبدا) . (4) سئل الجنيد عن الظرف فقال: «اجتناب كل خلق دنى واستعمال كل خلق سنى وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت» (اللمع للسراج ص 962) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) أوجب السّعى يوم الجمعة إذا نودى لها، وأمر بترك البيع «1» . ومنهم من يحمله على الظاهر أي ترك المعاملة مع الخلق «2» ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنى آخر: هو ترك الاشتغال بملاحظة الأعراض «3» ، والتناسى عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر فمنهم من يسعى إلى ذكر الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذكر الله جهرا بجهر، ويسعون إلى الله تعالى سرّا بسرّ. قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 10] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) إنما ينصرف من كان له جمع يرجع إليه، أو شغل يقصده ويشتغل به- ولكن ... من لا شغل له ولا مأوى.. فإلى أين يرجع؟ وإنما يقال: «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» إذا كان له أرب.. فأمّا من سكن عن المطالبات، وكفى داء الطّلب.. فما له وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رقّه؟! قوله جل ذكره: [سورة الجمعة (62) : آية 11] وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)   (1) هكذا في ص وهي الصواب حسب الآية، ولكنها في م (الجميع) . (2) هكذا في ص وهي في م (الحق) وهي خطأ في النسخ. (3) جمع (عرض) الحياة الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 من أسرته أخطار الأشياء استجاب لكلّ داع جرّه إليه لهو أو حمله عليه سهو ومن ملكه سلطان الحقيقة لم ينحرف عن الحضور، ولم يلتفت في حال الشهود. «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وما عند الله للعبّاد والزّهّاد- غدا «1» - خير مما «2» نالوه فى الدنيا نقدا. وما عند الله للعارفين- نقدا- من واردات القلوب وبواده «3» الحقيقة خير مما يؤمّل المستأنف «4» فى الدنيا والعقبى.   (1) ويجوز أنها في الأصل «وعدا» لتقابل «نقدا» فهذا نمط في تعبير القشيري مألوف، ومع ذلك فالوعد (غدا) . [ ..... ] (2) هكذا في ص وهي في م (ممن) والصواب (مما) . (3) البواده ما يفجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة، وهي إما موجبات فرح أو موجبات ترح، وسادات الوقت لا تغيّرهم البواده، لأنهم فوق ما يفجؤهم حالا وقوة (الرسالة- ص 44) . (4) موجودة في ص وغير موجودة في م وهي ضرورية للسياق، والمستأنف: هو المريد المبتدئ الذي مازال يفكّر في الثواب الآجل والثواب العاجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 سورة المنافقون قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من تحقّق به صدق في أقواله، ثم صدق في أعماله، ثم صدق في أخلاقه ثم صدق في أحواله، ثم صدق في أنفاسه «1» .. فصدقه في القول ألّا يقول إلّا عن برهان، وصدقه في العمل ألا يكون للبدعة عليه سلطان، وصدقه في الأخلاق ألّا يلاحظ إحسانه مع الكافّة بعين النقصان، وصدقه في الأحوال أن يكون على كشف وبيان، وصدقه في الأنفاس ألا يتنفّس إلا على وجود كالعيان «2» . قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) كذّبهم فيما قالوا وأظهروا، ولكنهم لم يشهدوا عن بصيرة ولم يعتقدوا تصديقك، فهم لم يكذبوا في الشهادة «3» ولكنّ كذبهم في قولهم: إنّهم مخلصون لك، مصدّقون لك. فصدق القالة لا ينفع مع قبح الحالة.   (1) هكذا في ص وهي في م (انعامه) والصواب ما أثبتنا بدليل ما بعده. (2) لا حظ هنا كيف تتفق إشارة البسملة مع السياق العام للسورة. (3) أي تقريرهم بأن محمدا رسول الله حقيقة ليس فيها كذب، فمن حيث الظاهر فقد نطقت ألسنتهم بالصدق، ولكن الكذب كامن في القلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 ويقال: الإيمان ما يوجب الأمان فالإيمان يوجب للمؤمن إذا كان عاصيا خلاصه من العذاب أكثره وأقلّه ... إلّا ما ينقله من (أعلى) «1» جهنم إلى أسفلها. قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 2] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) تستّروا بإقرارهم، وتكشّفوا بنفاقهم عن أستارهم فافتضحوا، وذاقوا وبال أحوالهم. قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 3] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) استضاءوا بنور الإجابة فلم ينبسط عليهم شعاع السعادة، فانطفأ نورهم بقهر الحرمان، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحكم الشقاوة. قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 4] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) أي هم أشباح وقوالب وليس وراءهم ألباب وحقائق- فالجوز «2» الفارغ مزيّن ظاهره ولكنه للعب الصبيان «3» . «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ... » وذلك لجبنهم إذ ليس لهم انتعاش بربّهم، ولا استقلال بغيرهم.   (1) سقطت (أعلى) من الناسخ في م وهي موجودة في ص. (2) هكذا في م وهي في ص «الحوض» وقد رجحنا الأولى. (3) فى هذه الإشارة تنبيه إلى قاعدة صوفية: أن العبرة بحقائق الأرواح لا بمظاهر الأشباح (أي الأجساد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» هم عدوّ لك- يا محمد- فاحذرهم، ولا يغرّنك تبسّطهم فى الكلام على وجه التودّد والتقرّب. قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 5] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سمعوا إلى ما يقال لهم على وجه التكبّر، وإظهار الاستغناء عن استغفارك لهم ... فخلّ سبيلهم فليس للنّصح فيهم مساغ، ولن يصحيهم من سكرتهم إلّا حرّ ما سيلقونه من العقوبة، فما دام الإصرار من جانبهم فإنهم: [سورة المنافقون (63) : آية 6] سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) فقد سبق العلم بذلك: قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 7] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) «1» كأنهم مربوطون بالأسباب، محجوبون عن شهود التقدير، غير متحققّين بتصريف الأيام، فأنطقهم بما خامر قلوبهم من تمنّى انطفاء نور رسول الله، وانتكاث شملهم، فتواصوا فيما بينهم بقولهم: «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» فقال تعالى «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ ... » . وليس استقلالك- يا محمد- ولا استقلال أصحابك بالمرزوقين.. بل بالرازق فهو الذي يمسككم.   (1) «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» بهذا أجاب كثيرون من أرباب الطريق كحاتم الأصم والجنيد والشبل عند ما كانوا يسأل أحدهم: من أين تأكل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 8] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) إنما وقع لهم الغلط في تعيين الأعزّ والأذلّ فتوهّموا أنّ الأعزّ هم المنافقون، والأذلّ هم المسلمون، ولكن الأمر بالعكس، فلا جرم غلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأذلّ المنافقون بقوله: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» : لله عزّ الإلهية، وللرسول عزّ النبوّة، وللمؤمنين عزّ الولاية.. وجميع ذلك لله فعزّة القديم صفته، وعزّ الرسول وعزّ المؤمنين له فعلا ومنّة وفضلا، فإذا لله العزّة جميعا. ويقال: كما أنّ عزّة الله- سبحانه- لا زوال لها فعزّة الأنبياء بأن لا عزل لهم، وعزّة المؤمنين بألا يبقى منهم مخلّد في النار. ويقال: من كان إيمانه حقيقيا فلا زوال له. ويقال: من تعزّز بالله لم يلحقه تغيّر عن حاله بغير الله. ويقال: لا عزّ إلّا في طاعة الله، ولا ذلّ إلّا في معصية الله ... وما سوى هذا فلا أصل له. قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) لا تضيّعوا أمور دينكم بسبب أموالكم وأولادكم بل آثروا حقّ الله، واشتغلوا به يكفكم أمور دنياكم وأولادكم فإذا كنت لله كان الله لك «1» .   (1) لنتذكر ما قلناه في مدخل هذا الكتاب بأن القشيري نفسه قد ضرب المثل على ذلك حين هاجر من بلده تاركا أهله في رعاية الله حينما تعرّضت عقيدته للمحنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 ويقال: حقّ الله مما ألزمك القيام به، وحقّك ضمن لك القيام به فاشتغل بما كلّفت لا بما كفيت. قوله جل ذكره: [سورة المنافقون (63) : آية 10] وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) لا تغترّوا بسلامة أوقاتكم، وترقّبوا بغتات آجالكم، وتأهّبوا لما بين أيديكم من الرحيل، ولا تعرّجوا في أوطان التسويف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 سورة التّغابن قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ ... » كلمة عزيزة من ذكرها يحتاج إلى لسان عزيز في الغيبة لا يبتذل، وفي ذكر الأغيار لا يستعمل. ومن عرفها يحتاج إلى قلب عزيز ليس في كلّ ناحية منه خليط، ولا في كلّ زاوية زبيط. قوله جل ذكره: [ سورة التغابن (64) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) المخلوقات كلّها بجملتها لله سبحانه مسبّحة ... ولكن لا يسمع تسبيحها من به طرش النكرة. ويقال: الذي طرأ صممه فقد يرجى زواله بنوع معالجة، أمّا من يولد أصمّ فلا حيلة فى تحصيل سماعه. قال تعالى: «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» «1» وقال تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» «2» . قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) منكم كافر في سابق حكمه سمّاه كافرا، وعلم أنه يكفرو أراد به الكفر ... وكذلك   (1) آية 52 سورة الروم. (2) آية 23 سورة الأنفال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 كانوا. ومنكم مؤمن في سابق حكمه سمّاه مؤمنا، وعلم في آزاله أنه يؤمن وخلقه مؤمنا، وأراده مؤمنا ... والله بما تعملون بصير. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 3] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» : أي وهو محقّ في خلقه. «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» لم يقل لشىء من المخلوقات هذا الذي قال لنا، صوّر الظاهر وصوّر الباطن فالظاهر شاهد على كمال قدرته، والباطن شاهد على جلال قربته «1» . قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 4] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) قصّروا حيلكم عن مطلوبكم، فهو تتقاصر عنه علومكم، وأنا أعلم ذلك دونكم ... فاطلبوا منّى، فأنا بذلك أعلم، وعليه أقدر. ويقال: «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» . فاحذروا دقيق الرياء، وخفيّ ذات الصدور «وَما تُعْلِنُونَ» : فاحذروا أن يخالف ظاهركم باطنكم. فى قوله «ما تُسِرُّونَ» أمر بالمراقبة بين العبد وربه. وفي قوله «ما تُعْلِنُونَ» أمر بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخلق «2» . قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)   (1) القربة هنا إشارة إلى تميز الإنسان من بين المخلوقات بقيام المحبة بمعناها الخاص بينه وبين الحق سبحانه، وقد سبق بيان ذلك في مواضع مختلفة. [ ..... ] (2) مرة أخرى ننبه إلى ضرورة فهم الفرق بين اصطلاحى: المراقبة والمحاسبة- حسب المنهج القشيري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 المراد من ذلك هو الاعتبار بمن سلف، ومن لم يعتبر عثر في مهواة من الأمل، ثم لا ينتعش إلّا بعد فوات الأمر من يده. «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ... » . شاهدوا الأمر من حيث الخلق فتطوّحوا فى متاهات الإشكال المختلفة الأحوال. ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلّصوا من تفرقة الأباطيل، واستراحوا بشهود «1» التقدير من اختلاف الأحوال ذات «2» التغيير. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 7] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) الموت نوعان: موت نفس، وموت قلب ففى القيامة يبعثون من موت النّفس، وأمّا موت القلب فلا بعث منه- عند كثير من مخلصى هذه الطائفة، قال تعالى مخبرا عنهم: «قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» «3» فلو عرفوه لما قالوا ذلك فموت قلوبهم مسرمد إلى أن تصير معارفهم ضرورية، فهذا الوقت وقت موت قلوبهم. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 8] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) «النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» : القرآن. ويجوز أن يكون ما أنزل في قلوب أوليائه من السكينة وفنون الألطاف.   (1) هكذا في ص وهي في م (من شهود) وهي خطأ من الناسخ. (2) فى النسختين (ذوى) وقد رأينا أن تكون (ذات) أو (ذوات) . (3) آية 52 سورة يس، والفرق واضح بين هذه القالة وبين ما قاله أصحاب الكهف المؤمنون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 9] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) المطيع- يومئذ- فى غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلّة «1» . وليس كلّ الغبن في تفاوت الدرجات قلّة وكثرة، فالغبن في الأحوال أكثر. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 11] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) أيّ حصلة حصلت فمن قبله خلقا، وبعلمه وإرادته حكما. ومن يؤمن بالله يهد قلبه حتى يهتدى إلى الله في السّرّاء والضّراء- اليوم- وفي الآخرة يهديه إلى الجنة. ويقال: «يَهْدِ قَلْبَهُ» للأخلاق السنيّة، والتنقّى من شحّ النّفس. ويقال: «يَهْدِ قَلْبَهُ» لاتّباع السّنّة واجتناب البدعة. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 12] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) .   (1) قال بعض الصوفية: إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربّه إلا مغبونا لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب، وفي الأثر قال النبي (ص) : «لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن، وإن كان محسنا إن لم يزدد» القرطبي ح 18 ص 138. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 طاعة الله واجبة، وطاعة الرّسل- الذين هم سفراء بينه وبين الخلق- واجبة كذلك. والأنوار التي تظهر عليك «1» وتطالب بمقتضياتها كلّها حقّ، ومن الحقّ.. فتجب طاعتها أيضا. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إذا دعوك لتجمع لهم الدنيا فهم عدوّ لك، أمّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف «2» فليسوا لكم أعداء. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 15] إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) ِتْنَةٌ» : لأنهم يشغلونكم عن أداء حقّ الله فما تبق عن الله مشغولا بجمعه فهو غير ميمون عليك. ويقال: إذا جمعتم الدنيا لغير وجهه فإنكم تشغلون بذلك عن أداء حقّ مولاكم، وتشغلكم أولادكم، فتبقون بهم عن طاعة الله- وتلك فتنة لكم ... ترومون إصلاحهم. فتفسدون أنتم وهم لا يصلحون!. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : آية 16] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) .   (1) الخطاب هنا موجعّه إلى صاحب الأحوال والكشوفات. (2) عف عفعّة وعفافا أي كفّ عما لا يحل ولا يجمل. ويقال: هم أعفّة الفقر، أي: إذا افتقروا لا يسألون. (الوسيط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا الله. والتقوى عن شهود التقوى بعد ألا يكون تقصير في التقوى غاية التقوى. «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» حتى ترتفع الأخطار «1» عن قلبه، ويتحرّر من رقّ المكونات، فأولئك هم المفلحون. قوله جل ذكره: [سورة التغابن (64) : الآيات 17 الى 18] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) يتوجّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء لبذل أموالهم، وللفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثار مراد الحقّ على مراد أنفسهم. فالغنىّ يقال له: آثر حكمى على مرادك في مالك، والفقير يقال له: آثر حكمى فى نفسك وقلبك ووقتك وزمانك. «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» جلّ شأنه.   (1) المقصود بالأخطار هنا: حسبان أن للشىء أهمية وشأنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 سورة الطّلاق قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من لا سبيل إلى وصاله، ولا غنية- فى غيره- عن فعاله، اسم من علمه وقع في كل سكون وراحة، اسم من عرفه وقع في كل اضطراب وإطاحة «1» ، العلماء بسراب علمهم استقلوا فاستراحوا، والعارفون بسلطان حكمه اصطلموا عن شواهدهم.. فبادوا وطاحوا. قوله جل ذكره: [ سورة الطلاق (65) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) الطلاق- وإن كان فراقا- فلم يجعله الحقّ محظورا ... وإن كان من وجه مكروها. وللطلاق وقتية «2» : سنّية وبدعية، ومباحة، لا سنية ولا بدعية فالسنية: أن تطلّق في طهر لم تباشر فيه طلقة واحدة، والبدعية: فى حال الحيض وطهر جومعت فيه، والمباحة: فى طهر بعد حيض ثم يطلقها من قبل أن يجامعها «3» - والطلاق أكثر من واحدة.   (1) أطاحه إطاحة أي أفناه وأذهبه. (2) أي وجوه مرتبطة بأوقات خاصة. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان ووجهان حرامان: فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا من غير جماع، وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها لا تدرى اشتمل الرّحم على ولد أم لا. (3) قال السّدىّ: نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضا تطليقة واحدة، فأمره رسول الله (ص) بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر- من قبل أن يجامعها. ويقال: إنها نزلت في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.. فلم يكن قبلها للمطلقة عدّة، وحين طلقت على عهد النبي (ص) طلقت بالعدة (هكذا في كتاب أبى داود) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 والعدّة- وإن كانت في الشريعة لتحصين ماء الزوج (محاماة على الأنساب) «1» لئلا يدخل على ماء الزوج ماء آخر- فالغالب والأقوى في معناها أنها للوفاء للصحبة الماضية في وصلة النكاح «2» . والإشارة في الآيات التالية إلى أنه بعد أن انتهت الوصلة فلا أقلّ من الوفاء مدة لهذه الصغيرة التي لم تحض، وهذه الآيسة من الحيض، وتلك التي انقطع حيضها، والحبلى حتى تلد ... كل ذلك مراعاة للحرمة: وعدّة الوفاة تشهد على هذه الجملة في كونها أطول لأن حرمة الميت أعظم «3» وكذلك الإمداد في أيام العدّة ... المعنى فيه ما ذكرنا من مراعاة الوفاء والحرمة. قوله جل ذكره: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» . العبودية: الوقوف عند الحدّ، لا بالنقصان عنه ولا بالزيادة عليه، ومن راعى مع الله حدّه أخلص الله له عهده ... «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» . قالوا: أراد ندما، وقيل: ولدا، وقيل: ميلا إليها، أولها إليه فإن القلوب تتقلب: والإشارة في إباحة الطلاق إلى أنه إذا كان الصبر مع الأشكال حقّا للحرمة المتقدمة فالخلاص من مساكنة الأمثال، والتجرّد لعبادة الله تعالى أولى وأحقّ. قوله جل ذكره: [سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)   (1) موجودة في ص وغير موجودة في م. (2) القشيري يركز جهده في استخراج إشارات في الصحبة والصاحب وغير ذلك من المعاني من آيات الطلاق غير مهم بتفاصيل هذا الموضوع الواسع الذي تعنى به كتب الفقه المتخصصة. (3) يقول القشيري في الصفحة 188 من المجلد الأول من هذا الكتاب: كانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب وفعلهم، ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بدّ من انتهاء مدة الحداد. «وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ» والإشارة فيه ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 إذا صدق العبد في تقواه أخرجه من بين أشغاله كالشعرة تخرج من بين العجين لا يعلق بها شىء. ويضرب الله تعالى على المتّقى سرادقات عنايته، ويدخله في كنف الإيواء، ويصرف الأشغال عن قلبه، ويخرجه من ظلمات تدبيره، ويجرّده من كل أمر، وينقله إلى شهود فضاء تقديره. قوله جل ذكره: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» . لم يقل: ومن يتوكل على الله فتوكّله حسبه، بل قال: فهو حسبه أي فالله حسبه أي كافيه. «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» . إذا سبق له شىء من التقدير فلا محالة يكون، وبتوكّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنّ التوكّل بنيانه على أن يكون العبد مروّح القلب غير كاره.. وهذا من أجلّ النّعم. قوله: [سورة الطلاق (65) : آية 4] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) التوكل: شهود نفسك خارجا عن المنّة «1» تجرى عليك أحكام التقدير من غير تدبير منك ولا اطّلاع لك على حكمه، وسبيل العبد الخمود والرضا دون استعلام الأمر، وفي الخبر: «أعوذ بك من علم لا ينفع» : ومن العلم الذي لا ينفع- ويجب أن تستعيذ منه- أن يكون لك شغل أو يستقبلك مهمّ من الأمر ويشتبه عليك وجه التدبير فيه، وتكون مطالبا بالتفويض- فطلبك العلم وتمنّيك أن تعرف متى يصلح هذا الأمر؟ ولأى سبب؟ ومن أيّ وجه؟ وعلى يد من؟ ... كل هذا تخليط، وغير مسلّم شىء منه للأكابر. فيجب عليك السكون، وحسن الرضا. حتى إذا جاء وقت الكشف فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينتظر العبد في هذه الحالة تعريفا في المنام أو ينظر فى ( ... ) «2» من الجامع،   (1) المنة بضم الميم هي ما في إمكان الإنسان وحيلته واستطاعته. (2) مشتبهة في النسختين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 أو يرجو بيان حاله بأن يجرى على لسان مستنطق في الوقت.. كلّ هذا ترك للأدب، والله لا يرضى بذلك من أوليائه، بل الواجب السكون. قوله جل ذكره: [سورة الطلاق (65) : آية 7] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) إذا اتسع رزق العبد فعلى قدر المكنة يطالب بالإعطاء والنفقة فمن قدر عليه رزقه- أي ضيّق- فلينفق مما آتاه الله أي من متاع البيت، ومن رأس المال- إن لم يكن من الربح، ومن ثمن الضيعة- إن لم يكن من الغلّة. ومن ملك ما يكفيه الوقت، ثم اهتمّ بالزيادة للغد فذلك اهتمام غير مرضيّ «1» عنه، وصاحبه غير معان. فأمّا إذا حصل العجز بكلّ وجه، فإن الله تعالى: لا يكلف نفسا إلّا ما آتاها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. هذا من أصحاب المواعيد- وتصديقه على حسب الإيمان، وذاك على قدر اليقين- ويقينه على حسب القسمة. وانتظار اليسر «2» من الله صفة المتوسطين فى الأحوال، الذين انحطّوا عن حدّ «3» الرضا واستواء وجود السبب وفقده، وارتقوا عن حدّ اليأس والقنوط، وعاشوا في أفياء «4» الرجال يعلّلون «5» بحسن المواعيد.. وأبدا هذه حالتهم وهي كما قلنا «6» : إن نابك الدهر بمكروهه ... قعش بتهوين تصانيفه فعن قريب ينجلى غيمه ... وتنقضى كلّ تصاريفه   (1) هكذا في ص وهي في م (مرحوم) . (2) هكذا في م وهي في ص. (البرّ) وقد آثرنا الأولى نظرا لسياق الآية ذاتها. (3) هكذا في م وهي في ص (درجة) وقد آثرنا الأولى بدليل ورودها فيما بعد. (4) هكذا في ص ولكنها في م (إفناء) والصواب الأولى. (5) أي يملّلون النفس. (6) أي أن النص الشعرى القشيري نفسه. (انظر القشيري الشاعر في كتابنا: الإمام القشيري) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 قوله جل ذكره: [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 9] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) من زرع الشوك لم يجن الورد، ومن أضاع حقّ الله لا يطاع في حظّ نفسه «1» . ومن اجترأ «2» بمخالفة أمر الله فليصبر على مقاساة عقوبة الله. قوله جل ذكره: [سورة الطلاق (65) : الآيات 10 الى 11] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) إنّ كتاب الله فيه تبيان لكلّ شىء.. فمن استضاء بنوره اهتدى، ومن لجأ إلى سعة فنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه «3» . ومن يؤمن بالله، ويعمل صالحا لله، وفي الله، فله دوام النّعمى من الله.. قال تعالى: «قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» . والرزق الحسن ما كان على حدّ الكفاية لا نقصان فيه تتعطّل الأمور بسببه، ولا زيادة فيه تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه. كذلك أرزاق القلوب. أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يشتغل به في الوقت من غير   (1) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (حق نفسه) فالحقوق لله والحظوظ للعبد. (2) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (احترق) فسياق الآية يوحى بذلك. (3) أصل الجملة (وصل إلى شفائه من داء الجهل) .. ولكن حرص القشيري على التركيب الموسيقى دفعه إلى هذه الصياغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 نقصان يجعله يتعذّب بتعطّشه، ولا تكون فيه زيادة فيكون على خطر من مغاليط لا يخرج منها إلّا بتأييد سماويّ من الله «1» . قوله جل ذكره: [سورة الطلاق (65) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) خلق سبع سموات، وخلق ما خلق وهو محقّ فيما خلق وأمر، حتى نعلم استحقاق جلاله وكمال صفاته، وأنه أمضى فيما قضى حكما، وأنه أحاط بكل شىء علما.   (1) رأى القشيري فى «الرزق الحسن» مفيد في دراسة الجانب النفسي عند الصوفية، والحدود التي يبدأ عندها الصراع الداخلى، وآفات ذلك، وعلاجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 سورة التّحريم قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» . اسم عزيز يمهل من عصاه، فإذا رجع وناداه.. أجابه ولبّاه «1» فإن لم يتوسّل بصدق قدمه في ابتداء أمره ثم تنصّل بصدق ندمه في آخر عمره أوسعه غفرا «2» ، وقبل منه عذرا، وأكمل له ذخرا، وأجزل له برّا. قوله جل ذكره: [ سورة التحريم (66) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) جاء في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم على نفسه مارية القبطية، وفي الحال حلف ألّا يطأها شهرا مراعاة لقلب حفصة حيث رأت النبي صلى الله عليه وسلم معها في يومها «3» . وقيل: حرّم على نفسه شرب العسل لمّا قالت له زوجاته، إنّا نشم منك ريح المغافير! - والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة، ويقال: بقلة كريهة الرائحة ... فعاتبه الله على ذلك. وهي صغيرة منه على مذهب من جوّز الصغائر عليه، وترك للأولى على مذهب من لم يجوّز.   (1) هكذا في م وهي في ص (أبكاه) وهي خطأ في النسخ. (2) هكذا في م وهي في ص (عفوا) وهي وإن كانت مقبولة إلا أن التركيب الموسيقى يجعلنا نؤثر (غفرا) . [ ..... ] (3) الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل الرسول (ص) بأم ولده مارية في بيت حفصة وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها فقالت: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليك فقال لها: لا تذكرى هذا لعائشة فهى حرام علىّ إن قربتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 وقيل: إنه طلّق حفصة طلقة واحدة، فأمره الله بمراجعتها، وقال له جبريل: إنها صوّامة قوّامة وقيل: لم يطلقها ولكن همّ بتطليقها فمنعه الله عن ذلك. وقيل: لمّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها: إنّى مسرّ إليك سرّا فلا تخبري أحدا: إنّ هذا الأمر يكون بعدي لأبى بكر ولأبيك. ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة، وأوحى الله له بذلك، فسأل النبيّ حفصة: لم أخبرت عائشة بما قلت؟. فقالت له: ومن أخبرك بذلك؟ قال أخبرنى الله، وعرّف حفصة بعض ما قالت، ولم يصرّح لها بجميع ما قالت، قال تعالى: «عَرَّفَ «1» بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» ، فعاتبها على بعض وأعرض عن بعض- على عادة الكرام. ويقال: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا نزلت هذه الآية كان كثيرا ما يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من كل قاطع يقطعنى عنك» . وظاهر هذا الخطاب «2» عتاب على أنّه مراعاة لقلب امرأته حرّم على نفسه ما أحلّ الله له. والإشارة فيه: وجوب تقديم حقّ الله- سبحانه- على كل شىء في كل وقت. قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : الآيات 2 الى 3] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) أنزل الله ذلك عناية بأمره عليه السلام، وتجاوزا عنه. وقيل: إنه كفّر بعتق رقبة، وعاود مارية.   (1) وفي قراءة «عرف» بدون التشديد: أي غضب فيه وجازى عليه، وهو كقولك لمن أساء إليك: لأعرفن لك ما فعلت أي: لأجازينّك عليه، وجازاها النبي بأن طلقها طلقة واحدة. وكان أبو عبد الرحمن السلمى يحصب بالحجارة من يقرأها مشددة. (2) أي «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ..» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 والله- سبحانه- أجرى سنّته بأنه إذا ساكن عبد بقلبه إلى أحد شوّش على خواصّه محلّ مساكنته غيرة على قلبه إلى أن يعاود ربّه، ثم يكفيه ذلك- ولكن بعد تطويل مدة، وأنشدوا في معناه: إذا علّقت روحى حبيبا تعلّقت ... به غير الأيام كى تسلبنّيه وقد ألقى الله في قلب رسوله صلى الله عليه وسلم تناسيا بينه وبين زوجاته فاعتزلهن «1» ، وما كان من حديث طلاق حفصة، وما عاد إلى قلب أبيها، وحديث الكفاية، وإمساكه عن وطء مارية تسعا وعشرين ليلة ... كل ذلك غيرة من الحق عليه، وإرادته- سبحانه- تشويش قلوبهم حتى يكون رجوعهم كلّهم إلى الله تعالى بقلوبهم. قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 4] إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عاتبهما على السير من خطرات القلب، ثم قال: «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ... » . «صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» من لم يكن منهم في قلبه نفاق، مثل أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. وجاء: أن عمر بن الخطاب لما سمع شيئا من ذلك قال لرسول الله: لو أمرتنى لأضربنّ عنقها! «2»   (1) دخل عليه عمر في المشربة فإذا هو مضطجع على حصير قد أثّر في جنبه، وبجواره قبضة من شعير وتكاد خزانته تخلو من كل شىء فبكى عمر وقال: يا نبيّ الله.. أنت رسول الله.. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، فقال النبي: يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ فقال عمر: إن كان يشق عليك من أمر النساء.. فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته، وأنا وأبو بكر والمؤمنون! ولم يزل يحدثه حتى تبسّم صلوات الله عليه وخرجا إلى الناس. (2) لما سمع عمر الناس بالمسجد يقولون: لقد طلق الرسول نساءه! غضب وذهب إلى بيت النبي ليعلم الأمر فذهب أولا إلى عائشة وقال: يا بنة أبى بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذى رسول الله؟ فقالت: يا بن الخطاب عليك بعيبتك، فاتجه إلى حفصة وقال: والله لقد علمت أن رسول الله لايحبك ولولا أنا لطلقك.. فبكت بكاء شديدا. وذهب إلى رسول الله قائلا: والله لئن أمر في رسول الله بضرب عنق ابنتي لفعلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 والعتاب في الآية مع عائشة وحفصة رضى الله عنهما إذ تكلمتا في أمر مارية. [سورة التحريم (66) : الآيات 5 الى 6] عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) ثم قال تعالى زيادة في العتاب وبيان القصة: قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» أي: فقّهوهم، وأدّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم. ودلّت الآية: على وجوب الأمر بالمعروف في الدّين للأقرب فالأقرب. وقيل: أظهروا من أنفسكم العبادات ليتعلّموا منكم، ويعتادوا كعادتكم. ويقال: دلّو هم على السّنّة والجماعة. ويقال: علّموهم الأخلاق الحسان. ويقال: مروهم بقبول النصيحة. «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» : الوقود: الحطب. ويقال: أمر الناس يصلح بحجرة أو مدرة، فإن أصل الإنسان مدرة، ولو أنه أقام حجرة مقام مدرة فلا غرو من فضل الله. اللهمّ فألق فيها بدلنا حجرا وخلّصنا منها. قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) إذا فات الوقت استفحل الأمر، وانغلق الباب، وسقطت الحيل.. فالواجب البدار والفرار لتصل إلى روح القرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) التوبة النصوح: هى التي لا يعقبها نقض. ويقال: هى التي لا تراها من نفسك، ولا ترى نجاتك بها، وإنما تراها بربّك. ويقال: هى أن تجد المرارة في قلبك عند ذكر الزّلّة كما كنت تجد الراحة لنفسك عند فعلها. قوله جل ذكره: «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . لا يخزى الله النبيّ بترك شفاعته، والذين آمنوا معه بافتضاحهم بعد ما قبل فيهم شفاعته. «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» عبّر بذلك عن أنّ الإيمان من جميع جهاتهم. ويقال: بأيمانهم كتاب نجاتهم: أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم، وما يخصّهم الله به من الأنوار في ذلك اليوم. «يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» : يستديمون التضرّع والابتهال في السؤال «1» . قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 9] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) أمره بالملاينة في وقت الدعوة، وقال: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «2» ثم لمّا أصرّوا- بعد بيان الحجّة- قال: «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» : لأن هذا في حال إصرارهم، وزوال أعذارهم.   (1) هذه الإشارة موجهة إلى الصوفية من بعيد كى لا يكفوا عن التضرع والابتهال قط فإن خير العمل أدومه فالاستدامة شرط أساسى لأن الطريق الصوفي طويل وشاق. (2) آية 125 سورة النحل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 10] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) لمّا سبقت لهما الفرقة يوم القسمة لم تنفعهما القربة يوم العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 11] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) قالوا: صغرت همّتها حيث طلبت بيتا في الجنة، وكان من حقّها أن تطلب الكثير.. ولا كما توهّموا: فإنها قالت: ربّ ابن لى عندك، فطلبت جوار القربة، ولبيت في الجوار أفضل من ألف قصر في غير الجوار. ومن المعلوم أنّ العنديّة هنا عنديّة القربة والكرامة.. ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره، وله خصوصية. وفي معناه أنشدوا: إنى لأحسد جاركم لجواركم ... طوبى لمن أضحى لدارك جارا يا ليت جارك باعني من داره ... شبرا لأعطيه بشبر دارا قوله جل ذكره: [سورة التحريم (66) : آية 12] وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) ختم السورة بذكرها بعد ما ذكر امرأة فرعون، وهما من جملة النساء، ولمّا كثر في هذه السورة ذكر النساء أراد الله سبحانه ألّا يخلى السورة من ذكرها تخصيصا لقدرها «1»   (1) هكذا في ص وهي في م (لذكرها) والصواب ما أثبتنا. وجميل من القشيري أن يلفت نظرنا إلى هذا الملحظ- الذي فظن- والله أعلم- أن فيه تنبيها لنساء النبي بعرض نموذجين لامرأتين صالحتين عزفتا عن الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 سورة الملك «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من لم تتعطّر القلوب إلّا بنسيم إقباله، ولم تتقطّر الدموع إلّا للوعة فراقه أو روح وصاله فدموعهم في كلتا الحالتين منسكبة، وقلوبهم في عموم أحوالهم ملتهبة وعقولهم في غالب أوقاتهم منتهبة. قوله جل ذكره: [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) تقدّس وتعالى، من إحسانه تواتر وتوالى، فهو المتكّبر في جلال كبريائه، المتجرّد فى علاء بهائه ودوام سنائه. «بِيَدِهِ الْمُلْكُ» : بقدرته إظهار ما يريد، وهو على كل شىء قدير. «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» خلق الموت والحياة، ابتلاء للخلق، يختبرهم ليظهر له شكرانهم وكفرانهم، كيف يكونان عند المحنة في الصبر وعند النعمة في الشكر- وهو العزيز الغفور. «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟»   (1) قال صلى الله عليه وسلم بشأن هذه السورة: «هى المانعة هي المنجية تنجيكم من عذاب القبر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 عرّفهم كمال قدرته بدلالات خلقه، فسمك السماء وأمسكها بلا عمد، وركّب أجزاءها غير مستعين بأحد في خلقها، وبالنجوم زيّنها، ومن استراق سمع الشياطين حصّنها، وبغير تعليم معلّم أحكمها وأتقنها. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» : لا ترى فيما خلق تفاوتا ينافى آثار الحكمة ولا يدل على كمال القدرة. ويقال: ما ترى فيها تفاوتا، فى استغنائه عن الجميع.. ما ترى فيها تفاوتا في الخلق فخلق الكثير واليسير عنده سيّان، فلا يسهل عنده القليل ولا يشقّ عليه الكثير لأنه متنزّه عن السهولة عليه ولحوق المشقة به. فأنعم النظر، وكرّر السّبر والفكر.. فلن تجد فيها عيبا «1» ولا في عزّه قصورا. قوله جل ذكره: [سورة الملك (67) : آية 5] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) زيّن السماء بالكواكب والنجوم، وزيّن قلوب أوليائه بأنواع من الأنوار والنجوم فالمؤمنون قلوبهم مزيّنة بالتصديق والإيمان ثم بالتحقيق بتأمّل البرهان، ثم بالتوفيق لطلب البيان. والعارفون قلوبهم مزيّنة بشمس التوحيد، وأرواحهم مزيّنة بأنوار التفريد، وأسرارهم مزينة بآثار التجريد «2» .. وعلى القياس: لكلّ طائفة أنوار. «وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» : فمن النجوم ما هو للشياطين رجوم، ومنها ما هو للاهتداء به معلوم.. فأخبر أن هذا القدر من العقوبة بواسطة الرجوم لا يكفى، وإنما يعذّبهم مؤبّدين في السعير.   (1) هكذا في م وهي في ص (عبثا) . (2) يميز الكلاباذى بين التفريد والتجريد فيقول (ملخصا) : التجريد: أن يتجرد بظاهره عن الأعراض وبباطنه عن الأعواض، يفعل ذلك لوجوب حقّ الله تعالى لا لعلة غيره ولا لسبب سواه، ويتجرد بسره عن المقامات والأحوال التي ينازلها. والتفريد: أن ينفرد عن الأشكال، وينفرد في الأحوال، ويتوحد في الأفعال ويغيب عن رؤية أحواله برؤية محوّلها ولا بأنس بأشكاله ولا يستوحش (التعرف ص 133) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 قوله جل ذكره: [سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) أخبر: أنهم يحتجّ عليهم بإرسال الرسل، فتقول لهم الملائكة: ألم يأتكم نذير؟ «قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ... » فأخبر أنهم لم يكن لهم سمع قبول، فاستوجبوا العقوبة لأجله «1» ، لم يسمعوا نصيحة الناصحين ولا وعظ الواعظين، ولا ما فيه لقلوبهم حياة. وفي الآية للمؤمنين بشارة لأنهم يسمعون ويعقلون ما يسمعون فإنّ من سمع بالحقّ سمع كل ما يقال عن الحق من كل من يقول عن الحق، فيحصل له الفهم لما يسمع، لأنه إذا كان من أهل الحقائق يكون سمعه من الله وبالله وفي الله. قوله جل ذكره: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» اعترفوا بذنبهم ولكن في غير وقت الاعتراف.. فلا جرم يقال لهم: «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» .   (1) من الآية ومن إشارتها يتضح: أن العقوبة لا تكون إلا بعد إرسال الرسل الذين يبسطون الحجة ويسقطون العذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 قوله جل ذكره: [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) الخشية توجب عدم القرار «1» فيكون العبد أبدا- لانزعاجه- كالحبّ على المقلى لا يقرّ ليله أو نهاره، يتوقّع العقوبات مع مجارى الأنفاس، وكلّما ازداد في الله طاعة ازداد لله خشية. قوله جل ذكره: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» خوّفهم بعلمه، وندبهم إلى مراقبته، لأنه يعلم السّرّ وأخفى، ويسمع الجهر والنجوى ... ثم قال مبيّنا: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وفي كل جزء من خلقه- من الأعيان والآثار- أدلة على علمه وحكمه. قوله جل ذكره: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» أي إذا أردتم أن تضربوا في الأرض سهّل عليكم ذلك. كذلك جعل النّفس ذلولا فلو طالبتها بالوفاق وجدتها مساعدة موافقة، متابعة مسابقة ... وقد قيل في صفتها: هى النّفس ما عوّدتها تتعود ... وللدهر أيام تذمّ وتحمد قوله جل ذكره: [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 20] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)   (1) هكذا في ص وهي في م (الفراق) والصواب ما أثبتنا- بدليل ما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 «مَنْ فِي السَّماءِ» أراد بهم الملائكة الذين يسكنون السماء، فهم موكّلون بالعذاب. وخوّفهم بالملائكة أن ينزلوا عليهم العقوبة من السماء، أو يخسفوا بهم الأرض، وكذلك خوّفهم أن يرسلوا عليهم حجارة كما أرسلوا على قوم لوط. وبيّن أنّ من كذّب قبل هؤلاء رسلهم كيف كانت عقوبتهم، ثم زاد في البيان وقال: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» أولم يروا كيف خلق الطيور على اختلاف أجناسها، واختصاصها بالطيران لأن لها أجنحة- بخلاف الأجسام «1» الأخر ... من الذي يمسكهن ويحفظهن وهن يقبضن ويبسطن أجنحتهن فى الفضاء؟ وما الذي يوجبه العقل حفظ هذه الطيور أم بقية الأجسام الأخر؟. «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» إن أراد الرحمن بك سوءا.. فمن الذي يوسّع عليكم ما قبضه، أو يمحو ما أثبته، أو يقدّم ما أخّره، أو يؤخّر ما قدّمه؟. قوله جل ذكره: [سورة الملك (67) : الآيات 22 الى 30] أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)   (1) هكذا في م وهي في ص (الأصنام) والصواب ما أثبتناه، لأن المقصود المقارنة بين الطيور وغيرها من (الأجسام) بصفة عامة. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 وخصّكم بالسمع والبصر والأفئدة، وأنتم لا تشكرون عظيم نعمه. «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» وأجاب عنه حيث قال: لا تستعجلوا العذاب، وبيّن أنهم إذا رأوه كيف يخافون وكيف يندمون. قوله جل ذكره: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ... » وإليه أمورنا- جملة- فوّضنا. «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» من الذي يأتيكم بالماء إذا صار غائرا في الأرض لا تناله الأيدى. وهذه الآيات جميعها على وجه الاحتجاج عليهم.. ولم يكن لواحد عن ذلك جواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 سورة القلم «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم كريم من شهد لطفه لم يتذلّل بعده لمخلوق، ولم يستعن فيما نابه من ضرّ أصابه أو خير أراده بمحدث مرزوق. إن أعطاه قابله بالشّكر، وإن منعه استجابه بجميل الحمد «2» . قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) «ن» قيل: الحوت الذي على ظهره الكون، ويقال: هى الدواة. ويقال: مفتاح اسمه ناصر واسمه نور. ويقال: إنه أقسم بنصرة الله تعالى لعباده المؤمنين. وأقسم بالقلم- وجواب القسم قوله: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» ما أوجب لصدره من الوحشة من قول الأعداء عنه: إنه مجنون، أزاله عنه بنفيه، ومحقّقا ذلك بالقسم عليه ... وهذه سنّة الله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم فما يقوله الأعداء فيه يردّه- سبحانه- عليهم بخطابه وعنه ينفيه.   (1) هكذا في ص، وفي م سورة ن والقلم. (2) يمكن أن يفيد ذلك في التمييز بين الشكر والحمد- كما يرى القشيري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» : أي غير منقوص.. لمّا سمت همّته صلى الله عليه وسلم عن طلب الأعواض أثبت الله له الأجر، فقال له: إن لك لأجرا غير منقوص- وإن كنت لا تريده. ومن ذلك الأجر العظيم هذا الخلق، فأنت لست تريد الأجر- وبنا لست تريد فلولا أن خصصناك بهذا التحرّر لكنت كأمثالك في أنهم في أسر الأعواض. قوله جل ذكره: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» كما عرّفه الله سبحانه أخبار من قبله من الأنبياء عرّفه أنه اجتمعت فيه متفرقات أخلاقهم فقال له: إنك لعلى خلق عظيم. ويقال: إنه عرض عليه مفاتيح الأرض فلم يقبلها، ورقّاه ليلة المعراج، وأراه جميع الملكة والجنة فلم يلتفت إليها، قال تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» فما التفت يمينا ولا شمالا، ولهذا قال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. ويقال: «لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» : لا بالبلاء تنحرف، ولا بالعطاء تنصرف احتمل صلوات الله عليه في الأذى شجّ رأسه وثغره، وكان يقول: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . وغدا كلّ يقول: نفسى نفسى وهو صلوات الله عليه يقول: أمتى أمتى. ويقال: علّمه محاسن الأخلاق بقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» «1» . سأل صلوات الله عليه جبريل: بماذا يأمرنى ربى؟ قال: يأمرك بمحاسن الأخلاق يقول لك: صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمّن ظلمك، فتأدّب بهذا فأثنى عليه وقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 6 الى 16] بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)   (1) آية 199 سورة الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 المفتون: المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون. «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» معبودك واحد فليكن مقصودك واحدا ... وإذا شهدت مقصودك واحدا فليكن مشهودك واحدا.. «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» من أصبح عليلا تمنّى أن يكون الناس كلّهم مرضى.. وكذا من وسم بكيّ الهجران ودّ أن يشاركه فيه من عاداه. «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ» وهو الذي سقط من عيننا، وأقميناه بالبعد عنا. «هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ» محجوب عنّا معذّب بخذلان الوقيعة في أوليائنا. «مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» «1» مهان بالشّحّ، مسلوب التوفيق. «مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» ممنوع الحياء، مشتّت في أودية الحرمان. «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» لئيم الأصل، عديم الفضل، شديد الخصومة بباطله، غير راجع في شىء من الخير إلى حاصله. «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»   (1) عند الجمهور- هو الوليد بن المغيرة، وكان يقول لبنيه العشرة: من أسلم منكم منعته رفدى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 (أي: لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين ... ثم استأنف الكلام فقال) «1» : إذا تتلى ... قابلها بالتكذيب، وحكم أنّ القرآن من الأساطير. «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» أي سنجعل له في القيامة على أنفه نشويها لصورته كى يعرف بها. قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 30] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) أي امتحنّاهم «2» .. حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فابتلاهم الله بالجوع، حتى أكلوا الجيف- كما بلونا أصحاب الجنة، قيل: إن رجلا من أهل اليمن كانت له جنة مثمرة وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شىء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فما أخطأه القطاف من نخله وكرمه يدعه للمساكين. وكان يجتمع منه مال، فلما مات هو قال ورثته: إنّ هذا المال تفرّق فينا، وليس يمكننا أن نفعل ما كان يفعله أبونا، وأقسموا ألا يعطوا للفقراء شيئا، فأهلك الله جنّتهم فندمو وتابوا. وقيل: أبدلهم الله جنة حسنة، فأقسموا ليصرمنّ جنّتهم وقت الصبح قبل أن تفطن المساكين، ولم يقولوا: إن شاء الله: «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» أرسل عليها من السماء آفة فأحرقت ثمارهم. وأصبحت «كَالصَّرِيمِ» أي كالليل المسودّ، فنادى بعضهم بعضا وقت الصبح: أن اغدوا على حرثكم إن أردتم الصرام، فانطلقوا   (1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.. والمعنى: لا تطعه- مع هذه النقائص والمنالب- ليساره وحظه من الدنيا وكثرة أولاده. (2) يقصد أهل مكة حين دعا عليهم الرسول: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 لا يرفعون أصواتهم فيما بينهم لئلا يسمعهم أحد. وقصدوا إلى الصرام «عَلى حَرْدٍ» أي: قادرين عند أنفسهم، ويقال: على غضب منهم على المساكين. فلمّا رأوا الجنة وقد استؤصلت قالوا: ليست هذه جنتنا!! ثم قالوا: بل هذه جنّتنا ... ولكنّا حرمنا خيرها. قال أوسطهم: أي أعدلهم طريقة وأحسنهم قولا: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ؟» أي: تستثنون وتقولون: إن شاء الله «1» . «قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، ويقولون: [سورة القلم (68) : آية 33] كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) قال تعالى: «كَذلِكَ الْعَذابُ» لأهل مكة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» : وهكذا «2» تكون حال من له بداية حسنة ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله في الوقت نشاطا، وتلوح في باطنه الأحوال. فإذا بدر منه سوء دعوى أو ترك أدب من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال ويقع في قره «3» من الأعمال. فإذا حصل منه بالعبادات إخلال، ولبعض الفرائض إهمال- انقلب حاله، وردّ من الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، فصارت صفوته قسوة. وإن كان له بعد ذلك توبة، وعلى ما سلف منه ندامة- فقد فات الأمر من يده، وقلمّا يصل إلى حاله.   (1) هذا أيضا رأى مجاهد، فجعل قول: إن شاء الله من التسبيح، وهذه هي حقيقة تقديم المشيئة، فهى تنزيه لله بأن لا شىء إلا بمشيئته. (2) هذه الإشارة موجهة إلى أرباب السلوك يقصد بها إلى التوضيح أن العبرة بالخواتيم، وينبغى الاهتمام بهذه الفقرة كلها عند بحثنا عن «وصايا القشيرى للمريدين» . (3) جمع أقره وهو ما اسودّ من الجلد وتقشّر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 ولا يبعد أن ينظر إليه الحقّ بأفضاله، فيقبله بعد ذلك رعاية لما سلف في بدايته من أحواله ... فإنّ الله تعالى رءوف بعباده. قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 37] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) الذين يتقون الشّرك والكفر، ثم المعاصي والفسق، لهم عند الله الثواب والأجر. قوله جل ذكره: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟! أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟» كيف تحكمون؟ هل لديكم حجة؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ أم لكم منا عهود فيها تحكمون؟ والمقصود من هذه الأسئلة نفى ذلك. قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 43] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) «عَنْ ساقٍ» : أي عن شدّة يوم القيامة. ويقال في التفسير: عن ساق العرش. يؤمرون بالسجود فأمّا المؤمنون فيسجدون، وأمّا الكفار فتشدّ أصلابهم فلا تنحنى. وقيل: يكشف المريض عن ساقه- وقت التوفّى- ليبصر ضعفه، ويقول المؤذّن: حيّ على الصلاة- فلا يستطيع. وعلى الجملة فقد خوّفهم بهذه القالة: إمّا عند انتهائهم في الدنيا أو ابتدائهم في الآخرة. « ... وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» يذكّرهم بذلك ليزدادوا حسرة، ولتكون الحجة عليهم أبلغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 47] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) سنقرّبهم من العقوبة بحيث لا يشعرون. والاستدراج: أن يريد الشيء ويطوى عن صاحبه وجه القصد فيه، ويدرجه إليه شيئا بعد شىء، حتى يأخذه بغتة. ويقال: الاستدراج: التمكين من النّعم مقرونا بنسيان الشكر «1» . ويقال: الاستدراج: أنهم كلما ازدادوا معصية زادهم نعمة. ويقال: ألّا يعاقبه في حال الزّلّة، وإنما يؤخّر العقوبة إلى ما بعدها. ويقال: هو الاشتغال بالنعمة مع نسيان المنعم. ويقال: الاغترار بطول الإمهال. ويقال: ظاهر مغبوط وباطن مشوّش. قوله جل ذكره: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أمهلهم.. ثم إذا أخذتهم فأخذى أليم شديد. قوله جل ذكره: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» أي: ليس عليهم كلفة مقابل ما تدعوهم إليه، وليست عليهم غرامة إن هم اتبعوك.. فأنت لا تسأل أجرا.. فما موجبات التأخّر وترك الاستجابة؟ «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟» أَمْ عِنْدَهُمُ شىء من الغيب انفردوا به وأوجب لهم أن لا يستجيبوا؟» .   (1) فى النسختين (بلسان) وهي خطأ قطعا، فقد اشتهت على كلا الناسخين. ويؤيد رأينا قول سفيان الثوري فى «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر (القرطبي ح 18 ص 251) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 قوله جل ذكره: [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام، نادى وهو مكظوم: مملوء بالغيظ على قومه. فلا تستعجل- يا محمد- بعقوبة قومك كما استعجل يونس فلقى ما لقى، وتثبّت عند جريان حكمنا، ولا تعارض تقديرنا. «لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ» أي: لولا أنّ الله رحمه بفضله لطرح بالفضاء وهو مذموم ولكن: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» فاصطفاه واختاره، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون. قوله جل ذكره: «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ» كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئا بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام، ثم جاعوا ونظروا إلى ذلك الشيء قائلين: ما أحسنه من شىء! فكان يسقط المنظور في الوقت. وقد فعلوا ذلك بالنبي صلوات الله عليه، فقالوا: ما أفصحه من رجل! ولكنّ الله سبحانه حفظه، ومن بذكره عليه «1» .   (1) ننبه إلى نقطة هامة.. ورود اسم القشيري عند القرطبي لا يعنى أنه إمامنا عبد الكريم القشيري صاحب هذا الكتاب، بل ربما كان أحد أبنائه الستة.. فكلهم أئمة. وربما كان ابنه أبا نصر عبد الرحمن (انظر القرطبي الجزء العشرين ص 54) وليس أدل على ذلك من المقارنة بين قول القشيري هنا وما جاء عند القرطبي في ح 18 ص 255 (قال القشيري: وفي هذا نظر لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض، ولهذا قال: ويقولون إنه لمجنون) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 سورة الحاقّة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة تحتاج في سماعها إلى سمع عزيز لم يستعمل في سماع الغيبة، وتحتاج فى معرفتها إلى قلب عزيز لم يتبذّل في الغفلة والغيبة، لم ينظر صاحبه بعينه إلى ما فيه رتبة، ولم تتبع نفسه اللّبس «1» والطّبّة «2» . قوله جل ذكره: [ سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) «الْحَاقَّةُ» : اسم للقيامة لأنها تحقّ «3» كلّ إنسان بعمله خيره وشرّه. «وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» : استفهام يفيد التعظيم لأمرها، والتفخيم لشأنها. قوله جل ذكره: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» ذكر في هذه السورة: الذين كذّبوا رسلهم من الأمم، وأصرّوا على كفرهم، ولم يقبلوا النصيحة من أنبيائهم، فأهلكهم، وانتقم لأنبيائه منهم. والفائدة في ذكرهم: الاعتبار بهم، والتحرّر عمّا فعلوا لئلا يصيبهم ما أصابهم. وعقوبة هذه الأمة مؤجّلة مؤخّرة إلى القيامة، ولكنّ خواصّهم عقوبتهم معجّلة فقوم   (1) هكذا في ص أما في م فهى (اللهو) . (2) هكذا في ص وهي في م (الطيبة) وقد رجحنا- وهو ترجيح بعيد- أنها قد تكون (الطّيّبة) بمعنى الحذق والمهارة الناتجين عن الحيلة والتدبير، وربما كانت (ولم يتبع مع نفسه اللين والطيبة فالنفس أعدى الأعداء) . (3) لأنها تحق كل محاق في دين الله أي كل مخاصم (وهو قول الأزهرى) . وحاقّه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق (الصحاح) . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 من هذه الطائفة إذا أشاعوا سرّا، أو أضاعوا أدبا يعاقبهم برياح الحجبة «1» ، فلا يبقى في قلوبهم أثر من الاحتشام للدّين، ولا ممّا كان لهم من الأوقات، ويصيرون على خطر في أحوالهم بأن يمتحنوا (بالاعتراض على التقدير) «2» والقسمة. وأمّا فرعون وقومه فكان عذابهم بالغرق.. كذلك من كان له وقت فارغ وهو بطاعة ربّه مشتغل، والحقّ عليه مقبل- فإذا لم يشكر النعمة، وأساء أدبه، ولم يعرف قدر ما أنعم الله به عليه ردّه الحقّ إلى أسباب التفرقة، ثم أغرقه في بحار الاشتغال فيتكدر مشربه، ويصير على خطر بأن يدركه سخط الحقّ وغضبه. قوله جل ذكره: [سورة الحاقة (69) : الآيات 11 الى 13] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وكذلك تكون منّته على خواصّ أوليائه حين يسلمهم في سفينة العافية، والكون يتلاطم فى أمواج بحار الاشتغال على اختلاف أوصافها، فيكونون بوصف السلامة، لا منازعة ولا محاسبة لهم مع أحد، ولا توقع شىء من أحد سالمون من الناس، والناس منهم سالمون. قوله جل ذكره: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ .... » بدأ في وصف القيامة والحساب.. [سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 21] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) وفي كلّ نفس مع هؤلاء القوم «3» محاسبة ومطالبة، منهم من يستحق المعاتبة، ومنهم من يستحق المعاقبة.   (1) فى الإشارة قياس على الرياح التي أهلكت عادا. (2) موجود في ص أما في م فهى (الإعراض) فقط. (3) يقصد أهل المجاهدات والمذاقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» يسلم له السرور بنعمة الله، ويأخذ في الحمد والمدح. «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» القوم- غدا- فى عيشة راضية أي مرضيّة لهم، وهؤلاء القوم- اليوم- فى عيشة راضية، والفرق بينهما أنهم- غدا- فى عيشة راضية لأنه قد قضيت أوطارهم، وارتفعت مآربهم، وحصلت حاجاتهم، وهم- اليوم- فى عيشة راضية إذ كفّوا مآربهم فدفع عن قلوبهم حوائجهم فليس لهم إرادة شىء، ولا تمسّهم حاجة. وإنما هم في روح الرضا.. فعيش أولئك في العطاء، وعيش هؤلاء في الرضاء لأنه إذا بدا علم من الحقيقة أو معنى من معانيها فلا يكون ثمة حاجة ولا سؤال. ويقال لأولئك غدا. [سورة الحاقة (69) : الآيات 24 الى 27] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ويقال لهؤلاء: اسمعوا واشهدوا ... اسمعوا منّا.. وانظروا إلينا، واستأنسوا بقربنا، وطالعوا جمالنا وجلالنا.. فأنتم بنا ولنا. قوله جل ذكره: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» هناك- اليوم- أقوام مهجورون تتصاعد حسراتهم، ويتضاعف أنينهم- ليلهم ونهارهم- فليلهم ويل ونهارهم بعاد تكدّرت مشاربهم، وخربت أوطان أنسهم، ولا بكاؤهم يرحم، ولا أنينهم يسمع.. فعندهم أنهم مبعدون ... وهم في الحقيقة من الله مرحومون، أسبل عليهم الستر فصغّرهم في أعينهم- وهم أكرم أهل القصة! كما قالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 لا تنكرن جحدى هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل قوله جل ذكره: [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 46] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) «لا» : صلة والمعنى: أقسم كأنه قال: أقسم بجميع الأشياء، لأنه لا ثالث لما يبصرون وما لا يبصرون. وجواب القسم: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» أي وجيه عند الله. وقول الرسول الكريم هو القرآن أو قراءة القرآن. وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن أي أن محمدا ليس شاعرا ولا كاهنا بل هو: «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» . قوله جل ذكره: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» أي لو كان محمد يكذب علينا لمنعناه منه وعصمناه عنه، ولو تعمّد لعذّبناه. والقول بعصمة الأنبياء واجب. ثم كان لا ناصر له منكم ولا من غيركم، وهذا القرآن: [سورة الحاقة (69) : الآيات 48 الى 51] وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) حقّ اليقين هو اليقين فالإضافة هكذا إلى نفس الشيء «1» . وعلوم الناس تختلف في الطرق إلى اليقين خفاء وجلاء فما يقال عن الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين يرجع إلى كثرة البراهين، وخفاء الطريق وجلائه، ثم إلى كون بعضه ضروريا وإلى بعضه كسبيا، ثم ما يكون مع الإدراكات «2» .   (1) لو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه كما لا تقول: هذا ورد الأحمر، فالإضافة هنا- كما يرى القشيري- إلى الشيء نفسه. فإن القرآن حق يقين ويقين حقّ. (2) انظر محاولة القشيري التفرقة بين معانيها في رسالته ص 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 سورة المعارج قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من قالها وجد جمالها، ومن شهدها شهد جلالها. وليس كلّ من قالها نالها، ولا كلّ من احتالها «1» عرف جلالها. كلمة رفيعة عن إدراك الألباب منيعة، كلمة على الحقيقة الصمدية دالّة، كلمة لا بدّ للعبد من ذكرها في كل حالة. قوله جل ذكره: [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) الباء في «بِعَذابٍ» بمعنى عن، أي سأل سائل «2» عن هذا العذاب لمن هو؟ فقال تعالى: «لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» هذا العذاب للكافرين ليس له دافع من الله ذى المعارج فهذا العذاب من الله. ومعنى «ذِي الْمَعارِجِ» ذى الفضل ومعالى الدرجات التي يبلغ إليها أولياءه. قوله جل ذكره: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» .   (1) هكذا في النسختين، ولو صحّ أنها هكذا في الأصل فربما كان المعنى: ليس كلّ من ادّعى أنه بحيلته وتدبيره ومهارته وحذقه وصل إليها قد عرف أسرارها. (2) هو النضر بن الحارث قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وربما تكون سأل بمعنى دعا، ويكون السائل هو النبي (ص) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 «الرُّوحُ» أي جبريل، فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من أيام الدنيا يعنى به يوم القيامة. ويقال: معناه يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة، والله يجرى ذلك ويمضيه في يوم واحد. ويقال: من أسفل المخلوقات إلى أعلاها مسيرة خمسين ألف سنة للناس فالملائكة تعرج فيه من أسفله إلى أعلاه في يوم واحد. قوله جل ذكره: [سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 10] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) فاصبر- يا محمد «1» - على مقاساة أذاهم صبرا جميلا. والصبر الجميل ما لا شكوى فيه. ويقال: الصبر الجميل ألا تستثقل الصبر بل تستعذبه. ويقال: الصبر الجميل ما لا ينتظر العبد الخروج منه، ويكون ساكنا راضيا. ويقال: الصبر الجميل أن يكون على شهود المبلى. ويقال: الصبر الجميل ما تجرّد عن الشكوى والدّعوى. قوله جل ذكره: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» إنّ ما هو آت فقريب، وما استبعد من يستبعد إلّا لأنّه مرتاب فأمّا الواثق بالشيء فهو غير مستبعد له. قوله جل ذكره: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» الإشارة فيه أنه في ذلك اليوم من كان في سموّ نخوته ونبوّ صولته يلين ويستكين ويضعف من كان يشرف، ويذلّ من كان يذلّ. قوله جل ذكره: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» لا يتفرّغ قريب إلى قريب فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.   (1) هكذا في ص وهي في م (بالحمد) وواضح فيها أنها اشتبهت على الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 ولا يتعهّد المساكين- فى ذلك اليوم- إلا الله. [سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 19] يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) «يُبَصَّرُونَهُمْ» أي يعرفون أقاربهم، ولكن لا ترقّ قلوب بعضهم على بعض. ويتمنّى المجرم يومئذ أن يفتدى من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من قريب ونسيب وحميم وولد، وبكلّ من في الأرض حتى يخلص من العذاب. «كَلَّا إِنَّها لَظى» اسم من أسماء جهنم. «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» «1» قلّاعة للأطراف. تكشط الجلد عن الوجه وعن العظم. قوله جل ذكره: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى» تقول جهنم للكافر والمنافق: يا فلان ... إليّ إليّ. والإشارة فيه: أنّ جهنم الدنيا تعلق بقلب المرء فتدعوه بكلاب الحرص إلى نفسه وتجرّه إلى جمعها حتى يؤثرها على نفسه وكلّ أحد له حتى لقد يبخل بدنياه على أولاده وأعزّته ... وقليل من نجا من مكر الدنيا وتسويلاتها. قوله جل ذكره: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» .   (1) والشّوى جمع شواة وهي جلدة الرأس، قال الأعشى: قالت قتيلة: ماله ... قد جللت شيبا شواته وجاء في الصحاح: الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه أي لم يصب المقتل. وقال الضحاك: تفرى الجلد واللحم عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. ونرى أن المقصود- والله أعلم. أن العذاب لا يقضى عليهم، حتى يستمر واقعا بهم إلى الأبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 وتفسيره ما يتلوه: [سورة المعارج (70) : الآيات 20 الى 25] إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) والهلع شدّة الحرص مع الجزع. ويقال هلوعا: متقلّبا في غمرات الشهوات. ويقال: يرضيه القليل ويسخطه اليسير. ويقال: عند المحنة يدعو، وعند النعمة ينسى ويسهو. «إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» استثنى منهم المصلين- وهم الذين يلازمون أبدا مواطن الافتقار من صلى بالمكان «1» . «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» وهو المتكفّف والمتعفّف. وهم على أقسام: منهم من يؤثر بجميع ماله فأموالهم لكلّ من قصد، لا يخصّون سائلا من عائل. ومنهم من يعطى ويمسك- وهؤلاء «2» منهم- ومنهم من يرى يده يد الأمانة فلا يتكلّف باختياره، وإنما ينتظر ما يشار عليه به من الأمر إمّا بالإمساك فيقف أو ببذل الكلّ أو البعض فيستجيب على ما يطالب به وما يقتضيه حكم الوقت ... وهؤلاء أتمّهم.   (1) صليت الناقة أو الحامل ونحوهما استرخى صلاها لقرب نتاجها (الوسيط) . (2) أي الذين تتحدث عنهم الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 [سورة المعارج (70) : الآيات 26 الى 33] وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وأمارتهم الاستعداد للموت قبل نزوله، وأن يكونوا كما قيل: مستوفزون على رجل كأنهمو ... فقد يريدون أن يمضوا فيرتحلوا قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» وإنما تكون صحبتهم مع أزواجهم للتّعفّف وصون النّفس، ثم لابتغاء أن يكون له ولد من صلبه يذكر الله. وشرط هذه الصحبة: أن يعيش معها على ما يهون، وألا يجرّها إلى هوى نفسه ويحملها على مراده وهواه. قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» يحفظون الأمانات التي عندهم للخلق ولا يخونون فيها. وأمانات الحق التي عندهم أعضاؤهم الظاهرة- فلا يدنّسونها بالخطايا فالمعرفة التي في قلوبهم أمانة عندهم من الحق، والأسرار التي بينهم وبين الله أمانات عندهم. والفرائض واللوازم والتوحيد.. كل ذلك أمانات. ويقال: من الأمانات إقرارهم وقت الذّرّ. ويقال: من الأمانات عند العبد تلك المحبة التي أودعها الله في قلبه. قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» شهادتهم لله بالوحدانية، وفيما بينهم لبعضهم عند بعض- يقومون بحقوق ذلك كله. قوله جل ذكره: [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 43] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) والإهطاع أن يقبل ببصره إلى الشيء فلا يرفعه عنه، وكذلك كانوا يفعلون عند النبي صلى الله عليه وسلم و «عِزِينَ» : أي خلقا خلقا، وجماعة جماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 «أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟» كلا.. إنك لا تدعو عن هذا! وليس هذا بصواب فإنهم- اليوم- كفار، وغدا يعاملون بما يستوجبون. «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ..» لا- هنا صلة، والمعنى أقسم. وقد مضى القول فى المشارق والمغارب- «إِنَّا لَقادِرُونَ» على ذلك. «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا» غاية التهديد والتوبيخ لهم. «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً» كأنهم يسرعون إلى أصنامهم، شبّه إسراعهم حين قاموا من القبور بإسراعهم إلى النّصب- اليوم- كى يقوموا بعبادتهم إياها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 سورة نوح قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم لمن قامت السماوات والأرض بقدرته، واستقامت الأسرار والقلوب بنصرته.. دلّت الأفعال على جلال شانه، وذلّت الرّقاب عند شهود سلطانه. أشرقت الأقطار بنوره في العقبى، وأشرقت الأسرار بظهوره في الدنيا، فهو المقدّس بالوصف الأعلى. قوله جل ذكره: [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أرسلنا نوحا بالنبوّة والرسالة. «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ» أي بأن أنذرهم وإرسال الرّسل من الله فضل «1» ، وله بحق ملكه أن يفعل ما أراد، ولم يجب عليه إرسال الرّسل لأن حقيقته لا تقبل الوجوب. وإرسال الرسل إلى من علم أنه لا يقبل جائز «2» ، وتكليفهم من ناحية العقل جائز «3» فنوح- علم منهم أنهم لا يقبلون.. ومع ذلك بلّغ الرسالة وقال لهم: إنى لكم نذير مبين: [سورة نوح (71) : الآيات 4 الى 7] يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7)   (1) فى النسختين (فعل) وهي صواب بدليل قوله فيما بعد: (أن يفعل) ما أراد ولكننا رجحنا (فضل) لأن القشيري يستحسن استعمال (الفضل) عند ما يتحدث عن نفى (الوجوب) على الله. (2) كى يكون ذلك عليهم حجة، قال تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» . (3) ولكن لا عقاب إلا بعد إرسال الرسل لأن العقل وحده غير كاف في قطع المعذرة (قارن ذلك بآراء المعتزلة) . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 يغفر لكم «مِنْ» ذنوبكم: من هنا للجنس لا للتبعيض كقوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» . ويقال: ما عملوه دون ما هو معلوم أنهم سيفعلونه لأنه لو أخبرهم بأنه غفر لهم ذلك كان إغراء لهم.. وذلك لا يجوز. فأبوا أن يقبلوا منه، فقال: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» بيّن أنّ الهداية ليست إليه، وقال: إن أردت إيمانهم فقلوبهم بقدرتك- سبحانك. قوله جل ذكره: «وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» وإنّى ما ازددت لهم دعاء إلا ازدادوا إصرارا واستكبارا. ويقال: لمّا دام بينهم إصرارهم تولّد من الإصرار استكبارهم، قال تعالى: «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» «1» قوله جل ذكره: [سورة نوح (71) : الآيات 8 الى 11] ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11)   (1) آية 16 سورة الحديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 ليعلم العالمون: أنّ الاستغفار قرع أبواب النعمة، فمن وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلّا بتقديم الاستغفار. ويقال: من أراد التّفضّل فعليه بالعذر والتنصّل. قوله: «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ ... » : كان نوح عليه السلام كلّما ازداد في بيان وجوه الخير والإحسان زادوا هم في الكفر والنسيان. قوله جل ذكره: [سورة نوح (71) : آية 13] ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وما لكم لا ترجون ولا تؤمّلون على توقيركم للأمر من الله لطفا ونعمة؟. [سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) ثم نبّههم إلى خلق السماوات والأرض وما فيهما من الدلالات على أنها مخلوقة، وعلى أنّ خالقها يستحقّ صفات العلوّ والعزّة. ثم شكا نوح إلى الله وقال: [سورة نوح (71) : آية 22] وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) يعنى كبراءهم وأغنياءهم الذين ضلّوا في الدنيا وهلكوا في الآخرة. [سورة نوح (71) : آية 26] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) وذلك بتعريف الله تعالى إيّاه أنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن. فاستجاب الله فيهم دعاءه وأهلكهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 سورة الجن ّ «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز به أقرّ من أقرّ بربوبيته، وبه أصرّ من أصرّ على معرفته، وبه استقرّ من استقرّ من خليقته، وبه ظهر ما ظهر من مقدوراته، وبه بطن ما بطن من مخلوقاته «2» فمن جحد فبخذلانه «3» وحرمانه، ومن وحد «4» فبإحسانه وامتنانه. قوله جل ذكره: [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) قيل: إن الجنّ كانوا يأتون السماء فيستمعون إلى قول الملائكة، فيحفظونه، ثم يلقونه إلى الكهنة، فيزيدون فيه وينقصون.. وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيّنا صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام. فلمّا بعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم ورجموا بالشّهب علم إبليس أنه وقع شىء «5» ففرّ جنوده، فأتى تسعة منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم آتوا قومهم وقالوا: إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ... إلى آخر الآيات. (وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ..» ) «6»   (1) أخطأ الناسخ في ص وجعلها (سورة المزمل) بينما التفسير جار لسورة الجن. (2) إشارة إلى الجن.. وهنا نوع من الترابط بين إيحاءات البسملة والسورة. (3) الباء هنا معناها (بسبب) أي أن الجاحد جحد بسبب خذلان الله له في القسمة. (4) هكذا في ص وهي الصواب بينما هي في م (قصد) ونحن نعلم أن القشيري يستعمل (جحد) و (وحد) متقابلين. (5) «حدث شىء في الأرض» (الترمذي) . (6) ما بين القوسين ورد في م ولم يرد في ص، والآية هي رقم 29 سورة الأحقاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» الجدّ العظمة، والعظمة استحقاق نعوت الجلال. «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» أراد بالسفيه الجاهل بالله يعنى إبليس. والشطط السّرف. «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فى كفرهم وكلمتهم بالشّرك. «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» أي ذلة وصغار فالجنّ زادوا للانس ذلّة ورهقا «1» (فكانوا إذا نزلوا يقولون: نعوذ بربّ هذا الوادي فيتوهم الجنّ أنهم على شىء فزادوهم رهقا) «2» حيث استعاذوا بهم. قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» أي ظنّوا كما ظنّ الكفار من الجن ألّا بعث ولا نشور- كما ظننتم أيها الإنس. «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» يعنى حين منعوا عن الاستماع. «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» .   (1) أي أن الجن زادوا الإنس رهقا وهو الخطيئة والإثم حين استعاذوا بغير الله. وقال مجاهد: زاد الإنس الجنّ رهقا أي طغيانا بهذا التعوذ حتّى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. (2) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 فالآن قد منعنا. «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» الاستقامة على الطريقة تقتضى إكمال النعمة وإكثار الراحة. والإعراض عن الله يوجب تنغص العيش ودوام العقوبة. قوله جل ذكره: [سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 19] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) للمسجد فضيلة، ولهذا خصّه الله سبحانه وأفرده بالذكر من بين البقاع فهو محلّ العبادة.. وكيف يحلّ العابد عنده إذا حلّ محلّ قدمه «1» ؟!. ويقال: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها، أخبر أنها لله، فلا تعبدوا بما لله غير الله. قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» لما قام عبد الله يعنى محمدا عليه السلام يدعو الخلق إلى الله كاد الجنّ والإنس يكونون مجتمعين عليه، يمنعونه عن التبليغ، قل يا محمد: [سورة الجن (72) : الآيات 21 الى 23] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) لا أقدر أن أدفع عنكم ضرّا، أو أسوق لكم خيرا.. فكلّ شىء من الله. ولن أجد من دونه ملتجأ إلا:   (1) العبارة غامضة وتحتاج إلى توضيح.. وربما قصد القشيري إلى أنه إذا كان المسجد وهو محل قدم العابد مكرما ... فما بالك بالعابد نفسه، ومحله عند الله؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» فلن ينجّينى من الله إلا تبليغى رسالاته بأمره. «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» . قوله جل ذكره: [سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) أي: لا أدرى ما توعدون من العقوبة، ومن قيام الساعة أقريب أم بعيد؟ فكونوا على حذر. ويجب أن يتوقّع العبد العقوبات أبدا مع مجارى الأنفاس ليسلم من العقوبة. قوله جل ذكره: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فيطلعه بقدر ما يريده. «لِيَعْلَمَ «1» أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» أرسل مع الوحى ملائكة قدّامه وخلفه.. هم ملائكة حفظة، يحفظون الوحى من الكهنة والشياطين، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالات التي يحملها ... والله يعلم ذلك، وأحاط علمه به.   (1) قرأ ابن عباس (ليعلم) أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 سورة المزمّل قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : الحادثات بالله حصلت، فقلوب العارفين بالله عرفت ما عرفت وأرواح الصّديقين بالله ألفت من ألفت وفهوم الموحّدين بساحات جلاله وقفت، ونفوس العابدين بالعجز عن استحقاق عبادته اتّصفت وعقول الأولين والآخرين بالعجز عن معرفة جلاله اعترفت. قوله جل ذكره: [ سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) أي: المتزمل المتلفّف في ثيابه. وفي الخبر: أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مرطّ من شعر ووبر، وقالت عائشة رضى الله عنها: كان نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله وهو يصلّى، وطول المرط أربعة عشر ذراعا «1» . «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» قم الليل إلا قليلا، نصفه بدل منه أي: قم نصف الليل، وأنقص من النصف إلى الثلث أو زد على الثلث، فكان عليه الصلاة والسلام في وجوب قيام الليل مخيّرا ما بين ثلث الليل إلى النصف وما بين النصف إلى الثلث. وكان ذلك قبل فرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بعد وجوبها على الأمة- وإن كانت بقيت واجبة على الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقال: يا أيها المتزمّل بأعباء النبوّة ... قم الليل.   (1) معنى هذا: أن السورة مدنية وليست مكية، لأن النبي لم يبن بعائشة إلا في المدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 ويقال: يا أيها الذي يخفى ما خصصناه به قم فأنذر ... فإنّا نصرناك «1» . ويقال: قم بنا ... يا من جعلنا الليل ليسكن فيه كلّ الناس ... قم أنت فليسكن الكلّ ... ولتقم أنت. ويقال: لمّا فرض عليه القيام بالليل أخبر عن نفسه لأجل أمّته وإكراما لشأنه وقدره. وفي الخبر: «أنه ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا ... » ولا يدرى التأويل للخبر «2» ، أو أنّ التأويل معلوم ... وإلى أن ينتهى إلى التأويل فللأحباب راحات كثيرة، ووجوه من الإحسان موفورة. قوله جل ذكره: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» ارتع بسرّك في فهمه، وتأنّ بلسانك في قراءته. «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» قيل: هو القرآن. وقيل: كلمة لا إله إلا الله. ويقال: الوحى وسمّاه ثقيلا أي خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان. ويقال: ثقيل أي: له وزن وخطر. وفي الخبر: كان إذا نزل عليه القرآن- وهو على ناقته- وضعت جرانها «3» ، ولا تكاد تتحرك حتى يسرّى عنه. وروى ابن عباس: أنّ سورة الأنعام نزلت مرة واحدة فبركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل القرآن وهيبته. ويقال «ثَقِيلًا» سماعه على من جحده   (1) هذان تخريجان مجازيان للفظة (المزمل) . (2) هذا الخبر فعلا كان موضع نظر فقد روى عن طريقين عن أبى هريرة على الشك، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص) : «إذا مضى شطر الليل- أو ثلثاه ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا» وفي رواية أخرى: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك، أنا الملك من ذا الذي يدعونى فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألنى فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرنى فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر» . وخرجه ابن ماجه من حديث ابن شهاب عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن الرسول (ص) قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ... » وهكذا انتظم الحديث والقرآن. [ ..... ] (3) أي: صدرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 ويقال: «ثقيلا بعبئه- إلّا على من أيّد بقوة سماوية، وربّى في حجر التقريب» قوله جل ذكره: [سورة المزمل (73) : الآيات 6 الى 9] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) أي: ساعات الليل، فكلّ ساعة تحدث فهى ناشئة «1» ، وهي أشد وطئا أي: موطّأة أي: هى أشدّ موافقة للسان والقلب، وأشدّ نشاطا. ويحتمل: هى أشدّ وأغلظ على الإنسان من القيام بالنهار. «وَأَقْوَمُ قِيلًا» أي: أبين قولا. ويقال: هى أشدّ مواطأة للقلب وأقوم قيلا لأنها أبعد من الرياء، ويكون فيها حضور القلب وسكون السّرّ أبلغ وأتمّ. قوله جل ذكره: «إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا» أي: سبحا في أعمالك، والسبح: الذهاب والسرعة، ومنه السباحة في الماء. فالمعنى: مذاهبك في النهار فيما يشغلك كثيرة- والليل أخلى لك. قوله جل ذكره: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» أي: انقطع إليه انقطاعا تاما. «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» الوكيل من توكل إليه الأمور أي: توكّل عليه وكل أمورك إليه، وثق به. ويقال: إنك إذا اتخذت من المخلوقين وكيلا اختزلوا مالك وطالبوك بالأجرة، وإذا اتخذتني وكيلا أوفّر عليك مالك وأعطيك الأجر.   (1) قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام. فكأن ناشئة الليل مصدر بمعنى قيام الليل ... مثل خاطئة وكاذبة ... فإذا افترضنا أنها كلمة شائعة الاستعمال عند الحبشة بهذا المعنى فإنها ذات أصل عربى أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 ويقال: وكيلك ينفق عليك من مالك، وأنا أرزقك وأنفق عليك من مالى. ويقال: وكيلك من هو في القدر دونك، وأنت تترفّع أن تكلّمه كثيرا ... وأنا ربّك وسيّدك وأحبّ أن تكلمنى وأكلّمك. قوله جل ذكره: [سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 13] وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) الهجر الجميل: أن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرّك وقلبك. ويقال: الهجر الجميل ما يكون لحقّ ربّك لا لحظّ نفسك. ويقال: الهجر الجميل ألا تكلّمهم، وتكلمنى لأجلهم بالدعاء لهم. وهذه الآية منسوخة بآية القتال «1» . قوله جل ذكره: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» أي: أولى التّنعّم «2» ، وأنظرهم قليلا، ولا تهتم بشأنهم، فإنى أكفيك أمرهم. قوله جل ذكره: «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» ثم ذكر وصف القيامة فقال: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» .   (1) قال قتادة: كان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. (القرطبي) ح 19 ص 45) . (2) هم صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال يحيى بنى سلام: إنهم بنو المغيرة. وقالت عائشة: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 ثم قال: [سورة المزمل (73) : الآيات 20 الى 15] يعنى: أرسلنا إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا عليكم «كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا» ، «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» ثقيلا. «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً» من هوله يصير الولدان شيبا- وهذا على ضرب المثل. «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» أي بذلك: اليوم لهوله «1» . ويقال: منفطر بالله أي: بأمره. «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» : فما وعد الله سيصدقه. «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ» : يعنى: هذه السورة، أو هذه الآيات موعظة فمن اتعظ بها سعد. «إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» من المؤمنين. «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» فهو خالقهما «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» وتطيعوه. «فَتابَ عَلَيْكُمْ» أي: خفّف عنكم «2» ، «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» من خمس آيات إلى مازاد. ويقال: من عشر آيات إلى ما يزيد «3» .   (1) هكذا في م وهي في ص (لقوله) والصواب ما جاء في م كما هو واضح من السياق. (2) كان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم (مقاتل) . (3) قال الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقال كعب: كتب من القانتين. وفي حديث مسند عن عبد الله بن عمرو: أن النبي (ص) قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين (- أعطى من الأجر قنطارا) » خرّجه أبو داود الطيالسي في مسنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ» يسافرون، ويعلم أصحاب الأعذار، فنسخ عنهم قيام الليل. «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة. «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» مضى معناه. «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ» أي: ما تقدّموا من طاعة تجدوها عند الله ثوابا هو خير لكم من كلّ متاع الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 سورة المدّثر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها نزهة قلوب الفقراء، كلمة سماعها بهجة أسرار الضعفاء، راحة أرواح الأحبّاء، قوة قلوب الأولياء، سلوة صدور الأصفياء، قرّة عيون أهل البلاء. قوله جل ذكره: [ سورة المدثر (74) : الآيات 7 الى 1] يا أيها المتدثر بثوبه. وهذه السورة من أول ما أنزل من القرآن. قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى حراء قبل النّبوة، فبدا له جبريل في الهواء، فرجع الرسول إلى بيت خديجة وهو يقول «دثّرونى دثّرونى» فدثّر بثوب فنزل عليه جبريل وقال: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ» «1» . وقيل: أيها الطالب صرف الأذى عنك بالدثار اطلبه بالإنذار. ويقال: قم بنا، وأسقط عنك ما سوانا، وأنذر عبادنا فلقد أقمناك بأشرف المواقف، ووقفناك بأعلى المقامات. ويقال: لمّا سكن إلى قوله: «قُمْ» وقام قطع سرّه عن السّكون إلى قيامه، ومن الطمأنينة في قيامه. قوله جل ذكره: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» .   (1) حدّث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (ص) : جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى فلم أر أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسى فإذا جبريل على عرش في الهواء فأخذتنى رجفة شديدة فأتيت خديجة فقلت: دثرونى. فصبوا على ماء. رواه البخاري بهذه النهاية: دثرونى وصبوا على ماء باردا فدثرونى وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 كبّره عن كلّ طلب، ووصل وفصل، وعلّة وخلق. «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» طهّر قلبك عن الخلائق أجمع، وعن كلّ صفة مذمومة. وطهّر نفسك عن الزّلّات، وقلبك عن المخالفات، وسرّك عن الالتفاتات. ويقال: أهلك طهّرهم بالوعظ قال تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ» «1» ، فيعبر عنهن- أحيانا- بالثياب والّلباس. قوله جل ذكره: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» أي: المعاصي. ويقال: الشيطان. ويقال: طهّر قلبك من الخطايا وأشغال الدنيا. ويقال: من لا يصحّ جسمه لا يجد شهوة الطعام كذلك من لا يصحّ قلبه لا يجد حلاوة الطاعة. «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» لا تعط عطاء تطلب به زيادة على ما تعطيه. ويقال: لا تستكثر الطاعة من نفسك. ويقال: لا تمنن بعملك فتستكثر عملك، وتعجب به. «وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» أي: أنت تؤذى في الله. فاصبر على مقاساة أذاهم. قوله جل ذكره: [سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 17] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) يعنى: إذا قامت القيامة، فذلك يوم عسير على الكافرين غير هيّن. قوله جل ذكره: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» .   (1) آية 187 سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 أي: لا تهتم بشأنهم، ولا تحتفل فإنّى أكفيك أمرهم. إنّى خلقته وحدي لم يشاركنى في خلقى إيّاه أحد. ويحتمل: خلقته وحده لا ناصر له. قوله جل ذكره: «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً» حضورا معه لا يحتاجون إلى السّفر. «وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً» أراد: تسهيل التصرّف، أي: مكّنته من التصرّف في الأمور «1» . «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» يطمع أن أزيده في النعمة: «كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» جحودا. «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» سأحمله على مشقّة من العذاب. [سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 20] إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) أي: لعن كيف فكّر، وكيف قدّر، ويعنى به: الوليد بن المغيرة «2» الذي قال في النبي صلى الله عليه وسلم: إنّه ليس بشاعر ولا بمجنون ولا بكذّاب، وإنه ليس إلا ساحر، وما يأتى به ليس إلا سحر يروى:   (1) واضح من هذا أن القشيري يؤمن بحرية الإنسان، وأن الجبرية عنده ليست مطلقة. (2) كان الوليد يدعى ريحانة قريش فلما سمعت منه واصفا القرآن: «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمن، وإن أسفله لمغدق ... » قالت قريش: صبأ الوليد لتصبون قريش كلها، فلما ذهب إليه أبو جهل ليتحرى. قال له بعد أن فنّد مزاعمهم: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 [سورة المدثر (74) : الآيات 28 الى 30] لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) «1» لا تبقى لحما، ولا تذر عظما، تحرق بشرة الوجه وتسوّدها، من لاحته الشمس ولوّحته. «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال المشركون: نحن جمع كثير ... فما يفعل بنا تسعة عشر؟! فأنزل الله سبحانه: [سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 39] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فيزداد المؤمنون إيمانا، ويقول هؤلاء: أي فائدة في هذا القدر؟ فقال تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . ثم قال: «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» . أي: تقاصرت علوم الخلق فلم تتعلّق إلا بمقدار دون مقدار، والذي أحاط بكل شىء علما. هو الله- سبحانه.   (1) بسر أي كلح وجهه وتغير لونه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 «كَلَّا وَالْقَمَرِ» كلّا- حرف ردع وتنبيه أي: ارتدعوا عما أنتم عليه، وانتبهوا لغيره وأقسم بهذه الأشياء «كَلَّا وَالْقَمَرِ» : أي بالقمر، أو بقدرته على القمر. وبالليل إذا أدبر ... وقرىء «ودبر» أي: مضى، «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» أي: تجلّى «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ» . أي: النار لإحدى الدواهي الكبر. ويقال في «كَلَّا وَالْقَمَرِ» إشارة إلى أقمار العلوم إذا أخذ هلالها في الزيادة بزيادة البراهين، فإنها تزداد، ثم إذا صارت إلى حدّ التمام في العلم وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، فالعلم يأخذ فى النقصان، وتطلع شمس المعرفة، فكما أنه إذا قرب القمر من الشمس يزداد نقصانه حتى إذا قرب من الشمس تماما صار محاقا- كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان لزيادة المعارف كالسراج في ضوء الشمس وضياء النهار. «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» أي إذا انكشفت ظلم البواطن، «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» وتجلّت أنوار الحقائق في السرائر ... إنها لإحدى العظائم! وذلك من باب التخويف من عودة الظّلم إلى القلوب «1» . «نَذِيراً لِلْبَشَرِ» فى هذا تحذير من الشواغل التي هي قواطع عن الحقيقة، فيحذروا المساكنة والملاحظة إلى الطاعات والموافقات ... فإنّها- فى الحقيقة- لا خطر لها «2» . «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» عن الطاعات ... وهذا على جهة التهديد. قوله جل ذكره: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي: مرتهنة بما عملت، ثم استثنى: «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» .   (1) من خصائص أسلوب القشيري- كما أوضحنا ذلك في كتابنا عنه- أنه كثيرا ما يستعين بمظاهر الطبيعة: الليل والنهار- والقمر والشمس والجبال والمطر والبحار وغير ذلك كى يوضح عن طريق ذلك دقائق العلم الصوفي. (2) يقصد أن نظرة الإنسان إلى عمله، وإعطاء هذا العمل قيمة ... من قبيل دعوى النفس ... المهم في الطريق فضل الله واجتباه الله. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 فقال: إنهم غير مرتهنين بأعمالهم، ويقال: هم الذين قال الله تعالى في شأنهم: «هؤلاء فى الجنة ولا أبالى» !. وقيل: أطفال للمؤمنين «1» . [سورة المدثر (74) : الآيات 40 الى 56] فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) هؤلاء يتساءلون عن المجرمين، ويقولون لأهل النار إذا حصل لهم إشراف عليهم: ما سلككم في سقر؟ قالوا: ألم نك من المصلين؟ ألم نك نطعم المسكين؟. وهذا يدل على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع. «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ» : نشرع في الباطل، ونكذّب بيوم الدين. «حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» وهو معاينة القيامة. «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» أي: لا تنالهم شفاعة من يشفع. «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» «2» والتذكرة: القرآن: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .   (1) قال ابن عباس: هم الملائكة. وقال على بن أبى طالب: هم أولاد المؤمنين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. وقال الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى. وقال مقاتل: هم الذين كانوا على يمين آدم يوم الذر. والله أعلم. (2) معرضين منصوب على الحال من الهاء والميم في (لهم) ، وفي اللام معنى الفعل فانتصاب الحال على معنى الفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 كأنهم حمر نافرة فرّت من أسد «1» «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» بل يريد كلّ منهم أن يعطى كتابا منشورا. «كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» أي: كلّا لا يعطون ما يتمنّون لأنهم لا يخافون الآخرة. «كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» إلّا أن يشاء الله- لا أن تشاءوا «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى» . أهل لأن يتّقى. «وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» . وأهل لأن يغفر لمن يتّقى- إن شاء.   (1) القسورة بلسان العرب: الأسد، أو أول الليل، أو الشديد. وبلسان الحبشة: الرماة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 سورة القيامة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة من سمعها بشاهد العلم استبصر، ومن سمعها بشاهد المعرفة تحيّر.. فالعلماء في سكون برهانه، والعارفون في دهش سلطانه.. أولئك في نجوم علومهم، فأحوالهم صحو في صحو، وهؤلاء في شموس معارفهم: فأوقاتهم محو في محو.. فشتان ما هما!! قوله جل ذكره: [سورة القيامة (75) : الآيات 4 الى 1] أي: أقسم بيوم القيامة «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» أي: أقسم بالنفس اللّوّامة، وهي النّفس التي تلوم صاحبها، وتعرف نقصان حالها. ويقال: غدا.. كلّ نفس تلوم نفسها: إمّا على كفرها، وإمّا على تقصيرها- وعلى هذا فالقسم يكون بإضمار «الرّب» أي: أقسم بربّ النفس اللوامة. وليس للوم النّفس في القيامة خطر- وإن حمل على الكلّ «1» ولكنّ الفائدة فيه بيان أنّ كلّ النفوس غدا- ستكون على هذه الجملة. وجواب القسم قوله: بلى ... قوله جل ذكره: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟» أيظن أنّا لن نبعثه بعد موته؟ «بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» «قادِرِينَ» نصب على الحال أي بلى، نسوى بنانه في الوقت قادرين، ونقدر أي نجعل   (1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الاكل) وهي خطأ قطعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير وظلف الشاة ... فكيف لا نقدر على إعادته؟! [سورة القيامة (75) : الآيات 5 الى 10] بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) يقدّم الزّلّة ويؤخر التوبة. ويقول: سوف أتوب، ثم يموت ولا يتوب. ويقال: يعزم «1» على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف «2» وقته، وبهذا لا تنحلّ- فى الوقت- عقدة الإصرار من قلبه، وبذلك لا تصحّ توبته لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل. فإذا كان استحلاء الزلّة في قلبه، ويفكر في الرجوع إلى مثلها- فلا تصح ندامته. قوله جل ذكره: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟» على جهة الاستبعاد، فقال تعالى: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟» «برق» بكسر الراء معناها تحيّر، «وبرق» بفتح الراء شخص (فلا يطرف) من البريق، وذلك حين يقاد إلى جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف ملك، لها زفير وشهيق، فلا يبقى ملك ولا رسول إلّا وهو يقول: نفسى نفسى! «وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» كأنهما ثوران عقيران «3» . ويقال: يجمع بينهما في ألّا نور لهما.   (1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (يزعم) وهي خطأ قطعا بدليل ما بعدها.. من شرطها (العزم) . (2) أي: فى المستقبل. (3) قال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وفي مسند أبى داود الطيالسي عن يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه إلى النبي (ص) قال: قال رسول الله ص «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 [سورة القيامة (75) : الآيات 11 الى 15] كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) والمفرّ موضع الفرار إليه، فيقال لهم: «كَلَّا لا وَزَرَ» اليوم، ولا مهرب من قضاء الله «1» . «إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» أي: لا محيد عن حكمه. «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» أي: يعرف ما أسلفه «2» من ذنوب أحصاها الله- وإن كان العبد نسيها. «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» للإنسان على نفسه دليل علامة وشاهد فأعضاؤه تشهد عليه بما عمله. ويقال: هو بصيرة وحجّة على نفسه في إنكار البعث. ويقال: إنه يعلم أنه كان جاحدا كافرا، ولو أتى بكلّ حجة فلن تسمع منه ولن تنفعه. قوله جل ذكره: [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 19] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) لا تستعجل في تلقّف القرآن على جبريل، فإنّ علينا جمعه في قلبك وحفظه، وكذلك علينا تيسير قراءته على لسانك، فإذا قرأناه أي: جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جمعه. «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» نبيّن لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعجل في التلقف مخافة النسيان، فنهى عن ذلك، وضمن الله له التيسير والتسهيل.   (1) الوزر في اللغة ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو نحوهما: قال الشاعر: لعمرى ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر (2) هكذا في م وهي في ص (أسفله) وهي خطأ من الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 قوله جل ذكره: [سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 23] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) أي: إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا، أي: يحبون البقاء في الدنيا. «وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» : أي: تتركون العمل للآخرة. ويقال: تكفرون بها. قوله جل ذكره: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «ناضِرَةٌ» : أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إِلى رَبِّها «ناظِرَةٌ» أي رائية لله. والنظر المقرون ب «إِلى» مضافا إلى الوجه «1» لا يكون إلّا الرؤية، فالله تعالى يخلق الرؤية فى وجوههم في الجنة على قلب العادة، فالوجوه ناظرة إلى الله تعالى. ويقال: العين من جملة الوجه (فاسم الوجه) «2» يتناوله. ويقال: الوجه لا ينظر ولكنّ العين في الوجه هي التي تنظر كما أنّ النهر لا يجرى ولكنّ الماء في النهر هو الذي يجرى، قال تعالى: «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» . ويقال: فى قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا تتداخلهم حيرة ولا دهش فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمّ من اللقاء. والرؤية عند أهل التحقيق تقتضى بقاء الرائي، وعندهم استهلاك العبد في وجود الحقّ أتمّ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية. قوله جل ذكره: [سورة القيامة (75) : الآيات 24 الى 30] وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)   (1) (مضافا إلى) معناها (منسوبا إلى) . (2) ما بين القوسين وارد في ص ولم يرد في م وهو هام في توضيح السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 «باسِرَةٌ» : أي كالحة عابسة. «فاقِرَةٌ» أي: داهية «1» وهي بقاؤهم في النار على التأييد. (تظن أن يخلق في وجوههم النظر) «2» . ويحتمل أن يكون معنى «تَظُنُّ» : أي يخلق ظنّا في قلوبهم يظهر أثره على وجوههم. «كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي ليس الأمر على ما يظنون بل إذا بلغت نفوسهم التراقيّ «3» ، وقيل: من راق؟ أي يقول من حوله: هل أحد يرقيه؟ هل طبيب يداويه؟ هل دواء يشفيه؟ «4» . ويقال: من حوله من الملائكة يقولون: من الذي يرقى بروحه أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟. «وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» : وعلم الميت أنه الموت!. «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» : ساقا الميت. فتقترن شدّة آخر الدنيا بشدّة أوّل الآخرة. «إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي الملائكة يسوقون روحه إلى الله حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه: إمّا إلى عليين ثم لها تفاوت درجات، وإمّا إلى سجّين- ولها تفاوت دركات. ويقال: الناس يكفّنون بدن الميت ويغسلونه ويصلّون عليه.. والحقّ سبحانه يلبس روحه ما تستحق من الحلل، ويغسله بماء الرحمة، ويصلى عليه وملائكته. قوله جل ذكره: [سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 36] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)   (1) الفاقرة لها معان كثيرة منها: الداهية، والأمر العظيم، والشر، والهلاك، ودخول النار. وهي فى الأصل: الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم. (2) العبارة هكذا في م أما في ص فهى ( ... الظن) بدلا من (النظر) ، ويمكن قبول عبارة م على أساس ن (النظر) أمر عظيم- وهو أحد معانى (الفاقرة) كما قلنا.. ولكننا نرجح- والله أعلم- أن العبارة ربما كانت فى الأصل على هذا النحو: [تظن: (أي) يخلق في وجوههم (الظن) ] فحتى هذا الظن مخلوق في وجوههم من قبل الله.. وربما يتأيد ما ذهبنا إليه بما جاء بعدها مباشرة. (3) جمع (ترقوة) : العظام التي تكتنف مقدم الحلق من أعلى الصدر، وهي موضع الحشرجة. [ ..... ] (4) معروف ألا رقية ولا دواء للموت ... ولكنهم يتساءلون هكذا على وجه التحير عند الإشفاء على الموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 يعنى: الكافر ما صدّق الله ولا صلّى له، ولكن كذّب وتولّى عن الإيمان. وتدل الآية على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع. «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي: يتبختر ويختال. «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» العرب إذا دعت على أحد بالمكروه قالوا: أولى لك! وهنا أتبع اللفظ اللفظ على سبيل المبالغة. ويقال: معناه الويل لك يوم تحيا، والويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار «1» . «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» مهملا لا يكلّف!؟. ليس كذلك. [سورة القيامة (75) : الآيات 37 الى 40] أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) «مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» أي تلقى في الرّحم، ثم كان علقة أي: دما عبيطا «2» ، فسوّى أعضاءه فى بطن أمه، وركّب أجزاءه على ما هو عليه في الخلقة، وجعل منه الزوجين: إن شاء خلق الذّكر، وإن شاء خلق الأنثى، وإن شاء كليهما. «أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» أليس الذي قدر على هذا كلّه بقادر على إحياء الموتى؟ فهو استفهام في معنى التقرير «3» .   (1) فى معنى «الويل لك» تقول الخنساء: هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسى أولى لها سأحمل نفسى على آلة ... فإما عليها وإما لها ويقال: إن الرسول هدد أبا جهل بهاتين الآيتين.. حتى إذا كان يوم بدر، ضرب الله عنقه وقتل شر قتله. (2) اللحم العبيط: الطريّ الذي لم ينضج (الوسيط) . (3) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (التقدير) بالدال وهي خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 سورة الإنسان قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم جبّار توحّد في آزاله بوصف جبروته، وتفرّد في آباده بنعت ملكوته فأزله أبده، وأبده أزله، وجبروته ملكوته، وملكوته جبروته. أحديّ الوصف، صمديّ الذات، مقدّس النّعت، واحد الجلال، فرد التعالي، دائم العزّ، قديم البقاء. قوله جل ذكره: [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) فى التفسير: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا له خطر ومقدار. قيل: كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحا جسده بين مكة والطائف. ثم من صلصال أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، فتمّ خلقه بعد مائة وعشرين سنة «1» . ويقال: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ... » : أي لم يأت عليه وقت إلا كان مذكورا إليّ. ويقال: هل غفلت ساعة عن حفظك؟ هل ألقيت- لحظة- حبلك على غاربك؟ هل أخليتك- ساعة- من رعاية جديدة وحماية مزيدة. قوله جل ذكره: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» .   (1) وزاد ابن مسعود أربعين سنة فقال: وأقام وهو من تراب أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ثم نفخ فيه الروح (حكاه الماوردي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 «مِنْ نُطْفَةٍ» : أي من قطرة ماء، «أَمْشاجٍ» : أخلاط من بين الرجل والمرأة. ويقال: طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظما، وطورا لحما. «نَبْتَلِيهِ» : نمتحنه ونختبره. وقد مضى معناه. «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» . «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» أي: عرّفناه الطريق أي طريق الخير والشرّ. وقيل: إمّا للشقاوة، وإمّا للسعادة، إمّا شاكرا من أوليائنا، وإما أن يكون كافرا من أعدائنا فإن شكر فبالتوفيق، وإن كفر فبالخذلان. قوله جل ذكره: [سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 5] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) أي: هيّأنا لهم سلاسل يسحبون فيها، وأغلالا لأعناقهم يهانون بها، «وَسَعِيراً» : نارا مستعرة. «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» قيل: البرّ: الذي لايضمر الشّرّ، ولا يؤذى الذّرّ. وقيل: الأبرار: هم الذين سمت همّتهم عن المستحقرات، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مساكنة الدنيا. يشربون «1» من كأس رائحتها كرائحة الكافور، أو ممزوجة بالكافور. ويقال: اختلفت مشاربهم في الآخرة فكلّ يسقى ما يليق بحاله ... وكذلك في الدنيا مشاربهم مختلفة فمنهم من يسقى مزجا، ومنهم من يسقى صرفا، ومنهم من يسقى على   (1) يتحدث القشيري في هذه السورة عن الشراب على نحو تفصيلى يستحق التأمل، وينبغى أن يضاف إلى حديثه عنه في رسالته عند بحث هذا الموضوع عند هذا الصوفي السنّى الجليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 النّوب، ومنهم من يسقى بالنّجب ومنهم من يسقى وحده ولا يسقى مما يسقى غيره، ومنهم من يسقى هو والقوم شرابا واحدا.. وقالوا: إن كنت من ندماى فبالأكبر اسقني ... ولا تسقنى بالأصغر المتثلم وفائدة الشراب- اليوم- أن يشغلهم عن كل شىء فيريحهم عن الإحساس، ويأخذهم عن قضايا العقل.. كذلك قضايا الشراب في الآخرة، فيها زوال الأرب، وسقوط الطلب، ودوام الطّرب، وذهاب الحرب، والغفلة عن كلّ سبب. ولقد قالوا: عاقر عقارك واصطبح ... واقدح سرورك بالقدح واخلع عذارك في الهوى ... وأرح عذولك واسترح وافرح بوقتك إنما ... عمر الفتى وقت الفرح قوله جل ذكره: [سورة الإنسان (76) : الآيات 6 الى 10] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) يشقّقونها تشقيقا، ومعناه أن تلك العيون تجرى في منازلهم وقصورهم على ما يريدون. واليوم- لهم عيون في أسرارهم من عين المحبة، وعين الصفاء، وعين الوفاء، وعين البسط، وعين الروح.. وغير ذلك، وغدا لهم عيون. «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال: يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجه مخصوص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 «وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» . قاسيا، منتشرا، ممتدا. «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» أي: على حبّهم للطعام لحاجتهم إليه. ويقال: على حبّ الله، ولذلك يطعمون. ويقال: على حبّ الإطعام. وجاء في التفسير: أن الأسير كان كافرا- لأنّ المسلم ما كان يستأسر في عهده- فطاف على بيت فاطمة رضى الله عنها «1» وقال: تأسروننا ولا تطعموننا «2» ! «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» إنما نطعمكم ابتغاء مرضاة الله، لا نريد من قبلكم جزاء ولا شكرا. ويقال: إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم، ولكن كان ذلك بضمائرهم. «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» أي: يوم القيامة [سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 17] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)   (1) هكذا في م، وفي ص (صلى الله عليها) . (2) قال الأسير وهو واقف بالباب: «السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعمونى فإنى أسير محمد» . فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح.. حتى لصق بطن فاطمة بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع» . فلما رآها النبي (ص) وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: «واغوثاه يا ألله! أهل بيت محمد يموتون جوعا» فنزلت الآية. ولكن بعض رجال الحديث يطعنون في هذا الخبر. يقول الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: «هو حديث مزوق مزيف لأن الله تعالى يقول: يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» ، والنبي يقول: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 «وَلَقَّاهُمْ» أي: أعطاهم «نَضْرَةً وَسُرُوراً» . «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» كافأهم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنّة وحريرا «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» واحدها أريكة، وهي السرير في الحجال «1» . «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» أي: لا يتأذّون فيها بحرّ ولا برد. «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة فإن كانوا قعودا تدّلى لهم، وإن كانوا قياما- وهي على الأرض- ارتقت إليهم. «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ» الاسم فضة، والعين لا تشبه العين «2» «وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً» أي: فى صفاء القوارير وبياض الفضة.. قدّر ذلك على مقدار إرادتهم. «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» المقصود منه الطّيب، فقد كانوا (أي العرب) يستطيبون الزنجبيل، ويستلذون نكهته،   (1) جمع حجلة وهي ستر يضرب على سرير العروس كالقبة. (2) من هذا يتضح أن القشيري برى أن الجنة وصفت بما يمكن أن يكون منتهى تصوراتهم الدنيوية لمجالات النعمة ... فالألفاظ هي الألفاظ ولكن الحقائق شىء آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 وبه يشبّهون الفاكهة، ولا يريدون به ما يقرص اللسان «1» . [سورة الإنسان (76) : الآيات 18 الى 21] عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) أي: يسقون من عين- أثبت السقيّ وأجمل من يسقيهم لأنّ منهم من يسقيه الحقّ- سبحانه- بلا واسطة. قوله جل ذكره: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» أي: يخدمهم ولدان مخلدون (وصفا لا يجوز واحد منهم حدّ الوصائف) «2» . وجاء في التفسير: لا يهرمون ولا يموتون. وجاء مقرّطون. إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤا منثورا «3» . وفي التفسير: ما من إنسان من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام. قوله جل ذكره: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» «ثَمَّ» : أي في الجنة. «مُلْكاً كَبِيراً» : فى التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول. وقيل: هو قوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها» «4» ويقال: أي لا زوال له.   (1) من ذلك قول المسيب بن علس يصف ثغر المرأة: وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر وقال الأعشى: كأن القرنفل والزنجبي ... ل باما بفيها وأريا مشورا (والأرى- هو العسل) . (2) هكذا في النسختين وفيها شىء من غموض. (3) قيل: إنما شبههم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة (القرطبي ح 19 ص 144) . (4) آية 35 سورة ق. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 «عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار. ويصح أن يكون للولدان وهو أولى، والاسم يوافق الاسم دون العين «1» . «شَراباً طَهُوراً» : الشراب الطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره. فالشراب يكون طهورا في الجنة- وإن لم يحصل به التطهير لأن الجنة لا يحتاج فيها إلى التطهير. ولكنه- سبحانه- لمّا ذكر الشراب- وهو اليوم في الشاهد نجس- أخبر أنّ ذلك الشراب غدا طاهر، ومع ذلك مطهّر يطهّرهم عن محبة الأغيار، فمن يحتس من ذلك الشراب شيئا طهّره عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات. ويقال: يطهّر صدورهم من الغلّ والغشّ، ولا يبقى لبعضهم مع بعض خصيمة (ولا عداوة) «2» ولا دعوى ولا شىء. ويقال: يطهّر قلوبهم عن محبة الحور العين. ويقال: إن الملائكة تعرض عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم، ويقولون: لقد طال أخذنا من هؤلاء، فإذا هم بكاسات تلاقى أفواههم بغير أكفّ من غيب إلى عبد. ويقال: اليوم شراب وغدا شراب ... اليوم شراب الإيناس «3» وغدا شراب الكأس، اليوم شراب من الّلطف وغدا شراب يدار على الكفّ.   (1) أرأيت كيف يلمح القشيري على هذا المعنى؟ (2) غير موجودة في م وموجودة في ص. (3) هكذا في ص وهي في م (الأنفاس) ، والصواب ما أثبتنا كما يتضح فيما بعد (آنسه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 ويقال: من سقاه اليوم شراب محبّته آنسه وشجّعه فلا يستوحش في وقته من شىء، ولا يضنّ بروحه عن بذل. ومن مقتضى شربه بكأس محبته أن يجود على كلّ أحد بالكونين من غير تمييز، ولا يبقى على قلبه أثر للأخطار. ومن آثار شربه تذلّله لكلّ أحد لأجل محبوبه، فيكون لأصغر الخدم تراب القدم، لا يتحرّك فيه للتكبّر عرق. وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضا في بعض الأحايين أن يتيه على أهل الدارين. ومن مقتضى ذلك الشراب أيضا أن يملكه سرور ولا يتمالك معه من خلع العذار وإلقاء قناع الحياء «1» ويظهر ما هو به من المواجيد: يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من ماله عذار؟ ومن موجبات ذلك الشراب سقوط الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لفظ الشكوى، وبما لا يستخرج منه- فى حال صحوه- سفيه بالمناقيش «2» ... وعلى هذا حملوا قول موسى: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» «3» فقالوا: سكر من سماع كلامه «4» ، فنطق بذلك لسانه. وأمّا من يسقيهم شراب التوحيد فينفى عنهم شهود كلّ غير فيهيمون في أودية العزّ، ويتيهون في مفاوز الكبرياء، وتتلاشى   (1) هكذا في م وهي في ص (الحياة) ، والملائم لخلع العذار إلقاء قناع (الحياء) . والمقصود بهما تجاوز حد الصبر على المكتوم من الحب، ونطق العبد وهو في غلبات الشهود بشطحات ظاهرها مستشنع وإن كان باطنها فى غاية السلامة (انظر تعريف السراج للشطح في اللمع) . (2) المناقيش جمع منقاش، ويقال في المثل: استخرجت منه حقى بالمناقيش أي تعبت كثيرا حتى استخرجت منه حقى (الوسيط) . (3) آية 143 سورة الأعراف. (4) الضمير فى (كلامه) يعود على الرب سبحانه حينما قال: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ» ، وفي موضع آخر يصف القشيري موسى عليه السلام بأنه كان في حال التلوين فظهر عليه ما ظهر، بينما المصطفى (ص) ليلة المعراج كان فى حال التمكين فما زاغ بصره وما طغى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 جملتهم في هواء الفردانية.. فلا عقل ولا تمييز ولا فهم ولا إدراك.. فكلّ هذه المعاني ساقطة. فالعبد يكون في ابتداء الكشف مستوعبا ثم يصير مستغرقا ثم يصير مستهلكا.. «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «1» . قوله جل ذكره: [سورة الإنسان (76) : الآيات 22 الى 27] إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) يقال لهم: هذا جزاء لكم، «مَشْكُوراً» : وشكره لسعيهم تكثير الثواب على القليل من العمل- هذا على طريقة العلماء، وعند قوم شكرهم جزاؤهم على شكرهم. ويقال: شكره لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام. قوله جل ذكره: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» فى مدّة «2» سنين. «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» أي: ارض بقضائه، واستسلم لحكمه. «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» : أي: ولا كفورا، وهذا أمر له بإفراد ربّه بطاعته. «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» الفرض في الأول، ثم النّفل «3» «إِنَّ هؤُلاءِ ... »   (1) آية 42 سورة النجم. (2) هكذا في النسختين ولا نستبعد أنها في الأصل (عدة) وكلاهما صحيح في السياق. (3) فالصلاة جاءت في الأول (بكرة وأصيلا) صلاة الصبح ثم الظهر والعصر (ومن الليل) المغرب والعشاء ثم من بعد ذلك النفل وهو (وسبحه ليلا طويلا) : لأنه تطوع، قيل: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وقيل: هو خاص بالنبي (ص) وحده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 أي كفّار قريش. «يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» . أي: لا يعملون ليوم القيامة. قوله جل ذكره: [سورة الإنسان (76) : الآيات 28 الى 31] نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) أعدمناهم، وخلقنا غيرهم بدلا عنهم. ويقال: أخذنا عنهم الميثاق «1» . «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ... » أي: القرآن تذكرة. «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» . بطاعته. «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» أي: عذابا أليما موجعا يخلص وجعه إلى قلوبهم.   (1) تأخرت هذه العبارة عن موضعها، فأرجعناها إلى مكانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 سورة المرسلات قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من سمعها بسمع الوجد وفي له فلم ينظر إلى أحد، ومن سمعها بسمع العلم جادله فلم يبخل بروحه على أحد. ومن سمعها بسمع التوحيد جرّد سرّه عن إيثار «1» ما سواه في الدنيا والعقبى عينا وأثرا فما كان هذا كله إلا حاصلا به كائنا منه. قوله جل ذكره: [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) «الْمُرْسَلاتِ» : الملائكة، «عُرْفاً» أي: أرسلوا بالمعروف من الأمر، أو كثيرين كعرف الفرس. «فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» الرياح الشديدة (العواصف تأتى بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه) . «وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» الأمطار (لأنها تنشر النبات. فالنشر بمعنى الإحياء) . ويقال: السّحب تنشر الغيث. ويقال: الملائكة. «فَالْفارِقاتِ فَرْقاً» الملائكة تفرق بين الحلال والحرام. «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً» .   (1) هكذا في ص وهي في م (ثياب) وهي خطأ من الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 الملائكة: تلقى الوحى على الأنبياء عليهم السلام إعذارا وإنذارا.. وجواب القسم: «إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» فأقسم بهذه الأشياء: إنّ القيامة لحقّ. قوله جل ذكره: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» إنما تكون هذه القيامة. و «طُمِسَتْ» : ذهب ضوؤها. «وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» ذهب بها كلّها بسرعة، حتى لا يبقى لها أثر. «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي: جعل لها وقتا وأجلا لفصل القضاء يوم القيامة. ويقال: أرسلت لأوقات معلومة. «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» على جهة التعظيم له. «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» مضى تفسير معنى الويل. ويقال في الإشارات: فإذا نجوم المعارف طمست بوقوع الغيبة. وإذا الجبال نسفت: القلوب الساكنة بيقين الشهود حرّكت عقوبة على ما همّت بالذي لا يجوز. فويل يومئذ لأرباب الدعاوى الباطلة الحاصلة من ذوى القلوب المطبقة الخالية من المعاني. قوله جل ذكره: [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 20] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) الذين كذّبوا رسلهم، وجحدوا آياتنا فمثلما أهلكنا الأولين كذلك نفعل بالمجرمين إذا فعلوا مثل فعلهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» الذين لا يستوى ظاهرهم وباطنهم في التصديق. وهكذا كان المتقدمون من أهل الزّلّة والفترة في الطريقة، والخيانة في أحكام المحبة فعذّبوا بالحرمان في عاجلهم، ولم يذوقوا من المعاني شيئا. قوله جل ذكره: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ؟. أي: حقير. وإذ قد علمتم ذلك فلم لم تقيسوا أمر البعث عليه؟ ويقال: ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم فإنه لا جنس من المخلوقين والمخلوقات أشدّ دعوى من بنى آدم. فمن الواجب أن يتفكّر الإنسان في أصله ... كان نطفة وفي انتهائه يكون جيفة، وفي وسائط حاله كنيف في قميص!! فبالحريّ ألّا يدلّ ولا يفتخر: كيف يزهو من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه فهو منه وإليه ... وأخوه ورضيعه وهو يدعوه إلى الحشّ «1» ... بصغر فيطيعه؟!! ويقال: يذكّرهم أصلهم.. كيف كان كذلك.. ومع ذلك فقد نقلهم إلى أحسن صورة، قال تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» ، والذي يفعل ذلك قادر على أن يرقّيك من الأحوال الخسيسة إلى تلك المنازل الشريفة. قوله جل ذكره: [سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 31] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) «كِفاتاً» أي: ذات جمع فالأرض تضمهم وتجمعهم أحياء وأمواتا فهم يعيشون على ظهرها، ويودعون بعد الموت في بطنها.. «وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً» .   (1) الحش بفتح الحاء وضمها- الكنيف. والمقصود: كيف ترهو أيها الإنسان، وإن ما يقذفه جسمك من فضلات ملازم لك حياتك: ليلك ونهارك، وأنت تطيعه صاغرا إذا أمرك ودعاك بالذهاب إلى الحش؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 أي: جبالا مرتفعات، وجعلنا بها الماء سقيا لكم. يذكّرهم عظيم منّته بذلك عليهم. والإشارة فيه إلى عظيم منّته أنّه لم يخسف بكم الأرض- وإن عملتم ما عملتم. «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» يقال لهم: انطلقوا إلى النار التي كذّبتم بها. «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» كذلك إذا لم يعرف العبد قدر انفتاح طريقه إلى الله بقلبه، وتعزّزه بتوكله.. فإذا رجع إلى الخلق عند استيلاء الغفلة نزع الله عن قلبه الرحمة، وانسدّت عليه طرق رشده، فيتردد من هذا إلى هذا إلى هذا. ويقال لهم: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون. والاستقلال بالله جنّة المأوى، والرجوع إلى الخلق قرع باب جهنم ... وفي معناه أنشدوا: ولم أر قبلى من يفارق جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنم ثم يقال لهم إذا أخذوا في التنصّل والاعتذار: [سورة المرسلات (77) : الآيات 35 الى 38] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فإلى أن تنتهى مدّة العقوبة فحينئذ: ان استأنفت وقتا استؤنف لك وقت. فأمّا الآن ... فصبرا حتى تنقضى أيام العقاب. «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ» فعلنا بكم ما فعلنا بهم في الدنيا من الخذلان، كذلك اليوم سنفعل بكم ما نفعل بهم من دخول النيران قوله جل ذكره: [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 48] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 اليوم ... فى ظلال العناية والحماية، وغدا ... هم في ظلال الرحمة والكلاءة. اليوم.. فى ظلال التوحيد، وغدا.. فى ظلال حسن المزيد. اليوم.. فى ظلال المعارف، وغدا.. فى ظلال اللطائف. اليوم.. فى ظلال التعريف، وغدا.. فى ظلال التشريف. «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» اليوم تشربون على ذكره.. وغدا تشربون على شهوده، اليوم تشربون بكاسات الصفاء وغدا تشربون بكاسات الولاء. «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» والإحسان من العبد ترك الكلّ لأجله! كذلك غدا: يجازيك بترك كلّ الحاصل عليك لأجلك. قوله جل ذكره: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» هذا خطاب للكفار، وهذا تهديد ووعيد، والويل يومئذ لكم. قوله جل ذكره: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ» كانوا يصروّن على الإباء والاستكبار فسوف يقاسون البلاء العظيم «1» . [ذكر في التفسير: أن المتقين دائما في ظلال الأشجار، وقصور الدرّ مع الأبرار، وعيون جارية وأنهار.، وألوان من الفاكهة والثمار ... من كل ما يريدون من الملك الجبّار. ويقال لهم في الجنة: كلوا من ثمار الجنات، واشربوا شرابا سليمان من الآفات. «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» من الطاعات. «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» من الكرامات. قيل: كُلُوا وَاشْرَبُوا «هَنِيئاً» : لا تبعة عليكم من جهة الخصومات، ولا أذيّة في المأكولات والمشروبات. وقيل: الهنيء الذي لا تبعة فيه على صاحبه، ولا أذيّة فيه من مكروه لغيره.]   (1) إلى هنا انتهى تفسير السورة في م النسخة ص. وكل ما بين القوسين الكبيرين موجود في النسخة م. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 سورة النّبإ «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم ملك تجمّل عباده بطاعته، وتزيّن خدمه بعبادته، وهو سبحانه لا يتجمّل بطاعة المطيعين، ولا يتزيّن بخدمة العابدين فزينة العابدين صدار طاعتهم، وزينة العارفين حلّة معرفتهم، وزينة المحبّين تاج ولايتهم.. وزينة المذنبين غسل وجوههم بصوب «2» عبرتهم. قوله جل ذكره: [ سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) مختلفون بشدة إنكارهم أمر البعث، ولا لتباس ذلك عليهم، وكثرة مساءلتهم عنه، وكثرة مراجعتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في معناه. تكرّر من الله إنزال أمر البعث، وكم استدلّ عليهم في جوازه بوجوه من الأمثلة ... فهذا من ذلك، يقول: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» : عن الخبر العظيم «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» قال الله تعالى على جهة الاحتجاج عليهم: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً؟» ذلّلناهم لهم حتى سكنوها «وَالْجِبالَ أَوْتاداً؟» .   (1) هذا هو اسم السورة كما جاء في ص أما في م فعنوانها (سورة عم يتساءلون) . (2) هى في م (بضرب) وهي في ص (بصوت) وكلاهما غير مقبول في السياق، وقد رجحنا أن تكون فى الأصل (بصوب) على أساس أن القشيري يستعمل الفعل (تتقطر) مع (العبرة) فى مواضع مماثلة، كما أنها أقرب في الرسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 أوتادا للأرض حتى تميد بهم. «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» ذكرا وأنثى، وحسنا وقبيحا.. وغير ذلك «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» أي راحة لكم، لتنقطعوا عن حركاتكم التي تعبتم بها في نهاركم. «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» تغطّى ظلمته كلّ شىء فتسكنوا فيه. «وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» أي وقت معاشكم. «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» أي سبع سموات. «وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» أي الشمس، جعلناها سراجا وقّادا مشتعلا. «وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً» «الْمُعْصِراتِ» الرياح التي تعصر السحاب «1» . «ماءً ثَجَّاجاً» مطرا صبّابا. «لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» «حَبًّا» كالحنطة والشعير، «وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» بساتين يلتفّ بعضها ببعض. وإذا قد علمتم ذلك فهلّا علمتم أنّى قادر على أن أعيد الخلق وأقيم القيامة؟   (1) والمعصرات أيضا السحائب تعتصر بالمطر، وأعصر القوم أي: أمطروا، وسنه «وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» والمعصر الجارية أول ما أدركت الحيض. فالمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر (الصحاح) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 فبعد أن عدّ عليهم بعض وجوه إنعامه، وتمكينهم من منافعهم.. قال: [سورة النبإ (78) : الآيات 18 الى 30] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) مضى معناه «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» أي في ذلك اليوم تأتون زمرا وجماعات. «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» أي: تشقّقت وانفطرت. «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» أي كالسراب. «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً» أي ممرا. ويقال: ذات ارتقاب لأهلها. «لِلطَّاغِينَ مَآباً» أي مرجعا. «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» أي دهورا، والمعنى مؤبّدين «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً» مضى معناه. ثم يعذّبون بعد ذلك بأنواع أخر من العذاب. «جَزاءً وِفاقاً» أي: جوزوا على وفق أعمالهم. ويقال: على وفق ما سبق به التقدير، وجرى به الحكم. «إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 لا يؤمنون فيرجون الثواب ويخافون العقاب. «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» «1» أي: تكذيبا. «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي: كتبناه كتابا، وعلمناه علما. والمسبّح الزاهد يحصى تسبيحه، والمهجور البائس يحصى أيام هجرانه، والذي هو صاحب وصال لا يتفرّغ من وصله إلى تذكّر أيامه في العدد، أو الطول والقصر. والملائكة يحصون زلّات العاصين، ويكتبونها في صحائفهم. والحق سبحانه يقول: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» فكما أحصى زلّات العاصين وطاعات المطيعين فكذلك أحصى أيام هجران المهجورين وأيام محن الممتحنين، وإنّ لهم في ذلك لسلوة ونفسا: ثمان قد مضين بلا تلاق ... وما في الصبر فضل عن ثمان وكم من أقوام جاوزت أيام فترتهم الحدّ! وأربت أوقات هجرانهم على الحصر! قوله جل ذكره: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» يا أيها المنعّمون في الجنة.. افرحوا وتمتعوا فلن نزيدكم إلا ثوابا. أيها الكافرون.. احترقوا في النار.. ولن نزيدكم إلا عذابا «2» ويا أيها المطيعون.. افرحوا وارتعوا فلن نزيدكم إلا فضلا على فضل. يا أيها المساكين.. ابكوا واجزعوا فلن نزيدكم إلّا عزلا على عزل. قوله جل ذكره: [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 38] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38)   (1) فى «كِذَّاباً» يقول الفراء: هى لعة يمانية فسيحة يقولون: كذبت به كذابا وخرقت القميص خرّاقا. فكل فعل في وزن (فعّل) مصدره فعال مشددة في لغتهم. (2) قال أبو برزة: سألت النبي (ص) عن أشد آية في القرآن فقال: قوله تعالى: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» أي: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» و «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 مسلّم للمتقين ما وعدناهم به.. فهنيئا لهم ما أعددنا لهم من الفوز بالبغية والظّفر بالسّؤل والمنية: من حدائق وأعناب، ومن كواعب أتراب وغير ذلك. فيا أيها المهيّمون المتيّمون هنيئا لكم ما أنتم فيه اليوم في سبيل مولاكم من تجرّد وفقر، وما كلّفكم به من توكل وصبر، وما تجرعتم من صدّ وهجر. أحرى الملابس ما تلقى الحبيب به ... يوم التزاور «1» فى الثوب الذي خلعا قوله: «لا يَسْمَعُونَ فِيها ... » آذانهم مصونة عن سماع الأغيار، وأبصارهم محفوظة عن ملاحظة الرسوم والآثار. قوله جل ذكره: «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» وكيف تكون للمكوّن المخلوق الفقير المسكين مكنة أن يملك منه خطابا؟ أو يتنفّس بدونه نفسا؟ كلّا.. بل هو الله الواحد الجبّار. قوله جل ذكره: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» إنما تظهر الهيبة على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم، وأمّا الخواص وأصحاب الحضور فهم أبدا بمشهد العزّ بنعت الهيبة، لا نفس «2» لهم ولا راحة أحاط بهم سرادقها واستولت عليهم حقائقها.   (1) هكذا في م وهي في ص (التزاول) وهي خطأ من الناسخ، والمقصود من النص الشعرى: أن الله يحب أن يرى على الفقراء ثياب التجرد لأنها الثياب التي خلعها عليهم بنفسه حينما آثروا حقه على حظوظهم. (2) هكذا في ص وهي في م (لا نفر لهم ولا فرحة) وربما كانت (فرجة) بالجيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 قوله جل ذكره: [سورة النبإ (78) : الآيات 39 الى 40] ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) هم بمشهد الحقّ، والحكم عليهم الحقّ، حكم عليهم بالحق، وهم مجذوبون بالحقّ للحقّ. قوله جل ذكره: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً» وهو عند أهل الغفلة بعيد، ولكنّه في التحقيق قريب. َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ «1» الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» . مضوا في ذلّ الاختيار والتعنّى «2» ، وبعثوا في حسرة التمنّى، ولو أنهم رضوا بالتقدير لتخلّصوا «3» عن التمنّى.   (1) قيل: يراد بالكافر هنا أبى بن خلف أو عقبة بن أبى معيط. ويرى أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الكريم القشيري- صاحب هذا الكتاب: هو إبليس، يقول: يا ليتنى خلقت كآدم من تراب ولم أقل أنا خير منه لأنى من نار. (القرطبي ح 19 ص 189) . (2) وردت في النسختين (التمني) وهي مقبولة، ولكننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (التعنى) لأن الاختيار. كان في الدنيا، واختيار المرء- حسب نظرية القشيري- مجلبة لعنائه وشقائه.. هذا فضلا عن أن إثبات (التعنى) يزيد المعنى- نظرا لتلون الفاصلة- قوة وجمالا. (3) هكذا في م وهي في ص (لتحصلوا) وواضح فيها خطأ الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 سورة النّازعات «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز لربّ عزيز، سماعه يحتاج إلى سمع عزيز، وذكره يحتاج إلى وقت عزيز، وفهمه يحتاج إلى قلب عزيز. وأنّى لصاحب سمع بالغيبة مبتذل، ووقت معطّل في الخسائس مستغرق، وقلب فى الاشتغال بالأغيار مستعمل.. أنّى له أن يصلح لسماع هذا الاسم؟!. قوله جل ذكره: [ سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) أي الملائكة تنزع أرواح الكفّار من أبدانهم. «غَرْقاً» : أي إغراقا كالمغرق في قوسه «2» . ويقال: هى النجوم تنزع من مكان إلى مكان. «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» هى أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت. ويقال: هى الملائكة تنشط أرواح الكفّار، وتنزعها فيشتدّ عليهم خروجها. ويقال: هى الوحوش تنشط من بلد إلى بلد. ويقال: هى الأوهاق «3» .   (1) هكذا في ص وهي في م (سورة والنازعات) بإثبات الواو. (2) إغراق النازع في القوس أن يبلغ مداها ويستوفى شدها. (3) هكذا في م وهي فى (ص الارهاق) بالراء وهي خطأ في النسخ، والأوهاق جمع وهق بحركتين وقد يسكن: الحبل تشد به الإبل والخيل حتى تؤخذ وفي طرفه أنشوطة. وأوهق الدابة أي طرح في عنقها الوهق، وعن عكرمة وعطاء: الأوهاق تنشط السهام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 ويقال: هى النجوم تنشط من المشارق إلى المغارب ومن المغارب إلى المشارق. «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» الملائكة تسبح في نزولها. ويقال: هى النجوم تسبح في أفلاكها. ويقال: هى السفن في البحار. ويقال: هى أرواح المؤمنين تخرج بسهولة لشوقها إلى الله. «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» الملائكة يسبقون إلى الخير والبركة، أو لأنها تسبق الشياطين عند نزول الوحى، أو لأنها تسبق بأرواح الكفار إلى النار. ويقال: هى النجوم يسبق بعضها بعضا في الأفول. «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» الملائكة تنزل بالحرام والحلال. ويقال: جبريل بالوحى، وميكائيل بالقطر والنبات، وإسرافيل بالصّور، وملك الموت يقبض الأرواح.. عليهم السلام. وجواب القسم قوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» «1» قوله جل ذكره: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» تتحرك الأرض حركة شديدة. «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» النفخة الأولى في الصّور. وقيل: الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية.   (1) هذه هي الآية رقم 26 بالسورة وهو اختيار الترمذي أيضا.. وهي كما ترى متأخرة جدا. ويرى بعض المفسرين أن جواب القسم مضمر لأنه لا يخفى على السامع، ويرى آخرون- كالفراء- أنه البعث بدليل «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» . ويرى القرطبي: أنه قسم جوابه: إن القيامة حق. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» خائفة. «يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» «1» أي إلى أول أمرنا وحالنا، يعنى أئذا متنا نبعث ونردّ إلى الدنيا (ونمشى على الأرض بأقدامنا) ؟. قالوه على جهة الاستبعاد. «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» أي بالية. «تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» رجعة ذات خسران (مادام المصير إلى النار) . قوله جل ذكره: [سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 19] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) «2» جاء في التفسير إنها أرض المحشر، ويقال: إنها أرض بيضاء لم يعص الله فيها «3» ويقال: الساهرة نفخة الصّور تذهب بنومهم وتسهرهم. قوله جل ذكره: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي الأرض المطهرة المباركة. «طُوىً» اسم الوادي هناك. «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» .   (1) سميت الأرض الحافرة لأنها مستقر الحوافر. (2) سميت الأرض بالساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره (الفراء) ، وقال أبو كبير الهذلي: يرتدن ساهرة كأن جميعها ... وعميمها أسداف ليل مظلم (3) هذا رأى ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 قلنا له: اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل له: هل يقع لك أن تؤمن وتتطهر من ذنوبك. وفي التفسير: لو قلت لا إله إلا الله فلك ملك لا يزول، وشبابك لا يهرم، وتعيش أربعمائة سنة في السرور والنعمة.. ثم لك الجنة في الآخرة. «وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» أقرّر لك بالآيات صحّة ما أقول، وأعرفك صحة الدين.. فهل لك ذلك؟ فلم يقبل. ويقال: أظهر له كل هذا التلطّف ولكنه في خفيّ سرّه وواجب مكره به أنه صرف قلبه عن إرادة هذه الأشياء، وإيثار مراده على مراد ربّه، وألقى في قلبه الامتناع، وترك قبول النّصح.. وأيّ قلب يسمع هذا الخطاب فلا ينقطع لعذوبة هذا اللفظ؟ وأيّ كبد تعرف هذا فلا تتشقّق لصعوبة هذا المكر؟ قوله جل ذكره: [سورة النازعات (79) : الآيات 20 الى 24] فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) جاء في التفسير: هى إخراج يده بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس. فقال فرعون: حتى أشاور هامان «1» ، فشاوره، فقال له هامان: أبعد ما كنت ربّا تكون مربوبا؟! وبعد ما كنت ملكا تكون مملوكا؟ فكذّب فرعون عند ذلك، وعصى، وجمع السّحرة، ونادى: «فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ويقال: إنّ إبليس لمّا سمع هذا الخطاب فرّ وقال: لا أطيق هذا! ويقال قال: أنا ادّعيت الخيرية على آدم فلقيت ما لقيت.. وهذا يقول: أنا ربّكم الأعلى. قوله جل ذكره: [سورة النازعات (79) : الآيات 26 الى 41] إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)   (1) يقصد القشيري من بعيد إلى شيئين: أو لهما أن فساد الملوك قد يكون بسبب وزرائهم وحاشيتهم.. ولعلنا نذكر ما قلناه في المدخل عن أن أشد المحنة التي ألمت بالقشيري كانت بسبب الكندري وزير السلطان طغرل. وثانيهما أن الصحبة السيئة قد تؤدى إلى هلاك الصاحب والمصحوب، وفي هذا تحذير لأرباب الطريق (راجع باب الصحبة في الرسالة ص 145) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 أي في إهلاكنا فرعون لعبرة لمن يخشى. قوله جل ذكره: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» «فَسَوَّاها» جعلها مستوية. «وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلم ليلها. «ضُحاها» ضوؤها ونهارها. «دَحاها» بسطها ومدّها. «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها» أخرج من الأرض العيون المتفجرة بالماء، وأخرج النبات.. «وَالْجِبالَ أَرْساها» أثبتها أوتادا للأرض. «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» أي أخرجنا النبات ليكون لكم به استمتاع، وكذلك لأنعامكم. «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» الداهية العظمى ... وهي القيامة. «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى» وبرزت الجحيم لمن يرى، فأمّا من طغى وكفر وآثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم له المأوى والمستقرّ والمثوى. «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» «مَقامَ رَبِّهِ» : وقوفه غدا في محل الحساب. ويقال: إقبال الله عليه وأنّه راء له.. وهذا عين المراقبة، والآخر محلّ المحاسبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» أي لم يتابع هواه. قوله جل ذكره: [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) أي متى تقوم؟ «فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» من أين لك علمها ولم نعلمك ذلك «1» . «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» أي إنما يعلم ذلك ربّك. «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي تخوّف، فيقبل تخويفك من يخشاها ويؤمن. «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» كأنهم يوم يرون القيامة لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها فلشدة ما يرون تقل عندهم كثرة ما لبثوا تحت الأرض.   (1) روى الإمام البخاري في نهاية حديثه عن هذه السورة قال: حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله (ص) قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلى الإبهام بعثت والساعة كهاتين.» (البخاري ح 3 ص 142) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 سورة عبس «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» .. اسم كريم بسط للمؤمنين بساط جوده، اسم عزيز انسدّ على الأولين والآخرين طريق وجوده.. وأنّى بذلك ولا حدّ له؟ من الذي يدركه بالزمان والزمان خلقه؟ ومن الذي يحسبه في المكان والمكان فعله؟ ومن الذي يعرفه- إلّا وبه يعرفه؟ ومن الذي يذكره «2» - إلا وبه يذكره؟ قوله جل ذكره: [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) نزلت في ابن أمّ مكتوم، وكان ضريرا.. أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان عنده العباس ابن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحىّ «3» - يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانهما، فكره أن يقطع حديثه معهما، فأعرض عن ابن أمّ مكتوم، وعبس وجهه، فأنزل الله هذه الآية. وجاء في التفسير: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج على أثره، وأمر بطلبه، وكان بعد ذلك يبرّه ويكرمه، فاستخلفه على المدينة مرتين. وجاء في التفسير: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعبس- بعد هذا- فى وجه فقير قط، ولم يعرض عنه.   (1) هكذا في م وهي في ص (سورة الأعمى) (2) هكذا في ص. هى في نظرنا أصوب من (يدركه) التي في م لأن السياق بعدها سيكون: (إلا وبه يدركه) والله سبحانه منزه عن الدرك واللحوق كما نعرف من مذهب القشيري. أما الذكر فهذا مقبول على حد تعبير. ذى النون المصري: (لا أعرفك إلا بك ولا أذكرك إلا بك) . (3) يقول ابن العربي: غير صحيح أن أمية هذا كان في هذا المجلس، فقد كان بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة وكان موته كافرا، ولم يقصد المدينة، ولا اجتمع بالنبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 ويقال: فى الخطاب لطف.. وهو أنه لم يواجهه بل قاله على الكناية «1» ، ثم بعده قال: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» أي يتذكر بما يتعلم منك أو. «أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى» . قوله جل ذكره: [سورة عبس (80) : الآيات 5 الى 8] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) أمّا من استغنى عن نفسه فإنه استغنى عن الله. ويقال: استغنى بماله فأنت له تصدّى، أي تقبل عليه بوجهك. «وَما عَلَيْكَ..» فأنت لا تؤاحذ بألا يتزكّى هو فإنما عليك البلاغ. «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى» لطلب العلم، ويخشى الله فأنت عنه تتلهّى، وتتشاغل ... وهذا كله من قبيل العتاب معه لأجل الفقراء. قوله جل ذكره: [سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 12] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) القرآن تذكرة فمن شاء الله أن يذكره ذكره، ومن شاء الله ألا يذكره لم يذكّره أي بذلك جرى القضاء، فلا يكون إلا ما شاء الله. ويقال: الكلام على جهة التهديد ومعناه: فمن أراد أن يذكره فليذكره، ومن شاء ألا يذكره فلا يذكره! كقوله «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» «2» . وقال سبحانه: «ذَكَرَهُ» ولم يقل «ذكرها» لأنه أراد به القرآن. قوله جل ذكره: [سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 23] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)   (1) أي تحدث عن عبوس الوجه بضمير الغائب، ثم جاء العتاب بضمير الخطاب. (2) آية 29 سورة الكهف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 أي صحف إبراهيم وموسى وما قبل ذلك، وفي اللوح المحفوظ. «مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ» مرفوعة في القدر والرتبة، مطهرة من التناقض والكذب. «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ» أي: الملائكة الكتبة. «كِرامٍ بَرَرَةٍ» كرام عند الله بررة. قوله جل ذكره: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ!» لعن الإنسان ما أعظم كفره!. «مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» خلقه وصوّره وقدّره أطوارا: من نطفة، ثم علقة، ثم طورا بعد طور. قوله جل ذكره: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» يسّر عليه السبيل في الخير والشرّ، وألهمه كيف التصرّف. ويقال: يسّر عليه الخروج من بطن أمّه يخرج أولا رأسه منكوسا. «ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» أي: جعل له قبرا لئلا تفترسه السّباع والطيور ولئلا يفتضح. «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» بعثه من قبره. «كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» أي: عصى وخالف ما أمر به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 ويقال: لم يقض الله له ما أمره به، ولو قضى عليه وله ما أمره به لما عصاه «1» . قوله جل ذكره: [سورة عبس (80) : الآيات 25 الى 37] أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) فى الإشارة: صببنا ماء الرحمة على القلوب القاسية فلانت للتوبة، وصببنا ماء التعريف على القلوب فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوار التجريد. «وَقَضْباً» أي القت «2» . «وَحَدائِقَ غُلْباً» متكائفة غلاظا. «وَفاكِهَةً وَأَبًّا» الفاكهة: جميع الفواكه، و «أَبًّا» : المرعى. «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ... » «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» أي: القيامة فيومئذ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، ثم بيّن ما سبب ذلك فقال: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» لا يتفرّغ إلى ذاك، ولا ذاك إلى هذه. كذلك قالوا: الاستقامة أن تشهد الوقت   (1) أي: كلّا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له- وهذا الرأى للإمام ابن فورك شيخ القشيري. (2) سمىّ القت قضبا لأنه يقضب، أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة (الحسن) ويرى ابن عباس أنه الرطب لأنه يقضب من النخل، ولأنه ذكر العنب قبله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 قيامة، فما من وليّ ولا عارف إلّا وهو- اليوم- بقلبه يفرّ من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. فالعارف مع الخلق ولكنه يفارقهم بقلبه- قالوا: فلقد جعلتك في الفؤاد محدّثى ... وأبحت جسمى من أراد جاوسى «1» قوله جل ذكره: [سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 41] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) وسبب استبشارهم مختلف فمنهم من استبشاره لوصوله إلى جنّته، ومنهم لوصوله إلى الحور العين من حظيته.. ومنهم ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إلى ربّه فرآه. «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» وهي غبرة الفسّاق. «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» . وهي ذلّ الحجاب.   (1) أحد بيتين ينسبان إلى رابعة العدوية، والثاني: فالجسم منى للجليس مؤانس ... وحبيب قلبى في الفؤاد أنيسى (نشأة التصوف الإسلامى ص 191 ط المعارف تأليف بسيونى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 سورة التّكوير قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة أثلجت من قوم قلوبا، وأوهجت من آخرين قلوبا من المطيعين أثلجتها، ومن العاصين أوهجتها، ومن المريدين أبهجتها، ومن العارفين أزعجتها. قوله جل ذكره: [ سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) ذهب ضوؤها. «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» تناثرت وسقطت على الأرض. قوله جل ذكره: «وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ» «1» أزيلت عنها مناكبها. «وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ» وهي النّوق الحوامل التي أتى حملها عشرة أشهر.. أهملت في ذلك اليوم لشدة أهواله، (واشتغال الناس بأنفسهم عنها) . «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» أحييت، وجمعت في القيامة ليقتصّ لبعضها من بعض فيقتصّ للجمّاء من القرناء «2» - وهذا على جهة ضرب المثل إذ لا تكليف عليها.   (1) تأخرت هذه الآية بعد آية (العشار) فى م فوضعناها في مكانها الصحيح. [ ..... ] (2) هذا رأى ابن عباس كما رواه عنه عكرمة، والجماء: ما ليس لها قرن، وفي أمثالهم «عند النطاح يغلب الكبش الأجم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 ولا يبعد أن يكون بإيصال منافع إلى ما وصل إليه الألم- اليوم- على العوض.. جوازا لا وجوبا على ما قاله أهل البدع. «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» أو قدت- من سجرت التنور أسجره سجرا، أي: أحميته. «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» «1» بالأزواج. «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» نشرت، أي: بسطت. «وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» أي: نزعت وطويت. «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ» أوقدت. «وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ» أي: قرّبت من المتقين. قوله جل ذكره: «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» هو جواب لهذه الأشياء، وهذه الأشياء تحصل عند قيام القيامة. وفي قيام قيامة هذه الطائفة (يقصد الصوفية) عند استيلاء هذه الأحوال عليهم، وتجلّى هذه المعاني لقلوبهم توجد هذه الأشياء.   (1) قرنت بأشكالها في الجنة والنار، قال تعالى: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ» . وقال صلى الله عليه وسلم: «يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 فمن اختلاف أحوالهم: أنّ لشموسهم في بعض الأحيان كسوفا وذلك عند ما يردّون «1» . ونجوم علومهم قد تنكدر لاستيلاء الهوى على المريدين في بعض الأحوال، فعند ذلك «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» . قوله جل ذكره: [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 24] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) أي: أقسم، والخنّس والكنّس هي النجوم إذا غربت «2» . ويقال: البقر الوحشي «3» . قوله جل ذكره: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» عسعس: أي جاء وأقبل. «تَنَفَّسَ» : خرج من جوف الليل. أقسم بهذه الأشياء، وجواب القسم: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» . إن هذا القرآن لقول رسول كريم، يعنى به جبريل عليه السلام. «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» «مَكِينٍ» من المكانة، وقد بلغ من قوته أنه قلع قرية آل لوط وقلبها. «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» وهذا أيضا من جواب القسم. «وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ» رأى محمد جبريل عليه السلام بالأفق المبين ليلة المعراج.   (1) «عند ما يردّون» فى أحوال القبض بعد البسط والهجر بعد الوصل، والخوف بعد الرجاء والفرق بعد الجمع.. ونحو ذلك. (2) قيل هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل، والمشترى، وعطارد، والمريخ، والزّهرة (فى رواية عن على ابن أبى طالب) . (3) فسرت هكذا في رواية عن عبد الله بن مسعود، وأخرى عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 ويقال: رأى ربّه وكان صلى الله عليه وسلم بالأفق المبين. «وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» بمتّهم «1» قوله جل ذكره: [سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 29] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) إلى متى تتطوحون في أودية الظنون والحسبان؟ وإلى أين تذهبون عن شهود مواضع الحقيقة؟ وهلّا رجعتم إلى مولاكم فيما سرّكم أو أساءكم؟ «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» ما هذا القرآن إلّا ذكرى لمن شاء منكم أن يستقيم ... وقد مضى القول فى الاستقامة. «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» أن يشاءوا «2» .   (1) لا تكون بهذا المعنى إلا إذا قرئت (بظنين) بالظاء، وهي قراءة ابن كثير، وأبى عمرو والكسائي. والآخرين بالضاد فيكون المعنى (ببخيل) أي لا يبخل عليكم بما يعلم من أخبار السماء. (2) كنا ننتظر من القشيري الذي ينادى بأن كل شىء من الله وإلى الله حتى أكساب العباد أن يفيض في توضيح هذه الآية أكثر من ذلك لأنها ناصعة صريحة في نسبة المشيئة- كل المشيئة- لله، وأن الإنسان إذا وصف بالمشيئة فهى مرتبطة بالمشيئة الإلهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 سورة الانفطار قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة منيعة ليس يسمو إلى فهمها كلّ خاطر فإذا كان الخاطر غير عاطر فهو عن علم حقيقتها متقاصر. قوله جل ذكره: [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) أي: انشقت. «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» تساقطت وتهافتت. «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» أي: فتح بعضها على بعض. «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» أي: قلب ترابها، وبعث الموتى الذين فيها، وأخرج ما فيها من كنوز وموتى. «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» جواب لهذه الأمور أي إذا كانت هذه الأشياء: علمت كلّ نفس ما قدّمت من خيرها وشرّها. قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 أي: ما خدعك وما سوّل لك حتى عملت «1» بمعاصيه؟ ويقال: سأله وكأنما في نفس السؤال لقّنه الجواب يقول: غرّنى كرمك بي، ولولا كرمك لما فعلت لأنّك رأيت فسترت، وقدّرت فأمهلت. ويقال: إن المؤمن «2» وثق بحسن إفضاله فاغترّ بطول إمهاله فلم يرتكب الزلّة لاستحلاله، ولكنّ طول حلمه عنه حمله على سوء خصاله، وكما قلت «3» : يقول مولاى: أما تستحى ... مما أرى من سوء أفعالك قلت: يا مولاى رفقا فقد ... جرّأنى «4» كثرة أفضالك قوله جل ذكره: [سورة الانفطار (82) : الآيات 7 الى 12] الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) أي: ركّب أعضاءك على الوجوه الحكميّة «5» فى أي صورة ماشاء، من الحسن والقبح، والطول والقصر. ويصح أن تكون الصورة هنا بمعنى الصّفة، و «فِي» بمعنى «على» فيكون معناه: على أي صفة شاء ركّبك من السعادة أو الشقاوة، والإيمان أو المعصية.. قوله جل ذكره: «كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ» أي: القيامة «6» . «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» هم الملائكة الذين يكتبون الأعمال. وقد خوّفهم برؤية الملائكة وكتابتهم الأعمال لتقاصر   (1) هكذا في ص وهي في م (علمت) وهي خطأ في النسخ. (2) يقصد القشيري هنا (المؤمن العاصي) .. المنزلة بين المنزلتين (بين المؤمن والكافر) . (3) ينبغى ملاحظة ذلك إذا أردنا أن ندرس (القشيري الشاعر) : أنظر هذه الدراسة في كتابنا عن (الإمام القشيري) . (4) هكذا في م وهي في ص (أفسدنى) وكلاهما صحيح. (5) هكذا في النسختين، وقد كنا نريد أن نظن أنها ربما كانت (الحكيمة) ، ولكن ارتباط السياق بالمشيئة (.. ما شاء ركّبك) جعلنا نحجم عن هذا الظن. (6) بدليل قوله تعالى فيما بعد (يصلونها يوم الدين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 حشمتهم من اطّلاع الحق، ولو علموا ذلك حقّ العلم لكان توقّيهم عن المخالفات لرؤيته- سبحانه، واستحياؤهم من اطّلاعه- أتمّ من رؤية الملائكة. قوله جل ذكره: [سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) «الْأَبْرارَ» : هم المؤمنون اليوم في نعمة العصمة، وغداهم في الكرامة والنعمة «الْفُجَّارَ» : اليوم في جهنم باستحقاق اللعنة والإصرار على الشّرك الموجب للفرقة، وغدا فى النار على وجه التخليد والتأييد. ويقال: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» . فى روح الذّكر، وفي الأنس في أوان خلوتهم. «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» . فى ضيق قلوبهم وتسخّطهم على التقدير، وفي ظلمات تدبيرهم، وضيق اختيارهم. «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» «يَصْلَوْنَها» أي النار. «يَوْمَ الدِّينِ» . يوم القيامة. «وَما هُمْ عَنْها» عن النار. «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟» قالها على جهة التهويل. «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» الأمر لله يومئذ، ولله من قبله ومن بعده، ولكن «يَوْمَئِذٍ» تنقطع الدعاوى، إذ يتضح الأمر وتصير المعارف ضرورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 سورة المطفّفين قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وسناؤه علاؤه، وعلاؤه بهاؤه، وجلاله جماله، وجماله جلاله. الوجود له غير مستفتح، والموجود منه غير مستقبح. المعهود منه لطفه، المأمول منه لطفه.. كيفما قسم للعبد فالعبد عبده إن أقصاه فالحكم حكمه، وإن أدناه فالأمر أمره «1» . قوله جل ذكره: [ سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) «وَيْلٌ» : الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء، فيقال: ويل لك، وويل عليك! و «المطفّف» . الذي ينقص الكيل والوزن، وأراد بهذا الذين يعاملون الناس فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا، وإذا دفعوا إلى من يعاملهم نقصوا، ويتجلّى ذلك فى: الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وفي القضاء والأداء والاقتضاء فمن لم يرض لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه   (1) هذا هو نصر تفسير البسملة كما جاء في م أمّا في ص فهى على النحو التالي: -[بسم الله: اسم جليل جلاله لا بالأشكال، وجماله لا على احتذاء أمثال، وأفعاله لا بأغواض وأعلال، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال، فهو الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال] . وهذا هو تفسير بسملة سورة الانشقاق كما جاء في م وكما سنرى، ومعنى هذا أن اضطرابا حدث في الأمر. وما دمنا نعرف أن القشيري لا يستوحى إشارته من كل بسملة بطريقة عفوية، ولكن على أساس المغزى العام للسورة.. فقد اخترنا أن تكون بسملة «المطففين» هى هذه على أساس أن قسمة الله للعبد قسمة عادله لبس فيها (تطفيف) ، وأن ما أوجده الله من وجود (غير مستقبح) . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 فليس بمنصف. وأمّا الصّدّيقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين فإنهم ينظرون لكلّ من لهم معهم معاملة- والصدق عزيز، وكذلك أحوالهم في الصّحبة والمعاشرة.. فالذى يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة- جملة المطففين- كما قيل: وتبصر في العين منّى القذى ... وفي عينك الجذع لا تبصر ومن اقتضى حقّ نفسه- دون أن يقضى حقوق غيره مثلما يقتضيها لنفسه- فهو من جملة المطففين. والفتى من يقضى حقوق الناس ولا يقتضى من أحد لنفسه حقّا. قوله جل ذكره: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ؟ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» أي: ألا يستيقن هؤلاء أنهم محاسبون غدا، وأنهم مطالبون بحقوق الناس؟. ويقال: من لم يذكر- فى حال معاملة الناس- معاينة القيامة ومحاسبتها فهو فى خسران في معاملته. ويقال: من كان صاحب مراقبة لله ربّ العالمين استشعر الهيبة في عاجله، كما يكون حال الناس في المحشر لأنّ اطلاع الحقّ اليوم كاطلاعه غدا. قوله جل ذكره: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ» «سِجِّينٍ «1» » قيل: هى الأرض السابعة، وهي الأرض السفلى، يوضع كتاب أعمال الكفار هنالك إذلالا لهم وإهانة، ثم تحمل أرواحهم إلى ما هنالك.   (1) فى رواية عن أنس أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «سجّين أسفل الأرض السابعة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 ويقال: «السّجين» جبّ في جهنم. وقيل: صخرة في الأرض السفلى، وفي اللغة السّجين: فعيل من السجن. «وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ» . استفهام على جهة التهويل «كِتابٌ مَرْقُومٌ» . أي مكتوب كتب الله فيه ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون. وإنما المكتوب على بنى آدم في الخير والشر، والشقاوة والسعادة فهو على ما تعلّق به علمه وإرادته، وإنما أخبر على الوجه الذي علم أن يكون أو لا يكون، وكما علم أنه يكون أو لا يكون أراد أن يكون أو لا يكون. ثم إنه سبحانه لم يطلع أحدا على أسرار خلقه إلّا من شاء من المقربين بالقدر الذي أراده فإنه يجرى عليهم في دائم أوقاتهم ما سبق لهم به التقدير. ثم قال: [سورة المطففين (83) : الآيات 10 الى 21] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) ويل للذين لا يصدّقون بيوم الدين، وما يكذّب به إلا كل مجاوز للحدّ الذي وضع له إذا يتلى عليه القرآن كفر به. «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» أي: غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي.. وكما أنهم- اليوم- ممنوعون عن معرفته فهم غدا ممنوعون عن رؤيته. ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه غدا كما يعرفونه اليوم. قوله جل ذكره: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» «عِلِّيِّينَ» أعلى الأمكنة، تحمل إليه أرواح الأبرار تشريفا لهم وإجلالا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 ويقال: إنها سدرة المنتهى. ويقال: فوق السماء السابعة. كتاب مرقوم فيه أعمالهم مكتوبة يشهده المقربون «1» من الملائكة. [سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 24] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) اليوم وغدا: اليوم في روح العرفان، وراحة الطاعة والإحسان، ونعمة الرضا وأنس القربة وبسط الوصلة. وغدا- فى الجنة وما وعدوا به من فنون الزلفة والقربة. قوله تعالى: «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» أثبت النظر ولم يبيّن المنظور إليه لاختلافهم في أحوالهم فمنهم من ينظر إلى قصوره. ومنهم من ينظر إلى حوره، ومنهم ومنهم.. ومنهم الخواصّ فهم على دوام الأوقات إلى الله- سبحانه- ينظرون. قوله جل ذكره: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» من نظر إليهم علم أنّ أثر نظره إلى مولاه ما يلوح على وجهه من النعيم فأحوال المحبّ شهود عليه أبدا. فإن كان الوقت وقت وصال فاختياله ودلاله، وسروره وحبوره، ونشاطه وانبساطه. وإن كان الوقت وقت غيبة وفراق فالشهود عليه نحوله وذبوله، وحنينه وأنينه، ودموعه وهجوعه.. وفي معناه قلت «2» . يا من تغيّر صورتى لمّا بدا ... - لجميع ما ظنوا بنا- تحقيق   (1) هكذا في ص وفي م (يشهد) بدون ضمير غائب، وحسب النسخة الأولى تكون عودة الضمير على الكتاب المرقوم، وحسب النسخة الثانية يكون الكلام مستمرا خصوصا ولم يبدأ كالعادة بعلامة نشعر ببدء الآية مثل: قوله تعالى أو قوله جل ذكره.. أي: يشهد المقربون أن الأبرار لفى نعيم، ويتقوّى الرأى الأول بما قاله القشيري منذ قليل: إن الله يطلع بعض المقربين على أسرار خلقه بالقدر الذي يريده سبحانه، كذلك فإن السياق- على الفهم الثاني- يقتضى فتح همزة (إن الأبرار ... ) ولكنها مكسورة مما يدل على أن الكلام مستأنف- اللهم إلا إذا كانت يشهد بمعنى يقسم- فالشهادة ترد بمعنى القسم- كما مرّ من قبل ... وهمزة إن تكسر بعد القسم. (2) نسعد كثيرا جدا بهذا الشعر الذي صاغه القشيري، فهو شاعر مقلّ، ولكنه- كما هو واضح- رقيق دقيق. وربما كان معنى النص الأول على هذا الترتيب: يا من تغيّر صورتى- لمّا بدا- تحقيق لجميع ما ظنوا بنا أي أن ما ظهر على أسرّتى من أشياء حاولت كتمانها قد حقّق ظنون الواشين والعاذلين.. فلا فائدة.. فالصبّ تفضحه عيونه! ونحسب أن ما قبل النص، وما يقصده النص الثاني يؤيدان تذوقنا على هذا النحو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 وقلت: ولمّا أتى الواشين أنّى زرتها ... جحدت حذارا أن تشيع السرائر فقالوا: نرى في وجهك اليوم نضرة ... كست محيّاك «1» .. وهاذاك ظاهر! وبردك لا ذاك الذي كان قبله ... به طيب نشر لم تشعه المجامر فما كان منّى من بيان أقيمه ... وهيهات أن يخفى مريب مساتر! قوله جل ذكره: [سورة المطففين (83) : الآيات 25 الى 28] يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) «مَخْتُومٍ» أي رحيق لا غشّ فيه. ويقال: عتيق طيّب. ويقال: إنهم يشربون شرابا آخره مسك. ويقال: بل هو مختوم قبل حضورهم. ويقال: «خِتامُهُ مِسْكٌ» . ممنوع من كلّ أحد، معدّ مدّخر لكلّ أحد باسمه. «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» . وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، والسباق إلى القرب، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ عن الأخلاق الدّنيّة، وجولان الهمم فى الملكوت «2» ، واستدامة المناجاة. قوله جل ذكره: «وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» «تَسْنِيمٍ» أي: عين تسنّم عليهم من علوّ. وقيل: ميزاب ينصبّ عليهم من فوقهم. ويقال: سمّى تسنيما لأن ماءه يجرى في الهواء متسنّما فينصبّ في أوانى أهل الجنة   (1) كذا بالأصل ولعلّها (بدت في محياك) كى يستقيم الوزن. (2) هكذا في ص وهي أصح مما في م (المكتوب) فهى مشتبهة على الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 فمنهم من يسقى مزجا، ومنهم من يسقى صرفا.. الأولياء يسقون مزجا، والخواص يسقون صرفا «1» . قوله جل ذكره: [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) كانوا يضحكون استهزاء بهم.. فاليوم.. الذين آمنوا من الكفار يضحكون! «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟» «هَلْ ... » استفهام يراد منه التقرير. ويقال: إذا رأوا أهل النار في النار يعذّبون لا تأخذهم بهم رأفة، ولا ترقّ لهم قلوبهم، بل يضحكون ويستهزئون ويعيّرونهم.   (1) نفهم من هذا أن الخواص أعلى درجة من الأولياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704 سورة الانشقاق قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم جليل جلاله لا بالأشكال، وجماله لا على احتذاء أمثال، وأفعاله لا بأغراض وأعلال، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال، فهو الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال. قوله جل ذكره: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) «انْشَقَّتْ» : انصدعت. «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» أي قابلت أمر ربّها بالسمع والطاعة.. وحقّ لها أن تفعل ذلك. «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» بسطت باندكاك آكامها وجبالها حتى صارت ملساء، وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلّت عنها.. وقابلت أمر ربها بالسمع والطاعة. وجواب هذه الأشياء في قوله: «فَمُلاقِيهِ» أي يلقى الإنسان ما يستحقه على أعماله. «2» قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» .   (1) نعيد إلى الذاكرة ما قلناه من قبل من حدوث افتراق بين النسختين بين تفسير بسملتى «المطففين» و «الانشقاق» . (2) يرى الكسائي- ويوافقه أبو جعفر النحاس وغيره- أن جواب القسم هو: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... » أي: إذا انشقت السماء فمن أوتى كتابه بيمينه فحكمه كذا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 705 «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» : يا أيها المكلّف.. إنّك ساع بما لك سعيا ستلقى جزاءه بالخير خيرا وبالشّرّ شرّا. «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» وهو المؤمن المحسن. «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» أي حسابا لا مشقّة فيه. ويقال: «حِساباً يَسِيراً» أي يسمعه كلامه- سبحانه- بلا واسطة، فيخفّف سماع خطابه ما في الحساب من عناء. ويقال: «حِساباً يَسِيراً» : لا يذكّره ذنوبه. ويقال: يقول: ألم أفعل كذا؟ وألم أفعل كذا؟ يعدّ عليه إحسانه.. ولا يقول: ألم تفعل كذا؟ لا يذكّره عصيانه. «وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» أي بالنجاة والدرجات، وما وجد من المناجاة، وقبول الطاعات، وغفران الزّلّات. ويقال: بأن يشفّعه فيمن يتعلّق به قلبه. ويقال: بألا يفضحه. ويقال: بأن يلقى ربّه ويكلّمه قبل أن يدخله الجنة فيلقى حظيّته من الحور العين. قوله جل ذكره: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» وهو الكافر. «فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» .. أي ويلا. «وَيَصْلى سَعِيراً» جهنم. «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 706 من البطر «1» والمدح. «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» أنه لن يرجع إلينا، ولن يبعث. قوله جل ذكره: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» بالحمرة التي تعقب غروب الشمس. «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» وما جمع وضمّ. «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» تمّ واستوى واجتمع. ويقال: الشّفق حين غربت شمس وصالهم، وأذيقوا الفراق في بعض أحوالهم، وذلك زمان قبض بعد بسط، وأوان فرق عقيب جمع «2» . «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» : ليالى غيبتهم وهم بوصف الاستياق أو ليالى وصالهم وهم في روح التلاقي، أو ليالى طلبهم وهم بنعت القلق والاحتراق. «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» : إذا ظهر سلطان العرفان على القلوب فلا بخس ولا نقصان. قوله جل ذكره: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 19 الى 25] لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) أي حالا بعد حال. وقيل: من أطباق السماء. ويقال: شدّة بعد شدّة. ويقال: تارات الإنسان طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا. ويقال: طالبا ثم واصلا ثم متّصلا. ويقال: حالا بعد حال، من الفقر والغنى، والصحة والسّقم. ويقال: حالا بعد حال في الآخرة.   (1) هكذا في ص وهي في م (النظر) والسياق يقتضى (البطر) فهو من أشد آفات الطريق خطرا- كما نعرف من مذهب القشيري. (2) فى م (وأوان فراق بعد جمع) والاصطلاحان الصوفيان الملائمان هما (الفرق والجمع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 قوله جل ذكره: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟» أي فما لكفّار أمّتك لا يصدّقون.. وقد ظهرت البراهين؟ «وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» «يُوعُونَ» أي تنطوى عليه قلوبهم- من أوعيت المتاع في الظّرف أي جعلته فيه. «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم ليسوا منهم، ولهم أجر غير مقطوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 سورة البروج قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم من لا عقل يكتنهه «1» ، اسم من لا مثل يشبهه، اسم من لا فهم «2» يرتقى إليه بالتصوير، اسم من لا علم ينتهى إليه بالتقدير «3» ، اسم من لم يره بصر إلّا واحد- وهو أيضا مختلف فيه «4» ، اسم من لا يجسر أحد أن يتكلّم بغير ما إذن فيه، اسم من لا قطر يحويه، ولا سرّ يخفيه، ولا أحد يصل إلى معرفته إلّا من يرتضيه. قوله جل ذكره: [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) أراد البروج الاثني عشر «5» . «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» يوم القيامة. وجواب القسم قوله: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» . قوله جل ذكره: «وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» يقال: الشاهد الله، والمشهود الخلق.   (1) أي يدرك كنهه. (2) هكذا في النسختين، ومع ذلك فإننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (من لا وهم ... ) فمن أقوال ذى النون: (كل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك) الرسالة ص 4. (3) نعرف في الاصطلاح أن (التقدير) لله و (التدبير) للإنسان، ولكن (التقدير) مستعمل هنا خاصا بالإنسان أي أن أحدا لا يستطيع أن (يقدر) الله حق قدره. (4) يشير بذلك إلى اختلاف الآراء حول رؤية النبي (ص) ربه ليلة المعراج رؤية بصرية (الرسالة ص 175) . [ ..... ] (5) وهي التي تسير الشمس في كل منها شهرا، وهى: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 ويقال: الشاهد الخلق، والمشهود الله يشهدونه اليوم بقلوبهم، وغدا بأبصارهم. ويقال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود القيامة، قال تعالى: «وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «1» ، وقال في القيامة: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» «2» . وقيل: الشاهد يوم الجمعة «3» ، والمشهود يوم عرفة. ويقال: الشاهد الملك الذي يكتب العمل، والشاهد الإنسان يشهد على نفسه، وأعضاؤه تشهد عليه فهو شاهد وهو مشهود. ويقال: الشاهد يوم القيامة، والمشهود الناس. ويقال: المشهود هم الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم يشهد لهم وعليهم. ويقال: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم. ويقال: الشاهد الحجر الأسود لأنّ فيه كتاب العهد. ويقال: الشاهد جميع الخلق يشهدون لله بالوحدانية، والمشهود الله. ويقال: الشاهد الله شهد لنفسه بالوحدانية، والمشهود هو لأنه شهد لنفسه. قوله جل ذكره: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» أي لعنوا. والأخدود: الحفرة في الأرض إذا كانت مستطيلة، وقصتهم في التفسير معلومة «4» و «الْوَقُودِ» الحطب. وهم أقوام كتموا إيمانهم فلمّا علم ملكهم بذلك أضرم عليهم نارا عظيمة، وألقاهم فيها.   (1) آية 41 سورة النساء. (2) آية 103 سورة هود. (3) خرّج ابن ماجة وغيره رواية عن أبى الدرداء قوله: قال رسول الله (ص) : «أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة» . (4) قيل هم من السجستان، وقيل من نجران، وقيل من القسطنطينية، وقيل: هم من المجوس. وقيل من اليهود، وقيل من النصارى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 710 وآخر من دخلها امرأة كان معها رضيع، وهمّت أن ترجع، فقال لها الولد: قفى واصبري.. فأنت على الحقّ. وألقوها في النار، واقتحمتها، وبينما كان أصحاب الملك قعودا حوله يشهدون ما يحدث ارتفعت النار من الأخدود وأحرقتهم جميعا، ونجا من كان في النار من المؤمنين وسلموا. قوله جل ذكره: [سورة البروج (85) : الآيات 8 الى 13] وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) ما غضبوا منهم إلّا لإيمانهم. قوله جل ذكره: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» أي أحرقوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا عن كفرهم «فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ» : نوع من العذاب، «وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» : نوع آخر «1» . قوله جل ذكره: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» «ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» : النجاة العظيمة. «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» البطش الأخذ بالشدة. «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» يبدئ الخلق ثم يعيدهم بعد البعث.   (1) قد يكون العذاب الأول بالزمهرير في جهنم، والثاني بنار الحريق فكأنهم يعذبون ببردها وحرها والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 ويقال: يبدئ بالعذاب ثم يعيد، وبالثواب ثم يعيد. ويقال: يبدئ على حكم العداوة والشقاوة ثم يعيد عليه، ويبدئ على الضعف ويعيدهم إلى الضعف. ويقال: يبدى الأحوال السّنيّة فإذا وقعت حجبة يعيد ثانية. ويقال: يبدى بالخذلان أمورا قبيحة ثم يتوب عليه، فإذا نقض توبته فلأنه أعاد له من مقتضى الخذلان ما أجراه في أول حاله. ويقال: يبدى لطائف تعريفه ثم يعيد لتبقى تلك الأنوار أبدا لائحة، فلا يزال يبدى ويعيد إلى آخر العمر. قوله جل ذكره: [سورة البروج (85) : الآيات 14 الى 22] وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) «الْغَفُورُ» كثير المغفرة، «الْوَدُودُ» مبالغة من الوادّ، ويكون بمعنى المودود فهو يغفر لهم كثيرا لأنه يودّهم، ويغفر لهم كثيرا لأنهم يودّونه. قوله جل ذكره: «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» ذو الملك الرفيع، والمجد الشريف. «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» لأنه مالك على الإطلاق فلا حجر عليه ولا حظر. قوله جل ذكره: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ» الجموع من الكفار. «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» وقد تقدم ذكر شأنهما. «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ» «الَّذِينَ كَفَرُوا» يعنى مشركى مكة «فِي تَكْذِيبٍ» للبعث والنشر. «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 عالم بهم. «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» مكتوب فيه. وجاء في التفسير: أنّ اللوح المحفوظ خلق من درّة بيضاء، دفّتاه من ياقوتة حمراء عرضها بين السماء والأرض، وأعلاه متعلّق بالعرش، وأسفله فى حجر ملك كريم. والقرآن كما هو محفوظ في اللوح كذلك محفوظ في قلوب المؤمنين، قال تعالى: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» فهو في اللوح مكتوب، وفي القلوب محفوظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 سورة الطارق قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز إذا أراد إعزاز عبد وفّقه لعرفانه، ثم زيّنه بإحسانه، ثم استخلصه بامتنانه فعصمه من عصيانه، وقام بحسن التولّى- فى جميع أحواله- بشانه، ثم قبضه على إيمانه، ثم بوّأه في جنانه، وأكرمه برضوانه، ثم أكمل عليه نعمته برؤيته وعيانه. قوله جل ذكره: [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) أقسم بالسماء، وبالنجم الذي يطرق ليلا. «وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟» استفهام يراد منه تفخيم شأن هذا النجم. «النَّجْمُ الثَّاقِبُ» المضيء العالي. وقيل: الذي ترمى به الشياطين. ويقال: هى «1» نجوم المعرفة التي تدل على التوحيد يستضىء بنورها ويهتدى بها أولو البصائر. «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عليه عمله ورزقه وأجله، ويحمله على دوام التيقّظ وجميل التحفّظ. قوله جل ذكره: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ   (1) هكذا في م وهي في ص (هو نجم المعرفة ... إلخ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» يخرج من صلب الأب، وتريبة الأم. وهو بذلك يحثّه على النّظر والاستدلال حتى يعرف كمال قدرته وعلمه وإرادته- سبحانه. «إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ» إنه على بعثه، وخلقه مرة أخرى لقادر لأنه قادر على الكمال- والقدرة على الشيء تقتضى القدرة على مثله، والإعادة في معنى الابتداء. «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» يوم تمتحن الضمائر. «فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ» أي ما لهذا الإنسان- يومئذ- من معين يدفع عنه حكم الله. «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ» أي المطر. «وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» «الصَّدْعِ» : الانشقاق بالنبات للزرع والشجر. «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ» أي: إن القرآن لقول جزم. «وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» الهزل ضد الجدّ، فليس القرآن بباطل ولا لعب. قوله جل ذكره: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 أي يحتالون حيلة. «وَأَكِيدُ كَيْداً» هم يحتالون حيلة، ونحن نحكم فعلا ونبرم خلقا، ونجازيهم على كيدهم، بما نعاملهم به من الاستدراج والإمهال. «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» أي أنظرهم، وأمهلهم قليلا، وأرودهم رويدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 سورة الأعلى قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز من قصده وجده، ومن استسعفه حمده. من طلبه عرفه، ومن عرفه لاطفه، فإذا وجد لطفه ألفه، وإذا ألفه أنف أن يخالفه. قوله جل ذكره: [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) أي سبّح ربّك بمعرفة أسمائه، واسبح بسرّك في بحار علائه، واستخرج من جواهر علوّه وسنائه ما ترصّع به عقد مدحه وثنائه. «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» خلق كلّ ذى روح فسوّى أجزاءه، وركّب أعضاءه على ما خصّه به من النظم العجيب والتركيب البديع. «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» أي قدّر ما خلقه، فجعله على مقدار ما أراده، وهدى كلّ حيوان إلى ما فيه رشده من المنافع، فيأخذ ما يصلحه ويترك ما يضره- بحكم الإلهام. ويقال: هدى قلوب الغافلين إلى طلب الدنيا فعمروها، وهدى قلوب العابدين إلى طلب العقبى فآثروها. وهدى قلوب الزاهدين إلى فناء الدنيا فرفضوها، وهدى قلوب العلماء إلى النظر في آياته والاستدلال بمصنوعاته فعرفوا تلك الآيات ولازموها. (وهدى قلوب المريدين إلى عزّ وصفه فآثروه، واستفرغوا جهدهم فطلبوه) «1» ، وهدى   (1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 العارفين إلى قدس نعته فراقبوه ثم شاهدوه، وهدى الموحّدين إلى علاء سلطانه في توحد كبريائه فتركوا ما سواه وهجروه، وخرجوا عن كلّ مألوف لهم ومعهود «1» حتى قصدوه. فلمّا ارتقوا عن حدّ البرهان ثم عن حدّ البيان ثم عمّا كالعيان علموا أنّه عزيز، وأنّه وراء كلّ فصل ووصل، فرجعوا إلى موطن العجز فتوسّدوه. «وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى» أي النبات. «فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» جعله هشيما كالغثاء، وهو الذي يقذفه السيل. و «أَحْوى» أسود. «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» «2» سنجمع القرآن في قلبك- يا محمد- حفظا حتى لا تنسى لأنا نحفظه عليك. «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» مما لا يدخل تحت التكليف فتنساه قبل التبليغ ولم يجب عليه أداؤه. وهو- سبحانه- يعلم السّرّ والعلن. قوله جل ذكره: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» والذّكرى تنفع لا محالة «3» ، ولكن لمن وفّقه الله للاتعاظ بها، أمّا من كان المعلوم من حاله الكفر والإعراض فهو كما قيل:   (1) هكذا في م وهي في ص (معبود) وقد رجحنا (معهود) لتلاؤمها مع (مألوف) . ولكن إذا تذكرنا أن الصوفية يرون الانسياق وراء الهوى نوعا من الشرك الخفي- قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» - فيمكن في ضوء ذلك قبول (معبود) أيضا. (2) يرى الجنيد أن المعنى «فلا تنسى العمل به» ، وهذا من الآراء الحسنة التي يتمشى معها رأى القشيري فى «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» . (3) ولهذا تفسر (إن) فى الآية على معنى (ما) : أي فذكر ما نفعت الذكرى، ولا يكون لها حينئذ معنى الشرط، وتفسر على معنى (إذ) مثل: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ، وعلى معنى (قد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم [سورة الأعلى (87) : الآيات 10 الى 19] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) الذي يخشى الله ويخشى عقوبته. «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» أي يتجنّب الذّكر الأشقى الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها موتا يريحه، ولا يحيا حياة تلذّ له. قوله جل ذكره: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» من تطهّر من الذنوب والعيوب، ومشاهدة الخلق وأدّى الزكاة- وجد النجاة، والظّفر بالبغية، والفوز بالطّلبة. «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» ذكر اسم ربّه في صلاته. ويقال: ذكره بالوحدانية وصلّى له. «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا» تميلون إليها فتقدّمون حظوظكم منها على حقوق الله تعالى. [ «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» والآخرة للمؤمنين خير وأبقى- من الدنيا- لطلّابها.] «1» قوله جل ذكره: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» إن هذا الوعظ لفى الصحف المتقدمة، وكذلك في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما لأنّ التوحيد، والوعد والوعيد.. لا تختلف باختلاف الشرائع.   (1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 سورة الغاشية قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : كلمة من سمعها وفي قلبه عرفانه تلألأت أنوار قلبه، وتفرّقت أنواع كربه، وتضاعفت في جماله طوارق حبّه، وتحيّرت في جلاله شوارق لبّه. كلمة من عرفها- وفي قلبه إيمانه- أحبّها من داخل الفؤاد، وهجر- فى طلبها- الرّقاد، وترك- لأجلها- كلّ همّ ومراد. قوله جل ذكره: [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) «الْغاشِيَةِ» المجلّلة، يريد بها القيامة تغشى الخلق، تغشى وجوه الكفّار. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً» وجوه- إذا جاءت القيامة- خاشعة أي ذليلة. عاملة ناصبة: النّصب التعب. جاء في التفسير: أنهم يجرّون على وجوههم. «تَصْلى ناراً حامِيَةً» تلزم نارا شديدة الحرّ. ويقال: «عامِلَةٌ» فى الدنيا بالمعاصي، «ناصِبَةٌ» فى الآخرة بالعذاب. ويقال: «ناصِبَةٌ» فى الدنيا «عامِلَةٌ» لكن من غير إخلاص كعمل الرهبان «1» ، وفي معناه عمل أهل النفاق.   (1) روى الضحاك عن ابن عباس قوله: «هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عز وجل، وعلى الكفر، مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله- جل ثناؤه- منهم إلا ما كان خالصا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 «تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» تناهى حرّها. َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» نبت ينمو بالحجاز له شوك، وهو سمّ لا تأكله الدواب، فإذا أكلوا ذلك في النار يغصّون، فيسقون الزقّوم. وإن اتصاف الأبدان- اليوم- بصورة الطاعات مع فقد الأرواح وجدان المكاشفات (وفقد) «1» الأسرار أنوار المشاهدات، (وفقد) القلب الإخلاص والصدق في الاعتقادات لا يجدى خيرا، ولا ينفع شيئا- وإنما هي كما قال: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» قوله جل ذكره: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» أي: متنعّمة، ذات نعمة ونضارة. «لِسَعْيِها راضِيَةٌ» حين وجدت الثواب على سعيها، والقبول لها. «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» عالية في درجتها ومنزلتها وشرفها. هم بأبدانهم في درجاتهم، ولكن بأرواحهم مع الله فى عزيز مناجاتهم. «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» لأنهم يسمعون بالله فليس فيها كلمة لغو. قوم يسمعون بالله، وقوم يسمعون لله، وقوم يسمعون من الله، وفي الخبر: «كنت له سمعا وبصرا فبى يسمع وبى يبصر «2» .   (1) ما بين القوسين إضافة من جانبنا كى يكون السياق أكثر وضوحا. [ ..... ] (2) «ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي يبعسر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها» أورده السراج في لمعه ص 88. وهو حديث قدسى رواه البخاري عن أبى هريرة وأحمد عن عائشة، والطبراني في الكبير عن أبى أمامة، وابن السنى عن ميمون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» أراد عيونا لأن العين اسم جنس، والعيون الجارية هنالك كثيرة ومختلفة. ويقال: تلك العيون الجارية غدا لمن له- اليوم- عيون جارية بالبكاء «1» ، وغدا لهم عيون ناظرة بحكم اللقاء. [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 15] النمارق المصفوفة في التفسير: الطنافس المبسوطة. الزرابي المبثوثة في التفسير: البسط المتفرقة. وإنما خاطبهم على مقادير فهو مهم «2» . قوله جل ذكره: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟» لمّا ذكر وصف تلك السّرر المرفوعة المشيّدة قالوا: كيف يصعدها المؤمن؟ فقال: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ كيف إذا أرادوا الحمل عليها أو ركوبها تنزل؟ فكذلك تلك السّرر تتطامن حتى يركبها الوليّ. وإنما أنزلت هذه الآيات على وجه التنبيه، والاستدلال بالمخلوقات على كمال قدرته سبحانه. فالقوم كانوا أصحاب البوادي لا يرون شيئا إلا السماء والأرض والجبال والجمال ... فأمرهم بالنظر في هذه الأشياء.   (1) منذ عهد مبكر ظهرت طائفة البكّائين في صفوف الزهاد، وإن كان بعض الصوفية لا يتحمس البكاء إمّا لأن الدموع علامة شكوى، وهم لا يحبون أن يشكوا، وإمّا لأنها تنم عن ضعف الحال، وهم يتمنون أن يكونوا راسخين كالجبال. (2) يتبع هذا فكرة القشيري الأساسية عن وصف الآخرة: الأسماء أسماء، والأعيان بخلاف ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 وفي الإبل خصائص تدل على كمال قدرته وإنعامه جل شأنه منها: ما في إمكانهم من الانتفاع بظهورها للحمل والركوب، ثم بنسلها، ثم بلحمها ولبنها ووبرها ... ثم من سهولة تسخيرها لهم، حتى ليستطيع الصبيّ أن يأخذ بزمامها، فتنجرّ وراءه. والإبل تصبر على مقاساة العطش في الأسفار الطويلة، وهي تقوى على أن تحمل فوق ظهورها الكثير من الحمولات.. ثم حرانها إذا حقدت، واسترواحها إلى صوت من يحدوها عند الإعياء والتعب، ثم ما يعلّل المرء بما يناط بها من برّها «1» . [سورة الغاشية (88) : الآيات 26 الى 21] «2» لست عليهم بمسلّط فذكّر- يا محمد- بما أمرناك به، فبذلك أمرناك «3» . «إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» إلا من تولّى عن الإيمان وكفر فيعذبه الله بالخلود في النار. «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» إن إلينا رجوعهم، ثم نجازيهم على الخير والشرّ.   (1) إشارة القشيري الخاصة بالإبل استوفت المراد، فمن المعلوم أن ضروب الحيوان المختلفة لا تخرج عن أربعة: حدوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. وقد استطاع القشيري أن يقنع أن الإبل جمعت كل هذه المنافع. (2) بمصيطر ومسيطر، أي بالصاد والسين (الصحاح) . (3) لم يقع القشيري فيما وقع فيه بعض المفسرين حين قالوا: «إن في الآية نسخا بآيات القتال والجهاد» ... فالعذاب الأكبر في الآخرة لا ينفى تعذيب الكفار بشتى ألوان التعذيب في الدنيا، ومنها القتل والأسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 سورة الفجر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . بسم الله كلمة ما استولت على قلب فقير فأقلقته، وما تمكّنت من سرّ متيّم فشتّته، وما استولت على روح محبّ فرحمته «1» . كلمة قهّارة للقلوب.. ولكن لا لكلّ قلب، كلمة لا سبيل لها لكلّ عقل، كلمة تكتفى من العابدين بقراءتهم لها، ولكنها لا ترضى من المحبين إلا ببذل أرواحهم فيها. قوله جل ذكره: [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) الفجر انفجار الصّبح وهو اثنان: مستطيل وقصير «2» ففى التفسير: إنه فجر المحرّم لأنه ابتداء السنة كلها، وقيل: فجر ذى الحجة. ويقال: هو الصخور ينفجر منها الماء. ويقال: أقسم به لأنّه وقت عبادة الأولياء عند افتتاحهم النهار. «وَلَيالٍ عَشْرٍ» قيل: هى عشر ذى الحجة، ويقال: عشر المحرم لأن آخرها عاشوراء. ويقال: العشر الأخيرة من رمضان. ويقال: هى العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام تمّ به ميعاده بقوله: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» .   (1) هكذا في النسختين، ولا نستبعد أنها في الأصل: (فأراحته) ذلك لأن رحمة الله عامة، للخاصة والكافة، أما محبته- التي هي رحمة خاصة بالخواص- فهى المقصودة هنا (الرسالة ص 158) وهذه المحبة إذا استولت على روح محب أزعجته وما (أراحته) لأنها تتطلب بذل الروح، واسترخاص المهجة. (2) فى النسختين (مستطيل ومستطير) ولم نفهم المقصود، فوضعنا (قصير) محل مستطير كى يكون هناك بين فجر لعام كامل. وفجر ليوم واحد- والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 ويقال: هو «فجر» قلوب العارفين إذا ارتقوا عن حدّ العلم، وأسفر صبح معارفهم، فاستغنوا عن ظلمة طلب البرهان «1» بما تجلّى في قلوبهم من البيان. «وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ» جاء في التفاسير: الشفع يوم النّحر، والوتر يوم عرفة «2» . ويقال: آدم كان وترا فشفع بزوجته حواء. وفي خبر: إنها الصلوات منها وتر (كصلاة المغرب) ومنها شفع كصلاة الصّبح. ويقال: الشفع الزوج من العدد، والوتر الفرد من العدد. ويقال: الشفع تضادّ أوصاف الخلق: كالعلم والجهل، والقدرة والعجز، والحياة والموت. والوتر انفراد صفات الله سبحانه عمّا يضادّها علم بلا جهل، وقدرة بلا عجز، وحياة بلا موت. ويقال: الشفع الإرادة والنية، والوتر الهمّة لا تكتفى بالمخلوق ولا سبيل لها إلى الله- لتقدّسه عن الوصل والفصل. فبقيت الهمّة غريبة. ويقال: الشفع الزاهد والعابد، لأن لكل منهما شكلا وقرينا، والوتر المريد فهو كما قيل: فريد من الخلّان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد «وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» «يسرى» يمضى. قوله جل ذكره: «هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟» «حِجْرٍ» . لبّ. وجواب القسم: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» .   (1) أي عن النطاق العقلي.. والعقل- فى نظر الصوفية- مصاب بآفات التجويز والتحير والارتباط بالمحسات. (2) يوم عرفة وتر، لأنه تاسع الأيام العشرة، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها.. وقد روى حديث بهذا المعنى عن جابر بن عبد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 725 «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ... » ذكر قصص هؤلاء المتقدمين.. إلى قوله: «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» أي: شدة العذاب. [سورة الفجر (89) : الآيات 14 الى 17] إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) لا يفوته شىء. قوله جل ذكره: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» «فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» : أي: شكره. «فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» . أي: ضيّق، «فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» . أي: أذلّنى. كلا.. ليس الإذلال بالفقر إنما الإذلال بالخذلان للعصيان «1» . قوله جل ذكره: «كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» أي: أنتم تستحقون الإهانة على هذه الخصال المذمومة فلا تكرمون اليتيم. [سورة الفجر (89) : الآيات 19 الى 25] وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) لمّا. أي شديدا. «وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا» جمّا أي كثيرا.   (1) كما نعرف من مذهب القشيري، أقصى درجات الغضب: الخذلان للعصيان وأقصى درجات الرضا: التوفيق الطاعة.. وكلاهما من الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 726 قوله جل ذكره: «كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا» أي: قامت القيامة. «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» «وَجاءَ رَبُّكَ» أي الملائكة بأمره «1» . ويقال: يفعل فعلا فيسميه مجيئا. «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟!» يقال: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام» وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان.. ولا ينفعه التذكّر، ولا يقبل منه العذر. «يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» أي: أطعت ربّى ونظرت لنفسى. «فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ» أي: لا يعذّب في الدنيا أحد مثلما يعذّبه الله في ذلك اليوم.. إذا قرئت الذال بالكسر. أما إذا قرئت بالفتح «3» «لا يُعَذِّبُ» فالمعنى: لا يعذّب أحد مثلما يعذّب هذا الكافر «4» . قوله جل ذكره: [سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30] يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)   (1) أي: جاءهم ربّك. أي: ظهرت آياته، وأزيل الشك، وصارت المعارف ضرورية، وظهرت القدرة الإلهية. والمقصود نفى التحول من مكان إلى مكان عن الله، فقد جلّت الصمدية عن الارتباط بالتحول الحركى والتقيد الزمانى والمكاني. (2) « ... كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش» (ابن مسعود) وفي صحيح مسلم حديث يرويه ابن مسعود بهذا المعنى. (3) بالفتح قراءة الكسائي «لا يُعَذِّبُ» «وَلا يُوثِقُ» . [ ..... ] (4) قيل: هو إبليس لأنه أشد المخلوقات عذابا، وقيل «هو أمية بن خلف لتناهيه في كفره وعناده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 727 الروح المطمئنة إلى النفس. ويقال: المطمئنة بالمعرفة: ويقال: المطمئنة بذكر الله. ويقال: بالبشارة بالجنة. ويقال: النفس المطمئنة: الروح الساكنة «1» «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» راضية «2» عن الله، مرضية من قبل الله. «فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» أي: فى عبادى الصالحين.   (1) تأخرت هذه العبارة الأخيرة إلى نهاية السورة في النسختين فنقلناها إلى موضعها. (2) وردت (من) ولكننا وجدنا أن المعنى حينئذ لن يتغير فيما بين اسم الفاعل واسم المفعول، فوضعنا (عن) بدلا من (من) مسترشدين بقوله تعالى: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» . وإن كنا لا نستبعد أن (من) تؤدى معنى صوفيا: هو أنه حتى رضاهم عن الله (من) الله، فليس للعبد حول ولا طول حتى يرضى أو يسخط ... إلا إذا كان ثمة فضل إلهى (من) الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 728 سورة البلد قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة تخبر عن جلال أزليّ، وجمال سرمديّ، جلال ليس له زوال، وجمال ليس له انتقال، جلال لا بأغيار «2» وأمثال، جمال لا بصورة ومثال، وجلال هو استحقاقه لجبروته وجمال هو استيجابه لملكوته، جلال من كاشفه به فأوصافه فناء في فناء، وجمال من لاطفه به فأحواله بقاء في بقاء. قوله جل ذكره: [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) أي: أقسم بهذا البلد، وهو مكة. «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» وإنما أحلّت له ساعة واحدة «3» . «وَوالِدٍ وَما وَلَدَ» كلّ والد وكلّ مولود. وقيل: آدم وأولاده وجواب القسم: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» . ويقال: أقسم بهذا البلد لأنك حلّ به.. وبلد الحبيب حبيب. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ»   (1) مرة أخرى حدث اضطراب.. فتفسير البسملة هنا كما جاء في م موضوع في ص في أول السورة القادمة: سورة الشمس.. والعكس في م. (2) هكذا في م وهي في ص (باعتبار) والصحيح ما أثبتنا. (3) عن ابن عباس قال: «أحلّت له ساعة من نهار ثم أطبقت وحرّمت إلى القيامة وذلك يوم فتح مكة. وثبت أن النبي (ص) قال: «إن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد بعدى، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 729 أي: فى مشقة فهو يقاسى شدائد الدنيا والآخرة. ويقال: خلقه في بطن أمه (منتصبا رأسه) فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمّه تنكّس رأسه عند خروجه، ثم في القماط وشدّ الرّباط ... ثم إلى الصّراط هو في الهياط والمياط «1» . قوله جل ذكره: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» أي: لقوّته وشجاعته عند نفسه يقول: «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» «لُبَداً» كثيرا، فى عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. «2» «أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ» أليس يعلم أنّ الله يراه، وأنه مطّلع عليه؟ قوله جل ذكره: «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟» أي: ألم نخلقه سميعا بصيرا متكلّما. «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» ألهمناه طريق الخير والشّر. [سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) أي: فهلّا اقتحم العقبة. «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ استفهام على التفخيم لشأنها. ويقال: هى عقبة بين الجنة والنار يجاوزها من فعل ما قاله: وهو فكّ رقبة: أي: إعتاق مملوك، والفكّ الإزالة. وأطعم في يوم ذى مجاعة وقحط وشدّة يتيما ذا قرابة، أو «مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» : لا شىء له حتى كأنه قد التصق بالتراب من الجوع.   (1) يقال: هم في هياط ومياط أي في شر وجلبة، وقيل: فى دنو وتباعد (الوسيط) . (2) يقال: نزلت في رجل من بنى جمح كان يقال له: أبو الأشدين، وكان من أشد أعداء النبي (ص) . (قاله الكلبي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 730 قوله جل ذكره: «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» أي: من الذين يرحم بعضهم بعضا. «أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» أي: أصحاب اليمن والبركة. «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» هم المشائيم على أنفسهم، عليهم نار مطبقة يعنى أبواب النيران (عليهم مغلقة) . والعقبة التي يجب على الإنسان اقتحامها: نفسه وهواه، وما لم يجز تلك العقبة لا يفلح و «فَكُّ رَقَبَةٍ» هو إعتاق نفسه من رقّ الأغراض والأشخاص. ويكون فك الرقبة بأن يهدى من يفكّه- من رق هواه ونفسه- إلى سلامته من شحّ نفسه، ويرجعه إليه، ويخرجه من ذلّه. ويكون فكّ الرقبة بالتّحرّز من التدبير، والخروج من ظلمات الاختيار إلى سعة الرضاء. ويقال: يطعم من كان في متربة ويكون هو في مسغبة. «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... » أي تكون خاتمته على ذلك «1» .   (1) أي يبقى على ذلك حتى الوفاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 731 سورة الشمس قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» إخبار عن وجود الحقّ بنعت القدم. «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن بقائه بوصف العلاء والكرم. كاشف الأرواح بقوله: «بِسْمِ اللَّهِ» فهيّمها، وكاشف النفوس بقوله: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فتيمّها فالأرواح دهشى في كشف جلاله، والنفوس عطشى إلى لطف جماله «1» . قوله جل ذكره: [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) ضحا الشمس صدر وقت طلوعها. «وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» أي: تبعها وذل في النصف الأول من الشهر. «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها» إذا جلّى الشمس وكشفها. «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» أي: يغشى الشمس (فيذهب بضوئها) . «وَالسَّماءِ وَما بَناها» أي وبنائها. ويقال: ومن بناها «2»   (1) نذكر بما قلناه آنفا عن تعاكس وضع تفسيرى البسملة فيما بين «البلد» و «الشمس» فى النسختين م، وص. (2) هذا القول الأخير اختاره الطبري، وقاله الحسن ومجاهد. وأهل الحجاز يقولون: سبحان (ما) سبّحت له. أي سبحان من سبحت له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 732 «وَالْأَرْضِ وَما طَحاها» أي: وطحوها. ويقال: ومن طحاها (أي بسطها أو قسمها أو خلقها) . «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» ومن سوّى أجزاءها وأعضاءها. «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» أي: بأن خذلها ووفّقها. ويقال: فجورها: حركتها في طلب الرزق، وتقواها: سكونها بحكم القدير. وقيل: طريق الخير والشر. قوله جل ذكره: [سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 15] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) هذا جواب القسم. أي: «لقد أفلح من زكّاها» . ويقال: من زكّاها الله عزّ وجلّ. «وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» أي: دسّاها الله. وقيل: دسّها «1» فى جملة الصالحين وليس منهم. وقيل: خاب من دسّ نفسه بمعصية الله. وقيل دسّاها: جعلها خسيسة حقيرة. وأصل الكلمة دسسها «2» قوله جل ذكره: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» «بِطَغْواها» : لطغيانها، وقيل: إن صالحا قد مات، فكفر قومه، فأحياه الله، فدعاهم إلى الإيمان، فكذّبوه، وسألوه علامة وهي الناقة، فأتاهم صالح بما سألوا. «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» .   (1) أي دسها صاحبها. (2) من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياء كما يقال: قصّيت أظفارى والأصل قصصت، ومثله قولهم في تضّض: تقضّى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 733 «أَشْقاها» عاقرها. «فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» أي: احذروا ناقة الله، واحذروا سقياها: أي: لا تتعرّضوا لها. «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها ... » أي كذّبوا صالحا، فعقروا الناقة. « ... فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها» . أي: أهلكهم بجرمهم، «فَسَوَّاها» : أي أطبق عليهم العذاب «1» . ويقال: سوّى بينهم ربّهم في العذاب لأنهم كلهم رضوا بعقر الناقة. قوله جل ذكره: «وَلا يَخافُ عُقْباها» أي: أن الله لا يخاف عاقبة ما فعل بهم من العقوبة. ويقال: قد أفلح «2» من داوم على العبادة، وخاب من قصّر فيها. وفائدة السورة: أنه أفلح من طهّر نفسه عن الذنوب والعيوب، ثم عن الأطماع في الأعواض والأغراض، ثم أبعد نفسه عن الاعتراض على الأقسام، وعن ارتكاب الحرام. وقد خاب من خان نفسه، وأهملها عن المراعاة، ودنّسها بالمخالفات فلم يرض بعدم المعاني حتى ضمّ إلى فقرها منها الدعاوى المظلمة ... فغرقت في بحر الشقاء سفينته.   (1) بأن سوى عليهم الأرض. [ ..... ] (2) هكذا في ص وهي في م (أصلح) وقد رجّحنا ما أثبتنا، فهكذا الآية، ثم ما تلا هذه العبارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 734 سورة اللّيل قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة تخبر عن إلهية الله وهي استحقاقه لنعوت المجد والتوحّد، وصفات العزّ والتفرّد فمن تجرّد في طلبه عن الكسل، ولم يستوطن مركب العجز والفشل، ووضع النظر موضعه وصل بدليل العقل إلى عرفانه، ومن بذل روحه ونفسه وودّع في الطلب راحته وأنسه، ولم يعرّج في أوطان الوقفة ظفر بحكم الوصل إلى شهود سلطانه، والناس فيه بين موفّق ومخذول، أو مؤيّد ومردود. قوله جل ذكره: [ سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) يغشى الأفق، وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته. والليل لأصحاب التحيّر يستغرق جميع أقطار أفكارهم فلا يهتدون الرشد. «وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» أنار وظهر، ووضح وأسفر. ونهار أهل العرفان بضياء قلوبهم وأسرارهم، حتى لا يخفى عليهم شىء، فسكنوا بطلوع الشمس «1» عن تكلّف إيقاد السراج «2» «وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» أي: «من» خلق الذكر والأنثى وهو الله سبحانه: «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» هذا جواب القسم، والمعنى: إنّ عملكم لمختلف فمنكم: من سعيه في طلب دنياه، ومنكم من سعيه في شهوات نفسه واتباع هواه، ومنكم من في طلب جاهه ومناه، وآخر في طلب عقباه،   (1) يقصد شمس التوحيد. (2) إذا طلعت شمس التوحيد لم تغن محاولات العقل، لأن نورها يطغى على كل الأنوار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 735 وآخر في تصحيح تقواه، وآخر في تصفية ذكراه، وآخر في القيام بحسن رضاه، وآخر في طلب مولاه. ومنكم: من يجمع بين سعى النّفس بالطاعة، وسعى القلب بالإخلاص، وسعى البدن بالقرب، وسعى اللسان بذكر الله، والقول الحسن للناس، ودعاء الخلق إلى الله والنصيحة لهم. ومنهم من سعيه في هلاك نفسه وما فيه هلاك دنياه ... ومنهم.. ومنهم. قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى» من ماله، «وَاتَّقى» مخالفة ربّه ... ويقال: «أَعْطى» الإنصاف من نفسه، «وَاتَّقى» طلب الإنصاف لنفسه «1» ... ويقال: «اتَّقى» مساخط الله. «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى» : بالجنة، أو بالكرّة الآخرة، وبالمغفرة لأهل الكبائر، وبالشفاعة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالخلف «2» من قبل الله ... فسنيسّره لليسرى: أي نسهّل عليه الطاعات، ونكرّه إليه المخالفات، ونشهّى إليه القرب، ونحبّب إليه الإيمان، ونزيّن في قلبه الإحسان. ويقال: الإقامة على طاعته والعود إلى ما عمله من عبادته. «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» أما من منع الواجب، واستغنى في اعتقاده، وكذّب بالحسنى: أي بما ذكرنا، فسنيسره للعسرى فيقع في المعصية ولم يدبّرها، ونوقف «3» له أسباب المخالفة. ويقال «أَعْطى» أعرض عن الدارين، «وَاتَّقى» أن يجعل لهما في نفسه مقدارا. «4»   (1) من الفتوة أن تتحلّى بالإنصاف وأن تتخلّى عن الانتصاف.. هكذا قال الشيوخ. (2) (الخلف) بالمعنى العام: إن الله يرث الأرض ومن عليها، وبالمعنى الصوفي: «فالذين يهبهم- فى حال لفناء والحق- فهو عنهم خلف (انظر بسملة الأحقاف من هذا المجلد) . (3) هكذا في ص وهي في م (ونوفّق) وهي مقبولة أيضا (فالتوفيق) العسرى هو التيسير لها كما في الآية.. بل لعلّها أقرب إلى السياق مما في ص. (4) حتى يبتعد عن الأعواض والأغراض، وينقى قلبه لله وحده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 736 قوله جل ذكره: [سورة الليل (92) : الآيات 11 الى 21] وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) يعنى: إذا مات.. فما الذي يغنى عنه ماله بعد موته؟ قوله جل ذكره: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» لأوليائنا، الذين أرشدناهم. ويقال: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» بنصيب الدلائل. «وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى» ملكا، نعطيه من نشاء. «فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى» أي: تتلظّى. «لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى» أي: لا يعذّب بها إلّا الأشقى، وهو: «الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» يعنى: كفر. «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى» يعطى الزكاة المفروضة. ويقال يتطهّر من الذنوب. ونزلت الآية فى (أبى بكر) «1» رضى الله عنه. والآية عامة.   (1) ما بين القوسين غير موجود في م، ويوجد فقط «رضى الله عنه» وفي م: يوجد فقط (والآية عامة) فأكملنا السياق. ويروى: أن النبي (ص) مر ببلال وهو يعذب في الله ويقول: أحد أحد، فلما نقل ذلك إلى أبى بكر، عرف أبوبكر ما يريده النبي، فذهب إلى أمية بن خلف، واشترى بلالا وأعتقه، فلما قال المشركون: ما أعتقه أبوبكر إلا ليد كانت له عنده، نزل قوله تعالى: «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى» حتى تكون هذه مكافأة له. ولا يفعل هذا ليتّخذ عند أحد يدا، ولا يطلب منه مكافأة: «إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» أي: ليتقرّب بها إلى الله. «وَلَسَوْفَ يَرْضى» يرضى الله عنه، ويرضى هو بما يعطيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 سورة الضّحى قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم لا يشبهه كفو «1» فى ذاته وصفاته، ولا يستفزّه «2» لهو في إثبات مصنوعاته، ولا يعتريه سهو في علمه وحكمته، ولا يعترضه لغو في قوله وكلمته. فهو حكيم لا يلهو، وعليم لا يسهو، وحليم يثبت ويمحو فالصدق قوله، والحقّ حكمه، والخلق خلقه والملك ملكه. قوله جل ذكره: [ سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) «وَالضُّحى» : ساعة من النهار. أو النهار كلّه يسمّى ضحى. ويقال: أقسم بصلاة الضّحى. ويقال: الضحى الساعة التي كلّم فيها موسى عليه السلام. «وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» أي: ليلة المعراج، و «سَجى» : أي سكن، ويقال: هو عامّ فى جنس الليل. ويقال: «الضُّحى» وقت الشهود. «وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» الذي قال: إنه ليغانّ على قلبى «3» ... »   (1) أصلها «كفؤ» أي مماثل، أو قوى قادر على تصريف العمل. ويقرأ بضم الفاء وسكونها، فإن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان إلا قوله تعالى «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً» (آية 15 سورة الزخرف) . (2) استفزه الشيء- استخفه، واستفزه فلان- أثاره وأزعجه. (3) عن أغر مزينة قال: قال رسول الله (ص) : إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية لمسلم: «توبوا إلى ربكم، فو الله إنى لأتوب إلى ربى تبارك وتعالى في اليوم مائة مرة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 ويقال: «اللَّيْلِ إِذا سَجى» حين ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا- على التأويل الذي يصحّ في وصفه «1» . «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» ما قطع عنك الوحى وما أبغضك «2» . وكان ذلك حين تأخّر جبريل- عليه السلام- عنه أياما «3» ، فقال أهل مكة: إن محمدا قد قلاه ربّه. ثم أنزل الله هذه السورة. وقيل: احتبس عنه جبريل أربعين يوما، وقيل: اثنى عشر يوما، وقيل: خمسة وعشرين يوما. ويقال: سبب احتباسه أن يهوديا سأله عن قصة ذى القرنين وأصحاب الكهف، فوعد الجواب ولم يقل: إن شاء الله» . «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» أي: ما يعطيك في الآخرة خير لك مما يعطيك في الدنيا. ويقال: ما أعطاك من الشفاعة والحوض، وما يلبسك من لباس التوحيد- غدا- خير مما أعطاك اليوم. «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» قيل: أفترضى بالعطاء عن المعطى؟ قال: لا. قوله جل ذكره: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟»   (1) تقدّم التعليق على هذا الخبر في هامش سبق. (2) هكذا في ص وهي في م (يغضبك) . (3) فى البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله (ص) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة (هى العوراء بنت حرب أخت أبى سفيان، وهي حمالة الحطب، زوج أبى لهب) فقالت: يا محمد، إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عز وجل «والضحى» . [ ..... ] (4) يقال: إن جروا دخل تحت السرير في حجرته ومات، فلما تغيب الوحى سأل خادمه خولة: يا خولة ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتينى؟ فلما قامت إلى البيت فكنسته وأخبرته بما وجدت ... فلما عاده الوحى سأله عن سرّ تأخره فقال جبريل: أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 قيل: إلى عمّه أبى طالب. ويقال: بل آواه إلى كنف ظلّه، وربّاه بلطف رعايته. ويقال: فآواك إلى بساط القربة بحيث انفردت بمقامك، فلم يشاركك فيه أحد [سورة الضحى (93) : الآيات 7 الى 11] وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) أي: ضللت في شعاب مكة، فهدى إليك عمّك أبا طالب في حال صباك. ويقال: «ضَالًّا» فينا متحيّزا ... فهديناك بنا إلينا. ويقال: «ضَالًّا» عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها بأن عرّفناك تفصيلها. ويقال: فيما بين الأقوام ضلال فهداهم بك. وقيل: «ضَالًّا» للاستنشاء «1» فهداك لذلك. ويقال «ضَالًّا» فى محبتنا، فهديناك بنور القربة إلينا. ويقال: «ضَالًّا» عن محبتى لك فعرّفتك أنّى أحبّك. ويقال: جاهلا بمحلّ شرفك، فعرّفتك قدرك. ويقال: مستترا في أهل مكة لا يعرفك أحد فهديناهم إليك حتى عرفوك «2» «وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» فى التفسير: فأغناك بمال خديجة. ويقال: أغناك عن الإرادة والطلب بأن أرضاك بالفقد «3» ويقال: أغناك بالنبوّة والكتاب. ويقال: أغناك بالله.   (1) الكلمة غير واضحة الرسم في النسختين، وقد رجحنا هذه الكلمة لأنها أقرب إلى ما في م، ولأن من القصص السابقة ما يشير إلى أنه لم يقدم المشيئة فعوتب في ذلك «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (2) ربما تتفق هذه الإشارة مع ما جرت عليه العرب في وصف الشجرة المنفردة في الفلاة لا شجر معها بأنها ضالة يهتدى بها إلى الطريق لأنها علامة مميزة، فهى معروفة لذاتها، ولأنها علامة على الطريق هادية إليه. (3) هكذا في م، وهي في ص (بالعقل) ، ولكننا نرجح ما جاء في م، ولا نستبعد أنها في الأصل (الفقر) .. فالرضا في حال الفقر أو (الفقد) أتم في النعمة من الرضا في حال الغنى ... وهل أعظم من الغنى بالله؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 ويقال: أغناك عن السؤال حينما أعطاك ابتداء بلا سؤال منك. قوله جل ذكره: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ» فلا تخفه، وارفق به، وقرّبه. «وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» أي: إمّا أن تعطيه.. أو تردّه برفق، أو وعد. ويقال: السائل عنّا، والسائل المتحيّر فينا- لا تنهرهم، فإنّا نهديهم، ونكشف مواضع سؤالهم عليهم.. فلاطفهم أنت في القول. «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» فاشكر، وصرّح بإحسانه إليك، وإنعامه عليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 سورة ألم نشرح قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز عزّ من التجأ إليه، وجلّ من توكّل عليه، وفاز في الدنيا والعقبى من توسّل به إليه فمن تقرّب منه قرّبه ومن شكا إليه حقّق له مطلبه، ومن رفع قصّته إليه قضى مأربه. قوله جل ذكره: [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ألم نوسّع قلبك للإسلام؟ ألم نليّنه للإيمان؟ ويقال: ألم نوسع صدرك بنور الرسالة؟ ألم نوسّع صدرك لقبول ما نورد عليك. «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» أي: إثمك قبل النبوّة. ويقال: عصمناك عن ارتكاب الوزر فوضعه عنه بأنّه لم يستوجبه قطّ. ويقال: خفضنا عنك أعباء النبوّة وجعلناك محمولا لا متحمّلا «1» . ويقال: قويناك على التحمّل من الخلق، وقوّيناك لمشاهدتنا، وحفظنا عليك ما استحفظت «2» ، وحرسناك عن ملاحظة الخلق فيما شرّفناك به.   (1) وهذه أقصى درجات الحب، وقد مر بنا كيف قارن القشيري بين مواقف موسى، ومواقف المصطفى صلوات الله عليهما، وكيف أوضح لنا أن موسى كان متحملا بينما كان نبيا محمولا. (2) إشارة إلى القرآن، الذي حفظ من التغيير والتحريف.. إلى الأبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 «الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» : أي: أثقله، ولولا حملنا عنك لكسر. «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» بذكرنا فكما لا تصحّ كلمة الشهادة إلا بي، فإنها لا تصحّ إلا بك. «1» ويقال: رفعنا لك ذكرك بقول الناس: محمد رسول الله! ويقال: أثبتنا لك شرف الرسالة. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» وفي الخبر: «لن يغلب عسر يسرين» «2» ومعناه: أن العسر بالألف واللام في الموضعين للعهد- فهو واحد، واليسر منكّر في الموضعين فهما شيئان. والعسر الواحد: ما كان في الدنيا، واليسران: أحدهما في الدنيا من الخصب، وزوال البلاء، والثاني في الآخرة من الجزاء وإذا فعسر جميع المؤمنين واحد- وهو ما نابهم من شدائد الدنيا، ويسرهم اثنان: اليوم بالكشف والصّرف «3» ، وغدا بالجزاء. قوله جل ذكره: «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» فإذا فرغت من الصلاة المفروضة عليك فانصب في الدعاء. ويقال: فإذا فرغت من العبادة فانصب في الشفاعة. ويقال: فإذا فرغت من عبادة نفسك فانصب بقلبك. «وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ» فى جميع الأحوال. ويقال: فإذا فرغت من تبليغ الرسالة فارغب في الشفاعة.   (1) فلا تصح الشهادة شرعا إلا إذا قلنا: ... وأن محمدا رسول الله. (2) البخاري ص 145 ح 3. (3) (الكشف) هنا ليس كما قد نفهم من قبيل المصطلح الصوفي، بل هو كشف الغمة وصرف المحنة، فهى لفظة عامة في هذا السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 سورة التّين قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» اسم «اللَّهِ» يدلّ على جلال من لم يزل، ويخبر عن جمال من لم يزل، ينبه على إقبال من لم يزل، يشير إلى إفضال من لم يزل فالعارف شهد «1» جلاله فطاش، والصفىّ شهد جماله فعاش، والوليّ شهد إقباله فارتاش، والمريد يشهد إفضاله فلا يطلب مع كفايته المعاش. قوله جل ذكره: [ سورة التين (95) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أقسم بالتين لما به من عظيم المنّة على الخلق حيث لم يجعل فيه النّوى، وخلّصه من شائب التنغيص، وجعله على مقدار اللّقمة لتكمل به اللذّة. وجعل فى «الزَّيْتُونِ» من المنافع مثل الاستصباح والتأدّم والاصطباغ به. «وَطُورِ سِينِينَ» الجبل الذي كلّم الله موسى عليه. ولموضع قدم الأحباب حرمة. «وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» يعنى: مكة، ولهذا البلد شرف كبير، فهى بلد الحبيب، وفيها البيت ولبيت الحبيب وبلد الحبيب قدر ومنزلة. «2»   (1) من هنا يبدأ في النسخة بياض في النسخة ص يتلوه. سقوط حتى بداية سورة العاديات. ولهذا نعتمد فيما بين الموضعين على النسخة م وحدها. (2) بما ذهب المفسرون في تفسير: التين والزيتون وطور سنين، والبلد الأمين قول بعضهم: إن التين إشارة إلى جبل دمشق وهو مأوى عيسى عليه السلام، وبالزيتون جبل بيت المقدس فهو مقام الأنبياء جميعهم، وطور سينين إشارة إلى موسى كليم الله، والبلد الأمين إشارة إلى أن مكة بها بيت إبراهيم وبها دار محمد صلى الله عليه وسلم.. فكأن مطالع السورة تشير إلى النبوات البارزة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 745 قوله جل ذكره: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» فى اعتدال قامته، وحسن تركيب أعضائه. وهذا يدل على أنّ الحقّ- سبحانه- ليس له صورة ولا هيئة لأنّ كلّ صفة اشترك فيها الخلق والحقّ فالمبالغة للحقّ ... كالعلم، فالأعلم الله، والقدرة: فالأقدر الله فلو اشترك الخلق والخالق في التركيب والصورة لكان الأحسن في الصورة الله ... فلمّا قال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» علم أنّ الحقّ- سبحانه- منزّه عن التقويم وعن الصورة. «1» قوله جل ذكره: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» أي: إلى أرذل العمر وهو حال الخرف «2» والهرم. ويقال: «أَسْفَلَ سافِلِينَ» : إلى النار والهاوية في أقبح صورة فيكون أوّل الآية عامّا وآخرها خاصّا بالكفّار ... كما أنّ التأويل الأول- الذي هو حال الهرم- خاصّ في البعض إذ ليس كلّ الناس يبلغون حال الهرم. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي: غير منقوص. ويقال: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» أي: إلى حال الشقاوة والكفر إلّا المؤمنين. قوله جل ذكره: «فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ» أيها الإنسان.. مع كل هذا البرهان والبيان؟ «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» ؟   (1) فى هذا ردّ جميل مقنع على المشبهة، وعلى كل ذى تصور وهمي للألوهية. (2) الخرف- فساد العقل بسبب كبر السنّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 سورة العلق قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يوجب أحد أمرين: «إمّا صحوا وإمّا محوا صحوا لمن سمعها بشاهد العلم فيستبصر بواضح برهانه، أو محوا لمن سمعها بشاهد المعرفة لأنه يتحيّر في جلال سلطانه. قوله جل ذكره: [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) هذه السورة من أوّل ما نزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم لما تعرّض له جبريل فى الهواء، ونزل عليه فقال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» . فالناس كلّهم مريدون وهو صلى الله عليه وسلم كان مرادا. فاستقبل الأمر بقوله: «ما أنا بقارئ، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فقال له: اقرأ كما أقول لك اقرأ باسم ربك الذي خلق. أي خلقهم على ما هم به. «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» العلق جمع علقة كشجر وشجرة ... (والعلقة الدم الجامد فاذا جرى فهو المسفوح) . «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» «الْأَكْرَمُ» : أي الكريم. ويقال: الأكرم من كلّ كريم. «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» علّمهم ما لم يعلموا: الضروريّ، والكسبيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 16] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) «1» أي: يتجاوز جدّه إذا رأى في نفسه أنه استغنى لأنه يعمى عن مواضع افتقاره. ولم يقل: إن استغنى بل قال: «أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» فإذا لم يكن معجبا بنفسه، وكان مشاهدا لمحلّ افتقاره- لم يكن طاغيا «2» . قوله جل ذكره: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» أي: الرجوع يوم القيامة. قوله جل ذكره: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» أليس لو لم يفعل هذا كان خيرا له؟ ففى الآية هذا الإضمار. «أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى» لكان خيرا له؟ «أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» كذّب بالدّين، وتولّى عن الهداية. قوله جل ذكره: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ؟ أي: ما الذي يستحقّه من هذه صفته؟ والتخويف برؤية الله تنبيه على المراقبة- ومن لم يبلغ حال المراقبة لم يرتق منه إلى حال المشاهدة. قوله جل ذكره: «كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ»   (1) قيل نزلت في أبى جهل حين نهى النبي «ص» عن الصلاة، فأمر الله نبيه أن يصلى في المسجد ويقرأ باسم الرب ... والذين يرون ذلك يرون أن السورة ليست من أوائل ما نزل من القرآن. أو يجوزون أن تكون أوائل السورة كذلك وأن بقيّتها في شأن أبى جهل- أي متأخرة. روى البخاري عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي ذلك فقال: لو فعل لأخذته الملائكة. (البخاري ح 3 ص 146) . [ ..... ] (2) من أشد آفات الطريق خطرا ملاحظة النفس، وناهيك بدعاواها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 لنأخذنّ بناصيته (وهي شعر مقدّم الرأس) أخذ إذلال. ومعناه لنسوّدنّ وجهه. وقوله: «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» بدل من قوله: «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» «1» [سورة العلق (96) : الآيات 17 الى 19] فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) فليدع أهل ناديه وأهل مجلسه، وسندعو الزبانية ونأمرهم بإهلاكه. قوله جل ذكره: أي: اقترب من شهود الربوبية بقلبك، وقف على بساط العبودية بنفسك. ويقال: فاسجد بنفسك، واقترب بسرّك «2» .   (1) نسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية يقصد بها صاحب الناصية كقولهم: نهاره صائم وليله قائم، أي هو صائم في نهاره وقائم في ليله. (2) السجود عبادة الظواهر، ولهذا ربطها القشيري بالنفس، فكل ما يتصل بالظاهر يرتبط- عنده- بالنفس، وأمّا الاقتراب «فهو عبادة الباطن المرتبطة بالسرّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 سورة القدر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة تحضر قلوب العلماء لتأمّل الشواهد، وتسكر قلوب العارفين إذا وردوا المشاهد ... فهؤلاء أحضرهم فبصّرهم، وعلى استدلالهم نصرهم. وهؤلاء بشراب محابّه أسكرهم، وفي شهود جلاله حيّرهم. قوله جل ذكره: [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) فى ليلة قدّر فيها الرحمة لأوليائه، فى ليلة يجد فيها العابدون قدر نفوسهم، ويشهد فيها العارفون قدر معبودهم.. وشتان بين وجود قدر ... وشهود قدر! فلهؤلاء وجود قدر ولكن قدر أنفسهم، ولهؤلاء شهود قدر ولكن قدر معبودهم. «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؟ استفهام على جهة التفخيم لشأن تلك الليلة. «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» أي: هى خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر. هى ليلة قصيرة على الأحباب لأنهم فيها فى مسامرة وخطاب.. كما قيل: يا ليلة من ليالى الدهر ... قابلت فيها بدرها ببدر ولم تكن عن شفق وفجر ... حتى تولّت وهي بكر الدهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 قوله جل ذكره: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «الرُّوحُ فِيها» : قيل جبريل. وقيل: ملك عظيم «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» : أي بأمر ربهم. «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ» : أي مع كل مأمور منهم سلامى على أوليائى «1» . «هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» : أي هي باقية إلى أن يطلع الفجر.   (1) قد يتأيه رأى القشيري في اختيار هذا النسق الذي يتم به الكلام بما يرويه أنس- قال: قال رسول الله (ص) : إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة (جماعة) من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 سورة لم يكن قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز تنصّل إليه المذنبون فغفر لهم وجبرهم «1» وتوسّل إليه المطيعون فوصلهم ونصرهم. تعرّف إليه العالمون فبصّرهم، وتقرّب منه العارفون فقرّبهم ... لكنه- سبحانه- فى جلاله حيّرهم «2» . قوله جل ذكره: [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) «مُنْفَكِّينَ» : منّتهين عن كفرهم حتى تأتيهم البيّنة: وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لم يزالوا مجتمعين على تصديقه لما وجدوه في كسب إلى أن بعثه الله تعالى. فلمّا بعثه حسدوه وكفروا. «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» .   (1) فى النسخة م توجد بعد هذا الموضع العبارة التالية «وتوكّل إليه العارفون فجبرهم» . ونستبعد وجودها فى الأصل لأن ترتيب العارفين لا يأتى بين المذنبين والمطيعين، وإنما يأتى بعد «العالمين» ، كما هو ثابت فى النسخة على هذا النحو الذي أثبتناه هنا. كما أنّ «جبرهم» فعل يتصل بالزلّات والذنوب ... فيبدو أن العبارة متصلة بالمذنبين، ويتأيد ما اخترناه بالسياق الذي نألفه في أسلوب البسملة عند الشيخ، فضلا عن خدمته للموسيقى والمعنى ... وهما العنصران الأساسيان في نسيج البسملة عنده. (2) التحيّر في الجلال صفة مدح، ولذا يقول يحيى بن معاذ: يا دليل المتحيرين زدنى تحيرا.. لأنه غرق فى بحر الوجود عند الشهود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 أي حتى يأتيهم رسول من الله يقرأ كتبا مطهّرة عن تبديل الكفار. «فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» «1» : مستوية ليس فيها اعوجاج. قوله جل ذكره: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» يعنى: القرآن. قوله جل ذكره: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» أي موحّدين لا يشركون بالله شيئا فالإخلاص ألّا يكون شىء من حركاتك وسكناتك إلّا لله. ويقال: الإخلاص تصفية العمل من الخلل. «حُنَفاءَ» : مائلين إلى الحقّ، عادلين عن الباطل «2» . «وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ.. وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» : أي دين الملّة القيمة، والأمة القيّمة، والشريعة القيّمة. قوله جل ذكره: [سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) «خالِدِينَ فِيها» : مقيمين. «الْبَرِيَّةِ» : الخليقة. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» .   (1) يرى القرطبي: أن «كتبا» هنا بمعنى الأحكام لأن كتب بمعنى حكم، قال تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ» سورة المجادلة. (2) كلمة «حنيف» من الأضداد، فهى تحمل معنى (الميل) عن الباطل و (الاستقامة) فى طريق الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 أي: خير الخلق، وهذا يدل على أنهم أفضل من الملائكة. قوله جل ذكره: «جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» «جَزاؤُهُمْ» : أي ثوابهم في الآخرة على طاعاتهم. «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» أي: من تحت أشجارها الأنهار. «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» . فلم تبق لهم مطالبة إلّا حقّقها لهم. «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» . أي: خافه في الدنيا. والرضا سرور القلب بمرّ القضا. ويقال: هو سكون القلب تحت جريان الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 سورة الزّلزلة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من تأمّلها بمعانيها ووقف على ما أودع فيها رتعت أسراره في رياض من الأنس مونقة، وأينعت أفكاره بلوائح من اليقين مشرقة، فهى على جلال الحقّ شاهدة، وهي على ما يحيط به الذّكر ويأتى عليه الحصر زائدة. قوله جل ذكره: [ سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) أي: أمواتها، وما فيها من الكنوز والدفائن. «وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها» ؟ يعنى الكافر الذي لا يؤمن بها أي بالبعث «1» . «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» يومئذ تخبّر الأرض: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» أي: إنما تفعل ذلك بأمر الله.   (1) روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: «هو الأسود بن عبد الأسد» ويرى بعض المفسرين: أن الإنسان هنا هو كل إنسان من مؤمن وكافر لأن الجميع لا يعلمون أشراط الساعة في ابتداء أمرها إلى أن يتحققوا عمومها، ولذا يسأل بعضهم بعضا. أمّا القشيري فقد نظر إليها من ناحية الاعتراف وجعل من يسأل عنها كافرا بها جاحدا لها. أمّا المؤمن فلا حاجة له في السؤال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا «1» أَعْمالَهُمْ» «أَشْتاتاً» : متفرّقين. «لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» ليحاسبوا. قوله جل ذكره: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فيقاسى عناءه.   (1) هذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج وابن عاصم وطلحة بفتحها: «لِيُرَوْا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 سورة العاديات قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة غيور لا يصلح لذكرها إلّا لسان مصون «1» ، عن اللّغو والغيبة، ولا يصلح لمعرفتها إلّا قلب محروس عن الغفلة والغيبة «2» ، ولا يصلح لمحبتها إلّا روح محفوظة عن العلاقة والحجبة. قوله جل ذكره: [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) «الْعادِياتِ» : الخيل التي تعدو «3» . «ضَبْحاً» أي إذا ضبحن ضبحا، والضبح: هو صوت أجوافها إذا عدون. ويقال: ضبحها هو شدة نفسها عند العدو. وقيل: «الْعادِياتِ» الإبل «4» . وقيل: أقسم الله بأفراس الغزاة «5» . «فَالْمُورِياتِ قَدْحاً» تورى بحوافرها النار إذا عدت وأصابت سنابكها الحجارة بالليل.   (1) من هذا الموضع تبدأ النسخة ص بعد البياض والسقوط اللذين أشرنا إليهما من قبل. (2) الغيبة المتصلة باللسان هي الكلام في حقّ الغائب، والغيبة المتصلة بالقلب هي ورود وارد من أي نوع يعطّل الاتجاه الكامل نحو المحبوب، كالتفكير في الثواب أو الخوف من العقاب، أو الطمع في الأعواض، أو استعجال شىء.. ونحو ذلك مما يشوب كأس المحبة من غيرية ... (3) العدو: هو تباعد الأرجل في سرعة المشي. (4) هكذا في ص وهي في م (الليل) وهي خطأ في النسخ والفعل المستعمل مع الإبل هو (ضبع) فتكون (ضبحا) هنا بحاء مبدلة عن عين (القرطبي ح 20 ص 156) [ ..... ] (5) فى الخبر: «من لم يعرف حرمة فرس الغازى ففيه شعبة من النفاق» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 ويقال: الذين يورون النار بعد انصرافهم من الحرب. ويقال: هى الأسنّة. «فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً» تغير على العدوّ صباحا. «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» أي: هيّجن به غبارا. «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» أي: توسّطن المكان، أي: تتوسط الخيل بفوارسها جمع العدوّ. «إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» هذا هو جواب القسم. «لَكَنُودٌ» : أي لكفور بالنعمة «1» . «وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ» أي: وإنه على كنوده لشهيد «وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» أي: وإنه لبخيل لأجل حبّ المال «2» . قوله جل ذكره: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» أي: بعث الموتى. «وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» بيّن ما في القلوب من الخير والشرّ. «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .   (1) روى عن ابن عباس: أن الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور، بلسان كنانة: البخيل السيّء الملكة. (2) قال تعالى: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» آية 180 سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 أفلا يعلم أن الله يجازيهم- ذلك اليوم- على ما أسلفوا، ثم قال على الاستئناف: «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» . ويقال في معنى الكنود «1» : هو الذي يرى ما إليه من البلوى، ولا يرى ما هو به من النّعمى. ويقال: هو الذي رأسه على وسادة النعمة، وقلبه في ميدان الغفلة. ويقال: الكنود: الذي ينسى النّعم ويعدّ المصائب. وقوله: «وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ» ، يحتمل: وإنّ الله على حاله لشهيد.   (1) لعل القشيري هنا مستفيد من قول ذى النون المصري: الكنود: هو الذي إذا مسته الشر جزوع، وإذا مسسّه الخير منوع. يجزع من البلوى، ويمنع الشكر على النعمى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 سورة القارعة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة إذا سمعها العاصون نسوا زلّتهم في جنب رحمته، وإذا سمعها العابدون نسوا صولتهم في جنب إلهيته. كلمة من سمعها ما غادرت له شغلا إلّا كفته، ولا أمرا إلّا أصلحته، ولا ذنبا إلّا غفرته، ولا أربا إلّا قضته. قوله جل ذكره: [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) القارعة: اسم من أسماء القيامة، وهي صيغة «فاعلة» من القرع، وهو الضرب بشدّة. سمّيت قارعة لأنها تقرعهم. «وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» ؟. تهويلا لها. «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» أي: المتفرّق ... وعند إعادتهم يركب بعضهم بعضا. «وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» أي: كالصوف المصبوغ. والمعنى فيه: أن أصحاب الدعاوى «1» وأرباب القوة في الدنيا يكونون- فى القيامة إذا   (1) هكذا في ص وهي في م (الدواعي) وهي خطأ من الناسخ، وقد وردت صحيحة فيما بعد فالمقصود دعوى النفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 بعثوا- أضعف من كلّ ضعيف لأن القوى هنالك تسقط، والدعاوى تبطل. قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» من ثقلت موازينه بالخيرات فهو في عيشة راضية أي مرضية. ووزن الأعمال يومئذ يكون بوزن الصحف. ويقال: يخلق بدل كلّ جزء من أفعاله جوهرا، وتوزن الجواهر ويكون ذلك وزن الأعمال. «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» من خفّت موازينه من الطاعات- وهم الكفار- فمأواه هاوية. «وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟ نارٌ حامِيَةٌ» سؤال على جهة التهويل «1» . ولم يرد الخبر بأن الأحوال توزن، ولكن يجازى كلّ بحالة مما هو كسب له، أو وصل إلى أسبابها بكسب منه. «2»   (1) هكذا في م وهي في ص (التحويل) وهي خطأ من الناسخ. (2) بعد أن تحدث عن ميزان الأعمال تحدث عن ميزان الأحوال ... ومن المعلوم أن الأعمال جهود كسبية، والأحوال مواهب فيضية ... ولكن قد يكون فيها شىء من الكسب فمثلا: إذا رضى العبد بالقبض أنعم الحقّ عليه بالبسط، وإذا راعى حدود الوقت ظفر بمقضيات الوقت وإلا.. كان الوقت عليه مقتا والإنسان لا يحاسب إلا على ما كسب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 سورة التكاثر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز تقدّس في آزاله عن كل مكان، ولم يحتج في آباده إلى زمان أو إلى مكان لا يقطعه حدّ فأنّى يجوز في وصفه المكان؟ ولا يقطعه عدّ فأنّى تجوز في وصفه الزيادة والنقصان؟ «1» قوله جل ذكره: [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) أي: شغلكم تفاخركم فيما بينكم إلى آخر أعماركم إلى أن متّم. ويقال: كانوا يفتخرون بآبائهم وأسلافهم فكانوا يشيدون بذكر الأحياء، وبمن مضى من أسلافهم. فقال لهم: شغلكم تفاخركم فيما بينكم حتى عددتم أمواتكم مع أحيائكم. وأنساكم تكاثركم بالأموال والأولاد طاعة الله. «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» على جهة التهويل. «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ» أي: لو علمتم حقّ اليقين لارتدعتم عمّا أنتم فيه من التكذيب.   (1) واضح مدى ارتباط اتجاه القشيري في إشارة البسملة بالجوّ العام للسورة الذي ينبنى على اتخاذ الزيادة والنقصان مقياسا للتفاخر والادعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» أراد جميع ما أعطاهم الله من النعمة، وطالبهم بالشكر عليها. ومن النعيم الذي يسأل عنه العبد تخفيف الشرائع والرّخص في العبادات. ويقال: الماء الحار في الشتاء، والماء البارد في الصيف. ويقال: منه الصحّة في الجسد، والفراغ. «1» ويقال: الرضاء بالقضاء. ويقال: القناعة في المعيشة. ويقال: هو المصطفى صلى الله عليه وسلم.   (1) في البخاري وفي سنن ابن ماجه: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» . ومعنى الغبن: أنهما نعمتان ولكن غالب الناس يصرفهما في غير محالهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 سورة العصر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كلمة من سمعها لم يدّخر عنها «1» ماله لأنّه علم أنه- سبحانه- يحسن مآله، ومن عرفها لم يؤثر عليها نفسه لأنّه لم يجد بدونها أنسه. كلمة من صحبها لم يمنع عنها روحه إذ وجد الحياة الأبدية له ممنوحة. «2» قوله جل ذكره: [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) «الْعَصْرِ» : الدهر- أقسم به ويقال: أراد به صلاة العصر. ويقال: هو العشيّ. «الْإِنْسانَ» : أراد به جنس الإنسان. و «الخسر» : الخسران. والمعنى: إن الإنسان لفى عقوبة من ذنوبه. ثم استثنى المؤمنين فقال: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» الذين أخلصوا في العبادة وتواصوا بما هو حقّ، وتواصوا بما هو حسن وجميل، وتواصوا بالصبر. وفي بعض التفاسير: قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» يعنى أبابكر، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : يعنى عمر   (1) هكذا في ص وهي في م (عنة) . (2) هكذا في م وهي في ص (مفتوحة) وإن كانت هناك زيادة كالميم تتلو الميم الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 و «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ» يعنى عثمان، و «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» يعنى عليّا- رضى الله عنهم أجمعين. «1» والخسران الذي يلحق الإنسان على قسمين: فى الأعمال ويتبيّن ذلك في المآل، وفي الأحوال ويتبيّن ذلك في الوقت والحال وهو القبض بعد البسط، والحجبة بعد القربة، والرجوع إلى الرّخص بعد إيثار الأشقّ والأولى. «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ» : وهو الإيثار مع الخلق، والصدق مع الحقّ. «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» : على العافية ... فلا صبر أتمّ منه. ويقال: بالصبر مع الله ... وهو أشدّ أقسام الصبر «2»   (1) تنسب هذه الرواية إلى أبيّ بن كعب الذي قال: قرأت على رسول الله (ص) «وَالْعَصْرِ» ثم قلت: ما تفسيرها يا نبيّ الله؟ فقال: «وَالْعَصْرِ» قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» : أبو جهل ... إلى آخر الرواية كما نقلها القشيري. (2) انظر «الرسالة» باب الصبر ص 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 سورة الهمزة قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم من لا غرض له في أفعاله، اسم من لا عوض عنه في جلاله وجماله. اسم من لا يصبر العبد عنه مختارا، اسم من لا يجد الفقير «1» من دونه قرارا، اسم من لا يجد أحد من حكمه فرارا. قوله جل ذكره: [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) يقال: رجل همزة لمزة: أي كثير الهمز والّلمز للناس وهو العيب والغيبة. ويقال: الهمزة الذي يقول في الوجه، والّلمزة الذي يقول من خلفه. ويقال: الهمز الإشارة بالرأس والجفن وغيره، واللّمز باللسان. ويقال: الهمزة الذي يقول ما في الإنسان، واللّمزة الذي يقول ما ليس فيه. قوله جل ذكره: «الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ» «جمّع» بالتشديد «2» على التكثير، وبالتخفيف. «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» أي: يبقيه في الدنيا.. كلّا ليس كذلك:   (1) الفقير هنا المقصود به الصوفيّ المفتقر إلى الله، انظر آخر السورة. [ ..... ] (2) هكذا في م وهي في ص غير موجودة، مما قد يشعر باحتمال انصراف الكلام إلى «عَدَّدَهُ» فهى أيضا تقرأ على التشديد والتخفيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 «كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» ليطرحنّ في جهنّم. «وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ» ؟ على جهة التهويل لها. فهم في نار الله الموقدة التي يبلغ ألمها الفؤاد. «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ» مطبقة. «فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» «عَمَدٍ» : جمع عماد. وقيل: إنها عمد من نار تمدّد وتضرب عليهم كقوله: «أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» «1» ويقال: الغنى بغير الله فقر، والأنس بغيره وحشة، والعزّ بغيره ذلّ. ويقال: الفقير من استغنى بماله، والحقير: من استغنى بجاهه، والمفلس: من استغنى بطاعته، والذليل: من استغنى بغير الله، والجليل: من استغنى بالله. ويقال: بيّن أن المعرفة إذا اتّقدت في قلب المؤمن أحرقت كلّ سؤل وأرب فيه، ولذلك تقول جهنّم- غدا- للمؤمن: «جز، يا مؤمن ... فإنّ نورك قد أطفأ لهبى» !   (1) آية 29 سورة الكهف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 سورة الفيل قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم غنيّ من أطاعه أغناه، ومن خالفه أضلّه وأعماه. اسم عزيز من وافقه رقّاه إلى الرتبة العليا، ومن خالفه ألقاه في المحنة الكبرى. قوله جل ذكره: [سورة الفيل (105) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) ألم ينته إليك فيما أنزل عليك علم ما فعل ربّك بأصحاب الفيل؟. وفي قصة أصحاب الفيل دلالة على تخصيص الله البيت العتيق بالحفظ والكلاءة. وذلك: أنّ أبرهة- ملك اليمن- كان نصرانيا، وبنى بيعة لهم بصنعاء، وأراد هدم الكعبة ليصرف الحجّ إلى بيعتهم. وقيل: نزل جماعة من العرب ببلاد النجاشي، وأوقدوا نارا لحاجة لهم، ثم تغافلوا عنها ولم يطفئوها، فهبّت الريح وحملت النار إلى الكنيسة وأحرقتها، فقصد أبرهة الكعبة ليهدمها بجيشه. فلمّا قرب من مكة أصاب مائتى جمل لعبد المطلب، فلمّا أخبر بذلك ركب إليهم، فعرفه رجلان، فقالا له: ارجع.. فإن الملك غضبان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 فقال: واللات والعزّى لا أرجع إلّا بإبلى. فقيل لأبرهة: هذا سيّد قريش ببابك فأذن له، وسأله عن حاجته فأجاب أبرهة: إنها لك غدا، إذا تقدّمت إلى البيت «1» . فعاذ عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم بما حدث، ثم قام وأخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول: لا همّ إنّ العبد ... يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك إن يدخلوا البلد الحرا ... م فأمر ما بدا لك «2» فأرسل الله عليهم طيرا أخضر «3» من جهة البحر طوال الأعناق، فى منقار كل طائر حجر وفي مخلبه حجران. قيل: الحجرة منها فوق العدس دون الحمص. وقيل: فوق الحمص دون الفستق، مكتوب على كل واحدة اسم صاحبها. وقيل: مخطّطة بالسّواد. فأمطرت عليهم، وماتوا كلّهم. وقيل: كان الفيل ثمانية وقيل: كان فيلا واحدا. وفي رواية: إنه كان قبل مولده صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة. وقيل: بثلاثة وعشرين سنة. وفي رواية «ولدت عام الفيل» «4» . قوله جل ذكره: [سورة الفيل (105) : الآيات 2 الى 5] أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) أي: مكرهم في إبطال.   (1) قيل: إن النجاشي قال له: لقد أعجبتنى حين رأيتك، ولكنى زهدت فيك حين كلمتنى.. أتكلمنى في بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟ فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل ... أما البيت فله رب سيمسكه. (2) الحلال جمع حل. والمحال: القوة. والعدو بالعين المهملة: الاعتداء. (3) قال سعيد بن جبير: هى طير خضر لها مناقير صفر. (4) وفي رواية: «ولدت يوم الفيل» . وقال قيس بن مخرمة: «ولدت أنا ورسول الله (ص) عام الفيل» . م (49) لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» «أَبابِيلَ» : مجتمعة ومتفرّقة. «تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» قيل بالفارسية: سنگك أو گل- أي طين طبخ بالنار كالآجر «1» . «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» «كَعَصْفٍ» : كأطراف الزرع قبل أن يدرك. «مَأْكُولٍ» أي ثمره مأكول. ويقال: إذا كان عبد المطلب- وهو كافر- أخلص في التجائه إلى الله في استدفاع البلاء عن البيت- فالله لم يخيّب رجاءه ... ، وسمع دعاءه ... فالمؤمن المخلص إذا دعا ربّه لا يردّه خائبا. ويقال: إنما أجيب لأنّه لم يسأل الله لنفسه، وإنما لأجل البيت.. وما كان لله لا يضيع.   (1) أخرج الفريابي عن مجاهد قال: سجيل بالفارسية أولها حجارة وآخرها طين. (نقله السيوطي في إتقانه ح 1 ص 138 في باب ما وقع في القرآن بغير لغة العرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 770 سورة قريش قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ» : الباء فى «بِسْمِ» تشير إلى براءة سرّ الموحّدين عن حسبان الحدثان، وعن كلّ شىء ممّا لم يكن فكان، وتشير إلى الانقطاع إلى الله في السّرّاء والضرّاء، والشّدّة والرخاء. والسين تشير إلى سكونهم في جميع أحوالهم تحت جريان ما يبدو من الغيب بشرط مراعاة الأدب. والميم تشير إلى منّة الله عليهم بالتوفيق «1» لما تحقّقوا به من معرفته، وتخلّقوا به من طاعته «2» . قوله جل ذكره: [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) «الإيلاف» : مصدر آلف، إذا جعلته يألف ... وهو ألف إلفا «3» . والمعنى: جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي ليألفوا رحلتهم في الشتاء والصيف. وكانت لهم رحلتان للامتيار «4» : رحلة إلى الشام في القيظ، ورحلة إلى اليمن في الشتاء.   (1) هكذا في ص وهي في م (بالتحقيق) . (2) يستطيع القارئ أن يربط بين فحوى البسملة كما يتذوقها القشيري هنا وبين الجو العام للسورة. (3) عند هذه النقطة تنتهى النسخة (ص) ونعتمد فيما بقي من الكتاب على النسخة م. (4) الامتيار طلب السيرة وجمعها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 771 والمعنى: أنعم الله عليهم بإهلاك عدوّهم ليؤلّفهم رحلتيهم. وقيل: فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلاف قريش، كأنه أعظم المنّة عليهم. وأمرهم بالعبادة: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» فليعبدوه لما أنعم به عليهم. وقيل: فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع بعد ما أصابهم من القحط حينما دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» . «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» . حين جعل الحرم آمنا، وأجارهم من عدوّهم. ويقال: أنعم عليهم بأن كفاهم الرحلتين بجلب الناس الميرة إليهم من الشام ومن اليمن. ووجه المنّة في الإطعام والأمان هو أن يتفرّغوا إلى عبادة الله فإنّ من لم يكن مكفىّ الأمور لا يتفرّغ إلى الطاعة، ولا تساعده القوة ولا القلب- إلّا عند السلامة بكلّ وجه وقد قال تعالى. «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ «2» » فقدّم الخوف على جميع أنواع البلاء.   (1) دعا عليهم الرسول (ص) لمّا كذّبوه وقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنّا مؤمنون، فدعا فأخصبت الأرض، وحملوا الطعام إلى سائر البلدان. (2) آية 155 سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 772 سورة الدّين «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها غذاء أرواح المحبين، ضياء أسرار الواجدين، شفاء قلوب المتيّمين بلاء مهج المساكين، دواء كلّ فقير مسكين «2» . قوله جل ذكره: [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) نزلت الآية على جهة التوبيخ، والتعجّب من شأن تظلّم اليتيم من الكفار. فقال: أرأيت الذي يكذّب بالدين، وبالحساب والجزاء؟ «فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ» يدفعه بجفوة، ويقال: يدفعه عن حقّه «3» . «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» أي: لا يحثّ على إطعام المسكين، وإنما يدعّ اليتيم لأنّ الله تعالى قد نزع الرحمة من قلبه، ولا تنزع الرحمة إلّا من قلب شقيّ. وهو لا يحث على طعام المسكين، لأنه في شحّ نفسه وأمر بخله. قوله جل ذكره: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ»   (1) يقول السيوطي في إتقانه: تسمى سورة أرأيت، و سورة الدين ، وسورة الماعون (الإتقان ح 1 ص 55) [ ..... ] (2) مرة أخرى نلفت النظر إلى ما بين إشارات البسملة والجو العام للسورة. (3) قال ابن جريح: نزلت في أبى سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 773 السّاهى عن الصبرة الذي لا يصلّى. ولم يقل: الذين هم في صلاتهم ساهون.. ولو قال ذلك لكان الأمر عظيما. «الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ» : أي يصلون ويفعلون ذلك على رؤية الناس- لا إخلاص لهم «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» الماعون. مثل الماء، والنار، والكلأ، والفأس، والقدر وغير ذلك من آلة البيت، ويدخل في هذا: البخل، والشّحّ بما ينفع الخلق مما هو ممكن ومستطاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 774 سورة الكوثر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» اسم يجلّ العبد بإجلاله ولا يجل هو إلا باستحقاق علوّه في آزاله. اسم عزيز أعزّ من شاء بأفضاله وإقباله وأذلّ أعداءه بسلاسله وأغلاله، والتخليد فى جحيمه وأنكاله. قوله جل ذكره: [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) «الْكَوْثَرَ» : أي الخير الكثير. ويقال: هو نهر في الجنة. ويقال: النبوّة والكتاب. وقيل: تخفيف الشريعة. ويقال: كثرة أمّته. ويقال: الأصحاب والأشياع. ويقال: نور في قلبه. ويقال: معرفته بربوبيته. «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» أي صلّ صلاة العيد «وَانْحَرْ» النّسك «1» ويقال: جمع له في الأمر بين: العبادة البدنية، والمالية. ويقال «وَانْحَرْ» أي استقبل القبلة بنحرك. أو ارفع يديك في صلاتك إلى نحرك «2»   (1) فى البخاري وغيره: قال رسول الله (ص) «أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّى، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النّسك في شىء لأن ترتيب الآية: صلاة ثم نحر. وقال أنس: كان النبي (ص) ينحر ثم يصلى حتى نزلت. (2) عن على رضى الله عنه: لمّا نزلت الآية سأل النبيّ جبريل: ما هذه النحيرة التي أمرنى الله بها؟ قال: ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت.. فزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 775 ويقال: ضع يمينك على يسارك في الصلاة واجعلها تحت نحرك. «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» أي: لا يذكر بخير، منقطع عنه كل خير. «1»   (1) قيل: هو العاص، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: هو عقبة بن أبى معيط. والأبتر من الرجال: من لا ولد له، أو مات أبناؤه وبقيت بناته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 776 سورة الكافرون «1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من آمن بها أمن من زوال النّعمى، وحظى بنعيم الدنيا والعقبى، وسعد سعادة لا يشقى، ووجد ملكا لا يفنى، وبقي في العزّ والعلى. قوله جل ذكره: [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) من أصنامكم. «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» «ما» أعبد أي «من» أعبد. «وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» فى زمانكم. «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» كرّر اللفظ على جهة التأكيد. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» أي: لكم جزاؤكم على دينكم، ولى الجزاء على دينى.   (1) من أسمائها: سورة العبادة، والمقشقشة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 777 والعبودية «1» القيام بأمره على الوجه الذي به أمر، وبالقدر الذي به أمر، وفي الوقت الذي فيه أمر. ويقال: صدق العبودية في ترك الاختيار، ويظهر ذلك في السكون تحت تصاريف الأقدار من غير انكسار. ويقال: العبودية انتفاء الكراهية بكلّ وجه من القلب كيفما صرّفك مولاك.   (1) واضح أن إشارة القشيري تستند إلى «العبودية» بينما الآيات تتحدث عن «العبادة» ولكن الصلة وثيقة بين كليهما وبين «العبودة» : ارجع في ذلك إلى رسالة القشيري ص 99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 778 سورة النّصر قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم كريم يبصر ويستر، ويعلم ويحلم «1» ، ويمدح ولا يفضح، ويعفو عن جميع ما يجترم العبد ويصفح يعصى العبد على التوالي، ويغفر الحقّ ولا يبالى. قوله جل ذكره: [ سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) النصر الظّفر بالعدوّ، و «الْفَتْحُ» فتح مكة. «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» يسلمون جماعات جماعات. «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ» أكثر حمد ربّك، وصلّ له، وقدّسه. ويقال: صلّ شكرا لهذه النعمة. «وَاسْتَغْفِرْهُ» وسل مغفرته. «إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» . لمن تاب فإنه يقبل توبته. ويقال: نصرة الله- سبحانه- له بأن أفناه عن نفسه، وأبعد عنه أحكام البشرية، وصفّاه من الكدورات النفسانية. وأمّا «الْفَتْحُ» : فهو أن رقّاه إلى محلّ الدنوّ، واستخلصه بخصائص الزلفة، وألبسه لباس الجمع، واصطلمه عنه، وكان له عنه، ولنفسه- سبحانه- منه، وأظهر عليه ما كان مستورا من قبل من أسرار الحقّ، وعرّفه- من كمال معرفته به- ما كان جميع الخلق متعطشا إليه «2» .   (1) فى ص (يحكم) ولكننا آثرنا أن تكون (يحلم) مرجحين أن ذلك أقرب إلى الأصل لأن الحلم هنا أقرب إلى السياق. (2) تعبر هذه الفقرة تعبيرا صادقا عن مدى نظرة الصوفية إلى المصطفى على أنه «الصوفيّ الأول» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 779 سورة أبى لهب قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة جبّارة للمذنبين، تجبر أعمالهم، وتحقّق آمالهم، وهي للعارفين تصغر فى أعينهم أحوالهم، وتكمّل- عن شواهدهم- امتحاءهم «1» واستئصالهم، وتحقّق لهم- بعد فنائهم عنهم- وصالهم. قوله جل ذكره: [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) أي: خسرت يداه. «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» ما أغنى عنه ماله ولا كسبه الخبيث- شيئا. وقيل: «ما كَسَبَ» : ولده «2» . قوله جل ذكره: «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ «3» الْحَطَبِ» يلزمها إذا دخلها فلا براح له منها. وامرأته أيضا ستصلى النار معه. «فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .   (1) فى ص (امتحانهم) والصواب أن تكون (امتحاءهم) أي حصول «المحو» لهم. (2) حين قال أبو لهب: «إن كان ما يقوله ابن أخى حقا فإنى أفدى نفسى بما لى وولدى» فنزل: «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» . (3) وعلى الرفع قراءة نافع. وقرأ عاصم بالنصب على الذمّ كأنها اشتهرت بذلك- كقوله تعالى: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» آية 61 سورة الأحزاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 780 «مَسَدٍ» شىء مفتول، وكانت تحمل الشوك وتنقله وتبثه في طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام. ويقال: سحقا لمن لا يعرف قدرك- يا محمد. وبعدا لمن لم يشهد ما خصصناك به من رفع محلّك، وإكبار شأنك ... ومن ناصبك كيف ينفعه ماله؟ والذي أقميناه لأجلك وقد (أساء) «1» أعماله.. فإنّ إلى الهوان والخزي مآله، وإنّ على أقبح حال حال امرأته وحاله.   (1) ما بين القوسين من عندنا فهى في النسخة م مشتبهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 781 سورة الإخلاص قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة عزّ لسان ذكرها، وأعزّ منه قلب عرفها، وأعزّ من هذا روح أحبّها، وأعزّ من هذا سرّ شهدها. ليس كلّ من قصدها وجدها، ولا كلّ من وجدها بقي معها. قوله جل ذكره: [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) لمّا قال المشركون: أنسب لنا ربّك. أنزل الله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» «1» فمعنى «هُوَ» أي: الذي سألتم عنه «هُوَ» الله. ومعنى «أَحَدٌ» أي: هو أحد. ويقال: «هُوَ» مبتدأ، و «اللَّهُ» خبره و «أَحَدٌ» خبر ثان كقولهم: هذا حلو حامض. «اللَّهُ الصَّمَدُ» «الصَّمَدُ» : السيّد الذي يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في المطالب. ويقال: الكامل في استحقاق صفات المدح. ويرجّح تحقيق قول من قال: إنه الذي لا جوف له إلى أنه واحد لا ( ... ) «2» فى ذاته.   (1) روى الترمذي ذلك عن أبى العالية. وقيل: الآية جواب لسؤال المشركين: صف لنا ربّك ... أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر؟ [ ..... ] (2) مشتبهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 782 «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» ليس بوالد ولا مولود. «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تقديره. لم يكن أحد كفوا له. و «أَحَدٌ» أصله وحد، ووحد، وواحد بمعنى، وكونه واحدا: أنه لا قسيم له ولا شبيه له ولا شريك له. ويقال: السورة بعضها تفسير لبعض من هو الله؟ هو الله. من الله؟ الأحد، من الأحد؟ الصمد، من الصمد؟ الذي لم يلد ولم يولد، من الذي لم يلد ولم يولد؟ الذي لم يكن له كفوا أحد. ويقال: كاشف الأسرار بقوله: «هُوَ» . وكاشف الأرواح بقوله: «اللَّهُ» وكاشف القلوب بقوله: «أَحَدٌ» : وكاشف نفوس المؤمنين بباقي السورة. ويقال: كاشف الوالهين بقوله: «هُوَ» ، والموحّدين بقوله: «اللَّهُ» والعارفين بقوله: «أَحَدٌ» والعلماء بقوله: «الصَّمَدُ» والعقلاء بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» ... إلى آخره. ويقال: لمّا بسطوا لسان الذمّ في الله أمر نبيّنا بأن يردّ عليهم فقال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» : أي ذبّ عنى ما قالوا، فأنت أولى بذلك. وحينما بسطوا لسان الذمّ في النبيّ صلى الله عليه وسلم تولّى الحقّ الردّ عليهم، فقال: «ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» وقال: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» أي أنا أذبّ عنك فأنا أولى بذلك منك. ويقال: خاطب الذين هم خاص الخواص بقوله: «هُوَ» فاستقلوا، ثم زاد لمن نزل عنهم فقال: «اللَّهُ» ، ثم زاد في البيان لمن نزل عنهم. فقال: «أَحَدٌ» ثم لمن نزل عنهم فقال: «الصَّمَدُ» . ويقال: الصّمد الذي ليس عند الخلق منه إلا الاسم والصفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 783 ويقال: الصمد الذي تقدّس عن إحاطة علم المخلوق به وعن إدراك بصرهم له، وعن إشراف معارفهم عليه. ويقال: تقدّس بصمديته عن وقوف المعارف عليه. ويقال: تنزّه عن وقوف العقول عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 784 سورة الفلق قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز إذا تجلّى لقلب فإن لاطفه بجماله أحياه، وإن كاشفه بجلاله أباده وأفناه فالعبد في حالتى: بقاء وفناء، ومحو وإثبات، ووجد وفقد. قوله جل ذكره: [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) أي أمتنع وأعتصم بربّ الفلق. والفلق الصّبح. ويقال: هو الخلق كلّهم «1» . وقيل الفلق واد في جهنم «2» . «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» أي من الشرور كلّها. «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» قيل: الليل إذا دخل. وفي خبر. أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عائشة ونظر إلى القمر فقال: «يا عائشة، تعوّذى بالله من شرّ هذا فإنه الغاسق إذا وقب «3» » . «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» وهن السواحر اللواتى ينفخن في عقد الخيط (عند الرّقية) ويوهمنّ إدخال الضرر بذلك.   (1) أي هو كل ما انفلق من حيوان وصبح ونوى وحسب ونبات وغيره.. (2) تأخر وضع هذه العبارة قليلا فأثبتناه في موضعه. (3) رواه الترمذي. وقال أبو عيسى: هو حديث صحيح. لطائف الإشارات- ج 3- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 785 «وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» والحسد شرّ الأخلاق. وفي السورة تعليم استدفاع الشرور من الله. ومن صحّ توكّله على الله فهو الذي صحّ تحقّقه بالله، فإذا توكّل لم يوفّقه الله للتوكّل إلّا والمعلوم من حاله أنه يكفيه ما توكّل به عليه وإنّ العبد به حاجة إلى دفع البلاء عنه- فإن أخذ في التحرّز من «1» تدبيره وحوله وقوّته، وفهمه وبصيرته في كلّ وقت استراح من تعب تردّد القلب في التدبير، وعن قريب يرقّى إلى حالة الرضا.. كفى مراده أم لا. وعند ذلك الملك الأعظم، فهو بظاهره لا يفتر عن الاستعاذة، وبقلبه لا يخلو من التسليم والرضا. «2»   (1) بعد (من) كلمة مبهمة في الرسم أقرب ما تكون إلى (جيلته) . (2) معنى هذا أن تمام التوكّل على الله أعظم مانع للعبد من أن يلم به مكروه نتيجة سحر أو حسد ونحوهما، فلن يصيب العبد إلا ما كتبه الله له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 786 سورة الناس قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله الذي قصرت عنه العقول فوقفت، وعجزت العلوم فتحيّرت، وتقاصره المعاوف فخجلت، وانقطعت الفهوم فدهشت.. وهو بنعت علائه ووصف سنائه وبهائه وكبريائه يعلم ولكنّ الإحاطة في العلم به محال، ويرى ولكنّ الإدراك في وصفه مستحيل ويعرف ولكنّ الإشراف في نعته غير صحيح. «1» قوله جل ذكره: [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) أعتصم بربّ الناس خالقهم وسيّدهم. «مَلِكِ النَّاسِ» أي مالكهم جميعهم. «إِلهِ النَّاسِ» القادر على إيجادهم. «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ» من حديث النّفس بما هو كالصوت الخفىّ. ويقال: من شرّ ذى الوسواس. ويقال: من شرّ الوسوسة التي تكون بين الجنّة والناس.   (1) فقد جلّت الصمدية أن يستشرف منها عالم بعلمه أو واهم بوهمه، أو عارف بمعرفته.. وكلّ ما هنالك هو شهود (الفعل) الإلهى لا (الذات) الإلهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 787 و «الْخَنَّاسِ» الذي يغيب ويخنس عن ذكر الله. وهو من أوصاف الشيطان. «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» قيل: «النَّاسِ» يقع لفظها على الجنّ والإنس جميعا- كما قال تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» «1» فسمّاهم نفرا، وكما قال: «يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» «2» فسمّاهم رجالا.. فعلى هذا استعاذ من الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، والشيطان الذي له تسلّط على الناس كالوسواس فللنّفس من قبل العبد هواجس، وهواجس النّفس ووساوس الشيطان يتقاربان إذ أن ما يدعو إلى متابعة الشهوة أو الضلالة في الدين أو إلى ارتكاب المعصية، أو إلى الخصال الذميمة- فهو نتيجة الوساوس والهواجس. وبالعلم يميّز «3» بين الإلهام وبين الخواطر الصحيحة وبين الوساوس «4» . (ومما تجب معرفته) «5» أن الشيطان إذا دعا إلى محظور فإن خالفته يدع ذلك (ثم) يدعوك إلى معصية أخرى إذ لا غرض له إلا الإقامة على دعائك ( ... «6» ) غير مختلفة.   (1) آية 29 سورة الأحقاف. (2) آية 6 سورة الجن. (3) فى النص كلمة منبهمة اخترنا (يميز) طبقا لرأى القشيري كما سيتضح من الهامش التالي. (4) «الخاطر خطاب يرد على الضمائر وقد يكون بإلقاء الشيطان وقد يكون من أحاديث النفس أو من قبل الحق فإذا كان من الملك فهو الإلهام، وإذا كان من قبل النفس قيل له: الهواجس، وإذا كان من قبل الشيطان فهو الوسواس، وإذا كان من قبل الله- سبحانه- وإلقائه في القلب فهو خاطر حقّ.. وإذا كان من قبل الملك فإنما يعلم صدقه بموافقة العلم ... » رساله القشيري ص 46 و 47. (5) هذه إضافة من جانبنا ليتماسك السياق ويتضح. (6) مشتهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 788 خاتمة الكتاب بعونه تعالى انتهى تحقيق كتاب «لطائف الإشارات» للإمام القشيري في غرّة رجب من عام 1390 هـ وقد استغرق هذا العمل نحو خمس سنوات كوامل، قطعنا فيها رحلة أضنت الجسم والبصر والفكر، ولكنها أمتعت القلب، وأيقظت الروح، وأنعشت السّرّ. ولست أحبّ- متأثرا الصوفية- أن أحدّث القارئ عن مقدار ما لقيت من متاعب.. فهذا ضرب من دعوى النفس. وإنما أترك ذلك للقارئ. وقبل كل شىء أضرع إلى الله- وحده- أن يحتسب هذا العمل لى ذخرا عنده، وأن يمحو- إن شاء- من ديوانى بعض خطاياى. كما أدعو الله أن ينفع به كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بمقدار ما له من قيمة علمية نادرة، وبمقدار ما لصاحبه- رضى الله عنه- من قدر جليل في تراثنا العظيم. والواقع.. أنّ أعظم ما يفعمنى بالسعادة من دواع هو هذا الاستقبال الذي حظى به الكتاب، فقد وصلتني رسائل عديدة من أقطار شتّى، ومن علماء أجلاء من نواح نائية كلها تحثّ على المسير، وتغذّى العزم، وتلهم الصبر على إتمام هذا العمل الشاق. ولا أحب أن أختم كلمتى قبل أن أعتذر للقارئ عما قد يكون في الكتاب من قصور أو تقصير، ترجع أسباب بعضه لى، وتقع تبعته عليّ، ويعود بعضه إلى المطبعة- فنحن شريكان فيه كما يرجع الكثير منها إلى النّسّاخ.. ولا عجب في ذلك فالرحلة طويلة، ودروبها متشعبة. ولكننا نعد- إذا شاء الله وظهرت للكتاب طبعات أخرى- أن نتحاشى قدر الوسع كل هذه الوجوه. وأكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 789 سعيدا لو أشرك القرّاء أنفسهم معى في ذلك فبعثوا إليّ بملاحظهم، فلم يعد الكتاب منذ الآن قاصرا عليّ وحدي. كما أعد- إن شاء الله- بتدارك ما جاء في الكتاب من عيوب الشعر التي حالت الظروف القاهرة دون تداركها. لقد كان رائدنا في هذه المرحلة من التحقيق أن يصل المتن الصوفيّ للناس، ولكننا فى المراحل التالية سننهض- بحول الله وقوته- بكثير من الأعمال التي تتصل بالشروح، وبالمصطلحات، وبالقضايا الأساسية التي نهض بها الكتاب.. فليس «لطائف الإشارات» بأقلّ من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الأجيال المتعاقبة. وأخيرا، فإنى أتمنى أن أكون بإخراج هذا الكتاب قد وفيت بعض الّذين الذي فى عنقى للإمام الجليل عبد الكريم القشيري- رضى الله عنه وأرضاه. وفقنا الله جميعا إلى الخير. دكتور إبراهيم بسيونى أستاذ بكلية الألسن- الزيتون- القاهرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 790 الفهرس اسم السورة الصفحة الشعراء 5 النمل 23 القصص 53 العنكبوت 86 الروم 107 لقمان 127 السجدة 138 الأحزاب 149 سبأ 175 فاطر 190 يس 211 الصافات 227 ص 245 الزمر 266 المؤمن (غافر) 294 فصلت 319 الشورى 341 الزخرف 361 الدخان 379 الجاثية 388 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 791 الأحقاف 395 محمد (صلى الله عليه وسلم) 403 الفتح 417 الحجرات 437 ق 447 الذاريات 459 الطور 471 النجم 480 القمر 493 الرحمن 502 الواقعة 516 الحديد 530 المجادلة 548 الحشر 556 الممتحنة 569 الصف 575 الجمعة 581 المنافقون 587 التغابن 592 الطلاق 598 التحريم 604 الملك 610 القلم 616 الحاقة 624 المعارج 628 نوح 634 الجن 637 المزمل 641 المدثر 647 القيامة 654 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 792 الإنسان 660 المرسلات 670 النبأ 675 النازعات 681 عبث 687 التكوير 692 الإنفطار 696 المطففين 699 الإنشقاق 705 البروج 709 الطارق 714 الأعلى 717 الغاشية 720 الفجر 724 البلد 729 الشمس 732 الليل 735 الضحى 739 ألم نشرح 743 التين 745 العلق 747 القدر 750 لم يكن 752 الزلزلة 755 العاديات 757 القارعة 760 التكاثر 762 العصر 764 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 793 الهمزة 766 الفيل 768 قريش 771 الدين 773 الكوثر 775 الكافرون 777 النصر 779 أبا لهب 780 الإخلاص 782 الفلق 785 الناس 787 خاتمة الكتاب 789 انتهى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 794